درج الدرر في تفسير الآي والسور ط الحكمة

الجرجاني، عبد القاهر

دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر تَأليِف عَبد القَاهِر بن عَبد الرّحمن الجرجَاني المتوفى (471 هـ) رِسَالَة أعِدَتْ لِنَيلِ دَرَجَةِ المَاجِستِير في اللغَة العَرَبِيَّة لِسُورَتَي الفَاتِحَة وَالبَقَرة دِرَاسَة وَتحقِيق وَليد بِن أحمد بن صَالِح الحُسَيْن المجلَّد الأوَّل

جَمِيعُ الحُقُوق مَحفُوظَةٌ الطَّبْعَة الاولى 1429 هـ -2008 م تصدر هذه السلسلة عن مجلة الحكمة الصادرة في بريطانيا - مانشستر Al -Bukhary Islamic center 206 Burton Road Manchester M20 - 2LW England Tal/Fax: 0044 - 161 - 374 - 6648 على الراغبين الحصول على مجلة الحكمة أو سلسلة إصدارات الحكمة الاتصال على ممثل مجلتنا في الشرق الأوسط على العنوان التالي: السعودية - المدينة المنورة - ص. ب: 6604 هاتف: 8470096 - 04 - فاكس: 8470068 - 04 هاتف جوال: 3322408 - 5816043/ 0096650 Email: [email protected]

شكر وتقدير

شكر وتقدير الشكر لله أولاً وآخراً .. ظاهراً وباطناً .. سراً وعلانية، على ما وفَّقني به من التفرُّغ لخدمة حستابه العزيز من خلال هذا التفسير .. ثم أصل شكري وتقديري إلى أستاذي الفاضل عبد المنعم بشناتي المشرف على رسالتي هذه، فقد كان لي خير عون بعد الله - عز وجل - في توجيهاته وإشاراته اللطيفة فيما يخصُّ رسالتي .. كما أصل شكري وتقديري إلى جامعة الجنان بدءاً بمديرة الجامعة الدكتورة مني حداد ثم لكلِّ العاملين بالجامعة من إداريين وأعضاء هيئة التدريس. كما لا أنسى من صبرَتْ وتحمَلت عناء عملي وتفرُّغي لهذه الرسالة زوجتي العزيزة أم عبد الله التي احتسبت طوال هذه المدة .. والله أسأل أن يجعل عملي هذا. خالصاً لوجهه الكريم .. والحمدُ لله ربِّ العالمين. * * *

المقدمة

المقَدّمَة الحمدُ لله الذي نَزَّلَ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، فكان من عربيته ما أصابَ أعراب الجاهلية بأعظمِ الاندهاشِ والذهول، وكان من بيانِهِ وفصاحته ما يبهر العقول، وتَعْجَزُ عن غوامضِهِ وأسرارِهِ الفحول. والصلاةُ والسلامُ على من أُوتي جوامع الكَلِم، النبيِّ الأمي إمامًا، أفصح الثقلين لسانًا، وأعذبهم بيانًا، وعلى آله وأصحابه الذين جَنَّدُوا أنفسهم لحماية القرآن الكريم، فوضَّحوا غريبهُ، وبَيَّنُوا مشكلهُ، وَجَلَّوا متشابهه، وفتقوا أسراره وعجائبَهُ. وبعد: فإنَّ أعظم ما اشتغل به الباحثون، وأنفس ما صرفت إليه العقول والأذهان، وأعظم علم وأشرفه هو علم كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -، والبحث في أغواره وأعماقه، فقد بذل علماء المسلمين في خدمة هذا الكتاب العظيم جهودًا جَبَّارة منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا والقلم السيال لا يتوقَّف عن إخراج مكنونه في أي جانب من جوانب معارفه المختلفة، فاعتنوا بألفاظه ومفرداته، ومعانيه وتراكيبه، وناسخه ومنسوخه، وأحكامه وقراءاته، وإعرابه وفقهه، إلى غير ذلك من ألوان معارفه المختلفة، وما تركوا جانبًا من جوانب الخدمة لكتاب الله إلا وقاموا به خير قيام. وكثيرًا ما تراودني فكرة وتتوهج في ذهني بين الفينة والأخرى أن أخرج وأنقب عن النفيس من تراثنا المكنون وأن تجتمع فيه صفتان: الصفة الأولى: أن يكون في أشرف العلوم، والصفة الثانية: أن يكون مؤلِّفه من

أهمية الموضوع وسبب اختياره

أعلام العلماء المشاهير ممن شهد له القاصي والداني بجلالته ونزاهته وسعة علمه، فوقع بصري على هذا النفيس الذي لم يخرج في حيِّز الوجود في يوم من الأيام، تتطلَّع نفوس الباحثين إليه، وينتظرون بزوغ فجره في أقرب اللحظات متمثِّلًا بسِفْرِ عظيم، ألا وهو كتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسُّور" إنه عنوانٌ مشوِّق يجلي لنا درر الكتاب المكنون، كيف بنا إذا تبيَّن لنا أن الذي تصدَّى لهذه الدرر المضيئة في تفسيرها وبيانها وسبر أغوارها هو إمام العربية وشيخ البلاغيين عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 هجرية)، فاجتمعت الصفتان العظيمتان عِظَم الكتاب وعِظَم الكاتب. ° أهمية وسبب اختيار الموضوع. ° أهداف الرسالة. ° المشاكل والصعاب. ° منهجي في هذه الرسالة. أهمية الموضوع وسبب اختياره: إنَّ مما لا شكَّ فيه باتفاق أرباب الفنون وأصحاب التوجهات المسلمة والعلماء والباحثين والمسلمين أجمعين يجمع الجميع على أن أشرف الكتب هو كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -، فهو خير الكلام كما قال عليه الصلاة والسلام (¬1). وقال الشاعر: وخير كلام في الوجودِ كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ¬

_ (¬1) ورد ذلك في افتتاحية خطبته عليه الصلاة والسلام والمعروفة بـ "خطبة الحاجة"، وقد جمع العلامة الألباني - رحمه الله - ألفاظ طرق حديثها في كتاب مستقل سماه: "خطبة الحاجة"، وقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه (2/ 592) من حديث جابر وابن عباس - رضي الله عنهم -.

فإذا تعيَّن بأن يكون كتاب الله أفضل الكتب وأشرف العلوم يتعيَّن من لازم ذلك بأن تكون مباحثه وكل ما تعلق به هو أشرف العلوم مهما اختلفت مشارب الفنون وأربابها وأصحابها. وعلماؤنا الأفاضل وسلفنا الأكارم عرفوا أهميته وشرفه فشمروا عن سواعدهم فبذلوا النفس والنفيس في خدمته لما أيقنوا من أنه يحتوي على أسرار ومكنونات يعجز أي مفسر عن الإحاطة بإخراج هذه الأسرار والمكنونات، بل لو جَمَعْتَ كل التفاسير قديمًا وحديثًا في كتاب واحد لم تتحقق تلك الشمولية في تفسيره حتى يأتي من بعدهم فيظهرون من هذه الأسرار والمكنونات والإعجاز والفوائد ما لم يظهره من قبلهم وهكذا حتى تنتهي الدنيا ليعلم الباحثون في علوم القرآن خاصة عجزهم وضعفهم عن احتواء مكنونه، فإذا تبيَّن ذلك فإنه يتعيَّن أيضًا شرف هذا العلم وأهميته. كما تكمن أهمية هذا الموضوع بما تحويه مادته الثرية بالفوائد والشرائد في علوم القرآن المختلفة، فقد أبدع الجرجاني في تبسيط هذه العلوم والفوائد بشكل مختصر ومبسط نحويًا وبلاغيًا وموضوعيًا ومعجميًا لغويًا، كما نثر فيه الكثير من الأحكام الفقهية مجليًا فيها الحلال والحرام في آيات الأحكام، ومظهرًا ميوله للمذهب الشافعي الذي ينتمي إليه، كما أنه لم يغفل ذكر الكثير من الجوانب التاريخية واستعراض الكثير من الأعلام مستشهدًا بأقوالهم باختلاف تخصصاتهم، ثم نراه يستعرض محلِّلًا ومعلِّلًا ومدلِّلًا الكثير من المسائل العقدية التي تظهر لنا ميوله الأشعري الذي ينتصر له في تلك المباحث سيما في آيات الصفات. وبهذا تتجلى لنا أهمية الموضوع الذي شمرنا سواعدنا في إظهاره، فهو يعدُّ عملًا موسوعيًا في معارفه الشريفة، فمع أن مؤلِّفه جنح إلى أسلوب الاختصار فيه فهو لا يألو جهدًا في استعراض وبسط الكثير من المسائل التي تحتاج إلى تحرير ومناقشة ليظهر لنا نتائج تلك المباحث، ولذا نرى أن المباحث المطروقة في هذا التفسير ينشد إليها طالب العلم المتخصص كما ينشد إلى قراءتها والتلذذ في مادتها حتى العامة من الناس.

كما تكمن أهمية الموضوع بأهمية مباحثه التي تقدم ذكرها وبروز مؤلفه الجرجاني - رحمه الله - سيما في الجوانب النحوية والبلاغية المنثورة في مادة الكتاب وتحليلاته الدقيقة فيها حتى وصفه كثير من العلماء كالحافظ الذهبي وغيره بأنه شيخ العربية سيما أنه عاصر الكبار واغترف من فيض علمهم حتى تميَّز بعلمه وأخذ صيته ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، فكتب الله له القبول بين العلماء والباحثين في كلِّ مكان، فجلالة العالم وجلالة العلم الذي كتب فيه أكسب الموضوع - بلا شك ولا ريب - أهمية وقدرًا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى علماء مثل هؤلاء ينبرون إلى خدمة هذه العلوم الشريفة علوم الشريعة بما فيها من مباحث والذي أشرفها علم تفسير كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -. كما أن بروز الجرجاني في جانب البلاغة حتى لم تعرف البلاغة إلا به ولم يعرف إلا بها إذ هو الواضع المؤسِّس لقواعدها وأصولها، فإذا ذكرت البلاغة ذكر الجرجاني معها، وما كتبه التي ألَّفها في هذا الفن والإقبال الشديد عليها إلا أكبر دليل وشاهد على تميُّزه بها وضلوعه في مباحثها. وكتابنا هذا التفسير أودع فيه الكثير من المباحث البيانية والإشارات البلاغية حتى أكسب موضوع التفسير في هذا الكتاب مكانة رفيعة وجليلة في مادتها البلاغية. كما تكمن أهمية موضوع الكتاب بأسلوبه المتميِّز فقد استعمل أسلوب التنوع في الاختيار، فمرة يختار ما ذهب إليه ابن جرير في تفسيره، ومرة يختار ما اختاره الفراء أو ما اختاره الزجاج في كتابيهما "معاني القرآن" أو غيرهم من أئمة السلف، فإمامنا الجرجاني يترفَّع عن الجمود في الانتماء، وهذا مما يميِّز الكتاب ويضفي عليه غطاءً علميًا متميِّزًا. ولذا نرجع فنقول إننا نتعامل مع أشرف العلوم وأرفعها، ولذا قال العلاَّمة الأصفهاني في بيان شرف ورفعة هذا العلم فقال: "إنَّ أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان، هو تفسير القرآن، وبيان ذلك هو أنَّ علم التفسير قد حاز الشرف من جهات ثلاث: من جهة الموضوع، ومن جهة الغرض، ومن جهة شدة الحاجة إليه.

أما من جهة الموضوع، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كلِّ حكمة ومعدن كلِّ فضيلة، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. وأما من جهة الغرض، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى. وأما من جهة شدة الحاجة إليه، فلأن كلِّ كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى" (¬1). وهذه الجوانب الثلاثة التي ذكرها الأصفهاني تجلي لنا أهمية موضوع تفسير كلام الله - عَزَ وَجَلَّ - وبها يكتسب الأشرفية في مباحثه. أما سبب اختياري لهذا الموضوع فإنه يرجع إلى عدة أسباب يمكن حصرها بما يلي: أولًا: أنه يمثِّل أشرف العلوم وأحبَّها إلى الله - عَزَ وَجَلَّ -، وأعظم ما يتقرب به العبد إلى الله - عَزَ وَجَلَّ - بحثًا وتحقيقًا ودراسة فخدمة كتاب الله هو خير وأعظم ما اشتغل به الباحثون. ثانيًا: شموليته لكثير من الفوائد والشرائد في مختلف المعارف والفنون فهو يضفي معارف مختلفة تجعل القارئ يتنقل من فنَّ إلى فن، فتارة يطرب سمعه بقراءة النكت البلاغية وتارة يتفكه بالمسائل النحوية، وتارة أخرى يقلب ناظريه بالفوائد المعجمية اللغوية، وتارة أخرى يتذوق الأخبار التاريخية للأمم السابقة، إلى غير ذلك من ألوان المعارف المختلفة، فالقارىء يسوح ويجول في جنان هذه المعارف. ثالثًا: دقة صناعة المؤلف في كتابه ومباحثه التي استعرضها نحويًا وبلاغيًا ولغويًا وغير ذلك فكان دقيقًا في عباراته، متثبِّتًا في نقولاته، حياديًا ¬

_ (¬1) نقله عن الأصفهاني السيوطي في الإتقان (2/ 406).

في ترجيحاته، يتَّسم بطابع الإيجاز في تفسير القرآن ودلالاته. فلا تجد حشوًا أو إطنابًا مُخِلاُّ في عباراته فهو يحاول في تفسيره أن لا يتوسع كثيرًا في إظهار معاني الآيات وما تعلَّق بها، فهو يقتصر على ما تحصل به الفائدة، ولذا نراه يترك بعض الآيات فلا يفسر منها شيئًا لوضوح معناها ودلالتها فيرى أنها لا تحتاج إلى إيضاح. رابعًا: الإسهام في إخراج الدفين من تراث أسلافنا الأوائل. فمثل هذا الكتاب النفيس لم يخرج في حيِّز الوجود ولم يطبع من قبل - فيما أعلم - على شهرة مؤلّفه ومكانته بين العلماء والباحثين سيما أنه من قرن متقدِّم، فهو من أعيان القرن الخامس وله من الأعمال العلمية المطبوعة والمخطوطة ما يشهد للمؤلف الجرجاني - رحمه الله - بقيمته العلمية فينضم هذا الكتاب "درج الدرر" إلى قافلة مطبوعات الجرجاني النفيسة. ومع أن الكتاب قدم كرسالة دكتوراه في جامعة مانشستر في بريطانيا للباحث عبدالله بن عبد الرحمن الخطيب عام 1990م، وهو من الأردن وأنا لم أطلع على هذه الرسالة، وهذه المعلومة ذكرت في نشرة أخبار التراث العربي الصادرة عن جامعة الدول العربية عام 1990 في عددها (44) صفحة (21). خامسًا: كما شدَّني إلى اختيار هذا الموضوع ومادة الكتاب أنه كتاب متكامل فهو يمثَّل تفسير القرآن بكامله من الفاتحة إلى الناس، والكتاب في حوزتي بكامله وإن كانت رسالتي الماجستير هذه تتضمن سورتي الفاتحة والبقرة، فإن لديَّ عزيمة في إخراج الكتاب بكامله إن شاء الله مهما كانت الظروف والصعاب. سادسًا: أسلوب الكتاب وبساطة أسلوبه وجزالة ألفاظه وسهولة تناوله وطابع الاختصار الذي يتميز به مما يكسبه قبولًا بين القرَّاء بجميع شرائحهم فهو يأتي بمعاني الآيات ودلائلها ومبانيها بما تحصل به الفائدة ويتكشف به المعنى على وجه الاختصار. سابعًا: الذي يميِّز هذا الكتاب تركيزه على الجوانب النحوية، فلطائفه

المشاكل والصعاب التي واجهتني في العمل

وإشاراته النحوية تطغى على مادة الكتاب بشكل واسع وكبير، فقد أكثر من هذه الإشارات واللطائف والنقولات عن أعلام النحاة كالخليل وسيبويه والفراء والزجاج والكسائي وأعلام المدرستين الكوفية والبصرية، ففي الكتاب موسوعة نحوية منثورة في ثناياه سيما أن الجرجاني يعدُّ من أعلام النحاة كما وصفه كثير من العلماء كالذهبي والقفطي والسلفي والفيروزآبادي وغيرهم، وهذا من أهم الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الكتاب وما يحويه من هذه الموضوعات النفيسة. *.*.* المشاكل والصعاب التي واجهتني في العمل: إنَّ عملًا مثل هذا في إعداد رسالة جامعية وإخراجها وفق المواصفات العلمية الأكاديمية المعمول بها في الجامعات العريقة والتي يشرف عليها أساتذة كبار مشهود لهم، كل ذلك لا بدَّ أن يكون في عين الاعتبار بالنسبة للطالب الذي يقوم بإعداد الرسالة الجامعية ليتحاشى كلَّ ملاحظة واستدراك متوقع من قبل المشرفين والمناقشين لهذه الرسالة، فيصرف جلَّ وقته وغاية إمكانياته العلمية وعصارة أفكاره ويتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن المراجع والمصادر في المكتبات الخاصة والعامة، وهذه الصعاب تكاد أن تكون اعتيادية لا بدَّ منها على ما فيها من مشقة وجهد كبير جدًا. وهذا هو حقيقة ما تذوقته من الصعاب والجهد، إلا أنني لم أواجه أي مشاكل في عملي وذلك لسهولة كل ما يحتاجه عملي من متطلبات فتوفر النسخ من المخطوطات - أربع نسخ مخطوطة - وكانت في غاية من الوضوح يكمل بعضها بعضًا، وتوفر المصادر والمراجع في كلِّ ما يحتاجه البحث وتوافر العلماء الذين استفدت من ملاحظاتهم وتوجيهاتهم من خلال إقامتي في مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام التي تزخر بالعلماء، وتوافر المكتبات من حولي، وبفضل الله فإنَّ مادة البحث بكاملها لم أترك ترجمة

أهداف الرسالة

علم من الأعلام إلا وترجمتُ له إلا ما كان من بعض الأعلام الذين ذكرهم الجرجاني، وهم قرابة الخمسة عشر علمًا لم أجد تراجمهم في كتب التراجم، وأكثرهم في العصر الجاهلي ممن لم يعرفوا أصلًا. ولم أظفر بمسألة نحوية تحتاج إلى تعليق إلا وبذلتُ قصارى جهدي في التعليق عليها وتوضيحها، ولا حديث نبوي شريف إلا وقمتُ بتخريجه، إلا أن الجرجاني تعدُّ بضاعته في الحديث مزجاة مما جعلني أبذل جهدًا مضاعفًا في البحث عن الحديث، وفي مواطن ليست بالقليلة يروي الجرجاني الأحاديث بالمعنى أو أنه يذكر أحاديث موضوعة أو لا أصل لها في كتب الحديث بعد أن بذلت غاية التقصي والبحث مع وفرة المراجع والمصادر، وقد أشرتُ إليها في مواطنها. كما لم أظفر بمسألة فقهية إلا وأوضحت ما يتعلق بها من أحكام، ولا مسألة لغوية أو معجمية إلا وفصلت القول فيها فلم أترك أي كلمة أو جملة تحتاج إلى تعليق إلا وعلقتُ عليها، ولذا فإنَّ مثل هذا العمل لم يكن جديدًا عليَّ فقد اعتدتُ بفضل الله منذ سنوات عديدة على مزاولة الأعمال العلمية تحقيقًا وتأليفًا حتى طبع لي من أعمالي ما يزيد على أحد عشر ألف صفحة، فبفضل الله فإني قد تمرَّستُ على مثل هذا العمل، ولذا لم أجد أي مشاكل أو صعوبات في عملي هذا، ولذا أرجو من الله العليِّ القدير أن أكون قد أعطيت العمل حقَّه على أحسنِ وجه. ... أهداف الرسالة: يمكنني أن أُلخص هذه الأهداف في النقاط التالية: أولًا: سمو هذا العمل وشرفه ورفعته وأنه متعلِّق بكلام الله - عَزَ وَجَلَّ - الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق، فخدمة دين الله - عَزَ وَجَلَّ - من أجلِّ الأهداف لهذا العمل. ثانيًا: كما تهدف الرسالة إلى إضفاء مادة لغوية ونحوية وبلاغية، وهو

منهجي في هذه الرسالة

الجانب الذي أبدع فيه الجرجاني وعُرف به، فهو يضيف إلى حقل المعرفة في جانب هذا التخصص ما يثري مادة التخصص بحيث يمثِّل مرجعًا أساسيًا في ذلك. ثالثًا: كما تهدف هذه الرسالة إلى الإسهام في إخراج الدفين من تراث أسلافنا الأوائل سيما أن الجرجاني من المتقدمين من أعيان القرن الخامس. رابعًا: يمكن أن تسهم هذه الرسالة في تقديم مادة تفسير مبسطة ومختصرة تنتفع بها شريحة العامة من الناس وينشد إليها الباحثون وطلبة العلم، إذ في ثنايا هذا التفسير كثير من المسائل النحوية والبلاغية واللغوية التي لا يستغني عنها طلاب العلم. ... منهجي في هذه الرسالة: أولًا: قابلتُ النسخ المخطوطة وذكرتُ الفوارق بين النسخ، واعتمدتُ النسخة التي رمزتُ إليها برمز (ي) لقدمها وقلَّة السقط فيها، ولعلها أقرب النسخ إلى المؤلف. وليس في واحدة من هذه النسخ الأربع ما هو بخطِّ المؤلف فيما يظهر، إلا أن النسخ الأربع يكمل بعضها بعضًا. ثانيًا: أسندتُ الآيات القرآنية إلى سورها من القرآن الكريم وفرقتُ بين الآيات المُفَسَّرة والآيات المستشهد بها. فالآيات المُفَسَّرة جعلت أرقامها في أعلى الصفحة، والآيات المستشهد بها جعلتُ أرقامها ضمن الهامش الذي في أسفل الصفحة ليحصل التفريق بين الاثنين. ثالثًا: خَرَّجْتُ الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة وأحلتُها إلى مصادرها ولم أتوسَّع في تخريج الأحاديث بل خرَّجتها بشكل مختصر. رابعًا: قمتُ بترجمة الأعلام في جميع طبقاتهم من العصر الجاهلي إلى

عصر المؤلف وأعددتُ ترجمة مختصرة لكلِّ علم منهم وأحلتُهم إلى بعض المصادر والمراجع، وربما صعب عليَّ العثور على ترجمة مجموعة قليلة جدًا منهم لا يزيدون على خمس عشرة ترجمة، وإذا تكرر العَلَم اكتفيتُ بالترجمة له عند ذكره الأول، ويعرف موطنه من خلال الفهرس. خامسًا: أحلتُ أبيات الشعر إلى قائليها ودواوينها، وإذا حصل اختلاف في شيء من عبارات البيت بين ما في أصل الكتاب وأصل الديوان ذكرتُه وبيَّنته. سادسًا: قمتُ بالتعليق على كل ما يحتاج إلى تعليق مما تدعو إليه الحاجة في بيانه وتوضيحه في أي جانب من جوانب التخصص نحويًا وبلاغيًا وفقهيًا وتاريخيًا وغير ذلك، مستشهدًا ومعلِّلًا ومدلِّلًا بما يحصل فيه البيان. سابعًا: ركزتُ بشكل أساسي في التعليق على المسائل النحوية التي أكثر منها الجرجاني جدًا، وأخصُّ بذلك الجوانب الإعرابية، وعمدتُ إلى التوسع في مثل هذه المسائل لأن تخصص رسالتي هو النحو والصرف، ولهذا حرصتُ على إبراز هذا الجانب من التفسير. ثامنًا: قمتُ بفهرسة الأحاديث النبوية والآثار، كما قمتُ بفهرسة الأشعار والأعلام، وجميع هذه الفهارس مرتبة على حروف المعجم ليسهل الوصول إلى المعلومة. تاسعًا: عمدت إلى تفصيل النص ووضع علامات الترقيم وتشكيل الحركات في كثير من الكلمات المشكلة ومراعاة الجوانب الإملائية. عاشرًا: قمتُ بشرح الألفاظ التي قد يصعب فهمها على القارئ، ورجعتُ إلى كتب اللغة ومعاجمها لإيضاح ما حصل فيها من إشكال. حادي عشر: قمتُ بالتحقُّق من صحة نقل الجرجاني للمذاهب والأقوال

والآراء المختلفة وعزو ذلك إلى مكانه في كتبهم، وإن كان خطأ في النقل - على ندرته - بيَّنتُ الخطأ في ذلك. لا شكَّ أن القارئ الكريم سوف يصول ويجول ويسبح في بساتين المعرفة التي يطالعنا بها الجرجاني في تفسيره هذا، فقد احتوى على مادة علمية رصينة قلَّما يجدها القارئ في كتاب واحد، سيما الجوانب النحوية التي كثيرًا ما يعول عليها الجرجاني في هذا التفسير. فأحببتُ أن تكون باكورة عملي في هذا المخطوط النفيس أقدِّمها لنيل درجة الماجستير، فعقدتُ العزم على ذلك واستعنتُ بالله وسألتهُ التوفيق والسداد وحسنَ النية والقصد في هذا العمل، وأن أقدِّم دراسة وافية لهذا الكتاب، فكان عملي فيه على النحو التالي: قسمتُ عملي في هذه الرسالة إلى مقدمة وتمهيد وقسمين: ° القسم الأول: ويشتمل على فصلين: الفصل الأود: التعريف بالمؤلف، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: اسمه ونسبه. المبحث الثاني: مولده ونشأته ورحلاته العلمية. المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه. المبحث الرابع: مؤلَّفاته. المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. الفصل الثاني: التعريف بكتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسور"، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب وصحة نسبته للمؤلف. المبحث الثاني: القيمة العلمية للكتاب. المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب.

المبحث الرابع: مصادر المؤلف. المبحث الخامس: الجوانب النحوية والبلاغية واللغوية في تفسيره. المبحث السادس: عقيدة المؤلف من خلال تفسيره. ° القسم الثاني: ويشتمل على ما يلي: أولًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق. ثانيًا: منهجي في التحقيق. ثالثًا: صور عن مخطوطات الكتاب. رابعًا: النص المحقق. أخيرًا: تذييل الكتاب بالفهارس الفنية اللازمة. هذا ما نويت وعقدتُ العزم عليه في أن يكون عملي في تحقيق هذا الكتاب، والله أسأل أن يعينني على إنجازه على أحسن وجه بما يليق بمقام الكتاب العزيز كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -، وبما يوفي حق كاتبه ومؤلِّفه العالم الجليل عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله -. ***

التمهيد

التمهيد إن أعظم ما صرفت فيه نفائس الأيام، وأشرف ما خُصَّ بمزيد الاهتمام، وأنفس ما بُذِلَت فيه العقول والأفهام، هو الاشتغال بالعلوم الشرعية المتلقاة عن خير البريَّة، وإن أعظم وأشرف العلوم الشرعية هو علم كتاب الله وما تعلَّق به من دراسات مختلفة تنصبُّ جميعها في معرفة كلام الله - عَزَ وَجَلَّ - وإظهار مكنونه وأسراره. أنزله الله على إمام المفسِّرين وقدوة الخلقِ أجمعين، نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} (¬1) فوعاه قلبه عليه الصلاة والسلام وأولع بحبِّه وخشع له قلبه واهتزَّ له جسمه، ووقع في نفسِه القلق والخوف حتى قال لزوجته في مطلع نزوله: "زمِّلوني زمِّلوني" مما يجد في نفسه من عِظَم هذا المنزل الذي قال الله عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (¬2) حتى اطمأنَّت له نفسه وسكن له روعه وانشرح له صدره، فعلمَ أنَّه من عند الله وتيقَّن أنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬3) وتعهد الله لنبيه بحفظه وصيانته فلا تمسّه أيدي المحرفين والمغرضين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 193، 194. (¬2) سورة الحشر: 21. (¬3) سورة فصلت: 42. (¬4) سورة الحجر: 9.

فحفظ الله لنا كتابه العزيز بكلِّ ما فيه من معاني الجمال في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه. ثم إن الله حَمَّلَ هذه الأمانة العظيمة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام وأمره ببيان هذا المنزل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). وتعهَّد الله لنبيِّه أن يكون عونًا له في هذا البيان في كلِّ ما يحتاجه المسلم لفهم هذا القرآن العظيم ليظهر الله فيه هذا البيان {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (¬2). فقرأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا المُنَزَّلَ على أصحابه وأقبلوا عليه بقلوبهم الصادقة ذليلين منكسرين خاشعين دراسةً وفهمًا وتدبُّرًا وحفظًا، فبذل عليه الصلاة والسلام كلَّ وسعه وجهده في بيانه، فكان إمام المفسِّرين وقدوتهم، وتفسيره لهذا المنزل هو في حدِّ ذاته منزل لأنه وحيٌ من عند الله فلا يفسر عليه الصلاة والسلام من اجتهاده الخاص أو مما تمليه عليه نفسه، بل كان تفسيره معصومًا لا يقبل الخطأ بوجه من الوجوه، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬3) وقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه" (¬4). ولذا كان تفسير القرآن بالسنة النبوية هي المرتبة الثانية من مراحل التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن، فروَّض نفسه عليه الصلاة والسلام وشمَّرَ عن سواعد أفكاره وتصدَّى لبيان المنزل من كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ - فلم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة ولا واردة تحتاج إلى إيضاح وتفسير وبيان إلا بيَّنها، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى تتلمذ على يديه عليه الصلاة والسلام نخبة من أصحابه هم أعلام المفسِّرين ¬

_ (¬1) سورة النحل: 44. (¬2) سورة القيامة: 19. (¬3) سورة النجم: 3، 4. (¬4) رواه أبو داود بسند صحيح عن المقداد بن معدي كرب مرفوعًا (5/ 10/ 4604).

وإليهم المرجع في التفسير، عاصروا الوحي المنزل ونهلوا من معين مشكاة النبوة مصاحبة وملازمة لإمامهم وقدوتهم عليه أفضل الصلاة والسلام، فكان عصرهم من أزهى العصور وأفضلها، وإليهم المرجع في التفسير أمثال: ترجمان القرآن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهمَّ فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل" (¬1)، ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "نِعمَ ترجمان القرآن عبدالله بن عباس" (¬2). وكذلك عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: "من سرَّه أن يقرأ القرآن كلما أنزل، فليقرأه من ابن أمِّ عبد" (¬3) يعني ابن مسعود. ثمَّ أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة الذين قال النبي - عليه السلام - في حقِّهم: "خذوا القرآنَ من أربعة: من ابن أمِّ عبد، وأُبَي، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة" (¬4). فأمثال هؤلاء الجبال الأعلام الذين أسهموا إسهامًا كبيرًا في تفسير كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -، ومن جاء من بعدهم إنما هم عيال عليهم يغترفون من معين فيضهم حتى تخرَّج على أيديهم جيل جديد من أعلام المفسِّرين التابعين حملوا هذا اللواء وأخلصوا غاية الإخلاص في تحمُّل هذه الأمانة وقاموا بها حقَّ القيام وبذلوا فيها جهدًا كبيرًا أمثال: مجاهد بن جبر المكي شيخ المفسِّرين والقرَّاء في تلك المرحلة، أخذ القرآن والتفسير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فأكثر وأطاب وروى عن كثير من الصحابة، ويقول عن نفسه: "عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، أقفه عند كلِّ آية، أسألُه فيم نزلت وكيف نزلت" (¬5). وأخبار هذا العَلَم يطول ذكرها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 244)، ومسلم (5/ 100)، وأحمد (1/ 266). (¬2) أخرجه الحاكم (5373) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 25)، والطبراني في الكبير (9/ 60)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 124). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 389)، والنسائي (8/ 134)، والطبراني في الكبير (9/ 70). (¬5) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2793)، وابن عساكر (16/ 127).

ومنهم عطاء بن أبي رباح شيخ الإسلام مفتي الحرم، أكثر الرواية في التفسير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن أم المؤمنين عائشة وأم سلمة وعن أبي هريرة وعن جمع من الصحابة يصلون إلى المائتي نفس كما صرح عطاء بنفسه (¬1). ومنهم أيضًا عكرمة مولى ابن عباس كان حافظًا مفسِّرًا، أكثر الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حتى قال عنه: ما حدَّثكم عني عكرمة فصدِّقوه، وقال قتادة: أعلم الناس بالتفسير عكرمة، بل إن حفاظ ابن عباس منهم سعيد بن جبير وعطاء وطاووس اجتمعوا فأقعدوا عكرمة أمامهم فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس، فكلما حدَّثهم حديثًا قال سعيد: هكذا. وهم يصدِّقونه في كل ما يقول. وهكذا كان باقي أعلام المفسِّرين من التابعين الذين شهدت لهم الأمة بالقبول والذين خدموا كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ - فكرسوا جهودهم وروَّضوا نفوسهم وبذلوا كلَّ ما بوسعهم في تحمُّل هذه الأمانة، فهؤلاء جميعًا وضعوا ما يسمى بـ "علم التفسير" و"علم أسباب النزول" و"علم الناسخ والمنسوخ" و"علم غريب القرآن" ونحو ذلك. ثم إن أسلافنا رحمهم الله من الرعيل الأول من قبل أن يرسي التدوين أصوله وقواعده كانوا حريصين أشد الحرص على ضبط كتاب الله وحفظه ليس في القلوب فحسب، بل تدوينه في الصحف، فقد تصدَّى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فوضع الأساس لما نسميه بـ "علم رسم القرآن" أو "علم الرسم العثماني" ثم جاء من بعده علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فلاحظ المعجمة تحيف على اللغة العربية وسمع ما أوجس منه خيفةً على لسان بعض العرب فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض القواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل. وبهذه الحوادث التي وقعت تمخض منها ما يمكن أن نسميه بـ "عصر ¬

_ (¬1) السير (5/ 78)، ابن سعد (5/ 467)، تاريخ البخاري (6/ 463).

التدوين"، فانبرى أعلام العلماء في التصدي للتأليف في أنواع علوم القرآن، فكان من أوائل من دوَّنوا في التفسير وعلومه: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لكثير من أقوال الصحابة والتابعين، وهو ما يمكن أن نسميه التفسير بالمأثور، وهؤلاء يعدُّون من أعيان القرن الثاني. ثم يتحمل هذه الحمالة من بعدهم من فحول المفسِّرين ما استطاعوا أن يجمعوا ما دوَّنه من قبلهم ممن ذكرنا ويتوسعوا بأكثر مما بسط فيه القول من قبلهم، فانبرى العلاَّمة محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) فألَّف ما يمكن أن نعدَّه أجمع التفاسير على الإطلاق، فلم يؤلف مثله قبله ولا بعده ولم يترك شيئًا يحتاج طرقه إلا طرقه، فكان جامعًا يحوي التفسير بالمأثور بإسناده الذي تميَّز به، كما طرق جوانب نحوية وفقهية وأصولية مستعرضًا أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات، فكان جامعًا لشتى العلوم التي يحتاجها علم تفسير كتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -. ثم أخذ العلماء من بعده يتناولون هذا القرآن العظيم كل حسب ذوقه واختصاصه وما يمكن أن يقدِّمه خدمة لكتاب الله، فظهرت التفاسير المختلفة المطول منها والمختصر، فمنهم من تناول التفسير بالمعقول، ومنهم من تناوله بالمأثور، ومنهم من اهتمَّ بآيات الأحكام، إلى غير ذلك من ألوان العلوم المختلفة المختصة بكتاب الله - عَزَ وَجَلَّ -. ثم أُلِّفَتْ كتب مستقلَّة في علوم القرآن كل واحد من هؤلاء الأعلام يتناول القرآن من زاوية معرفية، فالإمام علي بن المديني ألَّف كتابًا في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث، وأبو بكر السجستاني ألَّف في غريب القرآن، وأبو بكر الفراء وأبو إسحاق الزجاج ألَّفا في معاني القرآن، وهؤلاء من أعيان القرن الرابع، وأبو القاسم السبيلي ألَّف في مبهمات القرآن، والقاسم بن سلام ألَّف في مجاز القرآن، وعلم الدين السخاوي ألَّف في القراءات.

وهناك علماء أعلام غير هؤلاء يطول ذكرهم وذكر مؤلَّفاتهم في إسمهامهم الكبير خدمةً لكتاب الله، وهكذا صرفت العزائم وتبارت الهمم وبذلت قصارى الجهود استيعابًا واستقصاءً، يعمد أصحابها أن يحيطوا بجزئيات القرآن من الناحية التي كتبوا فيها بقدر طاقاتهم البشرية (¬1). ثم يصل بنا المقام إلى القرن الخامس حتى ينبري علم من أعلام ذلك العصر وفحل من فحوله شيخ العربية وإمام البلاغيين بلا منازع، المفسِّر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني فيصنف كتابًا حافلًا في تفسير كلام الله - عَزَ وَجَلَّ - فيضيف بذلك لبنة طيبة مباركة في إكمال بناء التفسير القرآني، فكان بعنوان "درج الدرر في تفسير الآي والسور" تميَّز بسهولته وجزالته، أخذ طابع الإيجاز والاختصار مركزًا على بعض الجوانب النحوية والبلاغية والتفسير الموضوعي بشكل مبسَّط، فاستعنتُ بالله - عَزَ وَجَلَّ - في إخراج هذا الكتاب متناولًا فيه سورتي الفاتحة والبقرة دراسةً وتحقيقًا. والله أسأل أن يعينني على إخراجه بما يناسب مكانة القرآن العظيم ثم بما يناسب مكانة العالم الجليل عبد القاهر الجرجاني، والله الموفق وعليه التكلان. ... ¬

_ (¬1) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 34).

القسم الأول ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: التعريف بالمؤلف. الفصل الثاني: التعريف بكتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسور". ***

التعريف بالمؤلف

الفصل الأول: التعريف بالمؤلف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته ورحلاته العلمية. المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه. المبحث الرابع: مؤلفاته. المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. ***

المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده

الفصل الأول: التعريف بالمؤلف المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد (¬1) الجرجاني (¬2)، فارسي الأصل، جرجاني (2) المولد. ولم يذكر المؤرِّخون سنة مولده ولم ¬

_ (¬1) اسم جدِّه هذا لم أجد من ذكره ممن ترجم له، لكن ذكر الدكتور أحمد بدوي في كتابه "عبد القاهر الجرجاني" ص 5 دون أن يشير إلى مصدر ذلك، فالله أعلم عن مدى صحة اسم جده (محمد). (¬2) الجرجاني: نسبة إلى مدينة جرجان، وهي مدينة مشهورة تقع بين طبرستان وخراسان. قيل: سميت بهذا الاسم نسبة لجرجان بن لاوذ بن سام بن نوح - عليه السلام -، وفتحت هذه المدينة أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفتحت صلحًا ولم تُفتح حربًا، حيث إن سويد بن مقرن كاتب ملك جرجان رزبان صول وكاتبه الآخر وبادر بالصلح على أن يؤدي الجزاء ويكفيه حرب جرجان. وقد دخل هذه المدينة جمع من الصحابة منهم الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وعبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، وسعيد بن العاص - رضي الله عنه - وعبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه - وغيرهم. [تاريخ جرجان ص 44 - تاريخ ابن جرير (4/ 254) - الكامل لابن الأثير (3/ 12) - معجم البلدان (2/ 119)]. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 432) ونزهة الألباء للأنباري (363) =

المبحث الثاني: نشأته ورحلاته العلمية

يتحدَّثوا عن عمره ولا عن أسرته ولا عن حياته الاجتماعية، كما لم يتحدَّثوا عن أحداث ووقائع بارزة تخللت حياة الشيخ - رحمه الله -، مما يدلُّ على أن حياته كانت هادئة لم تطرقها أحداث مهمة تلفت انتباه المؤرخين. ومن الغرائب أنك تجد بعض المصادر المهمة قد غفلت عن ترجمته فلم تذكره أمثال ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" عند ذكره لمدينة جرجان، وكتابه الآخر "معجم الأدباء" مع أنه أشار إلى اسمه عند ترجمة تلميذه أحمد بن عبدالله الضرير، وقال: "هو تلميذ عبد القاهر الجرجاني". فواعجبًا كيف يذكر التلميذ الذي ليس له شهرة ويترك شيخه الإمام المعروف عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله -. لكن يكفينا أن عشرات المصادر والمراجع قد كتبت في ترجمته وفصَّلت في ذلك. ... المبحث الثاني: نشأته ورحلاته العلمية لم تذكر المصادر بداية نشأة الجرجاني شواء نشأته الاجتماعية أو نشأته العلمية، إلا أننا يمكن أن نحدِّد الزمن الذي نشأ فيه الجرجاني - رحمه الله -، ¬

_ = وإنباه الرواة للقفطي (2/ 188) والعبر في خبر من غير للذهبي (3/ 330) وفوات الوفيات للكتبي (2/ 369) وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 149) وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 271) وطبقات النحاة لابن قاضي شهبة (2/ 94) ومرآة الجنان لليافعي (3/ 101) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي (5/ 108) وبغية الوعاة للسيوطي (2/ 106) وطبقات المفسرين للداودي (1/ 336) ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (1/ 157) وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 340) وهدية العارفية للبغدادي (1/ 606) وطبقات الشافعية للأسنوي (2/ 491) ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (5/ 310) وكشف الظنون لحاجي خليفة (1/ 83) والأعلام للزركلي (4/ 48) واشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين لعبد الباقي اليماني (ص 188) وكتاب "عبد القاهر والبلاغة العربية" للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وكتاب "عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده" للدكتور أحمد مطلوب.

فقد عاش في عصر الدولة الزِّيارية وهي إحدى الدول التي انفصلت عن الدولة العباسية، وانتهى حكمها سنة 433 هـ في عهد "أنو شروان بن ضوجهر بن قابوس بن وشمكير" وانتقل الحكم إلى يد "طغرلبك" فأصبحت في يد السلاجقة، وتوفي الشيخ وهي ما تزال في أيديهم (¬1). ومن خلال تلك الفترة استطاع الجرجاني أن يؤسِّس نفسه تأسيسًا علميًا بعيدًا عن الاضطرابات السياسية قاصرًا نفسه على الدرس والتحصيل، يزاحم مجالس العلماء على قلة تلك المجالس، إلا أنه كان واسع التحصيل فكان يتردَّد كثيرًا على مجلس أبي الحسين محمد بن الحسين الفارسي (¬2) الذي كان من كبار أئمة العربية في وقته وهو ابن أخت النحوي المشهور "أبو علي الفارسي"، فلازمه ملازمة طويلة حتى لم يعرف إلا به، كما كان يتردد على مجلس القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (¬3). كما ذكر الخوانساري صاحب "روضات الجنات" (5/ 90) أن الجرجاني كان يتردد على مجلس ابن جني (¬4) (ت 392 هـ)، والصاحب بن ¬

_ (¬1) معجم البلدان (2/ 119)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (8/ 30). (¬2) هو أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد الفارسي النحوي، أخذ عن خاله أبي علي الفارسي علم العربية، وطوف الآفاق. وكان خاله قد أوفده على الصاحب بن عباد بالري فارتضاه وأكرمه ووُزِّر للأمير غرسيستان ثم اختصَّ بالأمير إسماعيل بن سبكتكن بغزنة، ووزِّر له إلى أن استوطن جرجان وقرأ عليه أهلها ومنهم عبدالقاهر الجرجاني. وتوفي 421هـ. [نزهة الألباء (343) - معجم الأدباء (18/ 186) - بغية الوعاة (1/ 94)]. (¬3) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي الجرجاني قاضي الريِّ في أيام الصاحب بن عباد، وكان أديبًا نحويًا شاعرًا قد عُرِفَ بجودة الخط حتى شُبِّهَ خطه بخط ابن مقلة. توفي سنة 366 هـ. [معجم الأدباء (14/ 35)]. (¬4) هو إمام العربية أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي صاحب التصانيف المشهورة، كان أبوه مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد الموصلي، لزم أبا علي الفارسي مدة طويلة وسكن بغداد وكان أعور، قرأ على المتنبي ديوانه وشرحه، ومن أبياته المشهورة التي يقول فيها: =

عباد (¬1) (ت 385 هـ)، فإن كان كذلك فيمكننا أن نحدِّد وقت طلب الجرجاني للعلم وأنه كان في مقتبل عمره، وقد يكون قبل البلوغ - والله أعلم. وعلى قلة مشايخ الجرجاني فإنه كان حريصًا أشد الحرص على التحصيل وبناء شخصيته العلمية، ويشهد لذلك بروزه وشهرته وكثرة مؤلَّفاته - رحمه الله -. ومن حيث رحلاته العلمية فإنه لم يحرص عليها ولم يُكثر منها، ولم يُعْرَف عنه أنه رحل في طلب العلم، لذا كان تحصيله للعلم لم يبرح مدينته جرجان حتى علا صيته واشتهر فأصبح تشدُّ إليه الرِّحَال فتتلمذ عليه الأئمة الكبار. ولكننا إذا سلَّمنا أنه تتلمذ على ابن جني والصاحب بن عباد، وهذان الرجلان لم يستوطنا جرجان، فإنه يلزم من ذلك الرحلة إليهما إلى مدينة الري، وبذلك يمكن أن نسجِّل رحلةً علمية قام بها الجرجاني. وأما من حيث بروزه في الشعر فهو لم يبرز فيه كشاعر، إلا أننا ¬

_ = فإِنْ أصْبِحْ بلا نسبٍ ... فعلمي في الورى نسبي على أَنِّي أؤُولُ إلى ... قُرُومٍ سادةٍ نُجُبِ توفي سنة 392 هجرية، وله مؤلفات كثيرة، منها: "سر الصناعة" و"اللُّمَع" و"التصريف" و"الخصائص" و"إعراب الحماسة" وغيرها كثير. [تاريخ بغداد (11/ 311) - يتيمة الدهر (1/ 108) - تاريخ ابن كثير (2/ 136)]. (¬1) هو الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عَبَّاد، كان وزيرًا للملك مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة، صحبَ الوزير أبا الفضل بن العميد ومن ثَمَّ شُهرَ بالصاحب. قال عنه الحافظ الذهبي: كان شيعيًا معتزليًّا مبتدعًا، تياهًا صلفًا جبارًا، وكان فصيحًا متقعرًا، وهو القائل: رَقَّ الزجاجُ وَرَقَّتِ الخَمْرُ ... وَتَشَابَهَا فتشاكَلَ الأَمْرُ فكأنَّها خَمْرٌ ولا قَدَحٌ ... وكأنَّمَا قدحٌ ولا خَمْرُ وكان له مكتبة كبيرة يحتاج في نقلها إلى أربعمائة جمل. ذُكِرَ له البخاري يومًا فقال: ومن البخاري؟!! حشوي لا يُعَوَّلُ عليه. توفي سنة 385 هجرية، عن تسع وخمسين سنة. [سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 511) - الكامل لابن الأثير (8/ 352) - وفيات الأعيان (1/ 228) - البداية والنهاية لابن كثير (11/ 314)].

يمكن أن نجمع له الكثير من الشعر من خلال كتبه ومؤلَّفاته وما نقله العلماء عنه، ومن هذه المناسبات يقول الباخرزي (¬1): مما أنشدنيه الشيخ أبو عامر للجرجاني في شكاية الزمان وأهله واستيلاء نقصهم على فضله: أيُّ وقتٍ هذا الذي نحنُ فيه ... قد دجا بالقياسِ والتشبيهِ كلما سارت العقولُ لكي تقـ ... ـطعَ تيهًا تَغَوَّلَتْ في تِيهِ وذكر القفطي له بعض الأبيات (¬2): هذا زمانٌ ليس فيه ... سوى النذالة والجهالهْ لم يَرْقَ فيه صاعدٌ ... إلا وَسُلَّمُهُ النَّذَالَهْ وله أيضًا: لا يُوحِشَنَّكَ أَنَّهُمْ ما ارتاحوا ... مما جلاه عليهم المُدَّاحُ فَهُمُ كقومٍ عُلِّقَتْ بِإِزَائِهِمْ ... بيضُ المرائي والوجوهُ قباحُ وله في اليأس من الناس: خَلَعَ الناسُ إهابا ... وَتَبَدَّوا في إهابِ وأرى نفسيَ تأبى ... غيرَ ما كان ثيابي إنَّ إترابًا من الما ... لِ بِلَثْمٍ للترابِ ليسَ من خيم كريـ ... ـمِ الخيمِ والمحض اللُّبَابِ ليس بالإقبالِ مانيـ ... ـلَ تقبيل الكلابِ إنَّ باغي الربح والخسـ ... رانِ في بابٍ وبابِ تاجرٌ غيرُ بصيرٍ ... بمقاديرِ الحسابِ وعامة شعره يدور حول الزهدِ في الدنيا والتحقير من شأنها ونقل صورة واقعية عن حياة الناس وجشعهم في الدنيا وشيء من الحِكَمِ والعبر، ¬

_ (¬1) شذرات الذهب (3/ 341)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 242). (¬2) دمية القصر (2/ 18).

المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه

مما ينقل لنا صورة عن حياة العالم الرباني عبد القاهر الجرجاني واتِّصافه بالزهد والورع والإعراض عن الدنيا. ومع ذلك فإننا نراه يطرق جانب المدح وذلك من خلال مدحه لنظام الملك حيث يقول: لو جاود الغيثَ غدا ... بالجودِ منه أجدرا أو قيسَ عرف عرفهِ ... بالمسكِ كانَ أعطرا ذو شيم لو أنها ... في الماءِ ما تغيَّرا وهمَّة لو أنها ... للنجمِ ما تفورا لو مَسَّ عودًا يابسًا ... أورقَ ثم أَثمرا كما طرق عدة أغراض شعرية ليس هذا مقام بسطها، وبهذا يمكن أن نصنِّف الجرجاني بأنه شاعر متميِّز أبدع في نظمه كما أبدع في نثره. وقد عرف الجرجاني بالورعِ والزهد والإعراض عن الدنيا. ومن ورعه أنه في خل عليه لصٌّ وهو في الصَلاة فأخذ اللصُّ جميع ما وجده أمامه في البيت والشيخ ينظر إليه ولم يقطع صلاته (¬1). ... المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه إذا لم يكن الجرجاني - رحمه الله - أكثر من مشيخته فلم يتتلمذ إلا على القليل، فإن حرصه وهمَّته العالية في التحصيل رفعت من شأنه حتى تخرج على يديه من تلاميذه الأعلام الكبار. ولعلنا نستعرض هؤلاء المشايخ الذين نهل من معين علمهم واستفاد منهم. ¬

_ (¬1) إنباه الرواة (2/ 189).

شيوخه

شيوخه: 1 - أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي: يعدُّ من كبار أئمة العربية حيث تتلمذ على خاله العَلم المشهور إمام النحاة أبي علي الفارسي، واستقرَّ آخر عمره في جرجان مما سَهَّل للجرجاني أن يتتلمذ عليه، بل لازمه واستفاد منه كثيرًا حتى قيل عنه - أي عن الجرجاني - أنه لم يأخذ عن غيره مجالسة، فاشتهر به لكثرة ملازمته له. بل قال السيوطي (¬1): إن الجرجاني قرأ على أبي الحسين الفارسي وليس له أستاذ سواه، وكذا قال الفيروزآبادي (¬2). 2 - أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني: قاضي الري في أيام الصاحب بن عباد. ويرى ياقوت الحموي أن الجرجاني درس على يد القاضي أبي الحسن وجالسه واغترف من بحره، وكان ينقل عنه حتى في كتبه ويفتخر بالانتماء إليه. لكن الدكتور أحمد بدوي في كتابه "سلسلة أعلام العرب" عندما ذكر عبد القاهر الجرجاني شكك في أن يكون القاضي أبو الحسن الجرجاني من مشايخ عبد القاهر الجرجاني، وحجته في ذلك أن القاضي الجرجاني توفي سنة (392 هجرية) فمتى يكون عبد القاهر أخذ عنه؟ والذي يظهر - والله أعلم - أن الاعتماد على تاريخ وفاة القاضي الذي ذكره الدكتور أحمد بدوي ليس بالحجة القوية، لأنه من المحتمل أن يكون الشيخ قد توفي في هذه السنن ولا يمنع أن يكون عبدالقاهر بلغ ما يزيد على التسعين من عمره، على أن بعض العلماء الذين ترجموا للقاضي أبي الحسن ذكروا أنه مات سنة (366 هجرية) وهذا ما رجحه ابن خلكان في "وفيات الأعيان" ونقله عن الحاكم أبي عبدالله بن البَيِّع في "تاريخ النيسابوريين"، وبهذا يتبين أن عبدالقاهر ¬

_ (¬1) بغية الوعاة (1/ 94). (¬2) البلغة ص 127.

تلاميذه

الجرجاني أدرك القاضي أبا الحسن، ويترجح أن يكون من مشايخه، والله أعلم. 3 - أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هجرية): ذكر الخوانساري (¬1) أن الجرجاني تتلمذ على ابن جني وأنه درس عليه النحو، والذي يظهر - والله أعلم - وكما ذكره كثير من المترجمين للجرجاني وفي ترجمة شيخه أيضًا ذكروا أن شيخ الجرجاني محمد بن الحسين الفارشي هو الذي تتلمذ على ابن جني، فيكون ابن جني هو شيخ شيخه وليس شيخه - والله أعلم -. 4 - أبو القاسم الصاحب إسماعيل بن عَبَّاد: ذكره الخوانساري (¬2)، لكن الذي يترجح - والله أعلم - أن الذي تتلمذ على الصاحب بن عباد هو محمد بن الحسين الفارسي شيخ عبدالقاهر الجرجاني، حيث ذكر السيوطي وغيره أن خال محمد بن الحسين أوفده إلى الري على الصاحب بن عباد ليستفيد منه ويتتلمذ عليه (¬3). وكما قلنا فإن الجرجاني - رحمه الله - لم يتيسَّر له التتلمذ على مجموعة كبيرة من المشايخ، فلم نستطع أن نتعرَّف إلا على من ذكرنا، وقلة بل ندرة العلماء في مدينته جرجان وعدم رغبته في الترحال والسفر لتتبُّع أهل العلم، لعل هذين السببين هما العامل الرئيس في قلَّة وندرة العلماء الذين تتلمذ عليهم. تلاميذه: لقد تصدَّى الجرجاني للتدريس في مدينته جرجان، بل شُدَّت إليه الرحال من شتى المدن والأمصار. والذي رفع من صيته وزاد من شهرته كثرة مؤلَّفاته وتميُّزه في التأليف، ححى استطاع جذب الكثير من طلبة العلم إليه، فتزاحمت في مجالسه الركب. ¬

_ (¬1) روضات الجنات (5/ 90). (¬2) روضات الجنات (5/ 90). (¬3) بغية الوعاة (1/ 94).

ويمكننا أن نتعرَّف على أشهر تلاميذه في ذلك الوقت، فمنهم: 1 - علي بن محمد بن علي أبو الحسن بن أبي زيد المعروف بالفَصيحي (¬1): من أهل أسْتَراباذ، بلدة من أطراف خراسان. قرأ النحو والبلاغة والعربية على عبد القاهر الجرجاني وبرع فيه حتى صار من أعرف أهل زمانه به، وأصبحت له شهرة كبيرة. ثم ترك جرجان وانتقل إلى بغداد إلى أن توفي بها سنة 516 هجرية، وهو من أشهر تلاميذ الجرجاني - رحمه الله -، وسمي بالفصيحي لكثرة دراسته كتاب "الفصيح" لثعلب، قاله ياقوت الحموي. 2 - أحمد بن عبدالله المهاباذي (¬2) الضرير: و"مهاباذ" هي قرية بين قم وأصبهان، ولقِّب بالضرير لأنه كان ضريرًا. تتلمذ على عبد القاهر الجرجاني واستفاد منه كثيرًا، حتى اكتسب شهرة. ومن أبرز مؤلَّفاته كتاب "شرح اللمع لابن جني" وهذا الكتاب يوجد منه نسخة في خزانة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بتونس، كتبت سنة 591 هجرية. 3 - أحمد بن إبراهيم بن محمد أبو نصر الشجري (¬3): تتلمذ على عبد القاهر الجرجاني واستفاد منه كثيرًا، وقرأ عليه كتاب "المقتصد" لعبد القاهر الجرجاني. وقد كتب عبد القاهر الجرجاني نفسه بخط يده ما نصّه: "قرأ عليَّ الأخ الفقيه أبو نصر أحمد بن إبراهيم بن محمد الشجري - أيَّده الله - هذا الكتاب من أوَّله إلى آخره قراءة ضبط ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في إنباه الرواة (2/ 306)، وبغية الوعاة (2/ 197)، وابن خلكان (1/ 344)، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 187)، ومعجم الأدباء (15/ 66)، ونزهة الألباء ص 363، وروضات الجنات (5/ 249). (¬2) انظر ترجمته في معجم الأدباء (3/ 219)، وبغية الوعاة (1/ 320)، وروضات الجنات (5/ 90)، والأعلام (1/ 158)، وهدية العارفين (1/ 81)، وكشف الظنون (1563). (¬3) ذكره القفطي في إنباه الرواة (2/ 190)، وفي طبقات الشافعية (4/ 27)، والنجوم الزاهرة (5/ 160)، وانظر كتاب "الشواهد الشعرية في كتاب دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني" (1/ 24).

المبحث الرابع: مؤلفاته

وتحصيل، وكتبه عبدالقاهر بن عبد الرحمن بخطِّه في شهر رمضان المبارك من سنة أربع وخمسين وأربعمائة حامدًا لربِّه، ومصلِّيًا على محمد رسول الله وآله". 4 - يحيى بن علي أبو زكريا الخطيب التبريزي (¬1): أستاذ العربية بالمدرسة النظامية ببغداد، له تصانيف مشهورة منها "شرح المعلقات" و"شرح المفضليات" و"شرح الحماسة" و"الكافي في العروض" و"القوافي". توفي سنة 502 هجرية. ذكر طاش كبرى زاده (¬2) أنه تتلمذ على عبد القاهر الجرجاني. 5 - الفضل بن إسماعيل أبو عامر التميمي الجرجاني: تتلمذ على عبد القاهر ودرس عليه، ونقل الباخرزي صاحب كتاب "دمية القصر" عنه أنه روى أبياتًا لعبد القاهر الجرجاني، منها: أيُّ وقتٍ هذا الذي نحنُ فيهِ ... قد دجا بالقياسِ والتشبيهِ كلَّما سارتِ العقولُ لكي تقـ ... ـطَعَ تيهًا تغوَّلَتْ في تِيهِ وتلميذه هذا لم أجد من ترجم له. ... المبحث الرابع: مؤلفاته لقد أتحف الجرجاني المكتبة الإسلامية والعربية بالعديد من المؤلَّفات العلمية الرصينة، سيما في جانب النحو والبلاغة، حيث برز فيها بروزًا متميِّزًا، بل أصبحت البلاغة العربية لا تُعْرَف إلا به ولا يُعْرَف إلا بها. ¬

_ (¬1) ينظر ترجمته في نزهة الألباء ص 372، ومعجم الأدباء (2/ 25)، وبغية الوعاة (2/ 338)، ومفتاح السعادة (1/ 218). (¬2) مفتاح السعادة (1/ 218).

ولعلي أذكر كل ما استطعت أن أظفر به من مؤلَّفاته في شتى المجالات، ثم أعلِّق على كل مؤلَّف بما تحصل به الفائدة موثقة من كتب التراجم، مشيرًا إلى المطبوع منها والمخطوط والمفقود، وهي على النحو التالي: 1 - أسرار البلاغة: وهو من أعظم وأشهر مؤلفاته وأكبرها فائدة. ذكر هذا الكتاب كلٌّ من: الفيروزآبادي (¬1)، وطاش كبرى زادة (¬2)، وحاجي خليفة (¬3)، وجرجي زيوإن (¬4)، وبروكلمان (¬5)، والزركلي (¬6). وقد وصف طاش كبرى زادة هذا الكتاب فقال: "من جملة مصنفاته دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في علمي المعاني والبيان، وهما الآية الكبرى واليد البيضاء في العلمين المذكررين، وإليهما ينتهي علم من تأخر في ذينك العلمين" كما أن هذا الكتاب "أسرار البلاغة" اهتمَّ به الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فأمر بطبعه وقرَّره مادة معتمدة لدرس البلاغة في جامعة الأزهر، وكان ذلك سنة 1320 هـ، ثم توالت عشرات الطبعات منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، لما عليه من إقبال كبير جدًا على مستوى الدراسات الأكاديمية الجامعية وعلى مستوى الباحثين. 2 - إعجاز القرآن الصغير: ذكره السبكي (¬7)، والسيوطي (¬8)، والداوودي (¬9)، وطاش كبرى ¬

_ (¬1) البلغة ص 127. (¬2) مفتاح دار السعادة (1/ 178). (¬3) كشف الظنون (83). (¬4) تاريخ آداب اللغة العربية (3/ 46). (¬5) تاريخ الأدب العربي (5/ 206). (¬6) الأعلام (4/ 174). (¬7) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬8) البغية (2/ 106). (¬9) طبقات المفسرين (1/ 337).

زادة (¬1)، وحاجي خديفة (¬2). وقد ذكر الزركلي (¬3) أنه طبع ولكنني لم أعثر عليه مطبوعًا بعد البحث والتقصِّي، فلعله وهم منه. وهذا الكتاب هو شرح لكتاب إعجاز القرآن لأبي عبدالله محمد بن يزيد الواسطي (ت 306 هـ)، ويسمى أيضًا "المقتضب". 3 - إعجاز القرآن الكبير: ذكره السيوطي (¬4)، والداوودي (¬5)، والسبكي (¬6). ولكن بعض المصادر ذكره باسم "إعجاز القرآن" دون تحديد، منهم القفطي (¬7)، والأنباري (¬8)، ويسمى أيضًا: "المعتضد". 4 - الإيجاز: وهو مختصر لكتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسمي، ذكره البغدادي (¬9)، وحاجي خليفة (¬10)، وذكر الدكتور كاظم بحر المرجان في تحقيقه لكتاب المقتصد (1/ 25) أن هذا الكتاب من الكتب المفقودة. 5 - التتمة في النحو: كتاب صغير جدًا لا تزيد أوراقه المخطوطة على ست ورقات، ذكر ¬

_ (¬1) مفتاح السعادة (1/ 177). (¬2) كشف الظنون (120). (¬3) الأعلام (4/ 174). (¬4) البغية (2/ 106). (¬5) طبقات المفسرين (1/ 3371). (¬6) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬7) إنباه الرواة (2/ 189). (¬8) نزهة الألباء (363). (¬9) هدية العارفين (606). (¬10) كشف الظنون (212).

فيها الأبواب الأساسية في النحو، وقد حقق الكتاب الدكتور طارق نجم عبد الله، وطبعته المكتبة الفيصلية بالسعودية - مكة المكرمة، وذلك بتاريخ 1405هـ/ 1984م، وأصبح حجم الكتاب بالتحقيق 122 صفحة. وقد ذكر هذا الكتاب جرجي زيدان (¬1)، والزركلي (¬2)، وبروكلمان (¬3). 6 - التلخيص في شرح الجُمَل: ذكره الأنباري (¬4)، والقفطي (¬5)، والسبكي (¬6)، والداوودي (¬7)، وابن العماد (¬8)، وهو من الكتب المفقودة كما قال الدكتور كاظم بحر المرجان. 7 - الجُمَل: ويسميه بعضهم الجرجانية. ذكره الأنباري (¬9)، والقفطي (¬10)، والكتبي (¬11)، والسبكي (¬12)، والسيوطي (¬13) وغيرهم. والكتاب شرح مختصر لكتابه "العوامل المائة" وقد حقق الكتاب الأستاذ علي حيدر وطبع في دمشق، وقد شرح الكتاب مجموعة من النحاة. ¬

_ (¬1) تاريخ آداب اللغة العربية (3/ 46). (¬2) الأعلام (4/ 174). (¬3) تاريخ الأدب العربي (5/ 206). (¬4) نزهة الألباء (363). (¬5) إنباه الرواة (2/ 188). (¬6) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬7) طبقات المفسرين (1/ 337). (¬8) شذرات الذهب (3/ 340). (¬9) نزهة الألباء (363). (¬10) إنباه الرواة (2/ 189). (¬11) فوات الوفيات (1/ 613). (¬12) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬13) البغية (2/ 106).

8 - درج الدرر في تفسير الآي والسُّور: وهو كتابنا هذا الذي نقوم بتحقيقه. وقد ذكره إسماعيل باشا (¬1)، وبروكلمان (¬2)، وله أربع نسخ مخطوطة اعتمدنا عليها في التحقيق سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله. 9 - دلائل الإعجاز: وهو من الكتب المهمة جدًا والأكثر تداولًا مع كتاب "أسرار البلاغة" كما سبق وصف طاش كبرى زادة لهما. ورجح معظم الباحثين أن يكون "أسرار البلاغة" ألِّفَ بعد "دلائل الإعجاز". وقد ذكر الكتاب كلٌّ من الفيروزآبادي (¬3)، وطاش كبرى زادة (¬4)، والبغدادي (¬5) وغيرهم. وقد قرَّر الشيخ محمد عبده تدريسه في جامعة الأزهر مع "أسرار البلاغة" كما مرَّ، فكانت أول طبعة له سنة 1321 هـ، ثم توالت طبعات عدة. وهو و"أسرار البلاغة" من حيث موضوعهما مزيج خصب لتفاعل الأفكار النحوية والبلاغية والدينية، فاستطاع أن يجد الصلات التي تربط بين هذه العلوم، فالكتابان هما خلاصة ناجحة لآرائه بعد رحلة علمية شاقة. 10 - الرسالة الشافية: وهذه الرسالة عبارة عن تفسير وتعليل لقضية إعجاز القرآن وعدم مقدرة العرب على معارضته أو تقليده. وقد تكون هذه الرسالة مُجْتَزَّة من كتابه "دلائل الإعجاز" لأن كثيرًا من عباراتها قد أخذت من كتاب "الدلائل". وقد طبع هذا الكتاب ضمن كتاب بعنوان "ثلاث رسائل في ¬

_ (¬1) هدية العارفين (1/ 606). (¬2) تاريخ الأدب العربي (5/ 206). (¬3) البلغة ص 127. (¬4) مفتاح السعادة (1/ 178). (¬5) هدية العارفين (606).

إعجاز القرآن" للرماني والخطابي وعبدالقاهر بتحقيق محمد خلف الله والدكتور محمد زغلول سلام في مطبعة دار المعارف بمصر. وهذه الرسالة لم تذكرها كتب التراجم بين مصنَّفاته. 11 - شرح الفاتحة: قال الذهبي في ترجمة عبد القاهر الجرجاني: "وفسَّرَ الفاتحة في مجلد" (¬1). والذي يقارن بين تفسيره للفاتحة مستقلاًّ مع تفسيره لها ضمن كتاب التفسير "درج الدرر في تفسير الآي والسور" يتبيَّن له البون الشاسع والفرق الكبير بين التفسيرين. فالمستقلُّ قد توسَّع وأسهب في تفسيره على العكس من الآخر الذي أخذ طابع الاختصار. وقد ذكر هذا الكتاب الذهبي كما مرَّ بنا، والكتبي (¬2)، والسبكي (¬3)، والداوودي (¬4)، وابن العماد (¬5)، والبغدادي (¬6). 12 - العروض: ذكره الكتبي (¬7) وهو الوحيد الذي ذكره، وهو عبارة عن قصيدة تتضمن قواعد الأوزان الشعرية، وقد طُبعت في ذيل كتاب الإقناع في العروض وتخريج القوافي للصاحب بن عباد سنة 1379 هجرية في بغداد بتحقيق الدكتور محمد حسن آل ياسين. ذكر ذلك أحمد مطلوب في كتابه "عبد القاهر الجرجاني" ص 45. ¬

_ (¬1) السير (18/ 432). (¬2) فوات الوفيات (1/ 613). (¬3) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬4) طبقات المفسرين (1/ 337). (¬5) شذرات الذهب (3/ 340). (¬6) هدية العارفين (606). (¬7) فوات الوفيات (1/ 612).

13 - العمدة في التصريف: وهو كتاب مختصر تحدث فيه عن الأفعالى الثلاثية والمعتلّ منها، والأفعالى التي فيها زيادة من الثلاثي، وختمه بفصل: مسألة من الأصول التي يجب حفظها. ذكر هذا الكتاب الكتبي (¬1)، والسبكي (¬2)، والسيوطي (¬3)، والبغدادي (¬4). ويوجد من الكتاب نسخة مخطوطة في مكتبة لاله لي باسطنبول - تركيا، ضمن مجموعة برقم (3740)، ونسخة أخرى في معهد المخطوطات بجامعة الدولى العربية برقم (15 - صرف). 14 - العوامل المائة: اختلف المؤرخون في تسمية هذا الكتاب، فبعضهم يسميه "العوامل" منهم الأنباري (¬5)، وكذا القفطي (¬6)، وسماه البعض الآخر "العوامل المائة" منهم: الذهبي (¬7)، والكتبي (¬8)، والسبكي (¬9)، والسيوطي (¬10)، والداوودي (¬11)، والبغدادي (¬12) وغيرهم. ¬

_ (¬1) فوات الوفيات (1/ 613). (¬2) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬3) البغية (2/ 106). (¬4) هدية العارفين (606). (¬5) نزهة الألباء (363). (¬6) إنباه الرواة (2/ 189). (¬7) السير (18/ 433). (¬8) فوات الوفيات (1/ 613). (¬9) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬10) البغية (2/ 106). (¬11) طبقات المفسرين (1/ 337). (¬12) هدية العارفين (606).

والذي رجحه الدكتور طارق نجم عبدالله في مقدمة تحقيقه لكتاب "التتمة في النحو" لعبدالقاهر الجرجاني بعد أن أطال البحث في ذلك واستعرض أقوال الفريقين وذكر أدلة وبينات على ذلك، ترجح عنده أن لعبدالقاهر كتابًا اسمه "العوامل" وآخر اسمه "العوامل المائة". أما كتاب "العوامل" المطبوع ضمن جامع المقدمات فهو تلخيص لكتاب "العوامل المائة"، والذي يظهر أن شرح الملا محسن للعوامل المطبوع في نفس الكتاب هو نسخة كاملة من كتاب "العوامل المائة". وقد شرح الكتاب جمع من العلماء منهم برهان الدين المطرزي (ت 610 هجرية) - منه نسخة في المكتبة الظاهرية في دمشق. ومحمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبي (ت 855 هجرية) - منه نسخة في مكتبة برلين. وبدر الدين محمود بن أحمد العيني (ت 855 هجرية) - منه نسخة في ميونخ والجزائر. وحاجي بابا إبراهيم الطوسيري (ت 870 هجرية) - منه نسخة في برلين وأخرى في ميونخ وأخرى في فيينا. وشروح أخرى يطول ذكرها. 15 - مختار الاختيار من فوائد معيار النظار في المعاني والبديع والقوافي: ذكره حاجي خليفة (¬1)، والبغدادي (¬2). وهذا الكتاب في عداد المفقود. 16 - المختار من دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام: ولم يذكره أحد - فيما أعلم - ضمن مؤلفات عبد القاهر، وهو عبارة عن مجموعة قصائد مختارة من دواوين هؤلاء الشعراء، نشره الأستاذ عبد العزيز الميمني بعد أن عثر عليه بعليكره بالهند ضمن كتاب الطرائف الأدبية بالقاهرة سنة 1937 هـ، واستغرقت الصفحات 195 - 305 من كتاب الطرائف. ¬

_ (¬1) كشف الظنون (1621). (¬2) هدية العارفين (606).

17 - المسائل المشكلة: هذا الكتاب ذكره البغدادي (¬1) عند حديثه عن بيت أبي الأسود الدؤلي: جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل 18 - المسائل المنثورة: قال القفطي (¬2) في ترجمته للجرجاني: "وله مسائل منثورة أثبتها في مجلد هو كالتذكرة له، لم يستوفِ القول حقَّ الاستيفاء في المسائل التي سطرها" وقد تكون هي نفس المسائل المشكلة التي تقدم ذكرها، فالله أعلم. 19 - المغني في شرح الإيضاح: وهو عبارة عن شرح لكتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسي. قال الذهبي (¬3): ويكون في ثلاثين مجلدًا. وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى هذا الكتاب في مقدمة كتابه "المقتصد" (1/ 67) فقال: "عرضتم عليَّ - أيدكم الله - رغبتكم في كتاب الإيضاح وتحققه، وتحصيل معانيه ونكته، ... " إلخ. وهذا الكتاب من الكتب التي لم تصل إلينا مع أن عامة المصادر التي ترجمت للجرجاني ذكرته ضمن مؤلفاته مثل الذهبي كما تقدم، والأنباري (¬4)، والكتبي (¬5)، والسبكي (¬6)، واليافعي (¬7)، والسيوطي (¬8) وغيرهم. ¬

_ (¬1) خزانة الأدب (1/ 134). (¬2) إنباه الرواة (2/ 189). (¬3) السير (18/ 433). (¬4) نزهة الألباء (363). (¬5) فوات الوفيات (1/ 612). (¬6) طبقات الشافعية (5/ 149). (¬7) مرآة الجنان (3/ 101). (¬8) البغية (2/ 106).

20 - المفتاح: ذكره الكتبي (¬1)، والذهبي (¬2)، والسبكي (¬3)، والداوودي (¬4)، وابن العماد (¬5)، إلا أننا لم نعرف المادة التي طرقها الجرجاني في هذا الكتاب. وفي المكتبة الظاهرية بدمشق كتاب مخطوط في الصرف اسمه "المفتاح" ينسب لعبد القاهر الجرجاني رقمه في المكتبة (10603) وقد اطلع على المخطوط الدكتور طارق نجم عبدالله فوجد مكتوبًا على الورقة الأولى "المفتاح في الصرف للجرجاني - رحمه الله - ". ويقع الكتاب في (18) ورقة، وقد نقل الفخر الرازي في شرحه على المفصل عن هذا الكتاب فقال: "قال عبد القاهر في كتابه المسمى بالمفتاح ... ". 21 - المقتصد في شرح الإيضاح: وهو شرح لكتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وقد طبع الكتاب عام 1982 م بتحقيق الدكتور كاظم بحر المرجان في مجلدين. وهذا الكتاب يعتبر اختصارًا لكتابه المطوَّل "المغني في شرح الإيضاح". وقد عاب القفطي هذا المؤلف وقلَّل من شأنه فقال كما في كتابه "إنباه الرواة" (2/ 188): "وهو مقتصد من مثله على ما سماه، لم يأتِ في "الإيضاح" بشيء له مقدار". 12 - المقتصد في شرح التكملة: بعض الباحثين يجعله مع الذي قبله كتابًا واحدًا، وعند التحقيق يتبين أنهما كتابان كل واحد منهما بعنوانه المستقل به، وقد قام الدكتور كاظم ¬

_ (¬1) فوات الوفيات (1/ 613). (¬2) السير (18/ 433). (¬3) طبقات الشافعية (5/ 150). (¬4) طبقات المفسرين (1/ 337). (¬5) شذرات الذهب (3/ 340).

دراسات معاصرة تناولت الجرجاني

بحر المرجان بدراسة موسعة لمعالجة هذا الخلاف في رسالته الماجستير في تحقيقه لكتاب "التكملة" لأبي علي الفارسي، وتوصل إلى أنهما كتابان مستقلاَّن؛ الأول - الذي هو شرح الإيضاح - يبحث في مسائل نحوية. والثاني - الذي هو شرح التكملة - يبحث في موضوعات لغوية. هذا ما استطعتُ أن أتوصَّل إليه من مؤلَّفات الجرجاني، وهي بلا شك تدلُّ على غزارة علمه وجريان قلمه السيال، ويكفينا في ذلك كتاب "المغني في شرح الإيضاح" الذي بلغ ثلاثين مجلدًا، فهذا مما لا شك فيه يحتاج زمنًا طويلًا وفكرًا واسعًا وعميقًا وسعة اطِّلاع على مختلف العلوم العربية ليتمكن من تحقيق هدفه في إخراج مثل هذا السِّفر العظيم. دراسات معاصرة تناولت الجرجاني: هناك دراسات حديثة تناولت العالم الجليل عبد القاهر الجرجاني فأبرزت شخصيته وما يتميَّز به من جوانب علمية مهمة، بل في غاية الأهمية، وامتازت دراستهم بالتفصيل والتعمق لهذه الشخصية، فانصبَّت الدراسة ما بين الجوانب النحوية والجوانب البلاغية، فأبدعوا أيَّما إبداع في تحليل تلك الدراسة، ولعلي أستعرضُ جوانب من هذه الدراسات الحديثة، فمنها: 1 - عبد القاهر والبلاغة العربية؛ للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وتقع هذه الدراسة في اثنتين وأربعين ومائة صفحة أوضح فيها الدكتور الناحية البلاغية التي أبدع فيها عبد القاهر الجرجاني من خلال كتاباته البلاغية التي تعمق في عرضها وبسطها. 2 - عبد القاهر الجرجاني؛ للدكتور أحمد أحمد بدوي ضمن "سلسلة أعلام العرب "وهو من الحجم الصغير" ويقع في تسع وعشرين وأربعمائة صفحة. 3 - عبد القاهر الجرجاني: بلاغته ونقده؛ للدكتور أحمد مطلوب، وهو من الحجم المتوسط، ويقع في سبع وأربعين وثلاثمائة صفحة.

4 - تربية الذوق البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني؛ للدكتور عبد العزيز عبد المعطي عرفة، وهو من القطع المتوسط، ويقع في أربع وستين وستمائة صفحة. 5 - النقد التحليلي عند عبدالقاهر الجرجاني "دراسة مقارنة"؛ للدكتور أحمد عبد السيد الصاوي، وهو من القطع المتوسط، ويقع في ست عشرة وأربعمائة صفحة. 6 - التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبد القاهر؛ للدكتور عبد الفتاح لاشين، وهو من القطع المتوسط، ويقع في إحدى وستين ومائتي صفحة. 7 - مفهوم الجمال عند عبد القاهر الجرجماني؛ للدكتور أحمد عبدالسيد الصاوي، وهو من القطع المتوسط، ويقع في ثلاث وتسعين صفحة. 8 - نظرية النظم وقيمتها العلمية في الدراسات اللغوية عند عبدالقاهر الجرجاني؛ للدكتور وليد محمد مراد. 9 - نظرية العلاقات بين عبد القاهر والنقد الغربي؛ للأستاذ الدكتور محمد نايل. 10 - نظرية عبد القاهر في النظم؛ للدكتور درويش الجندي. 11 - النظم في دلائل الإعجاز؛ للدكتور مصطفى ناصف، وهو ضمن حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس يناير سنة 1955 م. 12 - المقاييس الجمالية عند عبد القاهر الجرجاني، وهو رسالة ماجستير لسيد حجاب، وهو في جامعة الأزهر كلية اللغة العربية. أما عن الكتب التي أفردت له بعض الفصول فهي كثيرة، نذكر منها: 13 - قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث؛ للدكتور محمد زكي العشماوي، ذكره تحت عنوان "نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني" من ص 302 - 372، ثم ذكره عند حديثه عن منهج الآمدي في الموازنة بعنوان "عبد القاهر والسرقة الشعرية".

14 - أثر النحاة في البحث البلاغي؛ للدكتور عبد القاهر حسين. وقد أفرد له الباب الرابع من الكتاب، تحت عنوان: "البلاغة في القرن الخامس الهجري" وذلك من ص 358 - 409. هذا عدا كثير من الإشارات المتكررة في كلِّ موضع من الكتاب تقريبًا. 15 - من الوجهة النفسية؛ للدكتور محمد خلف الله أحمد. تحدث عن الشيخ من ص 32 - 33 تحت عنوان: "عبد القاهر الجرجاني ونظريته النفسية"، ثم أفرد له الفصل الرابع بعنوان: "المنزع النفسي في بحث أسرار البلاغة" من ص 99 - 154. 16 - البلاغة تطور وتاريخ؛ للدكتور شوقي ضيف، تحدث عنه في الفصل الثالث تحت عنوان: "ازدهار الدراسات البلاغية" من ص 160 - 219. 17 - في الميزان الجديد؛ للدكتور محمد مندور. تحدث عن الشيخ من ص 173 - 188 تحت العناوين التالية: "نظرية عبد القاهر الجرجاني"، "النظم عند الجرجاني"، "الذوق عند الجرجاني". 18 - مقالات في تاريخ النقد العربي؛ للدكتور داود سلوم، أفرد له الفصل السادس تحت عنوان: "عبد القاهر الجرجاني وكتابه دلائل الإعجاز" من ص 374 - 387. 19 - البلاغة عند السكاكي؛ للدكتور أحمد مطلوب، ذكره في الفصل الأول تحت عنوان: "أثر عبد القاهر" من ص 207 - 233. 20 - من قضايا النقد والبلاغة؛ للدكتور توفيق الفيل، أفرد له الفصل الثاني تحت عنوان: "التصوير الفني" من ص 69 - 114، ثم ذكره من ص 208 - 215. 21 - النقد الأدبي الحديث؛ للدكتور محمد غنيمي هلال، ذكره في الفصل السادس تحت عنوان: "اللفظ والمعنى" من ص 268 - 291. 22 - نظرية المعنى في النقد العربي؛ للدكتور مصطفى ناصف، ذكره في

الفصل الأول تحت عنوان: "نظام الكلمات" من ص 10 - 35، ثم ذكره في الفصل الثاني تحت عنوان: "الصورة العادية والصورة المنمقة" من ص 43 - 52، ومن ص 59 - 65، إلى غير ذلك من الإشارات المتناثرة في ثنايا الكتاب. 23 - تأثير الفكر المديني في البلاغة العربية؛ للدكتور مهدي صالح السامرائي، ذكره في الفصل الثاني تحت عنوان: "نظرية عبد القاهر في وجهها العلمي" من ص 92 - 107. وذكره في فصل المجاز من ص 121 - 124 - 136. ثم ذكره في الفصل الثالث عند حديثه عن التعليل من ص 161 - 162. ثم أفرده بالحديث في الفصل الثالث من الباب الثاني تحت عنوان: "الإعجاز البياني في نظرية عبد القاهر" من ص 249 - 257. 24 - دراسات في النقد الأدبي؛ للدكتور وليد قصَّاب، ذكره عند حديثه عن "فكرة النظم وأثرها في حلِّ مشكلات النقد العربي" من ص 71 - 84. 25 - من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم؛ للدكتور عثمان موافي، أشار إليه في الفصل الرابع عند حديثه عن اللغة وارتباط الألفاظ بعضها ببعض من ص 101 - 119. 26 - أساليب بلاغية؛ للدكتور أحمد مطلوب، ذكره في الفصل الأول تحت عنوان "الفصاحة والبلاغة"، وتحدث عنه من ص 31 - 37، ثم ذكره ص 57، هذا مع الإشارات المتفرقة في الكتاب. 27 - النقد المنهجي عند العرب؛ للدكتور محمد مندور، ذكره في الفصل السابع وعنوانه: "تحول النقد إلى بلاغة"، وتحدث عنه من ص 332 - 339. 28 - آراء الجاحظ البلاغية وتأثيرها في البلاغيين العرب حتى القرن الخامس الهجري؛ للدكتور أحمد أحمد فشل، ذكره في الفصل الثاني من الباب الثالث عند ذكره قضية اللفظ والمعنى.

المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

29 - التفكير البلاغي عند العرب؛ للدكتور حمادي صمود، ذكر الشيخ في موضعين: 1) في الفصل الأول من القسم الأول من ص 80 - 83 عند حديثه عن المؤثرات الأجنجية، وتكلَّم عن مدى تأثر الشيخ بالبلاغة الأجنبية. 2) في القسم الثالث تحت عنوان: "أهم قضايا التفكير البلاغي إلى القرن السادس" تحدث عن نظرية النظم في الدلائل والأسرار من ص 497 - 529. هذا إلى جانب كثير من الكتب التي لا يمكن حصرها في هذا الموضيع، وهي مثبتة في ثنايا الكتاب. هذا ما استطعتُ أن أجمعه من الدراسات الحديثة التي تناولت الجرجاني، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أهمية ومكانة الجرجاني قديمًا وحديثًا ومكانة كتاباته المتميِّزة. المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه لقد أوضح المترجمون للعلاَّمة الجرجاني في ثنايا ترجمته مكانة عالية ورفيعة تحلق في سماء الأعلام الكبار الذين شهد لهم التاريخ واستمرَّ أثرهم وذكرهم على مرِّ العصور والأزمان إلى يومنا هذا، فلا يكاد يجهل مثل هذا العالم ومكانته أدنى طالب علم، فهو لا يحتاج إلى تعريف لأن المُعَرَّفَ لا يُعَرَّفُ، وكما قال الشاعر: وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ فآثاره العلمية تشهد لمكانته، ومجلسه العلمي في حياته يزخر بطلاب العلم الذين يترددون عليه من كل حدب وصوب يغترفون من فيض علمه، وإعراضه عن الدنيا ومغرياتها وما تدعو إليه من المفاتن في أموالها ومناصبها ومتاعها الزائل، كل ذلك رفع من قدره ومكانته ليس بين أهل العلم فحسب، بل حتى بين العامة من الناس.

ومن حيث ثناء العلماء عليه يمكننا أن ننقل مجموعة من الأوصاف التي ذكرها العلماء في حقِّ الشيخ - رحمه الله -: 1 - قال الحافظ الذهبي: "شيخ العربية، النحوي، العلامة، وكان شافعيًا أشعريًا ذا نسك ودين" (¬1). 2 - قال السلفي: "كان ورعًا قانعًا آية في النحو" (¬2). 3 - قال القفطي: "له إعجاز القرآن يدلُّ على معرفته بأصول البلاغات، وكلامه وغوصه على جواهر هذا النوع يدلُّ على تبحّره وكثرة اطِّلاعه، وأشعاره كثيرة في ذمِّ الزمان وأهله" (¬3). 4 - قال أبو محمد الأبيوردي: "ما مقلت عيني لغوياَّ مَثله، وأما في النحو فعبدالقاهر" (¬4). 5 - قال الفيروزآبادي: "إمام العربية واللغة والبيان، أول من دوَّن علم المعاني" (¬5). 6 - وقال اليافعي: "كلامه في علم المعاني وفي البيان يدلُّ على جلالته وتحقيقه وديانته وتوفيقه" (¬6). 7 - وقال جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي: "النحوي اللغوي شيخ العربية في زمانه، كان إمامًا بارعًا، انتهت إليه رياسة النحاة في زمانه" (¬7). 8 - قال عنه معاصوه الباخرزي: "اتفقت على إمامته الألسنة، وتجمَّلت ¬

_ (¬1) السير (18/ 432)، والعبر (2/ 330). (¬2) السير (18/ 432). (¬3) إنباه الرواة (2/ 189). (¬4) طبقات الشافعية للسبكي (3/ 242)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 331). (¬5) البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ص 134. (¬6) مرآة الجنان (3/ 101). (¬7) النجوم الزاهرة (5/ 108).

بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة، وأثنى عليه طيب العناصر، وثنيت به عقود الخناصر، فهو فرد في علمه الغزير، لا بل هو العَلَم الفرد في الأئمة المشاهير" (¬1). 9 - وقال محمد بن شاكر الكتبي: "كان من كبار أئمة العربية" (¬2). 10 - وقال عنه السبكي: "الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات مع الدين المتين والورع والسكون" (¬3). ... ¬

_ (¬1) دمية القصر (2/ 17). (¬2) فوات الوفيات (1/ 612). (¬3) طبقات الشافعية (5/ 149).

التعريف بالكتاب

الفصال الثاني: التعريف بالكتاب وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب وصحة نسبته للمؤلف. المبحث الثاني: القيمة العلمية للكتاب. المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب. المبحث الرابع: مصادر المؤلف. المبحث الخامس: الجوانب النحوية والبلاغية واللغوية في تفسيره. المبحث السادس: عقيدة المؤلف من خلال تفسيره. ***

المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب وصحة نسبته للمؤلف

الفصل الثاني: التعريف بالكتاب المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب وصحة نسبته للمؤلف إنَّ مما لا شكَّ فيه وبعد التحري والتتبُّع والاستقراء يجعلنا نجزم تمامًا أن الكتاب لعبد القاهر الجرجاني، ويمكن أن نعزو هذا الترجيح الذي تبنيناه إلي أمور عدة، منها: أولًا: أن بعض المصادر نسبت الكتاب إلى عبد القاهر الجرجاني، منهم على سبيل المثال: إسماعيل باشا البغدادي في كتابه "هدية العارفين" (1/ 606)، وتبعه بروكلمان في كنا به "تاريخ الأدب العربي" (5/ 206)، كما ذكره حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون" (2/ 570)، ونويهض في كتابه "معجم المفسرين" ص 295، كما ذكر الأدنه وي في كتابه "طبقات المفسرين" ص 133 أن لعبد القاهر تفسيرًا دون أن يسميه قائلًا: "وصنف تفسيرًا". وكذا ذكر الداودي في طبقات المفسرين (1/ 133). ثانيًا أن النسخ المخطوطة الأربع للكتاب ذكر في صفحتها الأولى عنوان الكتاب "درج الدرر في تفسيرالآي والسور" كما ذكر اسم مؤلف الكتاب "عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني" وتوافق هذه النسخ

الأربع مع اختلاف النسَّاخ مما يدلُّ يقينًا - والله أعلم- صحة نسبة الكتاب لمؤلِّفه آنف الذكر. ثالثًا: إن من يتتبَّع أسلوب الجرجاني في كتبه المطبوعة وجوانب الطرح التي ذكرها وبسط الكلام فيها سواء الجوانب البلاغية أو النحوية يجد كثيرًا من التوافق والتشابه بينها، مع أن كتاب التفسير جنح فيه مؤلِّفه عما اعتاده من أسلوب البسط والإطناب والإطالة في عرضه للمسائل البلاغية والنحوية لأنه يدرك أن الأسلوب الأمثل لتفسير القرآن هو الاختصار ليسهل تناوله والاستفادة منه لجميع شرائح قُرَّاء الكتاب الكريم. بل هناك بعض مؤلَّفات الجرجاني مثل كتاب "الجُمَل في النحو" وكتاب "المفتاح في الصرف" وكتاب "التتمة في النحو" وغيرها حيث استعمل الجرجاني أسلوب الاختصار على غرار أسلوب التفسير. رابعًا: أن الحافظ الذهبي (¬1) ذكر أن للجرجاني كتاب "تفسير سورة الفاتحة" وأنه فسَّرها في مجلد، وهذا يدلُّنا على أن الجرجاني فعلًا طرق جانب التفسير، فإذا كان بدأ بتفسير الفاتحة فحتمًا أن يواصل مشوار في تفسير الباقي من كتاب الله كما جرت عليه عادة المفسِّرين الذين يتصدُّون لتفسير القرآن الكريم، فالأصل أن يتَمَّ القرآن برمَّته لا أن يأخذ جزءًا منه إلا أن تدركه المنية قبل إتمامه، وهذا شيء نادر والنادر لا حكم له. خامسًا: أن الذي يقلِّب كتاب التفسير يجد أن المؤلِّّف يصرح بانتمائه الفقهي لمذهب الشافعي، وانتمائه العقدي لمذهب الأشاعرة، كما في آيات الصفات التي تطرق لها، فهو شافعي أشعري، وهذا منطبق تمامًا عندما نرجع إلى من ترجم للجرجاني فإنهم ذكروا ذلك عنه. سادسًا: يرجح بعض الباحثين أن هذا التفسير لأبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني، وعند تتبعي لبعض من نقل عن أبي علي الجرجاني هذا ومقابلة ما ذكروه عنه من التفسير لم أجد ما ينطبق على ما بين أيدينا ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (18/ 432).

المبحث الثاني: القيمة العلمية للكتاب

من تفسير "درج الدرر" فعلى سبيل المثال نقل ابن القيم عن الجرجاني وصرح بكنيته في بعض المواضع كما في إغاثة اللهفان (1/ 35) وكتاب الفوائد (1/ 89) وكتاب الروح (1/ 164) والتبيان في أقسام القرآن (1/ 10) (1/ 49) (1/ 83) (1/ 147) والقرطبي في تفسيره (6/ 28) (6/ 333) (7/ 251) (8/ 357) (8/ 152) وفتح القدير للشوكاني (4/ 105) (5/ 424) وفي تفسير اللباب لابن عادل (15/ 36) (15/ 272 - 435) فكل هؤلاء نقلوا عن أبي علي الجرجاني ولم أجد شيئًا من المطابقة بين تفسير أبي علي الجرجاني وتفسير درج الدرر لعبد القاهر الجرجاني وبذلك يرتفع الإشكال الوارد في نسبة "درج الدرر" لأبي علي الجرجاني مع أن أبا علي الجرجاني معاصر لعبد القاهر الجرجاني، وله كتاب في التفسير أيضًا كما نقل عنه. ... المبحث الثاني: القيمة العلمية للكتاب لقد أجمع النُّقَّاد والبلاغيون على أن القرآن ذروة سنام البلاغة وأنه بلغ الغاية العظمى في الفصاحة والعربية، بل تعدَّى منتهى البيان. وإذا كان القرآن كذلك فهو حريٌّ بأن لا يتصدَّى له في إظهار هذا البيان والإعجاز والفصاحة والبلاغة إلا من تَبَحَّر بفنِّها وغاص في أغوارها حتى يكسوها طلاوة، ويودعها حلاوة، ولا نكاد نجد من يَنبري إلى تلك المهمة العصيبة مثل إمام البلاغيين وشيخ العربية وإمام النحويين كما وصفه بذلك أعلام العلماء ممن ذكرنا في المبحث الخامس في الفصل الأول، حتى لا تجد بدًا إلا أن تقول أنه أولى من يتصدَّى لكتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وبذلك يتبيَّن لنا تمامًا القيمة العلمية لهذا الكتاب بقيمة الكتاب ذاته؛ لأنه أشرف الكتب، وأشرف العلوم، وقيمة مؤلفه المعروف بجلالته ومكانته العلمية وثناء العلماء عليه.

كما أننا عندما نتصفَّح الكتاب نجد فيه ألوانًا من المعارف المختلفة، فيستفيد منه المتخصِّصون في الجوانب النحوية والبلاغية بخاصة، إذ بسط فيها القول بأسلوب علمي، وفي المقابل فإننا نجد أن عامة القرَّاء غير المتخصَّصين ينشدون إليه لسهولته وجزالته وقرب تناوله في ألفاظه ومعانيه. كما أن عبد القاهر الجرجاني أشار إلى القيمة العلمية الكبيرة التي يحويها هذا الكتاب -أعني به القرآن العظيم-، فقال في كتابه "دلائل الإعجاز" ص 39: "لقد أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عِظَةٍ وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب ومع كل حجة وبرهان وصفة وتبيان ... ". فعبد القاهر الجرجاني يشير إلى أصالة عريقة وعمق متشعب في ثنايا هذا الكتاب الذي جعله تفسيرًا لكتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -، فهو يعدُّ مادة لغوية معجمية من خلال إشاراته في تفسير المفردات القرآنية والتي هي في التحقيق ترجع إلى منابع المعاجم اللغوية لا تنفكّ عنها. كما تكمن قيمة الكتاب بإشاراته اللطيفة لأسباب النزول، فقد أكثر من ذلك حتى أنه يمكننا أن نجمع كلَّ ما ذكره في هذا الكتاب من أسباب النزول لتخرج في كتاب مستقلٍّ لا يقل عن مجلد كبير. كما يحمل الكتاب في طياته جملة من الشواهد الشعرية نحويًا أو لغويًا أو معجميًا أو غير ذلك، سيما أن الجرجاني له جملة من الأبيات الشعرية فهو معدود عند البعض من الشعراء. كما تتجلَّى لنا قيمة الكتاب بالمسائل النحوية والصرفية والمعجمية، فهو يحاول أن يعلِّل ويدلَّل ويستشهد ويبسط القول في الأوجه الإعرابية المختلفة، كما أنه يحاول في كثير من الأحيان الإحالة إلى أصحاب تلك الأقوال ونسبتها إليهم مما يزيد مصداقية إلى تلك الأقوال.

المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب

المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب لقد سلك الجرجاني في منهجه هذا أسلوبًا لا يختلف في جملته عن منهج عامة المفسِّرين، وإن كان -رحمه الله - لم يكتب منهجه في مقدمة تفسيره إلا أننا يمكن أن نتوصل إلى منهجه من خلال ثنايا تفسيره وما بسط القول فيه، وقد سلك المؤلف في كتابه أسلوب الاختصار فيمكننا أن نقول إن قريبًا من نصف الكتاب يأخذ طابع تفسير المفردات بالمفردات على غرار ما يغلب على تفسير الجلالين وغيره، فهو يحاول أن يفسِّر الكلمة بكلمة أو كلمات مختصرة، لكنه ربما أسهب في بعض المواطن وأطال فيها وإن كانت قلة كإطالته شي تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ....} حيث أسهب في مسألة النسخ، وكما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...} حيث بسط القول في الزكاة وأنصبتها وجهاتها وما يتعلق بها. كما سلك المؤلف في تفسيره في كثير من المواطن تفسير القرآن بالقرآن، فهو يحاول أن يوضح المجمل بالمفصل، والعام بالخاص، أو غير ذلك، وأمثلة ذلك كثيرة جدًا يمكننا أن نستعرض أمثلة على ذلك فمنها: أولًا: تفسير القرآن بالقرآن. قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب: السيد. قال يوسف - عليه السلام -: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (¬1). قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود لقوله في شأنهم: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (¬2). قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قد يكون البلاء بالخير والشر، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} (¬3). والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا. ¬

_ (¬1) يوسف:50. (¬2) البقرة: 90. (¬3) الأعراف: 168.

ثانيًا: سلك في منهجه أيضًا أسلوب تفسير القرآن بالسنة النبوية، وهو منهج متأصل عند المفسَّرين كالذي قبله، مثال ذلك: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى ...} في الآية دليل على أن خلق الأرض وما فيها من الجماد مقدَّم على تسوية السماوات. ثم استشهد الجرجاني على ذلك بما ورد في السنَّة عن النبي - عليه السلام - قال: "إن الله خلق الأرض يوم الأحد ... " الحديث، وإن كانت الشواهد على تفسير القرآن بالسنَّة قليلة جدًا؛ لأن المؤلف سلك جانب الاختصار كما تقدم ذلك. وانظر أيضًا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً ...} كما أننا نرى أن المؤلِّف يعتمد رواية الواقدي في رواية الحديث، والواقدي معروف أنه متهم بالكذب. انظر تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ...} (¬1)، وقوله أيضًا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ...} (¬2). ثالثًا: تفسير القرآن بآثار السلف وأقوالهم كثير جدًا في هذا الكتاب، فهو ينقل عن أئمة التفسير من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، ومن التابعين مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، ومن تبعهم من أئمة السلف. بل استفتح تفسيره لسورة البقرة للحروف المقطعة {الم (1)} بقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد"، وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي القرآن: عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي وابن جريج. ومن منهجه أنه ربما يستخدم في تفسيره القرآن لتأييد معنىً لغوي يطرح فيه جوانب لغوية كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...} وقوله: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة على ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 126. (¬2) سورة البقرة: 127.

المبحث الرابع: مصادر ر المؤلف

ومن منهجه أيضًا أنه يستخدم القرآن لتأييد معنى نحوي، وقد يذكر أسماء أعلام النحاة أو لا يذكر أحدًا منهم، مثال ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}، وقوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} والشواهد على ذلك كثيرة جدًا. وقد ترفع في منهجه عما اختصَّ به من تضلُّعه في علوم البلاغة، فمن يعرف الجرجاني ويتصفح كتبه يكاد يجزم أنه لا يمكن أن يترك جانب البلاغة والتوسُّع به في هذا التفسير، إلا أننا لا نكاد نجد إشارات بلاغية ربما أطال فيها وهي قليلة جدًا في التفسير، نجد ذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬1) حيث أشار إلى الكناية والمجاز، وأطال الكلام فيهما. وكما في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ...} الآية (¬2). المبحث الرابع: مصادر ر المؤلف إن المتتبِّع لكتاب التفسير هذا ومن يقلِّب صفحاته، يتبيَّن له من حيث مصادر المؤلف أنه اعتمد على أهم وأبرز المصادر التي اعتمدها المفسَّرون في كتبهم، فمما لا شكَّ فيه أن قيمة الكتاب بقيمة مصادره التي ينقل منها ليحظى الكتاب بمادة علمية رصينة، وهذا ما نجده في كتابنا هذا "درج الدرر" فهو بحقٍّ قد تحلَّى بأحلى الدرر العلمية التي رُصِّعَتْ بها مادة الكتاب حتى خرج على هذا النحو، ويمكننا أن نستعرض أهمَّ المصادر التي اعتمدها المؤلف في تفسيره، منها: أولًا: كتب التفسير؛ حيث اعتمد على كتاب "جامع البيان في تفسير القرآن" لمحمد بن جرير الطبري. ولا شك أن هذا من أبرز التفاسير التي يمكن الاعتماد عليها، يضاف إليه كتاب "تفسير ابن أبي حاتم" وهما مصدران أساسيان لكلِّ تفسير. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 45. (¬2) سورة البقرة: 47.

ثانيًا: كتب معاني القرآن؛ حيث كان ينقل عن البارزين من أئمة اللغة أمثال الكسائي (ت 189 هـ)، والفراء (ت 207 هـ) في كتابه معاني القرآن، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ) في كتابه مجاز القرآن، والأخفش (ت 215 هـ)، وابن قتيبة (ت 276 هـ)، والزجاج (ت 310 ص) في كتابه معاني القرآن. ثالثًا: كتب الحديث؛ وإن كان اعتماد المؤلف على تفسير القرآن بالسنة النبوية قليلًا جدًا، لذا فإننا نجد الأحاديث النبوية قلَّما يستشهد ويعتمد عليها الجرجاني في تفسيره، حيث التزم - كما يظهر لنا وإن لم يصرح بذلك - جانب الاختصار واضحًا من خلال ما نراه في هذا التفسير. رابعًا. الروايات التاريخية؛ اعتمد في الروايات التاريخية بشكل أساسي على محمَّد بن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك"، كما اعتمد على الواقدي (ت 207 هـ) وإن كانت الرواية عنه لا تقبل عند عامة أئمة النقل في الحديث، فهو متَّهم بالكذب، وهذا مما ينقص قدر وثبوت الرواية فيما ينقلها عنه الجرجاني. خامسًا: كتب اللغة والنحو؛ فقد اعتمد أبرز اللغويين والنحويين أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ)، وسيبويه (ت 180هـ)، وقطرب (ت 206 هـ)، وأبي حاتم السجستاني (ت 248 هـ)، وابن عرفة (ت 323 هـ)، وابن الأنباري (ت 328 هـ)، والأزهري (ت 370هـ)، ومحمد بن الحسن الرؤاسي، وأبي عبيد الهروي (ت 401 هـ)، وابن الأعرابي وأبي العباس ثعلب. ولا شكَّ أن هؤلاء أبرز وأهم أعلام أئمة النحو واللغة، وعليهم المعتمد في هذا التخصص. ويمكن أن أشير إلى جانب مهم حيث أجريت مقابلة بين كتاب التفسير للسمعاني وكتاب "درج الدرر" للجرجاني، فخرجتُ بنتيجة وهي أن هناك مواطن عدة تجلَّى فيها التشابه والمطابقة من حيث اللفظ والمعنى في جانب التفسير، مما يؤكد لنا أن أحدهما نقل من الآخر، كما في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}، والأمثلة على ذلك كثيرة. وإن كان

المبحث الخامس: الجوانب النحوية والبلاغية واللغوية في تفسيره

الجرجاني توفي سنة (471 هـ) فإن أبا المظفر السمعاني توفي سنة (489 هـ) مما يدلُّ على أن الشيخين قد تعاصرا في زمن واحد، وفي هذه الحال لا يمكننا الجزم في تحديد أحدهما أنه نقل من الآخر. المبحث الخامس: الجوانب النحوية والبلاغية واللغوية في تفسيره لقد برز وأبدع الجرجاني في جانب النحو والبلاغة واللغة أيَّما إبداع، وآثاره العلمية في هذين الفنَّين محطّ الاهتمام عند أعلام العلماء قديمًا وحديثًا. فهو يحاول أن يطرح آراءه النحوية والبلاغية من خلال التفسير، وإن كان الأغلب والأكثر هو استعراضه للمسائل النحوية في ثنايا تفسيره وهو يركز بشكل أساسي على الناحية الإعرابية لبعض الكلمات أو الجمل المشكلة في الآيات القرآنية، وربما ذكر الأوجه الإعرابية في الكلمة، وقلَّ أن يرجح شيئًا من هذه الأوجه بل يحاول أن يترك القارئ هو الذي يختار الوجه الذي يراه مناسبًا. ولا يدفعنا هذا إلى أن نقلِّل من شأن الجرجاني نحويًا حيث لم يذكر القول الراجح من الأوجه الإعرابية، بل الجرجاني كما وصفه أعلام العلماء كالذهبي والسلفي والقفطي وغيرهم بأنه شيخ العربية وإمام النحاة، فهو في الأساس رجل نحوي، بل إن علم المعاني الذي - كما قيل- يعتبر واضعًا لأصوله لم يكن إلا إحياء لروح المعنى والحس والتذوّق في علم النحو، فالأمور التي ذكرها هي بالتأكيد أبعد مدى وأوسع غاية من مجرد الإعراب، فما نجده في كتابه التفسير هو مجرد إشارات لطيفة ومختصرة سواء في الجوانب الإعرابية أو التقعيدات النحوية. ويرى الجرجاني كما في تفسيره أن علل القياس تبطل بالسماع كما في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ...} فقد علَّق الجرجاني على كلمة "المرء" لما ذكر علل اللغويين في هذه الكلمة وتصريفاتها قال: "هذه علل واهية واللغة بالسماع".

وربما كان للجرجاني رأيٌ يخالف فيه عامة المفسَّرين واللغويين فينفرد به عنهم، ففي تفسيره للحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة {الم (1)} أنه قاسها على حذف آخر الكلمة كما هو معروف عند العرب. ولا شكَّ أن مثل هذا القياس هو قياس مع الفارق، إذ المحذوف من آخر الكلمة يفهم من سياق الجملة والكلام أو من الكلمة ذاتها على العكس من الحروف المقطَّعة التي لم يسبقها سياق يدلُّ عليها، وإنما هي حروف مجرَّدة. كما نراه أيضًا ينفرد في تفسيره لكلمة {مَالِكِ} في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ففسَّر {مَالِكِ} بمعنى قاضي، ولا يعرف في معاجم اللغة مثل هذا التفسير، كما لم يفسر أحد من المفسرين هذا التفسير- فيما أعلم -. ومن حيث الجوانب البلاغية في تفسيره فهي إشارات لطيفة ومختصرة وقليلة جدًا، وهو مما نستغربه جدًا أن يغفله المؤلف في هذا الكتاب، فهو أحقُّ من غيره في أن يستعرض به المؤلف- سيما المختص بالبلاغة - الجوانب البلاغية بشكل موسع، ولذا نرى أعلام العلماء يركِّزون على ذلك ويحرصون عليه. يقول الزمخشري في هذا المعنى: "ولله در أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها" (¬1). ويرى السكاكي أن "كلَّ آية من القرآن تشتمل على لطائف لا تكاد تحصى لأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنّ الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعلَّ ما تركتُ أكثر مما ذكرت" (¬2). وفي الجملة، فإن القصور والتقصير في طرق الجوانب البلاغية حاصل من المؤلف وإنه لم يعطِ الكتاب حقَّه من اللطائف البلاغية. وفي أحكامه الإعرابية يحاول أن يجعل جانب الترجيح والأحكام الإعرابية وفق ما يذهب إليه ويتبنَّاه كبار النحويين، فقد تبيَّن لي وجه الشبه الكبير بينه وبين سيبويه والكسائي والفراء وأبي عبيدة، وربما صرح بأسمائهم، لكن في الجملة فإن للجرجاني استقلاليته في الأحكام الإعرابية. ¬

_ (¬1) الكشاف (1/ 238). (¬2) مفتاح العلوم للسكاكي ص 531.

المبحث السادس: عقيدة المؤلف من خلال تفسيره

المبحث السادس: عقيدة المؤلف من خلال تفسيره تتجلَّى عقيدة الجرجاني من ناحيتين: الناحية الأولى: حكم أعلام العلماء على عقيدته حيث ذكروا وحدَّدوا عقيدته فقال الذهبي: "كان أشعريًا" (¬1)، وكذا قال القفطي (¬2) وغيرهما. الناحية الثانية: مؤلفات الجرجاني عامتها تشير إلى ذلك، سيما عند تعرُّضه لآيات الصفات سواء في كتابنا هذا الذي تتجلى فيه أشعرية المؤلف بشكل واضح أو من خلال بعض كتبه كـ "أسرار البلاغة" و"الإعجاز". والذي يهمّنا هو الكتاب الذي بين أيدينا، فلعلنا نستعرض بعض الشواهد من كتابه هذا لنحدَّد به منهج المؤلف العقدي، فمنها على سبيل المثال: أولًا: في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال: يجازيهم على استهزائهم، وهذا تفسير الأشاعرة الذين ينفون صفة الاستهزاء بالكافرين عن الله، فيصرفون ظاهر اللفظ عن معناه الأصلي الذي خاطبنا الله به، ولذلك ردَّ إمام المفسِّرين ابن جرير الطبري هذا التأويل الذي ذهب إليه المؤلف وتبعه في ذلك ابن كثير وغيرهما. وإن ما ذهب إليه المؤلف مخالف لكلام العرب، يقول الحافظ الطبري: "إن معنى الاستهزاء في كلام العرب إظهار المستهزىء للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا" (¬3). ثانيًا: صفة الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ...} فقد ذهب مذهب الأشاعرة في تفسيره لها فقال: إنها بمعنى عمد وقصد. بينما يرى إمام المفسَّرين محمد بن جرير الطبري أنها بمعنى ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (18/ 432). (¬2) إنباه الرواة (2/ 189). (¬3) تفسير الطبري (1/ 315).

العلو والارتفاع (¬1)، وكذا ذكر البغوي (¬2) وغيرهما من أئمة السلف. ثالثًا: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} قال: أَلْهَمَ ووفَّق. وهذا أحد أقسام العلوم عند الأشاعرة. رابعًا: قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ذكر بأن الله متعالٍ عن الحلول في الجهات والأقطار، وهذا يشبه كلام الأشاعرة في نفي الجهة. ومذهب أهل السنَّة عدم الخوض في الجهة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأن الكتاب والسنَّة لم يفصَّلا في ذلك ولم يتطرَّقا لها، فمن باب أولى أن نترك ما تركه الله ورسوله. وكما جاء في الحديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها". وقد فصلت القول في هذه المسألة عند الآية الكريمة، فالمؤلف في عدة مواطن استعمل الكلمات التي يخوض بها الأشاعرة مثل: العرض، والجوهر، والجهة، والجسم. خامسًا: في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فسَّر الرحمة بأنها إرادة الخير، وهو مذهب الأشاعرة في نفي صفة الرحمة لأنها تقتضي الرقة، والله منزَّه عنها - على حدِّ قولهم - ومن المعلوم أن الأشاعرة يركزون على إثبات سبع صفات مجموعة في قول الناظم: لهُ الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر فهذه نماذج تمثل منهج المؤلف في تأويله لآيات الصفات. ثم إنه لما يتحدَّث عن الأمر والإرادة يقول: إن الأمر غير الإرادة، فهو يعلق على أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ابنه يقول: "إن الإرادة انفصلت عن الأمر لأن الله أمر بذبح ابن إبراهيم ولم يرده" فهو يرى أن إرادة الشيء غير الأمر، وهذا منهج وتقرير الأشاعرة. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (1/ 457). (¬2) تفسير البغوي (1/ 59).

ثم نراه يعرج في تفسيره على آية البسملة بأن الاسم يراد به التسمية وهو غير المسمَّى، وهذا مذهب المعتزلة حيمث أشار إليه ابن كثير (¬1) فقال: "إن ما ذهب إليه المعتزلة من هذا القول هو عبث على جميع التقديرات، والذي عليه أهل السنَّة أن الاسم هو المسمى، وهو ما ذهب إليه أبو عبيدة وسيبويه واختاره الباقلاني وابن فورك وغيرهم" اهـ. وفي الجملة فإننا وإن كنا نخالف المؤلف فيما ذهب إليه من المسائل التي ذكرنا فإن ذلك لا يقلِّل من جلالته وقدره وسعة علمه، بل إننا نجد أن أكثر علماء التفسير ينحون هذا المنحى في تبنّي وتقرير مذهب الأشاعرة، مع أننا في أمسِّ الحاجة إلى علمهم ولا يمكننا الاستغناء عنهم بوجه من الوجوه، وقد فصَّلت الكلام في كتابي الموسوعي الذي كتبته عنهم والذي بعنوان "الموسوعة الميسَّرة في تراجم أئمة التفسير والنحو واللغة مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم" وكانت حصيلة هذه الموسوعة أنني خرجتُ بأن أكثر أئمة التفسير والنحو واللغة يتبنّون مذهب الأشاعرة. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (1/ 29).

القسم الثاني ويشتمل على ما يلى: أولًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحيق. ثانيًا: منهجى في التحقيق. ثالثا: منهجى في التحقيق. رابعًا: النص المحقق. خامسًا: تذييل الكتاب بالفهارس الفنية اللازمة.

وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

أولًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق اعتمدتُ في تحقيقي لهذا الكتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسور" على أربع نسخ مخطوطة، ولعلي أستعرض تفاصيل تلك المخطوطات، فأقول: 1 - النسخة الأولى: ورمزتُ لها بالرمز (ي)، وهي ترجع إلى مكتبة كوبريلي في تركيا - اسطنبول - برقم (95)، ومنها صورة مايكروفلم تحمل الرقم (1168)، وهي في (328) لوحة من القطع الكبير -أعني القرآن كله. ومسطرتها (34 سم x 24 سم) عدد الأسطر في كل صفحة (23) سطرًا، وفي كلِّ سطر (15) كلمة تقريبًا. في هذه النسخة شيء من الطمس في بعض المواضع، لكن - بفضل الله - استطعنا أن نكمل هذا النقص من باقي النسخ، كما نجد تعليقات من الهوامش في جوانب الصفحات. والنسخة مكتوبة بخطٍّ مقروء، وربما حصل مزج لبعض الحروف مثل [الثناء- للثناء] و [الحث- للحث] وهذا قد يحدث في مواطن عدة. وكلمة - عليه السلام - كُتِبت: علهم. ونرى الهمزة قد كتبت في نهاية الكلمة في مثل كلمة السماء: السمآ.

وعلى وجه النسخة كتب عنوان الكتاب"كتاب درج الدرر للإمام العلامة علامة العالم وقدوة السلف والخلف عبد القاهر الجرجانى" وإلى جانبه كتب: روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع وكان أول حديث روي قوله صلَّى الله (...) (¬1) وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنـ (...) (¬2) فقام و (...) (¬3) هذا حتى أفرغ (...) (¬4). ثم كتب أسفله: من كتب من يتق بمولاه ذي الجود والبر محمد بن محمد بري (...) (3) غفر الله (...) (3) بمنِّهِ وحلمه وكرمه. آمين (...) (3) في سنة 1039. وفي هذه النسخة ختم كتب فيه: (إنما لكلِّ امرئ ما نوى)، وختم آخر كتب فيه: (هذا مما وقف الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمَّد، عرف بكوبريلي أقال الله عثارهما). 2 - النسخة الثانية: وقد رمزت لها بالرمز (ب)، وهي من مكتبة كوبريلي أيضًا برقم (94) ولها ميكروفلم برقم (1169) وتقع في (550) صفحة. مسطرتها (14.5 سم x 23 سم) وعدد الأسطر (29) سطر، في كل سطر (13) كلمة تقريبًا. والناسخ يترك التنقيط في كثير من الحروف. كما كتب على وجه النسخة "كتاب تفسير القرآن العظيمِ المسمى بدرج الدرر تأليِف الشيِخ الإمام والحجة الهمام، عمدة المفسرين وزبدة المأوليِن مولانا عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى تغمده الله بالرحمة والرضوان". وعليها ختم عليه: (إنما لكل امرئ ما نوى)، وآخر: (هذا ما وقف ¬

_ (¬1) مطموس، والمحذوف "عليه" ليستقيم الكلام. (¬2) مطموس، والمحذوف كما يدل عليه الحديث "يعنيه". (¬3) كلمة لم تتضح قراءتها. (¬4) كلمة مطموسة.

الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمد عرف بكوبريلي أقال الله عثارهما 1088). 3 - النسخة الثالثة: وهي النسخة الأصل، رمزتُ لها بالرمز (ن)، وهي أوضح النسخ وليست بأكملها؛ لأن النسخة "ي" أكمل منها أحيانًا. وهي نسخة محفوظة في مكتبة "نور عثمانية" في تركيا - اسطنبول تحت رقم (96) ولها ميكروفلم برقم (1173) وهي في (210) لوحة، قطع كبير. مسطرتها (15 سم x 3.25 سم) في كل صفحة (35) سطرًا تقريبًا، وفي كل سطر ما معدله (16) كلمة. وخطها واضح جدًا ومقروء، ونرى الألف فيها تكتب بالياء مثل كلمة [موسى- موسي] و [على- علي]، والكاف تكتب شبيهة باللام مثل [كشيء- لشيء]، وهو مما يدخل اللبس على القارئ أحيانًا. وفي أعلى الصفحة ثبت ختم عليه: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كلنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). وأسفل منه كتب "كتاب درج الدرر. تفسير القرآن العظيمِ. تأليِف الشيخ الإمام العالم العلامة وحيد دهره وفريد عصره عبد القاهر الجرجاني تغمده الله برحمته". كما كتب أسفل منه: وقف جاء فيه: وقف السلطان السعيد الأعظم وتخليد الخاقان الأكرم الأفخم مقر العدل والإحسان، وموضح أحمال الأمور بالرشد والعرفان، السلطان ابن السلطان ابن السلطان أبو المحاسن والمكارم عثمان خان ابن السلطان مصطفى خان، ثبَّتَ الله أساس دولته الطاهرة وخلَّد خلافته الناصرة، وأنا الداعي لدولته الحاج إبراهيم حنيف غفر له .. وتحته ختم للناسخ. 4 - النسخة الرابعة: ورمزتُ لهما بالرمز (أ)، وهي نسخة محفوظة بدير الاسكوريال بإسبانيا

تحت رقم (1400) منها نسخة مصورة في الجامعة الأردنية على ميكروفلم دون رقم مرفقة مع النسخة التي قبلها. ومسطرتها (14 سم x 23 سم) في الصفحة (29) سطر، في كل سطر ما معدله (9 - 12) كلمة. وهذه النسخة أكثر النسخ سقطًا وسقط منها أكثر من ورقة في بعض الأحيان نبَّهت عليه في موضعه، وربما حصل السقط في كلمة أو جزء منها أو جملة بكاملها، وعلى غلاف النسخة كتب:"تفسير القرآن العظيم المسمى بدرج الدرر. تأليف سلطان (...) (¬1) سيدنا الشيخ المحقق عبد القاهر الجرجاني تغمده الله برحمته. آمين). ¬

_ (¬1) مطموس.

منهجي في التحقيق

ثانيًا: منهجي في التحقيق دفعتني أهمية الكتاب وقيمته وجلالة مؤلِّفه إلى أن أبذل قصارى جهدي بأن يكون منهجىِ في تحقيق الكتاب منهجًا علميًا رصينًا متوخيًا الدقَّة في العمل والأمانة العلمية بكلِّ ما لديَّ من وسع في تحقيق الهدف المنشود، وهو بأن أخرج الكتاب بأحسن صورة يستحقُّها. ويقوم منهجي هذا الذي وضعتُه على القواعد والأسس الآتية: أولًا: اخترتُ نسخة من النسخ الأربع المخطوطة جعلتُها هي الأم ثم قابلتُ بقية النسخ عليها وأثبتُّ جميع الفروق. ثانيًا: المحافظة على النص كما ورد في النُّسَخ الأربع المعتمدة. وأما المواضع التي حصل فيها السقط كلمةً كانت أو جملة أو نحوها فحاولتُ إتمامها من النسخ الأخرى، فكان بفضل الله تمام الكتاب. ثالثًا: غيَّرت في مواضع أخرى تحتاج إلى التغيير قد وقعت سهوًا أو تحريفًا أو تصحيفًا في الأصل، وأثبتُّ من بقية الأصول ما اعتقدتُ أنه الصواب، ووضعتُ هذا الذي أدخلته في النص بين عاضدتين [...] وأشرتُ في هوامش التحقيق إلى صورته الأولى. وأحيانًا أثبتّ على ما في الأصل بعض الزيادات التي اتفقت بقية النسخ على ذكرها والتي رأيت فيها أنها تؤدي إلى تقوية للمعنى.

رابعًا: وضعت الآيات القرآنية بين قوسين مزخرفين خاصين يختلفان عن الأقواس الأخرى. وأما الآيات التي تذكر أثناء الشرح من غير سورة البقرة فجعلت لها هامشًا في الأسفل أحلت إلى مصدرها في القرآن الكريم. وأما ترقيم الآيات من سورة البقرة فوضعتُها أعلى الصفحة ليظهر تميزها للرجوع إليها بسهولة. وأثبتُّ في المتن في بعض الآيات تكملتها التي وردت في النسخ الأخرى زائدة على ما في الأصل مشيرًا إلى مصدر هذه الزيادة. خامسًا: خرَّجت من كتب القراءات المعروفة الآيات التي ذكر المصنف أن لها وجهًا من القراءة. سادسًا: خرَّجت الأحاديث النبوية والآثار عن السلف من كتب الحديث المعتمدة، وقمتُ بنقل نص الحديث أو الأثر من مصدره لأبين الخلاف في نقله بين ما نقله المؤلف وما هو موجود بنصَّه في مصدره. سابعًا: وفيما يخصُّ الشواهد الشعرية فقد عمدتُ إلى تخريجها مبتدئًا بدواوين قائليها، فالمجامع الشعرية ثم من كتب الشواهد كالخزانة والشواهد الكبرى للعيني وشواهد ابن عقيل وشواهد المغني وغيرها. وأتممتُ الناقص من هذه الشواهد صدرًا أو عجزًا أو جزءًا من ذلك. ثامنًا: الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى شرح غريب، وربما فصل المؤلف شيئًا من ذلك فإنني قمتُ بإحالتها إلى مصادرها من كتب اللغة كتهذيب اللغة للأزهري والمخصص والمحكم لابن سيده ولسان العرب لابن منظور وغيرها من المعاجم اللغوية. تاسعًا: ترجمت باختصار للأعلام الذين ذكرهم المؤلف ولم أتوسَّع في الحديث عنهم مكتفيًا بالإحالة إلى كتب التراجم التي ترجمت لهم.

عاشرًا: عرَّفتُ الأماكن والمواضع التي تحتاج إلى تعريف بشكل مختصر، وأحلت ذلك إلى مصدره كـ"معجم البلدان" أو "الكامل" لابن الأثير أو"النهاية" لابن كثير أو"تاريخ الإسلام" للذهبي، أو غير ذلك. حادى عشر: خرجت الأمثال والأقوال من كتب الأمثال كـ"مجمع الأمثال" للميداني، ومن المصادر الأخرى. ثاني عشر: قمتُ بتشكيل الكلمات في كثير من المواضع، وأخصُّ بالذكر الآيات القرآنية التي كتبت برسم المصحف العثماني مشكلة كما هي في القرآن، وكذا الأحاديث النبوية والأشعار وكثير من الكلمات ليسهل على القارئ ضبطها عند القراءة. ثالث عشر: قمت بوضع فهارس في آخر الكتاب ليسهل الوصول إلى المعلومة مشتملًا على فهرس للآيات ثم الأحاديث ثم الآثار ثم الأعلام ثم القبائل ثم الأشعار، واتبعت في هذه الفهارس نسقًا خاصًا سواء ترتيبًا معجميًا أو تاريخيًا أو غير ذلك مما يسهل الوصول إلى الغرض بيسر وسهولة.

صور عن مخطوطات الكتاب

ثالثا: صور عن مخطوطات الكتاب

الصحفة الأولى من المخطوطة (كوبرلي 95) وقد رمزت لها بـ (ي)

الصفحة الأولى من المخطوطة (كوبرلي 94) وقد رمزت لها بـ (ب)

الصفحة الأولى من المخطوطة (نور عثمان) وقد رمزت لها بـ (ن)

الصفحة الأولى من المخطوطة (أوسكريال) وقد رمزت لها بـ (أ)

رابعًا: النص المحقق

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله (¬2) ربِّ العالمين (¬3)، والصلاةُ والسلام (¬4) على رسوله محمدٍ وآله أجمعين. ¬

_ (¬1) من فضائل هذه السورة العظيمة: أولًا: ما أخرجه مسلم في صحيحه [صلاة المسافرين- باب فضل الفاتحة رقم 806]: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: "هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته". ثانيًا: ما أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب التفسير- سورة الحج (8/ 381)] عن أبي سعيد بن المعلى قال: مَرَّ بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أُصلي، فدعاني فلم آتِهِ حتى صلَّيت، ثم أتيت فقال: "ما منعك أن تأتي؟ " فقلت: كنتُ أصلِّي، فقال: "ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}؟ " ثم قال: "ألا أعلِّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخِرج من المسجد؟ " فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج من المسجد فذَكَّرْتُهُ فقال: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه". ثالثًا: ما أخرجه البخاري في صحيحه [فضائل القرآن- باب فضل الفاتحة رقم 5007] عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنَّا نَأْبِنُهُ برقية، فرقى فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنتَ تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيتُ إلا بأمَّ الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدمنا المدينة ذكرنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم". (¬2) في "ي" و"أ": (ربِّ يسرِّ) قبل (الحمد لله). (¬3) (الحمد لله رب العالمين) ليست في "ن". (¬4) (والسلام) من "ب".

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) معنى قول القائل (¬1) عند القراءة (¬2): (أعوذ بالله) (¬3)، أي: ألوذ بالله، تقول: عذتُ، أي: لُذتُ. وا لأحسن أنَّ وزن (الشيطان): فيعال كالبَيْطَار (¬4). وهو من الشّطن، وهو: البعد. ويقال: هو الحبل الطويل المضطرب، فكأنَّه سُمِّي بذلك لأنه تباعد عن الخير وطالَ واضطرب (¬5). ويقال: فعلان، مِنْ شاط السَّمن: إذا نضج وكاد يحترق (¬6). ¬

_ (¬1) (القائل) مطموسة في "أ". (¬2) (القراءة) مطموسة في "ي" و (أ). (¬3) (بالله) مطموسة في "ي". (¬4) البيطار هو معالج الدواب. (اللسان- بطر). (¬5) هذا القول بنصه موجود في "الغريبين" للهروي (1/ 430) وهو قول ابن عرفة ونفطويه. (¬6) نقلت كتب التفسير هذين القولين في اشتقاق كلمة الشيطان، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جميل أحببت نقله يقول: "قال الخليل بن أحمد: كل متمرد عند العرب شيطان. وفي اشتقاقه قولان أصحهما أنه من شَطَنَ يشطن إذا بعد عن الخير، والنون أصلية. قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان -عليه السلام -: أيّما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه: أوثقه. وقال النابغة: نأت بسعاد عنك نوى شطوت ... فبانت والفؤاد بها رهين ولهذا قرنت به اللعنة؛ فإن اللعنة هي البعد عن الخير، والشيطان بعيد من الخير، فيكون وزنه "فيعالا" و"فيعال" نظير "فعَّال"، وهو من صفات انمبالغة، مثل القيَّام والقوَّام، فالقيَّام "فيعال"، والقوام "فعَّال" مثل العيَّاذ والعوّاذ. وفي قراءة عمر: {الحيّ القيام} فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير، بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى؛ فإنه لا يكون شيطانًا. ومما يدلُّ على ذلك قولهم: تشيطن شيطنة، ولو كان من شاط يشيط لقيل: تشيط يتشيط. والذي قال: هو من شاط يشيط إذًا احترق والتهب، جعل النون زائدة، وقال: وزنه فعلان. كما قال الشاعر: وقد يشيط على أرماحِنا البَطَلُ وهذا يصح في الاشتقاق الأكبر الذي يعتبر فيه الاتفاق في جنس الحروف ... " إلى أن قال: "وعلى هذا فالشيطان مشتقٌّ من شطن، وعلى الاشتقاق الأكبر هو من باب شاط يشيط؛ لأنهما اشتركا في الشين والطاء والنون والياء متقاربتان "اهـ. [منهاج السنة (5/ 190 - 193)].

{الرجيم}: بمعنى المرجوم، كالقتيل بمعنى المقتول. سُمِّيَ بذلك لأنَّه يُرجم بالشهب أو لأنه يُلعنُ ويُشتم (¬1). {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}: الباء مع الاسم آلةٌ لفعلٍ محذوفٍ (¬2)، وتقديره: أفتتحُ وأبتدىءُ باسم الله. وإنَّما حُذِفَ لدلالة الحال، ¬

_ (¬1) اللفظة المشهورة للاستعاذة هي: (أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم) وقد زيدت عليها ألفاظ صحيحة، ويجمعها حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبَّرَ قال: "سبحانك اللهم وبحمدك ... " ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 50) من حديث أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم -]. وهذه الزيادة صحيحة أثبتها الحافظ ابن حجر العسقلاني كما في "تلخيص الحبير" ص 86 - 87؛ وصححها العلاَّمة الألباني -رحمه الله - كما في "إرواء الغليل" (2/ 53). وقد أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالاستعاذة عند القراءة لكتاب الله فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] ولا يأْثم تاركها عند جمهور أهل العلم. ومن فضائل الاستعاذة: أولًا: أنها تدفع الوسوسة، كما في قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200،فصلت:36]. ثانيًا: أنها تُذهب الغضب. ويدلّ لذلك ما رواه سليمان بن صُرَد - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب أحدهما فاشتدَّ غضبه حتى انتفخ وجهه وتغيَّر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه الذي يجد"، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تعوذ بالله من الشيطان ... "الحديث [أخرجه البخاري في صحيحه- كتاب الأدب- باب ما ينهى عن السباب واللعن رقم 6048] و [مسلم في صحيحه- كتاب البر والصلة والآداب- باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، رقم 2610]. (¬2) وقيل: الباء للملابسة، أي: المصاحبة والإلصاق، وكلها -أي الثلاثة - بمعنى واحد. وقد جاء على نحو هذا المعنى قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} وقولهم: "بالرفاء والبنين"، وهذا المعنى- كما قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (1/ 147): هو أكثر معاني الباء وأشهرها. ولذا قال سيبويه: الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها. كما رجَّحَ الزمخشري في "الكشاف" ما رجحه سيبويه وقال: الملابسة أعرب وأحسن، أي أحسن من جعل الباء للآلة لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى، ويرى السمين الحلبي "الدر المصون" (1/ 14) أنَّ الباء للاستعانة وأن المعنى: أقرأ مستعينًا بالله.

كما يقال في اليمين بالله، أي: أحلف بالله (¬1)، ويُراد بالاسم التسمية، وهي الذّكر دون المُسَمَّى (¬2) وهو المذكور. {اللهِ} اسمه الذي لا يَشركُهُ في التسمِّي به غيره. وهو غير مشتقٍّ عند محمَّد بن الحسن (¬3). وقيل: ¬

_ (¬1) كتب في هامش النسخة "ي": (الباء في "بسم الله" متعلقة بمحذوف والمحذوف مبتدأ والجار والمجرور خبره، والتقدير: ابتدائي باسم الله، أي: كائن، فالباء متعلقة بالكون والاستقرار ....) اهـ. وذكر شيخنا العلامة محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله - في تفسيره فائدتين لحذف المتعلق وتقديره متأخرًا: الأولى: التبرك بتقديم اسم الله - عَزَّ وَجَلَّ -. والثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر. ويرى شيخنا العثيمين - رحمه الله - أن العامل المقدر هو فعل لأن الأصل في العمل الأفعال، ويقدر بما يناسب المقام، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يذبح فليذبح باسم الله" [أخرجه البخاري: كتاب العيدين- 23)، ومسلم: كتاب الأضاحي (1/ 1027)،] اهـ. [تفسير القرآن الكريم- الفاتحة (411)]. وقدَّرها ابن جرير الطبري [التفسير (1/ 13) - تفسير البسملة]: أبدأ بتسميته أو أقرأ بتسميته أو أقوم بتسميته أو أقعد بتسميته -أي: بما يناسب المقام. اهـ. ونحاة البصرة يرون أن متعلق الجار والمجرور هو اسم تقديره أبتدائي مستقر أو ثابت باسم الله. أما نحاة الكوفة فيرون أن متعلق الجار والمجرور هو فعل تقديره: أبتدىء باسم الله. [الجواهر الحسان في تفسير القرآن- الثعالبي (1/ 37)]. ويرى الفَرَّاء أن الباء وما بعدها في موضع نصب، والتقدير: ابتدأتُ باسم الله أو أَبدَأُ باسم الله [معاني الفراء (1/ 2)]. وقال علي بن حمزة الكسائي: الباء لا موضع لها من الإعراب، وهو الذي رجحه أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" (1/ 116) على أن (اسم) مخفوض بالباء الزائدة. (¬2) لعل هذه أول ملاحظة تجلي لنا عقيدة المؤلف الاعتزالية من خلال تبنِّيه مذهب المعتزلة في هذه المسألة- مسألة "هل الاسم هو المسمى أو غيره"، مع أن الجرجاني يصنف أنه أشعري المعتقد فمذهب المعتزلة أن الاسم غير المسمى وهو نفس التسمية. وكما قال الحافظ ابن كثير أن ما ذهب إليه المعتزلة من هذا القول هو عبث على جميع التقديرات، والذي عليه أهل السُّنة أن الاسم هو المسمى وهو ما ذهب إليه أبو عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك وغيرهم [تفسير ابن كثير (1/ 29) - تفسير البسملة]. (¬3) هو أبو جعفر ابن أبي سارة الرؤاسي شيخ الكسائي والفراء، وأول مَنْ وضع كتابًا في النحو في الكوفة. ومن مؤلفاته: "معاني القرآن"، مات سنة (187 هـ) وقيل سنة (193 هـ) [الموسوعة الميسرة - وليد الحسين وآخرون (3/ 2024)].

مشتق (¬1) من: وَلِهَ يَولَه. وقيل من: لاهَ يلُوهُ. معناه: الربُّ المحمود المستحقُّ لأعلى مراتب العبادة (¬2). ¬

_ (¬1) القائلين بالاشتقاق -أي اشتقاق لفظ الجلالة "الله" - على أربعة أقوال يمكن حصرها بما يلي: القول الأول: إنه مشتق من لاه يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاهة، لارتفاعها. القول الثاني: إنه مشتق من لاه يَلُوهُ لِياهاً، أي: احتجب، فالألف على هذين القولين أصلية، فحينئذ أصل الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرف التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمَتْ لام التعريف في اللام بعدها لاجتماع شروط الإدغام، وفُخِّمَت لامُه. القول الثالث: إنه مُشْتَقٌّ من أَلَهَ، وهذه اللفظة مشتركة بين معانٍ، وهي: (العبادة، والسكون، والفزع) أي: يعبدونه ويسكنون إليه ويفزعون إليه. ومنه قول رؤبة بن العجاج: لله درُّ الغانِيَاتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسترجَعْنَ من تَأَلُّهِي أي: من عبادته. ومنه قراءة ابن مسعود وعلي وابن عباس وأنس: {وَيَذَرَكَ وإلاَهَتَكَ} وعلى هذا فالهمزة أصلية والألف قبل الهاء زائدة، فأصل الكلمة "الإله" ومنه قول البعيث بن حريث: معاذ الإله أن تكونَ كظبيةٍ ... ولا دُمْيَةٍ ولا عقيلةِ رَبْرَبِ ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال كما حذفت في أناس فالتقى حرف التعريف مع اللام فأدغم فيها وفُخَّم. القول الرابع: إنه مشتق من وله - لكون كل مخلوق والهاً نحوه - وأصله "ولاه" ثم أُبْدِلَت الواو همزةً كما أُبدِلت في "إشاح" و"إعاء" فصار اللفظ به "إلاه" ثم حصل له من حذف الهمزة والإدغام، وَيُعْزَى هذا القول للخليل بن أحمد الفراهيدي وتلميذه سيبويه. وعلى هذين القولين الأخيرين يكون وزن إلاه: فِعَال، بمعنى مفعول أي: معبود. ككتاب بمعنى مكتوب. وعلى كل الأحوال من هذه الأقوال الأربعة يتعين أن يكون لفظ الجلالة مشتقاً وليس جامداً، وهو الذيَ عليه عامة المفسرين كابن جرير الطبري والقرطبي وابن كثير والسمين الحلبي وغيرهم [تفسير الطبري (1/ 121) - تفسير البسملة؛ تفسير القرطبي (1/ 102) - تفسير البسملة؛ الدر المصون (1/ 26)؛ ديوان العجاج 165؛ تفسير ابن عطية (1/ 95)؛ ديوان الحماسة (1/ 218)]. (¬2) كتب في الهامش في النسخة "ي": (قال أبو على: همزة إلاه حذفت حذفاً من غير إلغاء، وهمزة إلاه أصل، وهو من ألِهَ يُأله إذا عُبدَ، فالإله [مصدر في] موضع المفعول، أي: المألوه، وهو المعبود، وقيل: أصل الهمزة واو لأنه من الوُلَه، فالإله يقوله إليه القلب، [أي] يتحيد. وقيل: أصله لاه على [فعل، وأصل] الألف باء =

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: إسمان مشتقَّان من الرحمة. والرحمةُ منك: إرادتك (¬1) الخير بمَن هو دونك في الرتبة مُتصلة بإنعامك عليه. وضدّهُ: الفظاظة والجفاوة. وأحدُ الاسمين أرقُّ من الآخر، ولهذا كرر الاسمين. وقيل: للتأكيد (¬2). {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: قال ابن عرفة (¬3): الرضا بالقول، يُقال: حَمَدتُ الشيء إذا رَضيتُهُ، وأحمدتُهُ: إذا وجدتهُ مَرضيًا. وقيل: الحمد: الثناء. ونقيضه: الذم دون الكفران. والحمدُ أعمُّ من الشكر (¬4)، لأنَّك تحمدُ مَنْ أنعم عليك أو على ¬

_ = لأنهم [قالوا هي مقلوبة] لهي أبوك، ثم أدخلت عليه الألف واللام) اهـ. والكلام من "الإملاء" للعكبري (1/ 5). (¬1) وهذا التفسير للرحمة - بأنها إرادتك لخير- هو تفسير الأشاعرة وتأويلهم لصفة الرحمة، وبه يتبيَّن لنا أن الجرجاني يغترف من المذهبين: مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة. وإن كان ميوله الاعتزالي في مسائل محدودة وقليلة جدًا، بينما ميوله إلى مذهب الأشاعرة يتجلى من خلال تبنيه لكثير من مسائلهم. وانظر ما أَوَّلَه القرطبي ونحا نحوه في قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} وقد ردَّ ابن القيم هذا التأويل كما في "مختصر الصواعق" (2/ 121). (¬2) هذا القول ذكره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" (1/ 21) ونسبه إلى قطرب، وردّه أبو هلال العسكري في الفروق (ص: 25) وغيره. (¬3) هو العلاَّمة المعروف بنفطويه، واسمه إبراهيم بن محمَّد بن عرفة، كان عالمًا بالقرآن والحديث والعربية. قال عنه الحافظ الذهبي: الإِمام الحافظ النحوي العلامة صاحب التصانيف، أخذ النحو عن ثعلب والمبرد. ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، كان ينكر الاشتقاق. خلط نحو الكوفيين بنحو البصريين. صنَّف "غريب القرآن" و"كتاب المقنع" في النحو، و"كتاب البارع" و"تاريخ الخلفاء". توفي في صفر سنة ثلاثٍ وعشرين وثلاث مائة. وكان محمَّد بن زيد الواسطي هجاه فقال فيه: من سَرَّهُ أن لا يرى فاسقًا ... فليجتنب مِنْ أن يرى نِفْطَوَيْهِ أحرقه اللهُ بنصفِ اسمِهِ ... وَصيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيهِ [انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (6/ 159)؛ السير (15/ 75)؛ البداية والنهاية (11/ 183)؛ العبر (198)؛ إنباه الرواة (1/ 176)]. (¬4) والتحقيق في هذه المسألة أن بين الحمد والشكر عمومًا وخصوصًا، فالحمدُ أعمّ من الشكر من حيث ما يقعان عليه، لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، =

غيرك، وِلا تشكر إلا مَن أنعم عليك. والألف والسلام للجنس (¬1). {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الربُّ: السيِّدُ (¬2) والمولى، قال يوسف - عليه السلام -: ¬

_ = تقول: حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه، وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول. والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه؛ لأنه يكون بالقول والعمل والنيَّة، ومنه قول الشاعر: أفادتكُمُ النَّعْمَاءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المُحَجَّبَا وهو - أي الشكر- أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية، فلا يقال: شكرتُه لفروسيته، وتقول: شكرتُه على كرمه وإحسانه إليَّ. هذا ما حقَّقه الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 35). وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيره: إن الحمد قد ينطق به في موضع الشكر، وإن الشكر قد يوضع موضع الحمد، وهو معروف بين أهل المعرفة بلغات العرب [تفسير الطبري (1/ 137)]. وقد عرَّف شيخنا محمد بن صالح العثيميُن - رحمه الله - "الحمد" بأنه: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم أتفسير الفاتحة (1/ 9)]. وهناك نكتة بلاغية في "الحمد لله" على أنها جملة اسمية تفيد ديمومة الحمد واستمراره وثباته أُلْحِقَتْ بالجار والمجرور "لله" الدالة على فن الاختصاص على أن جميع المحامد مختصة به سبحانه وتعالى. (¬1) الألف والسلام لتعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل، فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والسادّ مسدَّه دالاًّ على الجنس، ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع، وهذا مأخوذ من كلام سيبويه كما قاله العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره [تفسير التحرير والتنوير (1/ 159)] وممن أشار إلى أن "أل" في "الحمد" لاستغراق الجنس ابن عطية [المحرر الوجيز (1/ 63)] والثعالبي [الجواهر الحسان (1/ 40)] والشنقيطي [أضواء البيان (1/ 101)، وشيخنا محمَّد بن صالح العثيمين - رحمه الله -[تفسير الفاتحة (1/ 9)]. (¬2) ومن إطلاق الرب على السيد قول لبيد بن ربيعة: وَأَهْلَكْنَ يومًا ربَّ كِنْدَةَ وَابْنَهُ ... وربَّ مَعَدًّ بَيْنَ خَبتٍ وَعَرْعَرِ كما يطلق الرب على المُصْلِح، ومنه قول الفرزدق: كانوا كَسَالِئَةٍ حمقاءَ إذ حَقنتْ ... سِلاءها في أديمٍ غيرِ مربوبِ والمعنى الثالث الذي ذكره المؤلف - الرب بمعنى المالك - واستشهد له بالحديث النبوي الشريف. وكل هذه المعاني الثلاثة تصدق في حق الله - عَزَ وَجَلَّ -، فهو سبحانه وتعالى السيد المطاع والمصلح أمر خلقه والمالك الذي له الخلق والأمر. وهناك معنى رابع وهو: المعبود، ومنه قول الشاعر، وينسب إلى غاوي بن ظالم، وقيل: عباس بن مرداس: أَرَبٌّ يَبولُ الثعلبانُ بِرَأْسِهِ ... لقد هانَ مَنْ بالتْ عَليه الثعالبُ [الجامع لأحكام القرآن - القرطبي (1/ 137)؛ التحرير والتنوير - ابن عاشور (1/ 67)].

{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (¬1)، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (¬2). وربما يُراد به المالك، قال النبيُّ - عليه السلام -: "أربُّ إبلٍ أنت أو ربُّ غنم؟ " فقال: "من كلِّ قد آتاني اللهُ فأكثر وأطيب" (¬3). ويدلُّ على نوع تصرُّف وتدبير وتعهدٍ، ويقال للقائم بالعلم: ربانيّ، ويقال: رَبَيْتُ الأديم والعود. فاللهُ سيّد عباده ومالك لجميع الأشياء ومُدبِّرها ومُقدَّرها. والعالمون: الإنس والجنُّ، عن ابن عباس (¬4) - رضي الله عنهما - (¬5)؛ لقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬6) وهو جمعُ الجمع، ولا واحد له من لفظه. وقيل: العالم ما حواه الفُلك، ثم كل جنسٍ منه عالَمٌ على حدة عند التفصيل، بيانه: أنَّ الجنَّ عَالمٌ، والإنسَ عالمٌ، والطير ¬

_ (¬1) يوسف: 42. (¬2) يوسف:50. (¬3) الحديث أخرجه النسائي في "الكبرى" (11155)، وأحمد (4/ 136)؛ والحميدي (883)، وسفيان بن عيينة في جامعه كما في "الإصابة" (6/ 431)؛ وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1261)؛ والطبراني في "الكبير" (622)؛ والطبري في "التفسير" (7/ 78)؛ وابن قانع في "معجم الصحابة" (3/ 42)؛ والحديث صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (13/ 309). وهناك شاهدٌ آخر على إطلاق الرب على المالك، وهو قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحبُّ إليَّ من أَنْ يربني رجل من هوازن. (¬4) حبر الأمة، إمام المفسَّرين وترجمان القرآن، وفقيه العصر، أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صحِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من ثلاثين شهرًا، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في صحيح البخاري [العلم (1/ 155)] وغيره قال: ضمَّني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: "اللهم علِّمه الحكمة". وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عشر سنين، وقيل: ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: ابن خمس عشرة سنة. وله أخبار يطول ذكرها. [انظر ترجمته في السير (3/ 331)؛ وطبقات ابن سعد (2/ 265)؛ والتاريخ الكبير للبخاري (5/ 3)؛ وتاريخ ابن عساكر (9/ 238)؛ وأسد الغابة (3/ 290)؛ والبداية والنهاية (8/ 295)، والإصابة (2/ 330)]. (¬5) الفرقان: 1. (¬6) أثر ابن عباس عند الطبري (1/ 144)؛ وابن أبي حاتم (1/ 28). وعزاه في "الدر المنثور" (1/ 13) لعبد بن حميد والفريابي وابن المنذر، وأخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 258) من طريق سفيان عن عطاء به.

عالم، والمواشي عالم. ثم كل جماعةٍ كثيرة من كل جنس عالمٌ، وبيانه: أن العربَ عالمٌ، والعجم عالمٌ، وأهل كل عصر عالمٌ، وأنشد العَجَّاج (¬1) (¬2): فَخِندِفُ هامةٌ ذا العَالَم وإنَّما جُمع جمعَ العقلاء لتغليب العقلاء على غيرهم، كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (¬3) الآية. وهذه الآية تعليمٌ مِنَ الله عباده كيف يدعونه. وقالوا: مُقدَّرٌ في الابتداء، لما أشرنا إليه. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}: قاضي (¬4) يوم الجزاء (¬5). ¬

_ (¬1) رؤبة بن العجاج التميمي من أعراب البصرة. روى عنه يحيى بن سعيد القطان والنضر بن شميل وأبو عبيدة وأبو زيد النحوي وغيرهم من أعلام النحو واللغة والحديث. وكان رأسًا في العربية، وقد اشتهر بشعر الرجز حتى لم يُعرف إلا به. ومعنى كلمة رؤبة بالهمزة: قطعة من خشب يشعب بها الإناء. [البيان والتبيين (1/ 37)؛ معجم الأدباء (11/ 149)؛ السير (6/ 162)؛ وفيات الأعيان (2/ 303)؛ التاريخ الكبير للبخاري (4/ 25)]. (¬2) ديوان رؤبة ص 299. وفي جميع النسخ "وخندف" بالواو، والمثبت من الديوان. (¬3) النور: 45. (¬4) تفسير المؤلف كلمة "مالك" بمعنى قاضي لم أجد أحدًا من المفسرين سبقه أو لحقه بذلك على جميع القراءات الثلاثة التي وردت، وهي: "مَالِك"، "مَلِك"، "مَلْك" بسكون اللام، لكن ثمة نصوص أخرى كثيرة في كتاب الله تشير إلى أن الله قاضٍ يوم الجزاء يوم القيامة، والنص الذي بين أيدينا في الآية "مالك" أي أن المُلْك خالص لله يوم القيامة، فلا ينازعه أحد من خلقه كما كانوا ينازعونه في الدنيا، ويشهد لذلك قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)}. وعلى قراءة "مَلِكِ" أي أنه ينفرد وحده بالمُلْك لا ينازعه أحد من خلقه، مع أن القراءة الثانية "مَلِك" أعم من الأولى "مالك" لأنه ما من مَلِك إلا وهو مالك، وقد يكون مالكًا وليس ملكًا. وعلى كلٍّ فإن تفسير المؤلف "مالك" بمعنى قاضي لا وجه له، والله أعلم. (¬5) إطلاق يوم الدين على يوم الجزاء وارد في كلام العرب، ومنه قول كعب بن جُعَيْل: إذا ما رَمَوْنا رَمَيْنَاهُم ... وَدِنَّاهُمُ مثلَ ما يُقْرِضُونَا وقول خويلد بن نوفل الكلابي: واعْلَمْ وَأَيْقِن أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ... وَاعْلَم بِأَنَّكَ ما تَدِينُ تُدَانُ =

وتخصيصُ ذلك اليوم لتعظيم شأنه، كما يقال: ربُّ الكعبة، وإله إبراهيم. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} تقديره: نعبدُكَ ونستعينُكَ، فلما قدِّمَ الضميرُ ليكونَ ذكرُهُ أهمَّ من ذكر العبادة (¬1)، قيل: كذلك مثاله قولهم: [إياك] (¬2) ضربتُ. وإنما حَسُنَ العدول عن المُغايبةِ إلى المُخاطبة لدلالة الحال أن المعنى واحدٌ، كقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)} (¬3). والعبادةُ: الديانة (¬4)، وهو التمسك بالطاعة في تذلُّلٍ وخضوعٍ (¬5)، منه قولهم: دَانتْ لهُ الرقابُ. ولا يعبد الله إلا مَنْ يطيعه. ¬

_ = بل تكرر مثل هذا الإطلاق في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)} [الانفطار: 9] يعني بالجزاء، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)} [الواقعة: 86] يعني غير مجزيين بأعمالكم. (¬1) قُدِّم المعمول {إِيَّاكَ} على عامله {نَعْبُدُ} لإفادة الحصر، وهذه قاعدة معروفة، ومعناه: لا نعبد إلا إياك، وهذا هو الأنسب أن يكون منفصلًا لتعذر الوصل حينئذ. وهذا ما ذهب إليه شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في تفسيره (1/ 13) على عكس ما قدره المؤلف متصلًا، بل قال السمين الحلبي في تفسيره "الدر المصون" (1/ 55) أنه واجِب الانفصال وأنه واجب التقدم على عامله، وثمة نكتة بلاغية في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهي الالتفات وهو الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى الكلام على أصله لقال: الحمد لله، ثم قيل: إياه نعبد. ونظير ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} ولم يقل بكم. (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل وضعتها ليستقيم المعنى. (¬3) النحل:56. (¬4) أجمع ما قيل في "العبادة" هو ما عَرَّفه شيخ الإِسلام ابن تيمية [فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 20] فقال: هي اسم جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. (¬5) غاية المحبة مع التذلل والخضوع شرط في العبادة كما ذكره المؤلف وأشار إليه ابن القيم في نونيته بقوله: وعبادة الرحمن: غاية حُبَّهِ ... مع ذلَّ عابده، هما قطبانِ ومداره بالأمر- أمر رسولهِ - .... لا بالهوى والنفسِ والشيطانِ نكتة بلاغية: في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} معنى "لا إله إلا الله" المتضمنة النفي والإثبات، =

والاستعانة: طلب العون، وهوَ في الأصل: "نَسْتَعْوِنُ" (¬1)، فنُقلت كسرةُ الواو إلى الساكن قبلها، فانكسر ما قبل الواو، فانقلبت ياءً، نحو "مِيعَاد"، و"مِيزان ". {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}، أي: أرشدنا الطريق الواضح الذي لا ينثني ويؤديك إلى مقصدك، وهو شريعة (¬2) نوحٍ وملة إبرا هيم وعلومهما - عليه السلام -، والمراد بهذا السؤال: التثبت والاستدامة (¬3) دون الاستئناف (¬4)، كقولك للقائم: قم حتى أرجع. {صِرَاطَ}: بدل عن الصراط الأول (¬5). {الَّذِينَ}: اسم ناقصٌ ¬

_ = فتقديم المعمول {إِيَّاكَ} الذي يفيد الحصر فيه معنى النفي وقد تقرر هذا في الأصول في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهِوم المخالفة وأشار إلى الإثبات منها بقوله: {نَعْبُدُ}، وبهذا يتبين أن معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هو معنى الشهادة "لا إله إلا الله ". (¬1) أي أن في {نَسْتَعِينُ} إعلالًا بالتسكين واعلالًا بالقلب. أما الإعلال بالتسكين فإن أصل {نَسْتَعِينُ} "نستعوِن" بكسر الواو، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى العين وسكنت الواو - وهذا إعلال بالتسكين. ثم قُلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها - وهذا إعلال بالقلب. (¬2) فُسَّرَ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بأنه الإسلام، وهو صريح بهذا اللفظ في حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: "ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا ... " الحديث، وفيه: "فالصراط الإسلام". أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 182) والحاكم في مستدركه (1/ 73) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وفسَّر الصراط بأنه حبل الله المتين، وفُسِّر بأنه كتاب الله، وفُسِّر بأنه الحق، وفُسِّر بأنه اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكل هذه التفاسير مترادفة ومتلازمة لا يخالف بعضها بعضًا. (¬3) في جميع النسخ "الاستدانة" ولعل المثبت أصح. (¬4) وهو الذي رجحه ابن كثير في تفسيره (1/ 41) أن المراد بالسؤال - سؤال الهداية - المداومة والاستمرار والثبات على العمل الصالح لأن العبد مفتقر في كل ساعة وحال إلى الله - عَزَ وَجَلَّ - في تثبيته على الهداية واستمراره عليها. (¬5) أي بدل كل من كل، وهو بدل معرفة من معرفة، وفائدة البدل هنا الإيضاح بعد الإبهام، كما أنه يفيد تأكيدًا من حيث المعنى، إذ هو على نية تكرار العامل. وَجَوَّزَ ابن كثير (1/ 41) أن يكون "صراط" الثانية عطف بيان. وقال ابن عاشور [التحرير والتنوير (1/ 192)] أن البدل وعطف البيان هنا على حد سواء لا تفاضل بينهما.

يحتاج إلى صلةٍ (¬1). والإنعام ها هنا: التوفيق والتثبيتُ والختمُ بالسعادة (¬2). {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود (¬3)، لقوله تعالى في شأنهم: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (¬4). {وَلَا الضَّالِّينَ}: النصارى، لقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬5). ويجوز أن يكون المراد بالآية جميع مَن لم يُنعَم عليهم بالهداية لحصول الإجماع أن اليهودَ ضالون مع كونهم مغضوبًا عليهم، وأنَّ النصارى مغضوبٌ عليهم مع كونهم ضالِّين. وقوله (¬6). (آمين)، قال ...................................... ¬

_ (¬1) وجملة الصلة فيه هي {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لا محل لها من الإعراب، والهاء والميم في {عَلَيْهِمْ} يعود على {الَّذِينَ}، وفي {عَلَيْهِمْ} خمس لغات قُرِىءَ بها كلها ذكرها أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" (1/ 124). (¬2) خير ما يفِسر به القرآن القرآن، وقد أوضح الله - عَزَ وَجَلَّ - في موضع آخر معنى قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فقال - عَزَ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. وقد أشار إلى ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان" (1/ 104). (¬3) جاء ذلك صريحًا في أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالَّين هم النصارى فيما رواه الإِمام أحمد في مسنده (5/ 32) وعبد الرزاق كما في "الدر المنثور" (1/ 16) وأبو يعلى في مسنده (7179) والطحاوي (3/ 301) والبيهقي (6/ 324). وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 4): إسناده صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 159): إسناده حسن. عن عبد الله بن شقيق: أنه أخبره من سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القُرَى، وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَيْن، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: "المغضوب عليهم" وأشار إلى اليهود. قال: فمن هؤلاء؟ قال: "هؤلاء الضالين ... " الحديث. (¬4) البقرة: 90. (¬5) المائدة: 77. (¬6) أي: قول قارئ الفاتحة، وإلا فإنَّ (آمين) ليست من كتاب الله بالإجماع. وهي - أي (آمين) اسم فعل أمر مبني على الفتح، ومعناه: "استجيب". وأما اللغتان اللتان ذكرهما المؤلف في (آمين) فالأولى لغة المَد على حد قول الشاعر: آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا =

الزجاج (¬1) (¬2): معناه: اللهمَّ اسمع واستجِب، وفيه لغتان المدُّ والقصر، وكلاهما بالتخفيف. ¬

_ = وقول الآخر [وينسب إلى عمر بن أبي ربيعة]: يارَبِّ لا تَسْلُبَنَّي حُبَّها أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللهُ عبدًا قال آمينا أما الثانية وهي لغة القصر على حد قول الشاعر: تَبَاعَدَ عنِّي فُطْحُلٌ إذ دعوتُهُ ... آمينَ فزاد اللهُ ما بيننا بُعْدا انظر الإملاء لأبي البقاء (1/ 8)، القرطبي (1/ 128) ابن عطية (1/ 135) - اللسان (أمن) - ديوان المجنون ص 283 - أمالي الشجري (1/ 259). (¬1) أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري بن سهل، لقب بالزجاج لأنه كان يحترف خراطة الزجاج. تتلمذ على ثعلب والمبرد وكان حسن المعتقد متأثرًا بمذهب الإمام أحمد بن حنبل حتى قال وهو على فراش الموت: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل. توفيُ - رحمه الله - سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هجرية. [معاني القرآن للزجاج (1/ 5)؛ إنباه الرواة (1/ 159)؛ بغية الوعاة (115)؛ معجم الأدباء (5/ 120)]. (¬2) معاني القرآن (1/ 54).

سورة البقرة

سورة البقرة وهي مئتان وخمسٌ (¬1) وثمانون آية عند أهل المدينة (¬2). بسم الله الرحمن الرحيم. ربِّ يسَّر. {الم (1)}: قال ابن عباس وعيهما: الألفُ: اللهُ، واللامُ: جبريل، والميم: محمَّد، أي: بعث اللهُ جبريلَ إلى محمدٍ بالقرآن. وعنه قال معناه: أنا اللهُ أعلم. وقيل: الألف من أنا، واللام: من لي، والميم من مني، أي: أنا الإله ولي الخلقُ والأمر، ومني النعمةُ والخير. وقيل: الألف: آلاء الله، واللامُ: لطفُهُ، والميمُ: مجدُهُ. فكأنه أقسم بآلائِهِ ولطفه ومجده. وقيل، معناه: أنا الله اللطيفُ المجيد (¬3). وطريقةُ الاقتصار على حروف ¬

_ (¬1) (خمس) ليست في "ن". (¬2) عند أهل المدينة ومكة والشام، أما في العد الكوفي فهو مائتان وست وثمانون آية، وهو المعتمد في المصاحف المطبوعة. [انظر البيان لأبي عمرو الداني ص 14]. وأما في العدّ البصري فهو مائتان وسبع وثمانون آية. وأما كلماتها فهي ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلّمة. وأما حروفها فهي خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف. (¬3) هذه الحروف المقطعة في أوأئل بعض السُّور ومنها سورة البقرة توقف في تفسيرها جمع من العلماء منهم الخلفاء الراشدون الأربعة - رضي الله عنهم -، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسَّرها، لذا يحسن بنا أن نقول: "الله أعلم بمرادها". لكن ثبت عن بعض المفسرين لها من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أنهم فسَّروها واختلفوا في تفسيرها. وذكر المؤلف هنا قولين لابن عباس - رضي الله عنهما -، الأول: "الألف" الله، و"اللام" جبريل، و"الميم" محمد. وهذا القول نقله القرطبي في تفسيره (1/ 155) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وينسب إلى الضحاك. أما القول الثاني الذي نقله المؤلف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو: أنا الله أعلم. =

الكلمة المشهورة معروف في لغة العرب، قال الشاعر (¬1): نَادَوْهُمُ أنْ ألّجمُوا ألا تا ... قالوا جميعًا كلّهم: ألا فا وقال آخر (¬2): بالخيرِ خيراتٍ وإن شرًا فا ... ولا أريدُ الشر إلا أن تا (¬3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، أي: هذا القرآن، عن ابن عباس ومُجاهد (¬4) ¬

_ = فقد أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 32)، والنحاس في "القطع" ص 111، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 167 وغيرهم، ولا يصح سنده إلى ابن عباس، وهو مرويٌّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وسعيد بن جبير - رحمه الله -. وأما القولان الأخيران اللذان ذكرهما المؤلف فقد ذكرهما الماوردي في تفسيره "النكت والعيون" (1/ 64) دون أن ينسبهما إلى أحد، وكذا تبعه في ذلك أبو السعود في تفسيره (1/ 21). وهناك أقوال كثيرة غير ما ذكره المؤلف، وأصح هذه الأقوال - والله أعلم - ما رجحه شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في تفسيره (1/ 21) أنها حروف هجائية ليس لها معنى إطلاقًا. وكأن الله - عَزَ وَجَلَّ - أراد أن يبيَّن للمشركين أن هذا القرآن الذي أعجزكم هو من هذه الحروف المقطعة، والله أعلم. (¬1) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" (1/ 62)، ولم يذكر قائله. (¬2) ذكر صاحب "لسان العرب" (13/ 149) مادة "معي" وعزاه لحكيم بن مُعيَّة التميمي، وأما ابن جني فقد ذكره في "سر الصناعة" (1/ 94) ولم ينسبه لأحد. (¬3) ما ذكره المؤلف واستشهد به على الحروف المقطعة في أول السورة وأنه معروف في لغة العرب لا يُوافَق عليه وإن تبنَّاه بعض المفسَّرين، فإن هناك فرقًا بين الحروف المقطَّعة في أول السورة وبين ما استشهد به، ذلك لأن الحروف في الأبيات التي ذكرها ظاهرة من سياق الكلام، فقوله: "ألا تا" أي: ألا تركبوا، وقوله: "ألا فا" أي: ألا فاركبوا. وقوله في البيت الثاني: "وإن شرًا فا" أي: فَشَرًّا، وقوله: "إلا أن تا" أي: إلا أن تشاءَ. وهذا الأسلوب الذي في البيتين وغيرهما من الشواهد المماثلة لها نظيره ما يعرف بالترخيم في المنادى على حدِّ قول ابن مالك في ألفيَّته: ترخيمًا احذف آخر المنادى ... كيا سعا فيمن دعى سعادا إذًا الحذف- حذف بعض الحروف في الكلمة - سائغ في كلام العرب لكن لا يمكن أن نقيس عليها الحروف المقطَّعة في أوائل السور في القرآن لأنها ليست منحوتة من كلمة وليس ثمة سياق يحدِّد معناها، وهذا ما ذهب إليه القرطبي في تفسيره (1/ 216) وتبعه ابن كثير في تفسيره (1/ 52) وغيرهما من المفسَّرين. (¬4) شيخ القُرَّاء والمفسَّرين أبو الحجَّاج مجاهد بن جبر المكي. أكثر الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنه -،=

وعِكْرمة (¬1)، والسُّدَي (¬2)، وابن جُرَيجٍ (¬3)، ومحمد بن جرير الطبري (¬4) (¬5)، ¬

_ = وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، وقال: عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، أَقِفُهُ عند كلَّ آية، أَسأله فيم نزلت، وكيف كانت. توفي - رحمه الله - وهو ساجد سنة ثنتين ومائة. [انظر ترجمته في: تاريخ البخاري (7/ 411)؛ وحلية الأولياء (3/ 279)؛ وتاريخ ابن عساكر (16/ 125)؛ وتاريخ الإسلام (4/ 190)؛ والبداية والنهاية (9/ 224)؛ والإصابة (3/ 836)؛ وشذرات الذهب (1/ 125)؛ والسير (4/ 449)]. (¬1) هو العلامة الحافظ المفِّسر عكرمة مولى ابن عباس أبو عبد الله القرشي مولاهم، بربري الأصل، كان لحصين بن أبي الحر العنبري فوهبه لابن عباس. قال يحيى بن معين: مات ابن عباس، وعكرمة عبدٌ لها يُعتق، فباعه علي بن عبدالله بن عباس فقيل له: تبيع علم أبيك؟ فاستردَّه. وقال عنه ابن عباس: ما حدَّثكم عني عكرمة فصدِّقوه، فإنه لم يكذب عليَّ. توفي سنة إحدى ومائة. [انظر ترجمته في: التاريخ الصغير للبخاري (1/ 257)، وحلية الأولياء (3/ 326)؛ ووفيات الأعيان (3/ 265)؛ وميزان الاعتدال (3/ 93)؛ وتاريخ الإسلام (3/ 326)؛ والنجوم الزاهرة (1/ 163)؛ والسِّيَر (5/ 12)]. (¬2) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، إمام المفسِّرين أبو محمد السُّدَّي، أحد موالي قريش". توفي سنة سبع وعشرين ومائة. [انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد (6/ 323)؛ والتاريخ الكبير (360/ 1)؛ والجرح والتعديل (2/ 184)؛ والسِّيَر (5/ 264)؛ وتاريخ الإسلام (5/ 43)؛ والنجوم الزاهرة (1/ 308)؛ وطبقات المفسرين (1/ 109)]. (¬3) الإمام العلامة الحافظ شيخ الحرم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي الأموي المكي، صاحب التصانيف المشهورة وأول من دَوَّنَ العلم بمكة - قاله الإمام أحمد بن حنبل - وروايته في الكتب الستة، وهو من المكثرين في رواية الحديث من الثقات الأئمة الأثبات. توفي سنة خمسين ومائة. [انظر ترجمته في: تاريخ البخاري (5/ 422)؛ وتاريخ بغداد (10/ 400)؛ والكامل في التاريخ (5/ 594)؛ ووفيات الأعيان (3/ 163)؛ وتذكرة الحفاظ (1/ 169)؛ والعقد الثمين (5/ 508)؛ وطبقات المفسِّرين (1/ 352)]. (¬4) الإمام المفسِّر محمد بن جرير بن يزيد أبو جعفر الطبري نسبة إلى مدينة طبرستان. وُلد سنة أربع وعشرين ومائتين، وكتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" من أهم وأعظم التفاسير على الإطلاق. وكان من كبار أئمة ألاجتهاد، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وله مواقف تدلُّ على زهده وورعه وسعة علمه. [انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (2/ 162)؛ وتذكرة الحفاظ (2/ 710)؛ والبداية والنهاية (11/ 145)؛ والسَّيَر (14/ 267)؛ والوافي بالوفيات (2/ 84)؛ وطبقات الفسرين للداوودي (2/ 106)]. (¬5) أخرجه الطبري (1/ 225)؛ وابن أبي حاتم (1/ 5) عن سعيد بن جبير والسدي =

وإنَّما سُمِّي القرآنُ كتابًا (¬1) لما جيء فيه من الأمر والنهي والقصصِ والمواعظِ والوعد والوعيد. وكل شيء جمعتَه فقد كتبتَه (¬2). {لَا رَيْبَ فِيهِ}: لا شكَّ فيه. و (لا) مع ما بعدها جُعلا كشيء واحدٍ، فبُنيا على الفتحة كخمسةَ عَشرَ (¬3)، و (لا) النفي تدخل على الاسم بمعنى "ليس" (¬4)، وعلى الفعل الماضي بمعنى "لم"، وعلى المضارع بمعنى "ما". {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} رشدًا لهم. و {هُدًى} مصدرٌ مثل التُّقى والسُّرى، ¬

_ = ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم عن الحسن، وانظر معاني القرآن لأبي عبيدة (1/ 28)؛ ومعاني القرآن للزجاج (1/ 29)؛ ومعاني القرآن للفراء (1/ 10)؛ والتبيان في إعراب القرآن للعكبري (1/ 15). (¬1) هذا هو القول الصحيح في المراد بالكتاب في هذه الآية أنه القرآن، وهو الذي رجحه ابن كثير وغيره خلافًا لمن قال أنه التوراة والإنجيل. وأما ما ذكره المؤلف من أنه سمي القرآن كتابًا لما جيء فيه من الأمر والنهي ... إلخ، فهو خلاف لما تدل عليه مادة "كتاب"، فكتاب على وزن فِعَال، وفِعَال تأتي بمعنى مفعول كغِراس بمعنى مغروس وقِتال بمعنى مقتول وكتاب بمعنى مكتوب، أي أنه - أعني القرآن - مكتوب عند الله ومكتوب بالصحف المكرمة ومكتوب في الصحف التي بين أيدينا. وهذا التوجيه ذكره شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في تفسيره (1/ 25). (¬2) قول المؤلف: "كل شيء جمعته فقد كتبته" لا يوافق عليه، فقد يجمع الإنسان شيئًا مما كتبه غيره دون أن يساهم في تدوينه وكتابته. (¬3) قال السمين الحلبي في "الدر المصون" (1/ 82): هذا القول فاسد - أي تركيبه معها كتركيب خمسة عشر- وهناك أقوِال أخرى في إعراب {لَا رَيْبَ فِيهِ} منها أنه خبر عن {ذَلِكَ}، وقيل: {الْكِتَابُ} خبرلـ {ذَلِكَ}، و {لَا رَيْبَ فِيهِ} خبر ثانٍ، وقيل: جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} في محل نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و {لَا} نافية للجنسِ {رَيْبَ} اسم "لا" ومتعلق الجار والمجرور "فيه" في محل رفع خبر. ويكون الوقف على {رَيْبَ} تامًا. (¬4) الدليل على مجيء "لا" النافية بمعنى "ليس" ما أنشده سيبويه لسعد بن مالك: مَنْ صَدَّ عن نيرانِهَا ... فأنا ابن قيسٍ لابراحُ وذهب البصريون إلى أن عمل "لا" عمل "ليس" هو خاص في النكرات، واستشهد بقول الصحابي الجليل سَوَاد بن قارب - رضي الله عنه -: وكُن لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعةٍ ... بمغننٍ فتيلًا عن سواد بن قاربِ [انظر: الكتاب (1/ 28)؛ وإعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (1/ 129)؛ وخزانة الأدب للبغدادي (1/ 223)؛ وشرح الكافية الشافية لأبي عبد الله بن مالك (1/ 440)].

يتعدَّى إلى مفعولين بغير (¬1) حرف، كقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا (¬2) الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} (¬3) المتقين الذين يحذرون عن الشَّرك والكفر والفواحش بالتوحيد والإيمان والأعمال الصالحة (¬4). {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يقرُّون ويُصدِّقون (¬5) بالله تعالى بظهر الغيب قَبلَ المُشاهدة والإلجاء (¬6)، لقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (¬7)، وقيل: الغيبُ: ما جاء به النبي من أخبار ما لم يُشَاهَد (¬8)، ونقيضُ الإيمان: الإنكار. ونقيضُ الغيب: الشهادة. {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إذا لم يعطِّلوها. والصلاة في اللغة: الدُّعاء (¬9). وفي الشرعَ: اسم لعبادة معروفة تشتملُ على أفعالٍ وأركانٍ ¬

_ (¬1) في "أ": (بلا). (¬2) أي أن المفعول الأول في "هديناهما" هو الهاء، والميم والألف حرفان دالاَّن على التثنية، و"الصراط" مفعول به ثان. وقول المؤلف يتعدَّى بغير حرف أي يتعدى بنفسه. [إعراب القرآن - محيي الدين الدرويش (8/ 302)]. (¬3) سورة الصَّافات: 118. (¬4) في "ي" كتب في الهامش: (واللام {لِلْمتقِينَ}) متعلقة بمحذوف تقديره: هذا، أي كائن أو كائنًا نصب على الحال. ووزنه في الأصل مُفْتَعلون؛ لأنَّ أصله من (موتقيون) حذف اللام دون (علامه) الجمع؛ لأن علامة الجمع (دالة) على معنى إذا حُذِفت (لا يبقى) على ذلك دليل. فكان إبقاؤها أولى؛ لأنَّ أصله "مُفْتعون، ومُفتعين"). والكلام من "الإملاء" للعكبري (1/ 11 - 12). (¬5) مجيء الإيمان بمعنى التصديق وارد في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدِّق لنا. (¬6) في "أ": (الالتجاء). (¬7) سورة ق: 33. (¬8) وبه قال ابن عباس - رضي الله عنه - بأن "الغيب" كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك، كالملائكة والجنة والنار ... إلخ. [تفسير الطبري (1/ 236)؛ والخازن (1/ 29)؛ والدر المنثور (1/ 25)]. (¬9) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه (2/ 1054): "إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ، فإن كان صائمًا فليُصَلِّ ... "، وقول الأعشى: لها حارسٌ لا يبرحُ الدَّهْرُ بَيْتَهَا ... وإن ذُبحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَمَا [وأنظر: تهذيب اللغة (12/ 236)؛ والقاموس الَمحيط (4/ 355)؛ ولسان العرب (19/ 198)؛ وتفسير الطبري (1/ 242)].

معهودةٍ مقترنة بشرائط (¬1). {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: أعطيناهم {يُنْفِقُونَ}: يتصدَّقون، والمراد به الزكاةُ عند ابن عباس (¬2). وقيل: جميعُ ما يُحمد (¬3). {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني: القرآن والسُّنَّة، لقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (¬4)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬5) (¬6)، وقوله - عليه السلام -: "أُوتيتُ القرِآنِ ومثله مرتين" (¬7). {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}: ما أُتي به النبيون من قبلُ. {وَبِالْآخِرَةِ} أي: الحياة الآخرةِ {هُمْ يُوقِنُونَ}: يتَّقون، وضدُّ الإيقان: ¬

_ (¬1) وَعَرَّفَهَا شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - تعريفًا شرعيًا في كتابه "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (2/ 5) بأنها: التعبُّد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. (¬2) الطبري (1/ 243)؛ وابن أبي حاتم (1/ 37)؛ وعزاه السيوطي في "الدر" (1/ 27) لابن إسحاق. وما ذهب إليه ابن عباس - رضي الله عنه - من أن المراد بقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أنها الزكاة هو المتعين- والله أعلم -، ذلك لأن الله قد قرن الزكاة بالصلاة، فهي قرينتها في العطف في ستة وعشرين موضعًا من كتاب الله، كما أنه لا يمنع من أن يشملها صدقة التطوع، فهو نوع من الإنفاق وإن لم يكن واجبًا، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 249). (¬3) جاء في هامش "ي": (مِنْ) متعلقة ب {يُنفِقُونَ}، والتقدير: وينفقون ما رزقناهم، فيكون الفعلُ قبل المفعول لما كان في قوله (يؤمنون) و (يقيمون)، وإنما أخر الفعل عن المفعول لتتوافق رؤوس الآي، و (ما) بمعنى: الذي. و (رزقنا) يتعدى إلى مفعولين، فحذف الثاني منهما هنا، وهو العائد على (ما) تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه. ويجوز أن تكون (ما) نكرة موصوفة بمعنى: شيء، أي: ومما رزقناهم، فيكون {رَزَقْنَاهُمْ} في موضع جر صفة، لـ (ما). [انظر: العكبري "الإملاء" (1/ 12)]. (¬4) النجم:3. (¬5) وكتب في هامش النسخة "ي": (موضع) {الَّذِينَ} جُرَّ صفة للمتقِين، أو نصب بإضمار: أعني، أو رُفع بإضمار: هم، أو مبتدأ وخبر {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى}. [انظر: العكبري "الإملاء" (1/ 11)]. (¬6) الحشر:7. (¬7) الحديث رواه أبو داود (4594)، وأحمد (4/ 130)؛ والطبراني في "الكبير" (20/ 283) عن المقداد بن معدي كرب مرفوعًا بلفظ:"ألا إني أُوتيتُ القرآن ومثله معه ... " الحديث، وصححه العلامة الألباني في "مشكاة المصابيح" (1/ 57/ 163).

الشك. {أُولَئِكَ}: أهل هذه الصِّفة (¬1) {عَلَى هُدًى (¬2) مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المفلحون: النَّاجون السُّعداء الباقون في الجنة. قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: "هُمُ الذين وجدوا ما طلبوا ونَجَوا من شرِّ ما منه هربوا" (¬3). وقيل: المُفلِح: الظافرُ ببغيته المُنْجِحُ بطلبته. وقيل: كلُّ مَنْ أصاب خيرًا فهو مُفْلِح. وقيل: الفَلاَح: البقاء (¬4)، أُخذ من القطع. وقيل: أصلُهُ للقطعِ، من قولهم: الحديدُ بالحديد يَفْلح (¬5). ويقال للأَكَّار والمُكَارِي فَلاَّحًا ثَمَّ أُخِذ منه البقاء. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في شأن شَيْبَة وعُتْبَة ابني ربيعة والوليد بن ¬

_ (¬1) أهل هذه الصفة هم مؤمنو أهل الكتاب، وهو مرويٌّ عن ابن عباس - رضي الله عنه - وابن مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما، ويشهد له قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} وما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وآمن بي ... " الحديث. [تفسير ابن كثير (6011)]. (¬2) كتب في هامش النسخة "ي": (فإن قيل: أصل (على) للاستعلاء والهدى لا يُستعلى عليه، فكيف يصح معناها ههنا؟ قيل: معنى الاستعلاء حاصل لأن منزلتهم علت باتَّباع الهدى، ويجوز أن يقول: لما كانت أفعالهم كلها على مقتضى الهدى كان تصرفهم بالهدى كتصرف الراكب بما يركب) اهـ. [انظر: العكبري (1/ 14)]. (¬3) ابن أبي حاتم (1/ 39)؛ والطبري في تفسيره (1/ 256)، وحَسَّنَ إسناده الشيخ حكمت بشير في تفسيره "التفسير الصحيح" (1/ 103). (¬4) مجيء الفلاح بمعنى البقاء معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة: لو أنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الفَلاحِ ... أدركه مُلاَعِبُ الرَّمَاحِ وملاعب الرماح: هو عمه عامر بن مالك. وقول عبيد بن الأبرص: أَفْلِحْ بما شِئْتَ فقد يُبْلَغُ بالـ ... ـضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَرِيبُ [ديوان لبيد 333؛ اللسان "لعب"؛ همع الهوامع (1/ 139)؛ شرح المعلقات للتبريزي 541؛ تفسير القرطبي (1/ 182)]. (¬5) قوله "الحديد بالحديد يفلح" هو مَثَلٌ عربي، وورد في قول الشاعر: وقد عَلِمَتْ خَيْلُكَ أني الصَّحْصَحُ .... إن الحديدَ بالحديدِ يُفْلِحُ وقول بكر بن النطاح: لا تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرها ... إنَّ الحديدَ بغيرهِ لايُفْلِحُ [مجمع الأمثال (1/ 8)؛ اللسان "فلح"].

عتبه (¬1) الذين قتلهم يوم بدر حمزةُ (¬2) وعليٌّ (¬3) وعبيدةُ بن الحارث بن عبد المطلمب (¬4) (¬5). وقيل: نزلت في شأن سبعة نفرٍ من اليهود: كعب بن الأشرف وحُيَيّ وجُدَيّ ابني أخْطَب وسعية بن عمرو ومالك بن الصِّيف، وأبي لبابة بن المنذر (¬6) ........................................... ¬

_ (¬1) شيبة وعتبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي هما من أعيان المشركين في الجاهلية، ودعا عليهما النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر فقال: "اللهمّ عليك بعتبة بن ربيعة، اللهمّ عليك بشيبة بن ربيعة" وذكر أناسًا .. فقتلا يوم بدر ومعهم الوليد بن عتبة. ثم ألقوا في قليب بدر. والحديث رواه البخاري ومسلم في عدة مواطن من كتابيهما. (¬2) حمزة بن عبد المطلب بن قصي بن كلاب، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاع، المعروف بأسد الله البدري الشهيد. وصحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله". [أخرجه الحاكم (3/ 195)]. وقتل - رحمه الله - يوم أحد على يد وحشي بحربته. [طبقات ابن سعد (3/ 1)؛ الاستيعاب (3/ 70)؛ أسد الغابة (2/ 51)؛ الإصابة (2/ 285)]. (¬3) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الحسن، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وأول الناس إسلامًا. ولد قبل البعثة بعشر سنين. شهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك. وزوَّجه النبي - عليه السلام - ابنته فاطمة، وقال له النبي عليه الصلاة والسلام:، ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى". وأخباره يطول ذكرها. [الإصابة (7/ 57)؛ معجم الصحابة للبغوي (4/ 354)؛ أسد الغابة (3/ 588)؛ الصحابة لأبي نعيم (1/ 276)]. (¬4) عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي. كان أحد السابقين الأولين، وهو أسنُّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشر سنين. هاجر هو وأخواه الطفيل وحصين، وكان كبير المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. جُرح يوم بدر ثم توفي من أثر الجرح في العشرة الأخيرة من رمضان سنة اثنتين من الهجرة. [الاستيعاب (7/ 114)؛ أسد الغابة (3/ 553)؛ الإصابة (6/ 369)؛ السير (1/ 256)]. (¬5) هذا القول نقله ابن حجر في "العجاب" (1/ 229)؛ وعزاه لأبي حيان في تفسيره، وعزاه الجميع للضحاك. (¬6) أبو لبابة بن عبد المنذر، كان من الأوس وهو من بني عمرو بن عوف. أسلم فتأثر بالمنافقين فانضَمَّ إليهم، فنزلت فيه آيات منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ...} [المائدة:51]، وقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ ...} [الأعراف: 27] حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه: الذبح الذبح. وقيل أنه تاب إلى الله وقال: لا والله لا أذوق طعامًا ولا شرابًا =

وأبي ياسر (¬1) ابن أخطب (¬2). و {إنَّ} حرف إثبات، وهي أداة القسم، واللام أختها، تقول: واللهِ إنَّ زيدًا لمنطلقٌ، وهي لا تدخل إلا في (¬3) الأسماء. والكفر في اللغة: السَّتر (¬4). وفي الشرع: إنكار ما يجب الإيمان به (¬5)، ¬

_ = حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فمكث سبعة أيام على ذلك حتى خَرَّ مغشيًا عليه، ثم تاب الله عليه فقيل له فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني، فجاءه فحلَّه بيداه ثم قال أبو لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبتُ فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. [الطبري (8/ 413 - 506؛11/ 121)؛ عبد الرزاق (1/ 286)]. (¬1) في كل السسخ: (ناصر) والتصحيح من المصادر. (¬2) الطبري (1/ 250)؛ والواحدي في "أسباب النزول" (13)؛ وعزاه ابن حجر في "العجاب" (1/ 229) للكلبي. ولا يصح في أسباب نزول هذه الآية شيء، والله أعلم. (¬3) (إلا في) ليست في "أ". وقول المؤلف: (لا تدخل "إن" إلا في الأسماء) أي أنه يمتنع دخولها على الأفعال، نكن إن خُففِّت "إنَّ" جاز الإعمال والإهمال، وجاز لها أن تباشر الأفعال. [انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ص 77؛ الدر المصون للحلبي (1/ 105)؛ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 236)]. (¬4) ومنه سمي الليل كافرًا لأنه يستر ويغطي بظلمته فلق النهار، ومنه قول ابن صُعَير المازني: فَتَذَكَّرَا ثَقلًا رثيدًا بَعْدَما ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ وقول لبيد بن ربيعة: يعلو طريقة متنها متواترٌ ... في ليلةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غمامُها يعني: غطاها. [الطبري (1/ 262)؛ المفضليات ص 130؛ اللسان "رثد - ذكو"؛ الدر المصون (1/ 106)]. (¬5) والذي عوَّل عليه الشافعية أنه إنكار ما علم مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام، وَيُعَرَّفُهُ أبو محمد بن حزم الظاهري بأنه صفة من جحد شيئًا مما أوجب الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه. كما عرَّفه العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره بأنه: إنكار ما دلَّت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه كوحدانية الله. وفي نظري أن هذه التعريفات الثلاث تجتمع في مصبِّ واحد من حيث المعنى وإن اختلفت في صياغة التعريف. [الإحكام في أصول الأحكام (1/ 45)؛ روح المعاني لأبي الفضل الآلوسي (1/ 208)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 249)].

بدليل أنَّ عليًا - كرَّم الله وجهه (¬1) - سمَّى أهل الشام مؤمنين في كتاب القضية (¬2)، مع إنكارهم حقَّه وكفرانهم بعض نِعَمِ الله تعالى. و {سَوَاءٌ} مصدرٌ أقيم مقام الصفة (¬3)، أي: يستوي عندهم إنذارُك إياهم وتركُكَ إنذارَهُم، كقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} (¬4)، وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} (¬5). والإنذار: إعلامٌ فيه تخويف (¬6)، ويتعدى إلى مفعولين {لَا يُؤْمِنُونَ} [البتة إن أجرينا على الثلاثة، هان أجرينا على السبعة] (¬7) لا يؤمنون في الحال؛ لأن بعضهم آمن من بعد، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} طبع الله على قلوبهم. والختم والطبع: الاستيثاق من المختوم حتى لا يخرج منه شيء ولا يدخله شيء، من ذلك ختم الصُّرَّة والكتاب (¬8). ¬

_ (¬1) الأصل أن يقول: (رضي الله عنه) إذ ليس هناك لفظة خاصة لبعض الصحابة دون بعض، مع وجود قاسم مشترك في نفس الصفة، إلا أن الروافض يحبُّون تمييز آل البيت ب (عليه السلام) و (كرَّم الله وجهه)، وخصُّوا علي بن أبي طالب ب (كرَّم الله وجهه) على أنه لم يسجد لصنم، ومثل هذه الدعوى مرفوضة بحجة أن هناك جمعًا من الصحابة لم يسجدوا لصنم ولم يلقَّبوا بهذا اللقب. (¬2) الذي ورد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سأل عن سب أهل الشام أو لعنهم فرفض ذلك، وقد وردت عنه روايات في مدح أهل الشام عمومًا. [انظر فضائل الشام للربعي ص 42]. (¬3) وهو الذي ذهب إليه الزمخشري في تفسيره بأن {سَوَاءٌ} اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، وارتفاعه على أنه خبر لـ"إن"، وجملة {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في موضع المرتفع به على الفاعلية. والتقدير: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه. اهـ. وذهب بعضهم إلى أنه اسم غير صفة، فالأصل فيه أنه لا يعمل، ويكون {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في موضع الابتداء، و {سَوَاءٌ} خبرًا مقدمًا، ويكون التقدير: إنذارك وعدمه سواءٌ عليهم، والجملة خبر "إنَّ" [الكشاف (1/ 151)؛ الدر المصون (1/ 105)]. (¬4) الشُعراء: 136. (¬5) إبراهيم: 21. (¬6) الإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف. والاسم: النُّذُر، ومنه قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} أي: إنذاري. ففعيل بمعنى مفعل. [اللسان "نذر" (14/ 101)؛ تفسير القرآن الكريم لشيخنا العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - (1/ 36)]. (¬7) ما بين [...] سقطت من "ب". (¬8) وحاصل الختم هنا أنه لمَّا شَبَّهَ عدم نفوذ الحق في قلوبهم وعدم سماعهم بالختم عليها =

والقلوب: جمع قلب، وهي أول الأعضاء الرئيسة (¬1)، سُمِّي قلبًا لكثرة تقلُّبه بالخواطر والمعاني (¬2). {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وأراد بالسمع: الأُذُن، وبالأبصار: العيون، إذ العرب تُسمي الشيء باسم الشيء إذا كان قريبًا منه. وإنما لم يقل على أسماعهم لأنَّ العربَ تكتفي من جمع المضاف بجمع المضاف إليه (¬3). ¬

_ = استُعير لفظ الختم استعارة محسوسة لمعقول بجامع عقلي هو الاشتمال على منع القابل عَمَّا مِنْ شأنه أن يقبله، ثم استعمل لفظ المشبه به في المشبه واشتقَّ من الختم المجازي صيغة الماضي فهو {خَتَمَ} فتكون الاستعارة في {خَتَمَ} تصريحية تبعية فعلية، وفي {غِشَاوَةٌ} استعارة تصريحية أصلية. كما أن الخ ت م يكون علي القلوب والأسماع، وأن الغشاوة تكون على الأبصار، ومنه قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}. [مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 235)؛ وتفسير النسفي (14/ 1)؛ والكشاف (1/ 26)؛ وأضواء البيان (1/ 110)]. (¬1) والقلب: مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط، قاله أبو منصور الأزهري، ويطلق القلب ويراد به العقل، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: عقل. وتُجْمَع على قلوب وأَقْلُب، والقلب أخصّ من الفؤاد في الاستعمال، ومنه قول الشاعر [ينسب لوبرة بن جحذ]: ليتَ الغرابَ رَمَى حمَاطَةَ قلبهِ ... عَمْرٌو بأسهمِهِ التي لم تُلْغَبِ [تهذيب اللغة "قلب" (9/ 172)؛ اللسان "قلب" (11/ 271)]. (¬2) قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" أخرجه الترمذي (القدر باب 7) والإمام أحمد (182/ 4) وسنده صحيح. ومنه قول الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيِهِ ... ولا القلبُ إلا أنه يتقلَّبُ (¬3) أي أنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دلَّ على أنه يراد به إسماع الجماعة، ومنه قول الشاعر [ينسب لعلقمة الفحل]: بها جِيَفُ الحَسْرَى فأما عِظَامها ... فبيضٌ وأما جِلْدُهَا فصَلِيبُ يريد جلودها. وقول المُسَيَّب بن يزيد: لاتنْكِروا القتلَ وقد سُبينا ... في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا يريد: حلوقكم. =

{غِشَاوَةٌ} غطاء (¬1). وهذه الغشاوة تمنعُ رؤيةَ الاعتبار لا رؤيةَ الاختيار. {وَلَهُمْ عَذَابٌ} إيذاءٌ مستمرٌّ {عَظِيمٌ} يعظم عليهم ويصغر عندهم بجنبه كلُّ عذابٍ، والمراد به: في الآخرة. وقيل: المراد به قتلهم وأسرهم يوم بدر (¬2). {وَمِنَ النَّاسِ} نزلت (¬3) في المنافقين (¬4): عبد الله بن أُبي بن سَلُول (¬5) (¬6)، ¬

_ = وقيل: إنما وَحَّدَ السمع لأنه مصدر يقع للقليل والكثير. [الطبري (1/ 271) تصير القرطبي (1/ 190)؛ إعراب القرآن للنحاس (1/ 136) ديوان علقمة الفحل ص40]. (¬1) أي: غطاءٌ على العين يمنعها من الرؤية. ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص: هويتك إذ عيني عليها غشاوةٌ ... فلما انْجَلَتْ قطعت نفسي أَلُومُها وعلى قراءة من نصب "غشاوة" تكون منصوبة بفعل محذوف، والتقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، كما في آية سورة الجاثية، وهو كقول الشاعر: لمَّا حططتُ الرَّحْلَ عنها واردًا ... عَلَّفْتُهَا تبنًا وماءً باردا وقول الآخر: إذا ما الغانيات برزنَ يومًا ... وَزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا التقدير: علفتُها تبنًا وأسقيتها ماءً، وزججن الحواجبَ وكَحَّلْنَ العيونا [أضواء البيان للشنقيطي (1/ 110)]. (¬2) وذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن الآية نزلت في الأحبار من اليهود فيما كذبوا به من الحق، وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره. [تفسير الطبري (1/ 274)]. (¬3) (نزلت) ليست في "ب". (¬4) وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - فيما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 275)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 42)، وقد سُمِّيت في حديث ابن عباس أسماؤُهم وأنهم من منافقي الأوس والخزرج، لكن عامة المفسرين ذكروا أن الآية نزلت في قوم من المنافقين دون أن يعيِّنوا أحدًا منهم، ولكن الله - عَزَّ وَجَلَّ - صرح بذكر بعضهم في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ...}. (¬5) عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي أبو الحباب هو من خزاعة: رأس المنافقين في الإِسلام من أهل المدينة، كان سيد الخزرج في الجاهلية وأظهر الإِسلام بعد وقعة بدر. وكان كلما حلَّت بالمسلمين نازلة شمت بهم، وكلما سمع بسيئة نشرها, ولما مات صلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، وأخباره يطول ذكرها. [إمتاع الأسماع (1/ 99)؛ طبقات ابن سعد (2/ 90)؛ جمهرة الإنساب (335)؛ الأعلام (4/ 65)]. (¬6) كتب في هامش النسخة "ي": عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن سلول. وسَلُول: امرأة من خُزاعة، وهي أمُّ أُبي بن مالك، وكان عبد الله سيد الخزرج.

وجَدَّ بن قيس (¬1)، ومُعتِّب بن قُشَير (¬2) ومن تابعهم. وسمِّي الإنسُ إنسًا لظهورهم (¬3). وهم ضدّ الجنّ. وأنِسْتُ السرَّ- بغير مدّ - إذا: أظهرتُهُ. وإنما ¬

_ (¬1) الجد بن قيس بن صخر الأنصاري أبو عبد الله وهو خال الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، وكان الجد بن قيس سيد بني سلمة ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وقال: يقال إن الجد بن قيس كان منافقًا تخلَّف عن غزوة تبوك فأنزل الله فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] ونزل فيه أيضًا: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46]، ونزل فيه أيضًا: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ ...} [التوبة: 86]، وقيل أنه تاب ورجع حتى أنزل الله فيه وفيمن تاب معه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...} [التوبة: 102]. [الطبري (11/ 480 , 482، 491، 654)؛ الإصابة (2/ 70)؛ ابن أبي حاتم (6/ 1859)]. (¬2) معتب بن قشير هو أحمد بني عمرو بن عوف. كان من أعيان المنافقين. قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: والله إني لأسمع قول معتب بن قشير حين قال: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] حتى أنزل الله فيه ومن معه من المنافقين: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ...} [آل عمران: 154]، ونزل فيه أيضًا: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ...} [التوبة: 75]، ومعتب هو الذي ساهم في بناء مسجد الضرار الذي أمر النبي عليه الصلاة والسلام بإحراقه وهدمه. [الطبري (6/ 167؛ 11/ 582 - 672)؛ ابن أبي حاتم (6/ 1879)؛ البيهقي في دلائل النبوة (5/ 259)؛ ابن كثير (4/ 149)]. (¬3) اختلف اللغويون والنحويون في اشتقاق وأصل هذا الاسمِ {النَّاسِ} فذهب سيبويه والفراء أن أصله "أنس"، والأصل أناس مشتق من الأُنْس لأنه أنِسَ بحواء، وقيل: أَنِسَ بربه، ثم حذفت الهمزة تخفيفًا، ومنه قول الشاعر [ينسب إلى ذي جدن الحميري]: إن المنايا يَطَّلِعـ ... نَ على الأُناسِ الآمنينا وقول لبيد بن ربيعة: وكل أناسٍ سوفَ تدخلُ بينهم ... دويهيةٌ تصفر منها الأنامِلُ وذهب الكسائي إلى أن أصله "نَوَسَ" فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنوس الحركة. وذهب آخرون إلى أن أصله "نسي" ثم قلبت اللام إلى موضع العين فصار نَيَسًا، ثم قلبت الياء ألفًا، وسُمُّوا بذلك لنسيانهم على حد قول الشاعر: فإِنْ نسيتَ عهودًا منكَ سالفةً ... فاغفِر فأولُ ناسٍ أول الناسِ [ديوان لبيد ص 256؛ الخصائص (3/ 151)؛ شواهد الشافية 296؛ تفسير القرطبي (1/ 193)؛ الدر المصون (1/ 119)].

وَحَّدَ الفعلَ في أوّلِ الآيةِ وجَمعَ الضمير في آخرها؛ لأنَّ مِنْ لفظه الوحدان، ولإبهامِهِ يصلح أن يكون اسمًا للمذكر والمؤنث والاثنين والجماعة تعدل تارة إلى اللفظ وتارة إلى المعنى، كقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} (¬1). {وَبِالْيَوْمِ الْآخِر} (¬2) الذي لا زمان بعده لعدم انتهائه. وسُمِّي يومًا لأن الليل معدومٌ فيه (¬3)، وهو يشتملُ على الساعة. والباء في قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} لتأكيد النفي (¬4)، وفي الآية دليلٌ على أن مُفرِدَ الإقرار ليس بمؤمن عند الله، لما في قلبه من المرض والشك. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: يظنون أنهم يخادعون. والمخادعة: فعلُ الخَدْع من اثنين على وجه المقابلة (¬5). ¬

_ (¬1) الأحزاب: 31. (¬2) كتب في هامش النسخة "ي": (قيل: إنَّ قومًا من اليهود قالوا: يا محمَّد أخبرنا عن الساعة إن كنتَ نبيًا، فإنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحانًا منهم لعلمهم أن الله قد استأثر بعلمها. والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتةً أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها، أو لأنها على طولها كساعة من الساعات عند الخلق) اهـ. (¬3) خالف في ذلك ابن جرير وغيره من المفسِّىرين على أن اليوم عند العرب إنما يسمى يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدَّم النهارَ ليل لم يُسَمَّ يومًا، فيوم القيامة لا ليل بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذك اليوم هو آخر الأيام، ولذلك سمَّاه الله اليوم الآخر. [تفسير الطبري (1/ 278)]. (¬4) وهو مذهب البصريين، أي: فكما هي زائدة في اللفظ فهي زائدة في المعنى، تفيد تأكيد النفي. وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباء لا تزاد في خبر "ما" إلا إذا كانت عاملة - أي أنها حجازية تعمل عمل "ليس" -. [الإيضاح (1/ 110)؛ سيبويه: الكتاب (1/ 31)؛ أمالي القالي (3/ 73)]. (¬5) هذا هو الأصل أن المخادعة تكون بين اثنين على وجه المقابلة، لكن في هذه الآية لم يكن ثمة طرف ثانٍ، فجاز يُفَاعِل لغير اثنين. قال أبو علي الفارسي: والعرب تقول خادعت فلانًا إذا كنت تروم خدعه، وعلى هذا يوجه قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ ...} معناه أنهم يقدرون في أنفسهم أنهم يخدعون الله، والله هو الخادع لهم، ومنه قول الراعي: وخادع المَجْدَ أقوامٌ لهم ورقٌ ... راحَ العضاهُ به والعرقُ مَدْحُولُ [اللسان "خدع" (4/ 37)].

وهو إظهار المحبوب مع إبطان المكروه. {وَمَا يَشْعُرُونَ} بأن خداعهم راجع إلى أنفسهم. والشَّعْرَ هو: العلمُ الدقيقُ الذي يتولدُ من الفطنة، وهو من شَعَار القلب، ومنه سُمِّيَ الشاعر شاعرًا (¬1). {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} والمرض في القلب: ظلمةٌ فيه (¬2). قال ابن عرفة (¬3): مرضُ القلب: فتورُهُ عن الحق (¬4). وقيل: علةٌ فيه تمنعهُ عن الصواب {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} على مرضهم (¬5). وإنما نكّر الثاني لأنه غيرُ الأول. ¬

_ (¬1) أي أنَّ الشَّعْرَ يطلق على العلم بدقائق الأمور وخفاياها، ومنه سمي الشاعر شاعرًا لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية والرَّوي. ومنه قولهم: "ليت شعري" أي ليتني علمت، ومنه قول الشاعر: يا ليت شعري عن حماري ما صنع ... وعن أبي زيدٍ وكم كان اضْطَجَعْ ومنه قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] أي: وما يدريكم وما يعلمكم. ومنه قول المتنخل الهذلي: عَقُّوا بِسَهْمٍ فلم يَشْعُرْ به أَحَدٌ ... ثم اسْتَفَاءُوا وقالوا حَبَّذا الوَضَحُ أي: لم يدرِ ولم يعلم به أحد. ومعنى الآية- كما قاله ابن جرير- ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم بما أَسَرُّوا من الكفر والنفاق. [تفسير الطبري 1/ 286 - التحرير والتنوير 1/ 278 - ديوان الهذليين 2/ 31 - اللسان (شعر) 7/ 132]. (¬2) الأصل أن المرض يطلق ويراد به مرض البدن الحسي ثم استعمل في الأمراض المعنوية ألا وهو مرض القلب مرضًا اعتقاديًا، والمرض الذي في قلوبهم هو شكُّهم في أمر نبينا محمَّد عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الحق، وهو الذي عليه عامة المفسرين أن المرض هو الشك، وبه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود - رضي الله عنه - وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وما فسر به المؤلف من أن المراد بالمرض هو الظلمة التي في القلب هو تفسير ببعض اللازم إذ إن الشك هو بحد ذاته نوع من الظلمة التي تحيط بالقلب فيحجب عنه نور الإيمان, فيكون تفسير المؤلف للمرض لا يختلف تمامًا عن تفسير غيره وهو من باب اختلاف التنوع في التفسير. ولذا قال إمام اللغويين ابن فارس: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر [تفسير القرطبي 1/ 197]. (¬3) الحسن بن عرفة بن يزيد أبو علي العبدي البغدادي. ولد سنة خمسين ومائة. كان من علماء الحديث، ثقة. قال الذهبي: انتهى علو الإسناد إلى حديث الحسن بن عرفة وكان صاحب سُنَّة واتباع. توفي في سامراء سنة سبع وخمسين ومائتين. [تاريخ بغداد (7/ 394)؛ السير (11/ 547)؛ الجرح والعديل (3/ 31)؛ طبقات الحنابلة (1/ 140)]. (¬4) ذكره أبو عبيد الهروي في (الغريبين) (6/ 1744). (¬5) أي هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم وأن الله زادهم مرضًا إلى مرضهم كما قال في آية أخرى {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: 125] أي زادهم رَجَاسةً إلى رجاستهم.

{أَلِيمٌ} مؤْلِم (¬1). وقال ابن عرفة: ذو الألم (¬2). {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬3) أي: بسبب كونهم (¬4) كاذبين أو مُكذبين. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} نزلت في المنافقين عند أكثر العلماء (¬5). و"إذا" للتوقيت في المستقبل يحل محل الظرف، وقيل: لما يليها من الأفعال على صيغة الماضي. {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: لا تعملوا بالعمل الفاسد فيها. وفسادُ الشيء: تغيُّرُهُ عن استقامة الحال. والأرض مأخوذٌ من الإراض وهو: البساط. والإرَاض مأخوذٌ منها (¬6). {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} بأن نأتي كلَّ قوم بوجه ونَتَذبذبَ فيما بينهم تقيَّةً على أنفُسِنَا. "وما" في "إنّما" ما الكافة (¬7) ¬

_ (¬1) أليم بمعنى مؤلم معروف في كلام العرب، ومنه قول ذي الرمة: وَنَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُكُّ وجوهها وهجٌ أليمُ وقول عمرو بن معدكرب الزبيدي: أَمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ ... يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعُ قوله "السميع" أي المسمع - فعيل بمعنى مُفْعِل. [معاني القرآن للزجاج 1/ 86 - الدر المصون 1/ 130]. (¬2) أبو عبيد الهروي (الغريبين) (1/ 94). (¬3) كتب في هامش النسخة (ي): {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} في موضع رفع صفة لأليم، وتتعلق الباء بمحذوف تقديره: كائن تكذيبهم أو مستحق). ا. هـ انظر الإملاء للعكبري (17/ 1). (¬4) قول المؤلف "بسبب كونهم" جعل من كان مصدرًا، بناء على أن "ما" مصدرية ويشهد له قول الشاعر: بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سادَ في قومه الفتى ... وَكَوْنُكَ إياه عليكَ يَسِيرُ فقد صرح بالكون. [شرح الأشموني 1/ 231 - شرح ابن عقيل 1/ 234]. (¬5) وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره أنها نزلت في المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان معنيًا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين إلى يوم القيامة [تفسير ابن جرير 298/ 1]. (¬6) الإراض: البساط لأنه يلي الأرض- قاله ابن سيده في المُحْكَم، وآرَضَ الرجُلُ: اْقام على الإرَاض، ومنه حديث أم معبد: "فشربوا حتى آرَضُوا" وقال الأصمعىِ: الإرَاض بالكسر، بساط ضخم من وبر أو صوف [المحكم لابن سيده (أرض) (8/ 222 - اللسان (أرض) 1/ 8]. (¬7) إذا دخلت "ما" على إنَّ وأخواتها كفتها عن العمل إلا "ليت"، وإليه أشار ابن مالك في ألفيّته فقال: ووصل "ما" بذي الحروفِ مُبْطِلُ ... إعمالها وقد يُبَقَّى العَمَلُ وعلل سيبويه في ذلك أن هذه الأدوات قد أعملت لاختصاصها بالأسماء ودخول "ما" =

ولولاها لنصب إنّ الضمير بعدها، فلما دخلت هي قبض إنّ عن العمل. تقول: إنَّكَ وإنّما أَنتَ و {نَحْنُ} جمع أنا من غير لفظه, لأنَ (أنا) لما لم يُجمع مفكوكًا لم يجمع مَسْبُوكًا، بخلاف (أنت) و (هو) (¬1). {أَلَا} كلمةٌ وُضعَتْ للتنبيه والإعلام قبل الكلام، وهي مركبة من ألف الاستفهام و (لا) النفي (¬2). و"لكن" حرفُ عطفٍ خُصتْ لاستدراكٍ (¬3) بعد نفي أو تَرْكِ جُملةٍ إلى جُملةٍ. وإنما جَمَع بين حرفي العطف لأنّ الواو أمُّ حروف العطف فجاز إدخالها على حرف عطف لقوتها، كما أنّ الألف أمُّ حروف الاستفهام فجاز أن يقال: أهَلْ رأيتَ زيدًا؟ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} (¬4) نزلت في المنافقين الذين سبق ذكرهم {آمِنُوا} ¬

_ = عليها يزيل هذا الاختصاص ويهيئها للدخول على جمل الأفعال ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: 6]، ونحو قول امرئ القيس: وَلكِنَّمَا أَسْعَى لمجد مُؤَثَّلٍ ... وَقدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أمثالي وشذ الزجاج كما في كتابه "الجُمَل" إلى أن جميع هذه الأدوات بمنزلة واحدة فيجوز فيها الإعمال والإهمال. ومن حيث المعنى فـ "إنما" تفيد القصر أي قصر الموصوف على الصفة. (¬1) كتب في هامش النسخة (ي): قوله "نحن" اسم مضمر مبني على الضم وإنما بنيت الضمائر لافتقارها إلى الظواهر التي ترجع إليها فيها كالحروف في افتقارها إلى الأسماء، وحُرِّكَ آخرها لئلا يجتمع ساكنان، وضُمت النون لأنّ الكلمة ضمير مرفوع للمتكلم فأشبهت التاء في [قُمْتُ]. قيل: ضُمّت لأن موضعها رفع النون تشبه الواو فحركت بما يجانس الواو. و"نحن" ضمير للمتكلم [ومَنْ معه] يكون للاثنين والجماعة و [يستعمله المتكلم] الواحد المعظم، كقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ} [الكهف: 13] ا. هـ انظر الإملاء للعكبري (1/ 18 - 19). (¬2) ألا" حرف تنبيه واستفتاح، وذهب السمين الحلبي كما في تفسيره "الدر المصون 1/ 139) إلى أن "ألا" ليست مركبة من همزة الاستفهام و"لا" النافية، ولكنها لفظ مشترك بين التنبيه والاستفتاح. (¬3) "لكن" حرف استدراك، وفي هذا يكون معنى الاستدراك أنهم لما نهوا عن الإفساد قابلوا ذلك بأنهم مصلحون فاستدرك الله عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك. وأما ما ذكره المؤلف أن "لكن" حرف عطف فقد ذكر السمين الحلبي أنها عاطفة في المفردات [الدر المصون 1/ 140]. (¬4) كتب في هامش النسخة (ي): (قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} في موضح النصب على الظرف، والعامل فيها جوابها وهو قوله تعالى: {قَالُوا} وقال قوم: العامل فيه {قِيلَ} وهو خطأ =

أي: أيقنوا الإيمان, ها هنا هو الإيقان دون الإقرار {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أبو بكر (¬1) مع المهاجرين والأنصار (¬2). {قَالُوا أَنُؤْمِنُ} على وجه التعجب والإنكار، كقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} (¬3) {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الجهالُ والسَّفيه: الخفيفُ العقلِ. يقال: تَسَفَّهَتِ الرياحُ الشيء إذا: اسْتَخَفَّتْه وحَرَّكتْهُ (¬4). وقيل: نزلت الآية في كعب بن الأشرف (¬5) وأصحابه. والمراد بالناس: عبد الله بن سَلام (¬6) وأصحابه (¬7). ¬

_ = لأنه في موضع جر بإضافة إذا إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف) ا. هـ انظر الإملاء للعكبري (1/ 18). (¬1) أبو بكر الصدِّيق: عبد الله بن عثمان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمرَّ معه طوال إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وشهد المشاهد كلها وكانت الراية معه يوم تبوك، وحجَّ بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة التاسعة من الهجرة، وفضائله وأخباره يطول ذكرها. [الصحابة لأبي نعيم (1/ 149)؛ أسد الغابة (3/ 205)؛ تاريخ الإسلام للذهبي قسم عهد الخلفاء الراشدين (105) الإصابة (2/ 341)]. (¬2) ذكره السيوطي في الدر (1/ 30) لابن عساكر بسند واه. وأخرج ابن أبي حاتم بسند جيد عن أبي العالية: أنهم أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -[التفسير الصحيح- د. حكمت بشير 1/ 110]. (¬3) سورة الشعراء: 165. (¬4) أي أنّ السفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمّى الله النساء والصبيان سفهاء فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] وهذا ما ذهب إليه عامة علماء التفسير كالإمام الطبري وابن كثير وغيرهما وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل السفه في اللغة خِفَّةُ الحلم. [تفسير الطبري 1/ 302 - تفسير ابن كثير 1/ 68 - معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج 1/ 88 - تهذيب اللغة للأزهري 6/ 133]. (¬5) شاعر جاهلي من بني نبهان، دان باليهودية، كان يقيم في حصن قريب من المدينة، أدرك الإِسلام ولم يسلم. هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتله، فقتل وحُمِلَ رأسه إلى المدينة. [الكامل لابن الأثير 2/ 53) تاريخ الطبري (3/ 2) الروض الأنف (2/ 123) الأعلام 5/ 225)]. (¬6) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، يكنى أبا يوسف، الإمام الحبر المشهود له بالجنة، حليف الأنصار، من خواص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أسلم إذ قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين. [الاستيعاب (3/ 921)؛ سير أعلام النبلاء (2/ 413)؛ تهذيب التهذيب (5/ 219)؛ الإصابة (4/ 118)؛ تهذيب الأسماء (1/ 255)]. (¬7) انظر القرطبي (1/ 205).

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في ابن أبيّ بنِ سلول وأصحابه. استقبل ذاتَ يومٍ أبا بكر وعمَر (¬1) وعليًا - رضي الله عنهم -، فأخَذ بيد أبي بكر وقال: مرحبًا بسيّد بني تيم خير النّاسِ بعد رسول الله، ثاني اثنين معه في الغار، الباذِلِ نفسَهُ ومالَهُ له. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبًا بسيّد بني عدي خير النّاسِ بعد رسولِ اللهِ، الشديد في دين الله، القَائلِ بالحقّ. ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبًا بسيّد بني هاشم ما خلا رسول الله أخيه وابن عمه وخَتنِه. فقال له علي: يا عبد الله لا تنافق، فإنّ المنافقين شرُّ خليقة الله في الأرض. فقال: مه يا علي، فإني آمنتُ مِثلَ إيمانكم. ثم قفى ومَضَوا، فلمّا انفرد بأصحابه قال لهم: كيف رأيتم وُدّي هؤلاء السُّفهاء عنكم؟ قالوا: لا نزالُ بخير ما عشت لنا. فأَنْزَل الله هذه الآية (¬2). واللقاء: رؤية تقتضي مُصادفةً ومعاينةً، وتُستعارُ لإصابة الخير والشرِّ، قال الله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (¬3). {وَإِذَا خَلَوْا} مضوا (¬4) {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} كهنتهم، قيل: إنهم كانوا خمسة نفر (¬5): كعب بن الأشرف، وأبو بُردة الأسلمي، وعبد الدار الجُهني، وعوف بن عامر ¬

_ (¬1) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزَّى القرشي العدوي، أبو حفص أمير المؤمنين. وُلد قبل البعثة بثلاثين سنة وقيل بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، كان شديدًا على المسلمين ثم أسلم، فكان إسلامه فتحًا علي المسلمين. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما عُبدَ اللهُ جهرة حتى أسلم عمر. وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهمَّ أَعِزَّ الإِسلام بعمر بن الخطَاب"، وأخباره يطول ذكرها. [الإصابة (7/ 75)؛ أسد الغابة (3/ 642)؛ معجم الصحابة للبغوي (4/ 308)]. (¬2) أخرجه الواحدي في (ص 13)، وعزاه السيوطي في الدر (1/ 31) للثعلبي وقال: سنده واهٍ وكذا قال الطبري. وهو كما قال فإن فيه السدي الصغير وهو متروك عن الكلبي وأبي صالح وكلاهما ضعيف. وحكم عليه بالوضع ابن حجر في العجاب (1/ 237). (¬3) سورة الإنسان: 11. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 47 - 135) عن أبي مالك في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا} قال: مضوا. وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 167). (¬5) وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (1018) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءَهم وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم على دينكم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بأصحاب محمَّد. [الدر المنثور 1/ 166].

الأسدي وابن السوداء (¬1). {إِنَّا} مركبة من "إنّ" التي هي للإثبات و" (نا) " كناية للجمع (¬2) الذين تَكَلَّمَ منهم، فلما اجتمعت النونات اكتفى بنون مُشددة (¬3) {مَعَكُمْ} بالقلوب. وقيل: في التكذيب سِرًّا (¬4). {مُسْتَهْزِئُونَ} بأصحاب محمَّد (¬5)، بإظهار قول لا إله إلا الله. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يجازيهم على استهزائهم (¬6). كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬7)، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬8)، وقال الشاعر (¬9): ألا لا يَجْهَلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهلِ الجاهلينا ¬

_ (¬1) في (ب) (ن): (السوط) وهو خطأ. (¬2) وقال السمين الحلبي (الدر المصون 1/ 146): الأصل في إنَّا: إنَّنا كقوله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} وإنما حذفت إحدى نوني "إنَّ" لما اتصلت بنون "نا" تخفيفًا. وأشار إلى ذلك أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن (1/ 140). (¬3) كتب في هامش النسخة (ي): {إِنَّا مَعَكُمْ} [الأصل] إننا فحذفت النون الوسطى على القول الصحيح، كما حُذفت في إن [إذا خففت] كقوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} و (معكم): ظرف قائم مقام الخير، أي: كائنون معكم) ا. هـ انظر الإملاء للعكبري (20/ 1). (¬4) ثبتَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي: إنَّا على مثلِ ما أنتم عليه. [أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 47 - والطبري في تفسيره 1/ 307 - وقال الشيخ حكمت بشير في تفسيره "التفسير الصحيح" 1/ 111: إسناده حسن]. (¬5) وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 أو الطبري في تفسيره 1/ 311 وكذا قال الربيع بن أنى وقتادة. (¬6) تفسير المؤلف استهزاء الله بهم بمجازاته إياهم هو تفسير الأشاعرة في نفي صفة الاستهزاء بالكافرين والمنافقين عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والذي رجحه إمام المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره (1/ 315) أن معنى الاستهزاء في كلام العرب إظهار المستهزِئ للمُسْتَهْزَأ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا، وهو بذلك من قيله وفعله به مُوَرِّطُهُ مساءَتَهُ باطنًا. اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 69): استهزاء الله - عَزَّ وَجَلَّ - بهم هو سخريته بهم، وهكذا قال شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين في تفسيره (تفسير القرآن الكريم 1/ 54) وقد فصل القول في ذلك الشيخ محمَّد بن عبد الرحمن المغراوي في كتابه (المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات 1/ 129). (¬7) سورة الشورى: 40. (¬8) سورة البقرة: 194. (¬9) هو للشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي، انظر ديوانه (79). وهي في المعلقة التي مطلعها: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تُبقي خمور الأندرينا

وفي الخبر: أن جزاء استهزائهم أنهم يُدْعَوْنَ إلى الجنة وهم في النار، فيسحبون أحقابًا حتى يقتربوا من أبوابها فتغلقُ الأبوابُ دونهم، فيرجعون بحسرة (¬1). {وَيَمُدُّهُمْ} يُمهلهم (¬2). وفي اللغة قريبٌ من البسط والتطويل. {طُغْيَنهِمْ} تماديهم ومُجاوَزَتِهِمُ الحدَّ. {يَعْمَهُونَ} يترددون ويتحيرون (¬3). {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} اختاروا (¬4) الكفر على الإيمان. وقيل: استبدلوه به. وقيل: إنها في شأن اليهود إذ هم قبلوا التحريف وتركوا التوراة بعد تحصيلها. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي: فما ربحوا في تجارتهم. والربح: ضد الخسران. ¬

_ (¬1) لفظ الحديث هو: "يؤمر يوم القيامة بناس إلى الجنة حتى إذا دَنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها، وما أعدّ الله لأهلها فيها نودوا اصرفوهم عنها , لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها" والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 85) , والأوسط (5478)، وابن حبان في المجروحين (3/ 155)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 124)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 201)، والبيهقي في الشعب (1809) وفي إسناده أبو جنادة رمي بالكذب. (¬2) والذي عليه عامة المفسرين كابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود - رضي الله عنه - وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى {وَيَمُدُّهُمْ}: يملي لهم، وهو الذي رجحه ابن جرير وابن كثير وابن أبي حاتم في تفسيرهم. وذهب الزجاج إلى أن "يمدهم" بمعنى يمهلهم وهو ما ذهب إليه المؤلف، وعند التأمل لا نجد فرقًا بين المعنيين. [تفسير الطبري 1/ 319 - تفسير ابن كثير 1/ 78 - الدر المنثور 1/ 31 - تفسير ابن أبي حاتم 1/ 48 / 144 - معاني القرآن للزجاج 1/ 56]. (¬3) ذكره الزجاج في معاني القرآن 1/ 56، والبغوي في تفسيره 1/ 35، والأزهري في تهذيب اللغة 1/ 150 واللسان 17/ 415]. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - "يعمهون" يتمادون في كفرهم، أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 والطبري 1/ 323]. (¬4) اختار الإمام الطبري أن معنى "اشتروا" الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء, وأخذِ عوضٍ على عوض، لكن دلائل أول الآيات في نعوتهم دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان, ولا دخلوا في ملة الإسلام [تفسير الطبري 1/ 328]. وخالف ابنُ كثير ابنَ جرير فقال: هذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قيل ذلك ثم سلبوا وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية وهي قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]

{وَمَا كَانُوا} للجحد، والكينونة إذ اقتضت جوابًا فهي بمعنى الصيرورة كما هي ها هنا. إذ الاهتداء خبرٌ لها. والاهتداء يقرُبُ من البَصَارة والإصابة. {مَثَلُهُمْ} شبّه المنافقين. والمثَل (¬1): صفةٌ يوجد لها المثلُ على وجه المقاربة والموافقة (¬2) دون المُشاكلة والمُجانسة، ثم تؤولُ هي ومثلها جميعًا إلى مدحٍ أو ذم. والكلام الذي يُسمى مثلًا هو: قولٌ سائرٌ يتلفظُ به عند تشبه حال الثاني بالأول. وضَرْبُ المثل: وضعُهُ (¬3). {اسْتَوْقَدَ} (¬4) أي: أوقد (¬5) وهي ضد أطفأ. والنارُ هي: الجسمُ اللطيفُ المحرق، والنورُ عَرَضٌ فيه. {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} و"لما" ظرفُ زمانٍ ماضٍ لا يتم إلا ¬

_ (¬1) قال المُبَرِّد: المَئَلُ: قول سائرٌ يُشَبَّهُ به حالُ الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، وقال ابن السكيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبهوه بالمثال الذي يُعْمَلُ عليه غيره. ويقال مَثَل ومِثْل ومثيل وكلها تجمع على أمثال. قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43] [مجمع الأمثال للميداني 1/ 7]. (¬2) (الموافقة) ليست في (أ). (¬3) (وضعه) ليست في (أ). (¬4) كتب في هامش النسخة (ي): (الذي) هنا مفرد في اللفظ والمعنى على الجمع بدليل قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وما بعده [و] وقوع المفرد موقع الجمع وجهان: هو الجنس مثل (مَنْ) و (ما) فيعود الضمير تارة بلفظ المفرد وتارة بلفظ الجمع. والثاني: أنه أراد [الذين] فحذفت النون لطول [الكلام بالصلة، ومثله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}] ا. هـ انظر الإملاء للعكبري (1 /؟؟) (¬5) "استوقد" بمعنى أوقد وهو رأي الأخفش، ومنه قول الشاعر [ينسب إلى كعب بن سعد الغنوي]: وداعٍ دَعَا يا مَنْ يجيب إلى النَّدَى ... فلم يستجبه عند ذاكَ مُجِيبُ يريد: فلم يُجِبْهُ. [تفسير الطبري 1/ 235 - الأصمعيات ص 96 - طبقات فحول الشعراء 1/ 213 - أمالي القالي 2/ 151 - معاني القرآن للزجاج 1/ 48].

بِصِلَتِه (¬1)، وصلَتُهُ أولُ العاملَيْن، ولا يستقيم إلا بالعامل الثاني. تقول: لمَّا دعوتك أَجَبْتَني. وحَوْلُ الشيء: موضعُ حركتِهِ ومَبْدَأُ تَحَوُّلِهِ. {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، أي أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُم (¬2) {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} شدائد جهنم (¬3) {لَا يُبْصِرُونَ} لا يرون وجهَ الرَّجاء والفرج (¬4). والنور: ما بين المحسوس والمعقول. والظُّلمة عَرَضٌ يفسخُهُ النورُ وينافيه. وتمثيل مثل المنافقين بمثل المُسْتَوقد من حيثُ إِنَّ المستوقد طفئت نارُهُ وحبط عملُهُ لما طفئتْ. فكذلك المنافقون افْتُضِحُوا وحبط إظهارهُمُ الإيمان لِمَا تستروا به نفاقًا وتقيَّةً. وقيل: إنها نزلت في أولئك المنافقين الذين أخلصوا ثُمَّ ارتابوا. ¬

_ (¬1) مذهب سيبويه أن "لما" حرف وجوب لوجوب وعبارته التي في الكتاب (2/ 312) للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره. وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء كما في الإملاء (1/ 21) أنها ظرف بمعنى حين، وأن العامل فيها جوابها، وقد رُدَّ عليه بأنها أجيبت بـ "ما" النافية و"إذا" الفجائية ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} و"ما" النافية و"إذا" الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما فانتفى أن تكون ظرفًا، وهو جواب وَرَدٌّ لما ذكره المؤلف رحمه الله من أنها ظرف زمان. [الدر المصون 1/ 159 - الإملاء 1/ 21 - الإيضاح 319 - الدرر 2/ 73]. (¬2) فإن قال قائل: كيف ذهب الله بنورهم ولا نور لهم أصلًا؟ فالجواب - أن النور الذي كان لديهم هو ما أظهووه من الإِسلام وهو نوع نور - (قاله ابن جرير في تفسيره 15/ 345 - والسمعانى في تفسيره 1/ 408). (¬3) وافق أبو المظفر السمعاني المؤلفَ في تفسير هذه الآية فقال في قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}: أي شدائد، لكن الذي عليه عامة المفسرين ومنهم ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالظلمات ظلمات الكفر- أخرجه الطبري في تفسيره بسند حسن. [تفسير الطبري 1/ 345 - تفسير ابن كثير 1/ 72 - تفسير أبي المظفر السمعاني 1/ 408 - التفسير الصحيح حكمت بشير 1/ 110]. (¬4) عامة المفسرين فَسَّروا {لَا يُبْصِرُونَ} أي لا يبصرون الحق والهدى، وما فسر به المؤلف هو تفسير ببعض اللازم. ولعله أراد بالنور الحق والهدى فيحصل التطابق في تفسير الآية. [تفسير ابن كثير 1/ 72 - تفسير أبي المظفر السمعاني 1/ 408].

وهذا أقرب من الأول (¬1). وقيل: نزلت في اليهود؛ لأنهم نزلوا يثرب انتظار المبعث وكانوا يستنظرون باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقائعهم، [{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}] (¬2)، فإن صَحَّ هذا القول فإنها في المنافقين منهم دون الكل, لأنَّ دلالات النفاق ظاهرة فيما تقدم تقرير الآية، فلما أضاءت النار ما حول المستوقد طفئت. كقوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ} (¬3)، أي: فإذا أمنتم فاقضوا ما أحصرتم عنه. وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} في المنافقين دون المستوقد. وإنما يذكر اقتباسَهُمُ النورَ أولًا ثم الذهاب بنورهم لأن المثل السابق دلَّ عليه فاكتفى بتلك الدلالة. وقيل: الضمير في قوله: {بِنُورِهِمْ} عائدٌ إلى المستوقد وأصحابه (¬4). والمعتقد في الجملة ما هو عند الله تعالى. {صُمٌّ} من حيث لايستمعون إلى الحق. {بُكْمٌ} من حيث لا ينطقون بالحَق {عُمْيٌ} من حيث لا ينظرون إلى الحق ولا يلتفتون إليه (¬5) {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلى الإخلاص [في الحال] (¬6) لأنَّ بعضهم أخلص بعد ¬

_ (¬1) يريد المؤلف أنهم أسلموا ثم كفروا - وهذا القول ردَّه ابن جرير في تفسيره وقال: إن هذا المثل ضربه الله - عَزَّ وَجَلَّ - للمنافقين الذين وصف صفتهم وقص قصصهم ابتداءً بذكرهم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...}. وهذا التفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والضحاك وغيرهم. [تفسير الطبري 1/ 341]. (¬2) ما بين [...] ليست في (أ). (¬3) سورة البقرة: 196. (¬4) الضمير في {بِنُورِهِمْ} عائد على معنى {الَّذِي}، وقيل إنه عائد على مضاف محذوف تقديره- كمثل أصحاب الذي استوقد - واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير من أجل أن يتطابق المشبه والمشبه به لأن المشبه جمع، فلو لم يُقَدَّر هذا المضاف وهو "أصحاب" لزم أن يشبه الجمع بالمفرد. [الدر المصون 1/ 163]. (¬5) وهذا تفسير قتادة أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 348) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 53) وعبد بن حميد كما عزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 174). (¬6) ما بين [...] ليست في (ن).

ذلك {أَوْ كَصَيِّبٍ} "أو" ها هنا للعطف (¬1)، كقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬2). قال جرير (¬3) (¬4): نَالَ الخلافةَ أو كانت له قَدَرًا ... كما أتى رَبَّه موسى على قَدَرِ وقيل: "أو" للتخير كما في كفارة اليمين، فكأنما خير المخاطب بين ضرب المثَلين لهؤلاء المنافقين، إذ كُلُّ واحدٍ منهما يليقُ بحالهم. {كَصَيِّبٍ} كأصحاب صيّب، حذف المضافَ وأقام المضاف إليه مقامه (¬5)، ¬

_ (¬1) أي بمعنى الواو، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 356) وتكون في هذه الحال دالة على مَثَل كما دلت عليه ما قبلها في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ثم قال: كمثل صيب، والمعنى الثاني أنها للتفصيل بمعنى أن الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المستوقد الذي هذه صفته، ومنهم من يشبههم بأصحاب صيب هذه صفته. والمعنى الثالث: أنها للإبهام أي: إن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء. والمعنى الرابع: أنها للشك، بمعنى أن الناظر يشك في تشبيههم. المعنى الخامس: أنها للإباحة. المعنى السادس: أنها للتخيير: أي أبيح للناس أن يشبهوهم بكذا أو بكذا وَخُيِّروا في ذلك، والمعنى السابع: أنها بمعنى بل، وأنشدوا قول جرير: بَدَتْ مِثْلَ قرن الشمسِ في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العينِ أَمْلَحُ أي بل أنت. وهذه المعاني السبعة ذكرها السمين الحلبي في تفسيره (الدر المصون 1/ 167). وذكر المؤلف هنا معنيين فقط هما العطف والتخيير. (¬2) سورة الإنسان: 24. (¬3) هو شاعر زمانه جرير بن عطية الخطفي التميمي البصري، مدح يزيد بن معاوية وخلفاء بني أمية، وشعره مدوَّن. وعن بشار الأعمى قال: أهل الشام أجمعوا على جرير والفرزدق والأخطل النصراني. كان جرير عفيفًا منيبًا توفي سنة عشر ومائة. [سير أعلام النبلاء (4/ 590)؛ أبجد العلوم (3/ 75)]. (¬4) البيت للشاعر جرير كما في ديوانه (ص 205). (¬5) وقيل المحذوف مضافين وليس مضاف واحد، والتقدير: أو كمثلِ ذوي صَيِّبٍ، ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لأن المعنى على تشبههم بأصحاب الصيب لا بالصيب نفسه [الدر المصون 1/ 167].

كقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} (¬1) [أي: ذوو درجات] (¬2). وإنما سمي المطرُ صيبًا لأنه يَصُوبُ من نحو السماء. قال الشاعر (¬3): فَلستُ لإِنسيٍّ ولكن لِمَلاَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السماءِ يَصُوبُ وأصلُ الصيّب: صَيْوِب. عند الفرّاء (¬4): صَوِيْب (¬5). {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} ظلمة السحاب، والماء، والليل (¬6) {وَرَعْدٌ} صوتٌ يسمع عند المطر من مُصوِّت تسبيحًا لله تعالى {وَبَرْقٌ} نور يلمع من صفاء الماء في الهواء. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 163. (¬2) ما بين [...] ليست في (أ). (¬3) البيت للشاعر الجاهلي علقمة الفحل كما في طبقات الفحول (1/ 139)، وكما في الشعر والشعراء لابن قتيبة (117). (¬4) هو العلَّامة النحوي الإِمام المشهور يحيي بن زياد بن عبد الله الأسدي الكوفي، صاحب التصانيف، إمام العربية، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، ورد عن ثعلبة أنه قال: لولا الفراء لما كانت عربية، وقال ابن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة إلا الكسائي والفراء لكفى، وقال بعضهم: الفراء أمير المؤمنين في النحو، مات بطريق الحج سنة مائتين وله ثلاث وستون سنة، وقد خلف مصنفات مفيدة تزيد على ثلاثة آلاف ورقة، منها كتاب "معاني القرآن". [سير أعلام النبلاء (10/ 118)؛ الثقات (9/ 256)؛ تهذيب التهذيب (11/ 186)]. (¬5) اختُلف في وزن "صَيِّب": مذهب البصريين أنه "فَيْعِل" والأصل "صَيْوِب" فَأُدْغِمَ - أي بعد أن اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون قُلِبَتْ الواو ياء وأدغمت الياء في الياء- كمَيِّت وهَيِّن، والأصل: مَيْوِت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنه فعيل، والأصل: صويب بزنة طويل. قال أبو جعفر النحاس (إعراب القرآن 1/ 143) وهذا خطأ لأنه كان ينبغي أن يصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويل. ومثله قال أبو البقاء (الإملاء 1/ 22). (¬6) أخرج الطبري في تفسيره (1/ 367) بإسناد حسن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} أي: ظلمة ما هم فيه من الكفر، وهذا الذي رجحَه ابن جرير وابن كثير (1/ 73) وغيرهما وهو الأظهر في معنى الآية. ولا مانع بل لا تضارب بين التفسيرين تفسير الجرجاني، وما ذكرناه حيث شبه الله - عَزَّ وَجَلَّ - ظلمة السحاب وظلمة الماء وظلمة الليل بظلمة الكفر والنفاق.

وقيل: من نار {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} يُصيّرون بنانهم في العضو المختص بالسمع (¬1). والصّاعقةُ: صوتٌ فيه نارٌ لا تأتي على شيء إلا أحرقته. وقيل: اسمٌ للعذاب على أيّ وجه كان؛ لأن عادًا أهلكتْ بالريح وثمود بالرجفة ومع ذلك قال الله تعالى: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬2). المراد بالصواعق هاهنا: شدةُ الظُّلمة وشدّةُ صوت الرعد، وشدّةُ لمعان البرق، إذْ كلُّ واحدٍ منها هائلٌ (¬3). {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي لحذر الموت (¬4)، كقولك: زُرتُكَ طمعًا في برّك. وقال حاتم الطائى (¬5): وأغفرُ عوراءَ الكريم ادخارَهُ ... وأَعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيم تكرُّما أي: لادخاره وللتكرم. والموت: ذهابٌ للحياة. {مُحِيطٌ}: عالمٌ بأعمالهم، وهذا عارضٌ دَخَل في أثناء المَثَل {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} {كُلَّمَا}: ¬

_ (¬1) في هذه الآية {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} مجاز مرسل حيث عبر عن الأنامل بالأصابع، وهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء. (¬2) سورة فصلت: 13. (¬3) الصاعقة: قصفة ورعدة هائلة معها شقة نار، تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة إلا أنها مع حِدَّتها سريعة الخمود، وقيل: هي أجزاء لطيفة صاعدة بالدخان تذوب عند حدوث النار بإذن الله تعالى أنزله الله - عَزَّ وَجَلَّ - على من يشاء لتهلكه وهي من الصعق وهو الإهلاك، وقيل: هي شدة الصوت. وتاؤه إما للمبالغة كما في "راوية" أو مصدرية كما في "عافية" [انظر مقدمة المفسرين للبركوي 1/ 300 - الكشاف 1/ 42 - روح المعاني 1/ 172 - تفسير البيضاوي 1/ 33]. (¬4) يريد المؤلف أنه مفعول لأجله وهذا أحد الوجهين في إعراب الآية {حَذَرَ الْمَوْتِ} وعلى هذا التقدير يكون ناصبه {يَجْعَلُونَ} ولا يضر تعدد المفعول من أجله لأن الفعل يُعَلَّل بِعِلَلٍ. والوجه الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديرُهُ: يحذرون حذرًا مثل حذر الموت، والمصدر مضاف إلى المفعول المطلق. [الدر المصون 1/ 173 - الجدول في إعراب القرآن محمود صافي 1/ 65]. (¬5) يراجع ديوان حاتم الطائي (238).

ظرف زمان (¬1) ماضٍ في محل النصب، وعلّة الظرف إضمارُ في المعنى دون اللفظ كالاسم بنزع الخافض، وهو مبهم يحتاج إلى الصلة، وصلتُهُ {أَضَاءَ}، والعامل فيه {مَشَوْا} مضوا في الضوء {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: صاروا ذا ظلمة (¬2)، كقولك: ليلٌ مظلم وبيتٌ مظلم، وقوله تعالى: {قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} (¬3)، وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (¬4). أي: يَخلُصُون في الظلمة. وإنما قال: "عليهم" لأن وبال الظلمةِ راجعٌ إليهم. {يَكَادُ} فعلٌ ليس له مصدرٌ ولا اسمٌ، كادَ يَكادُ إذا أوهمَ أن يفعل ولَمَّا يفعل، قال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} (¬5) {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (¬6) {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬7) {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (¬8) إذا أوهم أن يفعل ثم فعل. وقيل: يكادُ يَغْرُبُ إلا أنه يستعمل بغير حرف "أن" بخلاف لفظ المقاربة والمداناة (¬9). {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يستلبُ ويختلسُ أَبصارَ المنافقين، نظيرُهُ: ¬

_ (¬1) قال البركوي في تفسيره (مقدمة المفسرين 1/ 303): "كل" منصوبة على الظرفية بالاتفاق، والعامل فيه جوابها "مشوا" و"ما" إما نكرة موصوفة بمعنى الوقت، والعائد محذوف أي: كل وقت أضاء لهم فيه، والجملة بعده في موضع جر على الصفة. ويجوز أن تكون "ما" مصدرية والجملة بعده صلة فلا محل لها، والتقدير: كل وَقْتِ إضاءة. اهـ. (¬2) أظهر التفاسير في تأويل قوله: {قَامُوا} ثبتوا على نفاقهم وضلالهم، وهذا ما ذهب إليه كل من الطبري (1/ 359) - والقرطبي (1/ 223) - والبغوي (1/ 38) - وأبو حيان (1/ 91) - وغيرهم. (¬3) سورة يونس: 27. (¬4) سورة يس: 37. (¬5) سورة مريم: 90. (¬6) سورة الزخرف: 52. (¬7) سورة البقرة: 71. (¬8) سورة النور: 40. (¬9) الأكثر في "كاد" أن تكون مجردة من "أَنْ" بخلاف الأندلسيين الذين جعلوا اقتران خبرها بـ "أَنْ" مخصوص بالشعر ومن الكثرة قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}. ومن القلة -أي اقترانه بـ "أنْ" - قوله عليه الصلاة والسلام: "ما كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ العصرَ حتى كادتِ الشمسُ أن تَغْرُبَ" وقول الشاعر [ينسب لمحمد بن مناذر يرثي عبد المجيد الثقفي]: =

{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} (¬1) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} معنى "لو" كمعنى الشرط (¬2)، وهو يكون في الماضي والمستقبل، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (¬3) وأكثر جوابها باللام (¬4). وعدم ما يليها من الفعل لعدم الفعل الذي هو جوابُهَا، والموجبُ مما يليها ومن حولها في اللفظ منفيّ في المعنى، والمنفيُّ في اللفظ موجبٌ في المعنى. والمشيئة: إرادة تشمل المكروهَ والمحبوبَ جميعًا (¬5) [{لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} إنما وحَّدَ السمعَ اكتفاءً بجمع المضاف إليه من جمع المضاف (¬6)، أو أراد ¬

_ = إنَّ عبدَ المجيد يَوْمَ توفِّي ... هَدَّ رُكْنًا ما كان بالمهدودِ كادتِ النفسُ أَنْ تفيضَ عليه ... إذ غَدَا حَشْوَ رَيْطَةٍ وبرودِ والأصل في خبر "كاد" أن يكون فعلًا مضارعًا وشذَّ مجيئه اسمًا صريحًا، ومنه قول تأبط شرًا: فَأُبْتُ إلى فهمٍ وما كِدْتُ آيبًا ... وكم مثلها فارقتها وهي تَصْفِرُ [الدر المصون 1/ 175 - شرح ابن عقيل 329/ 1]. (¬1) سورة النور: 43. (¬2) المعروف أن "لو" حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارة سيبويه (الكتاب 2/ 307). وقال غيره من النحويين: هي حرف امتناع لامتناع ورجح السمين الحلبي (الدر المصون 1/ 182) عبارة سيبويه على عبارة غيره، وكما قال المؤلف فإن "لو" من حروف الشرط فالمتعلق به يمتنع بامتناع الشرط كما تدل عليه هذه الآية. (¬3) سورة الرعد: 31. (¬4) ومنه قول الشاعر [ينسب لإسحاق بن حسان الخريمي]: ولو شئتُ أنْ أبكي دمًا لبكيتُهُ ... عليهِ، ولكن ساحةُ الصبرِ أوسع الشاهد قوله "لبكيته" حيث وقعت اللام في جواب "لو". (¬5) هذا يتنزل على الإرادة الكونية أي أنها تقع على ما يحبه الله ويكرهه، أما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله - عَزَّ وَجَلَّ - كالأحكام التي شرعها وأنزل بها كتبه. (¬6) قرأ ابن أبي عبلة {لأذهب بأسماعهم} فجمع المضاف والمضاف إليه [مقدمة المفسرين للبركوي 1/ 306] وهنا في هذه القراءة جمع بين أذهب والباء، وذكر ابن جرير الطبري في تفسيره أنهما لا يجتمعان كما هو معروف عند العرب فلا تقل: أذهب بسمعهم- لكن يجوز أن تجمع بين "ذهب" والباء كما في الآية الكريمة {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} ومنه قوله تعالى: {آتِنَا غَدَاءَنَا}. فإن قال قائل: لماذا وَحَّدَ السمع {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} وجمع الأبصار {وَأَبْصَارِهِمْ}؟ فالجواب عن ذلك ما قاله بعض الكوفيين: إنه وحد السمع لأنه عَنَى به المصدر =

الجنس، (¬1)، كقوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} (¬2) وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (¬3) {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4) كُلّ: اسمٌ يتناول آحاد الجماعة على سبيل الإفراد، يضاف إلى جماعة وواحدٍ مُنكَّر. والشيء: اسمٌ عامٌّ {قَدِيرٌ} قادرٌ (¬5). وتقديرُ مَثَل المنافقين من أصحاب الصيّب من حيث إِنَّ القرآن نازلٌ عليهم من نحو السماء كالصيّب، وفيه متشابهاتٌ ومحكماتٌ وبشارةٌ وإنذارٌ. كما أن في الصيب رعدًا وبرقًا. والمنافقون يكرهون ذلك ويُعرِضُون عنه ويكبر ذلك عليهم، وتارةً ينظرون إلى مبلغه نظر المغشيِّ عليه من الموت، كما أن أصحاب الصيب يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت. والقرآن يكادُ [يهديهم أو يكادُ يميتُهُم غيظًا كما أن البرق] (¬6) يكاد يخطف أبصار (¬7) ¬

_ = وقصد به الخَرْقَ، وجمع الأبصار لأنه عَنَى بها الأعين. وأجاب بعض نحاة البصرة بأن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى الجمع، واحتجوا في ذلك بقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي أطرافهم. وقوله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار. قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره (1/ 383): وإنما جاز ذلك عندي لأن في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع، فكان دلالته على المراد منه وأداءِ معنى الواحد من السمع عن معنى جماعةٍ، مغنيًا عن جِمَاعِهِ، ولو فُعِلَ بالبصر نظير الذي فُعِل بالسمع، أو فُعِل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد كان فصيحًا صحيحًا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر: كلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زماننا زمنٌ خَميصُ فوحَّدَ البطن والمراد به البطون لما وصفنا من العلة. اهـ (¬1) ما بين [...] ليست في (ب). (¬2) سورة الحاقة: 17. (¬3) سورة النور: 31. (¬4) ما بين [...] ليس في (ي) (ب). (¬5) قدير بمعنى قادر- فعيل بمعنى فاعل - مشتق من القدرة وهي القوة والاستطاعة وفعلها له ثلاثة عشر مصدرًا وهي: قدرة بتثليث القاف، ومقدرة بتثليث الدال، وَقَدْرًا وقَدَرًا وقُدَرًا وقَدارًا وقُدْرانًا ومَقْدِرًا ومَقْدَرًا، وقدير أبلغ من قادر- قاله الزجاج - وقيل هما بمعنىً واحد، قاله الهروي [الدر المصون- الحلبي 1/ 184]. (¬6) ما بين [...] ليست في (ن). (¬7) (أبصار) ليست في (ب).

أصحاب الصيب، وهم كلما رَأوْا دولةً أو طمعوا في بشارة قصدوا الإخلاص، وإذا حدثتْ نكبةٌ أو نزل تكليف بقوا متحيرين شاكين، كما أنّ أصحاب الصيب كلما أضاء لهم مَشَوْا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطابٌ للجميع (¬1) لأنه ذكر فيه النعمة العامة، وهي الخلق والرزق. وقيل: نزلت في المشركين بدليل قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} و"يا" حرف نداء، تقول: يا زيدُ، وأيُّ (¬2): اسمٌ مبهمٌ تقول: أعطِ أيّهم شئت. و"هاء": حرف التنبيه و {النَّاسُ} كالوصف لـ "أي" لأنك تقول: يا أيّها الفقيهُ، ولا تقولُ: يا أيّها زيدٌ. {اعْبُدُوا} وحِّدوا وأَخْلِصُوا وأطيعوا {الَّذِي خَلَقَكُمْ} ابتدأ خلقكم، وقيل: الخلق هو: الإيجاد مقدرًا، والواو في {وَالَّذِينَ} واو عطف و {مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3) لابتداء الغاية {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تتقوا مخالفة الخالق. وقال سيبويه (¬4): كلمة لعل: للرجاء والطمع (¬5). ¬

_ (¬1) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالناس في هذه الآية هم الكفار والمنافقون - أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 385) وابن أبي حاتم (1/ 59). (¬2) "أي" اسم منادى في محل نصب، وبني على الضم في هذه الآية لأنه مفرد معرفة، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة والتقدير: يا الذين هم الناس، ورجح السمين الحلبي الأول، والمرفوع بعدها صفة لها يلزم رفعه ولا يجوز نصبه على المحل خلافًا للمازني و"ها" زائدة للتنبيه لازمة لها والمشهور فتح هائِها. (¬3) انظر الكتاب لسيبويه (4/ 233). (¬4) إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي ثم البصري، لقب بسيبويه لأنه كان يحبّ شم التفاح ويكثر ذلك فلقَّبوه بسيبويه، وكنيته أبو الحسن، طلب الفقه والحديث مدة ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر، وألَّف فيها كتابه الكبير الذي لا يدرك شأوه فيه، قال العيشي: كنا نجلس مع سيبويه في المسجد وكان شابًا جميلًا نظيفًا قد تعلَّق من كل علم بسبب، وضرب بسهم في كل أدب مع حداثة سنِّه، مات سنة ثمانين ومائة ولم يتجاوز الأربعين من عمره. [سير أعلام النبلاء (8/ 351)؛ نزهة الألباب في الألقاب (1/ 382)؛ كشف الظنون (2/ 1426)؛ أبجد العلوم (3813)]. (¬5) (قبلكم) من (ب) فقط.

{الَّذِي} أي هو الذي، ويقال: اعبدوا ويقال الذي جَعَلَ صَنَع وخَلَقَ (¬1)، وقيل: صَيَّر {فِرَاشًا} بساطًا ووطاءً {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} سقفًا (¬2)، مأخوِذٌ من السمو، وأراد به السماء المعروفة ذات البروج المزينة بالكواكب {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} من السحاب مطرًا. والماء هو: الجسمُ اللطيفُ المُضادّ للنار بانحداره ورطوبته وبرودته. وهو في الأصل مَوَهٌ لأنّك تقول في الجمع والتصغير: أَمْواهٌ ومُوَيهٌ {فَأَخْرَجَ بِهِ} فأنبت وأبرز بالمطر من التراب من ألوان {الثَّمَرَاتِ} كما في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬3) {رِزْقًا} طعامًا {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: لا تَصِفُوا لله أمثالًا ونظراء (¬4). {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنهم مخلوقون ومرزوقون لواحد قديم (¬5). ¬

_ (¬1) الجعل هنا المراد به الخلق. ويطلق الخلق ويراد به معنيين، المعنى الأول: إبداع الشيء واختراعه، وهذه الصفة لا تكون إلا لله، والمعنى الثاني: التقدير وهذه الصفة تكون لله ولغير الله. قال زهير: وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي وقال العجاج: ما خلقتُ إلا فريتُ ولا وعدتُ إلا وَفَيْتُ. [الدر المصون 1/ 188 - ديوان زهير 94 - تفسير القرطبي 1/ 226 - البحر المحيط 1/ 93]. (¬2) ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32] وكل ما علا فأظل قيل له سماء. ويطلق السماء على المطر وذلك لنزوله من السماء، ومنه قول حسان بن ثابت: ديارٌ من بني الحسحاس قَفْرُ ... تُعَفِّيهَا الروامِسُ والسماءُ وقول معاوية بن مالك: إذا سقط السماءُ بأرض قومٍ ... رَعَيْنَاهُ وإن كانوا غِضَابَا [تفسير القرطبي 1/ 216]. (¬3) سورة الحج: 30. (¬4) الأنداد جمع نِدِّ، والنِّدُّ: العِدْلُ والمِثْلُ، ومنه قول حسان بن ثابت: أَتَهْجوْهُ وَلَسْتَ له بِنِدٍّ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُمَا الفِدَاءُ وهذا تفسير قتادة ومجاهد وصح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود - رضي الله عنه - وناس من أصحاب رسول الله في قوله: {أَنْدَادًا} أي أَكْفَاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله. (¬5) وصف الله أو صفاته أو أفعاله بالقِدم فيه تفصيل. فإن أرادوا بالقِدَم: الشيء البالي الذي عفا عليه الزمن فهذا منتف عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وان أرادوا بالقِدَم الأزلي الذي لا شيء =

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي [رَيْبٍ} كما قال] (¬1) ابن عباس: نزلت في اليهود (¬2)، وهي تحتمل العموم أيضًا (¬3). وفي ترتيب إثبات النُّبوة على إثبات التوحيد دليلٌ على أَنَّ الرسولَ يُعْرفُ مِن قِبَلِ الله تعالى، وأَنَّ وجوب (¬4) معرفة الله مقدم على وجوب معرفة الرسول. "إنْ" حرف شرط، والشرط قوله {كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ}. ثم هذا الشرط مُعَلّقٌ بشرط آخر في آخِرِ السورة (¬5) وهو قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وجوإبها قوله: {فَأْتُوا}، وهذا كمن قال لعبده: إنْ دخلت الدار فأنت حر إن قعدت فيها. {مِمَّا نَزَّلْنَا} يعني القرآن، والتنزيل والإنزال والإرسال: من علو إلى سَفَل (¬6) وفي قوله {نَزَّلْنَا} ضميرٌ ¬

_ = قبله فالله وصفاته وأفعاله كذلك. ثم إن الصفات قسمان: القسم الأول: صفات ذاتية كالحياة والعلم والقدرة والوجه واليدين ونحوها فهذه صفات قديمة أزلية لازمة. القسم الثاني: صفات فعلية: وهي التي تتعلق بمشيئة الله وحكمته فإن اقتضت حكمته فِعْلَهَا فَعَلَهَا وإن لا فلا، وهذا مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والكلام وغير ذلك، فهذا يكون قديم النوع أو الجنس. فلا يقال إن نزوله إلى السماء الدنيا، نزول قديم أزلي إذ إن هذه الصفة منتفية قبل خلق السماء الدنيا وكذلك يقال في الاستواء ولهذا يقال إن صفات الفعل يقال فيها إن نوعها أو جنسها قديم أما بالنسبة إلى كل فعل بذاته فلا، والله أعلم. [انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني - تعليق الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين المتوفى 1282 هجرية 1/ 112]. (¬1) ما بين [...] مطموس في (ي). (¬2) نقل هذا الآلوسي في روح المعاني (1/ 194). (¬3) احتمالها للعموم هو المتعين وهو الذي ذهب إليه ابن جرير في تفسيره (1/ 395) ولذا يقول ابن جرير رحمه الله: إن الخطاب موجه إلى قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشركي العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلَّالهم. (¬4) في جميع النسخ (وجود) ولعله سبق قلم. (¬5) وقيل إن قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط حذف جوابه وقدره بعض المفسرين بـ "فافعلوا ذلك" أي الإتيان، وهذا ما نص عليه السمين الحلبي والبيضاوي، لكن يعكر عليه القاعدة المشهورة من أنه إذا اجتمع شرطان وتوسط الجزاء بينهما يكون الأول قيدًا في الثاني، ويكون الجواب المذكور جوابًا عنه. [الفتوحات الإلهية 1/ 42]. (¬6) في (أ) (أسفل) والمثبت أصح.

محذوفٌ وتقديره: نزلناه (¬1) إلاَّ أن الضمير في صلة الاسم الناقص المبهم يجوز حذفه لدلالة الحال عليه، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬2) {عَلَى عَبْدِنَا} محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: {فَأْتُوا} تحذيرٌ وإعجاز (¬3)، كقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} (¬4) الآية. وحدُّ الإعجاز هو: الإتيان بناقض العادة الخارج عن طوق مَن هو مثل صاحب المعجزة في الخلقة، وذلك الشيء يزينه ولا يشينه، ويكونُ برهانًا على صحة دعوى النبوة. وإنما وقع التحدي هاهنا بنظمٍ عجيبٍ بديع تضمّن (¬5) معنى صحيحًا غير متناقضٍ ولا هزال فيسميه الفصحاء لطيبه وذوقه وبدو أحكامه: شعرًا أو سحرًا ولا يكون كذلك. ونظائره: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (¬6) وقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (¬7)، وقوله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} (¬8) الآية و {مِن} زائدة (¬9)، بدليل النظائر. ¬

_ (¬1) يجوز أن تكون "مِنْ" للسببية أو ابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، وعلى التقديرين يكون العائد محذوف التقدير- نزلناه - كما ذكره المؤلف. وأما "ما" فيجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة والعائد والصلة في كلا القولين محذوف يكون التقدير أيضًا - نزلناه -. وثمت نكتة بلاغية وهي في قوله: {نَزَّلْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم لأن قبله {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فلو جاء الكلام عليه لقيل: مما نَزَّل على عبده، ولكنه التفت للتفخيم و {عَلَى عَبْدِنَا} متعلق بـ {نَزَّلْنَا}. (¬2) سورة الفرقان: 41. (¬3) أي أنه أمر معناه التعجيز لأن الله علم عجزهم عنه، وقوله: {فَأْتُوا} أصلها "ائتوا" مقصور لأنه من باب المجيء قاله ابن كيسان فيما نقله عنه القرطبي في تفسيره (1/ 232). (¬4) سورة الرحمن: 33. (¬5) (تضمن) ليست في (أ). (¬6) سورة الطور: 34. (¬7) سورة هود: 13. (¬8) سورة الإسراء: 88. (¬9) في "مِنْ" أربعة أقوال: الأول: ما ذكره المؤلف من أنها زائدة وهو قول أبي البقاء العكبري (الإملاء 1/ 24) والأخفش. الثاني: أنها للتبعيض. والثالث: أنها للبيان وهو قول ابن عطية في تفسيره (1/ 194). والرابع: أنها لابتداء الغاية وبهذا تعود على {عَبْدِنَا} فيتعلق {مِنْ مِثْلِهِ} بأتوا.

والسورةُ: اسم لقطعة من القرآن تشتمل على آيات وَفِقَ عليها بتوقيف من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - مأخوذة من تسور البناء (¬1)، وقيل: من السُّؤْر في الإناء وهو القطعة الباقية منه، وهو بالهمز إلا أن لغَة النبي - صلى الله عليه وسلم - تركُ الهمز {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} استعينوا (¬2) بآلهتكم، وإنما سُمُّوا شهداءَ لزعمهم أنهم يشهدون ما قُدّر لهم من الخير والشر فيقدرون على تغييره أو يشهدونهم على احتياجهم إليهم فيتصرونهم، كقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} (¬3) على زعمهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أنّ القرآن ليس من عند اللهِ. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} شرط (¬4)، وجوابه {فَاتَّقُوا} وقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} عارضٌ دخل بين الشرط والجواب، و"لم": حرف نفي في الماضي جازم. و"لن": نفي المستقبل ناصب، معناه: إن لم تأتوا بمثله ولن تأتوا أبدًا ¬

_ (¬1) أي أن اشتقاقها من سور البناء لأنها تحيط بقارئها وتحفظه كسور المدينة. إلا أن سورة القرآن تجمع على سُوَر بفتح الواو، وسور البناء يجمع على سُوْر بسكون الواو فيفرق بينهما في الجمع. وقيل: إن "سورة" بمعنى الدرجة الرفيعة. ومنه قول النابغة: ألم تَرَ أَنَّ الله أعطاكَ سورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونَهَا يتذبذبُ فسورة القرآن ترفع صاحبها. وقيل: إنها مشتقة من السُّؤْر وهو البقية، ومنه قول الأعشى: فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا ... دِ صَدْعًا على نَأْيِها مُسْتَطِيرَا أي: أَبقت. ويدل على ذلك أن تميمًا وغيرها يهمزون فيقولون: سُؤْرة بالهمزة. [ديوان النابغة 78 - ديوان الأعشى 317 - تفسير القرطيي 1/ 105 - تفسير ابن عطية 1/ 80 - الدر المصون 1/ 201]. (¬2) قوله: {وَادْعُوا} بمعنى استعينوا واستنصروا بآلهتكم معروف في كلام العرب، ومنه قول الراعي النميري: فَلَمَّا التقتْ فرساننا ورِجَالُهُم ... دَعَوْا يا لكعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ أي: استعانوا بكعب واستنصروا به. (¬3) سورة النحل: 27. (¬4) "إنْ" الشرطية داخلة على جملة {لَمْ تَفْعَلُوا} و"تفعلوا" مجزوم بـ "لم"، كما تدخل "إن" الشرصية على فعل منفي بـ "لا" نحو"إن لا تفعلوه" فيكون "لم تفعلوا" في محل جزم بـ "إن" وجواب الشرط كيا قال المؤلف هو {فَاتَّقُوا} وتكون {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة معترضة بين الشرط وجزائه [الدر المصون 1/ 203].

{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي} تحذروا عنها بترك مُوجبها وهو الريب والتكذيب على ما سبق {وَقُودُهَا النَّاسُ} ولم يقل: الكفار لئلا يأمن العصاة من أهل الإيمان {وَالْحِجَارَةُ} حجارة الكبريت عن ابن عباس وابن مسعود (¬1) وابن جريج وغيرهم (¬2). وقوله {أُعِدَّتْ}، أي: هُيَّئَتْ وخُلِقتْ، دليلٌ على أنّها موجودةٌ مخلوقة (¬3). وإنما خصّ الكافرين لأنهم هم المخاطبون بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} لا أن النار تصيب المؤمن الفاسق كتخصيص المؤمنين بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ} (¬4) الآية. فلما ذكر مآل الكافرين أعقبه مقرَّ المؤمنين جميعًا بين الإنذار والتبشير على قضيّة قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5) الآية. فقال: {وَبَشِّرِ} أي: فرّح قلوب الذين آمنوا. والبشَارةُ: اسمٌ للخبر الذي يقع به التبشير وقد يُسْتعملُ فيما يسوء. قال الله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬6) وهو على ¬

_ (¬1) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، الإمام الحبر فقيه الأمة، أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري. كان من السابقين الأولين، شهد بدرًا وهاجر الهجرتين. مناقبه غزيرة، وروى علمًا كثيرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. توفي سنة اثنتين وثلاثين، وربما نسب إلى أمه فقيل: ابن أم عبد. قال ابن مسعود: كنَّاني النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي. [طبقات ابن سعد (3/ 106)؛ السير (1/ 461)؛ حلية الأولياء (1/ 124)؛ الاستيعاب (7/ 20)؛ تاريخ الإِسلام (2/ 24)؛ الإصابة (7/ 209)]. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 64) والطبراني في الكبير (9026) والحاكم (2/ 261) والبيهقي في البعث والنشور (503) والطبري في تفسيره (1/ 403). (¬3) ذهب بعض المعتزلة والخوارج إلى أن النار لم تخلق بعد، انظر الفصل لابن حزم (2/ 392). كما استدل كثير من أئمة أهل السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ووردت أحاديث كثيرة في ذلك كحديث: "تحاجت الجنة والنار" وحديث: "استأذنت النار ربها فقالت: أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم وغير ذلك من الأحاديث المتواترة المعنى. [تفسير ابن كثير 1/ 81]. (¬4) سورة الأعراف: 32. (¬5) سورة الكهف: 2. (¬6) سورة آل عمران: 21.

المجاز، كقوله: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} (¬1) وقيل: هو على الحقيقة لأن ما يسوء من الخبر مؤثر في بشرة الوجه أيضًا. {الصَّالِحَاتِ} الطاعات {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أي بساتين كثيرة الشجر، سُمِّي جنةً لاستتار بقاءه واجتنانها بالأشجار والأنوار (¬2). {تَجْرِي} تنسكب {مِنْ تَحْتِهَا} تحت شجرها {الْأَنْهَار} الأخدود الذي يجري فيه الماء. وإنما أُسند إلى الأنهار مجازًا (¬3)، كقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} وكما في قصة فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (¬4) {كُلَّمَا رُزِقُوا} أُطْعِمُوا من الجنة من ألوان الثمرات {رِزْقًا} طعامًا {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي من نوع ما رزقنا من قبل، كقولك لإنسان: إنَّ فلانًا أعدّ لك طبيخًا وشواءً، فتقول: هذا من طعامي في منزلي كلّ يومٍ، يريد نوعه لا عينه. ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 29. (¬2) الأصل في الجَنَّة: مأخوذة من الجنن، تقول: جَنَّ الشيء يَجُنُّهُ جَنًّا إذا ستره، وكل شيء سُتِرَ عنك فقد جُنَّ عنك، وجنه الليل إذا ستره، ومنه قول الهذلي: وماء وَرَدْتُ على جَفْنِهِ ... وقد جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ وبه سميت الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه، ومنه جَنّ الليل جنونه إذا استتر بظلمته، ومنه قول الهذلي: حتى يجيءُ وجنُّ الليلِ يوغلُه ... والشَّوْكُ في وَضَح الرِّجْلَيْنِ مَرْكُوزُ وتثلث الجيم فتحًا وضمًا وكسرًا. ففي الفتح (الجَنَّة) تطلق على جنة الآخرة التي أعدها الله لأوليائه الصالحين وفيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أطلقت في الدنيا على البستان قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. أما الضم (الجُنَّة) فتطلق على ما واراك من السلاح واستترت به منه وتجمع على جُنَن ومنه حديث الصدقة "كمثل رجلين عليهما جُنَّتَان من حديد". وأما الكسر (الجِنَّة) قال ابن سيده: الجِن: نوع من العالم سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار وتجمع على جِنَان قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] وقال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 6]. [لسان العرب (جنن) 21/ 387 - النهاية 1/ 307]. (¬3) إذا قيل بأن الأنهار اسم للماء الجاري فنسبةُ الجَرْي إليهِ حقيقة، وإن قيل بأنه اسم للأخدود الذي يجري فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجاز كقولَ مهلهل: نُبِّئْتُ أَنَّ النارَ بعدك أُوقِدَتْ ... واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ [الدر المصون 1/ 214 - تفسير ابن عطية 1/ 199 - الحماسة 1/ 455 - القرطبي1/ 239]. (¬4) سورة الزخرف: 51.

وعن ابن عباس وابن مسعود وقتادة (¬1) ومجاهد: {مِنْ قَبْلُ} أي: في الدنيا (¬2). وقال يحيي بن أبي كثير (¬3) (¬4): ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد كما كان (¬5) فلذلك يقول: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وارتفع {قَبْلُ} على الغاية (¬6)، كقوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬7)، وتفسير الغاية أنه ظرفٌ قُطِعَ عن الإضافة التي هي غايته، فصار كبعض الاسم في استحقاق البناء على الحركة لالتقاء الساكنين، وضُمَّت لأنها تُضَمُّ في حالة الإضافة ¬

_ (¬1) هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، أحد الأئمة الأعلام. ولد وهو أعمى، وعني بالعلم، فصار من حفاظ أهل زمانه وعلمائهم بالقرآن والفقه. مات بواسط سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ست وخمسين سنة. [مشاهير علماء الأمصار (1/ 96)؛ الثقات (5/ 321)؛ تهذيب التهذيب (8/ 315)؛ صفوة الصفوة (3/ 259)؛ تهذيب الأسماء (2/ 368)؛ سير أعلام النبلاء (5/ 269)]. (¬2) الطبري (1/ 388) عن ابن مسعود وقتادة، وابن أبي حاتم (256) وعبد بن حميد كما في الدر (1/ 38) عن علي بن زيد، وأما عن قتادة فتراه في الدر (1/ 38) لابن الأنباري في الأضداد. (¬3) هو الإِمام الحافظ أبو نصر يحيي بن أبي كثير الطائي اليمامي أحد الأعلام، واسم أبي كثير مختلف فيه، قيل: صالح، وقيل: يسار، وقيل: دينار، وقيل غير ذلك. قال أبو حاتم الرازي: يحيي إمام لا يروي إلا عن ثقة، قال أيوب السختياني: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيي بن أبي كثير، قال ابن حبان: كان من العباد، إذا حضر جنازة لم يتعشَّ تلك الليلة ولا يكلِّمه أحد، قال أحمد: هو من أثبت الناس، وقد نالته محنة، وضرب لكلامه في ولاة الجور. توفي سنة تسع وعشرين ومائة. [طبقات الحفاظ (1/ 58)؛ سير أعلام النبلاء (6/ 27)؛ تهذيب التهذيب (11/ 235)؛ صفوة الصفوة (4/ 75)]. (¬4) في المخطوطات (يحيى بن كثير) وهو خطأ. (¬5) لم أجده عن يحيي بن أبي كثير، ولكني وجدته مرفوعًا عن ثوبان، رواه الطبراني في الكبير (1449) وسنده ضعيف، وله شاهد عند الحاكم (8390) ضمن حديث طويل عن ثوبان. (¬6) في (ن) (كما الغاية) ومعنى الغاية في مصطلح الكوفيين تعني الظروف المقطوعة عن الإضافة، انظر "في مصطلح النحو الكوفي" (ص 60). ولما قطعت "قبلُ" عن الإضافة بُنِيَتْ على الضم، وإنما بنيت على الضم لأنها حركة لم تكن لها حال إعرابها. وقد قدر ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير 1/ 356) المضاف إليه بـ "من قبل هذه المرة" وهو يقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة. (¬7) سورة الروم: 4.

فكانت أدلَّ على البناء {وَأُتُوا بِهِ} بالرزق {مُتَشَابِهًا} متجانسًا، دون مشتبه، إذ الإنسان على الشيء المألوف أقدر، وإذا وجد فيه فصلَ لذةٍ كان أَسرَّ. {وَلَهُمْ} الواو للاستئناف {فِيهَا أَزْوَاجٌ} حواري، واسم الزوج يشمل على الذكر والأنثى (¬1) قال الله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}. {مُطَهَّرَةٌ} من الحيض والنفاس والأخلاق الردية والآفات. والوصفُ بالطهر أبلغ من الوصف بالحُسْن, لأن الحُسْنَ ربما يتضمن خُبثًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم وخضراء الدِّمن" (¬2). {خَالِدُونَ} دائمودن مقيمون، لا يموتون ولا يخرجون منها أبدًا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} نزلت في المنافقين. قال ابن عباس وابنُ مسعود: إن الله لما ضرب المثلين اللذين سبق ذكرهما، قالوا: إنَّ الله أعلى وأجلُّ من أن يضرِبَ هذه الأمثال، فأنزل الله الآية (¬3). وقال ¬

_ (¬1) الزوج يستعمل في الذكر والأنثى وشواهد ذلك كثيرة في القرآن، فإطلاقها على الأنثى قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ...} [النساء: 20] وقوله: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. ومن الثاني قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]. ثم استعملت التاء في الأنثى للتفريق بينها وبين الذكر فقيل (زوجة) لا سيما في علم الفرائض (المواريث) خاصة كما ورد في غير المواريث، ومنه حديث عمار بن ياسر في صحيح البخاري: "إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة" يعني عائشة - رضي الله عنها -. وفي حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها زوجتي" أخرجه مسلم في صحيحه. ومنه قول الفرزدق: وإنَّ الذي يسعى ليفسِدَ زوجتي ... كساعٍ إلى أُسدِ الشرى يَسْتَمِيْلُها وقول الشاعر: فبكى بناتي شجوهنَّ وزوجتي ... والظاعنون إلى ثم تصدعوا [مقدمة المفسرين للبركوي 1/ 344 - التحرير والتنوير 1/ 357]. (¬2) هذا الحديث رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث" (84)، والدارقطني في الأفراد، والخطيب في "تالي تلخيص المتشابه" (309)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (957)، ومداره على الواقدي، وقد حكم عليه الدارقطني وغيره أنه لا يصح من وجه. وتمام الحديث: قالوا: يا رسول الله: وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء في منبت السوء". (¬3) أما عن ابن مسعود فهو عند الطبري (1/ 423) وأما عن ابن عباس فعزاه السيوطي في الدر (1/ 41) للطبري وابن أبي حاتم، وعن ابن عباس عند الواحدي (ص 14)، وهي طريقة واهية لأنها من طريق الكلب ي، هكذا حكم ابن حجر عليه في العجاب (1/ 246).

الحسنُ (¬1) وقتادة ومقاتل (¬2) وغيرهم: إنّ الله تعالى ضَرَبَ للأوثان المَثَلَ بالذباب، وللكفار المثل بالعنكبوت، فقال المشركون: إنّ رب محمَّد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فأنْزَلَ اللهُ الآية (¬3). والاسْتحياءُ: امتناعٌ يقتضيه الكرم. وقد ورد وَصْفُهُ تعالى به. قال - عليه السلام - مخبرًا عن الله تعالى: "الشَّيْبُ نُوري وأَنا أستحي أنْ أحرقَ نوري بناري" (¬4). وقال ابن عباس: إن الله حيي كريم (¬5). والكرم هاهنا لا يقتضي الامتناع عن وصف ما اقتضت الحكمة إيجاده وتدبيره وحفظه. {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} {مَا} أصلية (¬6)، ¬

_ (¬1) الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد، وكانت أم الحسن مولاة لأم المؤمنين أم سلمة المخزومية حيث سبيت وهي حامل به، فولدته بالمدينة، وقيل: إن أم سلمة أرضعته، قال أبو سلمة التبوذكي: حفظت عن الحسن ثمانية آلاف مسألة. وقال قتادة: كان الحسن أعلم الناس بالحلال والحرام. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن. توفي سنة عشر ومائة. [تاريخ البخاري (2/ 289)؛ أخبار القضاة (2/ 3)؛ تاريخ الإِسلام (4/ 98)؛ البداية والنهاية (9/ 266)]. (¬2) هو مقاتل بن سليمان الأزدي البلخي أبو الحسن، نزيل مرو، صاحب التفسير، قال ابن أبي حاتم: صاحب التفسير والمناكير، أجمعوا على تركه، قال أبو حنيفة: أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه. وقال السعدي: كان دجالًا جسورًا، مات سنة خمسين ومائة، وقيل بعد ذلك. [تهذيب الأسماء (2/ 413)؛ سير أعلام النبلاء (7/ 201)؛ الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 136)؛ ميزان الاعتدال (6/ 505)؛ تهذيب الأسماء (2/ 413)]. (¬3) أما عن الحسن فقد ذكره ابن أبي حاتم كما في الدر (1/ 41) ولم أجده في المطبوع من سورة البقرة، وأما عن قتادة فرواه الطبري (1/ 399)، وابن أبي حاتم (273)، وعبد الرزاق (1/ 64). (¬4) الحديث رواه ابن عدي في الكامل (3/ 110)، والديلمي في مسند الفردوس (8039)، والحديث موضوع. (¬5) هذا الأثر عن ابن عباس ولفظه: "إن الله حيي كريم يكني عما يشاء" رواه الطبري (2/ 256). وذكره ابن حجر عن مسدد في تغليق التعليق وصحح سنده في الفتح (8/ 121). (¬6) وقيل: إن "ما" زائدة أو صفة للنكرة قبلها لتزداد النكرة شياعًا ومنه قول امرئ القيس: وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا ... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ وقال أبو البقاء العكبري (الإملاء 1/ 26): إن "ما" نكرة موصوفة ولم يجعل "بعوضة" =

كقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (¬1) {فَمَا فَوْقَهَا} أكبر منها مثل الذباب والعنكبوت، وقيل: من فوقها في الصغر، والفاء لإسقاط إلى (¬2) أو العطف {فَأَمَّا} يقتضي جوابًا بالفاء كالشرط ولا عمل له (¬3). قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} (¬4)، {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (¬5)، {أَنَّهُ الْحَقُّ} أن المثل واجبٌ كونُهُ ووجوده. {مَاذَا} أي شيء (¬6)، وقيل: ما الذي. و"ما": استفهام، و"ذا" إشارة ¬

_ = صفتها بل جعلها بدلًا منها. وخالفه في ذلك الفراء (معاني القرآن 21/ 1) والزجاج (معاني القرآن 1/ 70) وثعلب وقالوا: يحتاج أن يقدر صفة محذوفة ولا ضرورة إلى ذلك فكان الأوْلى أن يجعل "بعوضة" صفتها بمعنى أنه وصفها بالجنس المُنَكَّر لإبهامه فهي في معنى "قليل" وتكون "ما" وصفتُهَا حينئذٍ بدلًا من "مثلًا"، و"بعوضة" بدلًا من "ما" أو عطف بيان لها. ويتلخص مما سبق أن في "ما" ثلاثة أوجه: الأول: زائدة، والثاني: صفة لما قبلها، والثالث: نكرة موصوفة. [الدر المصون 1/ 223 - البحر المحيط 1/ 122 - معاني القرآن للزجاج 1/ 70]. (¬1) سورة آل عمران: 159. (¬2) ما ذهب إليه المؤلف من أن الفاء في قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} بمعنى "إلى" وأن تقدير "إلى ما فوقها" هو قول الكسائي والفراء وغيرهم من الكوفيين، وأنشدوا قول الشاعر: يا أحسنَ الناسِ ما قَرْنًا إلى قَدَمٍ ... ولا حبالَ مُحِبٍّ واصلٍ تَصِلُ أي: ما بين قرنٍ، وحكوا: "له عشرون ما ناقةً فَحَمْلًا". وذهب السمين الحلبي (الدر المصون 1/ 226) أن من قال إن الفاء بمعنى "إلى" قول مرجوح جدًا. (¬3) "أَمَّا" حرف ضُمِّنَ معنى اسم شرطٍ وفِعْله، كذا قدره سيبويه، وقال: "أَمَّا" بمنزلة مهما يَكُ مِنْ شيء. وفائدته في الكلام - كما قال الزمخشري- أن يعطيه فَضْلَ توكيد، وقال بعضهم: "أمَّا" حرف تفصيل لما أجمله المتكلم وادعاه المخاطب، ولا يليها إلا المبتدأ وتلزم الفاء في جوابها, ولا تحذف الفاء إلا مع قول ظاهر أو مقدر كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم: أكفرتم. [الدر المصون 1/ 227 - الكتاب 1/ 312]. (¬4) سورة الضحى: 9. (¬5) سورة فصلت: 17. (¬6) "ماذا" فيها ستة استعمالات في كلام العرب ذكر المؤلف منها ثلاثة استعمالات ورجح السمين الحلبي (الدر المصون 1/ 231) الأول والثاني منها. وأما الثلاثة الآخرى مما =

إلى المراد (¬1) {بِهَذَا} بذكر البعوضة والعنكبوت {مَثَلًا} انتصب على القطع، فكأنه قال: بهذا المثل، فلما قطعت الألف واللام انتصب، وعند البصريين انتصب على الحال (¬2)، كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} (¬3). قال الله: قل يا محمَّد {يُضِلُّ} يَخْذُلُ ويهلك {بِهِ} بالمثل والإضلال هو: الإيقاع في الضلالة (¬4) على وجه التمكين والتقوية والمدّ فيما يستلهوا به على قضية العلم والتقدير الأزلي، لا على معنى الإجبار والخداع {الْفَاسِقِينَ} الخارجين من الطاعة، قال الكلبي (¬5): عني به اليهود. ¬

_ = لم يذكره المؤلف فهي الرابع: أن يجعل "ماذا" بمنزلة الموصول تغليبًا لـ "ذا" على "ما" وهو قليل جدًا في كلام العرب ومنه قول سحيم بن وثيل: دَعِي مادا عَلِمْتِ سأتقيه ... ولكنْ بالمُغَيَّب نَبِّئِيني فماذا كلها بمعنى الذي لأن ما قبله لا يُعَلَّقُ. الخامس: ما ذكره أبو علي الفارسي من أن "ماذا" كلها نكرة موصوفة وأنشد "دعي ماذا علمتِ" أي: دعي شيئًا معلومًا. السادس: أن تكون "ما" استفهامًا و"ذا" زائدة، وهذا القول أضعف الأقوال لأن زيادة الأسماء ممنوعة أو قليلة جدًا. وأقرب الأقوال الستة هذه مما يمكن أن يتنزل على تفسير هذه الآية هو أن "ما" استفهامية و"ذا" بمعنى الذي، والقول الآخر من جعلها بمنزلة اسم واحد في محل نصب التقدير -أي شيء أراد الله- وهذه الجملة منصوبة بالقول. [مغني اللبيب ص 333 - الخزانة 2/ 554 - الدر المصون 1/ 230]. (¬1) في (أ): (المرء) وهو خطأ. (¬2) من قال إن {مَثَلًا} منصوب على القطع هو أحمد بن يحيي ثعلب، ومن قال إنه منصوب على الحال هو ابن كيسان ذكر ذلك أبو جعفر النحاس (إعراب القرآن 154/ 1). (¬3) سورة هود: 72. (¬4) في (ن): (الإيقاع والضلالة). (¬5) هو محمَّد بن السائب بن بشر الكلبي المفسر، وكان رأسًا في الأنساب إلا أنه شيعي متروك الحديث، قال زائدة وليث وسليمان التيمي: هو كذاب. وقال يحيي: ليس بشيء كذاب ساقط، وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، روى عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم يرَ ابن عباس ولا سمع منه، لا يحلّ الاحتجاج به. توفي سنة ست وأربعين ومائة. [الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 62)؛ سير أعلام النبلاء (6/ 248)؛ ميزان الاعتدال (6/ 159)؛ المجروحين (2/ 253)].

وأصل الفسق الخروج عن الشيء، يقال: فَسَقَتِ الرُّطبةُ من قشرها (¬1) إذا خرجت. ثم نعت الفاسقين (¬2)، فقال: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} ينكُثُون وصية الله وأمره، وهو ما أخذه اللهُ على النبيين ومَن اتبعهم أنْ لا يكفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويبيّنوا لغته وصفته، دليله قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} (¬3) الآية. والميثاق (¬4): اسمٌ لعقد من عقود الأحكام بالثقة والإحكام {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يعني الأرحام (¬5) {الْخَاسِرُونَ} المغبونون (¬6) في الآخرة. ¬

_ (¬1) في (أ): (قشورها). (¬2) الفسق: هو الخروج عن طاعة الله وعن طريق الحق. وقال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم كلمة فاسق. وليس كما قال فقد ورد في كلام العرب في الجاهلية والعرب تقول إذا خرجت الرُّطَبَةُ من قشرها "فسقت" وإذا خرجت الفأرة من جحرها إلى الناس "فويسقة" [لسان العرب (فسق) 1/ 262]. (¬3) سورة آل عمران: 81. (¬4) "الميثاق" هو العهد المؤكد باليمين على وزن مِفعال من الوثاقة والمعاهدة وهي الشدة في العقد والربط وتجمع على مواثيق، وأصل ميثاق مِوْثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها وقد تجمع على مياثق، ومنه ما أنشده ابن الأعرابي لعياض بن أم درة الطائي: حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإِذْنِنا ... ولا نسأل الأقوام عهدَ المياثِقِ وهناك معنيان في معنى الميثاق في الآية ذكرهما السمعاني في تفسيره (1/ 433) المعني الأول: أنه أراد نقض الميثاق الأول الذي أخذه على آدم وذريته بقوله {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] والمعنى الثاني: أراد به نقض الميثاق الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81]. وذكر هذين المعنيين البغوي في تفسيره (1/ 72) وابن عطية في تفسيره (1/ 209) والزجاج في معاني القرآن، إلا أن الطبري رجح أن هذه الآيات نزلت في كبار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان على شركهم من أهل النفاق الذين نقضوا عئهد الله وميثاقه الذي أخذه عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -[تفسير الطبري 1/ 438]. (¬5) وقد بيَّن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع آخر من كتابه أنها الأرحام فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22] وهو مروي عن قتادة رواه الطبري في تفسيره (1/ 441) بإسناد حسن. (¬6) في (أ) (ب): (المغبون).

{كَيْفَ} استفهام بمعنى الإنكار (¬1)، وفيه تبيينٌ أنّه موضعٌ للتعجب المتعجب حيث يكفرون بمن تولى إنْشاءَهُم وحفظهم وإفناءَهُم وإعادتهم من النشأة الآخرة. ويخالفون قضية اللبّ ويكابرون العقل {وَكُنْتُمْ} الواو فيه (¬2) للحال و"قد" فيه مضمر (¬3) {أَمْوَاتًا} ترابًا غير مُنْتَفعٍ به عن الضحاك (¬4) عن ابن عباس (¬5)، وقيل: أجسادًا لا روح فيها، يعني في الأرحام {فَأَحْيَاكُمْ} بنفخ الروح {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بنزع الروح وإذهاب الحياة. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعث بنفخ الروح {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عند البعث للمجازاة. [وقيل: ثُمَّ يحييكم وقت السؤال في القبر] (¬6) {ثُمَّ} حرف عطف على سبيل المهلة والتراخي. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} يدلُّ على أنَّ جميع ما في الأرض من أجساد مخلوق لله تعالى. ويدل على أنّ الأشياءَ على الإباحة في ¬

_ (¬1) "كيف" اسم استفهام يسأل به عن الأحوال وبني لتضمُّنِهِ معنى الهمزة وهي في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه، أي: في أَيِّ حالةٍ تكفرون، وعلى الحال عند الأخفش، أي: على أي حالٍ تكفرون والعامل فيها على القولين {تَكْفُرُونَ} وصاحب الحال الضمير في {تَكْفُرُونَ} والمقصود في معنى الاستفهام هذا هو التعجب والتوبيخ والإنكار. [فائدة بلاغية] وهو الانتقال من الغيبة في قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...} إلى الخطاب في قوله: {تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ}. [الدر المصون 1/ 237 - الإملاء 1/ 27 - الكتاب 2/ 44]. (¬2) (فيه) ليست في (أ). (¬3) الواو- كما قال المؤلف- واو الحال، وعلامتها أَنْ يصلح موضعها "إذْ" وجملة {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} في محل نصب على الحال، كما أنه لا بد من إضمار"قد" ليصبح وقوع الماضي حالًا. (¬4) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو محمَّد، وقيل: أبو القاسم، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، وكان ممن عني بعلم القرآن عناية شديدة، مع لزوم الورع، وكان معلم كتاب يعلِّم الصبيان فلا يأخذ منهم شيئًا، إنما يحتسب في تعليمهم، توفي سنة اثنتين- وقيل سنة خمس- ومائة. [سير أعلام النبلاء (3/ 598)؛ صفوة الصفوة (4/ 150)؛ مشاهير علماء الأمصار (1/ 194)؛ تهذيب التهذيب (4/ 397)]. (¬5) ابن أبي حاتم (301). (¬6) ما بين [...] من (ي).

الأصل (¬1)، ما لم يكن في تناوله إضرارٌ بخلق الله تعالى والتحريم ثبت بالشرع {ثُمَّ اسْتَوَى} عَمَد وقصد (¬2)، كما يقال: فرغ الأميرُ من بلد كذا واستوى إلى بلد كذا. وقال ابن عباس: صعد أمره (¬3) {السَّمَاءِ} لفظه لفظ الوحدان (¬4) ¬

_ (¬1) الأصل في الأشياء الحل والإباحة وإلى ذلك أشار شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في منظومته بقوله: والأصل في الأشياء حِلٌّ وامْنَع ... عبادةً إلا بإذن الشارعِ [المنظومة 102 بيت نشرت في مجلة الحكمة العدد الأول سنة 1414هـ]. وهناك أمر آخر في الآية وهو أن المراد بالخلق هو التقدير أي أن ما في الأرض جميعًا خلق بالفعل قبل السماء، ولكنه بين في موضع آخر أن المراد بخلقه قبل السماء هو تقديره وهذا معروف عند العرب أنها تسمي التقدير خلقًا ومنه قول زهير: وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي وذلك في قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية. (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 88): الاستواء هاهنا تضمّن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بـ "إلى". وذهب إمام المفسرين الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 457) إلى أن الاستواء في هذه الآية معناه: العلو والارتفاع، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في تفسير الاستواء. ثم رد على من أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب والذي يدل عليه معنى الآية {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الذي هو به معنى العلو والارتفاع هربًا عند نفسه من أنْ يلزمه بزعمه أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: أزعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} أقبل، أفكان مدبرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها عُلوَّ ملكٍ وسلطانٍ لا علوَّ انتقالٍ وزوال. اهـ. وانظر تفسير البغوي (1/ 59) والقواعد المثلى لابن عثيمين رحمه الله (ص 52). (¬3) الفراء في "معاني القرآن" (1/ 25). وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (872) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وذكره الطبري في تفسيره (1/ 232). (¬4) قوله تعالى {فَسَوَّاهُنَّ} يدل على أن المراد بـ "السماء" الجمع فأخرج مكنيّهن مخرج مَكْنِيِّ الجمع. وواحدها سماوة - كما قال ابن جرير - فهي مثل بقرة وبقر ونخلة ونخل وما أشبه ذلك. ولذلك أنثت السماء مرة، فقيل: هذه سماء. وَذُكِّرَت أخرى فقيل {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدِه غير دخول الهاء وخروجها فيقال هذا بقرٌ، وهذه بقرٌ. وهذا نخلٌ وهذه نخل. اهـ[ابن جرير في تفسيره 1/ 458].

ومعناه معنى الجمع فجمع (¬1) ما بعد في المعنى، ويجوز أن يكون واحدًا يراد به الجنس، كما يقال: أكثر الدراهم والدنانير في أيدي الناس، ويجوز أنه أراد بالجمع نواصيها، كما يقال: ثوب أخلاق، ويحتمل أنه كنى عما لم (¬2) يسبق ذكرهُ، كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}. وفي الآية (¬3) دليلٌ أنّ خلق الأرض وما فيها من الجماد مُقَدَّمٌ على تسوية السماوات، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله خلق الأرض (¬4) يوم الأحد والاثنين وخلقَ الجبالَ يومَ الثلاثاءِ، وخلق يوم الأربعاء الشجرَ والماءَ والعمرانَ والخرابَ، وخلق يوم الخميس السَّماءَ وخلق يوم الجمعة النجومَ والشمسَ والملائكة وآدم - عليه السلام -" (¬5). ¬

_ (¬1) (فجمع) ليست في (أ). (¬2) (لم) ليست في (ب). (¬3) كتب في هامش النسخة (ي): (خلق الأرض قبل السماء) ا. هـ (¬4) في (ب): (السماوات والأرض) وهذا خطأ. (¬5) الحديث أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 94) (26/ 179)، وفي التاريخ (1/ 38)، وأبو الشيخ في العظمة (8784)، والحاكم في المسندرك (3997) واستغربه ابن كثير في تفسيره (4/ 95). كما أن هذا الحديث الذي ذكره المؤلف مخالف لما أخرجه مسلم في صحيحه (رقم 2789 - صفات المنافقين- باب ابتداء الخلق وخلق آدم) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: "خلق الله، - عَزَّ وَجَلَّ -، التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم - عليهم السلام - بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" ووجه الخلاف بين الحديث الذي ذكره المؤلف مع حديث مسلم أن خلق الجبال في حديث المؤلف كان يوم الثلاثاء بينما في حديث مسلم كان يوم الأحد، وفي حديث المؤلف أن خلق الشجر يوم الأربعاء بينما في حديث مسلم كان خلق الشجر يوم الاثنين. ولا شك أن حديث أبي هريرة في صحيح مسلم مقدم على ما ذكره المؤلف مع أن بعض النقاد تكلم في متن حديث مسلم. وقد بسط القول على الرد في ذلك الدكتور أحمد بن عبد الله الزهراني وأوضح أن هذا الحديث لا يخالف القرآن الكريم [تفسير ابن أبي حاتم 1/ 268].

وأما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} (¬1) لا ينقض هذه الآية، يجوز أنه بسطها بعد ما كانت ربوةً مجتمعة الأجزاء مضمنة الأشياء. وقال مجاهد (¬2): بَعْدَ ذلك دحاها، أي: مع ذلك، كقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} (¬3) {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (¬4). وقيل: ثم لا تقتضي تأخر خلقِ السماء عن خلق الأرض لأنها تقتضي التراخي في الإخبار لا في المخبر عنها، كقوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} - عليه السلام -. {عَلِيمٌ} (¬5): عالم بخلقهن، وغير ذلك. والعلم: رؤيةٌ تنفي الجهالة. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} نزلت في خُزَّان الجنان وهم ملائكةٌ خلقوا من نار السَّموم، وكان إبليس معهم، وكانوا يُسَمَّونَ الجن، وهذا في رواية الضحاك والسُّدي عن ابن عباس (¬6)، وأحدهما يزيد على الآخر. ويحتمل في شأن جميع الملائكة. واذكر {وَإِذْ قَالَ} وابتدأ خلقكم إذ قال والألف واللام في {الْمَلَائِكَةِ} للجنس. وعن ابن عباس: للمعهود, لأن ذكر هؤلاء كان متقدمًا في الكتب المتقدمة. وواحد الملائكة: ملك، وفي الأصل: مَلأك مقلوب من مَالَك، فقلبت الهمزة استخفافًا (¬7)، فقيل: ملك. مأخوذٌ من ¬

_ (¬1) سورة النازعات: 30. (¬2) ذكره السيوطي في الدر (6/ 313) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬3) سورة القلم: 13. (¬4) سورة التحريم: 4. (¬5) (عليم) ليست في النسخ. (¬6) الطبري (1/ 455) عن ابن عباس. (¬7) مَلْأَك: تجمع على ملائكة. غير أن التي بغير الهمزة أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمزة فيقولون "مَلك" بحذف الهمزة، ويحركون اللام التي كانت مُسَكَّنَة لو همز الاسم وإنما يحركونها بالفتح لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف =

المألُكة، أي: الرسالة (¬1). وقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} دليلٌ على أن ثبوت صفاتِ الفعل قبل المفاعيل. {خَلِيفَةً} آدم وذريته. والهاء للمبالغة والتأكيد. وهذا اسمٌ لِمنْ يخلُفُ الغير ويقومُ مقامه فيما أُسندَ إليه. وآدمُ خَلَفَ الملائكة في اتخاذ الأرض مسكنًا (¬2). {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} أتخلفُ (¬3) فيها. والألف: ألف الإيجاب (¬4)، كما ¬

_ = الساكن قبلها، فإذا جمعوا واحدهم رَدُّوه في الجمع إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة. وهذا هو الكثير في كلام العرب وربما ألحقوا الهمزة وهو قليل في كلام العرب ومنه قول الشاعر [قيل هو مَنسوب لعلقمة بن عبدة وقيل لمتمم بن نويرة وقيل غير ذلك،: فَلَسْتُ بجنِّيِّ ولكنْ ملأَكًا ... تَحَدَّر من جو السماءِ يصوبُ [تفسير الطبري 1/ 472 - اللسان (أل ك- ل أك) - شرح أشعار الهذليين 1/ 222]. (¬1) مَألُكَة بمعنى الرسالة معروف في كلام العرب ومنه قول لبيد: وغلامٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِألَوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ وقول عدي بن زيد: أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَني مَألُكًا ... أَنَّهُ قد طال حَبْسِي وانتظاري [ديوان لبيد ص 178 - ديوان عدي بن زيد ص 93 - إملاء العكبري 1/ 27 - الخصائص 3/ 275]. (¬2) اختلف المفسرون واللغويون في سبب تسمية خليفة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الله لما خلق الأرض أسكنها الجن ولما خلق السماء أسكنها الملائكة ثم لما خلق آدم أزعج الجن إلى أطراف الأرض فهو خليفة الجن في الأرض [ذكر هذا القول ابن كثير في تفسيره 1/ 101 - والبغوي في تفسيره 1/ 45 - والرازي 1/ 165 وغيرهم]. القول الثاني: أنه سمي خليفة لأنه يخلفه غيره فيكون مكانه [ذكر هذا القول البغوي في تفسيره 1/ 45 - والشوكاني 1/ 62 وغيرهما]. القول الثالث: أنه سمي خليفة لأنه خليفة الله في الأرض لإقامة أحكامه وحدوده [ذكر هذا القول البغوي في تفسيره 1/ 45 والقرطبي 1/ 140 والخازن 1/ 45 وغيرهم]. والقول الثالث هو الذي رجحه البغوي وتبعه الخازن والرازي والسمعاني وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -. وهو المتعين إن شاء الله. (¬3) في (ب): (أتخلق) بالقاف، وسواء كان بالقاف أو الفاء فالمعنى صحيح لكن معنى الفاء - أتحلف - أقرب لأن الكلام المتقدم ينصب على ذكر الخليفة. (¬4) اختلف المفسرون والنحويون في توجيه الهمزة في هذه الآية، القول الأول: =

قال جرير (¬1): ألسْتُم خَيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العالمين بطون راحِ (¬2) واستخبارهم على وجه الاستسلام (¬3) والتعرف دون الإنكار، كأنهم قالوا: يا ربّ إنْ كان هذا ظنَّنَا (¬4) فعرّفنا وجه الحكمة فيه، وإنما علموا الفساد وسفك الدماء بإخبار الله تعالى في رواية السُّدي (¬5) وبالقياس على الحال في رواية الضحاك. [وقيل أنَّ إبليس كان منهم في الخلقة ومِنَ الملائكة] (¬6) في الرتبة، فسلّطه اللهُ بمَنْ معه من الملائكة عليهم حتى أفسدوا وسفكوا الدماء، فأجلوهم (¬7) إلى الجَزائر والخراب في الأرض. {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يَصُبُّ. {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نبرئك من السوء ونصلِّي لك. وقيل: نعبدك بالتحميد أو نسبحك مع حمدك. وقيل: نسبحك بتوفيقِك المستوجب حمدك. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} نطهِّر أنفسنا أو الأرض لك (¬8). أو لابتغاء ¬

_ = أنها للاستفهام على بابها. القول الثاني: وهو قول الزمخشري أنها للتعجب. القول الثالث: أنها للتقرير والإيجاب وهو قول المؤلف مستشهدًا ببيت جرير في ذلك. القول الرابع: أنها للاسترشاد وهو قول أبي البقاء في الإملاء (1/ 28) واستحسنه البركوي في تفسيره (1/ 393). (¬1) انظر ديوان جرير (ص: 74). (¬2) في (أ): (روح) وهو خطأ. (¬3) في (ب): (الاستفهام) وهو خطأ. (¬4) في (ن): (طيننا). (¬5) الطبري (1/ 459). (¬6) ما بين [...] ليست في (أ). (¬7) في (أ): (فأحلوهما). (¬8) التقديس بمعنى التطهير معروف في كلام العرب ومنه قولهم: أرض مقدسة - أي مطهرة - ومنه ما جاء فيما يقال في الركوع: سبوح قدوس - أي تنزيهًا لله وطهارة له. وقيل: التقديس هنا المراد به الصلاة، وتقديس الملائكة لربها صلاتها له وهو مروي عن قتادة ولا منافاة بين المعنيين بين من قال إن التقديس التطهير أو الصلاة لأن الصلاة تطهير من أدران الكفر. [تفسير الطبري 1/ 506 - ابن كثير 1/ 103 - ابن أبي حاتم 1/ 79].

مرضاتك. وفي قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} زجرٌ لهم عن السؤال. ودلالة أنّ المعلوم مقَدَّرٌ كائن لا محالة. {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} ألهم ووفّق لا أنه أخبر ولقَّن لأنّه لو لقَّنهُ لما كان له مزيةٌ على الملائكة. و {آدَمَ}: مشتقٌّ من أديم الأرض أو أدمة اللون (¬1). {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال ابن عباس: أسماء جميع المخلوقات حتى القَصْعَة والسُّكْرُجَة (¬2)، وعن الربيع بن أنس (¬3): [أسماء الملائكة (¬4)، وعن ابن زيد] (¬5): أسماء ذريته (¬6). وقيل: أسماء آحاد الجنس دون المشتركة ¬

_ (¬1) في (آدم) خمسة أقوال أرجحها والله أعلم: أنه اسم أعجمي غير مشتق ووزنه فاعل ويمنع من الصرف للعلمية والعجمة. القول الثاني: أنه مشتق من الأُدْمَة وهي حُمْرَة تميل إلى السواد. القول الثالث: أنه مشتق من أديم الأرض، وعلى القولين الأخيرين يمنع من الصرف للوزن والعلمية. القول الرابع: أنه عِبْري من الإدام وهو التراب. القول الخامس: أنه في الأصل فعل رباعي مثل: أَكرم وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جهته. وعند التحقيق يتبين لنا أن ادعاء الاشتقاق فيه بعيد, لأن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ولا تصريف مع أن الجواليقي وغيره صرح بأنه عربي. [الطبري 1/ 482 - السمين الحلبي- الدر المصون 1/ 262 - روح المعاني 1/ 356]. (¬2) الأثر بهذا اللفظ لم أجده، ولكن قريبًا منه عند ابن جرير (1/ 485)، وابن أبي حاتم (337)، وعزاه في الدر (1/ 49) لابن المنذر. والسُكَرُّجَة: هي الصحيفة التي يؤكل بها وهي كلمة فارسية وجاء في الحديث: "لا آكل في سُكرجَة" [اللسان (سكرج) 6/ 207]. (¬3) هو الربيع بن أنس البكري، ويقال: الحنفي البصري ثم الخراساني، صدوق له أوهام، ورُمي بالتشيع، روى عن أنس بن مالك وأبي العالية، وعنه الثوري وابن المبارك، كان عالم مرو في زمانه، قال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن أبي داود: سجن بمرو ثلاثين سنة، قال الذهبي: سجنه أبو مسلم تسعة أعوام، وتحيل ابن المبارك حتى دخل إليه فسمع منه، يقال أنه توفي سنة تسع وثلاثين ومائة؛ وحديثه في السنن الأربعة. [تقريب التهذيب (205)؛ تهذيب التهذيب (3/ 207)؛ سير أعلام النبلاء (6/ 169، 170)]. (¬4) ابن جرير (1/ 485). (¬5) ما بين [...] ليست في (ب). (¬6) ابن جرير (1/ 485).

والمبهمة والمضمرة وأسماء الإشارة. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يعني أصحاب الأسماء، ولم يقل: عرضها لتغليب العقلاء كالعالمين. وفي الآية دليلٌ أَنّ أسماءَ الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها بحال، إذ لو انتفى لما قُدِرَ على تعيين المسميات في الأشخاص. ودليلٌ على أَنَّ المعدوم لا ينطلق عليه اسم الشىِء حقيقة لاستحالة عَرض المعدوم. ودليلٌ (¬1) على فضل النطق والعلم. {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أخبروني {صَادِقِينَ} في مقالتكم، والصدق هو: الخبرُ الحقُّ. {قَالُوا سُبْحَانَكَ} قالت الملائكة عند التحدي: أنزهك! و"سبحان": مصدر حقيقي عند أهل الكوفة (¬2)، كالغفران والحمران (¬3) ولذلك انتصب، وعند البصريين كالمصدر وهو في محل خفض. {لَا عِلْمَ لَنَا} بأسماء هؤلاء {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} استثناء منقطعٌ (¬4)، معناه ¬

_ (¬1) (ودليلٌ) ليست في (أ). (¬2) {سُبْحَانَكَ} هو منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه أي أنه مصدر كغفران منصوبًا بإضمار فعله. وقال الكسائي: هو منصوب لأنه لم يوصف ومنصوب على أنه نداء مضاف وهو من الأسماء اللازمة للإضافة وقد يفرد. وهناك فائدة معنوية في {سُبْحَانَكَ} وتصدير الكلام بها اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جُعِلَ مفتاح التوبة ومنه قول نبي الله موسى - عليه السلام -: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وقال نبي الله يونس - عليه السلام -: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. [الكتاب 1/ 438 - إعراب القرآن للنحاس 1/ 160 - تفسير القرطبي 1/ 287 - الفتوحات الإلهية- الجمل 1/ 58]. (¬3) لعلها (الحرمان). (¬4) ذهب أبو حيان - كما في تفسيره البحر المحيط 1/ 148 - إلى أن من قال بالاستثناء المنقطع في قوله {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} فيه نوع من التكلف وهو أن يكون الاستثناء المنقطع بمعنى لكن وتكون {مَا} شرطية و {عَلَّمْتَنَا} ناصب لها وهو في محل جزم بها والجواب محذوف والتقدير لكن ما علمتنا علمناه. وهناك أجوبة أخرى في هذا الاستثناء الذي ينصب على الأداة "ما" هل هي موصولة أو مصدرية أو هي في محل رفع على البدل من اسم لا على الموضع على خلاف في ذلك وكل له وجهه.

لكن ما علمتنا فذلك عَلِمْنَاهُ، وقيل: استثناء متصل، تقديره لا علم لنا إلا العلم الذي علمتنا. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بعواقب الأمور {الْحَكِيمُ} المحققُ المتقنُ في صنعه البعيد عن الهزل والخسائس. {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} هذا وحي من الله إليه، وفيه دلالة على بعثه بالنبوة إلى الملائكة كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي} (¬1)، وقوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)} (¬2) ويدل عليه قبل الزلة والتوبة عنها سبقُ التحدي والإعجاز له، وسبق العهد إليه بغير واسطة حيث قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} (¬3)، وإنّ زلَّته لم تقع في نبوته، كما لم يقدح في نبوّة نوح سؤاله عما ليس له به (¬4) علم وفي نبوة موسى سؤاله الرؤية (¬5)، وفي نبوة داود ما خطر بقلبه وفتن (¬6)، وفي نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذْنُ القاعدين عن الجهاد فعفا الله عنه (¬7)، وإذ ثبتت نبوته إليهم كانت أعظم دليل على فضله على الملائكة (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الحجر: 49. (¬2) سورة الحجر: 51. (¬3) سورة طه: 115. (¬4) كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [هود: 45, 46]. (¬5) كما في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: 143]. (¬6) كما في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ...} [ص:24 , 25] (¬7) كما في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43]. (¬8) ذكر البغوي في تفسيره (1/ 47) وغيره عشرة أدلة في تفضيل الأنبياء على الملائكة، وفي الجملة يمكن أن يقال إن الجزم في هذه المسألة من الأمور الصعبة جدًا حيث يفتقد فيها النص القاطع من آية أو حديث يُعَيِّن التفاضل بين الجنسين جنس الأنبياء وجنس الملائكة، ولذا توقف الإِمام أبو حنيفة وغيره عن ذلك وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة وأما الأشاعرة فعلى قولين، وذهبت الشيعة إلى أن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة. ويعجبني ما ذكره العلامة ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة =

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أي: قلت لكم، كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬1). فإن قيل: ثَمَّ: متى قال لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [قلنا هذا الإطناب في إيجاز قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2) {غَيْبَ السَّمَاوَاتِ} مكنوناتها. {مَا تُبْدُونَ} تظهرون. {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: تُخْفُون وتُسرّون. وإنما لم يقل: ما كنتم تبدون وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} لأنه أراد إبداءهم العجز في الحال. وكتمانُهُم من قبلُ: كراهة الخليفة وحبّ المكثِ في الدنيا على وجه الأرض. وقيل: أراد به كتمان إبليس من قبل عزم العصيان والطغيان والإنكار على ربه، وقد يُسْنَدُ فعلُ الواحد إلى الجماعة مجازًا، كقوله: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (¬3). {وَإِذْ قُلْنَا} واو استئناف أو لعطف قصة على قصة (¬4). و"إذْ" صلة ¬

_ = الطحاوية (ص 338) حيث قال ما نصه: "وكنت ترددتُ في الكلام على هذه المسألة، لقلة ثمرتها، وأنها قريب مما لا يعني، و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" [أخرجه مالك في الموطأ 2/ 470 - وأحمد في مسنده 1737 عن علي بن الحسين مرفوعًا وصححه العلامة الألباني رحمه الله في المشكاة 3/ 1361] فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين وليس علينا أن نعتقد أي الطرفين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصًا، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وفي الصحيح: "إن الله فرض فرائض فلا نضيعوها .... وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا والحالة هذه أولى. اهـ. (¬1) سورة الأعراف: 172. (¬2) ما بين [...] ليست في (أ). (¬3) سورة يوسف: 70. (¬4) ذهب إمام المفسرين ابن جرير الطبري (1/ 535) إلى أن الواو واو العطف فهي معطوفة على قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} و"إذ" ظرف منصوب بإضمار (اذكر) كما ذهب إليه الفراء ونقله عنه البركوي في تفسيره (1/ 408) أي واذكر إذ قال ربك. وهذا معروف لدى النحويين وهو أن الظرف والجار والمجرور لا بد له من متعلق إما مذكورًا أو محذوفًا وجاء في نظم الجُمَل: =

على قول أبي عبيدة (¬1) (¬2)، وظرفٌ على قول غيره. والسجودُ: ميلُ القامة إلى الأرض. قال حُمَيْد (¬3) (¬4): فُضُولَ أَزمَّتها أَسجَدت ... سجود النصارى لأربابها وفي الشرع عبارة عن: وضع الجبهة على الأرض تواضعًا لله تعالى وخضوع بين يديه. منهىٌّ عنه لغير الله، وكان غير منهيٍّ عنه في القديم تحيةً للانبياء أو بعضهم- عليهم السلام - كما في قصة آدم وقصة يُوسُف {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (¬5). {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} قيل: استثناء منقطع لأن إبليسَ لم يكن مِنَ الملائكة (¬6) ¬

_ = لابد للجار من التعلقِ ... بفعل أومعناه نحو مرتقي نكتة بلاغية: وهي الالتفات من الغيبة إلى التكلم. (¬1) أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي مولاهم البصري النحوي صاحب التصانيف، ولد سنة عشر ومائة، قال ابن قتيبة: كان الغريب وأيام العرب أغلب عليه، وكان يبغض العرب وألَّف في مثالبهم كتبًا، وكان يرى رأي الخوارج. توفي سنة تسع ومائتين. قال الذهبي: كان من بحور العلم، ومع ذلك فلم يكن بالماهر بكتاب الله ولا العارف بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا البصير بالفقه، وله نظر في المنطق والفلسفة. [تاريخ خليفة (19 - 20)؛ تاريخ بغداد (13/ 252)؛ معجم الأدباء (9/ 154)؛ السير (9/ 445)؛ وفيات الاْعيان (5/ 235)]. (¬2) أبو عبيدة معمر بن المثنى، وقوله في "مجاز القرآن" (1/ 36). (¬3) حميد بن ثور بن حزن بن عمرو الهلالي أبو المثنى. ذكره الحافظ ابن حجر في الصحابة، وأنه حين أسلم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصبح قلبي من سُلَيْمَى مُقْصِدًا ... إن خطأ منها وإن تَعَمَّدا حتى أتيتُ المصطفى محمدًا ... يتلو من الله كتابًا مُرْشِدا وساق ابن شاهين الأبيات كلها. وكان أحد الشعراء الفصحاء، وعاش إلى خلافة عثمان. [الإصابة (2/ 289)]. (¬4) انظر ديوان حميد بن ثور الهلالي (96) وفي هذا البيت يصف مجموعة من النساء ومعناه: لما ارتحلن ولوين فضول أَزِمَّةِ جمالهنَّ على معاصمهنَّ أسجدت لهنَّ. (¬5) سورة يوسف: 100. (¬6) الأصل أن إبليس من الجن بصريح دلالة هذه الآية {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ولذا صح عن الحسن البصري فيما ذكره ابن كثير وصحح إسناده (1/ 140) =

لقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ} (¬1) ولأنه مخلوقٌ من النار وله نسلٌ وذريةٌ. ومتصلٌ على قول آخرين (¬2)، لقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فلو لم يكن منهم لم يتوجَّه عليه الخطابُ، ولو لم يتوجَّه عليه الخطابُ لما لزمه الذمُّ والنكيرُ، ولَمَا كان أبيًا أمر ربِّه. وإنما قال: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} لأنه كان من خُزّان الجنان فاشتق لهم اسمٌ من الجَنَّة. وأما الذريةُ فقد حصلت له بعد المسخ، ويجوز تناسلُ الممسوخ عند أكثر الناس. وهو إفعيل من أبْلَيسَ، أي: يَئِسَ من رحمة الله، وقيل: إنّه اسمٌ أعجمي لذلك لا ينصرف (¬3). {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} امتنع وتعظم في نفسه {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حين عزم (¬4) ¬

_ = قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. ولذا فصَّل ابن عباس - رضي الله عنهما - في أصل إبليس فقال: "كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ... " الأثر بطوله وفيه غرابة كما قال بعض أهل الحديث، والكلام يطول جدًا في هذه المسألة وعند التحقيق يتعين كون إبليس ليس من جنس الملائكة وأنه مخلوق من نار السموم بصريح الآية على عكس الملائكة التي خلقت من نور، وبهذا كما قال المؤلف يكون الاستثناء منقطعًا وهو الذي رجحه ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير 1/ 423). (¬1) سورة الكهف: 50. (¬2) وهو الذي رجحه السمين الحلبي في تفسيره "الدر المصون 1/ 273) واحتج الحلبي بأن الملائكة قد يسمون جنًا لاجتنانهم - أي اختفائهم، ومنه قول الأعشى: وَسَخَّرَ من جِنِّ الملائكة تسعةً ... قيامًا لديه يعملون بلا أَجرِ وقال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] أي الملائكة. (¬3) هذا هو الصحيح - أنه اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وهذا مذهب عامة المفسرين والنحويين كابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 544) والزجاج في معاني القرآن (1/ 114) وأبي جعفر النحاس في إعراب القرآن (1/ 162) والسمين الحلبي في الدر المصون (1/ 274) وغيرهم. وزعم أبو عبيدة فيما نقله عنه أبو جعفر النحاس (1/ 162) أنه عربي مشتق من أَبْلَسَ إلا أنه لم ينصرف لأنه لا نظير له أي أنه مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله والبعد عنها، ومنه قول الشاعر [ينسب للعجاج]: يا صاحِ هل تعرِفُ رسمًا مُكْرَسًا ... قال نَعَمْ أعرفه وأَبْلَسَا ووزنه عند هؤلاء إفْعِيل. (¬4) في (أ): (عظم) وهو خطأ.

على العصيان والطغيان والإنكار على ربه. وقيل: صار من الكافرين. وقيل: إنه لم يزل في رتبة الكافرين لمقت الله عينه. {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} نداءٌ مفرد مبنيٌّ على الضم لمشابهته قبلُ وبعد {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي: انزلها واتخذها مَسْكنًا وأقمْ بها، كقوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} (¬1)، {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} (¬2) وحقيقة السُّكون: ما يضاد الحركة (¬3). و {أَنْتَ} للتأكيد، كقوله: اذهب أنتَ وأخوك، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬4) وإنما اقتضى هذا التوكيد عطف الظاهرِ المرفوع على الضمير المرفوع في الفعل، إذ ليس يجوز ذلك عند البصريين إلَّا بالتأكيد بضمير مرفوع منفصل، أو بنوع فاصل، كقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (¬5) ولم يقل: وآباؤنا. {وَزَوْجُكَ} حواء، سُميت حواء (¬6) لأنها خُلِقَتْ من شيء حي (¬7). وسُمّيَت جنّةُ الثواب جنَّةً لأنها أُخفيتْ أو لأن الغالب فيها الجنان والأشجار، فدخلت الأقضية في الاسم تبعًا {رَغَدًا} واسعًا من النِّعم التي [لا تقدير] (¬8) فيه {حَيْثُ} اسمُ ظرف يُطلق على الزمان والمكان (¬9)، وهاهنا للمكان، تقديره من حيثُ شئتما الأكلَ منه. وبُنيَ على الضم لتضمُّنِهِ معنى الجمع ولإبهامه وتعريته عن الاستفهام كـ: نحن بخلاف: أَيْنَ وَكَيْفَ. {وَلَا ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 104، والآية وردت في جميع النسخ بشكل خاطئ. (¬2) سورة الأعراف: 161. (¬3) وسكن بمعنى أقام معروف في كلام العرب، ومنه قول كثير عزة: وإن كان لا سعدى أَطَالتْ سُكُونَهُ ... ولا أَهْلُ سُعْدَى آخِرَ الدَّهْرِ نَازِلُهْ [اللسان (سكن)]. (¬4) سورة المؤمنون: 28. (¬5) سورة الأنعام: 148. (¬6) (حواء) من (أ). (¬7) وقيل: سميت حواء لأن في شفتيها كانت حُوَّة: أي حُمْرَة [اللسان (حوا): 14/ 207]. (¬8) ما بين [...] ليس في (ب). (¬9) وهي للمكان اتفاقًا كما قال ابن هشام (مغني اللبيب 1/ 151) وقال الأخفش: وقد ترد للزمان.

تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} وهي شجرة السنبلة عن ابن عباس وأبي مالك (¬1) وعطية (¬2) ووهب وقتادة (¬3). وشجرة العنب عن ابن مسعود والسُّدي وجَعْدة بن هبيرة (¬4)، هاحدى الروايات عن ابن عباس (¬5). وشجرة العلم عن الكلبي (¬6)، يعني: علم الخير والشر (¬7) {فَتَكُونَا} نصبٌ على جواب النهي بالفاء، ويجوز ¬

_ (¬1) أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي الكوفي، وهو من مشايخ الثوري وأبي عوانة وحفص بن غياث وغيرهم من الأئمة الكبار. روى عن بعض الصحابة مثل أنس بن مالك وربعي بن حراش وابن أبي أوفى وغيرهم. [التاريخ الكبير (4/ 58)؛ الجرح والتعديل (4/ 86)؛ تهذيب التهذيب (2/ 8)؛ السير (6/ 184)]. (¬2) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الكوفي، أبو الحسن، من مشاهير التابعين، ضعيف الحديث، كان شيعيًا مدلسًا. مات سنة إحدى عشرة ومائة. [سير أعلام النبلاء (5/ 325)؛ تهذيب التهذيب (7/ 200)؛ تقريب التهذيب (393)]. (¬3) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (1/ 520)، وابن أبي حاتم (377)، وعزاه في الدر (1/ 52) لأبي الشيخ وابن عساكر، وأما عن أبي مالك فرواه ابن جرير (1/ 229)، وعزاه في الدر (1/ 53) لعبد بن حميد ووكيع وأبي الشيخ وأما عن عطية العوفي فابن أبي حاتم (1/ 86) بدون سند، وأما عن وهب بن منبه فرواه ابن جرير (1/ 231)، وابن أبي حاتم (1/ 86) بدون سند، وأما عن قتادة فلم أجده. (¬4) جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، نزيل الكوفة. ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلف في صحبته. وقال البخاري: له صحبة وأمه أم هانئ بنت أبي طالب. وقال الحافظ ابن حجر: له رؤية بلا منازع، فإن أباه قتل كافرًا يوم الفتح. وقال أبو داود: لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا. [الإصابة (2/ 84)؛ التاريخ الكبير للبخاري (2/ 239)؛ تهذيب الكمال (4/ 563)؛ معجم الصحابة للبغوي (1/ 489)]. (¬5) أما عن ابن مسعود فأخرجه ابن جرير (1/ 231)؛ وأما عن السدي فذكره ابن أبي حاتم (1/ 86) بدون سند، وأما عن جعدة بن هبيرة فرواه ابن جرير (1/ 231) وابن أبي حاتم (1/ 86) بدون سند، وعزاه صاحب الدر (1/ 53) لوكيع وابن سعد وأبي الشيخ. وأما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (1/ 231)، وابن أبي حاتم (376) وعزاه صاحب الدر (1/ 53) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬6) لم أجده عن الكلبي لكن ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 66) وعزاه لابن عباس. (¬7) والتحقيق في هذه المسألة - أي تعيين نوع الشجرة التي نهي آدم عن الأكل منها - هو ما رجحه الإمامُ الطبري في تفسيره (1/ 233) حيث قال: الصواب في ذلك أن يقال: =

أن يكون جزمًا على العطف (¬1) على قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}. وإنما اقتضى النهي جوابًا مع استعماله نفسه، وكذلك الأمر لوجوب الجزاء عند ارتكاب النهي والائتمار بالأمر فصار أمرُ (¬2) هذا الوجه كالشرط وإنما لم يقل: ظَالِمَيْن لوفق رؤوس الآي. والظُّلم: العدول عن الصواب. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} أوقعهما في الزلل وحملهما عليه. وقُرئَ {فأزالهما الشيطان} (¬3)، أي: نَحَّاهما. و {الشَّيْطَانُ} هنا هو إبليس لعنه الله {عَنْهَا} عن الوصية على القراءة الأولى، وعن الجنة على القراءة الأخرى (¬4) {فَأَخْرَجَهُمَا} خَلّى المكان عنهما, ولم يكن إبليسُ قادرًا على الإخراج، ولكن لَمَّا حصل خروجهما بسبب وسوستِهِ أسْند إليه، كما يقال: نفع الدواء وقتل السُّم. {مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم {وَقُلْنَا} واو العطف {اهْبِطُوا} انزلوا. والهبوط ضد الصعود {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} خطاب لآدم وحواء والحية وإبليس وطاووس (¬5)، ¬

_ = إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجتهُ عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها, ولا علم عندنا أيّ شجرة كانت على التعيين, لأن الله لم يضع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة, فأنى يأتي ذلك من أتى؟! وجائز أن تكون واحدة منها - أي مما ذكره المفسرون تعيينًا لها - وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به. اهـ (¬1) ظاهر كلام المؤلف أن الفاء هي التي نصبته والأظهر أن الناصب له هو أَنْ مضمرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب النهي. وما ذهب إليه المؤلف هو مذهب الجرمي -أي أن الناصب لها هو الفاء-، والثاني- النصب بأن مضمرة - هو مذهب البصريين. وذهب بعض النحويين إلى الجزم - جزم تكونا - عطفًا على "تقربا" ومنه قول الشاعر [قيل لعمرو بن عمار الطائي وقيل لامرئ القيس]: فقلت له: صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيُدْرِكَ مِنْ أُخرى القطاةِ فَتَزْلَقِ [تفسير حدائق الروح للهرري 1/ 317 - الدر المصون 1/ 286 - إعراب القرآن للدرويش 1/ 91 - تفسير الطبري 1/ 522 - الكتاب 1/ 364]. (¬2) في (ي) (ب): (الأمن) وهو خطأ. (¬3) هي قراءة حمزة كما في النشر لابن الجزري (2/ 211). (¬4) في (أ): (الأولى) وهو خطأ. (¬5) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قال: آدم وحواء وإبليس والحية. ورجح الزمخشري بأن الخطاب لآدم وحواء وجمع =

لأن حية دخلت بإبليس في الجنّة، وهي كانت تخدم آدم وحواء في الجنة ولها قوائمُ وصورة حسنةٌ. ورُوي أنّ إبليس طلب الوصول إلى آدم من خُزَّان الجنة فَأَبوا عليه إلا الطاووس فإنه دلّه إلى الحية، فأتاها وطلب منها الدخول فمكّنتْهُ حتى اختفى (¬1) في لحييها فدخلت به إليهما, ولم يشعر به سائر الخزنة فمسخ الله الحيّة وسلب قوائمها وجعل أكلَهَا التراب وأخرجها والطاووس من الجنّة وقال للجميع: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. وقيل: خطابٌ لآدم وحواء ومَنْ في صلبه، كقولك لإنسان: كأني بك وقد تزوجت ووُلِدَ أولادٌ وكَثُرتُم، إذن فيدخل أولاده في الخطاب ولم يكونوا بعد. ثمّ إنّ أكلَ آدم إنما كان طمعًا في القرب من الله تعالى كالبقاء في جواره أو القدرة على عبادة الله كملائكة الله. وكان ذلك عند غلبة الحرص وزوال التمالك، قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬2). فإن قيل: هل يجوزُ أن يعتقد نبيٌّ بأن (¬3) الله تعالى نهاه عما فيه صلاحُهُ؟ قلنا: يجوز بأن يعتقد بأن الله نهاه عما فيه صلاحٌ من وجه وفسادٌ من وجه آخر، كقتل موسى القبطيَّ حيث صار سببًا لملاقاته شعيبًا ومفارقته فرعون، وكشُرْبِ أبي طيبة الحجّام (¬4) دم (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - صار سببًا لحرمة جسمه (¬6) على ¬

_ = الضمير لأنهما أصلا الجنس، فكأنهما الجنس كله، ويدل له قوله تعالى في سورة طه: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] وهو اختيار الفراء، وأما الطاووس الذي ذكره المؤلف فلم أجد له أصلًا والله أعلم. [تفسير القرطبي 1/ 218 - تفسير ابن أبي حاتم 1/ 89 - روح المعاني 1/ 236]. (¬1) في (أ): (اختبأ). (¬2) سورة طه: 115. (¬3) (بأن) ليست في (ب). (¬4) أبو طَيْبة الحجام الأنصاري مولى بني حارثة، قيل اسمه دينار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة، ورد في الصحيحين من حديث أنس وجابر - رضي الله عنهما - أنه كان يحجم النبي -صلى الله عليه وسلم-. [البخاري (4/ 458)؛ مسلم (4/ 1730)؛ الاستغناء لابن عبد البر (1/ 198)؛ أسد الغابة (6/ 183)]. (¬5) في (أ): (دون) بدل (دم) وهو خطأ. (¬6) (جسمه) ليست في (ن).

النار (¬1)، والله تعالى قال: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬2) فكذلك ظَنَّ آدمُ- عليه السلام - نوعَ صلاح في المنهي عنه بغرور إبليس عليه اللعنة من غير أن ظن المحال بالله (¬3). {عَدُوٌّ} مُبْغِضٌ (¬4) {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} موضع قرار واستقرار. {وَمَتَاعٌ} منفعةٌ وهو: اسم لما يتمتع وينتفع به من حياة أو ملبوسٍ أو مطعومٍ أو مشروبٍ أو غير ذلك. {إِلَى حِينٍ} منتهى الآجال وقيام الساعة، وإنما ذكر ذلك لينبههم بالتوقيت على زوال الدنيا فلا يركنوا إليها. {فَتَلَقَّى} تلقى وأخذ وأصاب، وفي اللغة قريبٌ من الاستقبال (¬5)، نهى - عليه السلام - عن تلقي الرُّكبان (¬6)، أي: عن استقبالهم. واختلفوا في الكلمات: ¬

_ (¬1) لم أجد رواية صريحة بأنه شرب دم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكني وجدت عند ابن حبان في المجروحين (3/ 59) رواية عن غلام من قريش حجم النبي وشرب دمه وذكر ذلك للنبي فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "أحرزت نفسك من النار" وهذا حديث موضوع كذا حكم عليه ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 42 - 43). وهناك رواية أخرى عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - أنه فعل ذلك فقال له النبي: "لا تمسك النار" رواه الدارقطني في السنن (1/ 228) وعزاها ابن حجر للطبراني وفيها ضعف بسبب علي بن مجاهد، انظر تلخيص الحبير (1/ 42 - 43) ووجدت رواية عند أبي نعيم (1/ 330) عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فعل ذلك وهي ضعيفة كذلك. (¬2) سورة البقرة: 219. (¬3) في (أ): (من غير ظن أن المحال). (¬4) الأصل أن كلمة "عدو" خلاف الصديق - أي اهبطوا حال كونكم متعادين، يبغي بعضكم على بعض بتضليله فهي حال من فاعل اهبطوا استغني عن الواو بالضمير. وأُفْرِدَ لفظ "عدو" وإن كان المراد به جمعًا لوجهين: الأول: قيل إما باعتبار لفظ "بعض" فإنه مفرد. الثاني: أن "عدو" أشبه بالمصادر في الوزن كقبول ونحوه. وقد صرح أبو البقاء بأن بعضهم جعل عدوًا مصدرًا. [الإملاء 1/ 193 - الدر المصون 1/ 290 - حدائق الروح والريحان للهرري 1/ 322]. (¬5) ما ذكره المؤلف في معنى كلمة "تلقى" من باب اختلاف التنوع في التفسير وهذا يتكرر في مواضع عدة من هذا الكتاب. وقال إمام المفسرين الطبري: أصل التلقي من اللقاء كما يتلقى الرجل الرجل يستقبله، فمعنى "تلقى" كأنه استقبله فتلقاه بالقبول، حين أوحى إليه، أو أخبره به. اهـ [تفسير الطبري 1/ 242]. (¬6) البخاري (2149)، ومسلم (3/ 1515 - 1521) من حديث أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم.

فعن ابن عباس والسُّدي وأبي العالية (¬1) وقتادة: [أَن آدَمَ] (¬2) قال: يا رب، أَلَم تخلقني بيدك؟ قال الله تعالى: بلى، قال: يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. قال: ألم تُسْكني جنتك؟ قال: بلى، قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تُبْتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، وهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (¬3). وعن عُبيد بن عمير (¬4) [أن آدم قال] (¬5): يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيءٌ كتبته عليّ قبل أن تخلقني أم شيء ابتدعُتُه من قِبَلِ نفسي؟ فقال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: بل شيء كتبتُهُ عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفر لي (¬6). ¬

_ (¬1) رفيع بن مهران، أبو العالية، الإمام الحافظ المفسِّر، كان مولى لامرأة من بني رياح بن يربوع، أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شاب. وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق ودخل عليه وسمع من كثير من الصحابة وحفظ القرآن وقرأه على أبي بن كعب، وتصدَّر للعلم وكثر قاصدوه. توفي سنة ثلاث وتسعين. [طبقات ابن سعد (7/ 112)؛ تاريخ الإسلام (3/ 319)؛ العبر (1/ 108)؛ شذرات الذهب (1/ 102)؛ السير (4/ 207)]. (¬2) ما بين [...] ليس في (أ). (¬3) أما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فرواه أبن أبي حاتم (1/ 407)، وابن جرير (1/ 542)، وعزاه في الدر (1/ 58) للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "التوبة" وابن المنذر وابن مردويه وفي سنده ضعف وانقطاع، ورواه الحاكم (2/ 545) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وهو بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن كما قال ابن كثير. (¬4) هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، قاص أهل مكة في زمانه، من كبار التابعين، وكان بليغًا فصيحًا، كان ابن عمر يجلس إليه ويقول: لله درُّ أبي قتادة ماذا يأتي به، ويروى عن مجاهد أنه قال: نفخر على التابعين بأربعة فذكره منهم، ومن أقواله الجميلة المأئورة: إنْ أعْظَمَكُم هذا الليل أن تُكابدوه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، جبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ -. توفي في سنة أربع وسبعين، وقيل أنه توفي قبل ابن عمر بأيام يسيرة. [سير أعلام النبلاء (4/ 156)؛ طبقات الحفاظ (1/ 22)؛ تهذيب التهذيب (7/ 65)؛ صفوة الصفوة (2/ 207)؛ الإصابة (5/ 60)]. (¬5) سقطت من الأصل وأثبتت من: سير أعلام النبلاء (4/ 156). (¬6) ابن أبي حاتم (1/ 409)، وعزاه في الدر (1/ 59) لوكيع وعبد بن حميد وأبي الشيخ في العظمة، ولم يعزه لابن أبي حاتم.

وعن الحسن وقتادة وابن زيد أنها قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية (¬1). وعن مجاهد: هي قوله: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رَبِّ إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي فإنك أنت خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فارحمني فإنك أنت خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمتُ نفسي فَتُبْ عليَّ إنك أنت التَّواب الرحيم" (¬2). قيل: هي قوله حين عطس فَحَمِدَ: يرحمك ربّك. وقيل: هي قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} الآية. وقيل: إنها قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} الآية. وقيل: إنها قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. وقيل: إنها جميع ما ذكرنا. {فَتَابَ عَلَيْهِ} قَبِلَ توبته، والتَّواب: العود والرجوع، وإنما لم يقل "عليهما" لأَنَّ آدمَ (¬3) استغفرَ لنفسه ولحواء فإذا ثبت استجابة دعوته ثبت غفران حواء. و {التَّوَّابُ} كثير المراجعة إلى قبول توبة التائبين (¬4). {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا} كرر الهبوط لأن الأول كان مِنَ الجنة إلى السماء فيما يروى، ¬

_ (¬1) أما عن الحسن فذكره ابن أبي حاتم بدون سند (1/ 91)، وعزاه في الدر (1/ 59) لعبد بن حميد، وأما عن قتادة فرواه عبد الرزّاق في تفسيره (1/ 67)، وابن أبي حاتم بدون سند (1/ 91)، وعزاه في الدر (1/ 59) لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب، ولم أجده عن ابن زيد بهذا اللفظ وإنما بلفظ آخر. (¬2) الطبري (1/ 542)، ابن أبي حاتم (411)، وعزاه في الدر (1/ 59)، لعبد بن حميد عن عبد الله بن زيد. (¬3) في (أ): (لآدم). (¬4) قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: المبالغة في التواب أي أنه الكثير القبول لتوبة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي وهو تذييل لقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} المؤذن بتقدم تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده التوبة وهو كناية عن قبول التائبين. اهـ [التحرير والتنوير 1/ 439].

والثاني من السماء للأرض (¬1)، وقيل: لتبين الحال التي يقع عليها الهبوط، هذا الهبوط على أنّ من {تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. والهبوط الأول على عداوة بعضهم لبعض، فلما كان لهم حالتان عند الهبوط، ذكر الهبوط مرتين، كقولك: اذْهَبْ إلى فلان سريعًا وقُلْ له كذا وكذا، اذهب مخفيًا. وقيل: للتوكيد. وقيل: لأنه خطابٌ خاصٌّ يعقبه قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} وهو خطاب لهما، والمراد: ذريتهما. ودخولُ النون في الشرط للتأكيد ولمراعاة اللفظ لأن حرف "ما" يُشْبه حروف القسم لأنّ لَهُ حظًا في القسم بدليل: أنّه يُجابُ به عن القسم فَيُقال: والله ما قام زيدٌ. وقيل: الجزاء إذا جاء في الفعل معهما النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها "ما" للتأكيد. وفتحت الياء لالتقاء الساكنين عند سيبويه وعند غيره كاسمين رُكّبا مثل: خمسة عشر (¬2). {مِنِّي هُدًى} كتابٌ ورسولٌ. وقيل: وحيٌ وشريعة. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك البغوي (1/ 51) والقرطبي (1/ 327) وابن الجوزي (1/ 70) وعلق الخازن في تفسيره (1/ 51) على الهبوط الثاني وضعَّفه فقال: وفيه ضعف لأنه قال في الهبوط الأول {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} فدل على أنه كان من الجنة إلى الأرض، والأصح أنه للتأكيد. اهـ. (¬2) "إمّا" أصلها: إن الشرطية زيدَتْ عليها "ما" تأكيدًا، والفعل بعدها {يَأْتِيَنَّكُمْ} مبني على الفتح - على القول الراجح - لأنها باشرت الأداة وبني على الفتح طلبًا للخفَّة. وذهب الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد "إن" الشرطية المؤكدة بـ "ما" يجب تأكيده بالنون، ولذلك لم يأت التنزيل إلا عليه، وذهب سيبويه إلى أنه جائز لا واجب لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكد، فكثرةُ مجيئه غير مؤكد يدل على عدم الوجوب، ومن ذلك قول الشنفرى: فَإِمَّا تَرَيْنِي كابنةِ الرَّمْلِ ضاحيًا ... على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ وقول سلمى بن ربيعة أو علباء بن أرقم: زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خُلَّتِي وذهب المهدوي وتبعه ابن عطية إلى أن "ما" هي إنْ التي للشرط زيدت عليها "ما" ليصِحَّ دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت "ما" لم تدخل النون، و"ما" تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. اهـ. [معاني القرآن للزجاج 1/ 86 - الكتاب 2/ 152 - الأصمعيات ص 161 - أمالي الشجري 2/ 69 - تفسير ابن عطية 1/ 247].

قال القُتَبي (¬1): في التوراة أنزل الله على آدم عليه السلام تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة، هو أوّل كتاب كان في الدنيا حذا الله عليه الألسنة كلها {فَمَنْ تَبِعَ} شرطٌ ثاني جوابه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِم} فصارت الجملة جزاء للشرط الأول. وتَبع وأَتْبَع بمعنى {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلهم من العذاب. وقيل: إذا ذُبح الموت. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بالدوام على ما خَلَّفُوا من أهوال الدُّنيا، وقيلَ: إذا طُبقت النار، ويقال: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أن يحشروا (¬2) يوم القيامة في طاعة الله. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يوم تكون وجوهُهُم مُسْتقرةً ضَاحكةً مُسْتَبشرة. والحزنُ نقيضُ السُّرور. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} جمع بين الكفر والتكذيب للتأكيد {بِآيَاتِنَا} بمحمد والقرآن. ثم ذكر منَّتهُ علي بني إسرائيل. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} يا أولاد يعقوب (¬3)، يعني بني قريظة والنضير (¬4) وسُمّي ¬

_ (¬1) العلاَّمة الكبير صاحب الفنون أبو محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، صاحب التصانيف المشهورة والكتب المعروفة، منها: غريب القرآن، وغريب الحديث، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وأدب الكتاب، وعيون الأخبار، وغير ذلك. سكن بغداد وروى فيها كتبه إلى حين وفاته، مات في شهر رجب سنة ست وسبعين ومائتين، قال الخطيب: كان ثقة دينًا فاضلًا. [تاريخ بغداد) (10/ 170)؛ سير أعلام النبلاء (13/ 296)؛ ميزان الاعتدال (4/ 198)]. (¬2) في (ن): (يخشوا). (¬3) هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قال ابن الجوزي: وليس في الأنبياء من له اسمان غير نبي الله يعقوب والذي يسمى إسرائيل إلا نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فله أسماء كثيرة. لكن الخليل بن أحمد الفراهيدي ذكر خمسة من الأنبياء ذوي اسمين وهم: محمَّد وأحمد نبينا عليه السلام، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذا النون، وإلياس وذا الكفل، صلى الله عليهم جميعًا وسلم. وإسرائيل اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة وفيه سبع لغات. قال ابن عباس: "إسرا" بالعبرانية هو عبد و"إيل" هو الله. وكون السورة مدنية فإن الخطاب موجه ليهود المدينة وهم بنو قريظة وبنو النضير، فالله - عَزَّ وَجَلَّ - يذكرهم بنعمته على أسلافهم من بني إسرائيل في عهد فرعون فذكر مجموعة من هذه النِّعَم. [القرطبي 1/ 226 - حدائق الروح والريحان للهرري 1/ 349]. (¬4) في (ن): ليست فيها (النضير).

إسرائيل لأنه كان أساسًا للأسباط (¬1)، ومَنْ بعدهم إلى عيسى عليه السلام و"أسرا" بالعبرانية هو الأساس و"إيل" اسم الله. وكذلك إيلوهيم، يعنون أساسُ الله تعالى تشريفًا له وتعظيمًا، كبيت الله وناقة الله. ثم لم يكن في لغة العرب ضمةٌ مشبعةٌ معجمة فَنَحوْا فيها نحو الألف، كما قالوا مكان (¬2): أشمويل، إسماعيل. {اذْكُرُوا}: اشكروا واحفظوا، أي كونوا ذاكرين شاكرين ولا تتركوا طاعتي. والذِّكر: ما يضاد النسيان وقد يكون ضد السكوت. وظاهر (¬3) الأمر يقتضي الوجوب لجواز انتفاء لفظ الأمر عن غير الواجب لفظ افعل. وإن احتمل عشر معانٍ من الإيجاب، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬4). والإرشاد، كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬5). والإباحة، كقوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬6). والإعجاز، كقوله: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (¬7). والتهديد، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬8). والسؤال، كقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} (¬9). والندب، كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} (¬10). والحث على الاعتبار، كقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬11). والإكرام، كقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} (¬12). والامتنان، كقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (¬13). والظاهرُ من الجميع ¬

_ (¬1) نبي الله يعقوب عليه السلام له اثنا عشر ابنًا وهم المشهورون بالأسباط لأنهم أسباط إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وإلى هؤلاء الأسباط يرجع نسب جميع بني إسرائيل. [التحرير والتنوير 1/ 451]. (¬2) (مكان) من (ي). (¬3) (ظاهر) ليست في (أ). (¬4) سورة البقرة: 43. (¬5) سورة البقرة: 282. (¬6) سورة الجمعة: 10. (¬7) سورة البقرة: 23. (¬8) سورة فصلت: 40. (¬9) سورة البقرة: 286. (¬10) سورة النور: 33. (¬11) سورة الزخرف: 25. (¬12) سورة النحل: 32. (¬13) سورة تبارك: 15.

الإيجاب، إنما يُحمل على غيره بدليل، ثم (¬1) هذا اللفظ يكون أمرًا لمن هو دونه في الرُّتبة لصيغته، لا يشترط إرادة الأمر, لأنّ الله تعالى أمر بذبح ابن إبراهيم ولم يُرِدْهُ، ولأنّ الإرادة انفصلت عن الأمر، يقال: أُريدُ أن تقصدَ بفعلك كذا, ولكن لا آمرك به، فيُفيدُ الإيجاب دون كونه مرادًا لعدم الإرادة في النهي (¬2). {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} منّتي التي مننتُ على آبائكم بالكتاب والرسول والمنّ والسّلوى والنجاة من فرعونَ والغرق، ورزقتهم (¬3) مِنَ الطيبات وفضلتُهُم على عالمي زمانهم {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أتموا عهدي الذي أخذتُ عليكم في هذا النبي الأُميّ. وقيل: قرائضي التي فرضْتُ عليكم. الإيفاء والوفاء بمعنى. والعهد: الوصية {أَوْفِ} (¬4) مجزوم لأنه جواب الأمر {فَارْهَبُونِ} فخافون في نقض العهد. وقيل: فاخشَوْا مِنْ عذابي في كتمان نعتِ محمَّدٍ - عليه السلام - وصفته. وسقطت الياء لتساوي الفواصل. {بِمَآ أَنْزَلْتُ} بالكتاب الذي أنزلتُ جبريل به {مُصَدِّقًا} موافقًا بالتوحيد وصفةِ محمَّدٍ - عليه السلام - وببعض الشرائع {لِمَا مَعَكُمْ} من التوراة (¬5). ومعكم: ظرف يقتضي المقارنة في الغالب وهو صفةٌ لـ "ما" {وَلَا تَكُونُوا} معشر قريظة والنضير أولَ حزب أو قبيلة أو فريق {كَافِرٍ بِهِ} بمحمَّد والقرآن. وقال الفراء (¬6): تقديره: أولَ مَنْ كفر به. وعن أبي ¬

_ (¬1) (ثم) ليست في (ن). (¬2) يمكننا أن نقسم الإرادة إلى قسمين: القسم الأول: الإرادة الكونية، وهذه تقع وجوبًا فيما أوجبه الله قدرًا أن يقع وتكون فيما يحبه الله وما لا يحبه الله. القسم الثاني: الإرادة الشرعية. وهذه لا يلزم منها تحقق وقوع المراد فقد يقع وقد لا يقع، وهذه لا تكون إلا فيما يحبه الله لأن الله لا يشرع لعباده إلا ما كان فيه مصلحتهم ونفعهم. وأما قول المؤلف: إن الإرادة انفصلت عن الأمر فهذا لا يوافق عليه - والله أعلم - لأن الله لا يأمر عباده بشيء إلا مريدًا له حتى ذبح إسماعيل - عليه السلام - فإن الله مريد لذلك لمصلحة هو أعلم بها سبحانه وتعالى مع أن المأمور به قد لا يكون مشروعًا بحد ذاته لكنه يكون مشروعًا إذا صدر من المشرع نفسه وهو الله - عَزَّ وَجَلَّ -. (¬3) في (أ): (ورزقناهم). (¬4) (أوف) ليست في (ب). (¬5) في (ن): (التوبة). (¬6) معاني القرآن (1/ 32) وهو قول الأخفش ذكره القرطبي في تفسيره (1/ 228).

حاتم (¬1): إنه اقتصر بالتأكيد الذي في لفظه أول عن تثنية اللفظ وجمعها، كقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (¬2). فإن قيل: كيف نهاهم عن أن يكونوا أول كافر به وقد كفرت به قريش من قبلُ (¬3)؟ قلنا: المراد به أولَ من كفر من بعدهم متابعًا لهم، كقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬4)، ويحتمل عند حادثة بعينها. {وَلَا تَشْتَرُوا} تختاروا (¬5). {بِآيَاتِي} بكتمانِ نعتِ محمَّدٍ وصفته {ثَمَنًا قَلِيلًا} عَرَضًا يسيرًا مِنَ المأكل والهدايا من أهل اليسار، وقيل: حبّ الرئاسة لأنهم كانوا متبوعين، ولو آمنوا لصاروا أتباعًا. والآيات: علاماتُ خروج نبينا - عليه السلام - في التوراة. والثمن: اسمٌ للبدل في البيع. والقليل ضدّ الكثير. {وَلَا تَلْبِسُوا} ولا تَخلُطُوا، كقوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} (¬6)، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (¬7)} (¬8)، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} (¬9). {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الصدق بالكذب وهو صفة النبي - عليه السلام - بصفة الرجال. ويُحرفون التوراة عن ¬

_ (¬1) هو سهل بن محمَّد السجستاني عالم باللغة والقراءات مات سنة 248هـ. (¬2) سورة آل عمران: 96. (¬3) أجاب القرطبي عن هذا الإشكال أن المراد بـ {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} من أهل الكتاب، وقريش ليسوا من أهل الكتاب. [القرطبي 1/ 228]. (¬4) سورة الأنعام: 163. (¬5) صحّ عن أبي العالية فيما رواه الطبري في تفسيره (1/ 253) في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علِّم مجانًا كما علِّمت مجانًا. اهـ وقيل: معناه لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل، وبيعهم إياه: تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام للناس. ومعنى "لا تشتروا" لا تبيعوا لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائع الآيات بالثمن، فكل واحد من الثمن والمثمن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشترٍ. (¬6) سورة آل عمران: 71. (¬7) (بظلم) ليست في (ب) (ي). (¬8) سورة الأنعام: 82. (¬9) سورة الأنعام: 65.

مواضعه. وإنما سُمي الصدقُ حقًّا والكذبُ باطلًا؛ لأن معنى الصدق: ما تحقق كونُهُ، ومعنى الكذب: ما عُدِمَ كونُهُ. وتحقيق الشيء: إثباته. وإبطالُهُ: نفيه. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} معطوف على النهي مجزوم. وإن شئتَ جعلتَهُ منصوبًا على الصّرْف (¬1). والكتمان: الإخفاء {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تحريفه وكتمانه. وقيل: تعلمون الذي بَشَّر به موسى وعيسى والنبيون من قبل. قال قتادةُ: تعلمون أن الإِسلامَ دينُ الله (¬2). {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أعطوها إذا وجبت عليكم. والزكاة في اللغة: نُمو الخير زكا الزرعُ، إذا نما. وفي الشرع: عبارة عن جزءٍ معهود من النِّصابِ يُعتبرُ به الحلول. وإنما سمي زكاةً لأن الله تعالى يكثر وينمي ثوابَ مؤديها. وقيل: لوقوع التزكية بها (¬3). قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬4). {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صلُّوا الصلوات الخمس مع محمَّدٍ وأصحابه في الجماعات. والركوع في اللغة: الانحناء (¬5). وفي الشرع: انحناء معهودٍ في الصلاة. ¬

_ (¬1) الأظهر بالنسبة للنصب أنه منصوب بإضْمَار "أَنْ" في جواب النهي بعد الواو التي تقتضي المعية، أي: لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمانه، ومنه قول الشاعر [ينسب للأخطل النصراني وقيل للمتوكل الكناني وقيل لأبي الأسود الدؤلي]: لاتَنْهَ عَنْ خلقٍ وتأتيَ مثله ... عارٌ عليك - إذا فَعَلْتَ - عظيمُ و"أنْ" المضمرة هذه في تأويل مصدر معطوفه على الاسم الذي قبلها، والتقدير: لا يكنْ منكم لَبْسُ الحقِّ بالباطلِ وكتمانه. وما ذهب إليه المؤلف بقوله: منصوبة على الصرف هو قول الكوفيين. (¬2) ابن أبي حاتم (460)، وعزاه صاحب الدر (1/ 65) لعبد بن حميد ولم يعزه لابن أبي حاتم. (¬3) في (أ): (قبله). (¬4) سورة التوبة:103. (¬5) ومنه قول لبيد بن ربيعة: أُخَبِّرُ أَخْبَارَ القُرونِ التي مَضَت ... أَدِبُّ كَأنِّي كُلَّما قمتُ راكعُ وقال ابن دريد: الركعة الهُوَّة في الأرض، لغة يمانية. وقيل: إنما خص الركوع بالذكر لأنَّ بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع، وقيل: لأنه كان - أي الركوع - أثقل على القوم في الجاهلية حتى قيل إن عمران بن حصين عندما جاء ليسلم أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ألَّا يخرَّ إلاَّ قائمًا. فلمّا تمكّن الإسلام من قلبه امتثل ما أمر به من الركوع. [القرطبي 1/ 234].

وفي الآية دليلٌ أنَ الكفار مخاطبون بالشرائع بشرط تقديم الإيمان (¬1). وإليه ذهب كثيرٌ من أصحابنا. فإن قيل: لو كانوا مخاطبين لما سقط القضاءُ عنهم كالمسلمين. قلنا: القضاء فرضٌ مبتدأ لا يتبع المقتضي كفوت الجمعة، وفوت صلاة الحائض لا إلى قضاء. ومَنْ قال: الكفارُ غير مخاطبين بالشرائع، قال: نزلت الآيةُ في شأن المؤمنين من بني إسرائيل. ويجوز أن يقول للمؤمنين: آمِنوا. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} السفلة (¬2). {بِالْبِرِّ} بالتوحيد واتباع محمَّد {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (¬3) تتركون فلا تتبعونه {تَتْلُونَ} تقرأون {الْكِتَابَ} التوراة والإنجيل {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} تفهمون أنّه حقٌّ فتؤمنوا به. والبرّ: ضد الفجور. والنسيان ¬

_ (¬1) الكفار مخاطبون بالشرائع، فما كان قبل بعثة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يكون الخطاب لكل أمة بمن يرسل إليهم من الرسل، حتى إذا ما ختم الأنبياء والرسل بنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فكانت بعثته عليه الصلاة والسلام إلى الناس عامة فكان الخطاب موجهًا إلى كافة الإنس والجن بدون استثناء. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. . .} [الأعراف: 158] أما ما ذكره المؤلف من شرط تقديم الإيمان عند توجيه الخطاب لا يوافق عليه - والله أعلم - فالخطاب موجّه حتى للمنكرين الأنبياء ودعوتهم فلا يشترط أن يكونوا مؤمنين بالأنبياء حتى يوجّه الخطاب لهم فالله - عَزَّ وَجَلَّ - وجّه الخطاب لكفار قريش وكثير منهم ينكر نبوّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وينكر دعوته وما جاء به. (¬2) الاستفهام هنا الذي بمعنى التوبيخ موجّه إلى أحبار اليهود بمعنى "تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة والعُهْدة من التوراة وتتركون أنفسكم" وهذا المعنى هو الذي صحّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في توجيه هذه الآية فيما رواه الطبري في تفسيره (2/ 7)، وعلى هذا التفسير يتوجّه أن يكون المراد بقوله {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} التوراة. ولا مانع من تعميم من اتصف بمثل هذه الصفة أن يوبخ بمثل هذا التوبيخ كمن يأمر الناس بالتمسك بدين الله وهو بعيد عن التحلّي بهذا الدين. قال أبو العتاهية: وصفتَ التُّقَى حتَّى كأنَّكَ ذو تُقى ... وريحُ الخطايا من ثيابِكَ تسطعُ وقال أبو الأسود الدُؤَلي: لا تَنْهَ عَنْ خلقٍ وتأتيَ مثله ... عارٌ عليك إذا فَعَلْتَ عظيمُ وابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها ... فَإِن انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ فهناكَ يُقْبَلُ إن وَعظتَ ويُقْتَدَى ... بالقولِ منكَ وينفعُ التعليمُ (¬3) (أنفسكم) ليست في (ب).

هاهنا: التَّرْكُ (¬1)، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (¬2). والنفسُ: الذات، والتلاوةُ: القراءة، وسُمّي بذلك لأن القارئ يتلو الحروف المنتظمة في الكلام، أي: يَتْبعُهَا. والعقلُ، نوعُ فهم يقع به التمييز والاستدلالُ بالمشاهدة على ما لم يُشَاهَدُ، ومواضعُهُ: القلب ونظامُهُ بالدماغ، وبه تعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب إذا انضمت إليه القدرةُ. {وَاسْتَعِينُوا} واسأَلُوا الله التوفيقَ والإعانة على أداء الفرائض {بِالصَّبْرِ} على كفِّ المعاصي بأداء الفرائض وكثرة الصلوات على تمحيص الذنوب {وَإِنَّهَا} يعني الاستعانة وقيل: الصلاة (¬3) (¬4). {لَكَبِيرَةٌ} لثقيلةٌ، كقوله: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} (¬5). وقال: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (¬6) {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} المتواضعين. الاستعانةُ: طلبُ العون ولا بدّ من مُسْتَعين ومُسْتعانٍ به ومُسْتَعان عليه. والصبر: الحبسُ عن المكاره أو عن الشهوات. والكنايةُ قد يرجع إلى المذكورَيْن حقيقةً، كقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (¬7) {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا} (¬8)، وقد يرجع إلى ¬

_ (¬1) النسيان بمعنى الترك منه أيضًا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. (¬2) سورة التوبة: 67. (¬3) يرى شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين - رحمه الله - كما في تفسيره 1/ 254 - أن الضمير في قوله "وإنها" يعود إلى الصلاة لأن القاعدة المعروفة عند النحويين أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور كما أن هناك وجهًا آخر وهو أن الصلاة إيجادٌ لشيء لم يكن موجودًا؛ لأنها عمل، والصبر إمساك، والإيجاد أفضل من الإمساك، ولهذا كان الإِسلام كله إيجادًا فاستحقت الصلاة أن يكون الضمير عائدًا إليها. اهـ. (¬4) في (ب): (الصلوات). (¬5) سورة يونس: 71. (¬6) سورة الشورى: 13. (¬7) سورة النساء: 135. (¬8) سورة النساء: 1.

أحدهما مجازًا، كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (¬1). {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2)، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (¬3). والحقيقة: ما لا إشكال في وجهه ولم يُصرف عن ظاهره. والمجاز: ما تَوَسّع الناسُ فيه لفظًا واصطلحوا عليه واستجازوه إما ضرورةً كتسمية الرجل كلبًا وأسدًا، وإما اختيارًا للتخفيف والعادة، كقولهم: طَلَعَ الفجرُ وأظْلَم الليلُ ونبتَ الشجرُ. والإطناب، كقولنا في المصائب: انكسر الصلب، وفي العشق: تقطع القلب، وفي السرور: قُرّة العين. وللتفاؤل كتسميته الغلام: يُمنًا وسَعْدًا. وهو من البلاغة في الرسائل والخطب والقصائد، إذا عري عن التأكيد وعُرف منه مراد المريد. ثمّ نعت الخاشعين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يعلمون وَيَسْتَيقِنون (¬4)، كقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ (¬5)} (¬6) و {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} (¬7) {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} في الآخرة للمُجازاة، وقيل: إلى حكمه عائدون، يعني حال التعري عن المكاسب والدعاوى والمعذرة وحالَ التسليم والاستسلام، والظنُّ من الأضداد، يطلقُ على معنى اليقين وحقيقة العلم، ويطلقُ على معنى الحُسْبَان وهو مجاوزة الشك قليلًا والميلُ إلى أحد النقيضين. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 62. (¬2) سورة التوبة: 34. (¬3) سورة الجمعة: 11. (¬4) الظنّ بمعنى اليقين معروف في كلام العرب ومنه قول دريد بن الصِّمَّة: فقلت لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ وقول الشاعر: رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَه بِغَريم ... وغيوبٍ كشفتَها بِظُنونِ ومن أجرى الظنّ على بابه في آية البقرة والآيات التي ذكرها المؤلف بتقدير محذوف كما فعل المهدوي والماوردي. قال ابن عطية: إن هذا تَعُسُّف وإن جمهور المفسرين على أن الظنّ في هذه الآيات بمعنى اليقين. [القرطبي 1/ 255 - تفسير ابن عطية 1/ 278]. (¬5) (الأرض) ليست في (ب). (¬6) سورة الجن: 12. (¬7) سورة الحاقة: 20.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا} للإطناب (¬1)، والتأكيد، ومِنَ البلاغة عند العرب العدولُ عن الإطناب إلى الإيجاز، وعن الإيجاز إلى الإطناب، وعن التجنيس (¬2) إلى الإطباق (¬3)، وعن الإطباق إلى التجنيس، وعن التصريح (¬4) ¬

_ (¬1) كونه للإطناب لأنه تقدم ذكره قبل سبع آيات من هذه الآيات عندما تكرر في الآية رقم (40) ثم كررها في هذه الآية رقم (47). والإطناب: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير تردد وعكسه الإيجاز فهو زيادة في المعنى على اللفظ. [معجم البلاغة العربية: د: بدوي طبانة ص 388 - المعجم المفصل في علوم البلاغة -الدكتورة: إنعام فوَّال عكاري ص 159]. (¬2) قال ابن المعتز في التجنيس: هو أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيث شعر أو كلام، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها كقول الشاعر [ينسب للخريمي]: يومٌ خَلَجَتْ على الخليجِ نفوسهم ... غضبًا وأنت لمثلها مستامُ الشاهد: قوله - خلجت وخليج. [معجم البلاغة العربية د: بدوي طبانة ص 139 - المعجم المفصل في علوم البلاغة: الدكتورة إنعام فَوَّال عكاري ص 466]. (¬3) الطباق أو الإطباق أو المطابقة أو التطبيق كلها بمعنى واحد وهو الجمع بين متضادين، أي معنيين متقابلين في الجملة، بأن يكون بينهما تقابل وتنافٍ ولو في بعض الصور، سواء كان التقابل حقيقيًا، كتقابل القِدَم والحدوث، أو اعتباريًا كتقابل الإحياء والإماتة، فإنهما لا يتقابلان إلّا في بعض الصور. ومثال الطباق قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]. وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة جدًا. ومن الشعر قول أبي تمام: تَرَدَّى ثيابَ الموتِ حُمرًا فما أَتَى ... لها الليلُ إلَّا وهي من سُندُسٍ خُضْرِ [معجم البلاغة العربية ص 367 - المعجم المفصل في علوم البلاغة ص 596]. (¬4) التصريح من صَرَّحَ وصارحَ: أي أبداه وأظهره، وسمّاه ابن قيّم الجوزية "التصريح بعد الإبهام هو التفسير" وسمّاه بعضهم "التبيين" كما اعتبره قدامة بن جعفر من أنواع المعاني وسماه "صحة التفسير" وَعرَّفَهُ فقال "أن يضع الشاعر معاني يريد أن يذكر أحوالها في شعره الذي يصنعه، فإذا ذكرها أتى بها من غير أن يخالف معنى ما أتى به منه ولا يزيد أو ينقص" ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] ومثله قول الفرزدق: لقد جئتَ قومًا لو لجأتَ إليهم ... طريدَ دَمٍ أو حاملًا ثقلَ مَغْرَمِ =

إلى التعريض (¬1)، وعن التعريض إلى التصريح. وتركُ لزوم الفن الواحد من هذه الفنون، والله تعالى أنزل القرآن على نظم هو غاية الفصاحة عندهم على ما تعارفوه واعتادوه بلسان عربيّ مبين. ونظائرُ التكرار قوله في الرحمن: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} (¬2). وقوله في القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} (¬3) وقوله في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} (¬4)، وقوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} (¬5). وقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (¬6). وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} (¬7) (¬8). وقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} (¬9). {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} بالكتاب والرسولِ على عالمي زمانكم. وقيل: فضلتكم بإنزال المنّ والسَّلوى وتتابُع الأنبياء وفرق البحر والمُلكِ العظيم. وقيل: تفضيلهم على سائر الحيوانات، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} ¬

_ = إلّا أن هذا البيت غير واضح المعنى، لذا فسرهُ الشاعر في البيت التالي فقال: لأَلْفَيْتَ مِنْهُم مُعْطِيًا ومُطَاعِنًا ... وَرَاءكَ شَذْرًا بالوشيجِ المُقَوَّم [المعجم المفصل في علوم البلاغة ص 364]. (¬1) التعريض: هو أن ينسب الفعل إلى واحد والمراد غيره ممن وقع منه الشرط فعلًا نحو قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] والتعريض هو خلاف التصريح. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تُضَحُّوا بالعرجاء" فإنه يدخل فيه مقطوع الرجلين، من جهة مفهومه. [معجم البلاغة العربية ص 419 - المعجم المفصل في علوم البلاغة ص 383]. (¬2) سورة الرحمن: 13. (¬3) سورة القمر: 17. (¬4) سورة المرسلات: 15. (¬5) سورة القيامة: 34 - 35. (¬6) سورة الشرح: 5 - 6. (¬7) {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} ليست في (ن). (¬8) سورة التكاثر: 3 - 4. (¬9) سورة الكافرون: 2.

وَنُوحًا} (¬1) الآية، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬2) الآية. وتخصيصهم هاهنا لأنهم هُمُ المخاطبون بهذا الخطاب. والتفضيلُ: هو التعبيرُ ذا فضيلة، والفضيلةُ هي: الخَصْلَةُ التي يترجحُ بها الشيءُ على غيره. {وَاتَّقُوا يَوْمًا} عذابَ (¬3) يومٍ أو حسابَ يوم {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} لا تنفعُ نفس كافرةٌ ولا نفسٌ مؤمنة لنفس كافرة، كقولهً: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} (¬4) {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} (¬5) وقال - عليه السلام -: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (¬6). وإنما لم يقل: لا تجزي فيه نفسٌ، لأن اليومَ إذا أضيف إلى الفعل حُذِفَ منه (¬7) "فيه" كقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)} (¬8) {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} (¬9)، {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬10). وهذا قول الأخفش (¬11). وقيل: انتصاب الظرف يُشبَّه بالمفعول، كقوله: صُمْتُ يومًا ويومًا صُمْتُهُ، وقُمتُ ليلةً، وليلةً قمتها، فتقديره: واتقوا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 87. (¬2) سورة الإسراء: 70. (¬3) وهكذا قدره أبو السعود في تفسيره (1/ 120) وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 76) وانتصاب "يومًا" على أنه مفعول به لا على الظرفية ولذلك لم يقرأ بغير التنوين - قاله الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير 1/ 484). (¬4) سورة مريم: 87. (¬5) سورة طه: 109. (¬6) الحديث أخرجه أبو داود (4706)، والترمذي (2435)، وابن ماجه (4310) وأحمد (13222)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 652)، والآجري في الشريعة (ص 338)، والحاكم (1/ 69)، والبيهقي (10/ 190) عن أنس بن مالك مرفوعًا وإسناده صحيح. (¬7) (منه) ليست في (أ). (¬8) سورة الشعراء: 88. (¬9) سورة الفرقان: 27. (¬10) سورة إبراهيم: 41. (¬11) إمام النحو، أبو الحسن، سعيد بن مسعدة البلخي ثم البصري، أخذ عن الخليل بن أحمد ولزم سيبويه حتى برع. له كتب كثيرة في النحو والعروض ومعاني القرآن؛ مات سنة نيف عثرة ومئتين. [السير: 10/ 206].

يومًا لا تجزيه نفس، ثم أسقط الضمير كما أسقط عن صلة الموصول (¬1) كقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} (¬2)، وقوله: {بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬3). {شَيْئًا} نفعًا (¬4)، مصدر. وقيل: قائم مقام اسم محذوف تقديره: جزى يجزي، أي: أسقط (¬5) واجبًا أو دينًا أو حقًا، على لغة تميم أَجْزَأَ يجزئ عقابًا أو ملامًا أو وزْرًا (¬6) {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ولا يشفع لها شافع {وَلَا يُؤْخَذ} لا يُقبل {مِنْهَا عَدْلٌ} فِدَاءٌ (¬7). لو جاء الكافر بعدل نفسه لا يقبل منه. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يُمنعون مما نزلى بهم من العذاب. والقَبُولُ: التمكين والارتضاء، والشفاعة: الاسْتيهاب والاسْتِعتاب. والشفيع الذي يصير شَفيعًا للمجرم في الاستعتاب، والأخذُ: القبض والعدل: الفداء، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} (¬8). والنصر: المنع، كقوله: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} (¬9). وقد يكون بمعنى الإعانة، قال الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬10). ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في تفسيره (1/ 26) وقال: التقدير: واتقوا يومًا لا تجزي فيه أو لا تجزيه - أي جائز على الوجهين - ومنه قول الراجز: قَدْ صَبَّحَتْ، صبحها السلامُ ... بِكَبِدٍ خَالَطَهَا سَنامُ في ساعةٍ يُحبُّها الطَّعَامُ وهو يعني: يحبُ فيها الطعام فحذفت الهاء الراجعة على اليوم. ولا دليل على من منع حذف الضمير. اهـ. (¬2) سورة البقرة: 41. (¬3) سورة الفرقان: 41. (¬4) وإليه ذهب الآلوسي في روح المعاني (1/ 251) أن "شيئًا" بمعنى نفعًا. وقال نصبت "شيئًا" إما على أنه مفعول به أو على أنه مفعول مطلق قائم مقام المصدر أي جزاءً ما. (¬5) في (أ) (ن): (يسقط). (¬6) في (ن)؟ (وزارًا)، وفي (ب): (زورًا). (¬7) وهو الذي صحّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن العدل بمعنى الفدية أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 34) ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70] بمعنى: وان تقدم كل فدية لا يؤخذ منها. (¬8) سورة الأنعام: 70. (¬9) سورة هود: 30. (¬10) سورة آل عمران: 52.

{نَجَّيْنَاكُمْ} خَلَّصْناكم من آلِ فِرْعَوْن من عبودية فرعون وآله، كقوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬1) {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬2) وقال - عليه السلام -: "إنا آل محمَّدٍ لا تَحلُّ لنا الصدقة" (¬3). وقال: "اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى" (¬4). وأصل الآل: الأهْل (¬5)، فقُلبت الهاءُ همزةً، كما في هياك وهَراق ثم أبدل من الهمزة الساكنة ألفًا كآخر وآدم. وتصغير الآل: أُهَيْل إلا عند الكسائي (¬6) (¬7) فإن عنده أُوَيْل (¬8). وآلُ الرجل مَنْ: يؤول إليه ويَؤُلون إليه ويعتمد عليه ¬

_ (¬1) سورة النساء: 54. (¬2) سورة غافر: 46. (¬3) الحديث رواه مسلم (2/ 754). (¬4) الحديث رواه البخاري (1497)، ومسلم (2/ 757). (¬5) أصل الآل: الأهل هو قول أبي جعفر النحاس فيما حكاه عنه القرطبي (1/ 261). (¬6) هو الإِمام أبو الحسن شيخ القراءة والعربية علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه، قال الشافعي: من أراد أن يتبحَّر في النحو فهو عيال على الكسائي، أحد القراء السبعة، أخذ القراءة عن حمزة الزيات، له عدة تصانيف منها: معاني القرآن، وكتاب في القراءات، وكتاب النوادر الكبير، ومختصر في النحو، وغير ذلك، وكانت وفاته وهو في صحبة الرشيد بالري سنة تسع وثمانين ومائة عن سبعين سنة. [سير أعلام النبلاء (9/ 131)؛ تهذيب التهذيب (7/ 275)؛ أبجد العلوم (3/ 39)؛ الفهرست (1/ 44)]. (¬7) معاني القرآن (70). (¬8) أي: قلبت الهاء همزة، ثم أُبْدِلَت الهمزة ألفًا فجمعت على آلون ثم صُغِّرت على أُوَيْل هذا ما حكاه الكسائي. وأما إضافة "آل" إلى الضمير فمنعه النحاس والزبيدي والكسائي، والصواب - والله أعلم - جواز ذلك وهو ما رجحه القرطبي وابن السيد وغيرهما لأن السماع الصحيح يَعْضُدُه، ومنه قول عبد المطلب: لاهُمّ إن العبد يم ... نع رَحْلَه فامنع حِلالكْ وانصر على آل الصليـ ... ب وعابديه اليومَ آلكْ وقال ندبة: أنا الفارسُ الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تَحْمِي حقيقةَ آلِكَا

ويعتمدون عليه من الذرية والعشيرة والأتباع (¬1). وفرعون: اسم (¬2) لأي ملك من ملوك العمالقة (¬3)، كقيصر في الروم وخاقان في الترك. واسم المراد هاهنا: الواجد بن مصعب (¬4). {يَسُومُونَكُمْ} يُوْلُونَكُم (¬5)، وقيل: يعذبونكم، وإن جعلتَ: {يَسُومُونَكُمْ} في موضع حال يجوز معناه سائمين إياكم (¬6). {سُوءَ الْعَذَابِ} أي: أسوأ العذاب وأشد العذاب {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} قطعًا لنسلكم. والأقرب أنه ابتداء كلام، ألا ترى أنه قال في موضع آخر: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} (¬7) وقيل: تفسير العذاب (¬8). وإنّما قال: {يُذَبِّحُونَ} على التكثير. وأصل الذبح الشق. ¬

_ (¬1) الآل هنا بمعنى الأتباع بدليل قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50] وقال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] فالمراد به أتباعه سواء كانوا من أهل بيته أو غيرهم إذ أن فرعون منقطع نسله ولا عصبة له - فيما حكاه أئمة التفسير عنه. وكذلك يقال في آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إنهم أتباعه كما في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعًا: "ألا إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وَليِّي الله وصالح المؤمنين". (¬2) (اسم) ليست في (أ). (¬3) فرعون خاص في عمالقة مصر، كما أن قيصر خاص في عمالقة الروم، وكسرى خاص في عمالقة الفرس، وتُبَّع خاص في عمالقة اليمن، والنجاشي خاص في عمالقة الحبشة. (¬4) أي اسم فرعون هو - الوليد بن مصعب بن الريَّان - ذكره الطبري في تفسيره (2/ 38) وحكاه عن محمَّد بن إسحاق. (¬5) في النسخ (يلومونكم) وأظن أن هذا تبديل حروف. (¬6) وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع على الابتداء أي أنها استئنافية. وذكر المؤلف أن معنى {يَسُومُونَكُمْ} يولونكم وهو تفسير أبي عبيدة فيما نقله القرطبي عنه (2/ 261) يقال: سامه خطة خسْفٍ إذا أولاه إياها؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم: إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفًا ... أبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فينا (¬7) سورة إبراهيم: 6. (¬8) الأصل أن العطف يقتضي المغايرة بمعنى أن المعطوف هو غير المعطوف عليه فعلى هذا لا وجه لمن جعل {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} معطوفة على {يَسُومُونَكُمْ} بدليل الآية الأخرى التي فيها واو العطف، فالراجح ما رجحه المؤلف أنها ابتدائية وليست تفسيرية كما ذهب إليه الفراء. [زاد المسير لابن الجوزي 1/ 78].

وأصل الابن: بَنَو نحو سَمَو وقيل بني نحو يدي (¬1)، وقيل: بنَو استدلالًا بقولهم: بنون وبنين وإنما انقلبت الواو والياء همزة لوقوعهما طرفًا وقبلهما الألف كالدُّعاء والقضاء, لأن تقدم الألف عليه كتقدم الحرف (¬2) المفتوح فصار في التقدير ألفًا، فلما حُرّكت انقلبت همزة. {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يستبقون إناثكم رجاءً لخدمتهنَّ، وهو أشد العذاب لمكان ضياعهن وبقائهن أيامَى بلا أكفاء، وذلك أنه رأى في المنام أنّ نارًا خرجت من قِبَلِ بيت المقدس فأحرقتْ بيوتَ القبط بمصر ولم تتعرضْ لبيوت بني إسرائيل، فاستفتى المعبّرين فأخبروه بخروج نبي من بني إسرائيل يُولدُ في تلك الأيام، فأخذ يقتلُ غلمانهم حتى خِيفَ الفناء، فكان بعد ذلك يذبح سنة ويترك سنة ليقلُّوا فلا يَغْلِبُوا ويَبْقَوا فيخدِمُوا، فولد هارون - عليه السلام - في السنة التي لم يكن يقتل فيها. ووُلدَ موسى في السنة الأخرى، فأوحى الله إلى أُمّه إلهامًا {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} (¬3) فكان من أمره ما كان. {وَفِي ذَلِكُمْ} إنجاءُ اللهِ إياكم من عبودية آل فرعون {بَلَاءٌ} نعمةٌ عظيمةٌ {مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4) وقيل: وعذاب فرعون وذبحه الغلمان واستحياؤه النساء قهرٌ من ربكم عظيم حين سلط عليكم. وأصل البلاء: الاختبار، والاختبار قد يكون بالخير والشر (¬5)، قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} (¬6). وإنما وصف بـ {عَظِيمٌ} لأنه يصغر بجنبه غيره. {وَإِذْ فَرَقْنَا} (¬7) وفصلنا وشققنا {بِكُمُ الْبَحْرَ} بعبوركم أو لعبوركم بحر قُلْزُم (¬8)، فكان كل فِرْقٍ كالطود العظيم ¬

_ (¬1) (نحو يدي) ليست في (ب). (¬2) في (أ): (الحروف). (¬3) سورة طه: 39. (¬4) قد يكون البلاء نعمة على حد قول الشاعر: قد يُنْعِمُ الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض الناس بالنِّعَمِ (¬5) ومنه قوله تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ...} [الأنبياء: 35]. (¬6) سورة الأعراف: 168. (¬7) في (أ): (فقلنا). (¬8) هو البحر الأحمر، وهذا اسمه القديم وتسميه اليهود بحر سوف [التحرير والتنوير 1/ 494].

{فَأَنْجَيْنَاكُمْ} من فرعون ومِنَ الغرق بعد قولكم {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (¬1) {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أهلكناهُ وآله حين التطم البحر {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى التطامه عليهم بعد خروجكم منه. وقيل: إلى أشخاصهم بعد ثلاثة أيام حين لفظهُمُ البحر، وحقيقة النظر: تعمّد الرؤية، وهو مستعمل في العين والقلب والأبصار والرؤية والرأي. {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} وحقيقة الوعد أن يكون للشيء، فإذا كان على الشيء فهو مجاز، والمراد به التخويف بالجائز الممكن (¬2)، كقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (¬3)، وقال - عليه السلام - في دعائه: "يا من إذا وعد وفى وإذا توعّد عفا" (¬4). وموسى اسمٌ أعجمي أصلُهُ: موشي، أي: الماء والشجر (¬5) لأنهم التقطوه من بين الماء والشجر، فعرّبتهُ العرب. والموعود: ما كان أربعين ليلة من المناجاة ومشاهدة الملكوتِ والآيات وإعطاء التوراة. وقد صام - عليه السلام - وتَنَزَّه عن الشهوات، فكان (¬6) يصوم نهارًا ثم ينطلق إلى الميقات بأمر ربه ليلًا، وفيه يقول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (¬7) والدليل على أن المراد بالأربعين وقتُ المناجاة دون وقت صومه (¬8) أنَّ بني إسرائيل ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 61. (¬2) قوله تعالى {وَاعَدْنَا مُوسَى} إنما هو من باب الموافاة وليس هو من باب الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة. [القرطبي 1/ 394]. (¬3) سورة البقرة: 268. (¬4) لم أجد له أصلًا في كتب الحديث. (¬5) القبط - فيما يروى عنهم - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا حتى إذا ما وجد موسى بين الماء والشجر أطلق عليه موشا على لغة الأقباط ثم حولت إلى موسى، وذكر ابن إسحاق نسبه فقال: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. [تفسير السمعاني 1/ 481]. (¬6) في (ي) و (أ) مكان. (¬7) سورة الأعراف: 142. (¬8) وذهب القرطبي والسمعاني إلى أن المراد بالأربعين انقطاعه إلى الصوم، ولا مانع أن يكون جمع بينهما - أي جمع بين الصوم والمناجاة - ولا منافاة في ذلك. =

عدُّوا بعدَهُ عشرين يومًا وعشرين ليلة ثم اتخذوا العجلَ، وفي ذلك قوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} (¬1). وفي التوراة أربوعين يوم (¬2)، أربوعين يوم، أربوعين يوم فحَمل بعضهم على إثبات ثلاث مواقيت. وإنما هو تكرار اللفظ للتأكيد. وحَدُّ الوعد في اللغة هو: الضّمان (¬3)، يُقالُ: هذا الغلامُ يَعِدُ رشدًا، وهذه الغداةُ تَعِدُ بردًا إذا كان مضمنًا ذلك، قال الله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (¬4)، أي: ضَمِنُوا لَهُ. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} مِنْ حُليكم (¬5)، وإنما عَرَّفه لأنّه يُعرف بالوصف في سورة طه، وقيل: الألف والسلام للمعهود. وإنما سماه (¬6) عجلًا مجازًا (¬7). والعجلُ: ولد البقرة (¬8). {مِنْ بَعْدِهِ} من بعد انطلاقه إلى الجبل. ¬

_ = فائدة نحوية: كلمة "أربعين" في هذه الآية يتعين أن تكون مفعولًا به ثانيًا، حذف منه المضاف وجوبًا التقدير: تمام أربعين، ولا يجوز أن ينتصب على الظرفية الزمانية لفساد المعنى وقد أعرب بعضهم "أربعين" بالحركات على حد قول الشاعر [وهو منسوب لجرير]: وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت حدَّ الأربعينِ [القرطبي 1/ 296 - تفسير السمعاني 1/ 481 - الدر المصون 1/ 353]. (¬1) سورة الأعراف: 150. (¬2) (يوم) ليست في (أ). (¬3) هذا هو من لوازم الوعد أن يكون متضمنًا معنى الضمان وينبغي أن يعلم الفرق بين "وعد" الثلاثي و"أوعد" الرباعي أن الأول يغلب عليه استعماله في الخير والثاني يغلب استعماله في الشر، ومنه قول الشاعر: وإني إذا واعدته أو وعدتهُ ... لمخلف ميعادي ومنجز موعدي فأنجز في الوعد وخالف في الوعيد كرمًا منه. [القاموس (وعد) 326]. (¬4) سورة التوبة: 77. (¬5) ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ...} [الأعراف: 148]. (¬6) في (ن) (أ): (سُمّي). (¬7) (مجازًا) ليست في (أ). (¬8) العجل هو ولد البقرة ولا وجه لما ذهب إليه المؤلف من حمله على المجاز إذ الأصل =

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} مَحَوْنا الذنب عنكم من قولك: "عَفَتِ الريحُ الأثَرَ" (¬1) وقيل: تركناكم ولم (¬2) نَسْتَأصلكم بالقتل. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد اتخاذكُمُ العجلَ. والكاف في ذلك موحد لأنه علامة الخطاب (¬3) وليس باسم، ألا ترى لو قال: من ذا جازَ، فإذا جازَ إسقاطُهُ جاز توحيده {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تُظْهِرُوا ثناءَ الله وتحمدوه على عفوه عنكم، إذ الشّكرُ قضيّة الإحسان (¬4) سواءٌ أريد أو لم يرد، فما أرادَ الله كان وما لم يُرِدْ لم يكن، وهو على كل شيء قدير. {وَإِذْ (¬5) آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} يعني التوراة. عن مجاهد: ذكرهما بأسمين كما يُقال: سُحْقًا وبُعْدًا (¬6)، ويقال: الكتاب: التوراة، ¬

_ = فيه الحقيقة ولا يمنع من حمله على الحقيقة فتسميته عجلًا هو حقيقة بحد ذاته. وقيل: سمي عجلًا لاستعجالهم عبادته، ويقال: عِجْل وعجول وتجمع على عجاجيل والأنثى عجلة قاله أبو الجراح. (¬1) أي أذهبته، ويقال أيضًا: عفا الشيء: إذا كَثُر. فهو من باب الأضداد. ومنه قوله تعالى {حَتَّى عَفَوْا} وقيل إن العفو مقرون بالعقوبة قبلها أو بعدها أحيانًا بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبةٌ البَتَّة. [القرطبي 1/ 397]. (¬2) (ولم) ليست في (ن). (¬3) [انظر التحرير والتنوير 1/ 501]. (¬4) الشكر لغة: الظهور، من قولهم دابة شكور: إذا ظهر عليها من السِّمَن فوق ما تُعْطَى من العلف. واصطلاحًا: هو الثناء على من أَوْلاك معروفًا من خالق أو مخلوق. [اللسان: (شكر)]. (¬5) (وإذ) ليست في (ن). (¬6) قال الفَرَّاء وقطرب - فيما نقله عنهما النَحَّاس في إعراب القرآن - أن المراد بالكتاب التوراة والفرقان هو محمَّد عليه الصلاة والسلام. قال أبو جعفر النحاس: وهذا خطأ في الإعراب والمعنى، أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله، وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه، وأما المعنى فقد قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ. . .} [الأنبياء: 48] ولذا قال أبو إسحاق الزجاج: يتعين أن يكون الفرقان هذا الكتاب أعيد ذكره وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول عدي بن زيد العبادي: فقددت الأديم لراهِشَيْهِ ... وألفى قولها كذبًا ومَيْنَا وقول عنترة بن شداد العبسي: =

والفرقان: نعته والواو زائدة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} (¬1). وقيل: الفرقان النُّصرةُ على فرعون، كقوله: يَومَ اَئفُرْقَانِ يَومَ اَلئَقىَ اَلْجَضعَانِ (¬2) يعني: يوم (¬3) بدر. وقيل: الفرقان: فَرْقُ البحر (¬4)، وهو مصدرٌ كالخُسران والرُّجحان. وقال قُطْرُب (¬5): إنّا (¬6) أعطينا موسى التوراة [كما أعطينا محمَّدًا الفُرقان، كأنه خَاطَبَ عبدَ الله بن سلام، فقال: قد أعطيناكم علمَ موسى ومحمَّد] (¬7). وقيل: أعطينا موسى التوراة والفرقان يعني صُحُفًا كان قبلَ التوراة وفيه تبيان الحلالِ والحرام والأمر والنهي وغير ذلك. ثم عَدَل إلى المغايبة فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} بني إسرائيل. والقوم: اسمٌ للجماعة لا واحد له من لفظه، يطلقُ على العقلاء خاصة ¬

_ = حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقول الحُطَيْئة: ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هِنْدُ ... وهِنْدٌ أتى من دونها النأي والبُعْد فالمين هو الكذب، والنأي هو البُعْد، والأقفر هو القوي. [إعراب القرآن للنحاس 1/ 175 إعراب القرآن للزجاج 1/ 101 - معاني القرآن للفراء 1/ 37 - ديوان عدي بن زيد ص 183]. (¬1) سورة الأنبياء: 48. (¬2) سورة الأنفال: 41. (¬3) (يوم) ليست في (ن) (أ). (¬4) قاله ابن زيد فيما نقله عنه القرطبي (1/ 399). (¬5) هو محمَّد بن المستنير النحوي اللغوي المعروف بـ "قطرب"، يكنى أبا علي، أخذ عن سيبويه وعن جماعة من علماء البصريين، ويقال بأن سيبويه لقبه قطربًا لمباكرته إياه في الأسحار، فقال له يومًا: ما أنت إلا قطرب ليل، والقطرب: دويبة تدب ولا تفتر، وكان قطرب من أئمة عصره، وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن، وكتاب الاشتقاق، وكتاب العلل في النحو، وكتاب غريب الحديث، وغير ذلك. ولم يكن ثقة عند علماء الحديث. مات سنة ست ومائتين. [تاريخ بغداد (3/ 298)؛ ميزان الاعتدال (7/ 137)؛ أبجد العلوم (41/ 3)؛ الفهرست (1/ 78)]. (¬6) (إنا) ليست في (أ). (¬7) ما بين [...] ليست في (أ).

{يَا قَوْمِ} تقديره: يا قومي، إلا أنه اكتفى بكسرة الميم عن الياء، كما تقول: يا ربِّ (¬1) {ظَلَمْتُمْ} أضررتم بأنفسكم في المآل بسلوك طريق الجَوْر. فقالوا لموسى: فماذا تأمرنا؟ فقال لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} خالقكم من اتخاذكم العجلَ إلهًا. قالوا: وما توبتُنا؟ قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ليقتل الذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوا العجلَ (¬2). والقتل: إتلاف النفس. وقيل المراد به: سَلّموا أنفسكم للقتل، فكان الرجلُ يجلس بفنائه مُحْتَبيًا لتُضْرَبَ عنقُهُ، فإن حَلَّ حِبْوَتَهُ أو دافع لم تُقْبل توبته وإلّا كان كفارة له، فلمّا كان وقت العشية نسخ الله ذلك الحكم ورفع عنهم الإصر. {ذَلِكُمْ} القتل والتوبة أو أحدهما (¬3) {خَيْرٌ لَكُمْ} مِنَ الإباء والعناد {عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي: في حكمه (¬4)، كما يُقال: عند أبي حنيفة (¬5). ويُقال ¬

_ (¬1) المنادى المضاف إلى ياء المتكلم فيه ست لغات أفصحها: حذفها مكتفيًا منها بالكسرة وهي لغة القرآن والأكثر استعمالًا ومنه هذه الآية {يَا قَوْمِ} الثانية: ثبوت الياء ساكنة، الثالثة: ثبوت الياء مفتوحة، الرابعة: قلبها ألفًا، الخامسة: حذف هذه الألف والاكتفاء عنها بالفتحة كقول الشاعر: ولستُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنَّي أي بقولي يا لهفا. السادس: بناء المضاف إليهَا على الضم تشبيهًا بالمفرد كقراءة من قرأ {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] وهي قراءة أبي جعفر. [زاد المسير 5/ 399 - أمالي الشجري 2/ 74 - الدر المصون 1/ 360]. (¬2) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولفظه: أخذ موسى علي بني إسرائيل المواثيق ليصبرنَّ على القتل، فأصبحوا بأفنية بيوتهم محتبين فأتاهم هارون - عليه السلام - واثنا عشر ألفًا لم يعبدوا العجل شاهرين سيوفهم. [البحر المحيط 1/ 207 - روح المعاني 1/ 260 - الطبري 2/ 75]. (¬3) (أو أحدهما) ليست في (ن). (¬4) في (أ): (حكم). (¬5) أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، قيل: إنه من أبناء الفرس، ولد سنة ثمانين من الهجرة في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك عند قدومه إلى الكوفة ولم يثبت له الرواية عن واحد منهم. وهو صاحب المذهب وإليه المنتهى في الفقه، قال ابن المبارك: ما رأيتُ رجلًا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتًا وعلمًا من أبي حنيفة.=

بالعبرانية أنه (¬1) مكان قولنا: برأ الله: بوروا إيلوهيم. والبريّة في الأصل مهموزة وهي: الخليقة (¬2). {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} خطابٌ للسبعين الذين اختارهم موسى للميقات (¬3)، فقالوا: لن نشهد لك بالحق عند بني إسرائيل إلّا أن {نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} مُعَاينة. وإنما قالوا: {جَهْرَةً} ليؤكدوا قولهم وينفوا إيهامَ الرؤية والرؤية بالقلب (¬4) {فَأَخَذَتْكُمُ} أحرقتكم {الصَّاعِقَةُ} العذاب الذي فيه هلاك، إنما عُوقبوا لتمردهم وامتناعهم عن الشهادة إلى تحصيل منيتهم {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى الصاعقة حين نزلت، أي: ينظرُ بعضكم إلى هلاك بعض (¬5). ¬

_ = [تاريخ البخاري (8/ 81)؛ تاريخ بغداد (13/ 323)؛ الكامل (5/ 585)؛ البداية والنهاية (10/ 107)؛ السير (6/ 390)]. (¬1) (أنه) من (ي). (¬2) ومنه "البارئ" من أسماء الله الحسنى - بمعنى الخالق - وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وأصل برأ من تبرَّى الشيء من الشيء وهو انفصاله منه، وقولهم بَرَأتُ وبَرِئْتُ من المرض بُرْءًا، وأما سكون الهمزة فقرأ أبو عمرو بالتسكِين "بَارِئْكم" وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب وقراءة أبي عمرو لحن، قال أبو جعفر النحاس وغيره: قد أجاز ذلك النحويون وأنشدوا قول امرئ القيس: فاليومَ أَشْرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ قال أبو علي الفارسي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات. [القرطبي 1/ 403 - الدر المصون 1/ 365]. (¬3) ذكره ابن كثير 1/ 120 - والقرطبي 1/ 403 - والبغوي 1/ 62 - وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 73 - والآلوسي في روح المعاني 1/ 261 - والسمعاني في تفسيره 1/ 485، وقيل: هم عشرة آلاف من قومه، ذكره الزمخشري في الكشاف 1/ 69 - والبيضاوي 1/ 63 - والبركوي في مقدمة المفسرين 1/ 501. (¬4) الرُّؤية هنا رؤية العين كما ذكره ابن كثير 1/ 120 والبركوي 1/ 501 والسمعاني في تفسيره1/ 485 وغيرهم، وهو الأصل في الرؤية عند إطلاقها ولا تحمل على رؤية القلب إلا إذا تعذر حملها على الأصل المذكور. (¬5) وقيل: الذي نزل بهم هو نارٌ أحرقت الأخضر واليابس وشملهم ذلك الإحراق وهم ينظرون، وهذا الذي يناسب قوله: {تَنْظُرُونَ} أي تنظرون الإحراق، أما الصعق =

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} أحييناكم {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} حرقكم وهلاككم (¬1). وهذه الرجعة مثل رجعة الطيور الأربعة لإبراهيم (¬2)، ورجعة عاميل في قصة البقرة (¬3)، ورجعة الذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم، ورجعة عزير وحماره (¬4) ورجعة الموتى لعيسى (¬5)، خلاف قول المتناسخة (¬6). {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي: جعلنا عليهم الغمام ظُلّة (¬7). والظِّل: السِّتْر، والظُّلة: ¬

_ = فإنه مما يسمع، هذا على الأغلب وإلا فإن الصعق قد يتولد منه نار محرقة وهو المتعين في هذه الآية. [انظر التحرير والتنوير 1/ 508]. (¬1) (هلاككم) ليست في (أ). (¬2) كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. . .} [البقرة: 260]. (¬3) اسم الذي قتل في بني إسرائيل وقد ورد ذكر اسمه في روايات إسرائيلية وهو المعني في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ...} [البقرة: 72 , 73]. (¬4) كما في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ...} [البقرة: 259]. (¬5) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. (¬6) الاستنساخ: هو اعتقاد التناسخ والحلول سواء في الأنبياء وتقمص روح بعضهم في بعض أو تناسخ الناس بعضهم في بعض بحيث تظهر الروح في مظهر الجسد الآخر، وهذا الاعتقاد الفاسد تبناه بعض الطوائف المنحرفة مثل القاديانية والنصيرية والدروز والمجوسية، إلا أن مفهوم التناسخ يختلف من طائفة لأخرى كما بين الدروز والنصيرية، فالدروز يقصرون التناسخ بين البشر بينما نراه عند النصيرية يتعدى إلى أن يكون التناسخ بين البشر والبهائم. [انظر موسوعة مصطلحات التصوف الإِسلامي د: رفيق عجم ص 967 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 351 - فرق معاصرة تنتمي إلى الإِسلام د: غالب العواجي]. (¬7) الغمام جمع غمامة أو اسم جنس زيدت التاء للوحدة، والمراد هنا السحاب الأبيض سمي بها لأنها تستر السماء وذلك أن الله تعالى سخر لهم السحاب يسير بهم ويظلهم من الشمس حين كانوا في التَّيه. =

السترة، والفرق بينهما أنّ الشيء يكون تحت الظل دون الستر إلا أنه يقال للشمس مُسْتَظلة إذا كانت محتجبة بالسحاب. فرقٌ آخر أن الرائي يتحيل الظلَّ ولا يتحيل الستر وجمع الظلّ: ظلال، وجمع الظُّلَّةُ: الظُّلَل. والظليل هو: الطيب. قال الله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} (¬1) وقال في ضده: {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)} (¬2). وأَظلّك الطائر إذا حاذاك وقَرُبَ منك وألقى ظله عليك، أعني ما يتحيل. ويُستعار للشهر والزمان فيقال: أَظَلَّ الشهرُ والزمان. {الْغَمَامَ} غيمٌ أبيض، وإنما سُمِّي غمامًا لأنه يَغُمُّ السماءَ ويسترها, وللِقاحِهِ بالماء لأنه يَغمُّ الماء في جوفه، وغمغمةُ السحاب: صوتُهُ، والغمام: واحدٌ وجماعة، قال الحُطَيئة (¬3) يمدحُ رجلًا: إذا غِبْتَ عنَّا غابَ عنا ربيعُنا ... ونسْقى بالغمامِ حينَ تَؤوبُ و {الْمَنَّ} كان شيئًا من جنس التَّرَنْجُبين (¬4). والسَّلْوَى كان طيرًا يُشبه ¬

_ = ومثله الغيم والغين بالميم والنون وجاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (2/ 177) "إنه ليُغانُ على قلبي". [ابن جرير 2/ 90 - اللسان (غمم) 12/ 443 - ابن عطية 1/ 304 - زاد المسير 1/ 84 - الدر المصون 1/ 369]. (¬1) سورة النساء: 57. (¬2) سورة المرسلات: 31. (¬3) الحطيئة: جرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو مليكة: شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإِسلام، كان هَجَّاءً عنيفًا، لم يكد يسلم من لسانه أحد. هجا أمه وأباه وزوجته ونفسه وتسلَّط على أعيان المسلمين، فحبسه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فاستعطفه بأبيات فأخرجه واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. [فوات الوفيات (1/ 99)؛ الأغاني (2/ 157)؛ الشعر والشعراء (110)؛ الأعلام (2/ 118)]. (¬4) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا. وقال قتادة: يسقط بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل يسقط كالثلج يأخذ الرجل منه قدر ما يكفيه يومه ذلك. وقد رجح ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن =

السُّمَاني (¬1)، ولا واحدَ له من لفظه عند الأخفش. وقال الخليلُ (¬2) الواحد سَلواه. ويقال: السلوى: العسل. وقال: وقَاسَمَها باللهِ حقًا لأنتم ... اَلذُّ من السلوى إذا ما نشُورها وإنما أنعم عليهم بهذه في التيه حين احتاجوا إلى الطعام وتأذوْا من حرِّ الشمس. والقولُ هاهنا مضمرٌ تقديره: وقلنا {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، كقوله: {كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا} (¬3) وقوله: {مِنْ كُلِّ ¬

_ = قال: والظاهر والله أعلم: أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعامًا وحلاوة، وإن مزج معه الماء صار شرابًا طيبًا، وإن ركب مع غيره صار نوعًا آخر وليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك ما رواه البخاري مرفوعًا عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكمْأة من المن وماؤها شفاء للعين" وأما ما ذكره المؤلف أنه من جنس الترنجبين فهو من قول قتادة وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومقاتل. [ابن جرير 2/ 92 - زاد المسير 1/ 84 - اللسان (منن) 13/ 418 - البركوي 1/ 507 - ابن كثير 1/ 122]. (¬1) ذكره ابن جرير (2/ 96) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والسدي وقتادة وغيرهم. وانظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 178 - ومعاني القرآن للزجاج 1/ 110 - وتفسير ابن عطية 1/ 305 والسماني: طائر صغير من رتبة الدجاجات، جسمه منضغط ممتلئ وهو من القواطع التي تهاجر شتاءً ... انظر المعجم الوسيط (446). ونقل ابن عطية إجماع المفسرين على أن السلوى هو طير من الطيور، وقد رد القرطبي هذا الإجماع بحجة أن من المفسرين من قال أنه العسل، ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جَهْدًا لأنتمُ ... أَلَذُّ من السلوى إذا ما نَشُورُهَا وهو الذي رجحه الجوهري مستشهدًا ببيت الهذلي. [القرطبي 1/ 408]. (¬2) هو الإِمام، صاحب العربية، ومنشىء علم العروض، أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد الفراهيدي، البصري، أحد الأعلام. كان رأسًا في لسان العرب، ديّنا، ورعًا، قانعًا، متواضعًا، كبير الشأن، ولد سنة مئة ومات سنة بضع وستين ومئة. [سير أعلام النبلاء: 7/ 429، 430]. (¬3) سورة البقرة: 60.

{بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬1) {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} (¬2). وقال امرؤ القيس (¬3) (¬4): أفاطِم مهلًا بعض هذا التدلُّلِ ... وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرْمِي فأجمِلِي و {مِنْ} للتبعيض (¬5). والطيبُ: ما لا تعافه طبعًا ولا تكرهُه شرعًا، وكان غير الطيب من رزقهم ما رفعوا للغد لأنهم كانوا منهيين إلا في يوم الجمعة للسبت. وهاهنا اختصارٌ تقديره: فَعَصَوْا (¬6). {وَمَا ظَلَمُونَا} بعصيانهم، وإنما لم يقل: ولكن كانوا يظلمون أنفسهم (¬7) لأن ذكر المظلوم كان أهم. {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} الوحي كان إلى يوشع بن نون (¬8) وهو ابن أخت موسى ووزيره بعد هارون، وهو أحد النقباء الذين قال الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (¬9). وجملةُ قصة بني إسرائيل أن الله تعالى لما أنجاهم من فرعون وفَرَقَ بِهِمُ البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا}. ثم ¬

_ (¬1) سورة الرعد: 23، 24. (¬2) سورة آل عمران: 106. (¬3) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث من قبيلة كِنْدَة، وهي قبيلة يمنية كانت تسكن قبل الإِسلام غربي حضرموت. نشأ في الجاهلية نشأة ترف ولهو ومجون، فطرده أبوه حتى أصبح شاعرًا كبيرًا معدودًا من أصحاب المعلَّقات السبع. كان أبوه ظالمًا في بني أسد حتى قتلوه، فأراد أن يأخذ بثأر أبيه فلم يتمكن من ذلك، أصيب بمرض جلدي فأرداه قتيلًا. [الأغاني (9/ 87)؛ أشعار الشعراء الستة الجاهليين للأعلم الشنتمري (5)]. (¬4) ديوانه (12). (¬5) وقيل لابتداء الغاية، وقال أبو البقاء: لبيان الجنس والمفعول به محذوف التقدير: كلوا شيئًا. [الإملاء (1/ 37) - الدر المصون (1/ 371)]. (¬6) وهكذا قدره القرطبي (1/ 409). (¬7) هذا من "ي" وفي بقية النسخ: (أنفسهم يظلمون). (¬8) الخطاب موجه إلى يوشع بن نون ومن تبعه ممن خرجوا من التيه بعد أربعين سنة كما ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 125). (¬9) سورة المائدة: 12.

كان انطلاق موسى إلى الميقات (¬1) ثم اتخاذهم العجل (¬2) ثم التوبة (¬3) ثم رجوعهم إلى ما أورثهم الله تعالى مما أخرج منه آل فرعون من جناتٍ وعيون وكنوز ومقام كريم (¬4)، وهناك حديث حادثة البقرة (¬5)، والخرْجة إلى مجمع البحرين مع يوشع (¬6)، وخسف قارون في إحدى الروايتين (¬7). ثم خرج بهم موسى - عليه السلام - إلى قتال الجبابرة وقال لقومه: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} الآية. فغضب عليهم وقال: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} الآية. ثم أخذ عصاه وتشمر وخرج من بينهم فَلَقي عوج بن عنق، فوثب وثبةً وضربه بعصاه فأصاب كعبه فخرَّ عوج ميتًا، ففرح موسى ورجع إلى قومه وبَشَّرهم بذلك وحرضهم على الإقدام، فإذا الله تعالى حَرَّمها عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض (¬8)، ثمَّ أنَّ الله تعالى ظلَّل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهمُ المنَّ والسلوى، وفَجَّر لهم من الحجر اثني عشر عينًا ثم عادوا إلى الكفران والعصيان (¬9) وقالوا: {يَا مُوسَى (¬10) لَنْ نَصْبِرَ عَلَى ¬

_ (¬1) ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ...} الآية [الأعراف: 143]. (¬2) ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ...} الآية [الأعراف: 148]. (¬3) ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} [الأعراف: 149] (¬4) ومنه قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ...} الآية [الأعراف: 137]. (¬5) كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...} الآيات [البقرة: 67 - 71]. (¬6) كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ... (60)} الآيات [الكهف: 60 - 82]. (¬7) كما في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ...} الآية [القصص: 81]. (¬8) كما في قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} [المائدة: 26]. (¬9) كما في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ...} الآية [البقرة: 60]. (¬10) (يا موسى) من "أ".

طَعَامٍ وَاحِدٍ} فقال موسى تهديدًا وتقريعًا: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} (¬1)، وليس لهم إلى ذلك سبيل لحبس الله إياهم في التيه إلى أن توفي الله هارون وموسى عليهم السلام أو استأثرهم وهم في التيه بعد، ثم قادهم يوشع بن نون بعد ذلك من التيه إلى قتال الجبابرة [وأخذ الأرض المقدسة ففتح اللهُ له أريحا ثم إيليا ثم بلقاء وهي العظمى، فكان بالق مالك الجبابرة]، (¬2) وبلعم بن باعوراء صاحب الاسم الأعظم فيها، فخذلهم اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وفيها أُنْزِلَتْ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}، وقيل: نزلت في إيليا وهي آخر بيت المقدس، وبابُ حطة معروف بها (¬3)، وفتح الله على يديه بعد ذلك الجبال وسائر بلاد العواصم، والدخول هو الولوج، و (هذِهِ) تأنيث (القريَةَ) بقعة يجتمع الناس فيها، ويُقال للحوض: المِقْرَاة؛ لأنَّ الماء يجتمع فيه (¬4)، وقريةُ النمل: جُحرها. والمراد بها بلدة. والأكل: حقيقة التلف والاستراط ويستعمل في الإنفاق مثل: أكل الدراهم والدنانير، ويستعمل في الاستيلاء (¬5)، قال - عليه السلام -: "أُمِرْتُ بقريةٍ تأكُلُ القُرى" (¬6) يعني المدينة. وأراد هاهنا: الإنفاق والتوسعة. وقوله: {سُجَّدًا} منحنين (¬7) متواضعين لله - عَزَّ وَجَلَّ - (¬8). ورُوِيَ أنه - عليه السلام - دخل يوم الفتح مَكَّة وقد بلغ عُثْنُونُهُ (¬9) سرجه تواضعًا لله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 61. (¬2) ما بين [...] ليست في "ن". (¬3) والصحيح أن البلدة المشار إليها في الآية هي بيت المقدس، وهو الذي رجحه ابن كثير. وقال ابن عطية: هو قول الجمهور [ابن جرير (1/ 102) - ابن أبي حاتم (1/ 181) - ابن كثير (1/ 98) - زاد المسير (1/ 84) - الثعلبي (1/ 77)]. (¬4) انظر: تهذيب اللغة (9/ 269) ومعجم مقاييس اللغة (5/ 78). (¬5) في "أ": (الإيلاء). (¬6) الحديث في صحيح البخاري (4/ 69) - ومسلم (9/ 154) - ومالك في الموطأ (3/ 84) وغيرهم. (¬7) في "ن": "منخرين". (¬8) أراد المؤلف بالانحناء الركوع، وهذا هو تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - لمعنى كلمة {سُجَّدًا} فقد أخرج الطبري في تفسيره (1/ 714) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {سُجَّدًا} قال: ركَّعًا، من باب صغير. (¬9) كتب في النسخة "ي": (أي بلغ لحيته قرب سرجه) اهـ. =

و {حِطَّةٌ} لفظةٌ تَعَبَّدَهُم الله تعالى بالتلفُّظِ بها، ومعناها: لا إله إلا الله (¬1)، ورُفعت ليكن منك حطةٌ لذنوبنا، أو فقلنا: هذا حطة لذنوبنا (¬2). مأخوذ من حَطَّ يحطُّ، أي: وضع. والغُفران: ستر الذنوب، وقيل: إلباس الغَفْر (¬3). وخطايا: جمع خَطِيَّة كهدِيَّة وهدايا ومَطِيَّة ومطايا، وأصله: خطايء بكسر كقلائل وطرائق، فلما (¬4) اجتمعت الهمزتان قُلبت الثانيةُ ياء (¬5) ثم فتحت الياء الأولى طلبًا ¬

_ = أما لفظة العثنون فلم أجدها في الحديث، والحديث أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 317) عن أنس بن مالك مرفوعًا بلفظ: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وذقنه على رحله متخشعًا" وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬1) معنى {حِطَّةٌ} مغفرة ويحط الله عنكم خطاياكم، وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما -، وإليه ذهب الربيع وعطاء وغيرهما، وأما تفسير "حطة" بمعنى: لا إله إلا الله، فهو مروي عن عكرمة، فيما رواه ابن جرير عنهم. وعند التحقيق يمكننا أن نقول: إن الحِطَّة في الأصل إنزال الشيء من العلو، وحط الذنب: إسقاطه، وفي الجملة تجتمع الأقوال على أنهم أمروا أن يقولوا قولًا دالًّا على التوبة والندم بأي عبارة كانت. ومن قال إن "حطة" بمعنى التوبة أنشد قول الشاعر: فاز بالحِطَّةِ التي جعل اللهُ ... بها ذنبَ عبدِهِ مَغفورا (¬2) قوله تعالى: {حِطَّةٌ} قُرىء بالرفع وقرِىءَ بالنصب، فالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حِطَّة أو أمرك حِطَّة، قال الزمخشري: الأصل النصب، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبنا حِطَّةً وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات، كقول الشاعر: شَكَا إليَّ جَمَلِي طولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جميلٌ فكلانا مُبْتَلَى والأصل صبرًا عليَّ، اصبرْ صبرًا، فجعله من باب "سلام عليكم" وتكون الجملة في محل نصب بالقول. وتبع الزمخشري ابن عطية فجعلها في محل نصب بالقول وإنما منع النصب حركةُ الحكاية. وقال النحاس: الرفع أولى. وقرأ ابن أبي عبلة "حطةً" بالنصب، وفيها وجهان: أحدهما: أنها مصدر نائب عن الفعل نحو: ضربًا زيدًا. والثاني: منصوبة بالقول، وهو رأي الزمخشري كما تقدم. [الكشاف (1/ 283) - الكتاب (1/ 162) - ابن عطية (1/ 285) - الدر المصون (1/ 74)]. (¬3) أصل الغفر: السِّتر والتغطية، وكل شيء سترته فقد غفرته. ومنه المغفر: وهو ما يضعه الرجل على رأسه فتبلغ الدرع ثم تلبس البيضة فوقها [تهذيب اللغة (8/ 5. 10) "غفر"]. (¬4) في "ن": (قد). (¬5) (الياء) من "أ".

للخفة (¬1). والخطيئة والخطأ: اسمان للإثم، وخَطِيَ الرجلُ إذا تعمَّدَ غير الصواب. وأخطأ: إذا لم يتعمد (¬2). والزيادة: المد والإنماء، والمحسنُ ضد المسيء. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} التبديل: تصييرُ الشيء بدلًا عن الشيء، إما بالصرف مثل فرس من فرس، أو بالتقليب مثل قميصٍ من عمامة (¬3). والظلم هاهنا (¬4): الكفر، كما في قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (¬5) {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬6). والمراد بالقول: المقول، كإطلاق اسم العلم للمعلوم وهو ذكرٌ لا يضاده النسيان. والرّجْز: العذاب (¬7)، وقيل: ¬

_ (¬1) قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: الأصل في خطايا أن يقول: خطايء، ثم قلب فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء، ثم تبدل من الياء ألفا بدلًا لازمًا فتقول: خطاءًا، فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعتَ بين ثلاث ألفات، فأبدلت من الهمزة ياءً فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأول: خطايء، ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول: خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة، فأبدلت من الثانية ياء، فقلت: خطائي، ثم عملت كما عملت في الأول، وهناك قول ثالث للفراء. [الكتاب (2/ 169) - الإملاء (1/ 38) - شرح الصبان (4/ 244) - تفسير القرطبي (1/ 414)]. (¬2) والذي يتعمد الخطأ يسمى خاطئ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]. (¬3) هذا من حيث اللغة، وأما التبديل الذي وقع منهم فقد جاء موضحًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدَّلوا وقالوا: حِطَّة حَبَّة في شَعَرَةٍ". والتبديل هو تبديل قولٍ بقول، ولذا نُصِبَ "غير" على أنه نعت لـ "قولًا"، وهناك وجه آخر بأن يكون التقدير: فَبَدَّلَ الذين ظلموا قولًا بغير الذي فحذف الحرف فانتصب. (¬4) في "أ": (هنا). (¬5) سورة الأنعام: 82. (¬6) سورة لقمان: 13. (¬7) وهو تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - رواه الطبري في تفسيره (1/ 730) قال: كل شيء في كتاب الله جل ثناؤه من الرجز يعني به العذاب. اهـ والطاعون هو نوع من العذاب فهو داخل في الرجز.

الطاعون وهو الموتان في اللغة: اسمٌ لمعنىً غير مرضي. وإنما كان رجزًا لأن الإنسان إذا مات في سخط الله، قيل: أهلكه (¬1) الله ودمَّرَهُ، وإذا مات في مرضاته قيل: توفَّاهُ اللهُ واستأثر به. {بِمَا كَانُوا} بسبب كونهم فَاسِقِينَ، ورُوِيَ أن السفهاءَ منهم والمستهزئين قالوا: حطا (¬2) سمقاثا، يعنون: حنطةً سمراء التي يخالطها الشعير. فسلَّط اللهُ عليهمُ الطاعونَ أربعين يومًا جزاءً (¬3) لفعلهم. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} كُسِرَت الذال (¬4) لالتقاء الساكنين. وفي الآية حروف مضمرة (¬5). واذكروا إذ استسقى موسى (¬6). والاستسقاء: طلب السَّقي (¬7)، وهو إنالة الشراب أو الشرب، ولم يتحقق ما لم يكن إشرابًا. {لِقَوْمِهِ}، أي: لأجل قومه. والضرب بالعصا كالجلد بالسوط والقرع بالمِقْرَعة. والعصا: قضيب طوله على قامة الرجل يتخذه رعاء (¬8) الغنم والرجَّالة من المسافرين، قال موسى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} (¬9) فجعلها آية ¬

_ (¬1) المثبت من "أ" وفي بقية النسخ: (أهلك). (¬2) في "أ": (هطا) وكلاهما صحيح. (¬3) (جزاء) من "أ". (¬4) في "أ": (كثرة الذل). (¬5) يعني المؤلف بالمضمر المحذوف هو المفعول به، وهو الماء وحذف للعلم به و (إذ) في محل نصب معطوف على ما قبله من الظرف، وكسرت لالتقاء الساكنين. (¬6) (موسى) ليست في "ب". (¬7) اختلف أهل اللغة في "سقى" و"أسقى" هل هما بمعنىً واحد أم بينهما فرق؟ فقيل: هما بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْرًا والقبائلَ من هلالِ قال الأزهري: "العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام، ومن السَّمَاء أو نهر يجري: أسقيتُ أي: جعلت شربًا له وجعلت له منه سُقْيَا، فإذا كان للشفة قالوا: سقى ولم يقولوا: أسقى". [تهذيب اللغة (9/ 228) - الدر المصون (7/ 251)]. (¬8) في "أ": (رعايا). (¬9) سورة طه: 18.

له (¬1). وقيل: طوله كان عشرة أذرع على قامة موسى كانت من آس الجنة أعطاه (¬2) شعيب - عليه السلام -. والحَجَر ما تحجر من أجزاء الأرض، قيل: كان حجرًا مربعًا عليه اثنا عشر ثديًا. ورُوِيَ أن موسى - عليه السلام - كان تعمد إلى أقرب حجر يجده حيثما نزل فيضربه بالعصا فينفجر بالماء. فقالت بنو إسرائيل: لَئِنْ فَقَدَ موسى عصاه لَمِتْنَا عطشًا، فكان يكلم الحجر بعد ذلك فينفجر بالماء بأمر الله تعالى. وقالوا: لئن نزلنا في الرمل يومًا لمتنا عطشًا، فرفع موسى حجرًا فحيثما نزلوا ألقاه، وقال ابن عباس: هو حجر خفيف مثل رأس الإنسان لما نزلوا وعطشوا أمره الله أن يأخذه ويضعه في المخلاة ثم يضربه. ورُوِيَ أنَّه كان يضربُهُ اثنتي عشرة ضربة فينفجر بالماء من (¬3) موضع الضربات. والعينُ: اسمٌ يشتمل معاني كثيرة، والمراد هاهنا الينبوع. والانفجارُ: الانشقاق (¬4)، قال الله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (¬5) ومنه سُمِّيَ الفجرُ لشَقِّه الظلام، والفاجر لشَقِّه عصا (¬6) المسلمين. وقيل الانفجار: الانتشار. {اثْنَتَا عَشْرَةَ} اسمان (¬7) جُعلا اسمًا واحدًا (¬8) .................... ¬

_ (¬1) وقد يراد بالعصا الاجتماع والافتراق، ومنه يق الذي الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين، أي: اجتماعهم. وانشقت العصا أي: وقع الخلاف، ومنه قول الشاعر: إذا كانت الهيجاءُ وانشقت العصا ... فحسبك والضحاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ ويقال: لا ترفع عصاك عن أهلك: يراد به الأدب. [اللسان "عصى" القرطبي (1/ 419)]. (¬2) في "أ": (عصاه). (¬3) (من) ليست في "ن" "أ". (¬4) في آية "الأعراف": {فَانْبَجَسَتْ} [60]، والفرق بين الانفجار والانبجاس أن الأول يراد به الانشقاق الواسع على العكس من الثاني الذي يراد به الانشقاق الضيق. وذهب الهروي إلى أنه لا فرق بينهما، وأنهما بمعنىً واحد. [المفردات ص 373 - اللسان "فجر" "بجس" - القرطبي (1/ 419) - الرازي (3/ 96)]. (¬5) سورة الكهف: 33. (¬6) كتبت خطأ في النسخ إما (عطيا) أو (عطا) أو (غطا). (¬7) في "أ": (اسمًا). (¬8) {اثْنَتَا} فاعل مرفوع بالألف لأنه ملحق بالمثنى، و {عَشْرَةَ} جزء عددي مبني على الفتح =

{عَيْنًا} (¬1) نصب على التمييز. و {كُلُّ} اسمٌ جامعٌ يتناول (¬2) كل واحدٍ على سبيل الإفراد، و {أُنَاسٍ} جمع تقديره: كل حزبٍ أو جماعة. والمَشْرَب: موضع الشُّرب كالمَذْبَح والمَشهَد، وأكثر هذا الوَزن في المصادر كالمَقْتَل. وعَثِيَ يَعْثَى وعَاثَ يعيثُ: أَفْسَدَ. وجمع اللفظين في معنى واحد نهاية البلاغة، كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬3) الآية، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)} (¬4). وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} (¬5). وقال ذو الرُّمَّة (¬6): لمياءُ في شفتيها حُوَّةٌ لُعَسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيابِها شَنَبُ و {مُفْسِدِينَ}: نصب على الحال (¬7). {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} والطعام: اسم لما يطعم، والمراد به: المنّ والسلوى (¬8) وإنَّما سمَّوهما واحدًا لأنهما كانا سماويين فكانا من جنس واحد. وقيل: إنهم كانوا يعجنونهما، وهذا كتسميتك ¬

_ = لا محل له من الإعراب. وحكم اثنين واثنتين في العدد المركَّب أن يعربا بخلاف سائر أخواتهما, لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة، وهي النون، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى. وأما {عَشْرَةَ} فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث. [الدر المصون (1/ 386) - البحر (1/ 229) - إعراب القرآن لمحمود صافي (1/ 139)]. (¬1) (عينًا) إضافة منا ليستقيم المعنى. (¬2) في "أ": (يتناول). (¬3) سورة الحج: 30. (¬4) سورة عبس: 38. (¬5) سورة الزخرف: 80. (¬6) ذو الرمّة هو غيلان بن عقبة مضري النسب، والرُّمَّة هي الحَبْل، صاحب ميَّة بنت مقاتل المنقرية أحد العشاق، توفي سنة 117هـ. وانظر ديوانه (65). قال أبو عمرو بن العلاء: افتتح الشعراء بامرىء القيس وختموا بذي الرمة. (¬7) أي أنها حال من فاعل {تَعْثَوْا} وهي حال مؤكدة, لأن معناها قد فُهِمَ من عاملها، ويمكن أن تكون حالًا مُبَيَّنَةً لأن الفساد أعَم والعثي أخص. (¬8) وهو مرويٌّ عن أبي العالية ومجاهد، أخرجه ابن جرير عنهما. [ابن جرير الطبري (2/ 12)].

الخَبيصَ طعامًا واحدًا وإنْ جمع الحلاوة والسمن والدقيق. والواحد: اسمٌ لعماد الأعداد، والدعاء: نظير الندبة، ودعاؤك مَنْ فوقك بمعنى الاستنجاد والاستعانة. والسلام في {لَنَا} أي: لأجلنا. و {يُخْرِجْ} جزم على جواب الأمر، واللام في {لَنَا} للتخصيص، كقولك: الثوب لعبدي. ومِنْ في {مِمَّا} صلة أو قائم مقام اسم يتضمنه (¬1). والإنبات: تنميةٌ وتربية قابلة للنماء. و (مِنْ) في قوله: {مِنْ بَقْلِهَا} للتفسير. والبقل: اسمٌ شاملٌ أجناس الخضروات من رِطَاب (¬2) الأرض. واحدها: بقلة (¬3)، والقِثَّاء: الخيار. والفُوم: الثوم (¬4) كالجَدَث والجَدَف، ويقال: زيدٌ فمَّ عمرو، أي: ثُمَّ. قال: وأنتم عبيدٌ لئامُ الأصول ... طعامكم الفوم والحوقل (¬5) وقيل القوم: الحنطة (¬6)، يقال: فوَّموا الناس، أي: اختبزوا، وقيل القوم: اسم للحبوب، قال الشاعر: قد كنتُ أحْسَبُني كأغنى واحد ... ورد المدينة عن زراعة فومِ (¬7) ¬

_ (¬1) مفعول {يُخْرِجْ} محذوف عند سيبويه، تقديره: مأكولًا، والجار يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وتكون "من" لابتداء الغاية، فتكون صفة لذلك المفعول المحذوف، فيتعلق بمضمر التقدير: مأكولًا كائنًا مما تنبته الأرض، و"من" للتبعيض، ومذهب الأخفش أن "مِن" زائدة في المفعول. والتقدير: يخرج ما تنبته الأرض. وأما "ما" فيجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف ولا يجوز جعلها مصدرية لأن المفعول المحذوف لا يوصف بالإنبات. [الدر المصون (1/ 387) - الكشاف (2/ 110)]. (¬2) جمع رُطْب وهو الرعي الأخضر من بقول الربيع. [تهذيب اللغة (2/ 1421)]. (¬3) في "ي" "ن": (بقل). (¬4) وهو قول مجاهد والربيع، رواه عنهما الطبري في تفسيره، وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود {وثومها}. أخرجه سعيد بن منصور في سننه (191 - التفسير) وابن أبي داود في المصاحف ص 54 بأسانيد ضعيفة. [الطبري (2/ 18) - ابن كثير (1/ 144)]. (¬5) عزاه القرطبي في تفسيره (1/ 425) وعزاه لحسان بن ثابت. (¬6) وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم [أخرجه الطبري (2/ 17)]. (¬7) البيت لأبي محجن الثقفي كما في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (254) والأغاني (19/ 2)، واللسان "ف وم".

والعدس: حبة يستوي كيله ووزنه، ويقال له: البُلْسُن. والبصل: الحوقل. والبري: العُنْصُل. والأدنى: حذفت الهمزة تخفيفًا (¬1). وقيل الأدنى: الأقرب متناولًا ووجودًا، وذلك الوصف ينبىء عن الكساد والهوان. وقوله: {اهْبِطُوا} على التقريع. وصرف {مِصْرًا} لأنها غير مُعرَّفة (¬2)، يعني مصرًا من الأمصار، وهو اسمٌ للمدينة. وأصل المِصْر: الحدّ، ومُصور الدار: حدودها. قال الشاعر (¬3): وجاعلُ الشمسِ مِصْرًا لا خفاءَ به ... بين النهارِ وبين الليل قد (¬4) فضلا {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} أي: سؤالكم بها إن هبطتم. والسؤال هاهنا ¬

_ (¬1) وهو مهموز -كما حكاه الخطابي- من الدنيء البيِّن الدناءة بمعنى الأخس، فخففت همزته، وقيل: مأخوذ من الدون أي الأحط، فاصله أَدْوَن، أَفْعَل، قُلِبَ فجاء أَفْلَع وحولت الواو ألفًا لتطرفها، وذكر الزجاج أن "أدنى" مأخوذ من الدنو أي القرب المكاني لخسَّته. [معاني القرآن للزجاج (1/ 143) - الدر المصون (1/ 394) - الطبري (2/ 130)]. (¬2) قرأه الجمهور منونًا، وهو خط المصحف، بمعنى أنهم أُمِرُوا بهبوط مصر من الأمصار فلذلك صُرِف. وقيل: أُمِرُوا بهبوط مصر بعينه وإنما صرف لخفته وسكون وسَطه مثل هنْد ودعْد، ومنه قول جرير: لم تَتَلَفَّعْ فَضْل مِئْزَرِهَا ... دَعْدُ ولم تُسَقْ دَعْدُ في العُلَبِ فجمع الشاعر بين الأمرين. وقرأ الحسن وغيره: "مصرَ" غير منونة وكذلك هي في بعض مصاحف عثمان ومصحف أُبَيّ. وقال الزمخشري: إنه مُعَرَّب من لسان العجم. والمصر في أصل اللغة: هو الحد الفاصل بين الشيئين. ولذا كان أهل هجر إذا كتبوا بيع دار قالوا: اشترى فلان الدارَ بمُصُورِها - أي بحدودها. ومنه قول عدي بن زيد: وجاعِل الشمسِ مصرًا لا خفاءَ بهِ ... بين النهارِ وبين الليلِ قد فَصَلا [البحر (1/ 234) - الكشاف (1/ 285) - ديوان عدي بن زيد ص 159 - القرطبي (1/ 429) - الدر المصون (1/ 396)]. (¬3) الشعر لـ: عدي بن زيد العبادي التميمي النصراني كما في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (121). (¬4) (قد) ليست في "ن" "أ".

بمعنى الاستبانة دون الإخبار. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أُلزموها (¬1)، ومنه الضرائب. وكان ابتداء ذلَّتهم من وقت بختنصر فإذا هي تتزايد (¬2) كل يوم. و {الذِّلَّةُ} الصَّغَار. {وَالْمَسْكَنَةُ} ذهابُ العزِّ والمُلك وفقرُ القلب {وَبَاءُوا} حادوا (¬3) عن درجة السعداء ورتبة المفلحين (¬4). وقد صحبهم موجباتُ غضب الله. {ذَلِكَ} إشارة فعلهم باؤوا. {بِآيَاتِ اللَّهِ} آيات إرميا (¬5) النبي وآيات عيسى وغيرهما - عليهم السلام - وانَّما قال: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} على وجه التأكيد أو لاستوائهم مع (¬6) غيرهم في حكم القصاص وسائر الأحكام، وان كانوا معصومين. والعصيان: تركُ الأمرِ عمدًا أو إباءً أو زلةً، والاعتداءُ: مجاوزةُ الحد. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} عارضةٌ في خطاب بني إسرائيل حثًا على الإيمان والعمل الصالح، إذ المقصود من ذلك المؤمنون واليهود والنصارى. وإنما جمع بين المؤمنين وهؤلاء في الذكر لما جمع بين الإيمان والعمل الصالح في الشرط. واليهود: جمع يهوديّ، مثل عربيّ وعجميّ، من قول موسى والسبعين {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (¬7)، وقيل: نسبوا إلى يهوذ ابن يعقوب، وهذا لا يصح لأنَّه سبطٌ واحد ولا يشملهم، ولأنَّ إسلامهم يزيلُ الاسمَ عنهم، والنسبة لم تزل الإِسلام، وفيه إبدال حرف بلا فائدة. وقيل: لتهوّدهم، أي: تحركهم عند القراءة. ويحتمل أنه متأخر ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة بسند صحيح في قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. [التفسير الصحيح د. حكمت بشير (1/ 168)]. (¬2) في "ن": (بين أيدي). (¬3) في "ب": (حالوا). (¬4) أصل باءَ في اللغة: رجع، ومنه قول الشاعر [منسوب لجابر بن جبير التغلبي]: ألا تنتهي عَنَّا ملوك وتتقي ... محارمَنَا لا يبوءُ الدمُ بالدمِ أي: لا يرجع الدم بالدم في القود. (¬5) في "أ": (إدرميا). (¬6) في "ب": (من). (¬7) سورة الأعراف: 156.

موضوع (¬1) لأجلهم. وقيل: اسمٌ اعجمي معرب، فلما عُرَّبَ جُعل كأنه اشتق من هَادَ يهُود (¬2). {وَالنَّصَارَى} جمعُ نَصْران، مثل: حيران وحَيَارَى، أو جمع نَصْري، مثل: بعير مَهْري وإبل مَهَارى. مأخوذٌ من نصرهم عيسى، إذ قال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬3). ويقال: لنسبتهم إلى قرية ناصرة، ويجوزُ أن يكون للمعنيين جميعًا (¬4). {وَالصَّابِئِينَ} أهلُ الكتاب عند أبي حنيفة تحلّ مناكحتهم وذبائحهم ووافقه السُّدي (¬5)، وقيل: هم قومٌ ¬

_ (¬1) في "ن": (موضع). (¬2) قوله تعالى: {الَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود، وفي معنى هذا الاسم ثلاثة أقوال: الأول: أنه من هاد يهود إذا تاب، وسموا بذلك لتوبتهم من عبادة العجل، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا، ومنه قول الشاعر: أنَّي أمرؤٌ من حُبَّهِ هائِدٌ أي تائب. الثاني: أنه من التهويد، وهو النطق في سكون ووقار. ومنه قول الراعي النميري: وخودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحَى ... قريضَ الرُّدَافَى بالغِنَاءِ المُهَوَّدِ الثالث: أنه من الهوادة، وهي الخضوع، فـ"هدنا إليك" أي: خضعنا إليك. وأما من حيث نسبة هذا الاسم فقيل: نسبة إلى يهوذا بالذال المعجمة، وهو ابن يعقوب - عليه السلام -، فغيرته العرب من الذال المعجمة إلى الدال المهملة. [اللسان "هود"- القرطبي (1/ 433) - ابن عطية (1/ 300) - الدر المصحون (1/ 405)]. (¬3) سورة آل عمران: 52. (¬4) قال سيبويه: النصارى جمع، واحده نَصْران ونَضرَانة كندمان وندمانة، ومنه قول الشاعر [ينسب إلى أبي الأخزر الحماني]: فكلتاهما خَرَّتْ وأَسْجدَ رأسُها ... كما أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لم تَحَنَّفِ وأنشد الطبري في نصران قول الشاعر: يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنَّفًا ... ويُضْحِي لَدَيْهِ وهو نصرانُ شَامِسُ قال سيبويه: إلا أَنَّه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النسب. وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: واحد النصارى نصري كمهري ومهارى. وقال الزمخشري: الياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري. [الكتاب (2/ 29 - 104) - البحر (1/ 151) - اللسان "نصر" - الطبري (2/ 143) - ابن عطية (1/ 301)]. (¬5) ابن أبي حاتم (639).

يؤمنون بإدريس - عليه السلام - ويوحِّدون ويعظِّمون الكواكب السيَّارة كتعظيم القِبْلة. ويحتمل أنه عني الفلاحين من نصارى بني تَغْلِبَ الذين (¬1) لا يُمسِّكون بجمِيع شرائع النصارى. وقال ابن عباس: هم قومٌ من النصارى ألينُ منهم قلوبًا. ويحتمل أنه عني المتهود أو المتنصر من المجوس وعبدة الأوثان لأنهم يُقرُّون (¬2) على ما ينتقلون إليه عندنا بخلاف المرتدين. ويحتمل أنه عني قومًا قد انقرضوا. وقال صاحباه (¬3): هم عبدة الكواكب، ووافقهما قتادة (¬4). ¬

_ (¬1) (الذين) ليست في "ب". (¬2) في "ن": (لا يقرون). (¬3) أي أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن. (¬4) هناك مبحثان في "الصابئون"؛ المبحث الأول: الناحية اللغوية لهذه الكلمة، والمبحث الثاني: الناحية المعنوية. أما المبحث الأول: من قال إنه مهموز، وهو قول الجمهور، فيكون من صبأ يقال: صبأ ناب البعير: أي خرج، وصبأتِ النجوم: طلعت. أما من قال إنه غير مهموز فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ماخوذًا من المهموز، فأبدل من الهمزة حرف علة إما ياءً أو واوًا، فصار من باب المنقوص مثل قاضٍ وغازٍ، فيكون الأصل صابٍ ثم جمع كما يُجْمع القاضي والغازي، إلَّا أنَّ سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلا في الشعر، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقًا. ثانيهما: أنه من صبأ يصبو إذا مال، فالصابي كالغازي أصله: صابو، فَأُعِلَّ كإعلال غازٍ. المبحث الثاني: معنى "الصابئون" قيل: هم الذين خرجوا من دين اليهود والنصارى فأصبحوا لا دين لهم، وقيل: هم قوم يعبدون الملائكة أو الكواكب، وقال إسحاق بن راهويه: هم فرقة من أهل الكتاب، ولذا قال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح - عليه السلام -، ونقل القرطبي عن بعض مشايخه أنهم حكموا بكفرهم، ولقد حقق شيخ الإِسلام ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين" ص 454 حقيقة الصابئة وذكر أنهم نوعان: صابئة حنفاء وهم بمنزلة من كان متبعًا لشريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتحريف، وهؤلاء حمدهم الله وأثنى عليهم. والصابئة المشركون وهم قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلّون. والكلام يطول حول تفاصيل عقيدتهم. =

والأجر: الخيرُ الموجب على السعي. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬1) في حكمِهِ وعلمه ورأيه، ففلانٌ (¬2) عند فلان، أي بيديه، والشيء عندَ فلان، أي: في قبضته، وعن علي بن أبي طلحة (¬3) عن ابن عباس (¬4): أن الآية كانت في شأن مَنْ آمن بالله واليوم الآخر فقط، وهو ثابتٌ على ملة يحسن فيها، فصارت منسوخة بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (¬5). وهذا التأويل محمولٌ على قومٍ لم يتكلفوا على الإيمان بنبي آخر وكتاب آخر حتى ماتوا. وفي هذه الرواية دلالة على جواز نسخ الجزاء في المستقبل عند الإعلام (¬6) كنسخ الواجبات من الأمر والنهي بخلاف الواقعات من الأخبار، إذ نسخ الأخبار غير متصور. ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} وأخذه: عقدُهُ وأحكامه (¬7). قال في المنافقين: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} (¬8) وقد ¬

_ = [الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة بإشراف الدكتور مانع الجهني رحمه الله (2/ 714) - تهذيب اللغة "صبا" (12/ 256) - اللسان "صبا" - التبصرة ص 422]. (¬1) في النسخ الآية خطأ (عند ربه). (¬2) في "أ" "ن": (فلان). (¬3) هو علي بن أبي طلحة سالم بن المخارق الهاشمي، يكنى أبا الحسن، مولى بني العباس، أصله من الجزيرة، وانتقل إلى حمص، قال أحمد: له أشياء منكرات، وقال الآجري عن أبي داود: وهو إن شاء الله مستقيم الحديث ولكن له رأي سوء، كان يرى السيف، أرسل عن ابن عباس ولم يره، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. [تهذيب التهذيب (7/ 298)؛ ميزان الاعتدال (5/ 163)؛ المغني في الضعفاء (2/ 450)؛ رجال مسلم (2/ 56)]. (¬4) ابن جرير (2/ 45) وابن أبي حاتم (635)، وعزاه صاحب الدر (1/ 74) لأبي داود في "الناسخ والمنسوخ". (¬5) سورة آل عمران: 85. (¬6) في "ن": (الإسلام). (¬7) أبهم الله - عَزَّ وَجَلَّ - الميثاق في هذه الآية وأوضحه في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. . .} الآية [البقرة: 83]. (¬8) سورة التوبة: 50.

يكون بمعنى الأسر، كقوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (¬1)، وبمعنى الغصب كقوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬2)، وبمعنى القبول والتمسك كقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} (¬3) {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي: قلعنا وحبسنا فوق رؤوسكم، وذلك أنَّ الله لما أنزل التوراة على موسى فأبى قومه أن يقبلوه فأمر الله تعالى بملائكة نتقت الجبلَ فوقهم فنودوا أن اقبلوا التوراة وإلا أرضختم به، فخرّوا لله ساجدين على شقِّ وجوههم يلاحظونَ الجبلَ، وقبلوا التوراةَ مكرهين. وفي رواية عطاء (¬4) وابن عباس (¬5): رفع الله الطور فوقهم وبعث نارًا من قِبل وجوههم وأتاهمُ البحر الملح (¬6) من خلفهم، فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا التوراة أحرقكم الله بهذه النار (¬7) وغرقكم في هذا البحر، وأطبق عليكم هذا الجبل، فأخذوا كارهين. والرفع نقيض الوضح. وفوق الشيء: ما لم يلحقه لعلوِّه وارتفاعه من حدّ أو حال أو محل كهاهنا (¬8). والطور: الجبل (¬9)، وقيل: الجبلُ المنبت. قال ابن عباس: هو طور سيناء، والقوةُ: ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 5. (¬2) سورة الكهف: 79. (¬3) سورة البقرة: 63. (¬4) هو عطاء بن أبي رباح واسمه أسلم القرشي مولاهم أبو محمَّد المكي، الإِمام، شيخ الإسلام مفتي الحرم، انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد. وورد عن بعض أهل العلم أن عطاء كان أسود أعور أفطس أشل أعرج ثم عمي وكان ثقة فقيهًا عالمًا كثير الحديث، وورد عن ابن عباس أنه قال: تجتمعون إليَّ وعندكم عطاء، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور وقد عاش ثمانيًا وثمانين سنة. [سير أعلام النبلاء (5/ 78)؛ طبقات الحفاظ (1/ 45)؛ تهذيب التهذيب (7/ 179)؛ رجال مسلم (2/ 100)؛ صفوة الصفوة (2/ 211)]. (¬5) البغوي (1/ 125). (¬6) في "أ": (المالح). (¬7) (النار) من "ن". (¬8) في "ب": (كما)، وفي "أ": (كذا). (¬9) الطور في كلام العرب هو الجبل، ومنه قول العجاج: دانَى جناحَيْهِ من الطورِ فَمَرّ تَقَضَّي البازِي إذا البازِي كَسَرْ =

شدةٌ تنافي الانثناء (¬1) والانكسار. وأراد هاهنا: القوة في القبول والإقبال (¬2). والذكر هاهنا: المحافظة والتذكر والاعتبار (¬3)، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} راجعٌ إلى قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} وقيل إلى قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم، كقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} (¬4) والمراد به: إعراضهم عما أُخِذَ عليهم الميثاق لأجله. و {لَوْلَا} لفظةُ شرط تقتضي توهُّم عدم المحيل لتوهم وجودِ المُحَال (¬5). وفائدتها: التنبيه على تأثير المحيل ويليها اسم مرفوع وجوابها باللام فعل مُثبت باللفظ أو منفي. {فَضْلُ اللَّهِ} تفضل الله وهو زيادة ما يستحقونه من الملاذ والمُهْلة وزيادة الدعوة والاستتابة مع التمكين من الإجابة. وإنما قال: {عَلَيْكُمْ} لأنه رجع إلى المعنى أعني التفضيل أو لأنه نعمة عليهم. ¬

_ = وقيل: هو اسم جبل بعينه، وهو الجبل الذي ناجى اللهُ عليه موسى - عليه السلام -. وقيل: هو من الجبال التي يحصل فيها الإنبات، روفي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، والجبل بالسريانية هو الطور. [الطبري (2/ 48) - ديوان العجاج ص 28]. (¬1) في "أ": (الاستنثار). (¬2) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - "بقوة" قال: بجد [أخرجه الطبري (2/ 52)]. (¬3) والمراد به التوراة. أي: اذكروا ما في التوراة واعملوا به كما قال أبو العالية والربيع وغيرهما فيما رواه الطبري (2/ 54). (¬4) في "ب": (القوم). (¬5) "لولا" حرف امتناع لوجود. قال أبو البقاء العكبري: هي مركبة من "لو" و"لا". و"لو" قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و"لا" للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي بـ "لا" على أحد امتناعي لو، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابًا، فمن هنا صار معنى "لولا" هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره. وذكر المؤلف أن الذي يليها اسم مرفوع، هذا هو الأصل خلافًا للكسائي حيث أجاز رفع الاسم بفعل مضمر، وقال الفراء: مرفوع بنفس "لولا" وخبره واجب الحذف للدلالة عليه وسَدَّ شيءٍ مسدّه وهو جوابها، والتقدير: ولولا فضل الله كائن أو حاصل ولا يجوز أن يُثْبَت إلا في ضرورة الشعر، ولذلك لُحَّنَ المعري في قوله: يذيبُ الرُّعْبُ منه كلُ عَضْبٍ ... فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لسالا [الإملاء (1/ 41) - الكتاب (1/ 528) - الدر المصون (1/ 409)].

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا} نزلت في شأن هؤلاء اليهود أيضًا، يذكِّرهم قصةَ قوم منهم كانوا يسكنون أيلة على ساحل البحر ابتلاهم بإتيان الحيتان آمنةً يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم مخافة الاصطياد، وذلك بإلهام الله تعالى الحيتان كإلهامه الصيد في الحرم فلا ينفر. فاعتدوا في سبتهم حرصًا وشرهًا فمسخهم الله قردةً خاسئين. قال ابن عباس (¬1): اعتداؤهم حقيقة الاصطياد في يوم السبت. وقال الحسن: كانوا يرسلون الشصوص في آخر يوم الجمعة وكانت الحيتان تعلق بها يوم السبت فيأخذون يوم الأحد وكانوا منهيين عن الحيل ثم وضع الإصر عن هذه الأمة وأباح الحيل فيما لا يستقبح، وفي لفظه (¬2) (قَدْ) نوع (¬3) تأكيد لإثباته الفعل الواقع حيثما كان ولا يدخل على الأفعال المجزومة لأنها ليست بواقعة ولا (¬4) على الأفعال التي أكدت بالنون لاستثقال التأكيدين والقسم مقدَّر فيه فكأنه قيل: والله لقد علمتم (¬5). والعلم: رؤية تنفي الجهالة أو رؤية تعم (¬6) الغيب والشهادة. ويتعدى (¬7) إلى مفعول واحد، كقولك: علمت (¬8) الخير والشر، وإلى مفعولين كقولك: ¬

_ (¬1) الطبري (2/ 168) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مطولًا. (¬2) (وفي لفظة) ليست في "أ". (¬3) (نوع) ليست في "ن". (¬4) (ولا) ليست في "أ". (¬5) "قد" حرف تحقيق وتوقع، وتفيد في المضارع التقليل إلا في أفعال الله تعالى فإنها للتحقيق، وقد تخرج المضارع إلى المُضِي كقول الشاعر [ينسب لعبيد بن الأبرص]: قد أتركُ القِرْنَ مُصْفَرًا أناملُهُ ... كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بِفُرْصَادِ الفرصاد: ماء التوت. وهي لا تدخل إلا على الماضي والمضارع وتحدث في الماضي التقريب من الحال ولها استعمالات أخرى مفصلة في بابها. [الدر المصون (1/ 412) - ديوان عبيد بن الأبرص ص 149 - الكتاب (2/ 307) - شواهد المغني ص 494 - ابن يعيش (8/ 147)]. (¬6) (تعم) ليست في "أ". (¬7) (ويتعدى) ليست في "أ". (¬8) في "أ": (علمتم).

علمت (¬1) كذا. {فِي السَّبْتِ} أي: في يوم السبت، وقيل في استخفاف شأن السبت. والسبت الذي يلي الجمعة، وهو مصدر لقوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} (¬2) وهو عبارة عن الفراغ والاستراحة (¬3)، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)} (¬4) {فَقُلْنَا لَهُمْ} حقيقة القول عند أهل السنة {كُونُوا} أمر تكوين (¬5) وإيجاد، كقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} الآية، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا} (¬6) الآية. وقول الله تعالى حقيقة، وقد أكّد بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬7) والتأكيد لنفي إيهام الاستعارة، وفي فحوى قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} (¬8) الآية ما يدلُّ على أن القول صفته حقيقة، والأدلة عليه موجودة في سائر قصصه وأخباره وأوامره ونواهيه ووعده (¬9) وإيعاده. وقول الجماد فلأن الله تعالى أنشأ النطق في الأجزاء المؤلفة علي بنية حيوانية، قال الله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (¬10) فلولا أن تسبيح الجبال بالقول حقيقة وإلا لم يكن ¬

_ (¬1) "علم" هنا بمعنى عرف، فهي تتعدى إلى مفعول واحد، و"الذين اعتدوا" الموصول وصلته في محل نصب مفعولًا به. ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم. (¬2) سورة الأعراف: 163. (¬3) السبت في الأصل مصدر سبَتَ، أي: قطع العمل. وقال ابن عطية: السبت: إما مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدَّعَة، وإما من السَّبْت وهو القطع لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسه أي: حَلَقَه. وقال الزمخشري: السبت مصدر سَبَتَت اليهود إذا عظَّمت يوم السبت. قال السمين الحلبي وفيه نظر: فإن هذا اللفظ موجود واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليهود ذلك. [الدر المصون (1/ 413) - الكشاف (1/ 286) - الإملاء (1/ 42)]. (¬4) سورة النبأ: 9. (¬5) كذا قال السمعاني في تفسيره (1/ 506)، وانظر: البغوي (1/ 69)؛ والبحر (1/ 346)؛ وابن عطية (1/ 308). (¬6) سورة النحل: 40، والآية كتبت خطأ. (¬7) سورة فصلت: 11. (¬8) سورة الشورى: 164. (¬9) (ووعده) ليست في "أ". (¬10) سورة الأنبياء: 79.

لتخصيصه معنى. {قِرَدَةً} واحد قرد كالفيل والفِيَلة، وهو ضرب من الوحوش يأتلف كالدب، وتسمى الأنثى قشة. والأمة الممسوخة لا تتناسل عند أكثرهم لأنهم لم يعيشوا فوق ثلاث. وقيل: إن هذه القردة منهم، ويجوز تناسل الممسوخ وبقاؤه (¬1)، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرَّج عن أكل الضب (¬2). وقال: "إن أمةً من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض ولا أدري أي الدواب هي" (¬3). {خَاسِئِينَ} متباعدين على الذلِّ والصِّغار، تقديره: خاسئين قردة (¬4) وإلا يقال: قردة خاسئة، لكن التقديم والتأخير لوفق رؤوس الآي. ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في الممسوخ هل يَنْسُل على قولين؛ قال الزجاج: قال قوم: يجوز أن تكون هذه القردة منهم، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الجمهور: الممسوخ لا يَنْسُل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبقَ لهم نسل, لأنه قد أصابهم السخط والعذاب. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب. وذكر ابن عطية أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وصَحَّحَ القرطبي هذا القول واعترض كلام ابن العربي وردَّ جميع ما استدلَّ به وقال: لا حجة في شيء منه. وقد ردَّ الطبري قول مجاهد حين قال إنهم لم يمسخوا وبيَّن بطلان هذا القول مؤكدًا حقيقة المسخ الذي أنزله الله في بني إسرائيل فجعل منهم القردة والخنازير. [القرطبي (1/ 440) - الطبري (2/ 66)]. (¬2) في "أ": (الندب) وهو خطأ. (¬3) الحديث رواه أبو داود (3789)، والنسائي (7/ 226)، وابن ماجه (3238) والحديث صحيح. (¬4) في إعراب {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أربعة أوجه: الوجه الأول: أن يكونا خبرين بناء على أن الخبر لا يتعدد، قاله الزمخشري وجعلهما خبرًا واحدًا فهو من باب "هذا حلو حامض". الوجه الثاني: أن يكون "خاسئين" نعتًا لقردة، قاله أبو البقاء العكبري. الوجه الثالث: أن يكونا حالًا من اسم "كونوا" والعامل فيه "كونوا". الوجه الرابع: أن يكون حالًا من الضمير المستكن في "قردة" لأنه في معنى المشتق. [الكشاف (1/ 286) - الإملاء (1/ 42) - الدر المصون (1/ 414)].

{فَجَعَلْنَاهَا} أي: القرية أو القردة أو الأمة أو العقوبة (¬1)، {نَكَالًا} عقوبة. تنكل الناس عن الإقدام على مثل جريمة حلَّت لأجلها، ويطلق على المعاقب أيضًا (¬2)، وهو اسم كالسحاب والشراب (¬3). {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قدامها. وبين الشيئين: ما توسطهما من المكان أو الحال. واليد: اسم للجارحة التي هي بمنزلة الجناح، وتطلق على معنى: النعمة والقدرة والقضية وغيرها (¬4). والأصل: يدي، والجمع الأيدي. وخلف الشيء: المكان الذي هو يعرض عنه، والمراد {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}: من وراءها من الأمم والقرى. وقيل: من شاهدها ومن سمع بها (¬5). والموعظة: مصدر كالموجدة، ولم تلحق الهاء بالأكثر كالموعد ¬

_ (¬1) اختلف المفسَّرون في الضمير - الهاء والألف - في قوله: "فجعلناها" علام هو عائد. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيه قولان: القول الأول: عائد على العقوبة وهي المسخة. والقول الثاني: أنه يعود إلى الحيتان مع أنه لم يجر لها ذكر، ولكن لما كان في الخبر دلالة كنى عن ذكرها والدلالة على ذلك قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}. [الطبري (2/ 70) - الدر المنثور (1/ 401)]. (¬2) النكال هو المنع، ومنه النِّكْلُ: اسمٌ للقيد من الحديد واللحام لأنه يُمْنَع به، وسمي العقاب نكالًا - كما ذكره المؤلف - لأنه يُمْنَع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه ويَمْنَعُ المُعَاقَب أن يعود إلى فعله الأول. والتنكيل إصابة الغير بالنَّكَال ليُرْدَعَ غيره، ونكل عن كذا ينكل نكولًا امتنع. وفي الحديث: "إن الله يحبُّ الرجل النَّكَل" أي القوي على الفرس. [النهاية في غريب الحديث (5/ 116)]. (¬3) في "ب": (السراب). (¬4) أما المعنى المراد في هذه الآية {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي: ليحذر من بعدهم عقوبتي التي وقعت بين يدي المسخة {وَمَا خَلْفَهَا} الذين كانوا بقوا معهم. هكذا قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما رواه ابن جرير في تفسيره (2/ 70). (¬5) ما ذكره المؤلف من إطلاق اليد على معانٍ عدة منها اليد الجارحة التي هي من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف، وهي مؤنث محذوفة اللام على وزن فَعْل يَدْيٌ، فحذفت الياء تخفيفًا، وهذا هو الأصل في إطلاقها. وتطلق ويراد بها القوة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم" =

والموثق، وهو قريب من النصيحة والإنذار. وتخصيص اِلمتقين لأنهم هم المرادون بالاتِّعاظ وإن لزمت الحجة الكافة، كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} إلى ست آياتٍ أو سبع نزلت في قصة عاميل المقتول في بني إسرائيل بعد رجوع موسى - عليه السلام - بهم إلى مصر، قتله ابنا عمٍّ له ليرثاه فطرحاه بين قريتين عظيمتين (¬1). ورُوِيَ أن ابنَ أخٍ له قتله لينكحَ ابنته، ورُوِيَ أنه طرح (¬2) على بابٍ من أبواب المسجد، وكان لمسجدهم اثنا عشر بابًا لكل سِبْطٍ بابٌ، فتخاصم الناسُ وتحاكموا إلى موسى - عليه السلام - فحكم بحكم القَسَامة (¬3)، وهي في التوراة على نحو ما في شريعتنا، غيرَ أنهم كانوا متعبدين (¬4)، فيما يروى ¬

_ = [أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند حسن - صحيح الجامع رقم 6712] ومنه قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. وتطلق ويراد بها الغنى والقدرة، تقول: له عليَّ يد، أي: قدرة، ومنه قول ذي الرُّمَّة: ألا طرقتْ ميُّ هَيُومًا بذكرها ... وأَيْدِي الثُّرَيَّا جُنَّحٌ في المَغَارِبِ وفي قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} أي: عن اعتراف للمسلمين، وَيد القوس: أعلاها، ويد السيف: مقبضه، ويد الرحا: العود الذي يقبض عليه الطاحن، ويد الطائر: جناحه، كما تطلق اليد على النعمة، ومنه قول الأعشى: فَلَنْ أَنْكُرَ النُّعْمَانَ إلا بصالحٍ ... فإنَّ له عندي يَدِيًا وأَنْعُمَا [المحكم (9/ 363) - ديوان ذي الرمة ص 191 - لسان العرب "يدي" - العين (8/ 102)]. (¬1) القصة بطولها رواها الطبري في تفسيره، والبغوي عن أبي العالية وغيره، وعلَّق الحافظ ابن كثير في تفسيره على هذه الرواية بقوله: وهذه السياقات فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدِّق ولا نكذِّب، فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. اهـ. وما قاله ابن كثير هو المتعين، والله أعلم. [الطبري (2/ 184) - البغوي (1/ 70) - ابن كير (1/ 157)]. (¬2) (أنه طرح) ليست في "أ" "ن". (¬3) القسامة: توزيع أيمان أولياء القتيل إذا ادَّعوا الدم، وبعبارة أخرى: هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وسمِّيت قسامة لأنها تعتمد على القسم. [المغني لابن قدامة (12/ 188)]. (¬4) في "ن" "أ": (متعدين).

بأن يضعوا أيديهم على بقرةٍ مذبوحةٍ ثم يحلفوا بالله الذي لا إلهَ إلا هو إله بني إسرائيل ما قتلناه، وما علمنا قاتله. فلما وقعت هذه الواقعةُ أَبَوْا إلا تعيين القاتل، ولم يدفنوا المقتول أيامًا، وآل بهم الأمر إلى الاختلاف والاقتتال. فلما طالَ الشرُّ شَكَوْا إلى موسى - عليه السلام - فوعدهُمُ الله تعالى إحياءَ المقتول على شريطة ذكرها في هذه الآية، لتبيين القاتل، ويكون ذلك آيةً على البعث والنشور، فاتَهموا نبيَّ الله، وغَلَوْا في دين الله، وما كادوا يأتون بالشريطة لكثرة تمرُّدهم وتردُّدهم. ثم قست قلوبُهم من بعد مشاهدة الآية أو وقوع العلم بها فهي كالحجارة أو أشد قسوة، على ما وصفه الله تعالى. و (إذْ) ظرف على ما تَقَدَّمَ، ويحتمل أن يكون العامل فيه قالوا، ويحتمل أن يكون التقدير في قالوا: فقالوا، إلا أنه أسقط حرف العطف لاستقامة الجواب بذاته، كما في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) الآيات، {بَقَرَةً} واحده بقر (¬2). والبقر: اسم جنس، والجمع باقر وبقور (¬3). وفي الآية دليل على ثبوت العموم لأن تقديرها: أن تذبحوا بقرة ما (¬4)، كما تقول (¬5) للغلام: ناولني حصاةً وادعُ ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 23، 24. (¬2) ليست في "ب". (¬3) البقرة: تقع على الذكر والأنثى نحو حمامة، والصفة يتميز الذكر من الأنثى. وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصة من هذا الجنس مقابلة للثور نحو ناقة وجمل، وأتان وحمار، وسمي هذا الجنس بذلك لأنه يبقر الأرض أي: يشقّها بالحرث، والجمع بقر وبقور وباقر وبقير. ومن جمعها على أبقر قول معقل بن خويلد الهذلي: كأنَّ عَرُوضَيْهِ مَحَجَّة أَبْقُرٍ ... لهنَّ إذا ما رُحْنَ فيها مَذَاعِقُ وقال ابن سيده: إن باقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة هي أسماء جمع. ورجل بَقَّار أي صاحب بقر. [المحكم لابن سيده (6/ 395) - أشعار الهذليين ص 1319 - لسان العرب "بقر" - تاج العروس "بقر"]. (¬4) ليست في "ب" "أ". (¬5) ليست في "ب".

لي رجلًا، فجملوه على طريق الإجمال ولم يتسارعوا إلى الائتمار والإقبال فَزلُّوا وأَضلّوا. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو اعترضوا على أية بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شدّدوا فشدَّد الله على أنفسهم" (¬1). والهُزؤ: مصدرٌ أقيم مقام المفعول (¬2)، كقوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} يعني: مستهزأ به، والجهلُ: نقيضُ العلم. والشيءُ المجهول ما لا يثبت معلومًا معقولًا. وقد يكون بمعنى الاعتداء، قال الشاعر (¬3): أَلاَ لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فَنَجْهَل فوقَ جهلِ الجاهلينا والوجهان محتملان هاهنا, لأن من استهزأ في غير (¬4) موضع الاستهزاء كان جاهلًا بقبحه متعديًا في أمره. {يُبَيِّنْ لَنَا} تبيينك الشيءَ: تصييرُكَ إياه بيِّنًا، والبيان والإبانة والاستبانة بمعنى (¬5)، وهو: الامتياز والاتِّضاح، والتمييزُ والإيضاح والتبيين نقيضُ: التلبيس وغير التبيين. {مَا هِيَ} استفهامٌ عن صفة (¬6) البقرة، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الطبري (2/ 204)، والبيهقي في السنن (6/ 362) وعزاه ابن كثير في تفسيره لابن مردويه وقال عن الحديث: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة". وقد ضعفه ابن حجر في الكافي الشافي (1/ 151). والأثر وجدته عند ابن أبي حاتم (690) من قول عبيدة السليماني عن بني إسرائيل، وهذا هو الراجح أنَّه من الإسرائيليات. (¬2) {هُزُوًا} هي مفعول ثانٍ لـ {أَتَتَّخِذُنَا}، وفي وقوعها مفعولًا ثانيًا ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه على حذف مضاف أي ذوي هُزْء. القول الثاني: أنه مصدر واقع موقع المفعول به، أي: مهزوءًا بنا. القول الثالث: أنهم جعلوا نفس الهُزْءِ مبالغة، وهذا القول أقرب الأقوال، وهو الذي رجحه السمين الحلبي في تفسيره. [الدر المصون (1/ 418) - البحر (1/ 250) - الكشاف (1/ 286)]. (¬3) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم. (¬4) ليست في "أ". (¬5) ليست في "أ". (¬6) ليست في "ن".

والاستفهام عن (¬1) الصفة قد يكون تارةً بلفظ إيش، وتارة بلفظ ما، وتارة بلفظ مَنْ، يقول: إيش هذا؟ وما هذا (¬2)؟ ومَنْ هذا؟ والاستفهامُ عن الحال والهيئة يكون بلفظ كَيْفَ. وفيه دليلٌ على أن الصفة لا تباينُ الذات بخلاف الحال والهيئة (¬3). وقوله: {إِنَّهَا} تدلُّ على أن تخصيص العموم لا يكونُ نسخًا وإلاَّ لَما صَحت الكناية عن الأول, لأنَّ النسخ عبارة عن الرفع والإزالة، والتخصيص: عبارة عن النص والإفراد. {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} أي: ليسَت بمسنة ولا التي لم تنتج، وقيل البكر: التي لم تحمل إلا بطنًا واحدًا (¬4). {عَوَانٌ} دون المُسِنَّة وفوق البكر، ورُفِعَ لأنه خبر مبتدأ محذوف (¬5)، أي: هي عوان (¬6). {بَيْنَ ذَلِكَ} اختصار، وتقديره: بين ذلك وذلك، قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬7)، {وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬8) وقيل: معناه بين ذلك الوصف في الاثنين بين فعلهم وبين فعله. وقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} يدلُّ على أنَّ الأمر غيرُ محتمل وأنهم لم يكونوا محتاجين إلى التفسير ولكن شددوا وتكلَّفوا مما لم يكن عليهم. ¬

_ (¬1) (عن) إضافة منا ليستقيم المعنى. (¬2) (وما هذا) ليست في "ن". (¬3) (والهيئة) ليست في "ن". (¬4) انظر تفسير الطبري (2/ 190) - زاد المسير (1/ 97) - البغوي (1/ 71) - تهذيب اللغة (10/ 223). (¬5) وقيل: {عَوَانٌ} صفة لبقرة، قاله السمين الحلبي واختاره محمود صافي في إعراب القرآن. [الدر المصون (1/ 421) - الجدول في إعراب القرآن لمحمود صافي (1/ 156)]. (¬6) (عوان) ليست في "ب". (¬7) سورة النساء: 143. (¬8) سورة الفرقان: 67.

{مَا لَوْنُهَا} اللون: اسمٌ يعمُّ أعراضاً يتبين به الجوهر لحاسة العين. {صَفْرَاءُ} أي: لون اليرقان والزعفران، إلَّا أنَّ الصفراء قد يكون نعتاً للسود من الإبل، وذلك لأنَّ سوادها لا يخلو من صفرة، والدليل على أَنَّه لم يُرد ها هنا السواد تأكيدهُ بـ {فَاقِعٌ} لأنه يقال: أسود حالك وأصفرُ فاقع (¬1). وفاقع: خبر (...) (¬2). و {لَوْنُهَا}: اسم. {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} صفة للبقرة. والسرور: نقيض الحزن، ويدلُّ على أن المراد به الصُّفرة؛ لأنَّ الصفرة هي التي تسرُّ الناظرين. {تَشَابَهَ} اشتبه والتبس (¬3)، وإنَّما لم يقل: تشابهت, لأن البقر اسم ¬

_ (¬1) جمهور المفسرين أنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة، حتى ذهب بعضهم إلى أن الصفرة في القَرْن والظِّلْف. وذكر بعضهم أنه من شدة اصفرارها أصبح لونها قريبًا من السواد، حتى قال الحسن البصري: "صفراء" معناه سوداء، ومنه قول الشاعر [وينسب للأعشى]: تلك خيلي منه وتلك رِكابي ... هنَّ صُفْرٌ أولادها كالزبيبِ والأظهر والله أعلم أنه لا تقارب بين الاصفرار والسواد، ولو كان قريبًا منه لما أكده بـ {فَاقِعٌ} وهو نعت مختصٌّ بالصفرة، ولذا تقول العرب: أسود حالك، وأحمر قانٍ، وأبيض ناصع، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع. قال الكسائي: يقال: فقع لونها يفقع فقوعًا إذا خلصت صفرته. [لسان العرب "فقع" - الطبري (2/ 94) - القرطبي (1/ 450) - ديوان الأعشى ص 68]. (¬2) كلمة غير واضحة، ولعلها حتى يستقيم الكلام [مقدم] أي أن "فاقعٌ" خبر مقدم و"لونها" مبتدأ مؤخر كما ذكره أبو البقاء. [الإملاء (1/ 42)]. (¬3) قرىء {تَشَّابَهَ} مشدداً ومخففاً، والأصل: تتشابهُ بتاءين، فأدغم وحذف منه أخرى، وكلا الوجهين مقيس. وقرأ ابن مسعود: {يَشَّابَهُ} بالياء، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان لأن فاعله اسم حسن، وفيه لغتان: التذكير والتأنيث، ومنه قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فأنَّثَ، وقوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] فذكِّر. وفي مصحف أُبَيّ: {تَشَّابَهَت} بتشديد الشين، قال أبو حاتم: هو غلط لأن التاء في هذا الباب لا تُدْغَم إلا في المضارع. [البحر (1/ 253) - ابن عطية (1/ 315) - معجم القراءات (1/ 70) - المذكر والمؤنث للأنباري ص 547].

الجنس. قال - عليه السلام - (¬1): "لولا أنهم استثنوا لما اطَّلعوا على قاتله" (¬2). وفي هذا ونظائره دليلٌ على أنَّ الأمور خيرها وشرها بمشيئة الله (¬3). {لَا ذَلُولٌ} إنما ارتفع لأنه صفة معينة (¬4) وليس بجنس، ومن حق (لا) أن تبنى مع الأجناس فكأنه قال: ليست بذلول لإثارة الأرض. والذلول: المُسَخَّر (¬5). وإثارةُ الأرض: ضربُها وقلبُها. وقيل: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} مستأنف غير متصل (¬6) بما قبله، واستحسن (¬7) الوقف على قوله: لا ذلول (¬8). وقيل: لا ذلول، أي: ليست بذلول للحمل (¬9) والركوب. والحرث: اسم هاهنا، ويجوز أن يكون مصدرًا كالحراثة، وهو يطلق على ما لم ينبت من البذر، فإذا نبت فهو زرع ويجوز (...) (¬10) اسم الزرع ولا يجوز تقديم اسم الزرع. وإنما يسقى البقرُ الأرض بالدوالي إذا كانت مرتفعة. {مُسَلَّمَةٌ} صفة للبقرة، ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف، ¬

_ (¬1) في "ب": (صلَّى الله عليه وسلم). (¬2) الحديث روي موصولًا عند ابن أبي حاتم (722) وسنده ضعيف جدًا، ويروى عند الطبري (2/ 205) وغيره بأسانيد مرسلة ومنقطعة ولا يصح بطريق موصولة. انظر: الدر المنثور (1/ 77). (¬3) (الله) ليست في "أ". (¬4) وقيل إن "ذلول" خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: لا هي ذلول. والجملة من المبتدأ والخبر في محل رفع صفة لبقرة. وعلى قراءة أبي عبد الرحمن السلمي {لا ذلولَ} بالنصب على أن "لا" للتبرئة والخبر محذوف. التقدير: لا ذلولَ ثَمَّ. ومنع الأخفش النصب وقال: لا يجوز نصبه. [ابن عطية (1/ 316) - الكشاف (1/ 288) - الدر المصون (1/ 428)]. (¬5) أي لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذلَّلَة بيِّنة الذِّل - بكسر الذال -، ورجل ذليل بيِّن الذُّلِّ - بضم الذال -. أي: هي بقرة صعبة غير رَيِّضة لم تذلَّل بالعمل. [تهذيب اللغة "ذلل" (14/ 408) - الكشاف (1/ 75) - البحر (1/ 256)]. (¬6) في "ن": (مستأنف). (¬7) في "ي" "ب": (ليستحسن). (¬8) (لا ذلول) ليست في "ن". (¬9) في "أ" "ن": (الحمل). (¬10) كلمة غير مقروءة، ولعل الكلمة الساقطة (أن يكون) ليستقيم الكلام.

ومعناه: مَصُونةٌ عن الآفات وهي (¬1) العيوب والتسخير {لَا شِيَةَ} لامعة (¬2)، وعن سعيد بن جبير (¬3) والحسن: كانت صفراء الظِّلفِ والقرن (¬4). و {الْآنَ} اسم للوقت الموجود أعني الحال (¬5)، وهو منتصبٌ على الظرف، والعامل فيه جِئْتَ، والمجيءُ: الإتيانُ بالحَقِّ أي: ما لا يندفع بالدفع ولا يلتبس، وهاهنا اختصار تقديره: فوجدوها واشتروها فذبحوها. جاء في التفسير أنهم وجدوها عند غلام (¬6)، قال ابن عباس (¬7): كان أبوه استودعَ الله تعالى هذه البقرة وهي عجل فَشَبَّتْ في الغيضة كالوحش، فلما كَبُرَ الغلامُ مَكَّنَتْهُ من نفسها، فأتى بها أُمَّهُ فلما ساوموا بها اليتيم قالت ¬

_ (¬1) في "أ": (وعن). (¬2) قال الزجاج في معنى قوله تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا} أي: ليس فيها لون يفارق لونها. وردَّ الطبري والرازي هذا القول وقالا: إن اللفظ يقتضي سلامتها من العيوب، وهذا ما عليه عامة المفسِّرين، ولعلَّ قول المؤلف "لامعة" قريب من قول الزجاج الذي أكَّد على صفاء لونها في معنى "لا شية". [الطبري (2/ 214) - الرازي (3/ 121) - تفسير السمعاني (1/ 514) - معاني القرآن للزجاج (1/ 124)]. (¬3) هو سعيد بن جبير بن هشام، الإمام الحافظ المقرئ المفسِّر الشهيد، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الأسدي الكوفي، أحد الأعلام، ثقة ثبت، كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء - أي سعيد -، وقال ميمون: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قُتل بين يدي الحجاج سنة اثنتين وتسعين ولم يكمل الخمسين، حديثه عند الستة. [تقريب التهذيب (234)؛ تهذيب التهذيب (4/ 11)؛ سير أعلام النبلاء (4/ 321)؛ طبقات الحفاظ (1/ 38)؛ تهذيب الأسماء (1/ 210)]. (¬4) الطبري (2/ 199). (¬5) "الآن" ظرف زمان يقتضي الحال ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين، وقال بعضهم: هذا هو الغالب وقد جاء لغير الحال كقوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} [الجن: 9] وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نص في الاستقبال. [الدر المصون (1/ 433) - البحر (1/ 257)]. (¬6) الطبري (2/ 185 - 187)، وابن كثير (1/ 113). (¬7) الطبري (2/ 110) وابن أبي حاتم (1/ 143).

أمه: لا تَبعْها حتى تشاورني، وكان حينئذٍ (¬1) ثمن البقرة ثلاثة دنانير. فأبى الغلامُ وأُمُّه بيعها إلا بملء مَسْكِها ذهبًا، فاشتروا بذلك. وقال السُّدِّيُّ: كان الغلامُ بارًا بأبيه، جاءه رجلٌ بلؤلؤ فابتاعه منه بسبعين ألفًا، وكان في اللؤلؤ فَضْلٌ فقال: إنَّ أبي نائم والمفتاح تحت وسادته فأنظرني ولك عشرة آلاف زيادة، فقال الرجل: وأنا أحطُّ عشرةَ آلاف على أن (¬2) توقظ أباك. قال الغلام: وأنا أزيد عشرين على أن تنظرني ساعةً، فلم يزل يزيدُ هذا أو يحطُّ ذلك حتى استيقظ أبوه، فأعقبه الله ببرِّه بأبيه نفاسة تلك البقرة حتى اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبًا. قال وهب: كانت البقرة للقاتل، عن أبي العالية: كانت لعجوز قيمةٍ على اليتامى (¬3). {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} على الذم لكثرة تردُّدهم. {فَادَّارَأْتُمْ} تدافعتم، صيّرت التاءُ دالًا وأُدغِمت في الدال فصارت المدغمة ساكنة فابتدأ بها همزة الوصل (¬4). نظيره: {اثَّاقَلْتُمْ} (¬5) و {تَسَاءَلُونَ} (¬6) والدرء: الدفع (¬7) {مُخْرِجٌ}، والإخراج: الإبراز والإظهار. ¬

_ (¬1) (حينئذ) ليست في "أ". (¬2) في "ب" "ن": (عمَّا). (¬3) في "ب": (أيتام). (¬4) أي أن أصلها "تدارأتم" على وزن تفاعلتم، من الدرء. والدرءُ: العوج، ومنه قول أبي النجم العجلي: خشيةَ طغَّام إذا هَمَّ جَسَرْ ... يأكلُ ذا الدَّرْءِ ويقصي مَنْ حقرْ ما حصل لهذه الكلمةً من إعلال وإبدال هو: أن التاء قريبة من مخرج الدال، وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الثنيتين، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين، فأدغمت التاء في الدال فجعلت دالًا مشددة، ومنه قول الشاعر: تولي الضجيعَ إذا ما استافها خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ يريد: إذا ما تتابع القُبَلُ فأدغمت إحدى التاءين بالأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال جعلت دالًا مثلها فَسَكَنَت، فجلبوا ألفًا ليصلوا إلى الكلام بها. [معاني القرآن للفراء (1/ 438) - الطبري (2/ 119)]. (¬5) سورة التوبة: 38. (¬6) سورة النساء: 1. (¬7) انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 126) - المحرر (1/ 319) - البحر (1/ 259) - لسان العرب "درء" - الطبري (2/ 222).

{اضْرِبُوهُ} الهاء كناية عن الميت أو المقتول أو الشخص أو الإنسان أو الرجل (¬1). {بِبَعْضِهَا} ببعض البقرة. قال ابن عباس (¬2): إنه العظم الذي يلي الغضروف. وعن الضحاك (¬3) أنه: لسانها. وعن قتادة وعكرمة (¬4) أنه فخذها، وخصَّ الكلبي: الفخذ اليمنى. وعن سعيد بن جبير أنه عَجْب ذنبها الذي تركب عليه الخلق ولا تأكله الأرض. وعن السُّدي (¬5) أنه: المضغة التي بين كتفيها. وقيل هو: الأُذُن. والكاف للتشبيه (¬6) و {كَذَلِكَ} إشارة إلى إحياء عاميل. والإحياء ههنا تركيبُ الروح في الجسد و {الْمَوْتَى} جمع مَيِّت وأصله عند الفراء: مَوِيْت كَصَرِيع وصرْعى (¬7)، وجَرِيح وجَرحى، ¬

_ (¬1) حتى يوافق عود الضمير على مذكر يجب تأويل النفس بالشخص أو الإنسان أو القتيل. [البيضاوي (2/ 184) - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 565)]. (¬2) ابن أبي حاتم (1/ 154)، وعزاه صاحب الدر (1/ 79) لوكيع وعبد بن حميد والفريابي وابن المنذر. (¬3) لم أجده عن الضحاك ولا عن غيره بهذا التفسير. (¬4) أما عن قتادة فرواه عبد الرزاق (1/ 70) وعزاه صاحب الدر (1/ 79) لعبد بن حميد، وأما عن عكرمة فرواه الطبري (2/ 125) وابن أبي حاتم (752). (¬5) ابن جرير (2/ 126) وفيه (بالبضعة) بالباء، وما ذكره المؤلف عن الكلبي وسعيد بن جبير لم أجده في كتب التفاسير والمراجع التي بين يدي. (¬6) "كذلك" قال أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن: في محل نصب لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره: يحيي الله الموتى إحياءً مثل ذلك الإحياء، فيتعلق بمحذوف، أي: إحياءً كائنًا كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المُعَرَّف، أي: ويريكم الإراءة حال كونها مُشْبِهَةً ذلك الإحياء، وهو مذهب سيويه. [إعراب القرآن للنحاس (1/ 188) - الدر المصون (1/ 434)]. (¬7) الموتُ والموتان: ضد الحياة. قال سيبويه: اعتَلَّتْ من فَعِلَ يَفْعُلُ ولم تُحَوَّلْ كما يُحَوَّلُ ونظيرها من الصحيح فَضِلَ يفضُلُ، ولم يجىءْ على ما كثر واطَّرد في فَعِلَ. وقال كراع: الأصل في ماتَ مَوِتَ بالكسر مثل دام أصلها دَوِمَ. ومَيْت ومَيِّت تجمع على أموات. وقال سيبويه: تجمع بالواو والنون لأن الهاء تدخل في أنثاه كثيراً، ولذا يقال في الأنثى مَيِّتَة ومَيْتَة، ووافق المذكر كما وافقه في بعض ما مضى. وجاء في التنزيل: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}. =

فاستثقلت الكسرة (¬1) على الواو والخروج من الواو إلى الياء، فجعل ياء فأدغمت الياء في الياء. وقيل أصله: مَيْوِت. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} والرؤية: حقيقة المشاهدة، وإراءتك الشيء شيئًا: تحصيلك رؤيته إياه. قيل: المخاطبون هم اليهود، والمراد آباؤهم، والآيات: إحياء عاميل وغيره مما كان في بني إسرائيل، وقيل: هم اليهود والعرب، والآيات: إخبار النبي - عليه السلام - عما لم يشهدهُ ولم يسمع به من الثقلين. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تفهمون (¬2) وتفقهون، والمراد هاهنا استعماله والانتفاع به. {قَسَتْ} جَفَت وصلبت (¬3). وهي صلابةٌ مذمومة، يقال: درهمٌ قَسِيٌّ على وزن شَقِيّ وهو الرديء والمغشوش، وذلك لأنه أشدّ صلابةً مِنَ الفضة المحضة. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد إحياء عاميل. {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أ} أي: مثل الحجارة. و (أوْ) بمعنى الواو، وقيل ¬

_ = [المحكم لابن سيده (9/ 543) - جمهرة اللغة ص 1307 - تاج العروس "موت" - لسان العرب "موت"]. (¬1) في "أ": (الكثرة). (¬2) (تفهمون) زيادة من هامش "ي". (¬3) قست: بمعنى جَفَتْ وَغَلُظَت. كما قال الراجز: وقدْ قسوتُ وقسا لُدَّتي يقال: قسا وعسا وعتا كلها بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصَلُب. ومعنى الآية: غلظت قلوبكم مثل غلظ الحجارة في عدم التأثر بالآيات، قال البركوي: "قست" استعارة تبعية فعلية تمثيلية تشبيهًا حال قلوبهم في عدم تأثرها من الآيات بحال الحجارة. [الطبري (2/ 129) - تفسير البيضاوي (1/ 330) - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 569) - مجاز القرآن (1/ 158)].

بمعنى: بل (¬1). إلَّا أن في مثل هذا الموضع لاستدراك الصواب بالأصوب. الأشد، أي: الأغلظ، وإنما ارتفع واشتدّ عطفًا على الخبر وهو الكاف (¬2)، ويجوز أن يكون كاف التشبيه في محل الإعراب، قال الشاعر (¬3): أتنتهون ولا يَنْهَى ذوي شَطَطٍ ... كالطعنِ يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُلُ فأخبر عن الكاف، والإخبار عن الاسم لا غير دلَّ على (¬4) أنه يقبل الإعراب في التقدير. ولفظة {أَشَدُّ} هاهنا للمبالغة في التفضيل. يقال: اليوم أشدُّ بردًا من أمس. ونصب قَسْوَةً على التفسير (¬5). والألف واللام في (الحِجَارة) لاستغراق الجنس. و (مَا) بمعنى الذي وهو في محل النصب لمكان إن، والهاء في (مِنْهُ) كناية عما يتفجر منه الأنهار (¬6) أي: ماء ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على أوجه الإعراب في "أو" عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وما قيل فيها هناك يقال هنا في هذا الموطن من الآية. والأظهر في هذه الآية أن تكون بمعنى "بل" فهي مثل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]. (¬2) ويجوز أن تكون "أشد" خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هي. وهذان الوجهان أجازهما الطبري في تفسيره (2/ 133). وأما قراءة من قرأها بالنصب {أَشَدُّ} وهي قراءة الأعمش وأبي حيوة فإنه عطفها على "الحجارة" أي: فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها. [البحر (1/ 263) - الكشاف (1/ 290) - الدر المصون (1/ 437) - إعراب القرآن لمحمود صافي (1/ 164)]. (¬3) الشعر للأعشى ميمون بن قيس، انظر ديوانه (149). (¬4) (على) ليست من "ب". (¬5) الأظهر أَنَّ "قسوةً" نصبت على التمييز وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين النحويين كالسمين الحلبي في تفسيره (1/ 436) وعلل على أن الإبهام حصل في نسبة التفضيل إليها، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه. وكذا قال البركوي في تفسيره (1/ 570). وانظر: الكشاف (76/ 1) والتبيان (1/ 71). (¬6) الضمير في "منه" يعود على "ما" حملًا على اللفظ. قال أبو البقاء العكبري: لو كان في غير القرآن لجاز "منها" حملًا على المعنى. [الإملاء (1/ 45) - البحر (1/ 264) - ابن عطية (1/ 324) - القرطبي (1/ 464)].

الأنهار، كقولهم: سأل الميزابُ أو الوادي. {يَشَّقَّقُ} يتشقَّق (¬1) وينفلق. {فَيَخْرُجُ مِنْهُ} بَلَلٌ وماءٌ لا يبلغ الأنهار، وهذا يدلُّ على جواز التضمين والتوليد (¬2). {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي: من سبب خشية الله، وهذا يدلُّ على أن الجوهرَ محلٌّ للمعاني من الإرادة والتميز والخشية والنطق والألم واللذة إن أوجدَ اللهُ فيه (¬3)، سواء كانت فيه الحياة والقدرة أو لم تكن، ولأنه لا تعلُّقَ لهذه المعاني بالحياة (¬4) والقدرة كالظهور والخفاء والقيام والبقاء بخلاف الكسب والاختيار لأنهما مختصَّان بالحياة. لأنا نشاهد الجمادَ واهتزازَه ونضارَتَهُ وذبولَهُ وتعرِّي الحيوان عن هذه المعاني كلها أو بعضها. وهذه المسألة يمكن أن تبتنى على مسألة عذاب القبر أو تبتنى مسألة عذاب (¬5) القبر عليها. والغافل: نقيض الخبير، وقد تكون نقيض المشغول، يقال: غفل عنه أي شُغِلَ عنه. ¬

_ (¬1) (يتشقق) ليست في "ب". (¬2) التوليد: أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسط فعل آخر كحركة المفتاح بحركة اليد. انظر: التعريفات، للجرجاني ص 78. (¬3) هذا إذا حملناه على الحقيقة في إسناد الهبوط إليها - أي إلى الحجارة - على معنى أن الله خلق فيها قابلية في ذلك والله على كل شيء قدير على حد قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وهذا ما ذهب إليه المؤلف. وذهب بعضهم إلى أن إسناد الهبوط من خشية الله إلى الحجارة هو استعارة وليس حقيقة على حد قول الشاعر [البيت لجرير]: لما أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ وأرى أن القول الأول وهو ما ذهب إليه المؤلف أقرب للصواب والله أعلم. وهناك من الشواهد ما يدلُّ على إمكان ذلك في الجمادات بإرادة الله، ومنه قصة الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب، فلما تحوَّل عنه حَنَّ [أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - (3584)] وكالذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنَّ حجرًا كان يُسَلِّمُ عليَّ في الجاهلية، إني لأعرفه الآن" [أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة (2277)]. [الإملاء (1/ 45) - ديوان جرير ص 245 - الخصائص (2/ 418) - الدر المصون (1/ 439) - الطبري (2/ 137). (¬4) (الحياة) ليست في "ب"، وفي "أ": (في الحياة). (¬5) (مسألة عذاب) ليست في "أ".

وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ} نزلت في شأن المؤمنين (¬1) حيث طمعوا في شهادة اليهود لهم ورَجَوْا نصرهم إياهم على مشركي العرب. والطمعُ قريبٌ من الرَّجاء والتوقع، قال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} (¬2) وهذا يقتضي تفخيم الطمع وتبعيد [ما طمعوا فيه ثم بيّن جهة التفخيم والتبعيد] (¬3) فقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أي: طائفةٌ وقطعةٌ منهم وهم الأحبار (¬4) يسمعون كلام الله من رسلهم. {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يعوجونه باللحن، كقولهم: هطا (¬5) مكان حطة أو التأويل كتوجيههم الخطاب في التوراة بقوله: تمسَّكوا بهذه الشريعة أبدًا ما دامت رؤوسكم على أبدانكم أو ما دامتِ السماوات والأرضُ، إلى المكلفين بشريعة صاحب الحمار وصاحب الجمل المذكورين في التوراة المرسلين بالإعجاز وهما: عيسى ابن مريم، ومحمد خاتم النبيين صلوات الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، فهذا ونحوه (¬6) تحريفهم. {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي: فهموهُ. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} معناه: وقت التفهُّم أو يعلمون أنَّهم محرفون. ويُروى أن المراد بالفريق: مَنْ حَرَّفَ كلام الله من جملة السبعين الذين كانوا مع موسى - عليه السلام - وذلك أنهم سمعوا كلام الله (أنا الله ربكم لا إله إلَّا أنا الحيُّ القيُّوم) (¬7) فلا تعبدوا إلهًا غيري ¬

_ (¬1) الخطاب موجه إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يواسيهم في ذلك، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 148). (¬2) سورة الشعراء: 82. (¬3) ما بين [...] ليست في "أ". (¬4) أي أن أحبارهم وعلماءهم هم الذين يقومون بالتحريف أي تحريف التوراة، هكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم عنه في تفسيره (1/ 149) وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد. وأخرجه الطبري أيضًا عن مجاهد في تفسيره (2/ 141). (¬5) في "ب": (حطا). (¬6) في "ب": (نحوهم). (¬7) قال القرطبي: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به، وإنما الكلام شيء خُصَّ به موسى من بين جميع ولد آدم. اهـ. [تفسير القرطبي (2/ 2)].

ولا تشركوا بي شيئًا ولا تجعلوا لي شَبَهًا، فلما سمعوا ذلك خرجت أرواحهم (¬1) من أجسادهم ثم عادت إليها فقالوا - وهم سجود -: إنَّا لا نستطيع كلام ربنا فكُنْ أنت يا موسى بيننا وبين ربنا، فكانوا يسمعون بواسطة موسى - عليه السلام - بعد ذلك، فلما رجعوا إلى قومهم سألهم قومهم فصدقوهم المقال إلا الذين لم يُرِدِ الله أن يطهِّرَ قلوبَهُم فإنَّهم حرَّفوا وقالوا: إنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - أتْبَعَ أوامره ونواهيه قوله: إنْ لم تستطيعوا فلا عليكم وافعلوا كذا وكذا. فعيَّر اللهُ تعالى كفرة بني إسرائيل في وقت النبي - عليه السلام - بمتقدِّميهم أولئك. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ مَنُوا} نزلت في منافقي أهل التوراة (¬2). {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} ألف الاستفهام للتقريع واللوم (¬3). والتحديث كالتكليم، الحديث هو الكلام. و (مَا) في محل الجر بالباء وتقديره: بحديث {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} قال مجاهدُ والسُّدِّيُّ (¬4): بما حكم اللهُ عليكم مِن المسخ والعذاب أو الإيمان والنصرة، وعن ابن عباس والحسن وأبي العالية وقتادة (¬5): هو حلُّ ما ينعقد وينغلق، أي: بما كشف الله عليكم من نعت ¬

_ (¬1) (أرواحهم) ليست في "أ". (¬2) يقصد اليهود، وهذا مذكور عند الطبري (2/ 249) عن ابن عباس، وابن أبي حاتم (778) عن الربيع بن أنس. (¬3) يتغير معنى الاستفهام في الآية بناءً على الاحتمالين في المعنى وفق ما ذكره المؤلف، فيكون الاستفهام بمعنى التقريع إذا كان المعنى أتحدثون بما بُيِّنَ لكم في نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويكون الاستفهام بمعنى الإنكار فيكون المعنى: بأن يقول الذين نافقوا لبقاياهم: أتحدثونهم؟ إنكارًا عليهم إخبار شيء من كتابهم لإظهار التصلب في اليهودية بمنع إبداء ما وجدوا في كتابهم فينافقون الفريقين. [مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 576) - الكشاف (1/ 77) - البيضاوي (1/ 334)]. (¬4) ابن جرير (2/ 148)، وابن أبي حاتم (783،782) وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 166). (¬5) أما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه الطبري (2/ 146)، وأما عن أبي العالية وقتادة فأخرجه أيضًا الطبري (2/ 147) أما عن الحسن فلم أجده.

خاتم النبيِّين عن الكلبي (¬1) {لِيُحَاجُّوكُمْ} ليُخَاصِموكم، المُحَاجَّة هي (¬2): المخاصمة [بالحُجة، والحُجَّة معنى تثبت به الدعوى ويقام مقامَ البيِّنة، والحَجُّ هو الغَلَبَةُ بالحُجَّة] (¬3). والهاء في {بِهِ} كنايةٌ عن الحديث (¬4). ومحاجةُ المؤمنين إياهم عند ربهم: مخاصمتهم إياهم على قضية حكم ربهم في الدنيا للدعوة وفي الآخرة للشهادة عليهم، كما تقول: خاصمه عند القاضي. {عِنْدَ} بمعنى: في، وقيل تقديره: عند ذكر ربهم (¬5). {أَوَلَا يَعْلَمُونَ} ألف الاستفهام للتقريع واللوم. {مَا يُسِرُّونَ} يكتمون، والمراد به: تلاومهم، وَمَا يُعْلِنُون إقرارهم. وفي الآية دلالةٌ أنَّ الحجة لازمة [إياهم بعلمهم كما أنها لازمة بقولهم] (¬6). {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} نزلت في المقلدين من أهل الكتاب. وأُميون: رفع على الابتداء عند البصريين، وعند الكوفيين على أنه خبر بحرف خافض وليس بحرف. والأُمّي: الذي لا يعرف الكتابة وهو منسوبٌ إلى الأُمّ، والأُمّ هو: الأصل، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬7)، وإنَّما نُسِبَ ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير (1/ 162) للشوكاني. (¬2) (هي) ليست من "ب". (¬3) ما بين [...] ليست من "ن". (¬4) الضمير في "به" يعود على "ما" في قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ}. (¬5) في "عند" أربعة أوجه إعرابية ذكر المؤلف منها وجهين: الوجه الأول: أنها بمعنى "في" والتقدير: ليحاجوكم في ربكم، أي: فيكونون أحقَّ به منكم. الوجه الثاني: على تقدير مضاف محذوف، والتقدير: عند ذكر ربكم. الوجه الثالث: أنها ظرف معمول لقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ} بمعنى ليحاجوكم يوم القيامة، فَكَنَى عنه بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ}. الوجه الرابع: أنه معمول لقوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} أي بما فتح الله من ربكم ليحاجوكم، وهو نعته - عليه السلام - وأخذ ميثاقهم بتصديقه. [الدر المصون (1/ 444)]. (¬6) ما بين [...] ليست في "أ". (¬7) سورة الرعد: 39.

إلى الأصل لأنه باقٍ على أصل الفطرة (¬1). {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي، معناه: وكتابته. {إِلَّا أَمَانِيَّ} جمع أمنيَّة وهي القراءة، قال الله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (¬2). ونصب الأماني لأنه مستثنى عن منصوب كقولك: ما رأيتُ زيدًا إلا وجهَهُ (¬3) {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: وما هم إلَّا ظانين (¬4)، قال الله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} (¬5). {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} نزلت في أحبار اليهود، وفيها دلالة أنهم أسوأ حالًا وأَشدُّ ذمًا من الأُميين. والويل: الحزنُ والبؤس ومشقة العذاب (¬6). قال الفراء (¬7): الأصل فيه: وَيْ ثم وُصِلَتْ به اللام ¬

_ (¬1) المراد بهم الأميون من اليهود. والأُمِّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب" [أخرجه البخاري (1913) ومسلم (1080/ 15)]. ولابن عباس - رضي الله عنهما - تفسير مغاير لهذا فقال في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} الأميون: قوم لم يصدقوا رسولًا أرسله الله ولا كتابًا أنزله الله فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: "هذا من عند الله". [أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (2/ 154) وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 167) وقال: في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر]. (¬2) سورة الحج: 52. (¬3) {إِلَّا أَمَانِيَّ} هذا استثناء منقطع, لأن الأمانِي ليست من جنس الكتاب ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو هو المنقطع، ولكن شرطه أن يُتَوَهَّم دخوله بوجهٍ ما كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. ومنه قول النابغة: حَلَفْتُ يمينًا غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ لأن بذكر العلم استحضر الظن. [الكتاب (1/ 365) - القرطبي (2/ 5) - الدر المصون (1/ 446) - ديوان النابغة ص 55]. (¬4) "إنْ" نافية بمعنى ما، وإذا كانت نافية فالمشهور أنها لا تعمل عمل "ما" الحجازية، وأجاز بعضهم ذلك وهو ما ذهب إليه سيبويه في "الكتاب"، وأنشدوا قول الشاعر: إنْ هو مستوليًا على أحدٍ ... إلا على أَضْعَفِ المجانينِ [الدر المصون (1/ 448) - الكتاب (2/ 306) - المقرب (1/ 105)]. (¬5) سورة فاطر: 23. (¬6) وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} يقول: العذاب عليهم [أخرجه ابن جرير في تفسيره (2/ 163)]. (¬7) لم أجده عند الفراء ولكن ذكره القرطبي (2/ 8) والسمين الحلبى (1/ 450).

وأعرب (¬1). وعن أبي سعيد الخدري (¬2) عن النبي - عليه السلام -: "إنَّ الويلَ وادٍ في جهنم يهوي الكافر أربعين خريفًا لا يصل إلى قعره" (¬3). وعن ابن عباس وأبي عياض (¬4) (¬5): الويل: صهريج في النار، والصهريج كالحوض، وإنما أكد الكتابة باليد لأنَّه أراد به (¬6) كتابتهم أشياء من تلقاء أنفُسِهم في التوراة كقوله (¬7): {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} (¬8). {مِمَّا كَتَبَتْ} أي من أجل ¬

_ (¬1) قال السمين الحلبي: ما ذكره الفراء غريب جدًا وتجمع على ويلات، ومنه قول امرئ القيس: ويومَ دَخَلْتُ الخدرَ خِدْرَ عنيزةٍ ... فقالتْ: لكَ الويلاتُ إنك مرجلي [الدر المصون (1/ 451)]. (¬2) سعد بن مالك بن سنان أبو سعيد الخدري، الإمام المجاهد مفتي المدينة. استشهد أبوه مالك يوم أُحد، وشهد أبو سعيد الخندق وبيعة الرضوان، وحدَّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكثر وأطاب ولم يكن أحد من أحداث أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم من أبي سعيد. توفي سنة أربع وسبعين هجرية. [الاستيعاب (602)؛ تاريخ بغداد (180)؛ تاريخ الإِسلام (3/ 220)؛ البداية والنهاية (9/ 3)]. (¬3) الحديث أخرجه الترمذي (3164)، وأحمد (3/ 75)، وابن المبارك في "الزهد" (334)، وفي المسند (134)، وعبد بن حميد (924)، والطبراني (1387)، وابن حبان (7467) والطبري في التفسير (10/ 78)، وابن أبي حاتم في تفسيره (798)، وأبو يعلى (1383)، والحاكم (2/ 551)، والبيهقي في البعث (465، 466) والحديث ضعيف ضعفه ابن كثير والألباني. (¬4) أبو عياض عمرو بن الأسود العنسي الكوفي، وقيل: اسمه قيس، وقيل: ميسرة، والأول أكثر كما قال ابن عبد البر. كان من فقهاء التابعين، روى عن جمع من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وغيرهم، وأجمعوا على أنه من العلماء الثقات. توفي في خلافة معاوية. [الاستغناء لابن عبد البر (2/ 859)؛ التاريخ الكبير للبخاري (3/ 315)؛ السير (4/ 79)]. (¬5) أما عن ابن عباس فلم أجده، وأما عن أبي عياض فرواه ابن جرير في تفسيره (2/ 378). (¬6) (به) جاءت في "ن": (بهم). (¬7) في "أ": (كقولك). (¬8) سورة التوبة: 30.

ما (¬1). والأيدي: جمع يد، وأصله يدي وتصغيره يُدَيَّة. والكسب: قريبٌ من الاجتلاب لا يوجد إلا مع الوسع. {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} نزلت في اليهود أيضًا (¬2) حيث زعموا أنهم لا يعذبون في النار إلا سبعة أيام عند الله وهي (¬3) سبعة آلاف سنة من أيام الدنيا، وهي مدة الناس في الدنيا عن ابن عباس (¬4). وعنه أنهم زعموا أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - غضب عليهم في أمر فأقسم أن يُعَذِّبَهمِ في النار فلا يعذبهم إلا أيامًا قلائل تَحِلَّةً للقسم، وقولُهم هذا يحتمل وجوهًا أربعة: إمَّا يعتقدون فناء النار كالدنيا (¬5)، أو كانوا يظنون أن أيام الآخرة تداولٌ بين الناس كأيام الدنيا، أو كانوا يرون أنفسهم مؤمنين مجرمين فأثبتوا شفاعة الأنبياء والصالحين لأنفسهم كما نُثبتها، أو كانوا وجدوا في كتبهم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} (¬6) فعدّوا أنفسهم من المتقين فأنزل الله ردًّا عليهم وتكذيبًا لهم. والمسُّ: قريبٌ من الإصابة، قال اللهُ تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (¬7)، {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} (¬8) وحقيقة المسّ: اللمس، وهو يكون بحسٍّ ولا يكون بحسّ. والأيام جمع يوم وأصله أيوام اجتمعت الياء والواو على ما قدمنا. والعدد: اسم كمية المجموع بين الواحد ¬

_ (¬1) "ما" موصولة اسمية والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة وليس كقوة الأول والعائد أيضًا محذوف، أي: كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية أي: مِنْ كَتْبِهِم. [الطبري (2/ 169) - الدر المصون (1/ 453) - إعراب القرآن لمحمود الصافي (1/ 173)]. (¬2) قاله ابن جرير (2/ 170)؛ وابن كثير (1/ 149)، والسمعاني في تفسيره (1/ 534)؛ وابن عطية (1/ 333)؛ والواحدي في أسباب النزول ص 16. (¬3) في "أ": (وهو). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (2/ 270)، وابن أبي حاتم (813)، والواحدي في أسباب النزول ص 24، وسنده جيد والله أعلم. (¬5) في "ن": (في الدنيا). (¬6) سورة مريم: 71، 72. (¬7) سورة الأنبياء: 83. (¬8) سورة يوسف: 88.

والعدم، إنما أعني بالواحد: الجزء الذي لا يضمن العدد في نفسه، بالعدم: ما لا (¬1) يثبت معقولًا موجودًا، وقد حصل العرفُ بإطلاق العدد على الجمع القليل، قال اللهُ تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬2) و {أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (¬3) و {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (¬4) و {أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} (¬5) و {لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} (¬6). وذلك لأن عدَّ الجمع القليل في مقدور العامة بخلاف الجمع الكثير. وحرف الاستفهام (¬7) هاهنا للتلجئة إلى أحد معنيين: إما إثبات الخلاف بإبراز الحجة، أو الاعترافُ بثبوت ما يدَّعيه الخصم، نظيرُهُ قوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} (¬8) وقوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} (¬9). وقيل: ألف الاستفهام هاهنا للإنكار و (أم) بمعنى: بل (¬10). وإنما لم يقل: اتخذتم لأن همزة الوصل للابتداء، وقد أمكنَ الابتداءُ هاهنا بغيرها فلم يثبت. وإخلافُ الوعد والعهد: تقليبهما عن وجوههما. والمخالفة: المضادة. ¬

_ (¬1) (ما) ليست من "ب". (¬2) سورة البقرة: 184. (¬3) سورة البقرة: 80. (¬4) سورة يوسف: 20. (¬5) سورة هود: 8، والآية ليست من "ب". (¬6) سورة هود: 104. (¬7) الهمزة في قوله: {اتَّخَذْتُمُ} للإنكار والتقريع، وبه استغني عن همزة الوصل الداخلة على "اتخذتم" كقوله {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سبا: 8] وقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} [الصافات: 153] وهذا أحد الأوجه التي ذكرها المؤلف أنها للإنكار. [الدر المصون (1/ 453)]. (¬8) سورة النازعات: 27. (¬9) سورة الزخرف: 58. (¬10) "أم" هنا: إما متصلة فتكون معادلة بين الشيئين، والتقدير: أي هذين الأمرين واقع، وأخرجه مخرج المتردد فيه وإن كان عالمًا بوقوع أحدهما. وإما أن تكون منقطعة: فلا تكون عاطفة وتقدَّر بـ "بل" والهمزة، والتقدير: بل أتقولون. [الكشاف (1/ 78) - البيضاوي (1/ 71) - الدر المصون (1/ 454) - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 585)].

{بَلَى} [نقيض نعم (¬1) وهو نفي لقولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}] (¬2) و (بلى): موضوع على أصله مثل على عند البصريين، وعند الكوفيين أصله: بل ثم زيد الياء لما جعلوه مستقلاًّ بنفسه فَرْقًا بينه وبين ما لا يَسْتقل بنفسه. {سَيِّئَةً} خصلة [سيئة نقيض خصلة] (¬3) حسنة، ووزنها فعيلة في قياس الفراء وأهل الكوفة (¬4). {وَأَحَاطَتْ} إحاطة الأعراض: عمومُها، وإنما يكون عموم الخطايا (¬5) عند عدم الإيمان, نعوذ بالله. {لَا تَعْبُدُونَ} رفع عند الكسائي (¬6) لحذف الناصب، تقديره: أن لا ¬

_ (¬1) قال أبو جعفر النحاس: "بلى" بمنزلة نعم إلا أنها لا تقع إلا بعد النفي. ونقل الفراء في معاني القرآن كلام الكوفيين الذي ذكره المؤلف أنها بمعنى "بَلْ" زيدت عليها الياء فهي تدلّ على الجحد والياء تدلُّ لما بعده. فلو قال قائل: ألم تأخذ دينارًا؟ فقلت: نعم لكان المعنى: لا لم آخذ, لأنك حققت النفي وما بعده، وإذا قلت: بلى، صار المعنى: قد أخذت. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} قال: لو قالوا: نعم، لكفروا. وأما قول الشاعر [ينسب لجحدر]: أليس الليلُ يجمع أُمَّ عمرٍو ... وإيَّانا فذاك بنا تَدانِي نَعَمْ وترى الهلالَ كما أراهُ ... وَيَعْلُوها النَّهَارُ كما عَلاني فقيل: هو ضرورة شعرية. وقيل: قوله: "نعم" ليس جوابًا لـ "أليس" إنما هو جواب لقوله: "فذاك بنا تداني". [أمالي القالي (1/ 278) - أمالي السهيلي ص 246 - المقرب (1/ 294) - المغني لابن هشام ص 383 - إعراب القرآن للنحاس (1/ 191)]. (¬2) ما بين [...] ليست في "ن". (¬3) ما بين [...] ليست من "أ". (¬4) "سيئة" فَعِيلَة من ساءَ يسوء، وأصله "سَيْوِئة" فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فَأُعِلَّ كـ "سَيِّد" و"مَيِّت". [الدر المصون (1/ 457) - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 586) - معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 146]. (¬5) (الخطايا) ليست من "أ". (¬6) في هذه الجملة من الآية {لَا تَعْبُدُونَ} من الإعراب ثمانية أوجه: أظهَرها والله أعلم أنها مفسرة لأخذ الميثاق ولا محل لها حينئذٍ من الإعراب. الوجه الثاني: أنها في محل نصب على الحال من {بَنِي إِسْرَائِيلَ}. =

يعبدوا, وأنشد (¬1): أَلاَ أيُّهذا الزاجري أحضُر الوغى ... وأن أشهدَ اللذاتِ، هلْ أنتَ مُخلِدِي نظيره: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} (¬2)، وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} (¬3). وفي أحد أقوال الفراء: أنه خبر بمعنى النهي [وكون الخبر بمعنى النهي] (¬4) ككونه بمعنى الأمر كقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬5)، ولهذا قرأ أُبَيّ (¬6): ¬

_ = الوجه الثالث: أن يكون جوابًا لقسم محذوف دلَّ عليه لفظ الميثاق، والتقدير: استحلفناهم أو قلنا لهم: باللهِ لا تعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرِّد. الوجه الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف جر أو حذف "أَنْ"، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على أن لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، وحذف "أن" الناصبة هو الذي ذكره المؤلف واستشهد له. الوجه الخامس: أن يكون في محل نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم لا تعبدون إلا الله. الوجه السادس: أَنَّ "أَنْ" الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حيِّزها في محل نصب على أنها بدل من "ميثاق". الوجه السابع: أن يكون منصوبًا بقول محذوف، وذلك القول ليس حالًا بل مجرد إخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك. ويكون خبرًا في معنى النهي. قال الزمخشري: هو أبلغ من صريح الأمر والنهي، وتنصره قراءة أُبَيّ وعبد الله {لا تعبدوا}. الوجه الثامن: أن تكون "أَنْ" مفسرة ثم حذفت "أَنْ" المفسرة - ذكره الزمخشري. وأظهر هذه الأوجه الثمانية - والله أعلم - هو الوجه الأول كما ذكرنا. [معاني القرآن للفراء (1/ 126) - الكشاف (1/ 293) - البحر (1/ 282) - الكتاب (1/ 455) - الدر المصون (1/ 458) - الإملاء (1/ 47)]. (¬1) الشعر لطرفة بن العبد كما في ديوانه (31). (¬2) سورة الزمر: 64. (¬3) سورة المدثر: 6. (¬4) ما بين [...] ليست من "ن". (¬5) سورة البقرة: 233. (¬6) أُبَيّ بن كعب بن قيس أبو منذر الأنصاري النجاري البدري المدني. سيد القُرَّاء، شهد العقبة وبدرًا وجمع القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرض القرآن عليه وحفظ عنه علمًا كثيرًا، وكان رأسًا في العلم والعمل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي: "إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن". قال: آللهُ سمَّاني لك؟ قال: "نعم". قال: وذكرتُ عند ربِّ العالمين؟ قال: "نعم" فذرفت عيناه. [أخرجه البخاري (4959)]. توفي في خلافة عثمان سنة ثلاثين من الهجرة. =

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. وفي قوله الآخر: جواب القسم، إذِ الميثاق (¬1) هو العهدُ الموثقُ (¬2) باليمين، يدلُّ عليه قراءة ابن مسعود: {لا نعبد} بالنون (¬3). ومجازه: يعبدون الله؛ لأنَّ الاستثناء مع المستثنى منه أحد اسمي الباء في {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أمرناهم وأوصيناهم. والوالدان: الأب والأم. غُلِّبَ المذكر على المؤنث، كقولهم: أبوان، وحقيقة الولادة: أثمار الجوهر، وهو استحالة جزء منه بصفةٍ معهودة، والتوليد: التثمير. والحسن ضد: السوء. {وَذِي الْقُرْبَى} أي: ذي القرابة في النَّسَب. و {الْقُرْبَى} يحتمل أنه اسم كاليُسْرى والعُسْرى، ويحتمل أنه فعل كالرّجعى (¬4). {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم، كندامى جمع نديم، وقيل أنه: مقلوب كالخطايا، وقد يجمع اليتيم أيتامًا كاليمين والأيمان، والشريف والأشراف، والمصدر منه يُتْم، وفي الحديث": "لا يُتْمَ بعدَ البلوغ" (¬5). واليتيمُ من ¬

_ = [الاستيعاب (1/ 126)؛ تاريخ الإِسلام (2/ 27)؛ الإصابة (1/ 26)؛ تاريخ ابن عساكر (2/ 325)؛ السير (1/ 389)]. (¬1) الموثق والميثاق: العهد، والجمع مواثق ومياثق. والميثاق الذي أخذ علي بني إسرائيل قيل هو الذي أُخذ عليهم حين أُخرجوا من صلب آدم كالذَّر. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم، وهو قوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. [القرطبي (2/ 12) - المحكم (6/ 544) - تاج العروس "وثق"]. (¬2) في "أ": (الموثوق). (¬3) "معاني القرآن" للفراء (1/ 58). (¬4) "القربى" مصدر كالرجعى والعقبى، ويطلق على قرابة الصلب والرحم، ومنه قول طرفة بن العبد: وَطُلْمُ ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مضاضةً ... على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحسامِ المُهَنَّدِ [الدر المصون (1/ 464) - ديوان طرفة ص 21]. (¬5) أخرجه أبو داود [الوصايا (3/ 294)]، والبيهقي (7/ 57)، والطبراني في الصغير (1/ 96)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 280) وغيرهم عن علي بن أبي طالب مرفوعًا بلفظ: "لا يُتْمَ بعد احتلام" قال النووي في رياض الصالحين ص 679: إسناده حسن، وقال الهيثمي في "المجمع (4/ 334): رجاله ثقات، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 79).

البهائم ما لا أمَّ له، ومِنَ الناس مَنْ لا أبَ له (¬1). {وَالْمَسَاكِينِ} جمع مسكين وهو ذو مَسْكَنة. والمسكنة (¬2): حالةٌ تُؤدي إلى السُّكون والقعود (¬3) عن التجارة والكسب. وإنما جُمع (¬4) بين التولي والإعراض؛ لأن المراد بالتولي: ما سبق، وبالإعراض: إعراضهم في الحال، إذ الواو للحال. ويحتمل أنه للتوكيد. وعرض الشيء: ناحيتُهُ، فكان الإعراض هو التنحي. {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} والدم هو النفس السائل. والأصل: دَمَيُّ لأن تصغيره دُمَي، وفي النسبة: دَمَوِيٌّ، والفعل: دمى، وربما رُدَّت الياء في التثنية (¬5)، قال الشاعر (¬6): فلو أَنَّا على حجرٍ ذبحْنا ... جرى الدَّمَيَانُ بالخبرِ اليقينِ {مِنْ دِيَارِكُمْ} وهو جمع الدار، والدار: الناحية والرَّبْع، والدُّور لغة كالنياق والنُّوق (¬7). ¬

_ (¬1) قاله الأصمعي. وقال الماوردي: إن اليتيم في الناس أيضًا من قبل فقد الأمهات. والقول الأول هو المعروف عند أهل اللغة. [اللسان "يتم" - الصحاح "يتم" - المفردات ص 505]. (¬2) (المسكنة) ليست من "ب" "أ". (¬3) في "ب": (والقود). (¬4) في "ب"بدل (جمع) (هي). (¬5) قال ابن سيده: الدم، معروف. وقال الكسائي: لا أعرف أحدًا يُثَقِّل الدم. والجمع دماء ودُمِيٌّ، والقطعة منه دَمَةٌ. وقال أبو إسحاق: أصله دَمى، ومنه قول الشاعر في البيت الذي ذكره المؤلف: ... جرى الدميان ... وقال قوم: أصله دَمْيٌ إلا أنَّهُ لما حذف وَرُدَّ إليه ما حذف منه حُرِّكَت الميم لتدلَّ على أنه استعمل محذوفًا. [جمهرة اللغة (3/ 669) - لسان العرب "دمى" - المحكم لابن سيده "دمى" (9/ 409)]. (¬6) الشاعر هو المُثقّب العَبْدي واسمه محصن بن ثعلبة، وقيل: عائذ بن محصن، والبيت في ملحق ديوانه (99). ونسب البيت لعلي بن بدال عند الزجاجي، كما في الأمالي ص 14. (¬7) ديار: جمع دار، والأصل: دَوَرَ, لأنها من دار يدور دورانًا، وأصل ديار: دِوَار، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها واعتلالها في الواحد، وهذه قاعدة مُطَّردة في كل جمع على فِعال صحيح اللام قد اغتسلت عين مفرده أو سكنت حرف عِلَّة. [الدر المصون (1/ 473) - الممتع (1/ 495)].

{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} اعترفتم وكأنه أُخذ من تقرير الدعوى. والخطابُ فيه متحقق إلى الموجودين في الحال. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} على آبائكم بأخذ الميثاق عليهم. وقيل: تشهدون على أنفسكم بتوجيه الخطاب عليكم. والشهادة هي: إخبار عن ثبوت الشيء لأحد على أحد كأنها من شهود البيِّنة حال وقوع الأمر أو شهودهم عند القاضي. {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} نزلت في طائفة من اليهود حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج بني أخوين من اليهود نزلا يثرب انتظارًا للمبعث، فكانوا (¬1) يعينون حلفاءهم (¬2) المشركين علي بني أعمامهم في القتل والأسر والإجلاء والشرّ كله. ثم يفدي بعضُهم أسارى بعض تمسكًا بعهد الله تعالى في هذه الخصلة الواحدة وصلة الرحم وكراهة لرق أولاد يعقوب (¬3) - عليه السلام -. فأنزل الله هذه الآية ذمًا (¬4) لهم في عداوتهم وتناقض صنيعهم وآرائهم (¬5). و {أَنْتُمْ} كناية عن المخاطبين. و {هَؤُلَاءِ} مرفوع في التقدير، وتقديره: الخبر أو النعت أو النداء. أما الخبر فكأنه قال: أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ويجوز إقامة المبهم التام مقام المنصوص عليه، كقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)} (¬6)، وما التي بيمينك، والنعت كقولك: ها هو ذي يكون النعمت والمنعوت بمنزلة اسمم واحد كما في التأكيد والنداء، فكأنه قال: أنتم يا هؤلاء (¬7). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (فكأنهم) ولعلَّ ما أثبتنا هو الأصوب. (¬2) في "ب": (حلفاء). (¬3) في "ب" "أ": (عليهم). (¬4) حرف الذال ليست في "أ". (¬5) ما ذكره المؤلف في تفسير هذه الآية مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مفصلًا. أخرجه الطبري (2/ 207) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 163). (¬6) سورة طه: 17. (¬7) في "هؤلاء" سبعة أوجه إعرابية، ذكر المؤلف ثلاثة أوجه، منها: الوجه الأول: أنهما خبر والمبتدأ فيها "أنتم". =

{تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} تعاونون عليهم، قال الله تعالى: {ساحران تظاهرا} (¬1). {بِالْإِثْمِ} أي: الفجور (¬2). ¬

_ = والوجه الثاني: أن "هؤلاء" نعت على ما ذكره المؤلف. والوجه الثالث: أن "هؤلاء" منادى حذف منه حرف النداء مع أنه فصل بالنداء بين المبتدأ وخبره، وهذا لا يجيزه جمهور البصريين وإنما قال به الفراء وجماعة، واستشهدوا بقول الشاعر [ينسب لرجل من طي]: إنَّ الأْلى وصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هذا اعتصم تَلْقَ مَنْ عاداك مخذولا التقدير: يا هذا. الوجه الرابع: أن "هؤلاء" خبر لكن بتأويل حذف مضاف تقديره: ثم أنتم مثل هؤلاء. الوجه الخامس: أن "هؤلاء" مبتدأ مؤخر، و"أنتم" خبر مقدم. وهذا القول نقله ابن عطية عن شيخه ابن الباذش، وهذا مردود - والله أعلم - لأن المبتدأ والخبر متى استويا تعريفًا وتنكيرًا لم يجز تقدم الخبر. الوجه السادس: أن "هؤلاء" موصول بمعنى "الذي" وجملة "تقتلون" صلته، وهو خبر عن "أنتم" أي: أنتم الذين تقتلون. وهذا رأي الكوفيين، واستشهدوا بقول الشاعر [وهو منسوب ليزيد بن مفرغ الحميري]: عَدَسْ ما لِعَبَّادٍ عليك إمارةٌ ... أَمِنْتِ وهذا تَحْمِلينَ طليقُ أي: والذي تحملين. ومثله قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} أي: وما التي؟ الوجه السابع: أن "هؤلاء" منصوب على الاختصاص، بإضمار - أعني - و"أنتم" مبتدأ، و"تقتلون" خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، هاليه ذهب ابن كيسان. مع أنه غير جائز لأن النحويين نَصُّوا على أن الاختصاص لا يكون بالنكرات ولا أسماء الإشارة. [الكشاف (1/ 293) - البحر (1/ 290) - الكتاب (1/ 255) - ابن يعيش (2/ 18) - الدر المصون (1/ 476) - دبوان يزيد الحميري ص 115]. (¬1) سورة القصص: 48. هي قراءة شاذَّة كما في الطبري (11/ 243) والقراءة المثبتة {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}. (¬2) الأصل أن الإثم يطلق على الذنب لكن هذه الكلمة لها عدة استعمالات في كلام العرب، منها ما ذكره المؤلف في هذه الآية {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي: بالفجور. والفجور نوع من الذنب، ولذا قال الفراء في قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} الأثيم: الفاجر. وأطلقت العرب الإثم على الخمرة، ومه قول الشاعر: شربتُ الإثم حتى ضلَّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقولِ =

ولقَّن ابن مسعود رجلًا {طَعَامُ الْأَثِيمِ} (¬1) طعام الفاجر. {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} الأسر: أخذ العدو وربطه (¬2). والفداء: فك الأسير وإبدال الشيء مكان الشيء في الإتلاف وإلحاق المشقة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} و (هو): عماد جاء (¬3) لتعذر صلة (¬4) هذه الواو (¬5)، وإنما هو فعل في التقدير، ألا ترى لو أسقطتَ (هُوَ) لم يقل: ومحرم عليكم إخراجهم لقلت: وقد حرمنا عليكم إخراجهم. وقيل: هو كاسم مبهم و {إِخْرَاجُهُمْ} بيانه كقولك: هذا على الباب زيدٌ. وقيل هو: ضمير الأمر والشأن. والحرمان: منعُ إلجاء، والتحريم قد يكون منع إلجاء كقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}. وقد يكون منع (¬6) ابتلاء، كقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ ¬

_ = وتطلق على العقوبة، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} ومنه قول الشاعر [ينسب إلى بشر]: وكان مُقامنا نَدْعُو عليهم ... بأبْطَحَ ذي المجازِ له أَثَامُ [المحكم (10/ 185) - تهذيب اللغة (15/ 160) - اللسان "أثم"]. (¬1) سورة الدخان: 44. (¬2) فرق أبو عمرو بن العلاء المازني فإذا أخذ العدو وربط وثاقه قيل فيه: أسارى، وإذا أخذ العدو من غير ربط وثاقه قيل فيه: أسرى. وعارض المازني كثير من أهل اللغة وردّوا هذا التفريق، ومنهم السمعاني في تفسيره وقال: الصحيح أنهما واحد. وقال ثعلب لما سمع كلام المازني: هذا كلام المجانين. ولا شك أن هذه جرأة من ثعلب على أبي عمرو بن العلاء. [تفسير السمعاني (1/ 542) - الطبري (2/ 311) - زاد المسير (1/ 111)]. (¬3) في جميع النسخ (جاءت) والمثبت أصوب. (¬4) (صلة) ليست في "أ". (¬5) أجاز الكوفيون أن يكون "هو" عمادًا - وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفصل - قُدِّم مع الخبر لما تقدم، والأصل: واخراجهم هو محرم عليكم. قال الفراء: لأن الواو هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم فالعماد جائز، وهذا عند البصريين ممنوع. وسمي الضمير "هو" عماداَ لكونه حافظًا لما بعده حتى لا يسقط عن الخبرية أو كأنه عمد الاسم وقواه بتحقيق الخبر. [معاني القرآن (1/ 51) - شرح المفصل (3/ 110) - شرح الرضى على الكافية (2/ 24)]. (¬6) (منع) ليست من "ب".

رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (¬1) وهو الحظر. {فَمَا جَزَاءُ} (ما) يحتمل للنفي ويحتمل للاستفهام (¬2) والمراد به النفي والجزاءُ. فعلٌ يقتضيه فعلٌ آخر عن خير أو شر. {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} (مَنْ) بمعنى الذين فعُدي بفعل إلى اللفظ ويردون إلى المعنى ذلك، إشارة إلى الأخذ ببعض الكتاب دون بعض. {إِلَّا خِزْيٌ} هوان وفضيحة (¬3)، والمراد به: الأخزى، وإنما ذكر الخزي دون الأخزى لكيلا تتوهم الخزاية وهي: الاستحياء. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} العيش الأدنى، والدّنوّ هو: القرب (¬4)، وإنما أبدلت الياء من الواو في الدنيا، الألفُ في حالة التذكير مقربة من الياء بدلالة أنها تُمال وقد تنقلبُ ياء محضة في التثنية، فقُلبت الياء في التأنيث ياء أيضًا لئلا تختلف الياءان (¬5) بين ذوات (¬6) الواو وذوات الياء (¬7)، من ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 151. (¬2) إذا كانت "ما" نافية هنا فقد بطل عملها عند الحجازيين لانتقاض النفي بـ "إلا"، بل إن جمهور البصريين يوجبون رفعه مطلقًا. وأجاز يونس النصب مطلقًا وإن كان أبو جعفر النحاس نقل عدم الخلاف في رفع "ما زيد إلا أخوك". أما الوجه الثاني الذي ذكره المؤلف: أن تكون "ما" استفهامية في محل رفع بالابتداء و"جزاء" خبره قاله أبو البقاء العكبري. [الإملاء (1/ 49)]. (¬3) ولذا قال ابن السكيت: الخزي الوقوع في بلية. يقال: رجل خزيان وامرأة خزيى، والجمع خزايا. وقال الأزهري: الخزي الهوان والذل، والمراد بالخزي في هذه الآية هو قتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على غيرهم. [إصلاح المنطق ص 373 - الكشاف (1/ 80) - ابن عطية (1/ 383) - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 600)]. (¬4) "الدنيا" فُعْلَى تأنيث الأدنى من الدنو وهو القرب كما ذكر المؤلف، وألفها للتأنيث وأبدلت ياؤها واوًا، وهذه قاعدة مطَّردة، وهي كل فُعْلَى صفة لامها واو تبدل ياءً نحو: العليا والدنيا. وقال ابن السراج: الدنيا مؤنثة مقصورة تكتب بالألف، هذه لغة نجد وتميم إلَّا أنَّ الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو فيقولون: دَنْوَى مثل شَرْوَى. وأما اللغة الأولى والأكثر استعمالًا فهو ضم الدال وقلب الواو ياءً لاستثقالهم الواو مع الضمة. (¬5) في "ب": (الياء). (¬6) في "أ": (من) بدل (ذوات). (¬7) في "ن": (الواو) بدل (الياء).

نحو (¬1): السُّقيا، والفُتيا أمثلة (¬2) معدودة على الأصل لتدلَّ عليه نحو القُصوى. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يوم البعث وهو فعل كالعبارة والكناية. {يُرَدُّونَ} يرجعون. وإنَّما ذكر الردَّ لأنهم ينصرفون من الموقف إلى العذاب، أو لأنَّ كتاب الشَّقَاءِ سابقٌ عليهم فكأنهم صدروا عنه فرُدُّوا (¬3) إليه {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} لأنه أشدُّ من عذاب الدنيا والقبر. {فَلَا يُخَفَّفُ} لا يُرَقَّى، والتخفيف: الترقية، قال الله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (¬4)، والخِفَّةُ ضدُّ الثقل. {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أتبعناه وأردفناه (¬5)، يقال: قفَّيْتُ الشيء - بالتشديد - وقَفَوْتُهُ - بالتخفيف - بمعنى وهو الإتباع (¬6)، والتقفيةُ بالشيء: إردافه وإتباعه (¬7)، ولهذا سميت القافيةُ قافيةً. و (الرُّسُل): جمع رسول (¬8)، كالزبور والزُّبُر. والإرسال: إنفاذ، وقد يكون إطلاقًا. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} عيسى هو الذي أُنزلَ عليه الإنجيلُ، ومريم هي ابنة عمران المحررة الحبيسة لعبادة الله التي أرسل اللهُ إليها روحه ¬

_ (¬1) (نحو) من "أ". (¬2) في "ن" "ب": (القيت المثلة) والمثبت أصوب. (¬3) في "ن": (فَرَدُّ). (¬4) سورة الأنفال: 66. (¬5) المثبت من "ي" وفي بقية النسخ: (أتبعنا وأردفنا). (¬6) (الإتباع) ليست من "أ". (¬7) التضعيف في "قفَّينا" ليس للتعدية، إذْ لو كان كذلك لتعدَّى إلى اثنين لأنه قبل التضعيف يتعدَّى لواحد نحو: قفوتُ زيدًا. ولكنه ضُمِّنَ معنى "جئنا" كأن قيل: وجئنا من بعده بالرسل. وأما ما ذهب إليه المؤلف في تفسير "قفينا" بـ: اتَّبعناه، فهو أراده أن يكون متعديًا إلى اثنين على حد تفسيره. و"قفينا" أصله: قَفَّوْنا. ولكن لما وقعت الواو رابعةً قُلِبَتْ ياءً واشتقاقه من قَفَوْتُهُ إذا اتَّبَعْتَ قَفَاه. ثم اتسع فيه فأطلق على كل تابع وإن بَعُدَ زمان التابع من زمان المتبوع، ومنه قول أمية: قالتْ لأُختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ ... وكيفَ تَقْفُو ولا سهلٌ ولا جَبَلُ [البحر (1/ 297) - ديوان أمية ص 26 في الدر المصون (1/ 492)]. (¬8) في "ب": (رسل) وهو خطأ.

فتمثَّل لها بشرًا سَوِيًا، ونفخ فيما أحصنت فحبلت العذراءُ البتول بالمسيح الرسول. والبينات: جمع بيِّنة، وهي ما يشهد من المعاني لثبوت حق. وبيناتُ عيسى (¬1): إبراءُ الأكمه والأبرص وإحياءُ الموتى بإذن الله والإنباء بما يأكلون وما يدَّخرون في بيوتهم. {وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه. والتأييد هو: جَعْلُ الشيء ذو الأيد والقوة. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} والروح من أمر الله تعالى، ويُسمى ما يحيى به الجسد والنفس روحًا. ويُعَبَّر عن القرآن أيضًا، وعن المَلَك النازل بالقرآن كذلك، أعني: جبريل - عليه السلام - (¬2). لأن حياة القلب وهو الإيمان بسببهما، وكان عيسى ابن مريم روح الله. والملائكة يُسَمَّون الروحانيين، والفلاسفةُ يُسنِدون (¬3) علم النبوة والتنسّك وعلم المصالحِ والكهانة إلى روح القُدُس، وعلم السحر والنِّيرنجان (¬4) إلى الأرواح الخبيثة. والكهانة عندنا في الخبر من النوع الثاني. ومثالُ روح القدس من الأسماء: زيد الخيل وامرؤ القيس وملك الموت، وفي الحديث: "اللهمَّ أيِّده بروح القُدس" (¬5)، يعني حسان بن ¬

_ (¬1) كما في سورة آل عمران آية (49): {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، وكما في سورة المائدة (110): {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ...} الآية. (¬2) الروح تطلق في الأصل ويراد بها الجزء الذي تحصل به الحياة من إنسان أو حيوان - قاله الراغب - أما المراد بروح القدس فهو جبريل - عليه السلام -، وهذا وصف اشتهر به، ومنه قول حسان بن ثابت: وجبريلٌ رسول اللهِ فينا ... وروحُ القدسِ ليسَ له كفاءُ وسمي بذلك لأن بسببه حياة القلوب إذ هو الموكل بالوحي من عند الله. [المفردات ص 205 - البحر (1/ 299) - ديوان حسان ص 60]. (¬3) (يُسندون) ليست في "ب". (¬4) هو علم التمويه والتخييل القائم على كتابات مجهولة الدلالة لتحصيل آثار من الحب والبغض والإقبال والإعراض ونحو ذلك، انظر: طاش كبري زاده "مفتاح السعادة" (1/ 339). (¬5) الحديث عند البخاري (1/ 123)، وأبي داود في فضائل الصحابة ص 151، والنسائي (المساجد 24)، وأحمد في مسنده (5/ 222) وغيرهم.

ثابت (¬1) في منافحته عن الله ورسوله. {أَفَكُلَّمَا} استفهامٌ لإنكار، والفاء لتعقّب الاستنكار عن مجيء الرسل - عليهم السلام - (¬2). بما لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ يعني: تحليل ما تعوَّدوا تحريمه، وتحريم ما تعوَّدوا تحليله، وما يشبهه من الابتلاء. والهوى: داعية النفس إلى لذةٍ عاجلة، وهو ضد الحكمة لأنها داعية العقل إلى ذخيرةٍ آجلة. {فَفَرِيقًا} منصوب بـ {كَذَّبْتُمْ}. والمكذَّب مثل: سليمان وإرميا وعزير وعيسى (¬3) ومحمد - عليهم السلام -. {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} مثل: زكريا ويحيى - عليهم السلام -. {تَقْتُلُونَ} مستقبل (¬4) بمعنى الماضي (¬5)، كقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬6). ¬

_ (¬1) حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي النجاري، سيد شعراء المؤمنين وشاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإِسلام، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اهجُهم وجبريل معك" وكان يضع له منبرًا في المسجد ينافح عن رسول الله، وقد عمي في آخر عمره. وتوفي سنة أربع وخمسين. [تاريخ ابن معين (107)؛ التاريخ الكبير (3/ 29)؛ أسد الغابة (2/ 5)؛ تاريخ الإسلام (2/ 277)؛ الإصابة (2/ 237)]. (¬2) الفاء لعطف ما بعده على ما قبله، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ...} وهمزة الاستفهام مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتوبيخ والاستنكار كما ذهب إليه المؤلف، وهذا مذهب الجمهور بأن تتأخر الهمزة بعد حرف العطف وهذا هو الأصل، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب فهو بمعنى الخبر. [مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 604) - الكشاف (1/ 85) - البحر (1/ 271) - حاشية الجمل (1/ 67)]. (¬3) (عيسى) ليست من "ن". (¬4) في "أ": (متصلة) وهو غير مفهوم. (¬5) ولا مانع أن يكون الاستقبال على بابه فإنهم - أي اليهود - استمروا على نهجهم في قتل أنبياء الله حتى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد تسبَّبوا في قتله عندما وضعوا السُّمَّ في طعامه حتى قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -؛ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد أَلم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أبهري من ذلك السم" [أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته 4428 - والحاكم في المستدرك (3/ 58) ووافقه الذهبي]. (¬6) سورة آل عمران: 58.

{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أَغْلَف، كمُرْد وأمْرد، والأَغْلَف، الأَقْلَف لأن بعضهم (¬1) في غلاف وغطاء، وهذا كقول غيرهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} (¬2) وإنما أرادوا به الصَّون والحفظ وأرادوا بذلك إياس الناس من إيمانهم. وقيل الغُلْف: في الأصل غُلُف - بضم اللام - وهو جمع غِلاف كحِمَار وحُمُر، وعَنَوْا به إحاطتهم بالعلوم، وكلاهما محتملان. فكذَّبهُمُ اللهُ تعالى وقال: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي: طردهم وخذلهم، ومن تحية الملوك: أَبَيْتَ اللعن، ومجازه: لا لعنتنا، أو نعوذ بك من لعنك. {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} أي: قليلًا يؤمنون، فيكون القليل نعت اسم محذوف و (ما) صلة لنوع تأكيد. وقيل: (ما) للنفي، أي: لا يؤمنون إيمانًا قليلًا [وقيل: قليلًا] (¬3) ما وقل ما معدولان إلى حيز الحروف، والمراد بها نفي كالنفي في (لما) و (لا يكاد) وإن أخذنا بالقولَين الأولَيْن فقليلًا (¬4) نصب لوقوع الفعل عليه، وإن أخذنا بالقول الثالث فيكون قليلًا مسموعًا غير محل للإعراب (¬5). {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} نزلت في ذكر استفتاح اليهود من الله تعالى على العرب في (¬6) وقائعهم مع حِمْيَر وبني كهلان باسم محمد - عليه السلام -، وذلك ¬

_ (¬1) في "ب" "أ": (بعضه). (¬2) سورة فصلت: 5. (¬3) ما بين [...] ليست في "أ". (¬4) في "أ": (فلا بلا) وهو غير مفهوم. (¬5) في نصب "قليلًا" ستة أوجه ذكر المؤلف بعضًا منها، وهي على وجه الاختصار كالتالي: الوجه الأول: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إيمانًا قليلًا يؤمنون. الوجه الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف، أي: يؤمنونه أي الإيمان في حال قلَّته، وهذا مذهب سيبويه. الوجه الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانًا قليلًا يؤمنون. الوجه الرابع: أنه على إسقاط الخافض. التقدير: فبقليل يؤمنون، وهذا مذهب أبي عبيدة. الوجه الخامس: أن يكون حالًا من فاعل "يؤمنون". الوجه السادس: أن تكون "ما" نافية، أي: فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا. قال أبو البقاء: وهذا قويٌّ من جهة المعنى وهو ما ذهب إليه ابن الأنباري. [الكتاب (1/ 116) - الإملاء (1/ 50) - الدر المصون (1/ 502)]. (¬6) (في) ليست في "أ".

أنهم كانوا ينشدون الله باسمه ويَروْن أنهم أنصارُهُ وأعوانُهُ لما ينتظرون مبعثه، فلما رأَوْه حسدوه وحسدوا العرب بكونه منهم لا عِرْقَ فيه من اليهود (¬1)، ولم تطاوعهم أنفسهم في ترك ما اعتادوه فكفروا به وحَرَّموا التأويل، والمراد بالفتح في {يَسْتَفْتِحُونَ} الظفر والنصرة (¬2). {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ} بئس ونِعْمَ: فعلان ماضيان مثل: لَعِبَ وشَهِدَ، فمنعا الصرف وكل واحدٍ منهما يقتضي اسمين غالبًا، ويكون الأول عامًا لعموم المدح والذم، والثاني: خاصًا لأن المقصود مخصوص، ثم الاسم الأول، إما اسم (¬3) جنس فيرتفع بالفعل (¬4)، وإما نكرة فينتصب على التفسير. والاسم الثاني: مرفوع أبدًا لأنه خبر مبتدأ محذوف. والاسم الأول هاهنا: ما اشتروا به أنفسهم، والثاني: أن يكفروا، وهذا قول البصريين. وعند الكوفيين هما حرفان يشبهان الفعل (¬5) وفيهما معنى الصفة، ¬

_ (¬1) والمراد بالكتاب في هذه الآية هو القرآن، وهو مصدِّق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن، قاله ابن جرير وأسنده إلى قتادة والربيع. [الطبري (2/ 236)]. (¬2) أي يستنصرون الله تعالى عليهم، وجاء في الحديث "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح بصعاليك المهاجرين" [أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 269) - وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح (10/ 262)] أي: يستنصر بهم في الدعاء للغزوات، ومنه قول الأشعر الجعفي: ألا من مبلغ عَمْرًا رسولًا ... فإني عن فُتَاحَتِكُم غنِي أي: عن نصرتكم. ومعنى الآية: أن المشركين من قبل كانوا يؤذون اليهود فربما تكون الغلبة لهم على اليهود في القتال فقالت اليهود: اللهمَّ انصرنا بالنبيِّ الأميِّ الذي تبعثه في آخر الزمان فكانوا يُنصرون به، فلما بعث نبجنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كفروا به. [تفسير السمعاني (1/ 551) - تهذيب اللغة (4/ 447) - مجاز القرآن (1/ 47) - غريب القرآن لابن قتيبة ص 58 - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 608)]. (¬3) (اسم) ليست في "ب". (¬4) (بالفعل) ليست في "ب". (¬5) ومن الكوفيين من زعم أنهما اسمان - أي نعم وبئس - مستدلِّين بدخول حرف الجر =

والدليل على كونهما حرفين لزومهما صورةً واحدةً في التذكير والتأنيث والجمع والخطاب والحكاية عن النفس والغائب ولأنهما لو كانا فعلين لدخلهما "قد" والدليل على أنهما يشبهان الأفعال جواز قولك: بئس وبئست ونعمَ ونعمت. والدليل على أنه فيهما معنى الصفة استقلال قولك: بئس الرجلُ زيدٌ، ونعمَ رجلًا عمرو، أي: مذموم زيد ومحمود عمرو، وعلى هذا ما اشتروا به أنفسهم هاهنا اسمٌ، والكفر: مشترى به، والأنفس: مشترى لها، فانتصب بنزعِ الخافض. {بَغْيًا} حسدًا حسدوا. {يُنَزِّلَ اللَّهُ} تعالى {فَضْلِهِ} وهو وحيه ورحمته. {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يعني: نبينا عليه الصلاة (¬1) والسلام. والعباد جمع عبد، والعبد مَنْ هو مملوكُ الرقبة. {مُهِينٌ} يُهانون فيه، والإهانة من الإذلال (¬2). {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} نزلت (¬3) فيمن تكبَّر من اليهود أن يقول عند الدعوة نَعَم وتحرج أن يقول: بلى، فكانوا يعدلون عن الجواب إلى قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعنون التوراة. ويظنون أن جوابهم مخلّصٌ عن الكفر، كما أن المؤمنين يقولون عند الشك: آمنا بجميع ما أنزل اللهُ على رسله، فخطأ اللهُ اليهود وحكم بكفرهم إذ قال: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}؛ يعني القرآن (¬4). ونصب ¬

_ = عليهما في قولهم: "ما هي بنعم الولد نَصْرُهَا بُكاءٌ وبِرُّهَا سرقة"، وقولهم: "نعم السير على بئس العير"، وقول الشاعر: صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ ... بِنِعْمَ طَيْرٍ وشبابٍ فاخِرِ [الإنصاف ص 97 - الأشموني (273)]. (¬1) (الصلاة) من "ب". (¬2) وأصل "مهين" مُهْوِن, لأنه من الهوان، وهو اسم فاعل من أهان يُهين إهانةً فنقلت كسرة الواو على الساكن قبلها فسكنت الواو بعد كسرةٍ فقلبت ياءً. [معجم مفردات الإبدال ص 270 - اللسان "هون" - مقدمة المفسرين للبركوي (1/ 613)]. (¬3) (نزلت) ليست من "ب". (¬4) يرى ابن جرير في قوله تعالى: {بِمَا وَرَاءَهُ} أي: بما وراء التوراة أي بما بعد التوراة، وهذا تفسير قتادة والربيع وأبي العالية فيكون المعنى: بما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله التي أنزلها إلى رسله. [الطبري (2/ 255) - ابن أبي حاتم (1/ 174)].

{وَرَاءَهُ} على الظرف (¬1)، وكلّ شيئين أحدُهما أقرب منك فهو دون الآخر والآخر وراءه، كلُّ مشغولٍ عنه وراء الشاغل. وهو راجع إلى ما، وما قائم مقام القرآن. و {مُصَدِّقًا} نصبٌ على القطع كوفيًا وعلى الحال بصريًا (¬2). و (لِمَ) أداة لطلب الحجة، وهو في الأصل: لماذا، وتقديره: لأجل أي شيء ذلك الفعل وذلك القول، ونظيره في الاختصار: عَمَّ ومِمَّ. {تَقْتُلُونَ} مستقبل بمعنى الماضي بدلالة قوله: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬3). وكرر اتخاذ العجل، والتكرار ربما اتصل بزيادة فائدة، وربما لم يتصل. فيما يتصل ثلاثة أنواع، أحدها: مثل هذا إذ الأولى لإلزام الحجة وتذكير النعم بدلالة أنه أتبعهًا {ثُمَّ عَفَوْنَا} (¬4). والثانية: لتكذيبهم في دعواهم (¬5)، بدلالة قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ ¬

_ (¬1) "وراءه" وراء: من الظروف المتوسطة التصرف، وهو ظرف مكان والمشهور أنه بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى أمام فهو من الأضداد، ومن الثاني قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي أمامهم. وفسَّر الفراء قوله تعالى: {بِمَا وَرَاءَهُ} بما سواه أي أن وراء بمعنى سوى. وفسَّره أبو عبيدة بمعنى "بعد" وحكم وراء كحكم قبل وبعد في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم، ولذا أنشد الأخفش: إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يكن ... لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وجاء في الحديث عن إبراهيم - عليه السلام -: "كنتُ خليلًا من وراءُ وراءُ" [أخرجه مسلم في صحيحه- كتاب الإيمان (1/ 187)]. [معاني القرآن (1/ 60) - مجاز القرآن (1/ 47) - الإملاء (1/ 51) - شرح الجمل (2/ 305)]. (¬2) ولذا هي عند سيبويه حال مؤكدة. والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها نحو: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وإما أن تؤكد مضمون جملة، فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها وتأخيرها عن الجملة، ومثله ما أنشده سيبويه وهو لسالم بن دارة: أنا ابنُ دارةَ معروفًا بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناسِ منْ عارِ ويكون التقدير في الآية: وهو الحق أَحُقُّهُ مصدقًا. [الكتاب (1/ 257) - الخصائص (2/ 268) - الأشموني (2/ 185) - إعراب القرآن للنحاس (1/ 198)]. (¬3) سورة آل عمران: 183. (¬4) سورة البقرة: 52. (¬5) في "ن": (دعوتهم).

الله} (¬1). النوع الثاني مثل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} (¬2). وقال في موضع: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬3)، وقال في الموضع الثاني: {وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (¬4) وكل واحدٍ من الآيتين تضمَّن من المعنى ما لا تتضمنه الأُخرى لا محالة (¬5). والثالث: وصفُ الجنة والنار وفائدة التكرار: تجديد الحث والإنذار (¬6). وما لا يتصل بفائدة: نوعٌ واحد، وهو ما يوجد في سورتين. والوجه في الأنواع الثلاثة أنَ تَضَمُّنَ الفوائدِ كلها لا يجب في قصة واحدة ثم إذا وقعت الحاجة إلى ذكر فائدة لم تذكر في القصة، فالأحسن تكرار القصة لاستدراك ذكر الفائدة في محلها، وربما لا يتصور غير ذلك. والوجه في هذا النوع الواحد أَنَّ السورتين بمنزلة كتابَيْن، واللهُ يقولُ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} (¬7) ووجود قصة واحدةٍ في كتابَيْن معروفٌ واجبٌ وذلك لا يسمى تكرارًا إذ كلُّ كتاب في الحاجة إليها كمثله، هُو كذلك تضمين قصة واحدة في قصيدتين أو خطبتين، وقيل: الفائدة في هذا النوع موجودة وهي شهود قومٍ نزولَ الثانية لم يشهدوا نزولَ الأولى. وتكرار قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أيضًا على وجه اللوم والتكذيب ألا ترى أنه أعاد قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. والسمع: الإجابة، ومنه قولُ المصلّي: سمعَ اللهُ (¬8) لمنْ حمده، قال الشاعر (¬9): دعوتُ الله حتى خِفْتُ ألا ... يكون اللهُ يسمع ما أقولُ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 91. (¬2) سورة البقرة: 63، 93. (¬3) سورة البقرة: 63. (¬4) سورة البقرة: 93. (¬5) (لا محالة) من "ي" فقط. (¬6) (والإنذار) ليست من "ن". (¬7) سورة البينة: 3. (¬8) (الله) ليس في "أ". (¬9) هو في لسان العرب (6/ 364) مادة "سمع" ولم ينسبه لأحد.

واختلف في قوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فحمله بعض المفسرين على الاعتراف والاستيعاب. وبعضهم جعل (¬1) {سَمِعْنَا} من إدراك المسموع لا من الإجابة، وقوله: {وَعَصَيْنَا} تمردٌ وإِباء، وحمل بعضهم قولهم: {سَمِعْنَا} في وقت {وَعَصَيْنَا} في وقت آخر، {وَأُشْرِبُوا} أى سُقُوا، والإشراب قريبٌ من السقي حقيقة ومن المزج مجازًا، يقال: وجهٌ مُشْرَبٌ حُمرةً ودمًا، ورُوِيَ عن بعضهم ما يدلُّ على حقيقة الشرب، قال: أنكر بعضهم عبادة العجل، فلما نُسِفَ العجلُ في اليمِّ نَسْفًا أُمروا بشرب ذلك الماء فتشرب قلوب المنافقين، وظهرت العلامة على وجوههم فأخذوا وقُتلوا. والواو (¬2) في (أُشربُوا) ضمير ذوي القلوب (¬3) وهُم الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقوله: {فِي قُلُوبِهِمُ} كنوع إبدال البعض من الكل، كقولك: ضربتُ زيدًا على صدره. و {الْعِجْلَ} قائم مقام المضاف إليه، وتقديره: حبَّ العجلِ، وعلى القول الآخر: أجزاء العجل مما نُسِفَ مع الماء الذي شربوه، {بِكُفْرِهِمْ} بشؤم كفرهم (¬4)، وهو قولُهُم السابق {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬5) وغيره من الإباء والعناد والتُّهمة. {قُلْ} أمرٌ من القول لما حذفت الواو أُعطيَت القاف حركتها وقعَ الاستغناءُ عن همزة الوصل. {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} كقولك لسفيه ¬

_ (¬1) (جعل) ليس في "أ". (¬2) في "أ": (قالوا). (¬3) الواو في "أُشْرِبُوا" هي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والمفعول الثاني هو "العجل" لأن "شرب" يتعدى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولًا آخر ولا بدَّ من حذف مضافين قبل "العجل". والتقدير: وأُشربوا حُبَّ عبادةِ العجلِ. وحسن حذف هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تصوَّر إشراب ذات العجل. بل ذهب بعض المفسرين كما ذكره المؤلف إلى أن الإشراب هنا حقيقة حيث إن موسى - عليه السلام - بَرَد العجل بالمبرد ثم جعل تلك البرادة في ماء وأمرهم بشربه، وهذا القول قال به السدي وابن جريج وفيه بُعْد، ويردُّه قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمُ}. [الإملاء (1/ 52) - البحر (1/ 309) - الدر المصون (2/ 5)]. (¬4) (بشؤم كفرهم) ليست من "أ". (¬5) سورة الأعراف: 138.

متعاقل: بئسما يأمرُكَ عقلُك شتم الناس (¬1)، أو لغاشٍّ يدعي الأمانة: بئسما تأمرك الأمانةُ إن كُنْتَ أمينًا. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} والكونُ في مثل هذا الموضع للإثبات في الحال دون الماضي من الزمان، وتقديره: إن أنتم مؤمنون. {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} نزلت في اليهود حيث زعموا أنهم يبعثون ويُثابون، وسائر الناس لا بَعث لهم ولا نشورَ (¬2). والمراد بـ {الدَّارُ الْآخِرَةُ} الجنة. وإنما توجه عليهم تمني الموت بهذه الدعوى لمعنيين، أحدهما مجمعٌ عليه, لأنهم لو باينوا سائر الناس في حكم البعث والنشور لباينوا في حكم كراهة الموت وتمنِّيه، ودليلُهُ رجلان في حبس حُكِمَ على أحدهما أن يخرجَ فيُقتل وحُكِمَ على الآخر أن يخرج فيُطلق. والآخر مختلف فيه وهو جواز التمني لمن يرجو ثواب الله وعفوه، مِنَ العلماء مَنْ يجيزُهُ ومنهم (¬3) من لا يجيزه (¬4). و (مِنْ) في قوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} (¬5) صلة، كما في قولك: من ¬

_ (¬1) (شتم الناس) ليست في، أ". (¬2) لما زعمت اليهود ما زعمت من أنهم يبعثون ويثابون دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة وقال لهم: إن كنتم محقِّين فتمنّوا الموت فإن ذلك غير ضاركم، فامتنعت اليهود من إجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة لعلمها أنها إن تمنَّت الموت هلكت كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيسى - عليه السلام - إذ دُعُوا إلى المباهلة، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا, ولرأوا مقاعدهم من النار" ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا [أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 99) - والنسائي في السنن الكبرى 11061 - وأبو يعلى 2604 كلهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا وإسناده صحيح]. (¬3) (ومنهم) ليست في "ب". (¬4) الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى الموت مهما كانت المصيبة التي ألمَّت به لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بدَّ فاعلًا فليقل: اللهمَّ أحيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي". [أخرجه البخاري (4/ 196) ومسلم (8/ 64) والنسائي (1/ 258) وغيرهم عن أنس بن مالك مرفوعًا. ولذا كما نصَّ عليه الحديث: "إن كان متمنِّيًا ولا بد فليقل: اللهمَّ أحيِني ... " الحديث. (¬5) هذا من "ي" وفي بقية النسخ: (من دون الله) وهو خطأ.

فوق، ويحتمل أنها في الموضعين مكان في أو على. والشيء الخالص هو: المتفرد عن غيره المتمحض في نفسِهِ، وتمني الشيء: تشهيه، وهو إرادة غير المقدور، ومن أدواته: ليت. {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} كان حكم هذا التحدي في الآية السابقة حكم التحدي للمباهلة مع النصارى، قال - عليه السلام -: "والذي نفسي بيده، لو تمنَّى أحدهُم لغَصَّ بريقه" (¬1). والأبد هو: الأمد البعيد، وقد يطلق على بعيدٍ دونَ بعيدٍ، ومن ذلك قولهم: إلى أبد الأبيد وأبد الآباد، ويطلقُ على بعيد لِأَبْعَدَ منه، وهو آخر جزء من أجزاء حياة الرجل أو مدة الدنيا، وإياه عني فتية (¬2) الكهف لقولهم: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (¬3). وهو منصوب على الظرف، والمراد به: آخر جزء من أجزاء حياتهم الدنيا (¬4)، بدلالة أنهم يقولون في النار: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} (¬5). والباءُ في (بما) للسبب، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} على التهديد. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللام للقسم، تقديره: والله لتجدنهم، أي: لَتَلفينَّهُم، وهو يقتضي مفعولين (¬6)، وقوله: {أَحْرَصَ} مفعولٌ ثانٍ هاهنا، كقولك: وجدتُ الرجلَ صالحًا. والحرص: شدة التمني، ووزن أَفْعَل (¬7) للتفضيل ¬

_ (¬1) الحديث رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 274)، وأخرجه الطبري في تفسيره (2/ 363) موقوفًا على ابن عباس. (¬2) بدل (عني فتية) في "ب" (عن فيه). (¬3) سورة الكهف: 20. (¬4) "أَبَدًا" ظرف زمان يقع للقليل والكثير ماضيًا كان أو مستقبلًا. قال الراغب: هو عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزَّأ كما يتجزَّأ الزمان، ويجمع على آباد لاختلاف أنواعه. وقيلْ آباد لغة مُوَلَّدة. ووصفه النحاس أنه ظرف زمان من طول العمر إلى الموت. [المفردات ص 2 - الدر المصون (2/ 9) - إعراب القرآن للنحاس (1/ 199)]. (¬5) سورة الحاقة: 27. (¬6) المفعول الأول هو الضمير "هم"، والمفعول الثاني هو "أحرص". وإذا تعدت "وجد" إلى اثنين كانا بمعنى علم. (¬7) في "أ": (أفعلة).

هاهنا، والتفضيل على الجنس لا يحتاج إلى (مِنْ) كقولك: الياقوت أفضل الجواهر، فإن وقع على غير الجنس لم يجز إلا بإدخال (مِنْ)، تقول: الياقوتُ أفضلُ من الزجاج، والدهنُ ألينُ منَ الماء. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} هُمُ المجوس (¬1). ويحتمل وجوهًا أربعة، أحدها: أنه معطوف على (الناس) فجيء بـ (مِنَ) لأن المجوس غير جنس اليهود، كقولك: الإنسانُ أحسنُ الخلائق ومِنَ الحور العين. فالخلائق (¬2) اسمُ جنس، والحور العين غير جنسٍ. والثاني: أن تُقدر التكرار فتجعل في التقدير: أحرص الناس وأحرص من الذين أشركوا. والثالث: أن تجعل الواو للاستئناف وتجعل في التقدير: ومن الذين أشركوا مَنْ يودُّ أن يعمّر ألف سنة [كأنه وقع العدول من قصة إلى قصة ليتبين أن من الناس مَنْ يودّ عمر ألف سنة] (¬3). ومع ذلك فإن اليهود أحرص منهم، ويجوز حذف (مَنْ) إذا ذكر قبله (مِنْ)، قال اللهُ تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} (¬4) أي: إلا مَنْ له. قال: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (¬5). والرابع: أنه معطوف على كناية الجمع، تقديره: ولتجدنهم والذين أشركوا أحرص الناس على حياة (¬6). ¬

_ (¬1) هو قول أبي العالية والربيع أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (2/ 277)، وابن أبي حاتم (1/ 179). (¬2) (فالخلائق) ليست في "ب". (¬3) ما بين [...] ليس في "ب". (¬4) سورة الصافات: 164. (¬5) سورة النساء: 46. (¬6) في قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أى يجوز أن يكون متصلًا داخلًا تحت أفعل التفضيل، ويجوز أن يكون منقطعًا عنه، ولكل من الحالين توجيهات إعرابية، فمن قال بالاتصال ففيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أنه حمل على المعنى، والتقدير: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. الوجه الثاني: أن يكون حذفَ من الثاني لدلالة الأول عليه. والتقدير: وأحرص من الذين أشركوا. =

و (مِنْ): صلة. وقيل: المراد بالمشركين: مشركو العرب. والشركة اجتماع الحقين في محلٍّ واحدٍ، والإشراك: نصب الشريك. {يَوَدُّ} (¬1) [يحبُّ أحدهُم أحد] (¬2) الجمع اسم عامِ يتناول الكل على سبيل الإفراد، قال اللهُ تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3). وتقول العرب: يلبثُ أحدُنا أيامًا لا يأكلُ ولا يشربُ، وربما يتميز وصار بمعني الأول في الإثبات، قال الله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ} (¬4) والآخَرُ، الآخِرُ لا محالة. ويُسمى اليوم الذي بعد السبت يوم الأحد، وهو في العربية الأولى اليومُ الأولُ، وهو في الأصل وحد، فقُلبت الواو همزةً كما في إياه. وجملة قوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في محل النصب لوقوعِ الودِّ عليها (¬5). والتعمير: إطالة العمر، والعُمر: المدة، والعَمْر: بقاء الحيوان. ¬

_ = الوجه الثالث: أن في الكلام حذفًا وتقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرص الناس، فيكون "من الذين أشركوا" صفة لمحذوف وذلك المحذوف معطوف على الضمير في "لتجدنهم". أما من قال بالانقطاع فيكون "من الذين أشركوا" خبرًا مقدمًا و"يود أحدهم" صفة لمبتدأ محذوف، والتقدير: ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم. [البحر (1/ 313) - الدر المصون (2/ 11) - الكشاف (1/ 298) - التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 617)]. (¬1) في "ب": {يودُّ أحدهم}. (¬2) ما بين [...] ليس في "ب". (¬3) سورة الأحزاب: 32. (¬4) سورة يوسف: 41. (¬5) وقيل: إن مفعول "يود" محذوف دلَّ عليه قوله "لو يُعَمَّر". والتقدير: يَوَدُّ أحدهم طولَ العمرِ، لو يُعَمَّرَ ألفَ سنةٍ لسُرَّ بذلك فحذف من كلِّ واحد ما دلَّ عليه الآخر. وأما ما ذكره المؤلف وهو النصب على أنها مصدرية بمنزلة "أَنْ" الناصبة، فلا يكون لها جواب وينسبك منها وما بعدها بمصدر يكون مفعولًا لـ "يود". والتقدير: يود أحدُهم تعميره ألف سنة، وهذا القول هو قول الكوفيين وأبي علي الفارسي وأبي البقاء العكبري. [الإملاء (1/ 53) - الكشاف (1/ 298) - الدر المصون (2/ 13)].

والألف: آخر أسماء العدد. وللعدد أحد عشر اسمًا موضوعًا، فالثمانية الأولى للآحاد وهي تعرض للاشتقاق، وكذلك التاسع وهو العشرة. والعاشر: المئة، والحادي عشر: الألف، وإنما انتصب الألف على معنى الظرف، وَخفْضُ السنةِ لأنها مضافةٌ إليها. والسنةُ: اسمٌ لاثني عشر شهرًا. {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} و (ما) للنفي. والزحزحة هي: التنحية (¬1). والبصير: المُبْصر، إلَّا أنَّ البصير أبلغُ في الوصف لأنه أشدُّ عدولًا عن الفعل. {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} نزلت في اليهود (¬2)، وعن قتادة والشَّعْبيِّ (¬3) (¬4) أنَّ السببَ في ذلك أنَّ عمر - رضي الله عنه - قال لليهود ذات يومٍ: بالرحمنِ الذي أنزلَ التوراة على موسى أتجدون محمدًا في كتابكم؟ فتمسكوا. ثم قالوا: نعم، ولكنَّ صاحبه جبريل عدونا وهو صاحبُ كلِّ عذابٍ، ولو كان مكانه ميكائيل لآمنَّا به، فإنه صاحب كلِّ رحمةٍ، فقال عمر. وأينَ مكانهما - أي مكانتهما من الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قالوا: أحدهما، أي كان ¬

_ (¬1) ومنه قول الحطيئة: وقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجةٍ ... إليكَ ولا مِنَّا لِوَهْيِكَ راقعُ المراد بالزحزحة التباعد والتحية. [اللسان "وهـ ى" منسوب إلى الحطيئة]. (¬2) قال الطبري: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أنَّ جبريل عدوٌّ لهم وأن ميكائيل ولي لهم. [الطبري (2/ 283)]. (¬3) هو عامر بن شراحيل الشعبي، من الفقهاء في الدين وجلة التابعين، أدرك أكثر من مائة من الصحابة، وقال أبو مخلد: ما رأيت أفقه من الشعبي، وقال ابن سيرين: قدمتُ الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ كثير، ولد لست سنين مضت من خلافة عمر على المشهور، ومات سنة ثلاث ومائة وقيل غير ذلك. [طبقات الحفاظ (1/ 40)؛ الثقات (5/ 185)؛ تهذيب التهذيب (5/ 57)؛ صفوة الصفوة (3/ 75)]. (¬4) الأثر روي عن قتادة والشعبي عن عمر عند الطبري (2/ 383) وكلاهما لم يسمع من عمر، ورواه كذلك الواحدي في أسباب النزول عن الشعبي عن عمر (27 - 28)، وله طرق أخرى مرسلة ومنقطعة عند ابن أبي حاتم (960 - 961) ولا يصح هذا المتن، والله أعلم.

أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره (¬1). قال عمر: أشهدُ أن مَنْ كان عدوًا لهما كان عدوًا لله تعالى، وانصرف إلى رسول الله - عليه السلام - ليخبره الخبرَ، فإذا بجبريل - عليه السلام - قد سبقه بالوحي، وقرأ النبيُّ - عليه السلام - القرآنَ، فقال: والذي بعثكَ بالحقِّ ما جئتُ إلا لأخبركَ، قال - عليه السلام -: "لقد وافقك ربُّك يا عمر" قال عمر: لقد رأيتني بعد ذلك في دينِ اللهِ أصلب من الحجر. وقيل: زعم ابن صُوريا أن جبريلَ عدوهُم لأنَّه حالَ بينهم وبين قتل بختنصر إذ هو صبي، ليتمَّ أمرُ الله فيه وفيهم، فأنزل اللهُ هذه الآية (¬2). وبعد الشرط إضمارٌ، تقديره: مَنْ كان عدوًا لجبريلَ كان عدوًا لله، وقد أُظهر هذا المعنى في الشرط الثاني، ويجوز أنْ يجعل (فإنه) جوابًا للشرط مجازًا من غير تقدير إضمار (¬3)، كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (¬4). وفي ضمير الهاء في (فإنَهُ) ثلاثة أقوالٍ: راجعٌ إلى المضمر، وهو اسم الله تعالى، أو إلى إيل وهو اسم الله تعالى أيضًا (¬5) بالعبرانية، أو إلى جبريل. وفي ضمير الهاء في {نَزَّلَهُ} قولان (¬6)، راجعٌ إلى جبريل أو إلى القرآن. ¬

_ (¬1) في "أ": (شماله). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 285)؛ وابن أبي حاتم (1/ 181)؛ والطبري (2/ 291) بلفظ يختلف قليلًا عن اللفظ الذي ذكره المؤلف. (¬3) الأظهر - والله أعلم - أنه لا يجوز أن يكون {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} جوابًا للشرط لوجهين، أحدهما من جهة المعنى، والثاني من جهة الصناعة الإعرابية. أما الأول: فلأنَّ فعل التنزيل متحقق المُضيِّ، والجزاء لا يكون إلا مستقبلًا. وأما الثاني: فلأنه لا بد في جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز: من يقُمْ فزيدٌ منطلقٌ ولا ضمير في قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} يعود على "مَنْ" فلا يكون جوابًا للشرط. [القرطبي (2/ 38) - البحر (1/ 318 - الدر المصون (2/ 23)]. (¬4) سورة المائدة: 118. (¬5) (أيضًا) ليست في "أ". (¬6) (قولان) ليست في "أ".

والإذن يتناول معاني كثيرة، أحدها: إباحةُ المطلوب، قال اللهُ تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} (¬1) وقال: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} (¬2). والثاني: التمكين، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬3)، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (¬4) والثالث: المشيئة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬5)، وقال: {أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬6). {وَبُشْرَى} الخبرُ السارُّ خاصَّةً، قال الله تعالى: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (¬7) وقال في المؤمنين: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬8). وجِبْر ومِيكا اسما عبد، وإيل اسم الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬9). وإنَّما ذكرهما ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 49. (¬2) سورة النور: 28. (¬3) سورة البقرة: 102. (¬4) سورة البقرة: 255. (¬5) سورة آل عمران: 145. (¬6) سورة يونس: 100. (¬7) سورة الفرقان: 22. (¬8) سورة يونس: 64. (¬9) في "جِبْرِيل" ثلاث عشرة لغة أشهرها وأكثرها استعمالًا جِبْرِيل على زنة قنديل، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص، وهي لغة الحجاز. قال حسان بن ثابت: وجبريل رسول اللهِ فينا ... وروح القدسِ ليس له كفاءُ اللغة الثانية: جَيْرِيل بفتح الجيم على وزن فَعْلِيل. اللغة الثالثة: جَبْرَئيل، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائي، ومنه قول حسان بن ثابت: شَهِدْنَا فما تلقى لنا من كتيبةٍ ... يدَ الدهرِ إلا جَبْرَئِيلُ أمامها اللغة الرابعة: هي مثل الثالثة لكنها بدون ياء: جَبْرَئِل، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر. اللغة الخامسة: مثل الرابعة، إلا أن اللام مُشَدَّدَة. اللغة السادسة: جَبْرَائِل بألف بعد الراء وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة. اللغة السابعة: مثل السادسة إلا أنها بياءٍ بعد الهمزة. =

بعد دخولهما في عموم الملائكة تشريفًا لهما، كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (¬1). وإنما أجابَ بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ولم يقل فهو كافر، لأنَّ الكفرَ مُقدَّرٌ (¬2) في نفس العداوة، فصار كالمنطوق (¬3) به في الشرط، ومثالُهُ قولُكَ: إن غصبتَ حقي فإنَّ الله لا يحبُّ الظالمين، وإنْ أنجيتني فإنَّ الله يجزي المحسنين. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الآية، كأنها (¬4) تعزيةٌ للنبي - عليه السلام - لما ساءَهُ من قول اليهود: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} (¬5) {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} هذا الكلامُ المعجز، وتبييت النبي - عليه السلام - (¬6) لهم كثيرًا مما يخفُون من الكتاب، واستجماعُهُ خصالَ (¬7) الأنبياء كلها في سَمْتِهِ وهَدْيِهِ وحركته وسُكونه مع ما خصَّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- به من نعوتٍ نعته بها في الصُّحُف الأُولى. {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} نزلت في اليهود (¬8). واختلف في نقضهم (¬9) ¬

_ = اللغة الثامنة: جِبْرَاييل، بياءَين بعد الألف من غير همزة، وبها قَرأ الأعمش ويحيى. اللغة التاسعة: جِبْرَال. اللغة العاشرة: جِبْرَايل. اللغة الحادية عشرة: جَبْرِين. اللغة الثانية عشرة: مثل الحادية عشرة إلا أنها بكسر الجيم. اللغة الثالثة عشرة: جَبْرَايين. [الدر المصون (2/ 20) - القرطبي (2/ 38) - ديوان حسان 450 - ابن عطية (1/ 361) - الكشاف (1/ 254)]. (¬1) سورة الأحزاب: 7. (¬2) (مقدّر) ليست في "أ". (¬3) في "س": (كالمنطوط). (¬4) (كأنها) ليست في "أ" "ن". (¬5) سورة البقرة: 91. (¬6) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬7) في "ب": (خلاص) وهو خطأ. (¬8) الطبري (2/ 400 - 401)، وابن أبي حاتم (973) وعلته عنعنة ابن إسحاق. (¬9) في "ن": (بعضهم).

العهود، قيل هو: عهود أنبيائهم من طاعة هارون عند الميقات، ومحافظة السبت، وأن لا يرفعوا طعامَ يومين في التيه، وأن يتوبوا، وأن يؤمنوا بعيسى ونبينا - عليه السلام -. [وقيل هو: هَمُّهم بقتل النبي - عليه السلام - وشَتمُهُم إياه وإرجافهم في المدينة] (¬1). وإيمانهم وجه النهار مع كفرهم (¬2) في آخره ومعاونتهم الأحزاب يوم أُحُد (¬3). والاستفهام للإنكار وكأنهم تبرؤوا من البعض (¬4) وقالوا: إنما نقض فريقٌ منا فكذَّبهُمُ الله في تبريهم وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وقيل: أنكروا على فريقٍ منهم نقضَ العهد، أَتَى بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لئلا يوهم أَنَّ كُلَّ مَنْ لم ينقضِ العهدَ منهم محمودٌ والواو للاستئناف، ويحتمل اللفظ على ما سبق من قصة اليهود. وإنما جَوَّزَ دخول ألف الاستفهام على الواو لأنها أبدًا تلي صدر الكلام سواء وَليَهَا اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ فكذلك مع الواو (¬5). والنَّبْذُ هو: الطرح، والانْتِبَاذُ: التنحي، والمنبوذ: اللقيط (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في "ب". (¬2) (كفرهم) ليست في "ب". (¬3) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا ...} الآية قال: قال مالك بن الضيف حين بُعِثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر لهم ما أُخذ عليهم من الميثاق وما عهد اللهُ إليهم فيه: والله ما عهد الله إلينا في محمد - صلى الله عليه وسلم - عهدًا وما أخذ له علينا ميثاقًا، فأنزل الله جلَّ ثناؤه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ...} الآية. [أخرجه الطبري (2/ 308)؛ وابن أبي حاتم (1/ 183)]. (¬4) في "ي" "ن": (النقض) والمثبت أقرب للصواب. (¬5) قال الأخفش في قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا}: الواو زائدة دخلت عليها ألف الاستفهام، ومذهب الكسائي أنها "أو" حركت الواو منها. ومذهب سيبويه أنها واو العطف. قال ابن جرير الطبري: والصواب عندي أنها واو عطف أُدْخِلَتْ عليها ألفُ الاستفهام ولا يجوز أن تكون الواو زائدة لا معنى لها، إذ غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له. [الطبري (2/ 307) - إعراب القرآن للنحاس (1/ 203) - إعراب القرآن لمحمود صافي (1/ 211)]. (¬6) الانتباذ والمنابذة: هو تحيز كل واحد من الفريقين في الحرب، بأن تكون بين فئتين =

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} نزلت في اليهود أيضًا. والعرب تقول لكل مَنْ أعرض عن شيء: نبذه وراء ظهره، والظَّهْر هو: المتن. و"كأن" حرف تشبيه [وإنَّما ينصب لأنه يفيد التشبيه] (¬1) والتشبيه فعلٌ واقعٌ على المشبَّه ويستعمل عند الظن والحسبان (¬2) أيضًا، وذلك أن الظانَّ يُشبّه المحسوسَ بالموهوم. وفي الآية دلالة على امتياز الخبر المتواتر عن غيره. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} نزلت في ذم اليهود [وبيان أصل السحر] (¬3) وتركِهِ {سُلَيْمَانَ} - عليه السلام -. ونحنُ نقدِّمُ قصصًا يحتاج إلى علمها وشواهدَ لا بد من ذكرها وأحكامًا يجبُ إحصاؤها (¬4)، ثم نأخذُ في التفسير إنْ شاء الله تعالى. ¬

_ = عهد وهدنة بعد القتال ثم أراد نقض ذلك العهد، فينبذ كل فريق منهما إلى صاحبه العهد الذي توادعا عليه، ومنه قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] وما ذكره المؤلف من أن النبذ هو الطرح لا يختلف معناه عن المعنى الآخر الذي ذكرنا، فالطرح والتنحي كلاهما بمعنى واحد. وأما ما كان بمعنى اللقيط ففيه معنى الطرح لأن فيه طرحًا لولد الزنى على جانب الطريق. والمنبوذة هي الشاة الهزيلة التي لا تؤكل فتنبذ. وانتبذ عن قومه أي: تنحَّى. وفي الحديث: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنابذة". قال أبو عبيدة: المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذْ لي الثوبَ أو غيره من المتاع أو أَنْبذه إليك وقد وجب البيع بكذا وكذا. ومجيء النبذ بمعنى الطرح معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي الأسود: وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْت أَرسلتُ أنَّمَا ... أخذتَ كتابي مُعْرضًا بشِمالِكا نَظَرْتَ إلى عنوانِهِ فنبذْتَهُ ... كنبذِكَ نَعْلًا أَخلقَتْ مِنْ نعالِكا وذكر أبو حيان عن صاحب المنتخب قال: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، إلا أن النبذ أكثر ما يقال في المبسوط والبخاري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين. [المحكم). (10/ 84) - تهذيب اللغة (14/ 441) - النهاية لابن الأثير (5/ 6) - ديوان أبي الأسود ص 49 - البحر (1/ 325)]. (¬1) ما بين [...] ليس في "أ". (¬2) في "ن" "ب": (الحساب). (¬3) ما بين [...] ليس في "أ". (¬4) أظهر شيء في تفسير هذه الآية ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 185)، والطبري (2/ 316)، والنسائي في التفسير رقم 14 ورجاله ثقات. =

اعلم أنَّ هاروت وماروت مَلَكان من الملائكة ببَابل الكوفة مَن أتاهما من الوجه المقدَّر وسَمِعَ كلامهما ولم يرَهما هكذا رُوِيَ عن عائشة (¬1) وعن علي في حديث المسوخ (¬2)، وعن ابن عمرو (¬3) سُئِلَ ¬

_ = وحسَّنه الشيخ حكمت بشير في تفسيره عن ابن عباس قال: قال آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم (الأعظم)، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيِّه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كلِّ سطرين سحرًا وكفرًا وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبُّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبُّوه حتى أنزل على محمد {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. [الطبري (1/ 316) - التفسير الصحيح لحكمت بشير (1/ 205) - الدر المنثور (1/ 95)]. (¬1) أم المؤمنين الصدِّيقة ابنة الصدِّيق الأكبر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. أفقه نساء الأمة على الإطلاق، تكنى أم عبد الله، ولدت في الإِسلام قبل الهجرة بثمان سنين، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها ثمانية عشر عامًا، وقد حفظت عنه شيئًا كثيرًا حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح. [الاستيعاب (4/ 1881)؛ الطبقات الكبرى (8/ 58)؛ صفوة الصفوة (2/ 15)؛ الإصابة (8/ 16)؛ سير أعلام النبلاء (2/ 135)]. (¬2) حديث علي في المسوخ أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية (3892)، وابن أبي الدنيا في العقوبات ص 223، وأبو الشيخ في العظمة 702، والحاكم في مستدركه (2/ 265) وصححه على شرط الشيخين وأخرجه الطبري في تفسيره (2/ 343) وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 199) وقال: هذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدًا ولفظه: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كانت الزُّهْرَة امرأة جميلةً من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلا أن يعلِّمَاهَا الكلامَ الذي إذا تُكُلِّمَ به يُعْرَجُ به إلى السماء، فعلَّماها، فتكلَّمت فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبًا. وأما عن عائشة - رضي الله عنها - فقد أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 353)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 194)، والحاكم (4/ 155)، والبيهقي (8/ 136)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 203) وقال: أثر غريب وسياق عجيب، ثم قال: هذا إسناد جيد إلى عائشة ولفظه: "قالت عائشة: قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به ... " الحديث بطوله. (¬3) عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي، الإِمام الحبر العابد =

الضحاك بن مزاحم فقال: كانا عِلْجَين. والحسنُ البصري أخذ بقول عائشةَ مرةً وبقولِ عليٍّ أخرى، فكان يقرأ {المَلِكين} - بكسر اللام - وهو شاذ (¬1)، وإن صَحَّ فيجوز أن يكون مَلَكَين مَلِكين كما في حديث المسوخ. وقيل: أنهما شيطانان، وذلك لا يدلُّ على نفي كونهما مَلَكين من قبلُ كإبليس لعنه الله، وأحسنُ ما قيل فيهما أنهما ملكان لا يعصيان الله فيما أمرهما ببيان السحر ويحذِّران منه بأمر الله تعالى، وهذا غير مستكف (¬2) كقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} (¬3)، قال لآدم - عليه السلام -: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (¬4) ولو شاء لصرفهما عنها وحال بينهما وبينها ولم يمكِّنهما من التناول، إلا أنه فعل ذلك للابتلاء، ولأن الثواب إنما يجب بالامتناع بعد القدرة. وسحر البابليين شيئًا فشيئًا وقد عرف الضحاك ذو الحيتين (¬5) بذلك في سابق الدهر. ¬

_ = صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه، وليس أبوه أكبر منه إلا بأحد عشر سنة، وأسلم قبل أبيه. وله مناقب وفضائل جمة، وروى أحاديث كثيرة عن النبي - عليه السلام - بلغت سبعمائة حديث. توفي سنة ثلاث وستين هجرية. [طبقات ابن سعد (2/ 373)؛ التاريخ الكبير (5/ 5)؛ الاستيعاب (956)؛ تاريخ الإسلام (3/ 37)؛ الإصابة (2/ 351)]. (¬1) الجمهور على فتح لام "المَلَكَين" على أنهما من الملائكة، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكسر اللام على أنهما رجلان من الناس. قال أبو جعفر بن جرير الطبري: وقد دلَّلْنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، فأما من جهة النقل فبإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار، وكفى بذلك شاهدًا على خطئها. [الطبري (2/ 350) - البحر (1/ 329) - القرطبي (2/ 52)]. (¬2) في "أ": (مستنكف). (¬3) سورة الشمس: 8. (¬4) سورة البقرة: 35. (¬5) هو ملك فارسي اسمه (بيوراسب) وهذا الاسم (الضحاك) ما تطلقه العرب عليه، وكان رجلًا شديد الظلم كثير البطش على كتفيه حيتان، وكان يذبح الناس ويطعمهم للحيتين على كتفه. انظر تاريخ الطبري (1/ 121)، ومعجم البلدان للحموي (1/ 207).

ويروى عن فريدون (¬1) أيضًا أنه أرسل بغية إلى ملك مصر ليخطبوا منه (¬2) بناته، فلما رجعوا استقبلهم فريدون في الطريق متمثلًا ثعبانًا يبتليهم بذلك، ففرَّ سلم وحمل عليه طوش وانذاريوج، فلما رأى ذلك قسم الملك بينهم على قضية (¬3) ما رأى. وقال الشاعر (¬4): يعقد سحر البابليين طرفها ... مرارًا وتسقينا سلافًا من الخمرِ وقول من زعم أن قوله: [{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} للنفي منتقض (¬5) لقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا] (¬6) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ ¬

_ (¬1) وقيل في اسمه "أفريدون" وهو ابن أثفيان من فرس أصبهان، وقد كان على الفرس الضحاك المعروف بـ "بيواراسب"، فلما كثر جوره على أهل مملكته من ذبحه في كل يوم رجلين منهم لإطعام أدمغتهما إلى حيتين كانتا على كتفيه جاءت النوبة إلى رجل حداد من أهل أصبهان يُدعى "كابي" فقام فدعا الناس إلى قتل الضحاك وإخراج فريدون جد بني ساسان من مكمنه وإظهار أمره، فأجابه الناس وقتل الضحاك. وملك فريدون، فجعل الفرس من يومئذٍ اللواء في أهل أصبهان تبركًا بذلك النصر، وقيل بأن فريدون هو أول من كتب بالفارسية. [تاريخ الطبري (1/ 123)؛ معجم البلدان (1/ 207)؛ كشف الظنون (1/ 29)]. (¬2) (منه) من "ي" "أ". (¬3) (على قضية) ليست في "أ". (¬4) البيت لذي الرمة وهو في ديوانه (231). (¬5) وضَعَّفَ هذا القول أيضًا ابن العربي أي أن "ما" ليست نافية، وفي "ما" أربعة أوجه إعرابية: الأول: ما ذكرنا أنها نافية فتكون الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها وهي {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}. الوجه الثاني: أن "ما" موصولة بمعنى الذي محلها النصب عطفًا على السحر، والتقدير: يُعَلمون الناس السحر والمُنَزَّلَ على الملكين. الوجه الثالث: أنها موصولة أيضًا ومحلّها النصب، لكن عطفًا على {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}، والتقدير: واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أُنزل على الملكين، وعلى هذا فما بينهما اعتراض. الوجه الرابع: أن محلها الجر عطفًا على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، والتقدير: افتراءً على ملك سليمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على الملكين. [الإملاء (1/ 55) - إعراب القرآن لمحمود صافي (1/ 215) - الدر المصون (2/ 31)]. (¬6) ما بين [...] ليست في "أ".

{مِنْهُمَا} ثم (¬1) يحتمل أنهما باقيان بعد ولكن الله تعالى صرف أكثر الناس عنهما لنوع من المصالح. ويحتمل أنه قد انقرض أمرهما، فإن قيل: زهرة أحد الكواكب السبعة التي ركب الله فيها مصالح الدنيا، وقد روي في حديث المسوخ (¬2) ما روي وهو محال فلا يجوز قبوله والاستدلال به. قلنا: ومن يسلم بأن مصالح الدنيا متعلقة بالكواكب وأنها سبعة منذ خلقت الدنيا، ثم وإن صحَّ أنها لم تزل سبعة فيحمل أن الكوكب (¬3) لم يكن يسمى زهرة، فلما مسخ الله تلك المرأة وأودعها هذا الكوكب تعذيبًا لها سمي الكوكب باسمها. واعلم أن الجن أمة كالإنس، قال الله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} (¬4)، وقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} (¬5)، وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} (¬6)، ثم يجوز رؤيتهم أجمعين لأنهم مركبون من روح وجسد لا محالة، غير أن نصيب الروح لهم أكثر، وفي الحديث أن الحمار والكلب يريان الشيطان، ولذلك أمرنا بالاستعاذة عند نهيق الحمار (¬7)، وعن عمر أنه صارع جنيًا (¬8). وعن أبي أيوب الأنصاري (¬9) ................................. ¬

_ (¬1) (ثم) ليست في "ن" "أ". (¬2) في "أ": (المنسوخ). (¬3) في "أ": (الكواكب). (¬4) سورة النمل: 17. (¬5) سورة الجن: 7. (¬6) سورة الأنعام: 120. (¬7) أبو داود (5061)، وأحمد (3/ 306)، والبخاري في الأدب المفرد (1233 - 1235)، وابن حبان (1996 - موارد)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (312)، والحاكم (4/ 284) والحديث صحيح بطرقه. (¬8) الحديث عند الطبراني في الكبير (8226 - 8224) وخلاصته أنَّ رجلًا صارع جنيًا فصرعه وعاوده وصرعه وسألوا من هذا الرجل فقال: ومن يكون غير عمر؟ وعلَّة هذه الرواية أن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود. (¬9) أبو أيوب الأنصاري الخزرجي البدري الذي خَصَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنزول عليه في بني =

أنه أسر جنيًا (¬1)، وعن ابن مسعود أنه شبه الزط (¬2) من رأى (¬3) من الجنِّ ليلة الجن. غير أن الله تعالى صرف أبصارنا عنهم كما صرف أبصار قريش عن نبينا عليه الصلاة والسلام حين أرادوا أن يغتالوه، وهذا شيء لا يمكن تواطؤهم عليه. فمن أنكر هذا فقد أنكر العيان. ثم منهم شياطين، ومن الإنس شياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، وهؤلاء وصفوا كثيرًا من علم السحر وأسندوه إلى سليمان صلوات الله عليه للترويج. واعلم أن بعض الناس أفرط في إثبات (¬4) السحر (¬5)، وزعم أنهم يقدرون على تقليب العين والإيجاد من العدم، وقصر بعضهم (¬6) فأنكر تأثير الرمي والعقد والتمائم وحمل تأثيرها على نوع من التخويف والتطميع والتمويه. وقولنا على قضية اللغة (¬7) وما سبق من القواعد هو أن علم السحر يسمى سحرًا لصرفه عن جهة الحق، قال الله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (¬8)، ¬

_ = النجار إلى أن بنيت له حجرة أم المؤمنين سودة، ثم بني المسجد الشريف. واسمه خالد بن زيد بن كليب، شهد حرب الخوارج مع علي، واستعمله علي على المدينة. توفي سنة خمسين من الهجرة. [تاريخ ابن معين (144)؛ التاريخ الكبير (3/ 136)؛ أسد الغابة (2/ 94)؛ الإصابة (563)؛ السير (2/ 402)]. (¬1) الترمذي (2880)، وأحمد (5/ 423)، وأبو الشيخ في العظمة (109111) والحديث صحيح صححه أحمد شاكر. (¬2) في "أ": (الوط) وفي بقية النسخ: (الشرط) والمثبت هو الصحيح. (¬3) (من رأى) ليست في "أ". (¬4) (إثبات) ليست في "ب". (¬5) في "أ": (علم السحر). (¬6) في بقية النسخ: (بعض). (¬7) (اللغة) ليست في "أ". (¬8) سورة المؤمنون: 98.

أي: تؤفكون وتصرفون، ولأنه سبب كثير من العلل، والشيء المسحر: المعلل (¬1)، قال لبيد (¬2): فإن تسحرينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحرِ ثم هو أربعة أنواع: النوع الأول: تلبيس على الأفهام، وهو اللحن المذموم والمعاريض المذمومة، قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬3)، وقال - عليه السلام -: "إن من البيان لسحرًا" (¬4). وكذلك ذم المتفيهقين والمتشدقين. والنوع الثاني: تلبيس على الإحساس بالنيرنجات والتمويهات، قال الله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (¬5). والنوع الثالث: تأثير على الأجساد بالفساد وهو بالطب أو بمطاوعة الجن. قال الشاعر (¬6): وإنك لاتبالي بعد نحول ... أسحر كان طبّك أم جنونا وفي حديث بئر ذَرْوان قال أحد الملكين: طُبَّ الرجلُ، فقال آخر: مَن طبَّه؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: [تهذيب اللغة (3/ 182) - لسان العرب "سحر" - كتاب العين (3/ 153) - تاج العروس "سحر"]. (¬2) لبيد بن ربيعة بن مالك من شعراء الجاهلية الذين أسلموا. انظر ديوانه (56). (¬3) سورة محمد: 30. (¬4) أخرجه البخاري (9/ 173) كتاب النكاح باب الخطبة، ومالك في الموطأ (2/ 986)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2029)، وأحمد في المسند (2/ 16) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا، ورواه مسلم (869)، وأحمد في المسند (4/ 263) من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬5) سورة طه: 66. (¬6) لم أعرفه ولا قائله. (¬7) البخاري (10/ 221)، ومسلم (2189)، وأحمد في المسند (6/ 57) وغيرهم من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا.

ومما يختص به من علم الأطباء: علم الخواص، وكذلك الجني يمس فيضر النفس في طاعة وليه من الإنس، كما قال - عليه السلام - في الطاعون: "هو وخز أعدائكم من الجن" (¬1)، وقال في دم الاستحاضة: "هو ركضة من الشيطان" (¬2). فهذه الأنواع الثلاثة مما يجوز أن يبتلى بها كل أحد من الناس الأنبياء وغيرهم، إذ (¬3) النبي يفارق غيره في حكم العقل والقلب دون النفس. والنوع الرابع: تأثير في العقول والصدور بالخيال والعرف وهو بالطب أو بمطاوعة الجن أيضًا، والأنبياء مصونون عن هذا النوع معصومون بعصمة الله لا يضرُّهم منه شيء، والكل لا يؤثر إلا بإذن الله ومشيئته. وحكم الساحر: أن يُقتل إن كان يقتل بسحره، وهذا الشرط مرويٌّ عن أبي يوسف (¬4)، وكذلك إن حكم سحره كلمة كفر أو اتخاذ معبود، وكذلك إن اشتمل شيئًا من السحر قليلًا أو كثيرًا، أما هو كفر في نفسه أو غير كفر لأنه مقطوع الحكم بتحريمه لا يسوغ الاجتهاد فيه، فإذا (¬5) استحلَّه كفر فوجب قتله، والحكم فيما عدا هذه الأوجه الثلاثة الإنذار والنكال (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الصغير (1/ 127)، والحاكم (1/ 51) والحديث صحيح. (¬2) أبو داود (291)، والترمذي (128)، والدارمي (876) والحديث صحيح. (¬3) (إذْ) ليست في "أ". (¬4) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، إمام مجتهد. ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وتربَّى يتيمًا. قال محمد بن الحسن: مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفة، فلما خرج قال: إن يمت هذا الفتى فهو أعلم من عليها. وقال ابن معين: ما رأيتُ في أصحاب الرأي اْثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف. توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. [تاريخ ابن معين (680)؛ التاريخ الكبير للبخاري (8/ 397)؛ تاريخ بغداد (14/ 242)؛ تذكرة الحفاظ (1/ 292)]. (¬5) في "ن" "ب": (فإن). (¬6) انظر تفاصيل أنواع السحر وأحكامه الشرعية في كل من: [تفسير القرطبي (2/ 47) - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 314 - تفسير الطبري (2/ 352) - تفسير الماوردي (1/ 164) - ابن كثير (1/ 179) - مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (28/ 105) السنن والمبتدعات للشقيري ص 148].

{وَاتَّبَعُوا} افتعال من تبع يتبع. {مَا تَتْلُو} مستقبل بمعنى الماضي (¬1). {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (على) بمعنى في (¬2)، كانت الشياطين تقرأ السحر فيتلقى منهم مردة الإنس، وقيل: تقديره: على عهد ملك سليمان، وزعموا أنه كان يضبط أمره بالسحر واستخرجوا من تحت سريره كتابًا من السحر كتبوه بأيديهم، ويروى أن سليمان - عليه السلام - دفنه توهينًا وإبطالًا فسمَّوه كفرًا (¬3)، فبرَّأه الله مما قالوا على لسان نبيِّنا - عليه السلام -. وهو سليمان بن داود بن إيشا الذي فهَّمه الله حكم الغنم والحرث وهو صبي، وآتاه النبوة والملك العظيم الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وظاهر الآية يقتضي أن الشياطين كانوا يعلِّمون الناس نوعين من السحر: ما هو من تلقاء أنفسهم وما أخذوه من {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان أعجميان (¬4) مثل: طالوت وجالوت. وقيل: ¬

_ (¬1) مجيء المستقبل بمعنى الماضي وارد في كلام العرب، ومنه قول زياد الأعجم: وإذا مررتَ بقبرِهِ فاعْقِرْ بهِ ... كُوَمَ الهجانِ وكلَّ طرفٍ سابحِ وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها ... فلقدْ يكونُ أخادمٍ وذبائحِ أي: فلقد كان، والكوم: هي الناقة العظيمة السنام. [أمالي القالي (3/ 8) - أمالي الشجري (1/ 304) - القرطبي (2/ 42)]. (¬2) وقيل إن "على" على بابها، ويضمن {تَتْلُو} معنى: تتقوَّل، أي: تتقوَّل على ملك سليمان، وتَقَوَّلَ: يتعدى بـ "على"، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} [الحاقة: 44] وهذا أولى مما ذكره المؤلف -والله أعلم- لأن التجوز في الأفعال أولى من التجوز في الحروف، وهو مذهب البصريين. [الدر المصون (2/ 28)]. (¬3) في "أ": (كنزا). (¬4) ذكر بعض المفسرين قصة عن أصل هاروت وماروت وهو ما روي عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وأخرجها الإِمام أحمد في مسنده مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (9/ 35) ونصها: "إن الملائكة تعجَّبوا من كثرة معاصي بني آدم فقال لهم الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا. فاختاروا من خيارهم ملكين هاروت وماروت فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض وأخذ عليهما أن لا يشركا ولا يقتلا ولا يزنيا. قال كعب: فما مضى عليهما اليوم إلا وقعا الكل". وهذه القصة ذكرها الطبري في تفسيره (2/ 430) -والبغوي (1/ 89) - وابن كثير (1/ 199) - وأبو حيان في البحر (1/ 329) وغيرهم، وقال ابن كثير: وحاصلها =

هاروت من الهرت، وماروت من المرت. والهريت: الفصيح، قال الشاعر (¬1): عاد الأذلة في دار وكان بها ... هرت الشقاشق ظلامون للجزر والمرت: مفازة لا ماء فيها ولا كلأ، قال الشاعر (¬2): إني طربتُ ولا تلقى على طرب ... ودون الفك أمرات أماليس {وَمَا يُعَلِّمَانِ} للنفي. {حَتَّى يَقُولَا} للغاية، تجرُّ الاسم وتنصب الفعل بتقدير "أن" وربما لا تنصب. والفتنة: الامتحان والاختبار، وقد تكون الفتنة إيقاعًا في الشيء. ويحتمل أن يكون الفعل في قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} للشياطين فيكون معطوفًا (¬3) على قوله: {يُعَلِّمُونَ}، وتعليمهم السحر كاستراقِهِمُ السمعَ أو ¬

_ = راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها. (¬1) البيت لابن مقبل شاعر جاهلي إسلامي كما في الشعر والشعراء (277). (¬2) ذكره ابن منظور في لسان العرب (13/ 176) ولم ينسب لأحد. (¬3) جملة "يتعلمون" فيها سبعة أوجه إعرابية من حيث العطف، وما ذكره المؤلف هو أحد هذه الأوجه وهو الذي ذهب إليه الفراء واعترض عليه الزجاج وأجازه أبو علي الفارسي وغيره. الوجه الثاني: أنها معطوفة على قوله "وما يعلمان" والضمير في "فيتعلمون" عائد على "أحد". الوجه الثالث: - وهو أحد قولي سيبويه - أنه معطوف على "كفروا"، و"كفروا" فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع. الوجه الرابع: - وهو القول الثاني لسيبويه - أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: "فهم يتعلمون" فعطف جملة اسمية على فعلية. الوجه الخامس: وهو قول الزجاج حيث قال: والأجود أن يكون معطوفًا على "يعلمان" فاستغنى عن ذكر "يعلمان" على ما في الكلام من الدليل عليه، واعترض أبو علي الفارسي قول الزجاج هذا. الوجه السادس: أنه عطف على معنى ما دلَّ عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلمون. ذكر هذا الوجه الفراء والزجاج. =

نحوه. ويحتمل أن يكون الفعل للاثنين فيكون معطوفًا على مضمر وتقديره: فيأتون فيعلّمان فيتعلَّمون. و {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} البغضاء والتَّأخيذ. ومرء وامرؤ لغتان. وفي التأنيث: مرأة وامرأة، وكأن همزة الوصل إنما عُوِّضَت من الهمزة الأخيرة إذ لا صورة لها، فسكنت الميم وهي فاء الفعل (¬1). وابتدىء بهمزة الوصل كما في الاسم والابن. وقيل: إنما سُكنت فاء الفعل في مثل هذه الأسماء [وابتدىء بهمزة الوصل لأنها أسماءٌ] (¬2) كَثُر دورها على الألسنة فشبهت بالأفعال التي على صيغة الأمر. ومثل هذه العلل واهية واللغة بالسماع، وكأن المرء موضوع غير مشتقٍّ، والتثنية: مرآن وامرآن ومرأتان وامرأتان. وهي في التأنيث أكثر استعمالًا، وأما الجمع فلم يروَ إلا في حديث: "أحْسِنوا مَلأَكُم أيُّها المَرْؤون" (¬3). وقال رؤبة (¬4) لطائفة رآهم: أين يريد (¬5) المرؤون؟ وهذا جمع سلامة جائز في القياس {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ} والضُّر: إلحاق (¬6) الضُّر والضَّر بالشيء وهما: البؤس والمكروه، وفيهما معنى النقصان، ونقيضهما: ¬

_ = الوجه السابع: وهو ما ذكره أبو البقاء أنها جملة مستأنفة، ويحمل قول أبي البقاء هذا على أن الجملة خبر لمبتدأ محذوف وهو أن يكون مستقلًّا بنفسه غير محمول على شيء قبله. وأظهر هذه الأقوال - والله أعلم - أنها معطوفة على قوله "وما يعلمان"، وهو الوجه الثاني من هذه الأوجه السبعة، وهو الذي رجحه السمين الحلبي. [معاني القرآن للزجاج (1/ 162) - الكتاب (1/ 423) - معاني القرآن للفراء (1/ 64) - الإملاء (1/ 55) - الدر المصون (2/ 37)]. (¬1) في "أ": (الفعلة). (¬2) ما بين [...] ليست من "ن". (¬3) هذا ليس بحديث بل هو من قول للحسن، هكذا نسبه إليه الزمخشري في الفائق (3/ 258)، وابن الأثير في غريب الحديث (2/ 299) ومعناه: "أحسنوا أخلاقكم". (¬4) هو رؤبة بن العجاج التميمي الراجز المعروف ومن أعراب البصرة، كان رأسًا في العربية واللغة، توفي سنة 145 هـ. (¬5) في "ن": (يريدون) وهو خطأ. (¬6) في هامش "ي": (الخلف).

النفع (¬1). والهاء في (بِهِ) كنايةٌ عن السحر وعما يفرقون به. وتقديره: وما هم بضارين به أحدًا، إلا أنه أدخلَ (مِنْ) (¬2) للتأكيد (¬3)، كما قال: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} (¬4). وقال الشاعر (¬5): وقفتُ فيها أصيلًا أسائِلُهَا ... أعيتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ من أَحَدِ {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي في الآخرة، ويحتمل أنه نفى النفع وأثبت الضر لأن الضرَّ في نفسه على معنى الطبيعة، والنفع بالتقدير. {وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني اليهود. {مِنْ خَلَاقٍ} نصيب جميل. قال الله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} (¬6)، و {أَنْفُسَهُمْ} منصوبة بنزع الخافض فهي مشترى لها [والآخرة مشترى بها والسحر: مشترى، ويحتمل أن أنفسهم مشترى بها] (¬7) فيكون حينئذٍ {شَرَوْا} بمعنى باعوا (¬8)، [وإنما باعوا] (¬9) أنفسهم بتفويت حظِّها من الآخرة. وفعلهم مذموم سواء ¬

_ (¬1) ومنه قول الشاعر: إذا أنتَ لم تَنْفَعْ فَضُرَّ فإنما ... يراد الفتى كي ما يضر وينفعُ (¬2) (من) إضافة منَّا ليستقيم المعنى. (¬3) "مِنْ" زائدة لتأكيد الاستغراق، ولذا قال أبو البقاء: إن "أحدًا" يجوز أن يكون بمعنى واحد، ومن المعلوم أن "مِنْ" تزاد في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو: ما ضربت من أحدٍ، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الداخل عليها حرف النفي على الفعلية المنفية في ذلك لأن المعنى: وما يضرّون من أحد. [الإملاء (1/ 55)]. (¬4) سورة التوبة: 127. (¬5) الشعر للنابغة الذبياني، والبيت في ديوانه (30). (¬6) سورة التوبة: 69. (¬7) ما بين [...] ليست في "أ". (¬8) شرى بمعنى باع معروف في كلام العرب، ومنه قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] وقوله تعالي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فالأول شراء حسي والثاني شراء معنوي، والعرب تقول لكل من ترك شيئًا وتمسك بغيره فقد اشتراه. [المحكم لابن سيده "شرى" (8/ 100) - الطبري (2/ 367)]. (¬9) ما بين [...] ليست في "ن".

علموا أو لم يعلموا، إلا أن المراد به كونه مذمومًا عندهم، وهو كقوله: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬1). وإنما قال (¬2): {وَلَقَدْ عَلِمُوا} ثم قال: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لأنَّ العلمَ الأول: راجعٌ إلى فوات المعاد فهو مثبت، والعلم الثاني راجعٌ إلى قُبح الصنيع (¬3) وهو منفي إذ كل أمةٍ زُيِّنَ لهم سوءُ عملهم (¬4). {لَمَثُوبَةٌ} لثوابٌ وهو الجزاء، وأكثرُ استعماله في الخير، ووزنه مَفْعُلَة عند بعضهم، ومَفْعُولة عند الآخرين (¬5). والخيرُ اسمٌ عامٌّ محمود كله، ونقيضُه: الشر، يقال: فلانٌ خيرٌ من فلان أو شرٌّ منه، والمراد به التفضيل، إنما وقع التفضيل ها هنا على المتاع القليل من العاجلة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} نزلت في النهي (¬6) عن لفظة كان المسلمون يتلفظون بها ويلحَنُ (¬7) فيها اليهود ليًّا بألسنتهم [يريدون الشتم] (¬8)، وهي لفظة رَاعِنَا، قال ابن عرفة: هو مِنَ المراعاة، والعرب ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: 41. (¬2) في "أ": (قالوا). (¬3) (الصنيع) ليست في "أ". (¬4) تقدير الكلام عند الطبري: وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شرَوْا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق" والخطاب موجَّه إلى اليهود حيث لم يعملوا بما علموا. [الطبري (2/ 369)]. (¬5) في "مثوبة" قولان من حيث الوزن؛ الأول: أن وزنها مَفْعُولَة والأصل مَثْوُوبَة فَثَقُلَت الضمة على الواو فَنُقِلَت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُون وَمَشُوب. والثاني: أنها على وزن مَفْعُلَة من الثواب بضم العين، وإنما نقلت الضمة منها إلى الثاء. [البحر (1/ 335) - ابن عطية (1/ 374) - الدر المصون (2/ 50)]. (¬6) في "أ": (النبي). (¬7) في "أ": (ويلحق) وهو خطأ. (¬8) ما بين [...] ليست في "أ".

تقول: راعني، أي تَعَهَّدْني وافهم عني وأفهمني (¬1)، وقال الأزهري (¬2): ظاهرها أَرِعْنَا سمعَكَ (¬3)، وكانت اليهود تذهب بها إلى الرعونة، والأرعن الأحمق (¬4). وقيل: كانوا يقولون: راعينا، يعنون: راعي السائمة، فنسخ الله تعالى تلك الكلمة بقوله: {انْظُرْنَا} أي: انتظر وارتقب ما يكون من سؤال أو نحوه، والإنظار: التمهيل. والنَّظِرَة: المُهلة، ونَظَرتُ الشيء (¬5)، أي انتظرته. قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} (¬6)، وقال: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (¬7). وقرأ الحسن: {رَاعِنَا}، منونًا، لأنه ظنَّ أنها لفظةٌ كالأسماء فنصبها بوقوع القول عليه، كنصب مَنْ نصب {وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬8). {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في الإخبار عن حسد الكفرة وما يضمرونه من البغضاء (¬9) ليفتضحوا به ويزداد الذين آمنوا شكرًا لله تعالى ¬

_ (¬1) قول ابن عرفة نقله أبو عبيد الهروي في الغريبين (3/ 754). (¬2) محمَّد بن أحمد بن طلحة أبو منصور الأزهري الهروي الشافعي، والأزهري نسبة إلى جدِّه الأزهر. ولد في هراة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، أَسَرَتْهُ القرامطة عند عودته من الحج، فبقي في أسره دهرًا طويلًا ثم تخلَّص من الأسر ودخل بغداد وحضر مجالس العربية وبرز فيها، وأخذ عن نفطويه وابن السراج والبغوي وغيرهم. وأبرز كتبه "تهذيب اللغة". توفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. [الكامل (9/ 55)؛ معجم الأدباء (18/ 99)؛ الأنساب للسمعاني (527)؛ مقدمة تهذيب اللغة]. (¬3) وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال في قوله تعالى: {رَاعِنَا} أي: أرْعِنا سمْعَك. أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 374)، وهذه الكلمة "راعنا" كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والسب فنهى الله - عَزَّ وجَل - المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -. [الطبري (2/ 374) - ابن أبي حاتم (1/ 197) - تفسير عبد الرزاق (1/ 54)]. (¬4) لم أجده في مؤلفات الجوهري لكن نقله عنه أبو عبيد الهروي في الغريبين (3/ 754). (¬5) في "ب": (نظير الشيء) وهو خطأ. (¬6) سورة فاطر: 43. (¬7) سورة الحديد: 13. (¬8) سورة البقرة: 58. (¬9) في جميع النسخ (النعماء) وهذا خطأ، ولعل ما أثبتناه هو أصوب، والله أعلم.

وشدَّةً على الكفار. (ما) للنفي. (مِنْ) للتنويع (¬1) وهي مقَدَّرةٌ (¬2) في قوله: {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} عَنَوْا به وقع الاكتفاء بالأولى. {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ} الجملة في موضع النصب لوقوع الفعل المنفي عليها (مِنْ) للتفسير (¬3) {خَيْرٍ} نُصرةٍ ووحي ونحوهما. {مِنْ رَبِّكُمْ} (من) لابتداء الغاية، ومجازه: أن ينزل الله عليكم من خير من عنده. واسم "الله" مرتفع بالابتداء أو بالفعل {يَخْتَصُّ} تخصيص الشيء: اقتطاعُهُ من جنسه. والعموم ضد الخصوص. {مَنْ يَشَاءُ} (مَنْ) في محل النصب لوقوع الاختصاص عليه، مَن يشاء اختصاصه. و (اللهُ) رفع بالابتداء و {ذُو} خبره. وذو الشيء: مَنْ له الشيء على وجه التخصيص أو التمليك. وقد يُجعلُ الشيءُ ذا معناه وهو نفسه، كقولهم: الإنسان ذو روح وجسد، والأمر ذو بالٍ. وهو يُشبه الأخ والأب في التوحيد والتثنية والجمع، ذوو مثل: أولو وسنو. وذات الشيء: نفسُهُ، وقد تجعل التاء فيه من نفس (¬4) الكلمة فتثبت على (¬5) النسبة. {مَا نَنْسَخْ} (مَا) بمعنى المصدر إلا أن فيه معنى الشرط بدلالة جزم ¬

_ (¬1) وقيل إن "مِنْ" للتبعيض فتكون هي ومجرورها في محل نصب على الحال. وقيل: هي لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري. [الكشاف (1/ 302)]. (¬2) عند التحقيق - والله أعلم - يتعين أن يكون "المشركين" معطوفة على "أهل" بدون تقدير الحذف الذي ذكره المؤلف، وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار وأنه الأصل - ولا المشركون - عطفًا على الذين، وإنما خفض للمجاورة نحو قوله تعالى: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}، وهو قول أبي جعفر النحاس. وأما أبو البقاء فقال بالرفع عطفًا على الفاعل. [الإملاء (1/ 56) - إعراب القرآن للنحاس (1/ 205) - الدر المصون (2/ 53)]. (¬3) وقيل "مِنْ" زائدة للتوكيد، وذلك لأنهم اشترطوا في زيادتها دخولها على النكرة وأن تسبق بنفي أو شبهه، وهذا مذهب سيبويه وجماعة بخلاف الكوفيين والأخفش فإنهم لا يشترطون ذلك. وقيل: "مِنْ" للتبعيض أي: ما يودون أن ينزَّل من الخيرِ قليل ولا كثير. [الكتاب (1/ 279) - معاني القرآن للأخفش ص 98]. (¬4) في جميع النسخ (من نسخ) والمثبت لعله أصوب. (¬5) في "ب": (في) بدل (على).

الفعل (¬1)، نظيره: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} (¬2). والنسخ في اللغة: الإزالة والإزاحة. يقال: نَسَخَتِ الشمسُ الظِّلَّ، والريحُ الأثرَ. وتُسمى كنايةً ما هو في كتابٍ سابقٍ نسخًا مجازًا، وكذلك يسمى نقلًا، وحقيقة النقل ما يكون له فراغ محلٍّ لشغل محلٍّ. واعلم أنَّ نسخ الشريعة يأباه اليهودُ والإماميةُ من الشيعة، ولا يفرقون بينه وبين البَدَاء، فحجةُ اليهود قولُ موسى - عليه السلام -: "مَنْ جاءكم بخلاف ما أتيتُكم به فلا تقبلوه". وحجة الإمامية، قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (¬3)، وقوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} (¬4). ويجعلون ما يُعَدُّ منسوخًا من الأحكام مؤقتًا بوقتٍ معين مُقدَّر يعلمُه النبيُّ (¬5) أو الوصيُّ من بعده، فينتهي وقتُهُ من غير نسخٍ. ويُفسِّرون هذه الآية بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ. قلنا (¬6): أَمَّا قولُ موسى - عليه السلام -، معناه: مَنْ جاءكم مُكذبًا مُخَطِّئًا إيَّاي فلا تصدقوه، ولم يرد به مَنْ (...) (¬7) على المعلوم الأول، إذ هو لا يكون مخالفًا، ألا ترى أنك إذا تيقنت الخبرَ ثم جاءَ إنسانٌ وقال: إن ما ¬

_ (¬1) في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ} وجهان إعرابيان: الأول: أن "ما" مفعول مقدَّم لـ "ننسخ"، وهي شرطية جازمة له، والتقدير: أيَّ شيء ننسخ، مثل قوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا}. الثاني: أنها شرطية أيضًا جازمة لـ "ننسخ" ولكنها واقعة موقع المصدر، و"من آية" هو المفعول به، والتقدير: أيَّ نَسْخٍ ننسخ آيةً، قاله أبو البقاء وغيره، ومجيء "ما" مصدرًا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلٌ ... ما شِئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ [البحر (1/ 343) - الدر المصون (2/ 55)]. (¬2) سورة التوبة: 110. (¬3) سورة الشورى: 13. (¬4) سورة ق: 29. (¬5) في "أ" (الله) وهو خطأ. (¬6) في "أ": (قلت). (¬7) كلمة غير واضحة.

علمتَ لم يكُنْ، فإنك تكذبُهُ لا محالة، ولو أخبرك بزواله بعد كونه لم تكذِّبه، ولكنه طالبته بالبيِّنة والبرهان. والمراد بالآية ما بقي من شرائعهم غير منسوخ. والآية الأُخرى على ما قال الله تعالى لكنه في تبديلٍ على وجه البدل دون النسخ، بدلالة قوله: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (¬1)، [وقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (¬2)] (¬3). [وتأويلُ النسخ ها هنا بالانتساخ خطأ بدليل ما تلونا من قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}] (¬4)، وقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، ولو كان توقيتُ أمر القبلة يعلمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما كانَ لتقلُّب وجهه في السماء معنى. والدليل على جواز النسخ قولُهُ تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬5) ثم نسخ الخلقِ بالخلق لا يؤدي إلى البدل فكذلك نسخُ الأمرِ بالأمر (¬6). ولأنَّ النسخ يثبت بالعقل ألا ترى أن قطع العضو محظورٌ ثم إذا أصابته آفةٌ يرجو صاحبُهُ السلامة بالقطع، كان له أن يقطعهُ وإذا ثبت النسخُ بالعقل ثبت بالوحي إذ هما معنيان موجبان، ولأنه ثبت بالنقل العام الذي لا يمكن (¬7) دفعهُ تزويج آدم أولادَ صُلْبه بعضهم من بعض. وثبت بالعقل أيضًا لأن إثباتَ النسلِ الأول إذ أمكنَ برجل وامرأة لا بُدَّ من إثبات النسل في الدرجة الثانية إلا بتزويج ذوي الأرحام، وقد ثبت المحسوسُ على ذلك إلى اليوم. وثبت بالنقل العام أيضًا جَمْعُ يعقوب - عليه السلام - بين أُختين: لايان ¬

_ (¬1) سورة النحل: 101. (¬2) سورة الرعد: 39. (¬3) ما بين [...] من "ي" وليس في بقية النسخ. (¬4) ما بين [...] ليس في "ن". (¬5) سورة الأعراف: 54. (¬6) (بالأمر) ليست في "ن". (¬7) في "أ" "ن": (يكون).

وراحيل ابنتا خاله، ثم حرم ذلك التوراة، وأَحْدَثَ حكم القُربان لابني آدم وحكم الختان لإبراهيم، والسبتَ وتحريم طبخ الجدي بلبنٍ، وصومَ مدةٍ معينةٍ، والإفطارَ في يومٍ معلومٍ لموسى - عليه السلام - ولم يتقدمهما إيجابٌ من أحدٍ، ولا لزم في عقلٍ فثبتَ جوَازُ النسخ. والفرقُ بين النسخ والبَدَاء أنَّ النسخَ إزالةُ ما سبق العلم كونه [صلاحًا في وقتٍ دون وقت بما سبق العلم في كونه] (¬1) غير صلاح في الوقت الأول صلاحًا في الوقت الثاني. والبَدَاء: هو الاستدراك عند اتضاح الملتبس، تعالى اللهُ عن ذلك علوًا كبيرًا. فإن قيل: قولُكم في بيان النسخ يؤدي إلى الشك في الأوامر المطلقة، هل بقي كونها صلاحًا أم لا؟ قلنا: لا يؤدي إلى ذلك لأنَّا علمنا أن صلاحها إما يرتفع بأمر حادثٍ، وإما بتعذُّر الإتيان بها، ثم إن وجد التعذُّر وقع اليقين بارتفاع الصلاح حالة التعذر. فإن قيل: قولُكُم هذا يؤدي إلى أنَّ الصحابةَ لم تعتقد (¬2) في الأوامر المطلقة وجوبًا على التأبيد. قُلنا: الواجِبُ على السامعين اعتقادُ الوجوب على شريطة بقاء الحكم دون اعتقاد الوجوب على التأبيد لأنهم لا يدرونَ لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلكَ أمرًا. وإذا ثبت جوازُ النسخ على طريق الإجمال فلنا أن نقتصر على ذكر مذهبنا فيه. اعلم أنَّ ما لا يجوز نسخُهُ ستَّةُ أنواعٍ؛ أحدها: نَسْخُ ما يستحيل نسخُه بغير جحد أو اعتراف بالكذب كنسخ قصةِ عاد وثمود وغيرهم، وكالإخبار عن نفسه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬3)، وعن قول الشيطان: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في "أ". (¬2) في "أ": (يعتقدوا). (¬3) سورة النساء: 140.

الْحَقِّ (¬1)} (¬2) وعن قول الضعفاء والمستكبرين في النار وقول الملائكة لهم. والثاني: نسخُ ما لا يُجيزُ العقلُ نسخه، كنسخ الإحسان والإذعان والإيمان. والثالث: نسخٌ يؤدي إلى اللوم والغرور، كنسخ ما أوجبَ اللهُ تعالى من جزاء الإحسان. والرابع: نسخٌ يؤدي إلى الحنث (¬3)، كنسخ قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} (¬4) الآية، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} (¬5)، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬6) الآية، ولو لم يكن للقَسَم مزيةٌ على الوعد والوعيد لما ذكر القَسَم. والخامس: نسخُ حكمٍ لم يُفِدْ شيئًا كنسخ ما لم ينزله جبريلُ - عليه السلام - بعدُ، إذ هو يؤدي إلى البَدَاء. والسادس: نسخُ حكمٍ (¬7) لم يُبَيَّن لأنه محالٌ، إذ ترك تبيين النسخ إبقاء للحكم الأول، فلا يجتمعان. ما يجوز نسخُهُ ستةُ أنواع: الأول: الأثقل بالأخف، كنسخ تحريم الرَّفَث ليالي الصوم بالإباحة. والثاني: نسخُ المِثلِ بالمِثل، كنسخ التوجه إلى قبلة بإيجاب التوجه إلى قبلة. والثالث: نسخ ما هو أقلُّ ثوابًا [بما هو أكثرُ ثوابًا] (¬8)، كنسخ صوم يوم (¬9) عاشوراء بصوم شهر رمضان. والرابع: نسخ ما أفاد معنىً قبلَ نسخه، كنسخ خمسين صلاة ليلة ¬

_ (¬1) (وعد الحق) ليس في "ي". (¬2) سورة إبراهيم: 22. (¬3) في "أ": (الخبث). (¬4) سورة الأعراف: 18. (¬5) سورة الحجر: 92. (¬6) سورة مريم: 71. (¬7) (حكم) ليس في "ن". (¬8) ما بين [...] ليس في "ب". (¬9) (يوم) ليس في "ي" "ب".

المعراج بخمس صلوات. وفائدة الحكم الأول اعتقادُ نبينا - صلى الله عليه وسلم - وجوبها وإكرامُ الله [إياه بالتشفيع وإمضاء ثواب خمسين صلاة بخمس صلوات. وهذا النوع] (¬1) يأباه بعض المتكلِّمين من المعتزلة، وغيرهم. والخامس: نسخ ما يُحمد كنسخ ما أوجبَ الله تعالى أهلَ (¬2) الارتكاب من العذاب بالعفو، وإنما جاز لوقوعه محمودًا حسنًا، لأنه تعالى (¬3) شرط لنفسه المشيئة فيه. وهذا النوع يأباه فريقٌ من المعتزلة أيضًا، ويجعلونه من حيِّز الأخبار. والسادس (¬4): نسخ التلاوة مع بقاء المعنى، لأن التلاوة وحدها تنفرد بحكمٍ غير حكم المعنى، وهو ترك مَسِّهِ محدثًا، وإقامة التحريمة بها. فلم يقف نسخها على نسخ، وهذا النوع يأباه الزجاج فيما رُوي عنه (¬5). وقد زعم بعض الزيدية أنه لا ينسخ الحكمُ مع بقاء التلاوة، وهو غير صحيح، لما بينَّا أن نسخ أحدهما لا يقف على نسخ الآخر. وقد أجمع أهلُ الإِسلام أنَّ قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (¬6) منسوخ بآية السيف. وخَلْقُ النسيان جائز في الأنواع الاثني عشر كلها، وهو مثل نسخ وليس بنسخ. ولا يختلفُ عندنا الحكمُ بين نسخ القرآن بالقرآن (¬7)، ونسخ السُّنَّة بالسُّنة، ونسخ أحدهما بالآخر، لأن الكل من عند الله، والرسولُ أمينٌ ما ينطق عن الهوى. وزعم بعض المخالفين أنَّ نسخَ القرآن بالسُّنَّة لا ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في "أ". (¬2) في "أ": (أهله). (¬3) (لأنه تعالى) كتب في "ب": (لآن الله تعالى). (¬4) (والسادس) ليس في "أ". (¬5) معاني القرآن للزجاج (1/ 189). (¬6) سورة الكافرون: 6. (¬7) (بالقرآن) ليس في "أ".

يجوز (¬1)، ويتعيَّن في بعض الأحكام على ما نذكره إن شاء الله تعالى (¬2). {أَلَمْ تَعْلَمْ} بمعنى الإثبات (¬3)، كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬4). قال الشاعر (¬5): ألستم خيرَ من رَكِبَ المطايا ... وأَنْدى العالمينَ بُطونَ راحِ {أَنَّ اللَّهَ لَهُ} من حقِّ اسم (أنَّ) (¬6) أن يكون في محل الخبر (¬7) مجرورًا باللام (¬8)، كقولِه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (¬9) فلما وقع الابتداء باسمه (¬10) تعالى لكونه أهمَّ وجب ذكر (¬11) ضمير عائد إليه وهو الهاء في (له)، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬12). إن فُسِّر الولي بالذي يلي الأمرَ حلاًّ وعقدًا بغير ¬

_ (¬1) (لا يجوز) من "أ" فقط. (¬2) ليس من عادة المؤلف البسط في تحرير المسائل في تفسيره على هذا النحو، وهذا أول موطن يبسط القول فيه محررًا تحريرًا مفصلًا في مسألة النسخ وما يتفرع عنها من مسائل شتى، وقد تعرَّض كثير من المفسرين فبسطوا القول في هذه المسألة في تفاسيرهم مثل: [الطبري (2/ 388) - تفسير السمعاني (2/ 5) - القرطبي (2/ 61) - البحر (1/ 342) - تفسير البغوي (1/ 93) - المحرر (1/ 380) - الخازن (1/ 93) - ابن كثير (1/ 187) وغيرهم]. (¬3) لأن نفي النفي إثبات، ولذا يجاب عنه بـ "بلى" ولا يجاب عنه بـ "نعم" كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. (¬4) سورة الأعراف: 172. (¬5) مرَّ الكلام عليه وهو للشاعر جرير بن عطية الخطفي. (¬6) (أنَّ) ليس في "أ". (¬7) (الخير) ليس في "أ". (¬8) فيه توجيهان إعرابيان في خبر "أَنَّ": الأول: أن "ملك" مبتدأ مؤخر و"له" خبر مقدم والجملة في محل رفع خبر لـ "أَنَّ". والوجه الثاني: أن "ملك" مرفوع بالفاعلية، رفعه الجار قبله عند الأخفش. [الدر المصون (2/ 63)]. (¬9) سورة الأعراف: 128. (¬10) في "أ": (باسم الله). (¬11) (ذكر) ليس في "ن". (¬12) سورة لقمان: 34.

إذن من جهة مَنْ يلي أمره فالخطاب عام (¬1)، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى} (¬2) وإن فُسِّر بالودود نقيض العدو، فالخطاب موجهٌ إلى المؤمنين خاصةً، قال الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} (¬3). والنصير: الناصر على طريق المبالغة كالشهيد والقعيد. {أَمْ تُرِيدُونَ} اختلف في سبب نزولها، قيل: إنها نزلت حيثُ قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} (¬4) وهذا بعيد (¬5)؛ لأن ظاهر الخطاب ها هنا للمؤمنين دون الكافرين. وقيل: سألَ النبيَّ - عليه السلام - ممَّن حَدَث إسلامهم أن يتخذوا عيدًا عند شجرة أنْوَاط كما كانت الكفار تتخذ، فقال النبيُّ (¬6) - عليه السلام -: "إن ¬

_ (¬1) وهذا هو المتعين أن الولي: هو القَيِّمُ على الشيء ومنه ولي عهد المسلمين أي القيم بما عُهِدَ إليه من أمر المسلمين. انظر: [الطبري (2/ 408) - القرطبي (2/ 68) - السمعاني (2/ 12) - تفسير البغوي (1/ 95)]. (¬2) سورة الشورى: 9. (¬3) سورة آل عمران: 68. (¬4) سورة الإسراء: 90 - 93. (¬5) القول الأول في سبب نزول الآية وهو الذي استبعده المؤلف يدلُّ عليه ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 202) والطبري (2/ 409)، وقال الحافظ ابن حجر كما في "العجاب" ص 166: سنده جيد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رافع بن حُرَيْمِلَة ووهب بن زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ائتنا بكتاب تُنَزِّلُه علينا من السماء نَقْرَؤُهُ، وفجِّر لنا أنهارًا نتبعك ونصدِّقْك، فأنزل الله في ذلكً من قولهم: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ...} الآية. ومع أنه في هذه الآية لم يبيِّن الذي سأل موسى مِن قبل من هو؟ لكنه بيَّنه في آية أخرى كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ولذا فإن ما استبعدهُ المؤلف هو المتعين والراجح في سبب النزول - والله أعلم -. (¬6) (النبي) ليس في "ن".

يريدون مني إلا كما قالت بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام -: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬1) " وهذا أقربُ إلى الصواب (¬2) ويحتمل أنهم كانوا يقولون: راعنا، متابعة لليهُودِ ويظنون أنه أحسنُ الخطاب، ويستدلّون بكون اليهود أعرف بخطاب الأنبياء منهم لقراءتهم الكتاب، فَنهاهُمُ اللهُ تعالى عن ذلك وأعلمهم قبحَ موافقة اليهود وما يؤدون إليه من الكفر والضلال، إذْ هُمُ الذين (¬3) قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ} (¬4) و {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬5) و {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} (¬6) و {آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (¬7). (أَمْ) ها هنا (¬8) بمعنى بل (¬9)، كقولك: إنها لإبلٌ أم شاء، والدليلُ على أنه منقطع لم يسبقه في بابه استفهام فيكون بمعنى أو على جهة النسق. إلا أن بين (بل) وبين (أم) فرقًا، لأن ما يلي (بل) يقع مقطوعًا به (¬10)، وما يلي (أو) يقع موهومًا. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 138. (¬2) القول الثاني في سبب نزول الآية وهو الذي رجحه المؤلف، وقد حكاه ابن ظفر كما في البحر المحيط (1/ 346) والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه الترمذي في كتاب الفتن (4/ 475) والنسائي في السنن الكبرى (6/ 346) وأحمد في مسنده (5/ 218) وغيرهم من حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى خيبر مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلِّقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده لتركبنَّ سنن من كان قبلكم". (¬3) (الذين) ليس في "أ". (¬4) سورة النساء: 153. (¬5) سورة الأعراف: 138. (¬6) سورة المائدة: 24. (¬7) سورة الأحزاب: 69. (¬8) في "أ": (هنا). (¬9) قال أبو البقاء: "أم" هنا منقطعة، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها فهي بمعنى "بل" والهمزة، والمعنى: بل أتريدون، فيكون أضراب انتقال من قصة إلى قصة [الإملاء (1/ 57)]. (¬10) (به) ليس من "ب".

ويحتمل أن المراد بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ: ألم تعلموا، فيكون (أم) متصلًا مردودًا على ألف الاستفهام، و (مَنْ) بمعنى: الذي، وفيه معنى الشرط لأنه جَزَمَ الفعل واقتضى الجزاء نظيره: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1) و {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} (¬2). {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ} بعد الإيمان (¬3)، والتَّبدُّلُ: اتخاذ البدل، كما أَنَّ التزودَ اتخاذ الزاد. {سَوَاءَ السَّبِيلِ} قصدها والمراد بالسبيل: النهج. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قيل: سبب نزولها قولُ حُييّ بن أخطب وأبي ياسر ابن أخطب وكعب بن الأشرف لحذيفةَ بن اليمان (¬4) وعمارِ بن ياسر (¬5) بعد يوم أُحد شامتين: "أما رأيتم ما أصابكم فارجعا إلى دينكما الأول، قال أحدُهُما: إني عاهدتُ اللهَ أن لا أكفر بمحمد، وقال الآخر (¬6): اللهُ ربي والقرآن إمامي ومحمدٌ رسولي" (¬7). وقيل: هي عام ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 31. (¬2) سورة طه: 74. (¬3) (بعد الإيمان) من "أ" فقط. (¬4) حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي اليماني أبو عبد الله حليف الأنصار، من أعيان المهاجرين. شهد هو وأبوه أحدًا واستشهد أبوه في أحد، قتله بعض الصحابة غلطًا. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أسرَّ إلى حذيفة أسماء المنافقين حتى ناشده عمر بن الخطاب: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدًا بعدك. [أخرجه البخاري (13/ 41)؛ ومسلم (144)]. توفي في المدائن سنة ست وثلاثين. [تاريخ الإِسلام (2/ 152)؛ طبقات القراء (1/ 203)؛ الإصابة (2/ 223)؛ حلية الأولياء (1/ 270)]. (¬5) هو عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس المذحجي، الإِمام الكبير أبو اليقظان، أحد السابقين الأولين، والأعيان البدريين، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عمارًا ملىء إيمانًا إلى مشاشه"، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن عمارًا تقتله الفئة الباغية، فقتل - رضي الله عنه - مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. [الاستيعاب (3/ 1135)؛ الطبقات الكبرى (3/ 246)؛ الإصابة (4/ 575)؛ تهذيب الأسماء (2/ 352)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 406)]. (¬6) (الآخر) من "أ" فقط. (¬7) تعدد سبب نزول هذه الآية فذكر المؤلف سببًا وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري (2/ 419)؛ وابن أبي حاتم (1/ 204)؛ وابن كثير (1/ 153) وغيرهم. =

والكثير ضد القليل. {كُفَّارًا} نصب على القطع لأنه جاء بعد تمام الكلام، وعند البصريين نصبٌ على الحال (¬1). {حَسَدًا} مفعولٌ له فانتصب بنزع الخافض (¬2). والحسدُ: أن لا تؤهل ذا نعمةٍ لها. وإنما قال: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} لتأكيد وصفهم بالعدوان وأنه لا وجه لحسدهم عند غيرهم. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} من نعتِ نبيِّنا - عليه السلام - (¬3) فيما قبل ظهور معجزاته في الحال. ¬

_ = وهناك سبب آخر في نزول هذه الآية أخرجه أبو داود في سننه كتاب الخراج (3/ 154) وابن أبي حاتم (1/ 331)، والبيهقي في الدلائل (3/ 196)، والطبراني في الكبير (19/ 76) وغيرهم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان يهوديًا شاعرًا، فكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أشدَّ الأذى، فأمرهم الله بالصبر والعفو، وفيهم نزلت: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} إلى قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}. قال الحافظ ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب" ص 171: هذا سند صحيح. (¬1) إذا كانت "رَدَّ" في قوله تعالى: {يَرُدُّونَكُمْ} بمعنى صَيَّرَ فإنها تتعدى إلى مفعولين، وعلى هذا تكون "كفارًا" مفعولًا ثانيًا، و"رَدَّ" بمعنى صَيَّرَ معروف في كلام العرب، ومنه قول الكميت: رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ له سمودا فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بيضًا ... وَرَدَّ وجوههنَّ البيضَ سُودا والوجه الثاني في "كفارًا" أنها حال، وهو قول أبي البقاء وجماعة من البصريين، وضعَّف هذا القول السمين الحلبي في تفسيره بحجة أن الحال يستغنى عنها غالبًا وهذا لا بدَّ منه. [الإملاء (1/ 57) - أمالي القالي (3/ 115) - ابن عقيل (1/ 334)]. (¬2) وفي إعراب "حسدًا" وجهان آخران. أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وإنما لم يجمع لكونه مصدرًا، التقدير: حاسدين. وهذا القول فيه ضعف لأن مجيء المصدر حالًا لا يَطَّرِدُ. الوجه الثاني: أنه منصوب على المصدرية بفعل مقدَّر من لفظه، أي: يَحْسُدُونَكُمْ حَسَدًا. وأقرب الأقوال الثلاثة ما ذكره المؤلف أنه نصب على المفعول له. [الدر المصون (2/ 67)]. (¬3) في "ب": (محمَّد عليه السلام).

{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أحدهما قريبٌ من الآخر في الاستعمال إلا أن أصلَ الصفح مِن الإعراض. وهذا الحكمُ منسوخٌ بآية السَّيف. وقيل: منسوخ بحكم قتلِ بني قريظة وإجلاء بني النضير، وهو الأصح (¬1). {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} الألف واللام في {الصَّلَاةَ} و {الزَّكَاةَ} للجنس، وهما مجملان وتفسيرهما ما ثبت عن النبي - عليه السلام - (¬2): أن الصلاة على المكلف في اليوم والليلة خمسٌ، أولها: الظهر من حين تزول الشمس إلى دخول وقت العصر، ثم العصر إلى المغرب (¬3)، ثم المغرب إلى العشاء، ثم العشاء إلى طلوع الفجر، [ثم الفجر (¬4) إلى طلوع الشمس، ولا يتداخل وقتان ما عدا عرفةَ بعرفات وليلة الجمع] (¬5) بالجمع، لقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬6). ورُوِيَ عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن الله تعالى زادكم صلاةً ألا وهي صلاة الوتر، فصلّوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" (¬7). ورواه أبو يَعْفُور ¬

_ (¬1) ذكر النسخ كلٌّ من الطبري في تفسيره (2/ 503)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 132)، والمحرر (1/ 390)، والقرطبي (2/ 71)، وابن كثير (1/ 221) وغيرهم كلهم ذكروا أنها منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...} الآية [التوبة: 5] وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...} الآية [التوبة: 29]. لكن ذكر ابن الجوزي توجيهًا حسنًا لهذه الآية فقال: والذي يبدو أنه لا نسخ هنا لأن الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقًا وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر يحتاج إلى حكم آخر. اهـ. [زاد المسير (1/ 132)]. (¬2) رواه الترمذي (149)، وأبو داود (396) والحديث صحيح. (¬3) (إلى المغرب) ليس في "أ". (¬4) (ثم الفجر) ليس في "أ". (¬5) ما بين [...] ليس في "ب". (¬6) سورة النساء: 103. (¬7) الطبراني في الكبير (2/ 313)، والحاكم (3/ 593) وسنده حسن.

عمن حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص. واسمُ أبي يعفور (¬1): وَقْدَانُ الكوفيُّ العَبْديُّ، سمع ابن أبي أوفى (¬2) وأنسًا (¬3) وعرفجة (¬4). روى عنه: أبو حنيفة والثوري (¬5) وشعبة (¬6). ¬

_ (¬1) أبو يعفور العبدي اسمه وقدان، ويقال: واقد، والأول أشهر، الكوفي. روى عن جمع من الصحابة منهم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن أبي أوفى. قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني: أبو يعفور كوفي ثقة. [الكنى للدولابي (2/ 169)؛ تاريخ ابن معين (2/ 732)؛ تهذيب التهذيب (11/ 123)؛ الاستغناء لابن عبد البر (2/ 1011)]. (¬2) ابن أبي أوفى واسمه عبد الله بن علقمة: صحابي جليل من أصحاب الشجرة، لم يزل بالمدينة حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحول إلى الكوفة وتوفي بها سنة ست وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. [الإصابة (7/ 201)؛ طبقات ابن سعد (6/ 21)؛ الاستغناء لابن عبد البر (1/ 107)]. (¬3) أنس بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلميذه وآخر أصحابه موتًا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا جمًّا وبايع تحت الشجرة. صحب النبي عشر سنين وشهد بدرًا صبيًا ولم يقاتل لصغره، كَنَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا حمزة. مات لأنس في طاعون الجارف بالبصرة سبعون نفسًا من أولاده وأولاد أولاده، وذلك سنة تسع وستين. ولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين، وتوفي سنة ثلاث وتسعين. [التاريخ الكبير (2/ 27)؛ الاستيعاب (108)؛ أسد الغابة (1/ 151)؛ تاريخ الإِسلام (3/ 339)؛ الإصابة (1/ 71)]. (¬4) هو عرفجة بن شريح الأشجعي، صحابي اختلف في اسم أبيه فقيل: ابن شريح، وقيل: ابن شراحيل، أو شريك، أو شريح، ولا يعلم له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديثين، وقيل: أربعة. [الاستيعاب (3/ 1063)؛ الطبقات الكبرى (6/ 30)؛ الإصابة (4/ 485)؛ معجم الصحابة (2/ 281)؛ تهذيب التهذيب (7/ 160)]. (¬5) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري شيخ الإِسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه. ولد سنة سبع وتسعين من الهجرة، وكان والده من المحدِّثين الثقات فحرص على أن يكون ابنه مثله ففاقه. قال شعبة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، ساد الناس بالورع والعلم. قال المروذي: قال لي أحمد: أتدري من الإِمام؟ الإِمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي. توفي سنة ست وعشرين ومائة. [تذكرة الحفاظ (1/ 203)؛ تاريخ بغداد (9/ 151)؛ حلية الأولياء (6/ 356)؛ تاريخ الطبري (8/ 58)]. (¬6) هو أمير المؤمنين في الحديث الإِمام الحافظ شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، =

وأما الزكاة فهو: النصابُ المُقَدَّرُ في المال عند المكلَّف دون العفو مؤجلة بحول الحول. وأموال الزكاة: الذهبُ والفضةُ، وما في حكمهما من أموال التجارة، والأنعام وهي ثلاثة أجناسٍ: الإبلُ والبقرُ والغنم، وأما الخيل فهي في حكم البغال والحمير من وجه كراهة لحومها، وفي حكم الأنعام من وجه وجوب الزكاة فيها، لأنَّ الله تعالى ذكرهما في موضعين. ورويت الأخبار من الجانبين راعيناه احتياطًا، والحرثُ وهو: ما ينبت على الجنس في غير أرضِ الخراج، ولا نصابَ فيه. ويجوز أخذ الأموال في زكوات لورود الأخبار (¬1). والأمر المؤقت [يجبُ في أول الوقت موسَّعًا] (¬2) ويتضيق في آخره، ولآخره تأثيرٌ في أوله؛ لأن ورودَ الأمر يسبق التأجيل الإقبال فيجب في الحال كالأمر المطلق. ثم طريان التأجيل ينتج التأخيرَ ولا يرفع الوجوب كتأجيل الديون والمبيعات. غير أن العذرَ الواقعَ في الوقت كالعذر الواقع في أول الوقت كما في عقد الكتابة وإسقاط كل الصلاة عند الحيض وشطرها عند السفر. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} تقديم الشيء جعلُهُ قبلَ الآخر، والمراد به: إسلافُ الخيرِ والشرِّ قبلَ الموت والانتقال إلى حكم الآخرة. تَجِدُوهُ أي: تجدوا ثوابَه عِنْدَ الله (¬3). {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} الآية نزلت في أخبار مَنْ نزل فيه قوله: {قُلْ ¬

_ = أبو بسطام الأزدي، قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وكان سفيان يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن منجويه: كان من سادات أهل زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا وفضلًا. ولد سنة اثنتين وثمانين ومات سنة ستين ومائة. [تقريب التهذيب (266)؛ تهذيب الأسماء (1/ 233)؛ سير أعلام النبلاء (7/ 202)؛ طبقات الحفاظ (1/ 89)؛ الثقات (6/ 446)]. (¬1) (لورود الأخبار) ليس من "ب". (¬2) ما بين [...] ليس في "ن" وكلمة (يجب) ليست من "أ". (¬3) (عند الله) من "أ" فقط.

إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} (¬1). وهود (¬2): جمع هائد كما أن عُوذًا جمع عائذ، وهو: الناقة إذا وضعت وبعدها تضع أيامًا، وفي الحديث: "ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ" (¬3). وقيل: هود: اسم فعل معهود مبهم وهو تهودهم، فأدخلت التاء الضمير صاحب الفعل ثم أُسقطت ها هنا للتخفيف، فرجع إلى ما كان. ويحتمل أنه يهود وهودًا لما تشابها في اللفظ أُقيم هودُ مقامَ يهود للتخفيف مع عدم الإيهام، قال اللهُ تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (¬4)، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬5). {تِلْكَ} إشارة إلى كلمات القبيلتين، {أَمَانِيُّهُمْ}: الأماني جمع أُمنيَّة، وهي: [اسْمٌ من التمني وهو] (¬6) التَّشهي. {قُلْ هَاتُوا} هات: أداة للسؤال كما أَنَّ (هاك) أداة للإعطاء (¬7)، والأصل فيه فَعَلَ أي: آت، فقُلبت الهمزةُ هاءً، كما في هراق، ثم جُعل من حيِّز الحروف، يمنع من الصرف إلا على جهة الأمر. والبرهان: الحجةُ الواضحة، يقال: برهن الرجلُ إذا ذكرَ حجةَ قوله، وكان البرهان المطلوب منهم (¬8): تمني الموت. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} ردٌّ لزعمهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 94. (¬2) (وهود) ليس في "أ". (¬3) البخاري (2731). (¬4) سورة الفتح: 29. (¬5) سورة الصف: 6. (¬6) ما بين [...] ليس في "ن". (¬7) اختُلِفَ في "هات" على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه فعل وهذا هو الصحيح - والله أعلم - لاتصاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو: هاتوا، هاتي. القول الثاني: أنه اسم فعل بمعنى: أَحْضِرْ. القول الثالث - وبه قال الزمخشري -: أنه اسم صوت بمعنى ها التي بمعنى أحضر. [الكشاف (1/ 305) - الدر المصون (2/ 71)]. (¬8) في "ن": (منه).

أَوْ نَصَارَى} وإسلامُ الوجه للشيء: صرْفُ الإقبالِ إليه، وتسليمُ النفس وتفويض الأمر، ومنه يقال في عقد السَّلم (¬1): أسلمَ كذا وكذا إليه. وهذه صفة المسلمين دونَ اليهود والنَّصَارى. قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيل (¬2): وأسلمتُ وجهي لِمَنْ أسلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تحملُ عَذْبًا زُلالا إذا هِيَ سِيقَتْ إلى بلدةٍ ... أطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَليها سِجَالا {وَهُوَ مُحْسِنٌ} شرطَ ضمّ الإحسان إلى الإِسلام لئلا يأمن المسيءُ من جملة المسلمين {فَلَهُ أَجْرُهُ} يعني: إدخال الجنة. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} نزلت في جماعة وفدِ نجران ويهود المدينة تجادلوا وحاجَّ بعضهم بعضًا على قضيَّة (¬3) التوراة، فجحد كلُّ فريقٍ حجةَ خصمه (¬4) ومنعها على طريق الجدال مع تلاوتهم التوراة وإقرارهم بها جميعًا، كما جحد كفارُ قريش حيث قالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} (¬5) ولم يذهبوا في المحاجة مذهب المسلمين بأن يقولوا: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬6) فأنزل الله الآيةَ ذمًّا لهم. ¬

_ (¬1) عَقْد السَّلَم: من عقود البيع وهو: "عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا، بأن يقول رجلٌ لآخر: أسلمتُ إليك عشرة دراهم في رطل حنطة مثلًا" النووي، روضة الطالبين (3/ 242). (¬2) هو أحد الحنفاء في الجاهلية الذين بقوا على دين إبراهيم - عليه السلام -، والقصيدة بأكملها في سيرة ابن هشام (1/ 296). (¬3) في "أ": (قصة). (¬4) سبب نزول هذه الآية كما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه "العجاب في بيان الأسباب" ص 173 أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وانظر: [أسباب النزول للواحدي ص 36 - وتفسير الخازن (1/ 71) - والمحرر الوجيز (1/ 198) - وزاد المسير (1/ 133) - والبحر المحيط (1/ 352)]. (¬5) سورة القصص: 48، والآية في قراءتنا المشهورة: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}. (¬6) سورة آل عمران: 64.

و (لَيْسَ): أداة نفي تُشبه اللفظ الماضي. {عَلَى شَيْءٍ} طريق أو رأي متجه أو نحوهما {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} والحكم هو: القضاءُ المانع عن الخلاف إلجاءً أو غيرَ إلجاءٍ، وأراد ها هنا على الإلجاء وذلك بإنطاق الجلود وشهادة الرسل على الأمم وغير ذلك مما يشاء اللهُ تعالى. والاختلاف: نقيض الاتفاق {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ} قال ابن عباس (¬1): نزلت في الروم لغزوهم بيت المقدس، وإلى هذا ذهب مجاهد والفراء، ويدل عليه ما سبق ذكره (¬2)، ودخول النصارى خائفين في بيت المقدس إلى يومنا هذا. وعن الحسنِ وقتادةَ والسُّدي (¬3) أنها نزلت في بختنصر يدلُّ عليه أنه لما جرى ذكر اليهود والنصارى ومشركي العرب والوعد بالحكم في اختلافهم وذكَرَ المجوس أيضًا وإشراكهُمْ (¬4) في الذم من وجهٍ آخر. وعن ابن زيد أنها نزلت في قريش وغيرهم من مشركي العرب، وهذا هو الأقرب لأنهم كانوا يَصُدُّون عن المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وفيهم نزل قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬5). {وَمَنْ أَظْلَمُ} ورد ورود ¬

_ (¬1) هو مروي عن ابن عباس عن طريق الكلبي، ذكره الواحدي في أسباب النزول (33 - 34)، وأما عن مجاهد فلم أجده. (¬2) قال الواحدي في أسباب النزول ص 36 وتبعه الثعلبي وابن حجر في العجاب ص 175 أن هذه الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} الآية، نزلت في صطوس بن استسيانوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، فكان خرابًا إلى أن بناه المسلمون في زمن عمر بن الخطاب. وأحال الواحدي هذا المعنى إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -. وانظر: [تفسير الخازن (1/ 72) - والبحر المحيط (1/ 356) - وابن كثير (1/ 156) - وزاد المسير (1/ 134)]. (¬3) أما عن الحسن فلم أجده، وأما عن قتادة فعند الطبري (2/ 520)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 56)، وابن أبي حاتم (1/ 341)، وأما عن السدي عند الطبري (2/ 521)، وابن أبي حاتم (1/ 342)، والبغوي (1/ 107). (¬4) في "ن": (إشراكهم). (¬5) سورة التوبة: 28.

الاستفهام ومعناه الإنكار. و {مَسَاجِدَ اللَّهِ} جمعٌ وهو واحد لأن العرب تجمع الشيء بنواحيه فتقول: ثوب أسبال، ويحتمل أنه جمع مَسْجَد - بفتح الجيم - وذلك موضع السجود. ويحتمل أنَّ المراد به: المسجد الحرام [ومسجد الخَيْف والمشعر الحرام] (¬1) لأن الصدَّ كان عن جميعها (¬2)، و (عن) مضمر عن أن يذكر كما يقال: نهيته أن يفعل [أي: عن أن يفعَلَ] (¬3) كذا. {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} والسَّعيُ في الشيء بالصلاح والفساد هو: الشروع، إنما وَحَّد الفعل بـ (مَنْ) قال {أُولَئِكَ} لما سبق القولُ في مثله. {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} نفى دخولهم فيها إلا على الصفة المستثناةِ بعد صدِّهم عنها، وإنما كان ذلك عامَ حجة الوداع بعدَ الحج الأكبر، أو عام فَتَحَ اللهُ تعالى بيتَ المقدس على يدي عمر. فمَنْ دخلَ من الكفار منافقًا أو أسيرًا أو بعهد الله (¬4) أو بذمة هذين المسجدين أو غيرهما من المساجد، وهو مستثنى (¬5) لأنه مقهورٌ خفيٌّ خائفٌ، وإن كان خوفٌ دون خوف. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} قتلُهُم في (¬6) يوم بدر، وقهرُهُم يوم الفتح، وصدُّهُم عامَ حجةِ الوداع، ومضيُّ الجهاد إلى آخرِ الدهر، أو (¬7) فتحُ الشام، وهلاك قيصر، وفتح الروم كلها في آخر الزمان، أو فتح ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في "أ". (¬2) قيل إن الآية نزلت في المشركين الذين منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخول مكة عام الحديبية. ذكر هذا القول الطبري في تفسيره (2/ 521)، والزجاج في معاني القرآن (1/ 174)، والسمعاني في تفسيره (2/ 22) وغيرهم، ورجح الطبري القول الآخر وهو قول ابن عباس وجماعة أن المراد بالآية النصارى الذين عاونوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس وسياق الآية يدلُّ عليه، وقال ابن عطية أن الآية تتناول كل من منع مسجدًا إلى يوم القيامة، فهو عامٌّ في جميع المساجد، وهو الذي رجحه ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 33)]. (¬3) ما بين [...] ليس في "ن". (¬4) (الله) من "ن" فقط. (¬5) في "أ": (مشتهى). (¬6) (في) من "ن". (¬7) في "أ": (وهو).

العراق، وما يليها من بلاد المجوس وهلاك كسرى، والعذاب العظيم في الآخرة ما أعدَّ اللهُ للكافرين من النار والخسار. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} نزلت في الصلاة على الراحلة تطوعًا، هكذا رُوِيَ عن ابن عمر (¬1) (¬2): صلاة النبي - عليه السلام - على الراحلة (¬3) تطوعًا في الصحارى حيثما توجهت به راحلته تطوعًا، وسعد بن أبي وقاص (¬4)، ¬

_ (¬1) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي المكي ثم المدني. أسلم وهو صغير ثم هاجر مع أبيه، واستصغر يوم أحد. وأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة. وأخته أم المؤمنين حفصة. روى علمًا كثيرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن جمع كثير من الصحابة. توفي سنة 73 هجرية وله من العمر 87 سنة. [حلية الأولياء (1/ 292)؛ طبقات ابن سعد (2/ 373)؛ تاريخ بغداد (1/ 171)؛ تاريخ ابن عساكر (11/ 165)؛ السير (3/ 203)]. (¬2) في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال: القول الأول: ما ذكره المؤلف فيما روي عن ابن عمر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي على راحلته أينما توجهت به، فنزلت الآية في إباحة النافلة على الراحلة". أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب الوتر في السفر (1/ 127)، ومسلم في صحيحه - صلاة المسافرين (1/ 486)، والترمذي (5/ 205)، والإمام أحمد (6/ 4714) تحقيق أحمد شاكر. القول الثاني: أنها نزلت في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة عَيَّرَ اليهود المسلمين وقالوا ليست لهم قبلة معلومة، فنزلت الآية ردًّا لقولهم. القول الثالث: روي عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا في سفر فاشتبهت علينا القبلة فصلَّى كلُّ واحد منا إلى جهة وخطَّ بين يديه خطًا، فلما أصبحنا فإذا الخطوط إلى غير القبلة، فسألنا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمرنا بالإعادة، ونزلت الآية. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى - باب الاختلاف في القبلة من كتاب الصلاة، قال - أي البيهقي -: ولم نعلم لهذا الحديث إسنادًا صحيحًا قويًا. ونقل الزيلعي عن العقيلي أنه قال: هذا حديث لا يروى من وجه يثبت [نصب الراية (1/ 304)]. القول الرابع: أنها نزلت في ابتداء الإِسلام حين لم تكن القبلة معلومة وجازت الصلاة إلى أي جهة شاؤوا، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القبلة، وهذا قول غريب كما قال السمعاني في تفسيره. وأقرب الأقوال هو القول الأول والثاني لدلالة النص عليه في سبب النزول - والله أعلم- وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري بأنها آية جاءت مجيء العموم (2/ 456). (¬3) (على الراحلة) ليست في "أ". (¬4) هو سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أسلم قديمًا، =

وعامر بن ربيعة (¬1) وأبي موسى الأشعري (¬2) وجابر (¬3) وأنس. وأفادت الآية حكم جواز البناء بعد الانصراف للحرب وجواز التوجه إلى غير القبلة في صلاة الخوف على الراحلة. والشرق: الطلوع، والإشراق: الإضاءة. ¬

_ = وهاجر قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة مشهورًا بذلك، وكان أحد الفرسان من قريش الذين كانوا يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي تولَّى قتال فارس وفتح الله على يديه القادسية، وكان أميرًا على الكوفة لعمر. ومناقبه كثيرة جدًا، توفي بالعقيق سنة خمس وخمسين على المشهور، وهو آخر العشرة وفاة، وحديثه عند الستة. [تقريب التهذيب (232)؛ تهذيب التهذيب (3/ 419)؛ صفوة الصفوة (1/ 356)؛ الإصابة (3/ 73)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 92)]. (¬1) هو عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي حليف آل الخطاب، صحابي مشهور، من السابقين الأولين، أسلم قبل عمر وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا. مات سنة خمس وثلاثين قبل قتل عثمان بأيام. [الاستيعاب (2/ 790)؛ رجال مسلم (2/ 82)؛ تهذيب التهذيب (5/ 55)؛ سير أعلام النبلاء (2/ 333)؛ الإصابة (3/ 579)]. (¬2) عبد الله بن قيس بن سليم أبو موسى الأشعري التميمي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي قال فيه: "اللهمَّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلًا كريمًا" [أخرجه البخاري (8/ 35)؛ ومسلم (2498)]. ولي إمرة الكوفة ثم البصرة. توفي في الكوفة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يقدم عليكم غدًا قوم هم أرق قلوبًا للإسلام منكم" فقدم الأشعريون، فلما دنوا جعلوا يرتجزون: غدًا نلقى الأحبَّة ... مُحَمَّدًا وحِزْبَه فلما قدموا تصافحوا فكانوا أول من أحدثَ المصافحة. [أخرجه أحمد (3/ 155)؛ وسنده صحيح]. "التاريخ لابن معين (326)؛ الاستيعاب (3/ 979)؛ تاريخ ابن عساكر (422)؛ الإصابة (6/ 194)؛ السير (2/ 380)]. (¬3) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الإِمام الكبير المجتهد الحافظ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي من أصحاب بيعة الرضوان. قال جابر - رضي الله عنه -: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة غزوة. روى عن النبي عليه الصلاة والسلام ألفًا وخمسمائة وأربعين حديثًا. توفي سنة ثمان وسبعين من الهجرة. [التاريخ الكبير (2/ 207)؛ أسد الغابة (1/ 256)؛ تاريخ الإِسلام (3/ 143)؛ الإصابة (1/ 213)].

و {الْمَشْرِقُ} مكان شروق الشمس والقمر وسائر الطوالع من السماء على الدنيا من نواحي سُهَيْل إلى بنات نعش، {وَالْمَغْرِبُ} نقيضه من نواحي سهيل إلى بنات نعش، فالصَّبا والجنُوب بالمشرق، والشمال والدبور بالمغرب. وأين: استفهام عن المكان، فإذا اتصلت (ما) صارت للشرط وعَمَّت الأماكن عموم أي (¬1)، قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (¬2)، {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} (¬3). {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ثَمَّ: اسمُ ظرفٍ مشار إليه (¬4). و {وَجْهُ اللَّهِ} ليس كأوجهِ خلقه (¬5) وهو خالقُ الوجوهِ متعالٍ عن ¬

_ (¬1) "أين" اسم شرط بمعنى "إنْ" و"ما" مزيدة عليها و"تولوا" مجزوم بها. وزيادة "ما" ليست لازمة لها بدليل قول الشاعر [وينسب لأبي همام السلولي]: أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنَا ... نصرفُ العيسَ نحوها للتلاقي وهي أيضًا ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون أيضًا اسم استفهام أيضًا فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام. [ابن يعيش (4/ 105) - البحر المحيط (1/ 355) - الدر المصون (2/ 81)]. (¬2) سورة النساء: 78. (¬3) سورة البقرة: 148. (¬4) "ثَمَّ" اسم إشارة للمكان البعيد خاصةً، وهو مبني على الفتح لتضمنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء العكبري: لأنك تقول في الحاضر: هنا، وفي الغائب هناك وثَمَّ ناب عن هناك. اهـ، وقيل: بُنِيَ لشبهِهِ بالحرف في الافتقار، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ولا يتصرف بأكثر من جَرِّهِ بـ "مِنْ". [الإملاء (1/ 59)]. (¬5) المراد بـ "وجه الله" في هذه الآية خاصة وكما يحدده سياق الآية والحديث عن القبلة فيتعين - والله أعلم - المعنى الذي ذكره ابن عباس ترجمان القرآن ألا وهو قبلة الله وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عنه في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا، ورجاله ثقات وإسناده صحيح. وهذا لا يمنع أن يكون المراد بـ "وجه الله" الوجه الحقيقي، بل ذلك هو الأصل لأن الله تعالى قِبَلَ وجه المصلِّي حينما يتوجه في صلاته إلى القبلة كما أخرجه البخاري في صحيحه (33/ 406) ومسلم في صحيحه (13/ 1223) مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الذي رجحه شيخنا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- في تفسيره (2/ 14) وكما قال المؤلف في إثبات الوجه أنه لا كأوجه خلقه، بل وجه يليق بجلاله وعظمته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

الحلولِ في الجهاتِ (¬1) والأقطار وهو أقرب من حبلِ الوريدِ سبحانه وتعالى، وقد أَوَّلَ مَنْ أَوَّلَ (¬2) من أصحابنا بأنه الإقبالُ بالرحمةِ والرضوانِ والقبولِ وهو ممكن أن يكونَ مرادًا. والواسع: الذي لا يضيقُ علمًا ورحمةً وقدرةً، قال زيد بن عمرو: إنَّ الإلهَ عزيزٌ واسعٌ حَكَمُ ... بكفِّهِ الخيرُ والبأساءُ والنِّعَمُ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} زعم (¬3) اليهود أَنَّ اللهَ اتَّخذ عزيرًا ولدًا وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (¬4)، وزعمت النصارى أنَّ اللهَ ولد عيسى، وزعم بنو مليح ومن تابعهم من مشركي العربِ أنَّ الملائِكَةَ بناتُ اللهِ. وزعم المجوسُ أنَ الشمسَ والقمر ولدانِ للهِ تعالىَ، وقالت طائفةٌ منهم: إنَّ اللهَ تعالى اتَّخذَ الظلمةَ صاحبةً فتولد العالم منهما، بأفواههم أجمعين التراب، فأنزل اللهُ هذه الآيةَ تنزيهًا لنفسِهِ وتصديقًا للمؤمنين وتكذيبًا للكفَّارِ. ونكتةُ الردِّ أحد حرفين إما اللام في (لَهُ) إن كان المراد بها التمليك، إذ المِلْكُ والتبني لا يجتمعان، وإما الإخبار عن بدو (¬5) الأشياء بقوله وفعله دون استحالة طبيعة من نفسه، وإذا عدمت الطبيعة عدمت الولادة وكذلك اتِّخاذ الولد. ¬

_ (¬1) قول المؤلف: متعال عن الحلول في الجهات، بمعنى أن الله لا يحلُّ في جهة فالجواب عن ذلك أن الكلام في الجهة ابتداءً من الألفاظ المبتدعة وليس ثمة نص من كتاب ولا سنة تثبت أو تنفي الجهة، ويقال لمن نفى الجهة عن الله - كالمؤلف -: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله منزَّه من أن يحلَّ في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم. ونفي الجهة هو مذهب المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، قال ابن رشد: وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، ثم ذكر بعض الآيات التي تشير إلى ذلك. [درء تعارض العقل والنقل (2/ 11) - معجم المناهي ص 135 - مختصر العلو للذهبي تحقيق العلامة الألباني -رحمه الله- ص 70 - الصواعق المرسلة (1/ 49)]. (¬2) (مَنْ أوّل) ليست في "أ". (¬3) هذا من "ي"، أما في بقية النسخ: (زعمت). (¬4) سورة المائدة: 18. (¬5) في "أ": (بدي).

{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ذكر ابن الأنباري، القنوت يفسَّر على أربعة أوجه: الصلاةُ وطولُ القيامِ وإقامةُ الطاعةِ والسكوت (¬1). وأصل القنوت في اللغة هو: القيام بالمرادِ على وجه الانقياد، وقنوتُ الكلِّ كسجودِ الكلِّ طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوِّ والآصال. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَعِيلٌ المفعل كالسَّميع والأليم، قال (¬2): أَمِنْ ريحانَةِ الدَّاعِي السميع ... يؤرقُني وأَصْحابي هُجُوع [والإبداع: الإحداث (¬3)، والشيءُ المحدث ما حدث بعلة من جهة القادر لا على قضية الطبيعة وهو الطبع، طبع الأشياء كيف شاء حكيمًا مُبْرِمًا {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} والقضاء: قطعُ الشيء وإتمامُهُ وإمضاؤُهُ] (¬4). قال (¬5): وعليهما مسرودتان قضاهُما ... داودُ أو صنع السوابغ تُبَّعُ ويكونُ القضاءُ بمعنى الإرادة، والأمر ها هنا القول وهو تسمية الشيء الكائن فيكون المسَمَّى بتكوين الفاعل شيئًا من لا شيء باسمه الذي وقعت التسمية به، فسبحانَ مَنْ له الخلقُ والأمر، ويحتمل أنَّ الأمرَ ها هنا هو: الشأن المحدث بالإرادة يعدُّ موهومًا فيقول له: كُنْ معقولًا فيكون أمره وفعله كذلك. ¬

_ (¬1) انظر: [تفسير المسمعاني (2/ 29) - غريب القرآن لابن قتيبة (1/ 62) - مجاز القرآن (1/ 51) - تفسير البغوي (1/ 100)]. (¬2) البيت لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أبو ثور، أسلم سنة تسع ثم ارتدَّ بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم وشهد الفتوح وقُتل يوم القادسية، وقيل: في وقعة نهاوند سنة (21 هـ) والشعر في ديوانه (136). (¬3) أي الإحداث لا على سبيل سابق. قال الزجاج في معاني القرآن (1/ 177): يعني أنشأهما على غير حذاءٍ ولا مثال سابق، وهذا هو معنى المبدع. انظر: [تفسير الطبري (2/ 450) - والتبيان للعكبري (1/ 109) - وتهذيب اللغة (2/ 241)]. (¬4) ما بين [...] ليست في "أ". (¬5) الشعر لأبي ذؤيب الهذلي شاعر جاهلي إسلامي، شرح أشعار الهذليين (1/ 39). ومثله قول الشماخ: قضيتَ أمورًا ثم غادرتَ بعدها ... بوائقَ في أكمامِها لم تُفَتَّقِ

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} نزلت في مشركي العربِ في أوجه الأقاويل (¬1) وأقربها لأنه ذكرهم بما سبق ذكرهم به عند مجادلة اليهود والنصارى. {لَوْلَا} ها هنا على التخصيص بمعنى: لوما وهلاَّ نظيره: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (¬2) {مِنْ قَبْلِهِمْ} عاد إذ قالوا لهود (¬3): {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} (¬4) وثمود إذ قالوا: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} (¬5) وفرعون إذ قال: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} (¬6). وبنو إسرائيل لقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (¬7)، والنصارى إذ قالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} (¬8). وإنما يطالبون بهذه الأشياء تمرّدًا وتعنتًا ولم يقصدوا به الاستدلال للطمأنينة والبيان، فذمَّهم الله جميعًا، وشبه بعضهم ببعض. وفي الآية دليل أن الكفر كله ملة واحدة. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أنفذناك، وقد يكون الإرسال إطلاقًا في غير هذا (¬9) الموضع {بِالْحَقِّ} ودين الحقِّ هو الإسلام، والباء مكان مع {بَشِيرًا} مخبرًا بالخبرِ السارِّ {وَنَذِيرًا} منبِّهًا محذِّرًا بخبر مكروه. وقال - عليه السلام -: "بشر أهل ¬

_ (¬1) والشاهد على ذلك - أنها نزلت في مشركي العرب - ما أخرجه الطبري عن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ رسولًا من عند الله كما تقول، فقل للهِ فليكلِّمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ...} الآية. وقال مجاهد: هم النصارى والذين من قبلهم هم اليهود. وفيه قول آخر لابن عباس أن المراد بـ {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} اليهود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} اليهود الأولون. انظر: [القرطبي (2/ 89) - زاد المسير (1/ 137)]. (¬2) سورة الأنعام: 43. (¬3) في "ن": (اليهود). (¬4) سورة الأعراف: 70. (¬5) سورة الأعراف: 77. (¬6) سورة الأعراف: 106. (¬7) سورة البقرة: 55. (¬8) سورة المائدة: 112. (¬9) في "ن": (هذه).

الطاعة بالجنة والرضوان وأنذر أهل المعصية بالنارِ والخسران" (¬1) {عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أصحاب جمع [صحاب وصحاب جمع] (¬2) صحب مثل: ركاب وركب ثم صحب جمع صاحب. ويحتمل أن الأصحاب جمع قلة و (الجحيم) النار العظيمة، قال الله تعالى: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}. وقيل: (الجحيم): التهاب النار. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} والرضا عن الشيء: صرف السخط عنه لوجود المرضي منه (¬3)، والمرضي هو: المحمود. ولم يكن الإسلامُ محمودًا عند اليهود والنصارى فلم يرضوا عن النبي عليه الصلاةُ والسلام. {حَتَّى تَتَّبِعَ} حتى تدخل في الكلام لثلاثةِ معانٍ: الغاية نحو "إلى"، والتعليل نحو "كي"، والعطف بمعنى المبالغة. فالغاية (¬4) تدخل على الأسماء والأفعال جميعًا، والتعليل مختصة بالأفعال، والعطف بالأسماء. وإذا وليها فعل مضارع فهو مرفوع أو منصوب، وفي ذلك وجهان: متى رأيت قبلها فعلًا يطول أو يكثر منفيًا أو مثبتًا وبعدها فعلٌ مضارع حكمه (¬5) حكم الفعل الأول في الماضي والاستقبال بتقدير أن قال الله تعالى: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬6)، وقال: {وَزُلْزِلُوا [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬7)] (¬8)، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}. وقال الشاعر (¬9): وتُنكر يومَ الروع ألوان خيلنا ... من الدمِ حتى تحسب الجون أشقرا ¬

_ (¬1) لم أجده فيما بين يدي من المصادر والمراجع الحديثية مع كثرتها. (¬2) ما بين [...] ليس من "أ". (¬3) (منه) ليس في "أ". (¬4) في "ب": (فالفائدة). (¬5) في "ب": (حكم). (¬6) سورة البقرة: 120. (¬7) سورة البقرة: 214. (¬8) ما بين [...] ليست في "ب". (¬9) هو النابغة الجعدي المتوفى سنة 120 هـ، والبيت في ديوانه (70).

لأن المراد تَزَايُد الأفعال وإطالته فيكون الفعلُ الثاني في حكم الفعل الأول. وإن كان الفعل المضارع منفيًا بـ "لا" وحَسُنت ليس مكان "لا" فرفعه حَسَنٌ قياسًا على النفي بـ "لا" بعد "أن لا"، في نحو قوله: {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} (¬1)، {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬2). ومتى رأيت قبلها فعلًا ليس فيه معنى الطول والكثرة، وبعدها فعلًا لم يكن حكمه حكم ما قبلها في الماضي والاستقبال، أو كان الفعلُ لفاعلِ الأول فارفعه، نحو قولك: جئت حتى أكونُ قريبًا منك، لأن الفعل (¬3) بعد حتى إما فعلُ حالٍ مضت أو حالٍ أنت فيها. وفعل الحال لا يقع إلا مرفوعًا. فإن كان الفعل لغير فاعل الأول فانصبهُ أو (¬4) ارفعه، وأكثر النحويين على النصب، وإذا وليها اسمٌ فهو معرب بإحدى الحركات الثلاث، وفي ذلك وجهان أيضًا: متى رأيت بعدها اسمًا لا يصلح أن يكونَ معطوفًا على ظاهر أو مقدَّر فاخفضهُ، كقوله: {حَتَّى حِينٍ} (¬5) أو {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬6). ومتى رأيت بعدها اسمًا يصلح أن يكونَ معطوفًا على ظاهر أو مقدر فأتبعه المعطوف في الإعراب، كقولك: أكلتُ السمكَةَ حتى رأسها، قال (¬7): فيا عجبًا حتى كليب تسبّني ... كأنَّ أباها نهشل أو مجاشعُ ¬

_ (¬1) سورة طه: 89. (¬2) سورة المائدة: 71. (¬3) في "أ": (القول)، وهو خطأ. (¬4) في "أ": (فيهما). (¬5) سورة يوسف: 35. (¬6) سورة القدر: 5. (¬7) الشعر للفرزدق في ديوانه (1/ 416).

{مِلَّتَهُمْ} والملة: معظم الدين والشريعة عن ابن الأعرابي (¬1) (¬2)، قال أبو العباس (¬3): يعني بالمعظم الجملة، وكأنها مستعارة من الملة التي هي الدية والأرش لأنها مسنونة مشروعة مثلها، قيل (¬4): اشتقاقها من الملة هي الرمل المحمى. [وقيل: من قولك تمليت] (¬5) الثوب، إذا لبستها ملاوة من الدهر. وفي الآية دليل أن الكفرَ ملَّة واحدة. {وَلَئِنِ} حرف شرط دخلت عليه اللام لنوع تأكيد، وأكثرها تدخل عند القسم (¬6). {بَعْدَ الَّذِي} أي: بعد العلم الذي جاءك ومن الأولى للتفسير. والثانية: لتأكيد النفي. ¬

_ (¬1) محمَّد بن زياد ابن الأعرابي الهاشمي مولاهم الأحول النسابة اللغوي أبو عبد الله. ولد سنة 150 هـ. قال تلميذه ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها أبو حنيفة. وقال ثعلب أيضًا: أملى على الناس ما يحمل على أجمال ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه. توفي في سامراء سنة 231 هجرية. [تاريخ بغداد (5/ 282)؛ معجم الأدباء (6/ 530)؛ إنباه الرواة (3/ 128)؛ البداية والنهاية (10/ 307)؛ الموسوعة الميسرة (3/ 2088)]. (¬2) المِلَّة في الأصل: الطريقة. يقال طريق مُمِلٌّ: أي: أَثَّرَ فيه المَشْيُ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيهًا بالطريقة. وقال الزجاج في معاني القرآن (1/ 181): ومعنى ملتهم في اللغة: سنَّتهم وطريقتهم، وانظر: [تفسير السمعاني (2/ 36) - تفسير البغوي (1/ 101)]. (¬3) أبو العباس ثعلب هو أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم البغدادي صاحب "الفصيح" والتصانيف. ولد سنة مائتين، قال الخطيب: ثقة حجة دين صالح مشهور بالحفظ. وكان لا يتفاصح في خطابه، وكان أعلم الكوفيين، صدمته دابة فوقع في حفرة ومات منها سنة إحدى وتسعين ومائتين. [مروج الذهب (2/ 496)؛ طبقات النحويين واللغويين (141)؛ تاريخ بغداد (5/ 204)؛ الأنساب (555)؛ معجم الأدباء (5/ 102)]. (¬4) (قيل) ليس من "ب" "أ". (¬5) ما بين [...] ليس في "أ". (¬6) تسمى هذه اللام موطئة للقسم، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط، وأكثر مجيئها مع "إنْ" وقد تأتي مع غيرها نحو: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] ونحو: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 18] وقد تحذف اللام ويعمل بمقتضاها فيجاب القسم نحو قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73]. [الدر المصون (2/ 93)].

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} نزلت (¬1) في مؤمني أهل الكتاب عن ابن زيد - هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬2) - وفي عامة المسلمين قتادة (يتلونه) فعلٌ بمعنى النعت منصوب على القطع أو الحال، وتقديره: تالين إياه، لا يجوزُ غير هذا على قول ابن زيد، ويكون خبرًا على قول قتادة. والمرادُ بالتلاوة: الاتباع عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء (¬3). والمرادُ بالحق: الحقيقة. {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بمحمد أو الكتاب. {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} النفع: هو التأثيرُ بالخير. ونقيضُه: الضرُّ. {وَإِذِ ابْتَلَى} الابتلاء: الاختبار. وابتلاءُ اللهِ (¬4) عبده لِيُحْدِثَ فعلهُ معلومًا لله تعالى حالة الحدوث (¬5)، إذ يستحيل أن يكون ما لم يكن معلومًا في نفسه، وإن كان العلم سابقًا (¬6) بمعنى المشيئة والتقدير و {إِبْرَاهِيمَ} - عليه السلام - ¬

_ (¬1) في أسباب النزول للواحدي ص 40، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/ 189) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة وكانوا أربعين رجلًا. (¬2) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، مدني، ضعَّفه العلماء. مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. روى عنه العراقيون وأهل المدينة. كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحقَّ الترك. [المجروحين لابن حبان (2/ 57)؛ ضعفاء العقيلي (2/ 331)؛ تقريب التهذيب (340)؛ الكاشف للذهبي (1/ 618)]. (¬3) أما عن ابن عباس فأخرجه الطبري في تفسيره (2/ 488) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 218). وأما عن ابن مسعود فأخرجه الطبري أيضًا (2/ 489) -وروي عنهما أيضًا قالا: أن يحلَّ حلاله ويحرم حرامه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه. أخرجه الطبري (2/ 489) - والحاكم في مستدركه (2/ 266). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأما مجاهد وقتادة وعطاء فهو عند الطبري في تفسيره (2/ 490). (¬4) (الله) ليست في "أ". (¬5) (الحدوث) ليست في "أ". (¬6) (سابقًا) ليست في "أ".

هو (¬1): خليل اللهِ بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن عم يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ. وشالخ (¬2) وتوبجهان أبوجم ابنان لأرفخشد، وأرفخشد (¬3) وإرم أبو عاد ابنان لسام بن نوح صلوات الله عليهما فيما يروى (¬4). وكأنه سمي إبراهيم لأنه فارق أباه في صباه متبحِّرًا (¬5) متفكِّرًا في أمر الربوبية، فسمي إبراهام وإبراهيم، ثم حقَّق الله عليه الاسم بأن قال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬6) وهاجر إلى ربه يهيم. {كَلِمَاتٍ} هي الأوامر من الأصول والفروع، مثل قوله: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} (¬7)، وقوله: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (¬8)، وقوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلى أن قال: {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬9). وقيل: كلمات هي الخصال اللواتي خمس منهن في الرأس وخمس (¬10) في الجسد (¬11)، وقيل: هي الخصال التي في أول سورة المؤمنين وما يشاكلها في سائر السور. ¬

_ (¬1) (هو) ليست في "أ". (¬2) (وشالخ) ليست في "أ". (¬3) (وأرفخشد) من "ب" "أ". (¬4) جاء في هامش النسخة "ي": (بلغ. أقول: وهذا النسب لا دليل عليه كما أنه معارض بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] فآزر هو أبو إبراهيم - عليه السلام - وليس تارح كما في الرواية) اهـ. (¬5) في "أ": (متحيرًا). (¬6) سورة الممتحنة: 4. (¬7) سورة البقرة: 131. (¬8) سورة هود: 76. (¬9) سورة الصافات: 104، 105. (¬10) في "أ": (وهي خمس). (¬11) جاء في هامش "ي": (فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، والتي في الجسد: تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء) اهـ.

{فَأَتَمَّهُنَّ} يحتمل أنه فعل الله تعالى فيكون بمعنى القضاء والإبرام، ويحتمل أنه فعل إبراهيم - عليه السلام - فيكون بمعنى الوفاء بها (¬1) {لِلنَّاسِ إِمَامًا} والإمام: الذي ينتهى إلى رأيه (¬2)، وقوله: {اقْتَدِهْ} وليس من شرط الإِمام الائتمام بالإمام في فعله المجرد ما لم ينضم إليه رأي أو قول، وذلك يؤدي إلى المضاهاة والمساواة. وعلى الإمام رعاية المؤتمِّين، قال اللهُ تعالى لإبراهيمَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (¬3) وقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬4) {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ذريةُ الرجلِ ما يتفرق وينتشر منه على وجه الأرض، وقيل: هي من: ذرأ اللهُ الخلق - بالهمزة - فيكون الذرية خليقة اللهِ منه. {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} النيل: هو الإدراك والإصابة. والعهد: الوصية والأمانة لقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ}. والظلم ها هنا (¬5) ظلم الاعتقاد لا ظلم السيرة (¬6)، لقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬7) (¬8). يدُّل عليه قوله في شأنِ أهل مكة وهم ذرية إبراهيم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (¬9) ¬

_ (¬1) الأقرب في "أتمهنَّ" أنه يعود على إبراهيم - عليه السلام - أي أتمَّ هذه الكلمات، وإتمامه إياهنَّ إكماله إياهن بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي قال الله فيه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}. [معاني القرآن للفراء (1/ 76) - غريب القرآن لابن قتيبة ص 63 - تفسير الطبري (3/ 7) - البغوي (1/ 104)]. (¬2) وقال الزجاج في معاني القرآن (1/ 184): الإِمام هو الذي يؤتمُّ به فيفعل أهله وأمَّته كما فعل، أي يقصدون لما يقصد. (¬3) سورة الحج: 27. (¬4) سورة البقرة: 125. (¬5) في "أ": (هنا). (¬6) في "أ": (اليسيرة). (¬7) سورة البقرة: 254. (¬8) ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. (¬9) سورة هود: 83.

وفيهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (¬1). وفيهم قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} (¬2). وأمَّا ظلمُ السيرة: إذا أكثر الإِمام الظلم (¬3) لم تزل ولايتُهُ، لأنَّ يونسَ ظلم نفسَهُ بعد ما بُعِثَ فلم يكن ذلك عزلًا. وقال لداود: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬4) وكان إمامًا، فلم يؤثر في إمامته، ولكن كلف على خلع نفسه إن سَهُلَ ذلك من غير فتنة. {وَإِذْ جَعَلْنَا} أراد به الحكم ها هنا دون التصيير (¬5). {الْبَيْتَ} المسكن سواءٌ كان خيمةً أو جدارًا أو سربًا في الأرض. وإنما سُمِّيَ البيتُ بيتًا لأنه يُباتُ فيه، والجمع: بُيُوت، وقِيلَ: أبيات. والمراد ها هنا: البيتُ العتيق أدامَ اللهُ حراسَتَهُ {مَثَابَةً} مفعلة من ثاب يثوبُ كالمفازة والمنارة، ويقال: إن فلانًا لمثابة إذا كان يأتيهِ الناسُ للرعايةِ ويرجعونَ مرةً بعدَ أخرى، وثانية بعد أولى. والهاء للمبالغة عند الأخفش كالنسابة والعلاَّمة. ولا معنى لها عند الزجاج والفرَّاء كالمقام والمقامة (¬6). و {أَمْنًا} والأمن نقيض الخوف. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 75. (¬2) سورة الأنفال: 34. (¬3) (الظلم) ليست في "ب" "أ". (¬4) سورة ص: 24. (¬5) في "أ": (التفسير) وهو خطأ. (¬6) الأصل في "مثابة" مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقل والقلب، وهو مصدر، وقيل: اسم مكان. والهاء فيه إما للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة لكثرة من يثوب إليه أي يرجع، وإما لتأنيث المصدر أو تأنيث البقعة، وقد تحذف الهاء، ومنه قول ورقة بن نوفل: مَثَابٌ لِأَفْنَاءِ القبائِلِ كلِّها ... تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوَامِلُ وهل هو من ثاب يثوب - إذا رجع - أو من الثواب الذي هو الجزاء قولان أظهرهما القول الأول، والله أعلم. [القرطبي (2/ 110) - معاني القرآن للزجاج (1/ 186) - الدر المصون (2/ 104) - معاني القرآن للفراء (1/ 76)].

والحرم كلُّه داخل في حكم البيت في هذا المعنى. {مِنْ مَقَامِ} زيادة أو لابتداء الغاية (¬1). قيل: مقام هو الحرم. وقيل: هو المسجد الحرام، والأصح أنه صخرة قام عليها إبراهيم - عليه السلام - حين بني البيت. وقيل: حين غسلت رأسه كنته الأخيرة وهي ابنة (¬2) مضاض {مُصَلًّى} موضع صلاة الإِمام (¬3)، وصلاة من يستطيع أن يركع ركعتي الطواف. {وَعَهِدْنَا} أوحينا. ¬

_ (¬1) في "مِنْ" أربعة أوجه، ذكر المؤلف وجهين: الأول: أنها زائدة، وهو قول الأخفش كما في معاني القرآن ص 98. والقول الثاني: أنها لابتداء الغاية. والقول الثالث: أنها تبعيضية، وهو اختيار السمين الحلبي في تفسيره الدر المصون (2/ 106). والقول الرابع: أنها بمعنى في. (¬2) اختلف المفسِّرون في المراد بـ "مقام إبراهيم" على أقوال: القول الأول: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة، وهذا القول هو الذي رجحه المؤلف ويشهد له ما أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير، رقم. 4483 عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: وافقتُ الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتَّخذتَ مقام إبراهيم مصلًّى، فأنزل الله هذه الآية. وله شاهد عند مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلمَ الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت. [صحيح مسلم - كتاب الحج رقم 1218]. القول الثاني: أن المراد بمقام إبراهيم هو الحج كله أي الحرم وعرفات، وهو مرويٌّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. [أخرجه عبد الرزاق (1/ 59) والطبري في تفسيره (2/ 525)]. القول الثالث: أن المراد بمقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار، وهو مرويٌّ عن عطاء بن أبي رباح بإسناد صحيح. [أخرجه البغوي في تفسيره (1/ 113)]. فائدة تتعلق بمقام إبراهيم: روى البيهقي بسند صحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن المقام كان زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر - رضي الله عنه - ملتصقًا بالبيت، ثمَّ أخَّرَهُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وذكره ابن كثير وقال: هذا إسناد صحيح. وصحَّ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: رأيتُ المقام فيه أصابعه - عليه السلام - وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. (¬3) أي أن كلمة "مصلَّى" اسم مكان، وهو بمعنى قِبْلَة، وقيل: هو مصدر حذف منه المضاف، والتقدير: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو والأصل "مُصَلَّو" لأنها من ذوات الواو. [الدر المصون (2/ 106)].

{وَإِسْمَاعِيلَ} هو نبيُّ اللهِ ابن خليلِ اللهِ من أم (¬1) ولدِه هاجر القبطية. وقبط (¬2) من ولد حام، وإسماعيل - عليه السلام - أول من تكلَّمَ العربية المهذبة من جميع الناس. وقيل من: أولاد أرغو بن عابر (¬3). {أَنْ طَهِّرَا} (أن) لتفسير العهد (¬4). والطهارة ضد: النجاسة، والطاهر: النقي (¬5)، وقيل: المراد بتطهير (¬6) البيت تطهيره عن وضع الأصنام فيه. ويحتمل على العموم عن كل ما لا يجوز فيه. {بَيْتِيَ} أضاف إلى نفسه تشريفًا وتعظيمًا مثل: عبد الله وناقة الله. {لِلطَّائِفِينَ} الطواف قريب من الدوران، وهاهنا يحتمل ثلاثة معانٍ: الطواف المعهود المشروع والسياحة وهي غير العكوف، والتعهد ومنه سمي الخادم طائفًا، قال الله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} (¬7). والبعض قريب من بعض. والعكوف هو: الإقامة وفيه معنى اللزوم. {وَالرُّكَّعِ} جمع راكع مثل: خاشع وخشَّع و {السُّجُودِ} جمع ساجد مثل: شاهد وشهود. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} نزلت في دعوة إبراهيم لأهل مكة. ذكر الواقدي (¬8) ¬

_ (¬1) في "أ": (ابن). (¬2) في "أ": (قبطه). (¬3) في "أ": (عامر). (¬4) أي أنها تفسيرية لقوله "عهدنا" وهو متضمن معنى القول لأنه بمعنى أمرنا أو وصَّينا، فهي بمنزلة "أي" التفسيرية، وقيل "أَنْ" مصدرية والأصل: بأنْ طهرا، ثم حذفت الباء. (¬5) في "أ": (والظاهر النفي) وهو خطأ. (¬6) في "أ": (بتطهر). (¬7) سورة النور: 58. (¬8) محمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي، صاحب التصانيف المشهورة والتي من أشهرها: كتاب المغازي قال عنه الذهبي في السير (9/ 454): أحد أوعية العلم على ضعفه المتفق عليه. ولد 130 هـ وقال الإمام مسلم: متروك الحديث، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال إسحاق بن راهويه: كان ممن يضع الحديث. وليس للواقدي حديث في الكتب الستة إلا حديثًا واحدًا عند ابن ماجه في كتاب الصلاة - باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، ولفظه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته"، =

بإسناده عن عبد الله بن سلام قال: لما غرقت الأرض كان الأنبياء يحجون أثر البيت كلهم حتى كان إبراهيم - عليه السلام - فبوَّأَهُ الله تعالى إياه، دلَّ أنه لم يتعيَّن مكان البيتِ إلا له. وروى الواقدي عن أبي جهم بن حذيفة (¬1) قال: أقبلَ إبراهيم - عليه السلام - من الشام على البراق حاملًا إسماعيلَ أمامه وهاجر خلفه معه جبريل - عليه السلام - يدلُّه، وإسماعيل إذ ذاك ابن سنين. وعن مجاهد ما يقرب هذا (¬2). ثم إن إبراهيم - عليه السلام - انصرفَ إلى الشام فقالت هاجر: إلى من تدعنا؟ فقال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله. فلما غابَ إبراهيم - عليه السلام - وفني ماء القربة جزعت هاجر عطشًا وخوفًا على ابنِها، فظهر لها ملك، قيل هو: جبريل - عليه السلام -، فضرب بعقبه مكان بئر زمزم فظهر الماء فوق الأرض فتسارعت إليه، وبلَّت طرف ردائها وسقَت إسماعيل - عليه السلام - فصبَّت الماء في فيه، ثم انصرفَتْ إلى الماءِ فجعلت تجمع التراب لئلا يفيضَ الماء إشفاقًا لها عليه. قال ابن عباس: لولا تركته يفيض لكان يفيض إلى يوم القيامة (¬3). ومكثت هاجر مع إسماعيل خمسة أيام يشربان من ذلك الماء، فلما كان ¬

_ = مع أن هذا الحديث صحيح من غير طريق الواقدي. توفي الواقدي -رحمه الله- سنة 207 هـ. والأثر الذي ذكره المؤلف عن الواقدي عن أبي جهم هو من الإسرائيليات التي لا تصدَّق ولا تكذَّب ولا يبنى عليها حكم شرعي. (¬1) أبو جهم بن حذيفة القرشي العدوي، واسمه عبيد، وهو المذكور في حديث النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: "اذهبوا بهذه الخميصة وائتوني بأَنبجانية أبي جهم". وكان ممن بنى البيت في الجاهلية ثم عُمِّر حتى بنى فيه مع ابن الزبير، وبين العمارتين أزيد من ثمانين سنة. وكان علامة بالنسب، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس إذ خطبها: "أمَّا أبو جهم فإنه ضَرَّابٌ للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له". [تاريخ خليفة (227)؛ الاستيعاب (4/ 1623)؛ أسد الغابة (6/ 257)؛ تاريخ الإسلام (2/ 330)؛ الإصابة (11/ 66)]. (¬2) (هذا) ليست في "أ". (¬3) تفاصيل قصة أم إسماعيل وزمزم أخرجها البخاري في صحيحه - كتاب الأنبياء (9/ 3361 - 6/ 395 - الفتح) وهي مفصلة ومطولة، وأخرجها غيره من أصحاب الصحاح والسنن والمعاجم وهي قصة مشهورة.

اليوم السادس أقبل غلامان من العماليق النازلين حول مكةَ فأشرفا على الوافى ي فرأيا الماءَ فتعجَّبا وانطلقا إلى قومِهِما بخبرِ الماء، فسار منهم جماعةٌ حتى نزلوا الوادي، وقالوا لهاجر: مَنْ (¬1) أنتِ أيتها المرأةُ؟ من هذا الصبي؟ قالت: هذا ابنُ إبراهيم خليلِ الله ونبيّه، وهو ابني، وهذا الماءُ سقيٌ من الله لنا، قالوا: صدقْتِ، فإن عهدنا بهذا الوادي قريبٌ وما فيه إذ ذاكَ ماءٌ، فهل تأذنينَ لنا أن ننزلَ بهذا الوادي على أن نواسِيكُما بأموالنا؟ فأذنت استئناسًا (¬2) بالناس، فأقاموا معها سنين حتى شبَّ إسماعيلُ فقسَّموا له من أموالهم قسمًا، وعظموه فيما بينهم وعرفوا له حقَّهُ. قيل: إن امرأته الأولى التي لم تُلِن الكلام لإبراهيم ولم تستنزله كانت منهم (¬3) فطلَّقَها إسماعيلُ - عليه السلام -، وقيل: إنهما كانتا جُرهَميَّتين، ثم أقبل مضاض بن عمرو بن عبد الله بن جُرهم بن قحطان من اليمن في قبيلة جرهم. وقيل: إن جُرهمًا ليس بابن قحطان وإنما هو ابن أخي قحطان. واسمُ أبيه: يَفْطُر بن عابر حتى انتهى إلى مكة فزاحم العماليق ونفاهم، وزوَّج ابنته من إسماعيل - عليه السلام -. {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} إشارة إلى المكان والوادي {بَلَدًا آمِنًا} أهلُهُ، كقوله: آمِنَةً مطمئنة. والمراد بالأمن ما (¬4) اقتضاه الحرم من الأحكام المخصوصة به (¬5). {مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي: شيئًا مِنَ الثمرات عند الأخفش وقال غيره: ¬

_ (¬1) (من) ليست في "أ". (¬2) (استئناسًا) ليست في "أ". (¬3) في "ب": (معهم). (¬4) في "أ": (من). (¬5) أي أن إبراهيم - عليه السلام - في حَرَّمَ مكة ليستَتِبَّ فيها الأمنُ، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم حرَّمَ مكة وإني أحرِّم ما بين لابتيها" يعني المدينة. [صحيح مسلم -كتاب الحج- باب قضل المدينة، رقم 1361]. وتحريم مكة هو تحريم القتال فيها وأن لا يعضد شوكها وأن لا ينفَّر صيدها ولا تلتقط لقطتها ولا يختلى خلاها كما جاء في الحديث.

(فيها) قائم مقام الاسم في كلام العرب كما هو ها هنا. وكذلك في قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} {مَنْ آمَنَ} إبدالُ البعض من الكل (¬1)، مثاله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2). وإنما خصَّ المؤمنين بالدعاء لأنه لا يجوزُ تولِّي الكافرين، وقيل: توهّمًا منه أنَّ الله تعالى لا يُؤَجّلهم إن قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. فأخبر اللهُ بأنه يمهلهم ويمتِّعهم متاعَ الحياةِ الدُّنيا لتأكيد الحجةِ عليهم، ويحتمل أن الإخبار عن رزقهم إنما وقع لئلا يستدلَّ الكافرُ بالرزق أنه مصيبٌ مؤمن، وأن دعوةَ إبراهيم - عليه السلام - قد نالته. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فيعال من الضرورة وهو متعدٍّ (¬3) {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المعاد. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} روى الواقدي عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي، قال: لما بَلَغَ إسماعيلُ ثلاثين سنةً وإبراهيم يومئذٍ ابن مائةِ سنةٍ أوحى اللهُ تعالى إلى إبراهيم - عليه السلام - يأمره ببناءِ البيت وأنزل السكينةَ فاتبعها إبراهيمُ وهي ريحٌ لها وجهٌ وجناحان، ومع إبراهيم - عليه السلام - الملك والصُّرَد فانتهوا بإبراهيم - عليه السلام - إلى مكة منزل (¬4) إسماعيل - عليه السلام -، وفي رواية: كان إسماعيل - عليهم السلام - ابن عشرين سنة فأتاهُ أبوه وهو قاعد تحت دوحة يبري النبال، وموضع البيت يومئذٍ ربوة حمراء، فحفر إبراهيم وإسماعيل - عليه السلام - ليس معهما غيرهما يريدان أساس آدم - عليه السلام -، فحفرا عن ربض البيت. قال الواقدي: ربضة: حوله، فوجدا صخرة ما يطيقُها إلا ¬

_ (¬1) أي أن "من آمن" بدل بعض من كل وهو "أهله"، ولذلك عاد فيه ضمير على المبدل منه. (¬2) سورة الصافات: 164. (¬3) وقيل اضْطَرَّ: افتعلَ من الضُرِّ، وأصله: اضْتَرَّ فأُبْدِلَت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تبدل طاءً بعد حروف الإطباق، وهو متعدٍّ كما ذكر المؤلف، وعليه جاء التنزيل، ومنه قول الشاعر: اضْطَرَّكَ الحِرْزُ مِنْ سَلْمى إلى أَجَأ [البحر المحيط (1/ 373) - الكشاف (1/ 311)]. (¬4) في "أ": (منزلة).

ثلاثون رجلًا فبنيا وجعل القواعد من حراء وحلقت السكينة كأنها سحابة على موضع البيت، فقالت: ابن علي. فلذلك لا يطوفُ بالبيتِ أحد (¬1) أبدًا نافرًا ولا جبارًا إلا رأيتَ عليه السكينة. قال: وجعل طوله في السماء تسع أذرع وعرضه في الأرض ثلاثينَ ذراعًا وطوله في الأرض اثنين وعشرين ذراعًا، وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع في البيت (¬2) وجعل المقام لاصقًا بالبيت عن يمين الداخل، فلما أراد إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل علمًا لابتداء الطواف أمرَ إسماعيل يبغي له حجرًا، فأنزل الله جبريلَ بالحجرِ الأسودِ، فقالَ إبراهيمُ لإسماعيلَ - عليهم السلام - لما رجع إليه: أتاني به من لم يكلني إليك. وكان بناءُ الكعبة من خمس جبال: طور سيناء وطور زيتا وأحد ولبنان وحراء. ورفع البنيان: بناؤها {يَرْفَعُ} مستقبل بمعنى الماضي (¬3) (¬4) و {الْقَوَاعِدَ} جمع قاعدة. والقاعدة (¬5): ما وضع أصلًا يبتنى عليه. وإنما دخلت (من) لصرف القواعد عن (¬6) محلِّ الإضافة، كقوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (¬7) و {كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} (¬8). والقول ها هنا مضمر، تقديره: قائلين ربنا (¬9). ¬

_ (¬1) في "ب ": (أحدًا بالبيت). (¬2) في "أ": (في البيت). (¬3) في "أ ": (المراضي). (¬4) قال الزمخشري: هي حكايته حال ماضية. وفيها معنى المضي لأنها من الأدوات المخلِّصة المضارع للمضي. [الكشاف (1/ 311)]. (¬5) في "ب": (القواعد). (¬6) في "ب": (من). (¬7) سورة السجدة: 13. (¬8) سورة الأنفال: 68. (¬9) قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} في محل نصب بإضمار القول، وذلك القول في محل نصب على الحال منهما. التقدير: يرفعان يقولان ربنا تقبَّل منا، ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود بإظهار فعل القول: هذه الآية غير موجودة بالقرآن {يقولان ربنا تقبَّل منا} ويجوز أَلاَّ يكون هذا القول حالًا بل هو جملة معطوفة على ما قبلها، ويكون هو العامل في "إذ" قبله. والتقدير: يقولان ربنا تقبَّل إذ يرفعان، أي: وقت رفعهما. [البحر المحيط (1/ 388) - ابن عطية (1/ 421) - الدر المصون (2/ 114)].

و {تَقَبَّلْ} التوبة والهداية والعمل الصالح. قبولها في تقديرها وتحقيقها. ونقيضه: الرد في الإبطال والإنكار. و {السَّمِيعُ} ذو السماع. {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} المراد به الإسلام فيما يستقبل من العمر، مثل قول يوسف - عليه السلام -: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} (¬1)، ووجه هذا النوع من دعوات الأنبياء كوجه دعاء المؤمنين {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} (¬2)، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬3) {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} يعني ولد عدنان، وعدنان (¬4) من ولد أدد، وأدد قيل: من ولد نابت (¬5) بن إسماعيل، وقيل: من ولد قيدر بن إسماعيل (¬6). والأمة: الجماعة المجتمعة في زمان أو مكان أو على شيء من الأشياء (¬7). والمراد بالإراءة: الهداية والدلالة. {مَنَاسِكَنَا} إما هي جمع منسك -بالفتح- وهو مصدر أو جمع منسِك - بالكسر - وهو موضع النسك (¬8)، والنسك: عبادة الله. وقد خصَّ في الشرع بأفعال الحج وأقواله. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 101. (¬2) سورة آل عمران: 194. (¬3) سورة البقرة: 286. (¬4) (وعدنان) ليست من "أ". (¬5) في "أ": (ثابت). (¬6) ذكره السهيلي على اضطراب في نقل كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبر أولاد إسماعيل (1/ 351) وابن الأثير (1/ 88). (¬7) تطلق كلمة "أُمَّة" على أربعة معانٍ: المعنى الأول: بمعنى الطائفة والجماعة، ومنه هذه الآية. والمعنى الثاني: الحقبة من الزمن كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. والمعنى الثالث: بمعنى الإمام الذي يُقتدى به كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]. والمعنى الرابع: الطريق والملَّة، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. (¬8) وقد قُرِىءَ بهما - أي فتح السين وكسرها - ومثله آية الحج: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} بالفتح والكسر. أما الكسر فهي قراءة حمزة والكسائي، وأما الباقون فبالفتح. والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعه.

وإنما سأل التربة للزلل يجري على عقله، ولذلك كان النبي - عليه السلام - يستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة أو مائة مرة (¬1). {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} أراد به نبينا - عليه السلام -، لأن العرب من ذريتهما جميعًا، وبنو إسرائيل ذرية إبراهيم وحده، ولأنهما سألا رسولًا واحدًا، ولو عنيا بني إسرائيل لسألا رسلًا (¬2). وروي أن النبي - عليه السلام - قيل له: حدِّثنا عن نفسك يا رسول الله، فقال: "أنا دعوة إبراهيم وبشرى أخي عيسى - عليهم السلام -" (¬3). وإنما كان دعوة إبراهيم مع سبق الحكم به في أم (¬4) الكتاب كما كان يعقوب دعوة إسحاق حين قرب إليه الشواء، وهارون دعوة موسى - عليه السلام - حين قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} (¬5). وداود دعوة أشمويل حين أمد به طالوت مع سبق الحكم بهم. وإنما دعا إبراهيم مع العلم بانتقال النور في إسماعيل لئلا يكون نصيب العرب من محمَّد عليه الصلاة والسلام كنصيب أهل بابل فيه، فحرَّفوا أنواره مع علمه مخافة أن يصيبوا ذلك النور شيء يوضع في غير الظاهر لأن الوصية بذلك كانت قائمة من كلِّ سلف إلى خلف حتى عبد الله بن عبد المطلب. والبعث في اللغة: تهييج وإثارة، وهو مستعمل في الإحياء وإنفاذ الرسول وتأمير الأمير وتوجيه الحشر ونحوهما. ¬

_ (¬1) صحَّ استغفاره - عليه السلام - في اليوم سبعين مرة. [أخرجه أبو داود في سننه - الدعاء - (4/ 3359) - والبغوي في شرح السنة (6/ 180)] كما صحَّ عنه - عليه السلام - استغفاره في اليوم مائة مرة [أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 397) - والبيهقي (7/ 52) - والطبراني (1/ 279)]. (¬2) في "أ": (رسولًا). (¬3) أخرجه ابن عساكر في تاريخه (1/ 265)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 262) وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 275) وقال: هذا إسناد جيد قوي، وصححه العلاَّمة الألباني في السلسلة (4/ 59). (¬4) في "أ": (أول). (¬5) سورة طه: 29.

{آيَاتِكَ} يعني آيات القرآن [{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الفرقان] (¬1) {وَالْحِكْمَةَ} ما لا يحتاج في إدراكه إلى الوحي كالفقه وما في معناه من العلوم المستنبطة (¬2) من الشريعة (¬3). {وَيُزَكِّيهِمْ} أراد التسبب لزكاتهم وطهارتهم. {الْعَزِيزُ} مَنْ يَعزُّ نيله أو يعزُّ غيره، فالله تعالى لا ينال بعظيم تعظيم الاقتدار وهو الغالبُ على أمره القاهرُ فوق خلقِهِ. {وَمَنْ يَرْغَبُ} على وجه الإنكار، كقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬4)، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (¬5). والرغبةُ عن الشيء هو: الزهد فيه وإيثارُ النفس عليه، [والرغبةُ في الشيء: إرادتُهُ على وجه الطمع] (¬6). والرغبةُ إلى الشيء هو: الطمع فيه، فكأن الرغبة في الوجوه كلها هي صرف الهمَّة. وفي {سَفِهَ نَفْسَهُ} أربعةُ أقوال (¬7): ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في "س". (¬2) في "ن": (في). (¬3) ما ذكره المؤلف هو أحد التعاريف للحكمة، وهو قول الإمام مالك. وقال ابن دريد صاحب "الجمهرة": الحكمة كل كلمة زجرتك ووعظتك ونهتك عن قبيح ودعتك إلى حسن. وأقرب الأقوال في ذلك ما رجحه الطبري في تفسيره حيث قال: والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة بها وما دلَّ عليه ذلك من نظائره، وهو عندي مأخوذ من (الحُكم) الذي بمعنى الفصل بين الحقِّ والباطل. وقيل: الحكمة في هذه الآية هي السنَّة، وهو قول قتادة لأنها معطوفة على الكتاب الذي هو القرآن. وأجمع الأقوال ما ذهب إليه الطبري، والله أعلم. [الطبري (2/ 576) - ابن أبي حاتم (1/ 236) - تفسير السمعاني (2/ 60) - الجمهرة (2/ 186) - تفسير البغوي (1/ 111)]. (¬4) سورة آل عمران: 135. (¬5) سورة البقرة: 255. (¬6) ما بين [...] من "أ". (¬7) في قوله تعالى: {سَفِهَ نَفْسَهُ} سبعة أوجه إعرابية، ذكر المؤلِّف أربعة منها، ويمكننا أن نستعرضها على النحو التالي: الوجه الأول: أن تكون "نفسه" مفعولًا به لأن سفه يتعدى بنفسه كما حكاه ثعلب والمبرد. =

الأول (¬1): استخف نفس إبراهيم حين رغب عن ملَّته، وكأن قولهم: فلانُ سفه الشراب: إذا أكثرَ منهُ، وعلى مثل (¬2) هذا قوله - عليه السلام -: "من سَفِهَ الحقّ" (¬3). وهذا قولٌ لم يروَ عن الأئمة. والثاني: أنه جهل نفسه، ومنه قول: (عَلَيْهِ الحَقُّ سفيهًا أو وضيعًا) (¬4). ويحتمل قوله - عليه السلام -: "إلا من سفه الحقَّ"، وقولهم: فلانٌ سفه رأيه. وجهل النفس يؤدي إلى جهل منشِئِها، قال الله (¬5) تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} (¬6). وقال - عليه السلام -: "من عرف نفسَه فقد عرف ربَّه" (¬7). وإلى هذا ذهب الزجاج. ¬

_ = الوجه الثاني: أنه مفعول به ولكن على تضمين "سفِهَ" معنى فِعْل يتعدى، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى جهلَ، وقدره أبو عبيدة بمعنى أهلك. الوجه الثالث: أنه منصوب على إسقاط حرف الجر، تقديره: سَفِهَ في نفسه. الوجه الرابع: توكيد لمؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره: سَفِهَ قوله نفسَه، فحذف المؤكد، قياسًا على النعت والمنعوت، حكاه مكي. الوجه الخامس: أنه تمييز، وهو قول بعض الكوفيين. الوجه السادس: أنه مشبه بالمفعول به، وهو قول بعض الكوفيين. الوجه السابع: أنه توكيد لمن سفه، لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين، وهو قول الكرماني. وأقرب الأقوال السبعة هو القول الأول، والله أعلم. [معاني القرآن للزجاج (1/ 191) - مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 56) - الكشاف (1/ 312) - الدر المصون (2/ 121)]. (¬1) (الأول) من "أ". (¬2) (مثل) ليست من "ن" "أ". (¬3) أبو يعلى (9/ 195)، والطبراني (1318)، ومسند الشاميين (1071). والحديث صحيح من حديث ثابت بن قيس، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 134). (¬4) سورة البقرة: 282. (¬5) (الله) من "أ". (¬6) سورة الذاريات: 21. (¬7) هذا ليس بحديث، فقد حكم عليه شيخ الإسلام وقبله النووي والسخاوي وابن السمعاني وغيرهم بالوضع، وذكر النووي أن معناه صحيح وهو أن من عرف نفسه بالجهل فقد عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالفناء فقد عرف ربه بالبقاء، =

والثالث: سفه نفسه فانتصب بنزع الخافض، ويحتمل هذا قوله: "إلا من سفه الحق"، وقولهم: فلانٌ سفه رأيُه. والرابع: قولُ (¬1) الفراء أن الفعل للنفس فلما أسند إلى (مَنْ) انتصب النفس على التفسير كقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (¬2). وقولهم (¬3): ضقْتُ به ذرعًا من المعرفة كالنكرة، وكقوله: (بطرت معيشتها) (¬4)، وتقولُ العربُ: وجعت (¬5) بطنك وَوثقت رأيك، والدليلُ على أنَّ السفه فعلُ النفسِ غير واقع على النفس أنه لا يقال: رأيُه سفه زيدٌ، كما لا يقالُ: دارًا أنت أوسعُهُم، إنما يقال: زيدٌ سفه رأيُه، وأنت أوسعُهُم دارًا. وقول أبي عبيدة (¬6) وأبي عبيد (¬7) أن معنى قوله: سفه نفسه أهلكها وأوبقها لا معنى لَهُ إلا أن يحمل قولهم: سفه الشرابَ على معنى استهلك. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} اخترناه، وفلانٌ اصطفى فلانًا، أي: جعله صفيًا، وهو على وزن الافتعال، وإنما جُعلت التاء فيه طاء لموافقتها الصاد في الإطباق. وإنما اصطفاه في الدنيا بالرسالة والخُلَّة. و {الدُّنْيَا} هي ¬

_ = ومن عرف نفسه بالعجز والضعف فقد عرف ربه بالقدرة والقوة. [الأسرار المرفوعة لملا علي القاري ص 337 - المقاصد الحسنة للسخاوي ص 419 - الحاوي للسيوطي (2/ 412)]. (¬1) في "أ": (قال). (¬2) سورة النساء: 4. (¬3) المثبت من "ي" وفي البقية: (قولك). (¬4) سورة القصص: 58. (¬5) في "ب": (وحقًا جعت) وهذا خطأ. (¬6) أبو عبيدة في "مجاز القرآن" (1/ 56). (¬7) أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله. الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون الكثيرة، كان أبوه مملوكًا روميًا لرجل هروي، ولد أبو عبيد سنة سبع وخمسين ومائة، قال ابن سعد: كان أبو عبيد صاحب نحو وعربية وطلب للحديث والفقه. قال الذهبي: له كتاب "الأموال" لم يصنف مثله في الفقه، وله كتاب "غريب الحديث" ذكره بأسانيده، ومصنفاته كثيرة جدًا يطول ذكرها. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. [وفيات الأعيان (4/ 60)؛ الكامل لابن الأثير (6/ 509)؛ إنباه الرواه (3/ 12)؛ السير (10/ 490)].

الحياةُ الدنيا والدارُ الدنيا، اشتقاقه من الدنو. {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} المفلحين الذي يجبرُهُم اللهُ ويصلحهم للتنعُّم بالنعيم ويُسلِّمُهُمْ من الآفاتِ المؤثرة بالفساد، ومنه الدعاء: أَصْلَحَ اللهُ الأميرَ. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} قال الحسن: هذا خطابٌ ورد عليه حين أفلتِ الشمس في كونه خطاب السر أو خطاب العلانية محتمل كلاهما، وذلك لا يدلُّ على أنه كان من قبل على غير الفطرة، كما قال لنبيِّنا - عليه السلام -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) والمرادُ بهذا النوع من الأمر: الاستقامة والاستدامة. والعامل في (إذ) قوله {أَسْلَمْتُ} (¬2)، وتفسيره: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬3) الآية، وفي الآية دليل على أن الإيمان والإسلام واحد، وإلا لما صار مسلمًا بالقول إن كان الإسلام هو العمل. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} والوصية: العهد بها، راجعةٌ إلى المِلَّةِ وإلى كلمتِه {أَسْلَمْتُ}. وبنوه ثلاثة عشر رجلًا فيما يروى، منهم إسماعيل نبي اللهِ من [هاجر، وإسحاق نبي اللهِ من سارة] (¬4) وزمران ونيسان ومذان ويشبا وشوخ من قطورا وهي امرأة من الكنعانيين، وقد رُوي مكان نيسان: تينشان، ومكان مذان: مذيان. وسبعةُ نفر من امرأة اسمها جحورا (¬5). وإسماعيل ¬

_ (¬1) سورة محمَّد: 19. (¬2) في "إذْ" خمسة أوجه إعرابية، أصحّها - والله أعلم - أنه منصوب بـ "قال أسلمت". التقدير: قال أسلمت وقت قول الله له أسلم. الوجه الثاني: أنه بدل من قوله "في الدنيا". الوجه الثالث: أنه منصوب بـ "اصطفيناه". الوجه الرابع: أنه منصوب بـ "اذكر" مقدّرًا ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري. الوجه الخاص: وهو وما بعده في محل نصب على الحال، والعامل فيه "اصطفيناه". [الإملاء (1/ 64) - الكشاف (1/ 312) - الدر المصون (2/ 123)]. (¬3) سورة الأنعام: 78، 79. (¬4) ما بين [...] ليست من "أ". (¬5) هناك اختلاف في بعض الأسماء، فالذي في كتاب الرسل والملوك لابن جرير الطبري (1/ 345) أن أولاده - عليه السلام - هم: "بقسان وزمران ومديان ويسبق وشوح وبسر". =

منهم بكر أبيه ووصيُّه من بعده بولاية بيت الله الحرام وإقامة الحج للناس، وإسحاق وصيُّه في أهله. واختلِفَ في أن الذبيح أيُّهما، وسنذكرهُ في موضعه إن شاء الله تعالى. {وَيَعْقُوبُ} هو إسرائيل بن إسحاق - عليه السلام - عُطِفَ إبراهيم وتقديره: إبراهيم بنيه [ويعقوب بنيه] (¬1) وبنوهُ: هُمُ الأسباط وهم اثنا عشر رجلًا ولدت له بنت خاله أربعة نفر: روبيل (¬2) ويهوذا وشمعون ولاوي. وولدت له راحيل ابنة (¬3) خاله الأخرى: يوسف وبنيامين وأخوات لهما. ووهبت (¬4) كل واحدة منهما له أمة فولدت كل أمة ثلاثة رهط وأسماؤهم فيما يروى: يساخور وزبولون ونفتالي (¬5) ودان وجون وأشير. وهذه أسماء أعجمية كثر التصحيف فيها على ألسنة العرب، وعند الله الصواب. وقوله: {يَا بَنِيَّ} محكي كما يجيء بعد القول، لأن في الوصية معنى القول (¬6). والألف واللام في {الدِّينَ} للمعهود لا للجنس، والدين هو: ¬

_ = وفي تاريخ ابن الأثير (1/ 87) هم: "نقشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح". وذكر القرطبي أن أبناء إبراهيم - عليه السلام - هم: إسماعيل وأمه هاجر القبطية وهو أكبر ولده، وإسحاق الذي وُلدَ بعد أخيه بأربعَ عشرة سنة وأمه سارة ومن ولده الروم واليونان والأرمن وبنو إسرائيل، ثم تزوج إبراهيم - عليه السلام - بعد وفاة زوجته سارة بامرأة كنعانية هي قنطوان فولدت له مدين ومداين ونشهان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي نبينا إبراهيم - عليه السلام -. وكان بينه وبين نبينا محمَّد - عليه السلام - نحو من ألفي سنة وستمائة سنة على ما حكاه القرطبي في تفسيره (2/ 135). (¬1) ما بين [...] ليست من "ب". (¬2) في "ب": (وربيل). (¬3) في "ب": (بن) وهو خطأ. (¬4) في "ب": (ذهبت بالذال). (¬5) (ونفتالي) في النسخ، أما في "أ": (تعالى). (¬6) الجملة من قوله "يا بنيَّ" وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال يا بنيَّ وبفعل الوصية لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين، ومنه قول الراجز: رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أخبرَانَا ... إنَّا رأَيْنَا رجلًا عُرْيَانَا بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لإجراء الخبر مجرى القول، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن مسعود هذه الآية غير موجودة بالقرآن {أَنْ يَا بُنَيَّ} بـ "أَنْ" المفسرة. [الخصائص (2/ 338) - البحر المحيط (1/ 399) - ابن عطية (1/ 426) - الدر المصون (2/ 125)].

المثال [من الحكم] (¬1) الذي هو أوجب من السنة والعادة. {فَلَا تَمُوتُنَّ} نهي عن غير المنهي، كقوله: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (¬2)، وقولك: لا أرينك هاهنا، ولا تلقينَّ الله غيرَ تائب. ومعنى الآية: لا تكونوا أبدًا (¬3) إلا مسلمين حتى تموتوا على ذلك (¬4). {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} (أم) بمعنى ألف الاستفهام على وجه الإنكار، كما قال الشاعر (¬5): كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا وليس بمعنى "بل" لأن ما يجيء من بعد "بل" يجيء محققًا ولم يرد به التحقيق هاهنا لأنهم لم يكونوا شهداء، ولا يقال: أثبت شهودكم وأراد به آباءهم لأنه لو كان كذلك لقال: إذا قال لكم ما تعبدون من بعدي، ولم يقل: لبنيه. ويحتمل أنه مرتب على استفهام مضمر فيكون تقديره: أشهدتم وصية إبراهيم أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت. ومما يقرب هذا التأويل إنكارهم الأمرين جميعًا وتحريفهم الكلم في الموضعين جميعًا، فشهدوا فيه معنى النزول والخلق لأن الحاضر يستعمل بإزاء البادي، قولك: حضرني، بمنزلة: حضر عندي، فيكون عبارة عن القرب فقط (¬6). {الْمَوْتُ} ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "أ". (¬2) سورة لقمان: 33. (¬3) (أبدا) ليست من "أ". (¬4) انظر: [تفسير الطبري (2/ 584) - معاني القرآن للزجاج (1/ 192) - تفسير البغوي (1/ 114) - تفسير السمعاني (2/ 65)]. (¬5) الشعر للأخطل وهو غياث بن غوث التغلبي النصراني، والشعر في ديوانه (84). (¬6) في "أم" ثلاثة أقوال: الأول: أنها منقطعة، وهي التي تقدر بـ "بل" وهمزة الاستفهام وبعضهم يقدِّرها بـ "بل" وحدها، والتقدير: بل أكنتم شهداء، يعني لم تكونوا. مع أن المؤلف لا يرى أن تكون بمعنى "بل" في هذا المثال. القول الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام، وهو قول ابن عطية والطبري إلا أنهما اختلفا في محلها فإن ابن عطية قال: و"أم" تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر=

مصدر أقيم مقام الاسم، وهو ذهاب الحياة و {إِذْ} هاهنا بدل على الأول. و (ما) سؤال عن ذات الشيء، فكأنه قال: إيش تعبدون من بعدي، وما أعم من من قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬1). وقال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬2)، ويحتمل أن يكون (ما) مقام (مَنْ)، كقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3)، معناه: ومن (¬4)، وفائدة السؤال: الامتحان كما وردت الأخبار، والسؤال في القبر. والآباء: جمع أب، وفي الأصل: أبو. وإنما عَدَّ إسماعيل مع الآباء لأنَّ العَمَّ يدخلُ في عداد الآباء (¬5)، كما أنَّ ¬

_ =الكلام لغة يمانية. وقال الطبري: إنَّ "أم" يُسْتَفْهَم بها وسط كلامٍ قد تقدم صدره. القول الثالث: أنها متصلة وهو قول الزمخشري. [تفسير الطبري (2/ 585) - البحر المحيط (1/ 401) - الكشاف (1/ 313) - الدر المصون (2/ 127)]. (¬1) سورة البقرة: 255. (¬2) سورة الشورى: 5. (¬3) سورة الشعراء: 23. (¬4) أتى بـ"ما" دون "مَنْ" لاربع فوائد: الأولى: أن "ما" للمبهم أمره فماذا عُلِمَ فُرِّقَ ب "ما" و"مَنْ". الثانية: أنها سؤال عن صفة المعبود. الثالثة: أن المعبودات ذلك الوقت كانت غير عقلاء كالأوثان. الرابعة: أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم بـ"ما" دون "مَنْ" لئلاَّ يطرق لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصوده الاختبار. [الكشاف (1/ 314) - الدر المصون (2/ 129)]. (¬5) ومنه الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 68)، وأبو داود في سننه (1623)، والدارقطني (212)، والبيهقي (4/ 111)، والإمام أحمد (2/ 322) وغيرهم بلفظ: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فاغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها" ثم قال: "يا عمر أما شعرتَ أن عمَّ الرجلِ صنوُ أبيه".

الخالةَ تدخل في عداد الأمهات (¬1). من قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (¬2) أراد به: أباه (¬3) وخالته، لأنَّ أمه قد ماتت. {إِلَهًا وَاحِدًا} نصبَ على القطع، تقدير: الإله الواحد (¬4)، ووحدانيةُ اللهِ تعالى إنما هي تعاليه عن مقابلةِ الأنداد والأضداد، لم يزل ولا يزالُ متعاليًا عن الجهاتِ والأحوال. {تِلْكَ أُمَّةٌ} أي: تلك الأمةُ أمةٌ و (تلك) إشارةٌ إلى شيءٍ يفيدُ مؤنثًا (¬5). كما أنَّ (ذلك) للمذكر (¬6)، والتاء هي الاسم (¬7) فقط. والمراد بالآية هو نفي توجُّه إعراضهم عن الآيات المعجزة والمفعول الواجب لاختلافهم في شأن الأمم الماضية وأحوالهم. {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} نزلت في مثل ما نزل فيه قوله: {وَدَّ ¬

_ (¬1) صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الخالة بمنزلة الأم" أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 167)، والترمذي (1/ 347)، والبيهقي (8/ 5) من حديث البراء بن عازب مرفوعًا. (¬2) سورة يوسف: 100. (¬3) في جميع النسخ: (أبيه). (¬4) قوله تعالى: {إِلَهًا وَاحِدًا} فيه ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه بدل من "إلهك" بدل نكرة موصوفة من معرفة، والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلِّين بقول الشاعر [وينسب لشمير بن الحارث الضب]: فلا وأبيك خيرٍ منك إنِّي ... ليؤذيني التَّحَمْحُمُ والصهيلُ فـ "خير" بدل من "أبيك" وهو نكرة غير موصوفة. الوجه الثاني: أنه حال من "إلهك" والعامل فيه "نعبد". وفائدة البدل والحال التنصيص على أن معبودهم فَرْدٌ، إذْ إضافة الشيء إلى كثير توهم تعداد المضاف فنص بها على نفي ذلك الإبهام. الوجه الثالث: وإليه ذهب الزمخشري أن يكون منصوبًا على الاختصاص. والتقدير: نريد إلهك إلهًا واحدًا. [الكشاف (1/ 314) - البحر (1/ 403) - الخزانة (2/ 362) - الدر المصون (2/ 131)]. (¬5) في جميع النسخ: (مؤنث). (¬6) في "أ": (للمؤنث) وهو خطأ. (¬7) في "ب": (للاسم).

{كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬1) روي أن عبد الله بن رومان (¬2) قال لنبيِّنا -عليه السلام-: أَتبع (¬3) اليهودية تكنْ مهتديًا، ودعاه وفد نجران إلى النصرانية فأنزل الله (¬4). وفي {مِلَّةِ} ثلاثة أوجه، أحدها: أن معنى قولهم: اتبعوا اليهودية والنصرانية فنصب الملة وأضمر الاتباع اعتبارًا بالمعنى، والثاني: إقامة المضاف إليه مقام المضاف، تقديره: بل أصحاب ملة إبراهيم. والثالث (¬5): أن بل (¬6) تارة تدخل في الكلام موصولة وتارة مفصولة، وإذا كانت مفصولة فمعناها الابتداء هاهنا فنصب على التحريض والإغراء. {حَنِيفًا} نعت إبراهيم -عليه السلام- نصب على القطع (¬7). والحنف: الاستقامة في قول القتبي (¬8)، قال: سمي الأعرج أحنف تفاؤلًا، كما سمي ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 109. (¬2) لم أجد لهذا الاسم ترجمة إلا عند ابن حبان في الثقات؛ قال: عبد الله بن رومان أخو يزيد بن رومان، من أهل المدينة، يروي عن عروة بن الزبير، روى عنه محمَّد بن إسحاق بن يسار. [الثقات (7/ 44)]. (¬3) في "أ": (اتبعوا). (¬4) روى الطبري في تفسيره (2/ 589) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمَّد تهتدِ، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم هذه الآية: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ...} الآية. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 241). (¬5) (والثالث) في "أ". (¬6) في "ب ": (والحاصل أن بل). (¬7) في "حنيفًا" أربعة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه حال من إبراهيم لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياسًا. الوجه الثاني: نصبه بإضمار فعل. التقدير: نتبع حنيفًا، وقدَره أبو البقاء بـ "أعني"، وهو قول الأخفش الصغير. الوجه الثالث: أنه منصوب على القطع، وهو رأي الكوفيين، وكان الأصل عندهم: إبراهيم الحنيف فلما نكَّرَهُ لم يمكن اتباعه. [الكشاف (1/ 314) - الإملاء (1/ 66)]. (¬8) عبارة ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن (ص 64): (الحنيف: المستقيم، وقيل للأعرج: حنيف نظرًا له إلى السلامة) اهـ.

الفلاة: مفازة، واللديغ: سليمًا. وقال غيره: الحنف: الميل، والأحنف: الذي في قدميه ميل. والحنيف: المائل إلى الحق كالعادل. قال الضحاك: الحنيف: المسلم، وإذا كان معه لفظ المسلم فمعناه الحاج. وقال أبو عبيدة: كان الحنيف في الجاهلية من كان على دين إبراهيم وسمي من اختتن وحج البيت [حنيفًا] (¬1) لما تناسخت السنون فكانوا يعبدون الأوثان ويقولون: نحن حنفاء على دين إبراهيم. والحنيف الذي نعرف اليوم هو المسلم. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: ما كان مشركًا ويحتمل أنه قال: لنفي الموالاة بينه وبين من تولى به من مشركي العرب واليهود والنصارى والمجوس. والإشراك: نصب الشريك، والشريك هو المساهم في الحق. في قوله (¬2): {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} تعليمٌ من الله عبادَهُ كيف يؤمنون وكيف يردّون قول اليهود والنصارى {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}. و (ما) بمعنى "الذي"، في محل الخفض على العطف، والأسباط أولاد يعقوب، واحده سِبْط. قال الأزهري: اشتقاقه من السَّبَط وهو شجرةٌ كبيرةُ الأغصانِ، فجرى هذا الاسم في أولادهم مجرى القبيلة في أولادِ إسماعيل. فذكر القتبي (¬3): أن ما أُنزل من السماء (¬4) على الأنبياء من الكتاب (¬5) مائة كتابٍ وأربعة كتب على شيت خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون صحيفة (¬6) وعلى إبراهيم عشرون صحيفة (¬7)، وعلى موسى التوراةُ وعلى داود الزبورُ، وعلى عيسى الإنجيلُ، وعلى نبيِّنا القرآنُ، صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين. وذكر أيضًا: أنَ الله تعالى أنزل على آدم تحريم الميتة والدم ولحم ¬

_ (¬1) الكلمة أثبتناها من عندنا. (¬2) (في قوله) ليس من "ب". (¬3) (القتبي) ليس من "ن". (¬4) (من السماء) زيادة من "ب". (¬5) (على الأنبياء من الكتاب) ليس في "ب". (¬6) (صحيفة) ليس من "ب". (¬7) (وعلى إبراهيم عشرون صحيفة) ليس من "ب".

الخنزير، وحروف التهجي في إحدى وعشرين صحيفة فحذا اللهُ (¬1) تعالى عليها الألسنة كلَّها، وزعم اليهود: أن اسم التوراةِ يشتمل كتاب موسى ومَن بعده من أنبياءِ بني إسرائيل، فيكون ما أُنزِلَ على موسى بعض التوراةِ على هذه القضية (¬2). وذكر القتبي عن وهب عن ابن عباس: إن أولَ الأنبياء آدم واَخرَهُم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الأنبياءُ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نبيًا. {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لا نقول: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} (¬3)، كما قالت اليهود. ومن التفريق قولهم: عزيرٌ وعيسى ابن الله، ونسبةُ سليمان إلى السحر ومحمد إلى الاعتداء، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} منقادون في تصديق أُمنائه أجمعين. {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} قيل: الباء زائدة (¬4)، وتقديره: فإن آمنوا مثل ما آمنتم به، أي: باللهِ. قال الراجز (¬5): نحنُ بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضربُ بالسيفِ ونرجو بالفرج وقيل: العرب (¬6) تذكر المثل مجازًا، أو تريد به النفس حقيقةً، كقوله: ¬

_ (¬1) (الله) ليس من "أ". (¬2) (على هذه القضية) ليس في "ب" "أ". (¬3) سورة البقرة: 91. (¬4) الباء في قوله "بمثل" قيل: إنها زائدة كما ذكره المؤلف كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ...} وقول الشاعر [وهو منسوب للراعي النميري]: هُنَّ الحَرائِرُ لا رَبَّاتُ أَحْمِرَةٍ ... سودُ المحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وقيل: الباء بمعنى "على". والتقدير: فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله. وقيل: الباء للاستعانة كقولك: كتبتُ بالقلم. [المخصص (14/ 70) - الخزانة (3/ 667) - مجالس ثعلب (1/ 301)] ". (¬5) الرجز هو للنابغة الجعدي والبيت في ديوانه (215). (¬6) في لاب ": (الأعراب).

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1)، ويقال: أمثلُكَ يقولُ لمثلي. فيكون تقدير الآية على هذا: فإدن اَمنوا بما اَمنتم به، هكذا يروى في قراءة ابن عباس ومصحفِهِ (¬2). (في شِقَاق) في خلاف، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬3) {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} السين بمنزلة سوف (¬4). والكفايةُ رفع المؤنة أو دفعُ المضرة. وفيه دلالة على نبوَّةِ نبينا لأنه تعالى كفاهُ إياهم، ومكَّنَهُ بعد قتلِ بني قريظة وإجلاءِ بني النضير وأخذ الجزية من أَهل نجران (¬5). {صِبْغَةَ اللَّهِ} دين الله (¬6)، ردًا على الملة كأنها تدلُّ عليها، وهو اسمٌ من الصبغ، وهو تلوين الشيء، سُمِّي بذلك لأنه يؤثر في المتدين كالصبغ، قال الفراء (¬7): كانت النصارى إذا ولد لهم مولودٌ جعلوهُ في ماءٍ لهم، يعدُّودنَ ذلك تطهُّرًا لهم كالختان. وقيل: كانت النصارى تصبغُ أولادَهَا بماء لهم أصفر، يريدودن أنه يصير بذلك نصرانيًا خالصًا، ويقولون للمرتد: إدن ارتددتَ فانصبغ بهذا الماء. {وَمَنْ أَحْسَنُ} استفهام بمعنى الإنكار، معناه: ليس أحدٌ أحسنُ من اللهِ صبغةً، ودينًا، ومما قام مقام الصبغ {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وورودهم على الحوض غُرًّا محجلين من آثار الوضوء. ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 11. (¬2) قال الطبري في تفسيره (2/ 600) معلِّقًا على هذه القراءة - قراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: روي عن ابن عباس في ذلك قراءة جاءت مصاحف المسلمين بخلافها وأجمعت قراءةُ القرآن على تركها. (¬3) سورة النساء: 35. (¬4) قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} جيء بالسين دون سوف لأنها أقرب منها زمانًا بوضعها، وذكر أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن (1/ 218) أن الكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن فسيكفيك إياهم، وكذا الفعل إذا تعدَّى إلى المفعول الأول قوي فجاز أن يأتي في الثاني منفصلًا. (¬5) (من أهل نجران) من "أ". (¬6) وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة وأبي العالية والربيع ومجاهد والسدي أخرجها عنهم الطبري في تفسيره (2/ 604). (¬7) معاني القرآن (8211).

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} استفهام بمعنى الزجر والإنكار، ومحاجتهم تحتمل أوجهًا ثلاثة: في ذات الله، كقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (¬1) و {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬2)، و {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} (¬3) و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ} (¬4) وإنه {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬5)، بأفواههم التراب. والثاني: في دين الله كقولهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} (¬6)، وقولهم لعبدة الأصنام: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (¬7). والثالث: في الاختصاص برحمة الله، كقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (¬8) و {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (¬9). والذي يبعد محاجتهم إقرارهم بأنَ الله ربهم متفرد بالقدم (¬10) يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد ويجازي كلَّ عاملٍ بعمله. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} الواو للاستئناف. وإخلاصنا هو الإخلاص بالتوحيد للهِ تعالى حيثُ لم ندَّعِ لهُ ولدًا ولا شبيهًا ولم نثبت للهِ حالا ولا محلًّا، لا كونَ العالَمِ شيئًا قبل تكوين اللهِ إياه. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} قال مجاهد وابن أبي (¬11) ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 18. (¬2) سورة المائدة: 64. (¬3) سورة آل عمران: 180. (¬4) سورة الأنعام: 90. (¬5) سورة المائدة: 73. (¬6) سورة البقرة: 135. (¬7) سورة النساء: 51. (¬8) سورة البقرة: 111. (¬9) سورة آل عمران: 75. (¬10) في "أ": (القديم). (¬11) في جميع النسخ: (ابن نجيح) وهو خطأ.

نجيح (¬1): كانت (¬2) عند اليهود والنصارى في كتبهم شهادةٌ من الله بإسلام الأنبياء فكتموها ولو أظهروها لسَلَّموا له ما يأتي به من عند الله من الإخبار بإسلام الأنبياء، وهذا بمنزلة قولك (¬3): ومن أبخلُ مِمَّن عنده فضلُ نعمةٍ لم ينفعه من السلطان. فعلى هذا، تقديره: تكن الشهادة بإسلامهم عند الله فلا يكتمها لأنه متعالٍ عن الاتِّصافِ بالظلم. قوله (¬4): {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} مقدمة في التلاوة على قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} مؤخَّرة عنها في النزول وهي في شأن اليهود عند ابن عباس (¬5) والبراء (¬6) (¬7) وفي شأن مشركي العرب عند الحسن (¬8) والمنافقين عند السدي (¬9)، ويحتمل أنَّها في شأن الجميع، والسين بمعنى سوف {مَا وَلَّاهُمْ} ما حملهم (¬10) على التولِّي والإعراض. ¬

_ (¬1) عبد الله ابن أبي نجيح الثقفي المكي، واسم أبيه يسار مولى الأخنس بن شريق الصحابي أبو يسار. من مشايخه مجاهد وطاووس وعطاء وغيرهم. ومن تلاميذه شعبة والثوري وابن عيينة وغيرهم. رماه أكثر العلماء بالقدر والاعتزال. قال ابن المديني: أما التفسير فهو فيه ثقة يعلمه قد قفز القنطرة واحتج به أرباب الصحاح، ولعله رجع عن البدعة. [الكامل (5/ 445)؛ تهذيب الكمال (16/ 215)؛ السير (6/ 125)]. (¬2) (كانت) ليس من "ن" "ب". (¬3) في "ب": (قوله). (¬4) (قوله) ليست في "ب". (¬5) عن ابن عباس رواه الطبري (2/ 2)، وذكره ابن أبي حاتم (1/ 247) بدون سند، وذكره سفيان الثوري في تفسيره (50). (¬6) البراء بن عازب بن الحارث أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني من أعيان الصحابة، نزيل الكوفة. روى أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر وغزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة. توفي سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. [تاريخ بغداد (1/ 177)؛ تاريخ الإِسلام (3/ 139)؛ العبر (1/ 79)؛ معجم الطبراني (2/ 8)؛ الإصابة (142/ 1)؛ السير (3/ 194)]. (¬7) عن البراء رواه ابن جرير الطبري (2/ 1) وابن أبي حاتم (12323)، وعلي بن الجعد في مسنده (2113). (¬8) ذكره عن الحسن ابن حجر العسقلاني في "العجاب " (389/ 1) وعزاه ليحى بن سلام. (¬9) ذكره الطبري (2/ 2)، وابن أبي حاتم في تفسيره (12324). (¬10) في "أ": (ماعملهم).

والقبلة اسم لما يستقبل وهي مختصة في الشرع بما يجب استقباله في الصلاة {كَانُوا عَلَيْهَا} أي استقبالها وهي بيت المقدس، والمراد بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} جميع المساجد على وجه الأرض وكذلك تشبيه إحدى (¬1) حالتيهم بالأخرى، أي: كما وليناكم عن قبلتكم التي كنتم عليها. {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عدلا وخيارًا، ويحتمل أنَّ ذلكَ إشارة إلى قوله (¬2): {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} والفعل وَسَط بفتح السين وساطة وسطة، وقيل: وسُط بضم السين وساطة (¬3) {لِتَكُونُوا} أي: لكي تكونوا {شُهَدَاءَ} جمع (¬4) شهيد وشهادتهم يوم القيامة على الكفَار بتكذيب (¬5) الأنبياء - عليهم السلام - لمَا عاينوه أو ثبت عندهم بالوحي أو علموه بالأخبار المتواترة، وقيل: حجة على الناس عند إجماعهم. وإنما صاروا كذلك؛ لأنَّ كلَّ نبي كان يتلوه نبي فكان يجب انتظار (¬6) الأنبياء في الواقعات، فلما وقع الختم بنبينا ووقع اليأس ببعث رسول وجب عليهم الاجتهاد في الواقعات، وصار إجماعهم حُجَّة إذْ لا سبيل إلى الإهمال ولا إلى النص. ¬

_ (¬1) (إحدى) ليست في "ب". (¬2) في "ي" "أ": (إشارة إلى قوله من في قوله ..). (¬3) ذكر المؤلف فتح السين وضمها في "وسط" وفيه وجه ثالث وهو السكون، والتسكين يستعمل في كل موضع صلح فيه لفظ بَيْنَ فتقول: جلست وَسْطَ القوم - بالسكون-. قال الراغب في (المفردات ص 559): وسط الشيء ما له طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد. وأما في الآية فبالتحريك -أي بالفتح - فتكون اسمًا لما بين الطرفين، ويطلق على خيار الشيء لأن الأوساط محميَّة بالأطراف، ومنه قول أبي تمام: كانت هي الوسط المَحْمِىَّ فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبَحَتْ طَرَفا ووسط الوادي خير موضع فيه. وقول زهير بن أبي سلمى: هُمْ وَسَطٌ ترضى الأنامُ بحكمِهِم ... إذا نزلتْ إحدى الليالي بمعظمِ [الكشاف (4/ 455) - ديوان أبي تمام (2/ 374) - القرطبي (2/ 154)]. (¬4) في الأصل (جميع) وهو خطأ. (¬5) في "ب": (وتكذيب). (¬6) في "ب": (انتظام).

{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يقول يوم القيامة: تبعني هذا وعصاني هذا {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬1) وقيل: حُجَّة على أمته، واعلم أنَّ النبي -عليه السلام- كان حُجَّة على أهل عصره لمعاينتهم معجزاته، وعلى العالمين عامة لعلمهم به من طريق الوحي المعجز والأخبار المتواترة على وجه لا يمكِّنهم التشكيك في كونه وكون بعض معجزاته. واختلف في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} قيل: هي المنسوخة بدليل قوله: {كَانُوا عَلَيْهَا} وقيل: هي الناسخة (¬2)، وقوله: {كُنْتَ} أي: صرت أو أنت عليها، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (¬3) وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً}. وروي ما يدلُّ أنَّ الكعبة كانت قبلة مِنْ قَبْل، روي أنَّه -عليه السلام- كان في الابتداء يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلّي صلاة الضحى (¬4) وتلك الصلاة لا (¬5) تنكرها قريش، وقوله {لِنَعْلَمَ} أي: لنعلم المتبع ممتازًا من المتقلب في الظاهر (¬6)، والأشياء إنَّما تكون معلومة عند الكينونة لا قبلها، إذْ يستحيل (¬7) كون ما لم تكن، وإنْ كان اتصاف الله تعالى بالعلم لا لابتداء (¬8) له، وقيل: {لِنَعْلَمَ} أي ليعلم أولياؤنا (¬9)، كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا ¬

_ (¬1) سورة النساء: 41. (¬2) لم أَجد مَنْ ذكر ذلك والأصل أن القبلة التي كان عليها هي بيت المقدس، وهو قول عامة المفسرين. [انظر: الكشف والبيان (1/ 161)، والطبري (2/ 638)، وابن أبي حاتم (1/ 250)]. (¬3) سورة آل عمران: 110. (¬4) ذكره الإمام أحمد (1/ 325)، والطبراني في الكبير (11066)، وابن سعد في الطبقات (1/ 243)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 3)، وابن عبد البرقي التمهيد (8/ 54؛ 17/ 49)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 141) لابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه والنحاس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه. (¬5) في الأصل لا توجد (لا). (¬6) ذكره القرطبي (2/ 156) وعزاه لابن فورك. (¬7) في الأصل: (يتصل). (¬8) في "ي": (لا ابتداء)، وفي الأصل: (لا لابتداء الإله). (¬9) قريبًا منه ما ذكر عن الفراء كما في زاد المسير (1/ 155) أي أن العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى لتعلموا أنتم.

انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (¬1) و (الانقلاب) الانصراف والنكوص (¬2). وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} لتأكيد وصف الانقلاب كقولك: أقبل بوجهه، وولى على دبره، والعقب مؤخر القدم {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: وما كانت إلا كبيرة كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (¬3). {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بنسخ القبلة، وذلك أنَّ اليهود قالوا للمؤمنين: إنْ كان دينكم الأول حقًا فقد بطل، وإن كان باطلًا فكيف حال إخوانكم الذين ماتوا عليه من قبل كأسعد بن زرارة (¬4) والبراء بن معرور (¬5)، فخطر ببال المؤمنين ذلك، وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هو الأصل وهو الدين ينسخ بعض الشرائع وهي الفروع، واللام في {لِيُضِيعَ} لام الجحود (¬6)، وما [كان] (¬7) الله ليضيع، والإضاعة نقيض الحفظ {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬8) الرؤوف: يرحم على المصاب ولا أحد من الناس إلا وهو مصاب لاختلال حال، أو لاكتساب وبال. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} عن البراء بن عازب قال: ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 55. (¬2) في الأصل: (النكوس). (¬3) سورة البقرة: 198. (¬4) أسعد بن زرارة بن عدس السيد نقيب بني النجار أبو أمامة الأنصاري الخزرجي، من كبراء الصحابة. توفي شهيدًا بالذُّبحة [وهي داء يأخذ بالحلق وربما قتل] فلم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نقيبًا علي بني النجار وقال: "أنا نقيبكم" فكانوا يفخرون بذلك. [الاستيعاب (1/ 153)؛ أسد الغابة (1/ 86)؛ الإصابة (1/ 50)]. (¬5) البراء بن معرور بن صخر السيد النقيب أبو بشر الأنصاري الخزرجي أحد النقباء ليل العقبة. وكان أول من بايع ليلة العقبة الأولى، مات قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بشهر، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبره فأتاه وصلَّى عليه صلاة الجنازة وقال: "اللهم اغفر له وارحمه وأدخله الجنة" [أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (3/ 460) وإسناده صحيح]. [التاريخ الصغير للبخاري (1/ 20)؛ الاستيعاب (1/ 281)؛ أسد الغابة (1/ 207)؛ الإصابة (1/ 238)]. (¬6) لام الجحود هي المسبوقة بكوْنٍ منفي. (¬7) ما بين [...]، مني ليستقيم الكلام. (¬8) (رحيم) من الأصل.

صلَّى (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) إلى بيت المقدس ستة عشرة (¬3) شهرًا (أو سبعة عشرة شهرًا) (¬4) ثم وجهه (¬5) إلى الكعبة (¬6)، وفي التاريخ ستة عشرة (¬7) شهرًا وثلاثة أيام لأنَّه -عليه السلام- (¬8) قدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الآخر (¬9) فأسند التاريخ إلى المحرم، وكان التحويل للنصف من رجب من السنة الثانية (¬10)، قيل: والسبب في ذلك أنَّ (¬11) الله تعالى لما أراد أن يردَّ نبيَّه -عليه السلام- إلى قبلة أبيه إبراهيم وأن يجمع القبلة والحج في دار واحدة ويميز (¬12) المخلصين من المنافقين (¬13) جعل قلب نبيِّه مريدًا بذلك الأمر ليكون إحداثه إكرامًا له، فذكر النبي -عليه السلام- (¬14) لجبريل ما كان في نفسه من ذلك فقال (¬15) جبريل: إنما أنا عبد مثلك فأسأل ربك (¬16)، وكان -عليه السلام- (14) يصلِّي ويقلب وجهه في السماء لا ينطق بما يريد مهابة (¬17) أو محافظة ¬

_ (¬1) (صلى) ليست في الأصل. (¬2) في "أ" "ي ": (عليه السلام). (¬3) في "أ" "ب" "ي": (عشر). (¬4) ما بين (...) من الأصل. (¬5) المثبت من الأصل وفي البقية (وجّه). (¬6) رواه البخاري (40، 4216)، ومسلم (525). (¬7) في "أ" "ب " "ي": (عشر). (¬8) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬9) قوله: (الآخر) غير صحيح؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم في شهر ربيع الأول بلا خلاف كما يقول ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 96 - 97). (¬10) يقول ابن حجر في الفتح (1/ 97): (وكان التحويل في نصف شهر رجب في السنة السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور). اهـ. (¬11) في "ب ": (إن شاء الله). (¬12) في "أ": (وتمييز). (¬13) (من المنافقين) ليست في "أ". (¬14) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬15) في "ب" "ي": (وقال). (¬16) (لم أجد هذه الرواية. (¬17) في الأصل: (مهبة).

لآداب (¬1) النبوة حتى أتمَّ الله أمره فأكرم عبده وأنزل وحيه، ويجوز تمنِّي ما يجوز في العقل كونه كتمني تحريم الخمر وحجاب النساء، بخلاف تمني إباحة الظلم والفواحش وتحريم العدل والإحسان. و (التقلب) لازم من التقليب و (الوجه) ما يواجه الإنسان به مع انضمام القرب إليه وذلك من قصاص الناصية (¬2) إلى أسفل الذقن ومن الأذن إلى الأذن {شَطْرَ} نحو المسجد الحرام المحدق بالكعبة، وإنما أمرنا باستقبال الكعبة إلى استقبال {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والحرام اسم من التحريم كالحلال من التحليل، وإنما سمي حرامًا لكونه حرامًا على الاَفاقي (أن يدخله) ابتداء غير محرم أو علي كل أحد في جميع عمره مرة وإنَّما قال {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ليعلموا أنها قبلتهم بالمدينة (¬3) وبغيرها من البلاد لا قبلة لهم غيرها. وإنما لم يقل، (¬4): (فولُّوا وجوهكمٍ إليه) لرفع المشقة، إذ لو قال كذلك لوجب على الرجل أن يستقبله استقبالًا لو سار على وجهه لصادف عين القبلة، فهذا أمر عسير. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} علماء اليهود، تواطؤوا ولبسوا الأمر على غيرهم وهم يعلمون أن التحويل إلى الكعبة حقٌّ من ربِّهم لما قرؤوها في كتابهم، وقيل: الهاء (¬5) راجعة إلى المسجد الحرام؛ لأنهم يعلمون فضيلته ويعترفون (¬6) بها، والسلام في قوله: {لَيَكْتُمُونَ} للتأكيد والقسَم. {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ} لما قالت اليهود والنصارى ما ولاَّهم عن قبلتهم فأنزل الله جوابًا محتملًا في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أردفه قوله: {وَلَئِنْ (¬7) ¬

_ (¬1) في الأصل: (لأدب). (¬2) في الأصل: (المعصية) وهو خطأ. (¬3) في الأصل: (للمدينة). (¬4) (يقل) زدناها ليستقيم المعنى. (¬5) الهاء في (يعرفونه) وقد ذكر هذين القولين المذكورين عن السلف القرطبي في تفسيره (2/ 162)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (1/ 158). (¬6) في الأصل "ي" "أ": (ويعرفون). (¬7) في الأصل بدون (ولئن).

اتَّبَعْتَ} (¬1) فأيس النبي -عليه السلام- (¬2) عن أتّباعهم وأمته من نسخ طارئ يردُّه إلى قبلتهم وقطع المجادلة بينه وبينهم ثم قال: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} لأنهم خربوا البيت وخفي مكان الصخرة فتفرقوا لخفائه (¬3) وقد أعرض بعضهم عنها وتوجه إلى المشرق وتشتتت أهواؤهم وتساووا في الضلالة والغواية، فأخبر الله عن حالهم وحذر نبيَّه -عليه السلام- عن اتباعهم، وإنما حذَّره مع كونه معصومًا (¬4) ليبقى مكلَّفًا مثابًا فلا يكون استباقًا منه كما قال في شمأن الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} واللام في {لَئِنّ} لام التأكيد، فلمَّا ضمّت إلى "أن" الشرطية أحدثت فيها معنى كقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} ولولا اللام لقالوا: لا يخرجوا معهم والتنوين في "إذًا" عوض عن كلام محذوف ومجازه: إنَّك إذا اتبعت أهواءهم كنتَ من الظالمين، ولام التأكيد داخلة على ما يجيء بعد إذا وربما لم تدخل فينصب إذا اعتمد عليها. تقول للقائل: أزورك (¬5): إذًا أكرمك، ويجوز كون "إذًا" بدلًا عن (¬6) الشرط ويكون حقيقتها للتوقيت، قال: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي (¬7) ... ¬

_ (¬1) قال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب (لو) لأن المعنى: ولو أتيت، وكذلك تجاب (لوِ) بجواب (لئن) نقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} أي: لو أرسلنا ريحًا. وخالفهم سيبويه فقال: إن معنى (لئن) مخالف لمعنى (لو) فلا يدخل واحد منهما على الآخر، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: (ومعنى {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا}: ليظلن). اهـ من القرطبي في تفسيره (2/ 162). (¬2) في "ب ": (صلى الله عليه وسلم). (¬3) في "أ": (بخفائه). (¬4) في الأصل: (معصوم). (¬5) (أزورك) من "ب" "ي". (¬6) في الأصل: (بدل على). (¬7) هذا صدر بيت نسبه ابن منظور في "لسان العرب" (7/ 393) للعنبري، وعجزه: ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

ثم قال ... إذًا لقام بنصري معشر حشف (¬1) {يَعْرِفُونَهُ} عن قتادة والربيع (¬2) أن الهاء راجعة إلى البيت أو المسجد، وقيل: كناية عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، قال عبد الله بن سلام: إني لأعرف بمحمد من يزيد ابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذلك؟ قال: لأني لستُ أشك في محمَّد ونعته وصفته أن نبي ولعل والدة يزيد أحدثت، فقبل عمر رأسه وقال: وفقك الله يابنَ سلام (¬4)، والأظهر أنها في شأن البيت أو المسجد وما في الأنعام في شأن نبينا، وإنما عمَّهم بالمعرفة وخصَّ فريقًا بالكتمان؛ لأنهم كانوا جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب فكتم فريق ولم يكتم فريق مثل عبد الله بن سلام وكعب (¬5) ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (293): (ويحتمل أن تكون "إذا" زائدة كما قال أبو البقاء في قول الحماسي: ... إذًا لقام بنصري معشر خشن في جواب قوله: لو كنت من مازن). (¬2) ذكره القرطبي في تفسيره (2/ 162) عن ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/ 158) عن أبي العالية وقتادة والسدي ومقاتل، وروي عن ابن عباس أيضًا. وقد رواه الطبري في تفسيره (2/ 25)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 255) بدون سند، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 147) لعبد بن حميد. وعن الربيع رواه الطبري في تفسيره (2/ 26)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 255) بدون سند. (¬3) في "ب ": (صلى الله عليه وسلم). (¬4) هذا الأثر ذكره القرطبي في تفسيره (162/ 2) ولم يعزه، وعن القرطبي نقله ابن كثير (1/ 207). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 147) عن الثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس. وسنده تالف بسبب السدي الصغير والكلبي وليس فيه (فقبل عمر رأسه). (¬5) هو كعب الأحبار: كعب بن ماتع الحميري، كنيته أبو إسحاق، أدرك الجاهلية وكان قد قرأ الكتب. وأسلم في خلافة عمر بن الخطاب، قدم المدينة ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان - رضي الله عنه -.

ووهب (¬1) ووفد الحبشة، والمعرفة علم بتمييز الذهن، وقيل: تلخيص نقيضه العلم (¬2) لقوله عليه الصلاة (¬3) والسلام: "تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك في الشدة" (¬4). وقيل: سكون النفس إلى ما وقع به العلم، لقولهم: النفس عروف (¬5)، وضد المعرفة الإنكار، ولذلك أوجب أبو حنيفة معرفة في الإيمان (¬6). ¬

_ = [صفوة الصفوة (4/ 203)، تهذيب التهذيب (8/ 393) " الإصابة (5/ 647)؛ الطبقات الكبرى (7/ 445)]. (¬1) هو الإمام العلَّامة الأخباري القصصي وهب بن منبه أبو عبد الله اليماني الصنعاني. ولد في زمن عثمان سنة أربع وثلاثين، كان ينزل ذمار على مرحلتين من صنعاء، وكان ممن قرأ الكتب ولزم العبادة وواظب على العلم، قال العجلي: تابعي ثقة، وكان على قضاء صنعاء، ومكث مدة يصلِّي الفجر بوضوء العشاء لتشميره في العبادة، مات سنة ثلاث أو أربع عشرة ومائة وهو ابن ثمانين سنة. [الثقات (5/ 487)؛ تهذيب التهذيب (11/ 147)؛ رجال مسلم (2/ 305)؛ تهذيب الأسماء (2/ 438)؛ سير أعلام النبلاء (4/ 544)]. (¬2) قال الجرجاني في "التعريفات" (283): (المعرفة ما وضع ليدلَّ على شيء بعينه وهي المضمرات والأعلام والمبهمات وما عرف باللام والمضاف إلى أحدهما، والمعرفة أيضًا: إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم؛ ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف). اهـ. (¬3) (الصلاة) من "ب". (¬4) هذه إحدى روايات حديث ابن عباس المعروف: "احفظ الله يحفظك ... " رواها الطبراني في الكبير (11560)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (4/ 55)، وعبد بن حميد في مسنده (636)، وهنا وفي "الزهد" (536) وأبو يعلى الموصلي في "معجمه" (96)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 314)، والخطيب في تاريخه (14/ 124)، وفي "الفصل الوابل" (2/ 861)، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 391)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 397،178)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1074، 10000)، واللالكائي في "شرح أصول الإيمان" (1095). (¬5) وتكملته "وما حملتها تتحمل" كما في تفسير القرطبي (2/ 415). وجاء في لسان العرب (9/ 239): (والعروفة الصابر، ونفس عروف حاملة صبور إذا حملت على أمر احتملته). أهـ. (¬6) انظر في ذلك: أصول الدين عند الإِمام أبي حنيفة للدكتور محمَّد بن عبد الرحمن الخميس في الباب لثالث: اعتقاده في الإيمان 352، دار صميعي.

{الْحَقُّ} يحتمل أنه مبتدأ أو يريد ببما الحق المذكرر من قبل وهو البيت أو المسجد أو نعت نبينا -عليه السلام-، ويكون خبره في {مِنْ رَبِّكَ} وحكمه ويحتمل أن يكون {الْحَقُّ} خبر (¬1) مبتدأ محذوف، وتقديره: هو الحق، فيريد هو الوحي الذي ذكر فيه حالة أهل الكتاب هو الصدق من ربك (¬2)، {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} والامتراء افتعال من المرية وهي الشك - نعوذ بالله منه- والوجهة والوُجهة الجهة، والمراد بها القبلة وما في معناها مما يجب أن يقبل عليها ولا يعرض عنها من أمور الدنيا نظيره: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬3) {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} (¬4)، وهذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} وقيل: باقية غير منسوخة إذ في كل كتاب وجوب الإيمان بنبيِّنا عليه الصلاة والسلام (¬5) مصرّحًا ومعرّضًا وواجبات لم ينسخها الإسلام فهم مدعوون إليها {فَاسْتَبِقُوا} بادروا، والاستباق: المبادرة. قال الله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} (¬6). {يَأْتِ بِكُمُ اللَّه} أي يحضركم الله ويجمعكم يوم (¬7) الجمع، وفيه تهديد لمن ترك أمره وتطميع لمن أطاعه، وإنَّما كرر {وَمِنْ حَيْثُ} للتأكيد (¬8)، ¬

_ (¬1) في الأصل: (غير). (¬2) قال القرطبي في تفسيره (2/ 163): (والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير: هو الحق أو على إضمار فعل؛ أي جاءك الحق). اهـ. وفيه وجه آخر ذكره السمين الحلبي في تفسيره (2/ 170) وهو أنه مبتدأ والخبر محذوف والتقدير: والحق من ربك يعرفونه، وعلى هذا القول يكون الجار والمجرور في محل نصب حال من "الحق". وعلى قراءة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بنصب "الحقَّ" يكون فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون منصوبًا على البدل من "الحق" قاله الزمخشري. والئالْي: أن يكون منصوباَ بإضمار "الزم". والثاك: أن يكون منصوبًا بـ "يعلمون" قبله. ذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 448). (¬3) سورة المائدة: 48. (¬4) سورة الحج: 67. (¬5) (الصلاة) من "ب". (¬6) سورة يوسف: 25. (¬7) في "أ" "ب" "ي": (ليوم). (¬8) كرر {وَمِنْ حَيْثُ} ثلاث مرات فَحُمِل هذا التكرار على التأكيد. ذكر ذلك ابن الجوزي =

وقد اتصل الأول (¬1) بالإخبار عن علم أهل الكتاب (¬2). والثاني: بالشهادة المحضة أنه حق (¬3). والثالث: ينفي حجة الناس (¬4) {لِئَلَّا يَكُونَ} اللام للتعليل (¬5) و"أن" الخفيفة تحل الفعل محلَّ الاسم، تقول: أحب أن تفعل كذا وأكره أن لا تفعل، وهي أداة لتفسير العلم والحسبان والإيقان والادِّعاء والزعم ونحوها، ومجازُه: لئلا يكون لغير الظالمين من الناس عليكم حجة إذ الاستثناء مع المستثنى منه أحد اسمي الباقي وإنما انتفت حجة غير الظالمين ولم تنتفِ حجتهم لأن الحجة كالبينة والعادل لا يأتي ببينة الزور فكذلك بالحجة الداحضة (¬6)، والظالم بخلافِهِ، وفي الآية دليل على جواز استثناء (¬7) الأكثر من الأقل لأن الذين ظلموا كانوا أكثر من بقية الناس، و (الخشية): الخوف، {وَلِأُتِمَّ} عطف على قوله {لِئَلَّا} (¬8). ¬

_ = في "زاد المسير" (1/ 159)، والقرطبي في تفسيره (2/ 168)، وابن كثير في تفسيره (1/ 208). (¬1) (الأول) ليس في "ب ". (¬2) يقصد قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الآية. (¬3) في قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} الآية. (¬4) هذه الآية الأخيرة. وللقرطبي في تفسيره تحليلات ثلاثة غير هذه: فحمل الآية الأولى. أي عاينها إذا صليت تلقاءها. والثانية: توجيه للمسلمين في سائر مساجد المدينة وغيرها. والثالثة: وجوب الاستقبال في الأسفار. (¬5) وقيل: إن اللام في {لِئَلَّا يَكُونَ} هي لام كي بعدها "أَنْ" المصدرية الناصبة للمضارع، و"لا" نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، و"أَنْ" هنا واجبة الإظهار. [الدر المصون (17712)]. (¬6) في "أ": (الضاحضة). (¬7) في "أ": (استثناء) وفي "ب" "ي": (استئناف). (¬8) قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ} فيه أربعة أوجه من حيث العطف: الأول: ما ذكره المؤلف أنه معطوف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ}.=

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} تشبيه وقع لإتمام النعمة كقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} (¬1) {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي: ما لا تعلمون يعني علم الأولين والآخرين (¬2) وشرائع الدين قد تضمنه قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} إلَّا أنه (¬3) أتى بلفظين مختلفين تأكيدًا {فَاذْكُرُونِي} عطف بالفاء لتعقيب الاهتداء وذكر (¬4) العبد إلهه هو ذكره مخلصًا بالثناء وذكر الله إياه بالرحمة وحسن (¬5) البلاء، والعبد يصل إلى ذكر الله (¬6) تعالى بذكره وقد أوجبَ الله تعالى ذكره على ما (¬7) ذكره (¬8) فإذا ذكر الله فهو العلة والجزاء. {وَلَا تَكْفُرُونِ} ولا تجحدوني، نظيره في التعدي بغير الياء (¬9): ¬

_ = الثاني: أنه معطوف على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولها الخشية السابقة، فكأنه قيل: واخشوني لأُوَفِّيَكم وَلِأُتِمَّ نعمتي عليكم. الثالث: أنه متعلق بفعل محذوف مقدر بعده، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أَمْرَ قبلتكم. الرابع: وهو أضعفها -والله أعلم-: أن تكون متعلقة بالفعل قبلها والواو زائدة. التقدير: واخشوني لأتمَّ نعمتي. وهذه اللام هي لام "كي" وأن مضمرة بعدها ناصبة للمضارع. [البحر المحيط (1/ 441) - الدر المصون (2/ 180)]. (¬1) سورة يوسف: 6. (¬2) (والآخرين) من الأصل فقط. (¬3) (أنه) ليس في "ب". (¬4) في "أ": (فذكر). (¬5) هذا حصر لمعنى ذكر الله بالرحمة وحسن البلاء، فإن ذكر الله للعبد ذكر حقيقي ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: "يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُهُ في ملاْ خير منهم ... " الحديث أخرجه البخاري (13/ 328 - الفتح)، ومسلم (8/ 62)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 251) وغيرهم. (¬6) (الله) ليس في "أ" "ي". (¬7) (ما) ليست في "أ" "ب" "ي". (¬8) في "أ": (ذكر هم). (¬9) قال أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن (1/ 223): قوله: (وَلَا تَكفُرُونِ) نهي، فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء لأنه رأس آية وإثباتها حسن في غير القرآن.

{جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (¬1)، وقد سبق القول في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} إلَّا أنَّ الصبر ههنا يحتمل الصبر على القتال، وذلك في آية (¬2) الاسترجاع {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصرة والتأييد (¬3) وبالتخلي لقلوبهم الخاشعة، قال الله تعالى في قصة موسى -عليه السلام-: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (¬4) (¬5) وفي قصة نبينا -عليه السلام- (¬6): {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬7). {أَمْوَاتٌ} جمع مائت (¬8) كأصحاب جمع صاحب، وقيل: جمع مؤيت كأشراف وشريف، وأحياء جمع حي وحيَّ على وزن فعيلة (¬9) في الأصل (¬10)، واختلفوا في حياة الشهداء؛ فمن الناس من ذهب إلى المجاز وإلى بقاء ذكرهم والثناء عليهم كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة القمر: 14. (¬2) في "أ": (وما ذلك بآية). (¬3) في "أ": (بالتأييد). (¬4) سورة الشعراء: 62. (¬5) الآية ليست في "ب". (¬6) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬7) سورة التوبة:40. (¬8) ذكر ابن سيده في المحكم (9/ 543) أن المائت: الذي لم يَمُتْ بعد. وحكى الجوهري عن الفراء: يقال لمن لم يمت إنه مائت عن قليل. وأما المَيْت: فهو الذي مات، وتجمع على أموات. ومات أصلها مَوِتَ مثل دامَ دَوِمَ. وتقول: مات، يَمُوت ويماتُ والأخيرة طائية، ومنه قول الشاعر: بُنَيَّ ياسَيِّدَةَ البناتِ ... عيشي ولا يؤمَنُ أَنْ تَمَاتِي وأما ما ذكره المؤلف من أن مؤيت تجمع على أموات فإني لم أجد -مؤيت- بالواو المهموزة في معاجم اللغة، ولكني وجدتُ مويت بالوأو غير المهموزة. قال ابن مِنِظور: إنَّ مَيِّت أصلها مَوْيت مثل: سيِّد سَوْيد. فأدغمنا الياء في الواو ونقلناه فقلنا: مَيِّت [لسان العرب "موت" (13/ 217) - جمهرة اللغة (7/ 130) - تاج العروس "موت"]. (¬9) في "ب" "أ": (فعيل). (¬10) انظر: لسان العرب (14/ 211).

موت التقيِّ حياةٌ لا انقضاءَ لها ... قد ماتَ قومٌ وهم في الناسِ أحياءُ (¬1) وهذا غير صحيح لقوله: {يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} وذهب بعضهم إلى أنهم لم يذوقوا الموت وإنما انسلخوا عن أشباحهم التي هي كالقوالب لهم وهم أجسام رقيقة حساسة من لطائف أشباحهم الكثيفة لا تبلى بعد الإخلاص، وهو غير صحيح لما روي أنه كان فيما يتلى (¬2): بلِّغوا عنا إخواننا أنَّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا (¬3)، وقال -عليه السلام-: "من أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءه، ومن كره لقاء الله كره اللهُ لقاءه" (¬4). والموت دون لقاء الله، وذهب بعضهم إلى بعث نفوسهم التي ذكرنا دون جثثهم الكثيفة (¬5) بعد ذوقهم الموت في ساعة لطيفة مقدار ما شاء الله لما روي أنَّ الله تعالى جعل أرواحهم في حواصل طيرٍ خضر تسرح في الجنة (¬6)، قيل: هي نفوسهم إذ النفس يعبّر عنها (¬7) بها عن الروح. روي أن جعفرًا (¬8) يطير مع ¬

_ (¬1) ذكر أن معروف الكرخي رؤي في المنام بعد موته وسئل: ما فعل الله بك؟ فذكره. هكذا ذكره ابن أبي الدنيا في "المنامات" (148)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 387)، والخطيب في تاريخه (13/ 207). (¬2) في "ب": (لما روي: بلغوا) وفي "أ": (لما روي كانوا فيما يتلى بلغوا). (¬3) رواه البخاري (2647، 2659، 2899، 3862، 3869)، ومسلم (677). (¬4) رواه البخارىِ (6142، 6143)، ومسلم (2683، 2684، 2686). (¬5) في الأصل "ب": (الكيفية). (¬6) يثمير إلى حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه ابن ماجه (1/ 466) والترمذي في سننه (4/ 176) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي صحيح مسلم بلفظ: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل" (3/ 1502). (¬7) (عنها) من الأصل فقط. (¬8) جعفر بن أبي طالب أبو عبد الله ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخو علي بن أبي طالب، وهو أسنُّ من علي بعشر سنين، هاجر الهجرتين فأقام بالمدينة اشهرًا، ثم أمَّرَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش غزوة مؤتة فاستشهد وكان عقر فرسه وهو أول من عقر في الإسلام، فقاتلَ حتى قُتِلَ، وقتله رومي فقطعه نصفين. وقال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شُغِلوا عن أنفسهم" أي بوفاته. [طبقات ابن سعد (4/ 22)؛ الاستيعاب (2/ 149)؛ أسد الغابة (1/ 341)؛ السير (6/ 206)].

الملائكة (¬1)، وأنَّ النبي -عليه السلام- (¬2) صلَّى بالأنبياء ليلةَ المعراج عند الصخرة، وفي حديث المعراج أنه كان بينه وبين موسى -عليه السلام- كلام، وكذلك بينه وبين إبراهيم وداود وعيسى عليهم (¬3) السلام (¬4). {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} ولنختبرنَّكم (¬5) بشيء، ولم يقل: بأشياء كراهة لإيهام تواتر الخوف (¬6) من جهات كثيرة ولم يكرر شيئًا (¬7)؛ لأن حروف العطف تغني عن التكرار، و"من" للتنويع أو للتبعيض (¬8). {وَالْجُوعِ} نقيض الشبع، والنقص ضد الزيادة و {الْأَمْوَالِ} جمع مال كالباب والأبواب، وهو اسم عامٌّ لجميع ما يمتلك ملك اليمين ويتمول {وَالْأَنْفُسِ} جمع قلَّة للنفس، وقيل: أراد به الولادة (¬9) وإنما أفرد (الثمرات) بالذكر مع ذكر الأموال، لأنه أراد ما سواها من مباحات الرزق على وجه الأرض، والمصيبة المحنة المصيبة (¬10) أو الفتنة المصيبة (¬11) {إِنَّا لِلَّهِ} اللام للتمليك، وفائدة قوله (¬12): {إِنَّا لِلَّهِ} قطع وجوه الخصومات كلها، إذ لا ينكر على أحد ¬

_ (¬1) ذكره ابن هشام في سيرته (3/ 333)، وأخرجه الطبراني في الكبير (1466)، والحاكم في المسندرك (3/ 209)، وابن عدي في الكامل (240/ 1). (¬2) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬3) في "ب": (عليه). (¬4) كما في حديث الإسراء المتفق عليه. (¬5) في "ب" الأصل: (ولنخبرنكم). (¬6) في "ب": (الحزن). (¬7) قال القرطبي في تفسيره (2/ 173): ("بشيء" لفظ مفرد ومعناه الجمع، وقرأ الضحاك "بأشياء" على الجمع، وقرأ الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشيء في هذا فاكتفى بالأول إيجازًا). اهـ. (¬8) قال الفراء: ("من" تدل على أن لكل صنف منها شيئًا مضمرًا فتقديره: بشيء من الخوف وشيء من الجوع وشيء من نقص الأموال). اهـ. انظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 162). (¬9) لم أجده، ولكن فسَّر الشافعي الثمرات موت الأولاد كما في القرطبي (2/ 174). (¬10) في الأصل: (والمحن الفتنة). (¬11) (أو الفتنة المصيبة) ليست في "أ". (¬12) ما بين (...) ليست في "أ".

فعل ما يملك فعله، وفائدة قوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} قطع الجزع عن النفس إذ لا بدَّ للمنقرض الفاني من الآفات، ولا وجه للجزع مما لا بدَّ منه {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} دعاؤه لهم، وذلك قضاؤه الخير لهم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي (¬1) يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬2)، وقال ابن أَحْمَر (¬3): صلَّى الإلة على النعمان والرسل (¬4) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} نزلت في شأن السعي بين الصفا والمروة (¬5) واتصالها بما قبلها أنه لما أخبر عن نبيه أنه يعلمهم ما لم يكونوا يعلمون اتبعه من علم ما لم يعلموه حياة الشهداء والاسترجاع والسعي بين الصفا ¬

_ (¬1) (هو الذي) ليست في "أ". (¬2) سورة الأحزاب: 43. (¬3) ابن أحمر هو عمرو بن أحمر بن العَمَرَّد بن تميم الباهلي. واختلف في نسب ابن أحمر وذكره محمَّد بن سلام الجمحي في الطبقة الثالثة من الإسلاميين، وهو من فحول الشعراء الذين يستشهد بشعرهم في اللغة. [المؤتلف والمختلف للآمدي (37) معجم الشعراء للمرزباني (214) طبقات فحول الشعراء للجمحي (2/ 571)]. (¬4) هو في ديوانه ص 53 ومثله قول السفاح بن بكير اليربوعي يرثي يحيى بن شداد: صلَّى على يحيى وأشياعه ... ربٌّ كريم وشفيعٌ مطاع انظر: القرطبي (2/ 177) - تهذيب اللغة (12/ 237) - معاني القرآن للزجاج (1/ 215). (¬5) أخرجه البخاري (3/ 497 - كتاب الحج) ومسلم (2/ 929 - كتاب الحِج) عن عروة قال: سألت عائشة فقلتُ لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، فقالت: بئس ما قلتَ يا ابن أختي، إن هذه لو كانت على ما أولتها عليه لكانت "لا جناح عليه أن لا يطوف بهما" ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا يهلون قبل أن يسلموا لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشَلَّل وكان من أهلَّ منها تَحَرَّجَ أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقالوا: يا رسول الله إنَّا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} قالت عائشة: وقد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

والمروة تصديقًا لخبره، {الصَّفَا} الصخرة الصلبة (¬1) الملساء جمع صفاة كحصا وحصاة، والمراد به: موقف الساعي عن خارج (¬2) المسجد مما يلي ركن الأسود في أسفل أبو قبيس (¬3). {وَالْمَرْوَةَ} حجارة رخوة، والمراد بها موقف الساعي مما يلي ركن العراقي (¬4)، و (الشعائر) معالم النسك واحدها شعيرة، يقال: بيني وبينه شعار أي علامة (¬5)، و (الحج) القصد (¬6)، وقيل: الإتيان مرة بعد أخرى، ومنه المحجة والاعتمار، وهو الإتيان بالعمرة. و (العمرة) إحرام لا يوجب الوقوف بعرفة، وأصلها في اللغة هو القصد والزيارة. قال الشاعر: لَقَدْ سما ابن (¬7) مَعْمِرٍ حينَ اعتمرْ ... مَغْزىً بعيدًا منْ بعيدٍ وخَبَرْ (¬8) و (الجناح) الإثم، وأصله من الجنوح وهو الميل، و (التطوع) تفعُّل من الطاعة، وهو في الشرع عبارة عن النفل، و (السعي) سُنَّة يجب بتركه الدم عندنا (¬9)، ................ .. ¬

_ (¬1) (الصلبة) ليست في "أ". (¬2) في "أ": (خار) وسقطت "ج". (¬3) الطبري (2/ 708)، والقرطبي (2/ 179). (¬4) الطبري (2/ 709)، وا لقرطبي (2/ 180). (¬5) قال القرطبي (181/ 2): (والشّعار العلامة؛ يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أعلمت، وقال الكميت: نُقتِّلهم جيلًا فجيلًا تَراهمُ ... شعائر قُربان بهم يُتَقَرَّبُ).اهـ (¬6) كما قال الشاعر المخبل السعدي: فأشهدُ من عوفٍ حلولًا كثيرةً ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا انظر: القرطبي (2/ 181)، البيان والتبيين (3/ 97)، وتاج العروس "حجج"، واللسان "حجج". (¬7) في "أ" "ي": (ابن) بالألف. (¬8) هذا الرجز للشاعر رؤبة بن العجاج يمدح عمر بن عبيد الله القرشي. وانظر: الطبري (2/ 712) والقرطبي (2/ 181)، وتاج العروس "ضبر". (¬9) قوله: "عندنا" يدل على أن الجرجاني ليس بشافعي؛ لأن مذهب الحنفية والثوري والشعبي أنَّ السعي ليس بواجب فإن ترك جبر بدم لأنه سُنَّة من سنن الحج. =

وعند الشافعي (¬1) (¬2) واجب يلزمه العود لها. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} لما ذكرنا كتمان اليهود أمر القبلة وغيره من الحق وهددهم على ذلك أتي بتصريح عقوبتهم لاتِّعاظ (¬3) السعداء. و {الْبَيِّنَاتِ} جمع بيِّنة، وهي المتضحة وهي صفة للآية و (لعنة اللاعنين) دعاؤهم باللعن والسحق، والمراد بهم: الملائكة عن قتادة (¬4) والربيع (¬5)، والبهائم عند احتباس المطر عن مجاهد (¬6) وعكرمة (¬7)، وما سوى الثقلين حين يصيح الكافر في قبره عن السدي (¬8)، والمتلاعنون (¬9) إذا ¬

_ = وهو قول مالك في العتبية. كما في القرطبي (2/ 183) في حين أنَّ الجرجاني معروف أنَّه شافعي المذهب كما في السير (18/ 432)، والعبر (3/ 277) للذهبي، والصفدي في "الوافي" (19/ 49)، وترجم له السبكي في طبقاته (2/ 491). (¬1) هو محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، الإِمام، عالم عصره، ناصر الحديث، فقيه الملة، وهو القرشي المطلبي المكي نزيل مصر، قال أحمد: إن الله تعالى يقيِّض للناس في رأس كلِّ مائة سنة من يعلِّمهم السنن وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب، فنظرنا فإذا رأس المائة عمر بن عبد العزيز، ورأس المائتين الشافعي، من تصانيفه "الأم" و"الرسالة" ومن أقواله: "الفتوة حلي الأحرار"، و"من تزين بباطل هتك ستره"، و"أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله". ولد سنة مائة وخمسين هجرية. قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل إلى أن مات، مآثره عظيمة، وحكمه جسيمة، وهو سيد الفقهاء. مات في آخر رجب سنة أربع ومائتين. [سير أعلام النبلاء (10/ 5)؛ طبقات الحفاظ (1/ 157)؛ تهذيب التهذيب (9/ 23)؛ تهذيب الأسماء واللغات (1/ 67)]. (¬2) ذهب الشافعي وأحمد إلى ركنيته وهو المشهور من مذهب مالك. انظر: القرطبي (183/ 2). (¬3) في "أ" "ي": (لإيقاظ). (¬4) عزاه القرطبي لقتادة (2/ 186)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (1/ 165). (¬5) عزاه القرطبي للربيع (2/ 186). (¬6) عن مجاهد عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 162) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وسعيد بن منصور. (¬7) عن عكرمة عزاه السيوطي في الدر (1/ 162) لعبد بن حميد وابن جرير. (¬8) ابن جرير في تفسيره (2/ 56) عن السدي عن البراء بن عازب. (¬9) في "أ": (الملاعنون).

لم يكونوا أهلًا لها عن ابن مسعود مرفوعًا (¬1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إنما استثنى التائبين (¬2) لئلا ييأسوا فيكفروا ولا يتوبوا. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} قيد الوصف بالموت كفرًا يوهم أن توبتهم لا تقبل وهم مكلفون {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} إنما هي لعنة المؤمنين فيما تشاهد، ولعن الكفار بعضهم بعضًا يوم القيامة، ولعن الكافر نفسه يقول: لعن الله (¬3) الظالم وهو ظالم. {خَالِدِينَ فِيهَا} أي في اللعنة أو النار (¬4) {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} لا يزال ثقله وشدته عنهم [{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يمهلون عند إدخالهم النار أو عند انقضاء آجالهم] (¬5). {وَإِلَهُكُمْ} الواو للاستئناف، واتصالها بما قبلها أنه لما ذكر للأمة الحنيفة فروع الدين من الصبر والصلاة والسعي بين الصفا والمروة أتى بذكر الأصل ليزيدهم مسارعة إليها، وقيل: لما ذم الكفرة أعقبه ما فيه الخلاص من الكفر ليتنبَّه من قدر له التنبيه، ورفع الضمير المستثنى لأنه على المبتدأ الأول (¬6) وهو قوله {وَإِلَهُكُمْ} ولما ابتدأ فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لم يجز ¬

_ (¬1) ورد عن ابن مسعود عند البيهقي في شعب الإيمان (5192)، وذكره القرطبي في تفسيره (2/ 187) ولكنه من كلام ابن مسعود ولم يذكر مرفوعا والله أعلم. (¬2) (التائبين) ليست في "أ". (¬3) (الله) ليست في "أ". (¬4) الذي قال أنهم خالدون في اللعنة ابن مسعود ومقاتل كما في "زاد المسير" (1/ 167)، والقرطبي (2/ 190). وأما من ذكر أن الخلود في النار، فقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/ 167) دون أن ينسبه لأحد. وذكر الطبري في تفسيره (2/ 59) عن أبي العالية: خالدين في جهنم في اللعنة. (¬5) ما بين [...] ليس في "ب". (¬6) وقيل: رفع "هو" على أنه بدل من اسم "لا" على المحل. إذ محله الرفع على الابتداء أو هو بدل من "لا" وما عملت فيه لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء ولا يجوز أن يكون "هو" خبر "لا" لأنها لا تعمل في المعارف بل الخبر محذوف التقدير: لا إله لنا. [الكتاب (1/ 345) - البحر (1/ 463) - الدر المصون (2/ 197)].

في الاستثناء إلا الرفع لأن المستثنى إما ينتصب على الفعل تشبيهًا بالمفعول وإما ردًّا على المستثنى منه ولا فصل (¬1) هاهنا؛ لأن الكلام غير تامِّ دونه، إذ الخبر مضمر تقديره: لا إله لنا ولكم إلا الله، ولا ينتصب على الردّ لأن موضع المستثنى منه رفع على الابتداء وإن انتصب بلا النفي على البناء. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) جمع سماء وهي مثل حمامات وحمامة، والسماوات والسما بمعنى، وإنما جمع السماوات ولم يجمع الأرض لأن السموات من أجناس مختلفة والأرض من جنس واحد وهو الصعيد (¬3)، وقيل: لأن منافع السماوات متصلة إلينا إمَّا دنيوية أو عقبوية، ولا يصل إلينا إلا منفعة أرض واحدة، وقيل: لأن السموات بعضها فوق بعض والأرض ملصق بعضها ببعض فكأنها واحدة، وقيل: لأن الأرض مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع وإنما جمعت أرضين جمع سلامة جمع الذكور، نحو ستين نادرًا وإنما حركت الراء لأنها متحركة في الأصل، تقول: أرضيت الخشبة تورض أرَضًا، والأرَضة (¬4) الدابَّة. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} و {اللَّيْلِ} وقت الظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، الواحد ليلة والجمع ليال (¬5) مثل أراضٍ، وقيل: هو مقلوب ¬

_ (¬1) في "ب": (والأفضل) وهو خطأ. (¬2) (والأرض) من الأصل فقط. (¬3) في "ب": (وا لأرض) وهو خطأ. (¬4) قال القرطبي (2/ 192): (وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحَّد الأرض لأنها كلها تراب). اهـ. وكذا ذكره البغوي في تفسيره (1/ 35)، والسمعاني في تفسيره (2/ 116). (¬5) الليل: اسم جنس فيفرق بين واحده وجمعه تاء التأنيث، فيقال: ليلة وليل كتمرة وتمر. وجمعها على ليال، ومنه قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 2]، بالتنوين لإضافة عشر إليها، والقياس أن يقال "ليالي" بالياء، وقيل أن الليالي جمع ليلة وليس جمع ليل وأن ليل لا يحفظ له جمع، وهذا القول هو الذي اختاره السمين الحلبي في تفسيره. [الدر المصون (2/ 198) - البحر (8/ 467)].

ليايل (¬1). {وَالنَّهَارِ} ضدّ الليل وجمعه النُّهر (¬2)، واختلافهما مخالفتهما في اللون والساعات أو تعاقبهما بأن يعقب كل واحد منهما الآخر. {وَالْفُلْكِ} جمع وواحد، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} إلَّا (¬3) أنَّ الضمة في الواحد كالضمة في المهُر وفي الجمع كالضمة في الأُسْد، وجري الفلك اندفاعها طافية على وجه الماء، وما ينفع الناس البضاعات، و (إحياء الأرض بعد موتها) إثارتها (¬4) واصلاحها للإنبات بعد تقطعها {وَبَثَّ} فرق ونشر (¬5) {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} اسم عام لكل نفس تدبُّ على وجه الأرض {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} صرفها إلى الوجوه المقدَّرة واسكانها مرة وتهييجها أخرى {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} هو الغيم المذلل بينهما لا يرتفع فيلحق بالسماء ولا ينحدر فيلصق بالأرض، وهي مطيعة كما قال زيد بن عمرو (¬6): إذا هي سِيْقَت إلى بلدةٍ ... أطاعَتْ فصبَّت عليها سجالا ¬

_ (¬1) في "أ": (ليال). (¬2) قال الراغب: "النهار" هو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وظاهر اللغة أنه من وقت الإسفار. وقال ثعلب والنضر بن شميل: هو من طلوع الشمس. ويجمع على نُهُر أو أَنْهِرَة نحو قذال وقُذُل وأَقْذِلَة. وقيل: لا يجمع لأنه بمنزلةِ المصدر، والصحيح أنه يجمع، ومنه قول الشاعر: لولا الثريدان لَمُتْنَا بالضُّمُر ... ثريد ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُر [المفردات للراغب ص 528 - اللسان "نهر"- الدر المصون (2/ 199)]. (¬3) في الأصل: (لا). (¬4) في الأصل: (إعادتها). (¬5) (انظر: [تفسير الطبري (3/ 275) - ومجاز القرآن (1/ 62) - وتفسير السمعاني (2/ 118)]. (¬6) هو والد الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة سعيد بن زيد، توفي قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام. وكان زيد بن عمرو بن نفيل قد ترك عبادة الأوثان في الجاهلية ولا يأكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وأخباره ذكرها ابن كثير وغيره مطولة، والبيت المذكرر ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ضمن ترجمته في مجموعة من الأبيات. [البداية والنهاية لابن كثير (2/ 237) - الصحابة لأبي نعيم (1/ 250) - أسد الغابة (2/ 143) - الإصابة (1/ 569)].

واللام في قوله {لَآيَاتٍ} (¬1) للتأكيد وهي تدخل على خبر "أنَّ" أو على اسمها إذا حال بينهما اسم مجرور (¬2)، وهذه الآيات يقع العلم ببعضها اكتسابًا من أن تيسر إحضارها، والمراد بالعقلاء المعتبرون الذين غلب عقلهم على هواهم لحصول فائدة الآيات، وقيل: المراد به المخاطبون للزوم الحجة إياهم. {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي يتخذ لله أندادًا من دونه إذ لا موازي لله تعالى وكل شيء دونه ولأنهم لم يكونوا يزعمون أن له شريكًا موازيًا إذ كانوا يقولون في تلبيتهم: (تملكه وما ملك) (¬3). والحب على مراتب الارتضاء ورفع التشبيه بحبهم تسمية الله وان لم يعرفوا ذاته حقيقة على أنه يجوز حبُّ غير المعروف كحبِّنا كلَّ عبد صالح، ثم أن المؤمنين أشد حبًا لله لأنهم يعبدونه ليتقربوا إليه، والكفار يعبدون الأصنام ليتقربوا إلى الله زلفى، فمن أحب شيئًا لنفسه أشد حبًا له ممن يحب شيئًا لغيره، ولأن المؤمنين يفدون أنفسهم في سبيله ثم لا يندمون، والكفار يفدون أنفسهم في سبيل الطاغوت ثم يندمون. {وَلَوْ يَرَى (¬4) الَّذِينَ ظَلَمُوا} في محلِّ نصب على قراءة التاء (¬5) وفي محل الرفع على قراءة الياء (¬6)، و {إِذْ} في محل النصب وجواب {لَوْ} على قراءة التاء لرأيت أمرًا عظيمًا أو لرأيت أن القوة لله جميعًا، وعلى ¬

_ (¬1) في الأصل: (لأن). (¬2) في الأصل: (مجرد). (¬3) أي أنهم كانوا في الجاهلية يُلَبُّون في حجهم ويقولون: "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك". (¬4) (ولو يرى) من الأصل فقط. (¬5) هي قراءة أهل المدينة والشام كما في القرطبي (2/ 204). وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب كما في "زاد المسير" (1/ 170). (¬6) قراءة أبي عامر ونافع (ولو ترى) بتاء الخطاب، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو والكوفيين عاصم وحمزة والكسائي: (ولو يرى) بياء الغيبة. [الكشف (1/ 271) - ابن عطية (1/ 474) - البحر (1/ 471)].

قراءة الياء: لتابوا قبله ولما عبدوا الأوثان، وحذف جواب (لو) لتعظيم الشأن والحال (¬1) كما في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (¬2). {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} بأنَّ القوة لله، والقوة ما يمنع الانثناء (¬3) وهي ضدّ الضعف وهو عارض دخل بين البدل والمبدل، وإن قرأت بكسر الألف لم تحتج إلى إضمار. و (التبرؤ) تفعّل البراءة، وذلك قولهم: {أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} (¬4) {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} أي: انقطعت بهم سبيل النجاة وهي الأرحام والوسائل، قال عليه الصلاة والسلام (¬5): "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (¬6). والسبب قد يعبَّر به عن الطريق، قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} (¬7) {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} (¬8). ¬

_ (¬1) اختلف النحويون في تقدير جواب "لو"، فمنهم من قدره قبل قوله: {أنَّ الْقُوَّةَ} ومنهم من قدره بعد قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} وهو قول أبي الحسن الاْخفش والمبرد، وعلى القول الأول يكون "أن القوة" معمولا لذلك الجواب، والتقدير: لعلمتَ أيها السامع أن القوة لله جميعًا، ويكون الخطاب للنبي ولكل سامع، وعلى القول الثاني يكون التقدير: لقلت إن القوة لله جميعًا. [الدر المصون (2/ 213) - ابن عطية (1/ 474)]. (¬2) سورة هود: 80. (¬3) في "أ": (الانتفاء). (¬4) سورة القصص: 63. (¬5) (الصلاة) من "ب"، وفي "ي": (عليه الصلاة). (¬6) هذا الحديث رواه أحمد في الفضائل (1333)، وعبد الرزاق في المصنف (10354)، والطبراني في الكبير (2633، 2635، 11621، 20/ 27)، وفي الأوسط (5606، 4132، 6609)، وبُحْشُل في "تاريخ واسط" (149)، وابن عدي في الكامل (1/ 271)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 34، 7/ 314)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 271)، والبيهقي في السنن (7/ 63، 64، 114)، والضياء في المختارة (1/ 197، 198، 398). (¬7) سورة الكهف: 85. (¬8) سورة الكهف: 89.

{فَنَتَبَرَّأَ} منصوب على جواب التمني (¬1) بالفاء (¬2)، وقوله: {كَذَلِكَ} أي كما أخبرناك {أَعْمَالَهُمْ} أي جزاء أعمالهم، وقيل: أعمالهم التي أحصاها بأعيانها، {حَسَرَاتٍ} جمع حسرة، وهي أشد الندامة يجعل صاحبها كليلًا حسيرًا، وقيل: هي كشف الندامة من قولك: حسر عن ذراعه (¬3)، وذلك يكون في الحالة الثانية لأنهم يسرُّون الندامة عند رؤية العذاب. {مِمَّا فِي الْأَرْضِ} إن جعلتها للتبعيض أو أقمتها مقام شيء، والآية محتملة موقوفة على التفسير، قاله (¬4) الفراء، وعن الأخفش قريب منه، وإن جعلتها صلة فالآية عامة بعوض التخصيص {حَلَالًا} نصب على الحال أو القطع (¬5) ¬

_ (¬1) في "أ": (النهي). (¬2) قوله: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} منصوب بعد الفاء بـ "أَنَّ" مضمرة في جواب التمني الذي أشربته "لو" ولذلك أُجيبت بجواب "ليت" الذي في قوله: "يا ليتني كنت معهم فأفوز" وإذا أشربت معنى التمني فإنها تحتاج إلى جواب وهو مقدر في الآية، والتقدير: لتبرَّأنا. وقيل: الفعل منصوب ب "أنْ" مضمرة على تأويل عطف اسم على اسم وهو "كَرَّة" والتقدير: لو أنَّ لنا كرةً فنتبرّأ. فهو كقول الشاعر [ينسب لميسون بنت بحدل]: لَلُبْس عباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إِلَيَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ وقال أبو البقاء: "فنتبرأ" منصوب بإضمار "أن" تقديره: لو أن لنا أن نرجع فنتبرأ. [الإملاء (1/ 74) - البحر (1/ 374) - الأشموني (4/ 32) - الدر المصون (2/ 219)]. (¬3) في "ب": (ذراعيه). (¬4) في الأصل: (قال). (¬5) في "حلالًا" خمسة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنها حال، وهو الذي ذكره المؤلف. الوجه الثاني: أن تكون مفعولاَ به لـ "كُلوا". الوجه الثالث: أنها نعت لمفعول محذوف، والتقدير: شيئًا أو رزقًا حلالًا - ذكره مكي في كتابه المشكل (1/ 80) واستبعده ابن عطية. الوجه الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، التقدير: أكلًا حلالًا. ذكره أبو البقاء. الوجه الخامس: أن يكون حالًا من الضمير العائد على "ما"، قاله ابن عطية. وأما "طيبًا" ففيها ثلاثة أوجه إعرابية: أحدها: أن يكون صفة لـ "حلالًا". =

وهو ضد الحرام، و (الخطوة) ما بين القدمين، والمراد بالخطوات مسالكه ومذاهبه. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} إذا قيل أن زيدًا منطلق أخبر عن انطلاقه، وإذا قيل إنما زيدٌ منطلق فكأنه جعل الانطلاق صفة فقط وأمره على المجاز إذ هو غير واجب {بِالسُّوءِ} (¬1) ما يسوء العاقل ويوحشه، وهو مصدر أقيم مقام الاسم {وَالْفَحْشَاءِ} الخصلة المجاوزة عن الحد من البشاعة {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قيل: تحريم السائبة والوصيلة (¬2) والحام (¬3)، أو تحريم اليهود ما ليس بمحرم عليهم في التوراة أو غير ذلك من الكفر والضلالة. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا} نزلت فى كفار قريش، وعن ابن عباس (¬4): أنها في اليهود ومنهم رافع أو أبو رافع بن خارجة والكناية عما لم يسبق ذكره مثل قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (¬5) وقيل: راجعة إلى {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا}. والإلفاء الوجود، والآباء جمع أب، والهمزة التي هي فاء الفعل مبدلة لاجتماع الهمزتين {أَوَلَوْ} همزة استفهام دخلت على حرف العطف كقوله: ¬

_ = والثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف أو حالًا من المصدر المعرفة المحذوف، أي أكلًا طيبًا. والثالث: أن يكون حالًا من الضمير في "كلوا" تقديره مستطيبين، قاله ابن عطية. [تفسير ابن عطية (1/ 477) - الإملاء (1/ 74) - الدر المصون (2/ 222)]. (¬1) في "ب": (سواء) وهو خطأ. (¬2) في الأصل: (الوسيلة). (¬3) هذا القول اختاره الطبري في تفسيره (3/ 40)، وردَّ الله زعمهم وكذبهم عليه فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (3/ 42)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1511) كلاهما من طريق سلمة بن الفضل عن محمَّد بن إسحاق به إلى ابن عباس، وفيه (رافع بن خارجة) وورد عند الطبري في تفسيره (3/ 46) من طريق يونس بن بكير عن محمَّد بن إسحاق به إلى ابن عباس وفيه (أبو رافع بن خارجة). (¬5) سورة القدر: 1.

(أفلم) (أثم) ولم ينف العقل عن آبائهم ولكن بيَّن قبح إصرارهم على تقليد من لا يجوز تقليده، كما يقال: أنا على رأي شيخي. وقيل: لا يعقلون شيئًا من أحكام الشريعة إذ ذلك لا يعقل إلا بالوحي أو البناء عليه. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: مثل واعظ الذين كفروا، ويحتمل أن التشبيه مراد {بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} و (¬1) إن اتصل بـ {الَّذِي يَنْعِقُ} كما في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} مراد بالنبات وإن اتصل بالماء، وهذا سائغ في مجاز الكلام، وقيل (¬2): {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في دعائهم الأصنام {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} بالأنعام، والنعيق صوت الراعي بالغنم (¬3)، الدعاء (¬4) والنداء واحد جمع للتأكيد يقعان جهرًا وخفية، وقيل: النداء أعمُّ ويكون عند رفع الصوت. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أفادت حكمين (¬5): أكل المستطاب من الحيوان كالأنعام والسمك والطيور والصيود دون المستخبث من الحيوان كالفواسق والمسوخ والحشرات والجوارح، والثاني: الاعتقاد بأنَّ الجميع رزقٌ من الله. {إِنَّمَا حَرَّمَ} (ما) الكافة، و (ما) اسم عند من قرأ (الميتة) بالرفع (¬6) ¬

_ (¬1) في الأصل: (أو). (¬2) في "ب": (فقال). (¬3) ومنه قول الأخطل: فانعق بضأنك ياجرير فإنما ... مَنَّتكَ نفسك في الخلاءِ ضلالا أي أن مثلهم كمثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نُعِقَ بها ولا تعقل ما يقال لها، وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - رواه عنه الطبري في تفسيره. [ديوان الأخطل ص 392 - مجاز القرآن (1/ 64) - تفسير السمعاني (2/ 127) - الطبري (3/ 45)]. (¬4) في "ب" "أ" الأصل: (الرعا). (¬5) في الأصل: (حكيهن). (¬6) الذي قرأ "الميتةُ" بالرفع هو ابن أبي عبلة، وتخريج هذه القراءة هو أن تكون "ما" موصولة و"حرمَ" صلتها، والعائد محذوف، التقدير: حَرَّمَه، والموصول وصلته في محل نصب اسم "إِنَّ" و"الميتةُ" خبرها. وعلى قراءة النصب "الميتةَ" وهي قراءة =

والميتة غير الزكيَّة حكمًا، وما مات حتف أنفه في اللغة {وَالدَّمَ} السائل إذا أُسْفِح السفح، والمراد ب (لحم الخنزير) كله، وتخصيص الثلاثة بالتحريم مع بقاء محظوره على الأصل للتأكيد كما في نهي الظلم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي تسمية الأوثان عند الذبح والإهلال، (الاضطرار) المجاعة عند العجز عن غيره كما قال: {فَمَنِ (¬1) اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} و {غَيْرَ} نصب على الحال، و (البغي) الطلب ههنا ابتغاء المحظور عمدًا وظلمًا على نفسه (¬2)، و (العدْو) مجاوزة الحد، وههنا عدو حد الاضطرار، والتناول بعد الاستغناء عن السدي والمؤرخ وابن عرفة والأزهري، وقيل أن يكون سفره في معصية من ظلم أو عدوان، والأول أصح، و (الإثم) الجناح. {وَيَشْتَرُونَ} (¬3) بما أنزل الله وإنما قال: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا (¬4)} لأنه ردّ الكلام إلى المعنى وهو التحصيل. قال -عليه السلام-: "إنَّ المؤمن يأكل في مِعىً (¬5) واحد، والمنافق يأكل في سبعة أمعاء" (¬6)، وقال الشاعر: كلوا في نصف بطنِكمو (¬7) تعفوا ... فإنَّ زمانكم زمن خميص (¬8) ¬

_ = الجمهور على أن "ما" كافة مهيئة لأنَّ في الدخول على هذه الجملة الفعلية والفاعل ضمير يعود على الله -عَزَّ وّجَلَّ-، و"الميتةَ" مفعول به. [البحر (1/ 486) - القرطبي (2/ 216) - الشواذ ص 11 - الدر المصون (2/ 235)]. (¬1) في الأصل: (من). (¬2) (نفسه) لا توجد في الأصل و"أ". (¬3) في "ب". (تشترون). (¬4) (نارًا) من "أ". (¬5) في الأصل "ي": (معاء). (¬6) البخاري (5078، 5081، 5082)، ومسلم (2060). (¬7) في الأصل: (بطونكم). (¬8) البيت من الوافر، وقد ذكر غير منسوب في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 28)، وشرح أبيات سيبويه (1/ 374)، وخزانة الأدب (7/ 537)، وشرح المفصل (5/ 8)، والكتاب (1/ 210)، والمقتضب (2/ 172)، وهمع الهوامع (1/ 50).

وإنَّما سمِّي الرشا نارًا (¬1) باسم المال لأنها تصير نارًا، وتكليم الله على وجوه؛ قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} (¬2) الآية، فالمنفي أحد الوجوه، المثبت الآخر، وعلى الجنس أنه على المجاوز والمراد به الإخبار عن شدة غضبه عليهم وطرده إياهم {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} ولا يثني عليهم، وقيل: لا يبدل سيئاتهم حسنات و (المغفرة) والغفران بمعنى، وأصله الستر، ومعناه إلباس الغَفْر (¬3) وإنَّما اشتروا العذاب باشتراء موجبه بموجبها (¬4). وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ} على التعجب {عَلَى (¬5) النَّارِ} على موجبها، وقيل: ما أدوم حبسهم عليها، وقيل: ما أجرأهم عليها، كما يقال: ما أصبر فلان على القتال (¬6). {ذَلِكَ} إشارة إلى العذاب (¬7) أو نحوه {نَزَّلَ الْكِتَابَ} التوراة (¬8) أو الجنس و (الاختلاف) ضد الاتفاق، وهو أن يخالف كل طائفة غيرها. ¬

_ (¬1) في "ب": (مالًا). (¬2) سورة الثمورى: 51. (¬3) في الأصل: (العفر) وفي بقية النسخ (العفو) وكلها خطأ. (¬4) في الأصل: (لموجبها). (¬5) (التعجب على) ليست في "ب". (¬6) قال القرطبي (2/ 236): (قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم والله عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك عليه). اهـ. (¬7) قال الطبري: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي أن الله جل ثناؤه أشار بقوله "ذلك" إلى جميع ما حواه قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ....} أي ما ذكره من خبره عن أفعال أحبار اليهود وما أعدَّ لهم من العقاب. وعلى ذلك يكون هناك وجهان من الإعراب في "ذلك": الرفع على أنه فاعل بفعل محذوف، التقدير: وجب لهم ذلك، أو أنه مبتدأ وخبره "بأن الله" أو أنه خبر والمبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك، والإشارة إلى العذاب. أما الوجه الثاني فهو النصب، التقدير: فعلنا ذلك. [تفسير الطبري (3/ 72) - الدر المصون (2/ 244)]. (¬8) في الأصل: (التورية).

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} نفي حُجَّة من يستدل بفضيلة قبلته كإعجاب اليهود بالبيت المقدَّس المحدق بالصخرة التي عليها المعراج، وإعجاب النصارى بسراج الدنيا، وإعجاب موسى بقبلة إبراهيم ومنشأ إسماعيل (¬1) ومختلف الحاج ومأمَن الوحش، وبيَّن الله أنَّه لا برَّ (¬2) في تولية الوجه قِبل المشرق والمغرب بلا إيمان صحيح وصلاة مجزية وخصلة محمودة، إذ التوجه يتفق من الصبيان والمجانين والدوابّ ثم لا يستحقون مدحًا أو ذمًا، وإيصالها بما قبلها من حيث ذكر الاختلاف في الآية السابقة {قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} نحوه هذا من قبل فلان أي من جهته، ولي حق قبل فلان أي: عنده، وما لي به قبل أي: طاقة، ورأيته قبلًا، أي: معاينة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} قال الفراء: آمن بالله خير البرِّ على الاكتفاء بالمعنى الدالِّ في الاسم على المصدر (¬3) كما قيل: قليل همّه والعيب جمُّ ... ولكن الرب الغنىّ ربٌّ كريم وقيل: المصدر يُطلق (¬4) بمعنى الاسم كما في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} (¬5) أي هاديًا (¬6)، أي: ولكن البارَّ من آمن بالله، وقيل (¬7): الحذف تقديره ولكن البرَّ برّ من آمن بالله (¬8)، وقيل: ولكن ذا البرِّ من آمن بالله (¬9) كما قال: ¬

_ (¬1) في "ب": (ابن إسماعيل). (¬2) في الأصل: (ندّ). (¬3) عبارة الفراء في كتابه [معاني القرآن (1/ 104)] عند تعليقه على هذه الآية {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} قال: إنه من كلام العرب أن يقولوا: إنما البر الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته، فيجعل الاسم خبرًا للفعل والفعل خبرًا للاسم لأنه أمر معروف المعنى. وأما البيت الذي ذكره المؤلف فلم أجده لا عند الفراء ولا عند غيره. (¬4) في الأصل و"ي ": (تطلق). (¬5) سورة طه: 10. (¬6) في الأصل: (هديًا) وهو خطأ. (¬7) في "ب": (ولكن). (¬8) ذكره القرطبي في تفسيره (2/ 238) ولم ينسبه لأحد. (¬9) في هذه الآية: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} خمسة أوجه إعرابية:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت ... فإذا هي إقبال وإدبار (¬1) والإيمان بالله الاعتراف بوحدانية الله وأسمائِهِ وصفاتِهِ وباليوم الآخر أنه واجب بوعد الله {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (¬2) وبالملائكة أنهم عباد الله الروحانيون لا يطمعون وعن العبادة لا يفترون و {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬3) {وَالْكِتَابِ} أنه كلام الله ووحيه ومقوله، قاله قولًا ولم يخلقه فعلًا (¬4) {وَالنَّبِيِّينَ} أنهم دعاة (¬5) إلى الله بوحي منه إليهم لا يتقوَّلون ولا يحرِّفون ولا يعزلون ولا ينال ولي من الشرف ما ينالون {عَلَى حُبِّهِ} كناية عن اسم الله تعالى، وعن ابن مسعود والسدي والشعبي عن المال (¬6) ولـ (ابن السبيل) ثلاثة معانٍ: مار الطريق وهو الضيف (¬7)، ¬

_ =الوجه الأول: أن "البر" اسم فاعل، فعلى هذا لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويل لأن البر من صفات الأعيان كانه قيل: ولكن الشخص البر من آمن. الوجه الثاني: أن في الكلام حذف مضاف من الأول تقديره: ولكن ذا البرِّ من آمن. الوجه الثالث: أن يكون الحذف من الثاني، والتقدير: ولكنَّ البرَّ بِرُّ من آمن. وهذا تخريج سيبويه واختياره. الوجه الرابع: أن يطلق المصدر على الشخص مبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ. الوجه الخامس: أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل نحو: رجل عَدْلٌ، أي عادل، وهذا رأي الكوفيين. [الكتاب (1/ 108) - معاني القرآن (1/ 104) - البحر (2/ 2) - ابن عطية (1/ 492)]. (¬1) البيت للشاعرة الخنساء وهو في ديوانها ص 383، وقد ذكر في الأشباه والنظائر (1/ 198)، وخزانة الأدب (1/ 431)، وشرح أبيات سيبويه (1/ 282)، والمقتضب (4/ 305). (¬2) سورة الجاثية: 22. (¬3) سورة التحريم: 6. (¬4) هذا الكلام يدل على أن الجرجاني لم يكن معتزليًا فهو يخالف مذهب المعتزلة القائلين بخلق القرآن. (¬5) في "أ": (دعاؤه). (¬6) الذي ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في هذه الآية قال: أن يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر. وورد عن السدي في هذه الآية قال: إن هذا شيء واجب في المال حق على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة. وورد عن الشعبي قال: على الرجل حق في ماله سوى الزكاة، وكل هذه الروايات عند الطبري (3/ 79). (¬7) عزاه ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 179) لسعيد بن جبير والضحاك ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج.

والمنقطع عن ماله وأهله وهو مستحق الزكاة (¬1)، والغازي وإعانته قربة وربما يستحقُّ من الزكاة {وَفِي الرِّقَابِ} إعانة المكاتبين (¬2)، وقيل: اشتراء (¬3) المماليك وإعتاقهم (¬4) {وَالصَّابِرِينَ} المتعففين المتشبِّهين بالأغنياء {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} فيكون عطفًا على ابن السبيل، وإنما في (¬5) الصبر خصال البرّ فينصب الصابرين على محل الممدوح، قال: إلى الملك القَرْم وابن الهُمام ... وليث الكَتيبَة في المُزْدَحَم وذا الرَّاي حينَ تَعُمُّ الأمورُ ... بذاتِ الصَّليلِ وذاتِ اللُّجمْ (¬6) {الْبَأْسَاءِ} المصيبة الشديدة {وَالضَّرَّاءِ} الحالة ذات الضرورة (¬7)، وقال الأزهري (¬8): البأساء في المال والضراء في النفس، و {الْبَأْسِ} الشدَّة وأكثر استعماله في الحرب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وهذا فصل مبتدأ في الأحكام نزلت في الأوس والخزرج، قال الأوس للخزرج: والله لو تأخر الإسلام لقتلنا بكلِّ عبدٍ مِنَّا حُرًّا منكم، وبكلِّ أنثى ذكرًا منكم، وقيل: نزلت في حيَّين من العرب غيرهما (¬9)، و {الْقِصَاصُ} مأخوذ من القَص وهو القطع، ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في تفسيره (3/ 82)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 179) وعزاه لأبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى. (¬2) هذا مروى عن ابن عباس وعلي بن أي طالب والحسن وابن زيد والشافعي. انظر: زاد المسير (1/ 179). (¬3) في الأصل: (اشتما). (¬4) روي عن مجاهد عن ابن عباس وبه قال مالك بن أنس وأبو عبيد وأبو ثور واحد أقوال أحمد. انظر: زاد المسير (1/ 179). (¬5) في "ي" "أ" بدل (وإنما في) والثاني. (¬6) البيت في تفسير الطبري (3/ 89). وانظر: خزانة الأدب للبغدادي (1/ 415)، والإنصاف (2/ 469)، وشرح قطر الندى ص 295، ومعاني القرآن للفراء (1/ 105)، وكلها بلا نسبة. (¬7) في "أ" "ي ": (الضرر). (¬8) تهذيب اللغة "بئس " (13/ 107). (¬9) روي ذلك عن الشعبي أن سبب نزول الآية هو أنه كان بين حيين من أحياء العرب قتال =

يقال: قصصت ما بينهما، وقيل: القصاص تبعة على أثر الجناية بالمماثلة، والقصاص واجب في الحال بإيجاب الله تعالى، فأمَّا الاقتصاص غير واجب لا يجبر عليه كما في العقوبة والعاقبة، و {الْقَتْلَى} جمع قتيل كالمرضى جمع مريض، والمراد: السوية بين المسلمين جميعا وضيعهم وشريفهم كما في قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. وقال-عليه السلام- (¬1): "المسلمون تتكافأ (¬2) دماؤهم" (¬3) الخبر (¬4) و {الْحُرُّ} الذي لا رقَّ عليه {وَالْعَبْدُ} الرقيق {وَالْأُنْثَى} زوج الذكر. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} فأي قاتل عفي من أخيه المقتول حق في القصاص فعلى من لم يعفُ حصته من الأولياء {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وعلى القاتل {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} و (المعروف) اسم لكلِّ خير و (الأداء) اسم من التأدية، وهي التسليم، و {ذَلِكَ} إشارة إلى حكم العقوبة، والمراد بـ (الاعتداء) الرجوع إلى القصاص، ويحتمل أن المراد به أي الثلاثة: الرجوع والامتناع من الأداء والاتباع بالمنكر (¬5). {عَذَابٌ أَلِيمٌ} الاقتصاص من الراجع إلى القصاص وقيل: عذاب الآخرة. ¬

_ =وكان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا: نقتل بالعبد منَّا الحر منكم، وبالمرأة الرجل، فنزلت هذه الآية. وقد وصله الطبري في تفسيره عن الشعبي. [أسباب النزول للواحدي ص 49 - العجاب لابن حجرص 239 - الطبري (933) - القرطبي (2/ 239) - تفسير الخازن (1/ 106)]. (¬1) (السلام) ليست في "ب". (¬2) في "أ": (يتكافأ). (¬3) رواه أبو داود (2751)، وابن ماجه (2683)، وابن أبي شيبة (27968)، والمنتقى لابن الجارود (771، 1073)، والبزار (486)، والحاكم (2625)، والبيهقي (8/ 29). وإسناده صحيح. (¬4) في "ب": (الجزاء) وهو خطأ. (¬5) المتعين في هذه الآية: {فَمَنِ اعْتَدَى} أي اعتدى فقتل بغير حق بعد أخذه الدية فله عذاب أليم، وهذا تفسير مجاهد وقتادة والربيع والحسن وغيرهم، رواه عنهم الطبري وابن أبي حاتم، ولذا يقول عليه الصلاة والسلام: "لا أُعافى رجلًا قتل بعد أخذه الدية" أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 67) عن سمرة مرفوعًا. [الطبري (3/ 115) - ابن أبي حاتم (1/ 293)].

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ليس المراد بالحياة منع احترام الآجال، لأنه محال لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ولقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} (¬1) (¬2) الآية، لكن المراد طيب الحياة بعد الممات بالنجاة من النار وتهيئة الحياة في الدنيا بالأمن من الغوائل بعد القصاص، والأمن من المقدمين على سفك الدماء إذا علموا بالقصاص، أو حياة القلب بنور الاتِّقاء عن حدود الله (¬3). (أولو) جمع لا واحد له وتأنيثه أولات، ومعناهما ذوو أو (¬4) ذوات، و (اللبّ) من كلِّ شيء خالصُهُ قاله أبو عبيدة. {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} لحالة تعرض من أسباب الموت قبل زوال التكليف بزوال القدرة {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} خلَّى مالًا كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} (¬5) و {الْوَصِيَّةُ} في اللغة العهد، وفي الشرع: عبارة عن إيجاب تصرُّف في المال على وجهِ التوكُّل مؤقتًا بالموت، وقد نسخ الوصيَّة للوالدين والأقربين قوله -عليه السلام-: "إنَّ الله تعالى قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارِثٍ" (¬6) هذا في حيِّز التواتر لما تلقته الفقهاء بالقبول (¬7)، وقيل: ¬

_ (¬1) (الأرض) ليست في "ب". (¬2) سورة آل عمران: 156. (¬3) ذكر هذه المعاني كل من [البغوي (1/ 148) - والزجاج في معاني القرآن (1/ 235) - والواحدي في الوجيز (1/ 46) - والطبري (3/ 120) - والفراء في معاني القرآن (1/ 110) - والسمعاني في تفسيره (2/ 143)]. (¬4) في "أ" "ي ": (و) بدل (أو). (¬5) سورة العاديات: 8. (¬6) رواه أبو داود (2870، 3565)، والترمذي (210، 2121)، والنسائي في المجتبى (6/ 247)، وفي الكبرى (2468)، وأحمد (4/ 186، 187؛ 5/ 267)، والطيالسي (1127)، وعبد الرزاق (7277)، وسعيد بن منصور (427، 428)، والدارمي (3260)، والطبراني في الكبير (7531،7615؛ 17/ 33)، وفي مسند الشاميين (541، 621)، والدارقطني في سننه (3/ 40، 70)، وابن الجارود في "المنتقى" (949)، وأبو يعلى (1508)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (788)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 264،244،212) عن عدَّة من الصحابة. (¬7) قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (3/ 92): (قال الشافعي: وروى بعض الشاميين=

نسختها آية المواريث (¬1) وذلك غير صحيح للخبر، وقد أعطى الله الأقربين حقهم في آية المواريمث وقال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬2). وقال: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (¬3). {بِالْمَعْرُوفِ} بالمقدار الذي لا تنكر لوكس أو (¬4) شطط {حَقًّا} نصبَ على المصدر أو على أنه مفعول (¬5) ثانٍ (¬6). {فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي الحق أو الوصية وهو الإبصار، والمراد بهم ¬

_ = حديثًا ليس مما يثبته أهل الحديث، فإن بعض رجاله مجهولون فاعتمدنا في المنقطع مع ما انضم إليه من حديث المغازي واجماع العلماء على القول به فهو متواتر عند الفقهاء كما ذكره المؤلف وليس عند أهل الحديث. (¬1) هذا القول منقول عن ابن عباس عند الطبري في تفسيره (3/ 124)، وابن أبي حاتم (1604) وهو منقول عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وإبراهيم النخعي والضحاك والزهري وشريح. كل هؤلاء ذكرهم ابن أبي حاتم في تفسيره دون سند. وذكر الطبري بعضًا منهم. وذهب المفسرون إلى أنها محكمة وبعضها ذهب إلى نسخها، ويبدو أن الجرجاني من الفريق الثاني. ومنهم من جعل الناسخ آية المواريث. ومنهم من جعل الناسخ الحديث. انظر: القرطبي (2/ 263). (¬2) سورة النساء: 7. (¬3) سورة النساء: 11. (¬4) (أو) ليست في "ي". (¬5) في نصب "حقًا" أربعة أوجه إعرابية، ذكر المؤلف وجهين: الوجه الأول: أنها منصوبة على المصدر، وهي مؤكدة لمضمون الجملة فيكون عامله محذوفًا، التقدير: حَقَّ ذلك حقًا. وهذا ما ذهب إليه الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. الوجه الثاني: أنها منصوبة على أنها مفعول به ثانٍ. وهو ما ذكره المؤلف. الوجه الثالث: أنها حال من المصدر المُعَرَّف المحذوف. الوجه الرابع: أنها نعت لمصدر محذوف التقدير: كَتْبًا أو إيصاءً حقًا. [الكشاف (1/ 334) ابن عطية (1/ 5 - 04) - الإملاء (1/ 79) - الدر المصون (2/ 261)]. (¬6) في الأصل: (قال) وهو خطأ.

الأوصياء {فَمَنْ خَافَ} والخوف بمعنى العلم، قال أبو محجن الثقفي (¬1): إذا مِتّ واروني (¬2) إلى جنبِ كرمةٍ ... ترَوِّي عظامي بعدَ موتي كرُومُها ولا تدفنوني في فلاةٍ فإنني ... أخاف إذا [ما] (¬3) متُّ أن لا أذوقَهَا (¬4) {جَنَفًا} ميلًا إلى الباطل كناية عن الأقربين أو عما لم يسبق ذكره {فَلَا إِثْمَ} على الوصي بهذا التبديل الذي ورد فيه الوعيد فإن هذا مستثنى منه. {كَمَا كُتِبَ} تشبيه بمجرد الصيام دون الصفات كلها، إذ التشبيه لا يوجب كون المشبه (¬5) به من جميع الوجوه، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (¬6) وقال: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} (¬7) وقال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (¬8) يحتمل تشبيه (¬9) الوجوب بالوجوب. و {الصِّيَامُ} في اللغة عبارة عن الإمساك عن الطعام، قال الشاعر: خَيلٌ صيام وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحتَ العجاجِ وأخرى تَعلُكُ اللجما (¬10) ¬

_ (¬1) أبو محجن الثقفي، اختلف في اسمه قيل: اسمه مالك بن حبيب، وقيل اسمه كنيته. أسلم حين أسلمت ثقيف وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدَّث عنه. كان شجاعًا شاعرًا إلا أنه كان منهمكًا في شرب الخمر، وجُلد فيها مرتان، وقد تاب من ذلك بعد أن شارك في حرب القادسية ورجع من الحرب قال: والله لا أشربها أبدًا، فلم يقربها بعد. [الإصابة (4/ 175)؛ أسد الغابة (6/ 276) " الاستيعاب (4/ 182)]. (¬2) في جميع المصادر (فادفني). (¬3) ما بين [...] من المصادر. (¬4) البيت لأبي محجن الثقفي في ديوانه ص 48. وانظر: الطبري في تفسيره (2/ 461)، وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1749 - 1750)، والحموي في "معجم البلدان" (2/ 263)، والقرطبي في تفسيره (2/ 263؛ 3/ 57)، وابن حجر في الإصابة (7/ 364) وكتاب العين (5/ 369). (¬5) في "أ" "ب" "ي": (كالمشبه). (¬6) سورة آل عمران: 59. (¬7) سورة الفرقان: 44. (¬8) سورة يس: 39. (¬9) في "ي" الأصل: (تسبه). (¬10) البيت للنابغة الذبياني كما في ديوانه ص 240 وتفسير القرطبي (2/ 272)، لسان العرب "علك" (10/ 470)، وتهذيب اللغة (1/ 313)، والجمهرة ص 899، وكتاب العين (1/ 202).

وعن المسكون في البيت يقال: صامت الريح إذا أسكنت، وعن السكوت قال الله تعالى حكايته عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (¬1) وفي الشرع عبارة عن الإمساك عن المفطرات مع النيَّة {أَيَّامًا} نصب على الظرفِ (¬2) والمراد بها التقليل أو حسم توهم الساعات والدقائق كما توهم اليهود والنصارى دون عدد معين لا يزيد ولا ينقص. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} يضرُّه الصوم أو مسافرًا فأفطر فعليه صوم أيام معدودة {مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} وأُخر جمع أخرى، مثل أُول جمع أولى، ولم يصرف لعدولهما (¬3) في البناء للتأنيث (¬4)، وأما القضاء فقد روي عن ابن عباس (¬5) ومعا ذ (¬6) (¬7) ............................................. ¬

_ (¬1) سورة مريم: 26. (¬2) قوله {أَيَّامًا} في نصبه أربعة أوجه إعرابية، ذكر المؤلف الوجه الأول على أنه ظرف زمان منصوب على الظرفية، والعامل فيه مقدر أي: صوموا أيامًا. الوجه الثاني: أنه منصوب على أنه مفعول به، والعامل فيه مقدر على نفس التقدير السابق. الوجه الثالث: أنه منصوب بالصيام على أن تقدر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، والتقدير: الصيام صوما كما كتب. وهذا الوجه ضعيف كما قال السمين الحلبي. الوجه الرابع: أن ينتصب بـ "كُتِبَ" على أنه ظرف أو مفعول به، وهو قول الفراء وأبي البقاء. [معاني القرآن للفراء (1/ 112) - الإملاء (1/ 80) - الدر المصون (2/ 268)]. (¬3) في الأصل: (لعدولهما). (¬4) في الأصل: (والتأنيث). (¬5) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 243)؛ وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 293)، والبغوي في مسائل أحمد (97)، والدارقطني في سننه (2/ 192) وسنده صحيح. (¬6) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الله بن مسعود. شهد بدرًا أو المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه، وبعثه إلى اليمن بعد غزوة تبوك وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب، أرسله قاضيًا يعلم الناس القرآن وشرائع الإِسلام ويقضي بينهم، ومات - رضي الله عنه - بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل: كان عمره أقل من هذا. [الاستيعاب (3/ 1402)؛ صفوة الصفوة (1/ 489)؛ معجم الصحابة (3/ 24)؛ الطبقات الكبرى (3/ 583)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 443)؛ الإصابة (6/ 136)]. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 192 - 193)، والبغوي في مسائل أحمد (92)، والدارقطني في سننه (2/ 193)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 258).

وأنس (¬1) وأبي هريرة (¬2) (¬3) ورافع بن خديج (¬4) (¬5) وأبي عبيدة (¬6) أنه لا بأس بالتفريق، وعن علي (¬7) وابن عمر (¬8) أنَّ التتابع أفضل. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال سلمة بن الأكوع (¬9) (¬10) .............. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 292)، والبغوي في مسائل أحمد (93)، والبيهقي في السنن (4/ 258). (¬2) أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني. اختلف في اسمه واسم أبيه، وهو سيد الحفاظ الأثبات، حمل عن النبي علمًا كثيرا طيبًا لم يبلغه أحد مثله، وكان يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "أبا هِرِّ". وصحب النبي أربع سنين. قال أبو هريرة: لقد رأيتُني أصرع بين القبر والمنبر من الجوع حتى يقولوا: مجنون. وأخباره يطول ذكرها. [طبقات ابن سعد (2/ 362)؛ الاستيعاب (4/ 1768)؛ حلية الأولياء (1/ 376)؛ أسد الغابة (6/ 318)، السير (578)]. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 292)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 243)، والبغوي في مسائل أحمد (90)، والدارقطني في سننه (2/ 193)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 258). (¬4) رافع بن خديج بن رافع الأنصاري الخزرجي المدني صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد أحد والمشاهد وأصابه سهم يوم أحد فانتزعه فبقي النصل في لحمه إلى أن مات. وكان ممن يفتي بالمدينة زمن معاوية، وكان صحراويًا عالمًا بالمزارعة والمساقاة. توفي سنة أربع وسبعين وله ست وثمانون سنة - رضي الله عنه -. [التاريخ الكبير (3/ 299) " الاستيعاب (479)؛ أسد الغابة (1/ 151)؛ البداية والنهاية (319)؛ شذرات الذهب (1/ 82)]. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 293)، والبغوي في مسائل أحمد (91)، والدارقطني في سننه (2/ 193)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 258). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 294)، والبغوي في مسائل أحمد (96)، والدارقطني (2/ 192)، والبيهقي في سننه الكبرى (4/ 258). (¬7) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 242)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 294)، والبيهقي في سننه (4/ 258). (¬8) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 243)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 294)، والبغوي في مسائل أحمد (97)، والدارقطني في سننه (2/ 192). (¬9) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع سنان بن عبد الله، أبو عامر وأبو مسلم، ويقال: أبو إياس الأسلمي الحجازي المدني، قيل أنه شهد مؤتة، وهو من أهل بيعة الرضوان، كان من أشدِّ الناس بأسًا وأشجعهم قلبا وأقواهم راجلًا، أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات قرد سهم الراجل والفارس معًا، سكن بالربذة، وتوفي بالمدينة سنة أربع وسبعين وهو ابن ئمانين سنة. [تقريب التهذيب (248)؛ تهذيب التهذيب (4/ 133)؛ الاستيعاب (2/ 639)؛ رجال مسلم (1/ 276)، سير أعلام النبلاء (3/ 326)]. (¬10) رواه البخاري (4507)، ومسلم (1145)، وأبو داود (2315)، والترمذي (798)، والطبري في تفسيره (16613).

والشعبي (¬1): لما نزلت الآية كان الغني يفطر ويفدي فنسختها قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وعن ابن عباس أنه قرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يلزمونه (¬2)، وعن سعيد بن جبير عنه (¬3): الذين يجشمونه (¬4) ولا يطيقونه الكبير والمريض وصاحب العطاش والحبلى (¬5) والمراضع هؤلاء لهم طاقة مع المشقة، فلذلك لزمهم، فأما من لا طاقة له أصلًا فغير داخل فيه (¬6) ويسقط القضاء عن المريض الذي لا يشفى في المستأنف، والفدية تجب على الشيخ الهرم والمريض برأ ثم مات وأوصى ومقدارها نصف صاع من برٍّ أو ما هو منه أو صاع من تمر أو صاع من شعير {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أراد في الصوم بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وعن ابن عباس الزيادة في الإطعام (¬7). {شَهْرُ} اسم جنس من حين يطلع الهلال إلى مثله، فأوله ليل وآخره نهار، وجمعه أشهر وشهور مشتقٌّ من الشهرة، و {شَهْرُ رَمَضَانَ} هو الذي بين شعبان وشوال و {شَهْرُ} مبتدأ وخبره: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقيل: خبر مبتدأ محذوف وتقديره هي شهر رمضان، أي الأيام المعدودات (¬8)، وكان ¬

_ (¬1) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 178) لعبد بن حميد وابن المنذر. وذكره ابن الجوزي في ناسخه ص 173، وأورد ابن حجر العسقلاني سند عبد بن حميد في كتابه "العجاب" (1/ 432). (¬2) الصحيح (يكفلونه). وهي تفسير وليست قراءة، ذكرها ابن جرير (2/ 138). (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (3/ 168)، وعزاه صاحب "الدر المنثور" (1/ 178) لابن الأنباري إضافة لابن جرير. (¬4) في "ي" "أ": (يحشمونه) بالحاء. (¬5) في الأصل: (الحبل). (¬6) (فيه) من "أ" "ب" "ي". (¬7) رواه ابن جرير في تفسيره (3/ 171)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1642). (¬8) قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فيه قراءتان. القراءة المشهورة الرفع، وأما النصب فهي قراءة مجاهد وهارون الأعور، فعلى القراءة الأولى يكون فيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إما أن يكون "شهر رمضان" مبتدأ وخبره "الذي أنزل فيه القرآن" أو يكون الخبر "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، والفاء زائدة على رأي الأخفش. الوجه الثاني: أن يكون خبرأ لمبتدأ محذوف وقدره الفراء: ذلكم شهر رمضان، وقدره الأخفش: المكتوب شهر. =

مجاهد (¬1) يتوهم أن رمضان من أسماء الله لاحتمال كونه اسمًا لفاعل الرمضا أو الرمض أو الرميض من حيث أنه معدول، والرمضا الرمل الحارُّ المحترق، والرمض من فعل الطبائع، والرميض الحادّ بالدال، يقال: رمضت الفصال إذا بركت من شِدَّة حرِّ الرمضا، ويقال: سكتتين رميض، ولم يصرف رمضان للعدول والشهرة (¬2). {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} افتتاح الإنزال فيه، حيث كان يتحنث فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) في حراء، وعن ابن عباس أنَّ القرآن كلَّه أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضالن، ثم أنزل نجومًا (¬4) في ثلاث وعشرين سنة (¬5). ¬

_ =والوجه الثالث: أن يكون بدلًا من قوله: "الصيام " أي كتب عليكم شهر رمضان، وهو قول الكسائي. وعلى قراءة النصب: فإما أن يكون منصوبًا بإضمار فعل التقدير: صوموا شهر رمضان، أو يكون بدلًا من قوله: "أيامًا معدودات"، أو منصوب على الإغراء كما ذكره أبو عبيدة والحوفى. [معاني القرآن للفراء (1/ 112) - معاني القرآن للأخفش (1/ 159) - البحر المحيط (2/ 39) - ابن عطية (1/ 515) - الكشاف (1/ 336)]. (¬1) رواه ابن جرير (2/ 144)، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 310) بدون سند، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 183) لوكيع، وروي كذلك عن محمَّد بن كعب القرظي وسعيد بن أبي هريرة قريبًا منه. (¬2) في سبب تسميته ب "رمضان" أربعة أقوال: القول الأول: أنه وافق مجيئه في الرمضاء، وهي شدة الحر، فسمي بذلك. القول الثاني: قيل لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها أي يمحوها. القول الثالث: قيل: لأن القلوب تحترق فيه من الموعظة. القول الرابع: قيل: هو من قولهم: رمضتُ النصلَ إذا دققته بين حجرين ليرقَّ. وكان اسمه في الجاهلية "ناتقًا" ومنه قول المفضَّل: وفي ناتقٍ أجْلَتْ لدى حومةِ الوغى ... وولَّت على الأدبار فرسان خُثْعَمَا وهو مصدر رَمِضَ إذا احترق من الرمضاء كما قال الزمخشري. [الكشاف (1/ 336) - البحر المحيط (2/ 26) - الدر المصون (2/ 280)]. (¬3) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" "أ". (¬4) في "أ": (أنجومًا). (¬5) أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره (3/ 190) وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 533)؛ وأبو عبيد في الفضائل ص 222، والنسائي في السنن الكبرى (7990) وغيرهم.

وعنه -عليه السلام- (¬1) "أن جبريل -عليه السلام- كان يعارضه بالقرآن في شهر رمضان كل سنة مرة وعارضه عام وفاته مرتين" (¬2). وتلك المعارضة نوع إنزال أيضًا لإفادة الأحرف السبعة، والقرآن اسم من القراءة وهو في الأصل مصدر كالرجحان والخسران (¬3)، وقد اختصَّ بالمنزل على نبينا-عليه السلام- (¬4) وإنْ كان مشتقًا كاختصاص اسم الرحمن باللهِ (¬5)، و {الْقُرْآنُ} في اللغة الضم والجمع، قال: ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا (¬6) {وَالْفُرْقَانِ} الحكم الفاصل، ولذلك عطفه على {الْهُدَى}، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه خرج عام الفتح صائمًا في شهر رمضان، فلما بلغ الكديد أفطر وأمر بالإفطار" (¬7) واسم السفر في اللغة يشمل أيّ (¬8) خروج من الوطن ولو مدَّة ساعة إذ (¬9) اشتقاقه من سفارة السفير أو الإسفار وهو الظهور، وفي الشرع مختصٌّ بمدة ثلاثة أيَّام، والمراد بالإرادة رفع مشيئة الآخر وهي أخصّ في المرادات من المشيئة وهي تستعمل بمعنى المشيئة ¬

_ (¬1) في "ب": (صلى الله عليه وسلم) وفي "ي": (عليه) بدون السلام. (¬2) رواه مسلم (2450). (¬3) القرآن: مصدر "قرأت" ثم صار علمًا لما بين الدفتين، والدليل على أنه مصدر في الأصل قول حسان في عثمان - رضي الله عنهما -: ضَحَّوا بأشمط عنوانُ السجودِ بهِ ... يُقَطَّعُ الليلَ تسبيحًا وقُرآنا وقيل: هو مشتقٌّ من قَرَيْتُ الماءَ في الحَوضِ أي جَمَعْتُهُ. [البحر (2/ 40) - ديوان حسان ص 469 - الدر المصون (2/ 469)]. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل "ب": (من الله). (¬6) البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته. انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني ص 129، وانظر: تهذيب اللغة (9/ 271)، ولسان العرب (1/ 124). والعيطل: الطويل العنق من النوق. والأدماء: البيض منها. (¬7) رواه البخاري (1842، 2794، 4026)، ومسلم (1113). (¬8) في "ب": (إلي). (¬9) في "ي" "أ": (إذا).

والمحبَّة والطلب، و {الْعُسْرَ} ما يتعسَّر ويشقّ، و {الْيُسْرَ} نقيضه، ولذلك يقال للعامل بيمينه أيسر، وللعامل بيساره أعسر. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عدة (¬1) شهر رمضان إن كانت ثلاثين فثلاثين وإن كانت تسعًا وعشرين فتسعًا وعشرين، ويحتمل أنَّ المراد به الثلاثين عند الاشتباه (¬2)، ويحتمل عدة القضاء في الحالة الثانية، والواو فيه للعطف على معنى اليسر المراد، فكأنه قال: يريد الله لييسر عليكم {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (¬3) ويحتمل أن تكون لام كي بمعنى (¬4) أنَّ التقدير: يريد الله أن ييسِّر عليكم وأن تكملوا العدة، وكما قال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5) أي أن نسلم {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أراد اعتقاد تعظيم الله في الجملة، وقيل: تكبير يوم الفطر، وذلك سُنَّة أشار إليها القرآن من غير أمر بها. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} نزلت في المؤمنين حيث قالوا: "قريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ " (¬6) وإنما سألوا هذا لا لأنهم لم يعلموا أنَّ ربَّهم ¬

_ (¬1) (عدة) ليست في "أ". (¬2) في الأصل: (الأشباه). (¬3) سورة النساء: 26. (¬4) في هذه اللام في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا} ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها زائدة في المفعول به، كقولك: ضربتُ لزيدٍ، و"أنْ" مقدرة بعدها، التقدير: ويريد أن تكمِلُوا العدة، أي: تكميل، فهو معطوف على اليُسر كقول كثير: أريد لأنسى حُبَّهَا فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ وهذا قول الزمخشري وابن عطية وأبي البقاء. القول الثاني: أنها لام التعليل وليست زائدة. القول الثالث: أنها لام الأمر وتكون الواو قد عطفت جملة أمرية على جملة خبرية. [الكشاف (1/ 337) - الإملاء (1/ 82) - ابن عطية (1/ 518) معاني القرآن للفراء (1/ 114)]. (¬5) سورة الأنعام: 71. (¬6) أورد هذا الطبري في تفسيره (3/ 222) وهو أحد القولين في سبب نزول الآية، وهو أن الصحابة قالوا: يا رسول الله أقريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فنزلت هذه الآية. والسبب الثاني في نزول الأية أنه لما نزل قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: يا رسول الله كيف ندعوه ومتى ندعوه؟ فنزلت الآية. =

علىِّ متعالٍ عن الحسِّ وقريبٌ (¬1) متعالٍ عن أن تحجزه مسافة، ولكن ليعلموا أنهم متعبدون برفع الصوت إشارة إلى علوِّه أم متعبدون بخفضِهِ إشارة إلى دنوِّه، وهما صفتان له بلا كيف، فتعبُّدهم بخفض الصوت تيسيرًا لهم لئلا يجهدوا أنفسهم وتفضُّلًا عليهم وإكرامًا إياهم بذكر مزيَّة منهم كما قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} واتصالها بما قبلها من حيث التكبير والشكر، وقيل: نزلت فيمن واقع أهله ليلة الصيام قبل الرخصة أو أكل بعد النوم قبل الرخصة ثم أراد الاستغفار، وتقديره: أخبرهم عن قربي فإني قريبٌ {أُجِيبُ} أنفذ الدعوة وأجيز، وذلك يكون بالقول والفعل جميعًا ونقيضه الإعراض، فأما الردّ فإنه نوع إجابة حقيقية أو مجازًا، والإجابة بمعنى الاستجابة كالإبشار والاستبشار، والجواب مشتقٌّ من الإجابة أو اسم موضوع اشتق من الإجابة، واجابة الله إيانا هي قبول دعوتنا، واجابتنا إياه قبول أمره و (الرشد) كالاهتداء نقيضه الغيّ. {أُحِلَّ لَكُمْ} قال (¬2) معاذ بن جبل (¬3): قدم النبي -عليه السلام- (¬4) المدينة فصام من كلِّ شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء حتى نزلت قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينًا أنزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي} إلى قوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ففرضه الله تعالى وأثبت صيامه على الصحيح المقيم، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت إطعام الشيخ والذي لا يستطيع صيامَه فكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء واذا ناموا امتنعوا عن ذلك، فجاء رجل يقال له صرمة قد ¬

_ = [انظر: تفسير البغوي (1/ 59) - الدر المنثور (1/ 194) - المحرر الوجيز (1/ 518) - أسباب النزول للسيوطي ص 65]. (¬1) في "ب": (الحس في قريب) وهو خطأ. (¬2) (إن) ليست في "أ" "ب". (¬3) رواه أبو داود (1/ 140)، وأحمد (5/ 246 - 247)، والطبري (3/ 234)، وابن أبي حاتم (1673)، والحاكم (2/ 274). وفيه المسعودي صدوق لكنه اختلط. وانظر: العجاب (1/ 429). (¬4) في "ب": (صلى الله عليه وسلم).

ظلَّ يومه يعمل فجاء صلاة العشاء فوضع رأسه فنام قبل أن يطعم فأصبح صائمًا (¬1)، فرآهُ النبي عليه السلام (¬2) من آخر النهار وقد أجود فقال: "إني أراك قد أجهدت" فقال: يا رسول الله، ظللتُ يومي أعمل فجئتُ صلاة العشاء فنمتُ قبل أن أطعم (¬3)، وجاءه عمر بن الخطاب وقد أصاب من النساء فنزلت الآية (¬4). قال ابن عرفة: الرفث الجماع ههنا (¬5)، والرفث بالتصريح بذكر الجماع، وقال الأزهري (¬6): كلمة جامعة لكلِّ ما يريده الرجل من المرأة، وإنما عدَّاه بـ"إلى" اعتبارًا بالمعنى وهو الإفضاء، وكل شيء ستر شيئًا فهو لباس له، وقال ابن عرفة: اللباس من الملابسة وهي الاختلاط والاجتماع، وأنشده: إذا ما الضجيعُ ثنى عطفه ... تثنَّت فكانت عليه لباسا (¬7) {تَخْتَانُونَ} افتعال من إلى خيانة وهي النقص، والمراد: نقصهم أنفسهم الثواب والفضل حين ترخصوا بما لم يرخصه الله تعالى بعد قوله: {بَاشِرُوهُنَّ} على الوجوب في الظاهر، إلا أنا صرفناه إلى الإباحة وكذلك قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} والمباشرة إمساس البشرة البشرة (¬8) والمراد بها الرفث، و (الابتغاء) ¬

_ (¬1) في الأصل: (نائمًا). (¬2) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬3) الواحدي في "أسباب النزول" (45). وذكره الحافظ ابن حجر في "العجاب" ص 260 وقال: هذا الحديث مع إرساله ضعيف السند من أجل إسحاق بن أبي فروة، ولولا أني التزمت أن أستوعب ما أورده الواحدي لاستغنيتُ عن هذا. وقد ذكر المؤلف أن اسمه صرمة، وقيل: إن اسمه قيس بن صرمة الأنصاري كما عند الطبري في تفسيره (3/ 235). (¬4) رواه أحمد (2/ 228 - 541)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1677). (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره (2/ 315)، وهو مرويٌّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الرفث الجماع، أخرجه الطبري (3/ 229). (¬6) كما في تهذيب اللغة "رفث" (15/ 77). (¬7) البيت للنابغة الجعدي كما في ديوانه ص 81، وعند القرطبي (2/ 341) بلفظ: إذا ما الضجيعُ ثنى جيدها ... تثنَّت عليه فكانت لباسا (¬8) (البشرة) الثانية من "ب" "ي".

الطلب، و {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} هو الخير مثل إباحة الاستمتاع والأكل والشرب، ومثل الولد، {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} بياض الثاني {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} سواد الليل شبههما بخيطين لامتدادهما، وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} للتفسير، وهذه الآية تدلُّ على جواز صوم الجنب؛ لأنَّ المجامعة إذا وقعت في آخر الليل فلا بدَّ من أن يقع الغسل بعد الفجر، ويدُّل على جواز الاعتكاف في كلِّ مسجد يؤذن فيه، قال علي: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة (¬1)، وإليه ذهبت عائشة (¬2) وابن مسعود (¬3)، ولا اعتكاف إلا بصوم له أو لغيره، وإليه ذهب علي (¬4) وعائشة (¬5) وابن عمر (¬6) ومجاهد وأبو فاختة (¬7) (¬8) عن ابن عباس (¬9). و (الحد) في اللغة بمعنى الحجب والمنع، قال الشاعر (¬10): ¬

_ (¬1) أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 346) بسند صحيح. (¬2) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 354)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 334)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (10/ 347). (¬3) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 348)، والفاكهي في "أخبار مكة" (2/ 149)، وسعيد بن منصور في سننه نقلًا عن "الفروع" لابن مفلح (3/ 152)، وابن حزم في المحلى (5/ 195)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 316). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 334). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 333 - 334). (¬6) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 353)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 318)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (10/ 346) وسنده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 322). (¬7) أبو فاختة سعيد بن علاقة والد ثوير بن أبي فاختة مولى أم هانئ، روى عن علي وأم هانئ وابن مسعود وغيرهم. وهو مشهور بكنيته، قال ابن حجر: ثقة مات في حدود السبعين. [تاريخ ابن عساكر (6/ 168)؛ الجرح والتعديل (2/ 51)؛ تهذيب التهذيب (4/ 70)؛ الاستغناء لابن عبد البر (2/ 887)]. (¬8) في الأصل: (فاختة). (¬9) أما عن طريق أبي فاختة (سعيد بن علاقة) فرواه البيهقي في سننه الكبرى (4/ 317 - 318)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (10/ 348، 349). أما عن مجاهد فلم أجده، ووجدته من طريق: - عطاء عن ابن عباس كما عند البيهقي (4/ 318). - عمرو بن دينار عن ابن عباس كما عند البيهقي (4/ 328). - مقسم عن ابن عباس كما عند عبد الرزاق في مصنفه (2/ 199)، والحاكم (1/ 605 - 606). (¬10) البيت لزيد بن عمرو بن نفيل وهو في لسان العرب "حدد" (3/ 143)، =

لا تعبدون إلهًا غير خالِقِكم ... فإن دُعيتم فقولوا دونَه حدَدُ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} نزلت فيمن لأخيه عليه مال ولا بينة له عليه (¬1)، وقيل: في امرؤ القيس بن عابس (¬2) (¬3) الكندي خاصمه عبدان بن ربيعة (¬4) (¬5) الحضرمي في أرض فاختصما إلى النبي -عليه السلام- (¬6) وأراد الكندي أن يحلف فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ (¬7) اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فأبى ¬

_ = والتنبيهه والإيضاح (2/ 17) - وتاج العروس "حدد" (8/ 7)، وتهذيب اللغة "حدد" (3/ 422). (¬1) وسبب النزول هذا مرويُّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أخرجه الطبري (3/ 277) وابن أبي حاتم (1/ 321). (¬2) امرؤ القيس بن عابس بن المنذر الكندي. وهو ممن ثبت على الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ارتدَّ كثير من قومه، وهو معدود في الصحابة -رضي الله عنهم -. سكن الكوفة وله قصيدة يحرِّض فيها قومه على الثبات على الإسلام، ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة. [الإصابة (1/ 100)؛ أسد الغابة (1/ 137)؛ معجم الصحابة للبغوي (1/ 239)؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم (2/ 438)]. (¬3) في جميع النسخ: (عايش) وهو خطأ، والتصليح من المصادر. (¬4) لم أجد ترجمة لهذا الاسم، وإنما وجدتُ للاسم الذي ذكره ابن حجر، حيث ذكر أن القصة التي كانت بين امرئ القيس بن عابس الكندي وبين آخر أنه هو: عيدان بن أشوع الحضرمي. [انظر الإصابة (4/ 760)]. وورد في صحيح مسلم حديث الاختصام هذا (139) أنه حصل بين امرئ القيس بن عابس الكندي وبين ربيعة بن عبدان، وذُكر أيضًا أنه ربيعة بن عيدان وهو ابن ذي العرف بن وائل بن ذي طواف الحضرمي ويقال: الكندي. [انظر: الإصابة (2/ 471)]. قال ابن حجر في الإصابة (2/ 471): قال أبو سعيد بن يونس: شهد ربيعة بن عيدان بن ربيعة الأكبر بن عيدان الأكبر بن مالك بن زيد بن ربيعة الحضرمي فتح مصر وله صحبة، وليست له رواية نعلمها، وسيأتي له ذكر في عيدان بن أشوع. (¬5) في "العجاب" لابن حجر العسقلاني ص 266 قال: (نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي وفي عيدان بن أشوع الحضرمي، وذلك لأنهما احتكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أرض، فكان امرؤ القيس المطلوب وعيدان الطالب، فأنزل الله تعالى هذه الآية فحكم عيدان في أرضه ولم يخاصمه) ولذا فإن في جميع النسخ عيدان بن أشوع الحضرمي وليس كما ذكره المؤلف - ابن ربيعة-. [انظر: أسباب النزول للواحدي ص 53 - القرطبي (2/ 335) - ابن أبي حاتم (1/ 321) - الخازن (1/ 119)]. (¬6) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬7) في الأصل "ب": (عهد) وهو خطأ.

أن يحلف فحكم عبدان في أرضه (¬1)، وعن ابن عباس والحسن وقتادة: نزلت في الوديعة تكون عند رجل ولا بينة عليه بالباطل بالكسب الباطل كالغصب (¬2) ونحوه، والواو عند البصريين للجمع وعند الكوفيين للصرف (¬3)، قال: لاتنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثلَهُ ... عارٌ عليكَ إذافعلتَ عظيمُ (¬4) {بِهَا} أي بالحجة، يقال: أدلى بحجته، ويقال: (بالأموال) أي الرشوة، أي: لا تتوسلوا {بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} وفي حديث عمر حيث استسقى وقد دلونا به إليك توسلنا بالعباس (¬5) قدس الله روحه (¬6)، وأصل ¬

_ (¬1) ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (1702)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 194)، والقرطبي (2/ 338). (¬2) أما عن ابن عباس فرواه الطبري في تفسيره (3/ 277)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 331) بدون سند. (¬3) أي الواو في {وَتُدْلُو} وعلى هذا يتخرج ثلاثة أوجه إعرابية فيها: الوجه الأول: أنه مجزوم عطفًا على ما قبلهويؤيده قراءة أُبَيّ: {ولا تدلوا} بإعادة لا الناهية. الوجه الثاني: أنه منصوب على الصرف وهو مذهب الكوفيين. الوجه الثالث: أنه منصوب بإضمار "أنْ" في جواب النهي، وهذا مذهب الأخفش وجوَّزه ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء. [البحر (2/ 56) - ابن عطية (1/ 530) - معانى القرآن للأخفش (1/ 160) - الكشاف (1/ 340) - الإملاء (1/ 84)]. (¬4) البيت مختلف في نسبته، فهو منسوب للطرماح كما عند ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (24/ 467). وكذا هو منسوب لابن السماك الواعظ كما في ابن عساكر (34/ 159) وقال صاحب "الخزانة" (8/ 564) أنه لأبي الأسود الدؤلي، ونسبه سيبويه في "الكتاب" (3/ 42) للأخطل، ونسبه الآمدي في "المؤتلف والمختلف" ص 273 للمتوكل الليثي. وعزاه الحموي في "معجم البلدان" (5/ 55) للمتوكل الليثي. (¬5) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي - صلى الله عليهوسلم -، يكنى أبا الفضل، يقال أنه أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنينًا والطائف وتبوك، وكان العباس أجود قريش كفًا وأوصلها رحمًا، ذا رأي حسن ودعوة مرجوة. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين قبل قتل عثمان بسنتين، فصلَّى عليه عثمان ودُفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: أكثر. [الاستيعاب (2/ 810)؛ تقريب التهذيب (293)؛ تهذيب التهذيب (5/ 107)؛ الإصابة (3/ 631)]. (¬6) التقديس يطلق في اللغة على معنيين، ففي حق الله أطلق وكان بمعنى التنزيه، =

الإدلاء إرسال الدلو و {الْحُكَّامِ} جمع حاكم مثل شاطر وشطار، والحاكم الذي يمنع الخصمين بقضائه (¬1) عن التعدِّي، والحكما القضاء الحتم. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} نزلت في معاذ بن جبل وأمثاله (¬2) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ¬

_ = فقولك تقدَّس الله أي تنزَّه، فتقديس الله تنزيهه كما قاله الخليل بن أحمد الفرِاهيدي، ومنه سمي الله بالقدُّوس كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ...} [الحَشر: 23]، وقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البَقرَة: 30] أي ننزِّهك عما لا يليق بك. وتطلق ويراد بها التطهير وهو قريب من المعنى الأول وربما عُبِّر بأحدهما عن الآخر في معاجم اللغة. أما في حق المخلوق فالذي يظهر أنه لا بأس بها فيجوز إطلاقها وهي تطلق عادة على الميت فيقال: "قدَّس الله روحه" أي طهرها من أدران الكفر والشرك والمعاصي، وابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما يستعملون هذه العبارة في كتبهم، وسمعت شيخي العلامة محمَّد بن صالح العثيمين رحمه الله يقول: إنها عبارة صحيحة لا بأس بها، وهي دعاء للميت. ولذا قال ابن فارس في مقاييس اللغة: هو من الكلام الشرعي الإسلامي، وهو يدلُّ على الطهر، ومنه الأرض المقدَّسة أي المطهَّرة. ومنه قول امرئ القيس: فَأدْرَكْنَهُ يأْخُذْنَ بالساقِ والنسا ... كما شَبْرَقَ الولدانُ ثوبَ المُقَدَّسِ [معجم مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 63)؛ كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (5/ 73)؛ المعجم الوسيط (1/ 719)؛ لسان العرب (ق د س) (12/ 40)]. الرواية ثابتة ولكن بهذا اللفظ ذكرها ابن قتيبة في "مختلف الحديث" (253)، وعنه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (26/ 363). وانظر: "العجاب" لابن حجر (1/ 454 - 455). (¬1) في الأصل: (لقضائه). (¬2) ذكره الزمخشري في تفسيره (1/ 340)، والرازي في تفسيره (5/ 129)، والقرطبي (2/ 341)، والأثر أخرجه ابن عساكر في تاريخه (1/ 25) من طريق محمَّد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وذكر معاذ بن جبل وثعلبة بن عَنَمَة وهذا سند تالف، ضعفه السيوطي في الدر المنثور (1/ 203)، والمناوي في "الفتح السماوي" (1/ 232) وقال: سنده واهٍ. وعزاه السيوطي في "اللباب" (35) لأبي نعيم، وضعف إسناده الحافظ في "العجاب" ص 268، ولفظه أن معاذ بن جبل وثعلبة بن عَنَمَة وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويدقّ حتى يعود كما كان على واحد؟ فنزلت هذه الآية. قال الحافظ ابن حجر: لم أرَ له سندًا إلى معاذ.

اَلْأَهِلَّةِ} هكذا روي عن ابن عباس وقتادة والربيع (¬1) فبيَّن الله لهم وجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه (¬2)، وهو أن يشترك الناس كلهم في معرفة مواقيتهم التي هي لمعاملاتهم وحجهم وصومهم وذكاتهم من غير استخراج بحساب دقيق مخوف عليه من غلط فاحش، و {الْأَهِلَّةِ} جمع هلال كالإمام والأئمة، قال الزجاج (¬3): الهلال يكون ليلتين من أول الشهر، وقيل: ثلاث ليال، وقال الأصمعي (¬4) (¬5): ما لم يتحجر أي بخيط مستدير، وقيل: ما لم يَبْهَرُ بالليل ثم يصير قمرًا، و (المواقيت) جمع ميقات كميزان وموازين، والميقات هو الوقت من زمان أو مكان، والواو في قوله {وَالْحَجِّ} إن كان للعطف فالأهلة كلها مواقيت (¬6) للحج وإن كانت ¬

_ (¬1) أما عن قتادة فليس فيه التصريح بمن سأل، فهو عند الطبري (3/ 280). وأما عن الربيع بن أنس فهو عند الطبري (3/ 280). (¬2) في الأصل: (وانقضائه). (¬3) ذكره الزجاج في معاني القرآن (1/ 259). (¬4) عبد الملك بن قريب بن عبد الملك أبو سعيد الأصمعي البصري اللغوي الأخباري. ولد سنة بضع وعشرين ومائة. وقد أثنى الإمام أحمد بن حنبل على الأصمعي في السُّنَّة، قال عمر بن شبَّة: سمعتُ الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، وقال الشافعي: ما عَبَّرَ أحدٌ من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وقال الذهبي: كتب الأصمعي شيئًا لا يحصى عن العرب، وكان ذا حفظ وذكاء ولطف فساد. توفي سنة خمس عشرة ومائتين. [تاريخ ابن معين (374)؛ طبقات النحويين للزبيدي (167)؛ تاريخ بغداد (10/ 410)؛ إنباه الرواة (1972)؛ السير (10/ 175)]. (¬5) قول الأصمعي عند ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 196)، والقرطبي (2/ 341)، ومعاني القرآن للزجاج (1/ 259). (¬6) يتعين- والله أعلم- في قوله: {وَالْحَجِّ} أن يكون عطفًا على (الناس) ويكون التقدير: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول. وقوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ليس المعنى لذوات الناس بل لا بدَّ من مضاف، أي: مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت فهو في الحقيقة ليس معطوفًا على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب (الناس) منابه في الإعراب. [الدر المصون (2/ 304) - البحر المحيط (2/ 62)].

للاشتراك فستة أشهر مواقيت الحج لا محالة أشهر الحج وثلاثة قبلها لأن إطلاق الشركة تقتضي المساواة. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} نزلت في غير الحمس (¬1) والحمس قريش ومن ولدته قريش (¬2) وكنانة وجديلة قيس (¬3)، فغير الحُمس كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم إلا أن يتسوروا أو ينقبوا ظهور الأخبية، وكانوا لا يسكنون تحت سقف ويفيضون من عرفات فدخل النبي -عليه السلام- (¬4) في بعض إحرامِهِ من باب بستان قد خرب وتبعه رجل من غير الحمس فأنكر النبي -عليه السلام- (¬5) تركه نسكه برأيه من غير شرع لئلا يؤدي ذلك إلى ترك الإفاضة مِن عرفات فاحتج الرجل لدخوله بدخوله عليه الصلاة والسلام (¬6) على طريقة من يرى الأمر حقيقة في الفعل كما في القول، فردَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام (¬7) قوله: "أنا أحمسي" (¬8)، ¬

_ (¬1) قيل في سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه (3/ 621)، ومسلم (4/ 2319)، والنسائي (2/ 479) وغيرهم عن البراء قال: كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا، لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت هذه الآية. وهناك سبب آخر في نزول الآية أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 323)، والحاكم في مستدركه (1/ 483) وهو على شرط مسلم لكن أعِلَّ بالإرسال كما قال الحافظ في العجاب ص 271 من حديث جابر قال: "كانت قريش تدعى الحُمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ... " الحديث. (¬2) (ومن ولدته قريش) من "أ" "ي". (¬3) المعروف أن الحُمس أطلقت على قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن معاوية. انظر: القرطبي (2/ 345)، والعجاب لابن حجر (1/ 457). (¬4) في "ب": (الصلاة) بدل (السلام). (¬5) في "ب": (صلى الله عليهوسلم) بدل (السلام). (¬6) المثبت من "ب" وفي "أ" الأصل: (السلام). (¬7) المثبت من "ب" وفي "أ" الأصل: (السلام). (¬8) هكذا ورد عند الواحدي في "أسباب النزول" (48) وابن حجر في "العجاب" ص 270، والحاكم (1/ 483)، والفتح (3/ 621). والصحيح (أنا أحمس) بدون ياء.

فقال الرجل: إن كنتَ أحمسيًا فأنا أيضًا أحمسي، رضيتُ بهديك، فرفع الله الجناح عن ذلك الرجل لإرادته الخير وعفا عنه ونسخ عادة غير الحمس في هذه الخصلة وجعل عادة الحمس فيها شرعًا للمسلمين كلهم، وقال الزجاج: كان بعض من قريش ومن (¬1) سائر العرب يكره دخول البيت من بابه تطيُّرًا إذا رجع من سفره خائبًا (¬2). وقال أبو عبيدة: هو في ترك طلب البر من وجهه وطلبه من غير وجهه. {وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ} نزلت في قريش عن ابن عباس، وذلك حين خاف المسلمون عام الصلح أن لا يفي أهل مكة بعهدهم وكرهوا القتال في الحرم وفي الأشهر الحرم فأنزل الله الآية ليعتقدوا القتال ولا يكرهوا (¬3) {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني المقاتلة {وَلَا تَعْتَدُوا} بقتل النسوان والصبيان، وروي أنه --عليه السلام-- (¬4) رأى عام الفتح امرأة مقتولة فأرسل إلى خالد بن الوليد (¬5) "أن لا يقتل ذرية ولا عسيفًا" (¬6) .. ¬

_ (¬1) في الأصل: (من) بدون واو. (¬2) ذكره الزجاج في معاني القرآن (1/ 262). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (3/ 289) من طريق عطية العوفي. وهذا سند ضعيف، وذكره الحافظ ابن حجر في "العجاب" ص 278 من طريق الكلبي، وقال الكلبي: ضعيف، ثم قال: وأولى بالقبول في سبب نزول الآية ما رواه الربيع بن أنس أن هذه الآية أول آية نزلت في الإذن للمسلمين في قتال المشركين. وسياق الآيات يشهد لصحة ذلك. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) خالد بن الوليد بن المغيرة. سيف الله وفارس الإسلام وقائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي المخزومي وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. هاجر مسلمًا سنة ثمان من الهجرة، سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيف الله، وشهد مؤتة والفتح وحنين وغيرها من المشاهد، وحارب أهل الردة وشهد حروب العراق والشام ولم يبقَ في جسده قيد شبر إلا وعليه جرح أو كلم. ومناقبه غزيرة ومات على فراشه في حمص سنة إحدى وعشرين. [الاستيعاب (3/ 163)؛ أسد الغابة (2/ 109)؛ تهذيب تاريخ ابن عساكر (5/ 95)؛ الإصابة (3/ 70)؛ السير (1/ 366)]. (¬6) رواه أبو داود (2669)، والنسائي في الكبرى (8625، 8627)، وابن ماجه (2842)، وأحمد (3/ 488، 4/ 178)، وابن أبي شيبة في مصنفه (33117)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/ 201)، وابن حبان (4789)، والحاكم (2/ 133)، والبيهقي في سننه الكبرى (9/ 82، 91).

والآية غير منسوخة على هذا الوجه، وأصل الاعتداء ههنا (¬1) مجاوزة القتال في سبيل الله إلى القتال في غير سبيله، وقيل: هو قتال من لم تبلغه الدعوة وهي غير منسوخة على هذين أيضًا. وقيل: هي مجاوزة القتال على وجه المجازاة إلى القتال على سبيل الابتداء، والآية منسوخة على هذا بآية السيف (¬2)، والمقاتلة مفاعلة من القتال، والقتال الحرب ومعاطاة القتل، والاعتداء افتعال من العدوِّ، وقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} دلالة على أن إطلاق المحبَّة في موضع الإرادة مجازًا (¬3) لانتفائه (¬4) مرة وثبوته أخرى لإجماعنا (¬5) أن المعتدين مرادون لله تعالى، وإن خالفونا في الاعتداء هل هو مراد أم لا؟ {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} نزلت فيمن نزلت الآية المتقدمة و (الثقف) الإدراك والمصادفة، يقال رجل ثقف لقف، وثقْف لقْف إذا كان سريع الإدراك لطلبته، وهو عام خصَّه قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} {وَأَخْرِجُوهُمْ} يعني من الحرم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} مختص بحادثة مخصوصة، روي أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من المشركين في يوم شك من رجب فعابَ المشركون ذلك فنزل (¬6)، {وَالْفِتْنَةُ} أي كفرهم الموجب لقتلهم أشد فسادًا من القتل المنهي عنه في الأشهر الحرم المأمور به في سائر الأشهر، والفتنة الابتلاء والامتحان بالشر. ¬

_ (¬1) في "ب": (هنا). (¬2) انظر: ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 197)، والقرطبي (2/ 348). (¬3) الأصل أن تحمل المحبة على بابها في قوله: {لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وكما أنه -عَزَّ وَجَلَّ- نفى محبته عن المعتدين دلَّ على إثبات المحبة لغير المعتدين، فالمحبة لله ثابتة وليست مجازًا كما يقول المؤلف، وما ذهب إليه المؤلف هو مذهب الأشاعرة الذي يتبنَّاه في تأويلاته لآيات الصفات في كثير من المواطن في هذا التفسير الذي بين أيدينا. (¬4) في الأصل: (الانتقاية). (¬5) في الأصل: (لأجاعنا). (¬6) انظر: القرطبي (2/ 351)، والبغوي (1/ 169).

وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} منسوخ بآية السيف (¬1) {فَإِنِ انْتَهَوْا} للانتهاء معنيان: بلوغ النهاية، قال الله تعالى: {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (¬2) والانتهاء هو الوقوف على قضية النهي كما أن الائتمار هو وقوف على قضيَّة الأمر وهو المراد ههنا أي امتنعوا عن القتال {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} عن مجاهد أنها ناسخة (¬3)، وقيل: هي منسوخة {الدِّينُ لِلَّهِ} أي التديُّن لله، وهو أن يكون تديُّن الإسلام الذي ارتضاه دينًا، والانتهاء هو عن الكفر على قول مجاهد (¬4)، وعن القتال على قول من يعدُّها منسوخة {فَلَا عُدْوَانَ} أي مجاوزة العدوان. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} نزلت في إقامة قتال المشركين في يوم الشك من رجب مقابلة قتالهم عام الصدَّ في شهر ذي القعدة ليكون قصاصًا، وقيل: هي إقامة عمرة القضاء مقام العمرة التي صدَّ عنها المشركون بالحديبية (¬5) {وَالْحُرُمَاتُ} المحرَّمات أي بعضها {قِصَاصٌ} ببعض مثل القتل بالقتل والجرح بالجرح، وقيل: الحرمات حرمة الشهر والإحرام والحرم، وفيه اختصار، وتقديره: الحرمات بالحرمات قصاص مع المتقين بالنصرة والولاية. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} روى حيوة بن شريح (¬6) عن يزيد بن أبي ¬

_ (¬1) ذهب إلى النسخ قتادة كما في الطبري (2/ 351)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 199). وأما عن مجاهد فذهب إلى أنها آية محكمة. (¬2) سورة النجم: 14. (¬3) الذي قال أنها ناسخة هو قتادة والربيع ومجاهد رواه عنهم الطبري في تفسيره (3/ 296)، وابن الجوزي في ناسخه ص 182، وابن أبي شيبة (14/ 352). (¬4) لم أجده عن مجاهد إنما عزاه بعض أهل التفسير دون نسبة لأحد، انظر: زاد المسير (1/ 200). (¬5) انظر: زاد المسير (1/ 201)، وأسباب النزول للواحدي ص 55، وتفسير البغوي (1/ 163)، والقرطبي (2/ 351)، والعجاب ص 280. (¬6) حيوة بن شريح بن صفوان، الإمام الرباني الفقيه شيخ الديار المصرية، أبو زرعة التجيبي، وكان مجاب الدعوة. قال ابن وهب: ما رأيتُ أحدًا أشدَّ استخفاءً بعمله من حيوة وكان من البكائين، وكان فقيرًا جدًا. توفي سنة ثمان وخمسين ومائة. =

حبيب (¬1) عن أسلم قال: حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح به الناس، فقالوا: يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس، إنكم لتأولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت فينا يا معشر الأنصار لما قوي الإسلام وكثر ناصروه أمرنا أن نقيم في أموالنا ونصلح ما ضاع منها، فردَّ الله تعالى ذلك علينا وأنزل قوله: {وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بالروم (¬2). وروي أن رجلًا من أزد شنؤة تقدم وحده إلى الكفار في محاصرة دمشق فردَّه المسلمون وأتوا به عمرو بن العاص (¬3) فلامه وأنكر عليه (¬4)، ¬

_ = [تاريخ البخاري (3/ 120)؛ الكامل (6/ 35)؛ تذكرة الحفاظ (1/ 185)؛ وفيات الأعيان (3/ 37)]. (¬1) هو الإمام الحجة مفتي الديار المصرية يزيد بن أبي حبيب سويد أبو رجاء الأزدي، ولد بعد سنة خمسين في دولة معاوية، وهو من صغار التابعين، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود. قال أبو سعيد بن يونس: كان مفتي أهل مصر في أيامه وكان حليما عاقلًا، قال الليث بن سعد: يزيد سيِّدنا وعالمنا. مات في سنة ثمان وعشرين ومائة وهو ما بين الخمس والسبعين إلى الثمانين. [الثقات (5/ 546)؛ سير أعلام النبلاء (6/ 31)؛ طبقات الحفاظ (1/ 59)؛ تهذيب التهذيب (11/ 278)؛ رجال مسلم (2/ 355)]. (¬2) الواحدي في أسباب النزول (50 - 52)، وأصل الرواية عند البخاري (4516). (¬3) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو عبد الله، ويقال: أبو محمَّد، أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وقيل: بين الحديبية وخيبر، ولَّاه النبي - صلى الله عليهوسلم - على جيش ذات السلاسل، كان من فرسان قريش وأبطالهم، وكان أحد الدهاة في أمور الدنيا المقدمين في الرأي والمكر والدهاء، نزل مصر وهو الذي افتتحها في خلافة عمر بن الخطاب، ومات بها وكان واليًا عليها ليلة الفطر سنة إحدى أو اثنتين وستين في ولاية يزيد بن معاوية، وقيل: بل مات سنة ثلاث وأربعين في ولاية معاوية. [الاستيعاب (3/ 1184)؛ الثقات (3/ 265)؛ تهذيب التهذيب (8/ 49)؛ سير أعلام النبلاء (3/ 54)؛ رجال مسلم (2/ 65)؛ الإصابة (4/ 650)]. (¬4) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1747).

وقال: إنَّ الله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. وقول أبي أيوب أصحّ لأنَّه شهد النزول وعرف البيان. وما كان من جعفر الطيَّار (¬1) يوم مؤتة، غير أن الرجل إذا ضيَّع نفسَه ولم يقاتل وتعرض للقتل فإنَّا نرى فيه رأي عمرو بن العاص حينئذٍ؛ لأنَّه كالقاتل نفسه، و {التَّهْلُكَةِ} اسم من الهلاك، وقال الخارزنجي (¬2) (¬3): لا أعرف مصدرًا على التَّفعُلة بضمّ العين إلا هذا، والمراد ههنا الهلاك في أمر الديانة، والهلاك يستعمل في غير ذلك، قال عمر: لولا علي لهلك عمر (¬4). {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} محبة الله عبده ارتضاؤه لدينه (¬5) وسائر كراميه، ومحبة العبد ربَّه ارتضاؤه للعبادة والذكر، والفرق بين المحبة والإرادة أنك تريد عدوَّك بالمكروه والسوء ولا تحبه بالمكروه والسوء. {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} عطف التطوع على الفرض، ويجوز ذلك إذا حلَّ محل ¬

_ (¬1) وذلك لأن جعفرًا الطيار استمرَّ في القتال إلى أن قطعت يداه. وأثر أبي أيوب الأنصاري ذكره البغوي في تفسيره (1/ 172)، وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الأثير في أسد الغابة (2/ 96). (¬2) أحمد بن محمَّد الخارزنجي، إمام أهل الأدب واللغة في خراسان، فاق فضلاء عصره هكذا قال السمعاني. شهد له ثعلب ومشايخ العراق بالتقدم في اللغة، وانبهر به أهل بغداد في تقدمه باللغة. توفي في رجب سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. والخارزنجي نسبة إلى خارزنج اسم قرية بنواحي نيسابور من ناحية بشت. [الإنساب للسمعاني (2/ 304)]. (¬3) هذا القول ذكره صاحب "لسان العرب" (10/ 504) مادة "هلك" وقال: (قال اليزيدي: التهلكة من نوادر المصادر ليست مما يجري على القياس). اهـ. والأصل أن يقال أن الضم أصل غير مبدل من كسر، وقد حكى سيبويه مما جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة مع أن ثعلب زعم أنَّ الضم في "تَهْلُكَة" لا نظير له، وهو مردود بوروده كما حكاه سيبويه. (¬4) انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (162)، والاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1102)، والمناوي في فيض القدير (4/ 357). (¬5) هذا مذهب الأشاعرة في تأويل المحبة حيث ينفون المحبة عن الله كما ذهب إليه المؤلف في تقريره لهذا المذهب.

الواجب في التأكيد كقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقيل: أراد بها العمرة الواجبة بالإحرام المتقدم؛ لأنه قال: {وَأَتِمُّوا} والإتمام إنما هو بعد الشروع، وعلى هذا حجة على من لم يأمر القارن بطوافين وسعيين، وقرأ الشعبي: {والعمرةُ} بالرفع (¬1)، ويراها تطوعًا ويجوز التطوع بما لا أصل لها في الفرائض كالاعتكاف. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم بالعوائق من الخوف والمرض والفقر، وروى إبراهيم بن علقمة {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} من مرض أو حبس قال: فحدثت به سعيد بن جبير (¬2) فقال: هكذا قال ابن عباس (¬3)، ونحر هدي الإحصار لا يجوز في غير الحرم لما روي عن ناجية بن جندب الأسلمي (¬4) عن أبيه أنه ذهب بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وأخذ في شعبة لا يبصرونه حتى نحره بالحرم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} شاة فصاعدًا، والهدى والهدي لغتان، و (الحلق) والسبت واحد ورأس الشخص الطرف الأَعْلَى خلفه أو مقدمه، والحلق ساقط عن المحصر كسائر أفعال المناسك و (بلوغ الهدي محله) بلوغه الحرم كقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬6). ¬

_ (¬1) وقرأ بالرفع علي وابن مسعود وزيد بن ثابت. فيكون الرفع على الابتداء و (لله) الخبر على أنها جملة مستأنفة. [الشواذ ص 12 - البحر المحيط (2/ 72) - ابن عطية (1/ 542) - ونسبها القرطبي (2/ 369) إلى الشعبي وأبي حيوة]. (¬2) في الأصل: (جبيرة) وهو خطأ. (¬3) تفسير ابن أبي حاتم (1766). (¬4) هو ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي، صحابي جليل، سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجية إذ نجا من قريش، وكان اسمه ذكوان. استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على هديه حين توجه إلى الحديبية وإلى عمرة القضية. وشهد فتح مكة، واستعمله على هديه في حجة الوداع، فكان يعرف - رضي الله عنه - بأنه صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان نازلًا في بني سلمة. ومات بالمدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان. [الاستيعاب (4/ 1522)؛ الإصابة (6/ 399)؛ تهذيب الأسماء (2/ 422)؛ تهذيب التهذيب (10/ 356)]. (¬5) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬6) سورة المائدة: 95.

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} نزلت في كعب بن عجرة (¬1) (¬2) ومن كان في حالِهِ و (الفدية) من الصيام ثلاثة أيام، ومن الصدقة ثلاثة أصوع من الحنطة يصرفها إلى ستة مساكين، ومن النسك ما تيسر وهو جمع نسيكة وهي الذبيحة على وجه القربة، والمحصر مخيَّر بين هذه الأشياء {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} في القابل بعد زوالط الإحصار {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أراد أن يأتي بالعمرة وجبت عليه لتحلُّله عن الحج بغير فعلِهِ وبالحجة التي هي قضاء عن الحجة المفروضة وأراد أن يجمعهما (¬3) بإحرامين في أشهر الحج في سفر واحد؛ لأنه يكون متمتعًا ولو جمع بينهما جامع تطوعًا أو من نذر فحكمه كذلك {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} في أشهر الحج تلك عشرة للتأكيد، قال: ثلاث بالغداة فهنَّ حسبي ... وستٌ حين تدركني العشاءُ فذلك تسعةٌ في اليوم ريّي ... وشرب المرء فوق الريِّ داءُ (¬4) {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} النازلين بين البيت والمواقيت التي وقتها رسول الله -عليه السلام-- (¬5). ¬

_ (¬1) هو كعب بن عجرة الأنصاري المدني، صحابي مشهور، كنيته أبو محمَّد من بني سالم بن عوف، وهو من أهل بيعة الرضوان، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية، مات سنة ست وخمسين وهو ابن خمس وسبعين سنة. [تهذيب التهذيب (8/ 390)؛ مشاهير علماء الأمصار (1/ 20)؛ رجال مسلم (2/ 154)؛ سير أعلام النبلاء (3/ 52)]. (¬2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب المحصر، باب الإطعام في الفدية نصف صاع (4/ 16)، ومسلم في صحيحه - كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (2/ 861) ولفظه: قال كعب بن عجرة: فيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ...} وقع القمل في رأسي فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "احلق وافدِ بصيام ثلاثة أيام أو النسك أو أطعم ستة مساكين". (¬3) في الأصل: (يجمعها). (¬4) البيتان للأعشى كما ذكر ذلك السمين الحلبي في تفسيره (2/ 320) ولم أرهما في ديوانه وهما في البحر المحيط (2/ 79)، والقرطبي (2/ 403)، ومثله قول الفرزدق: ثلاثٌ واثنتان فهنَّ خمسٌ ... وسادسةٌ تميلُ إلى شمامِ [ديوان الفرزدق ص 835]. (¬5) بدل (السلام) في "ب": (صلى الله عليه وسلم).

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} نزلت في شؤون كثيرة كذكر أشهر الحج والنهي عن الأشياء الثلاثة والأمر بالزاد والراحلة وإباحة التجارة في الإحرام وإيجاب الوقوف لذكر الله تعالى بالمشعر الحرام. و {الْحَجُّ} فعل و (الأشهر) ظرف، وجعل الفعل مبتدأ والظرف خبرًا على أحد تقديرهما أحدهما على حذف المضاف أي مدة الحج أشهر، تقول العرب: الحر شهران والبرد شهران (¬1)، والثاني أن يجعل الظرف مقدرًا للمبتدأ أو مقدرًا لشيء صفة له كما تقول: هذه الحنطة صاع وهذا الشعير قفيز (¬2)، والأشهر المعلومات (¬3): شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وإنما أطلق اسم الجمع على شيئين وبعض الثالث؛ لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل كما قام يومان ونصف مقام ثلاثة أيام في قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وقام يوم ونصف مقام يومين في قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} فمن فرض فيهنَّ عين الوجوب فيهنَّ بالإحرام، وعن عطاء أنه التلبية، وتلبية النبي -عليه السلام- (¬4): "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" (¬5)، ويجوز الزيادة عليه. ¬

_ (¬1) قال القرطبي (2/ 504): (قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر). وقال ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 209): (قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وتقول: زرتك لعام وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة، وذكر ابن الأنباري في هذا قولين؛ أحدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية). اهـ. (¬2) {الْحَجُّ} مبتدأ و {أَشْهُرٌ} خبره، والمبتدأ والخبر لا بدَّ أَنْ يصدقا على ذات واحدة، وكما قال المؤلف: "الحج" فعل من الأفعال و"أشهر" زمان، وهما متغايران، والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه ذكر المؤلف منها وجهين، والوجه الثالث: أن تجعل الحدث نفس الزمان مبالغة، ووجه المجاز كونه حالًا فيه، فلما اتَّسع في الظرف جُعِلَ نفس الحدث ونظيره قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}. [الدر المصون (2/ 322) - معاني القرآن (1/ 119)]. (¬3) في "ب": (المعلومة). (¬4) بدل (السلام) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) وهذه الصيغة - صيغة التلبية في الحج والعمرة- رواها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا. =

و (الرفث) هو الجماع (¬1) و (الفسوق) ما يخرج به الرجل عن طاعة الله من الأشياء التي هي محظورة بعقد الإسلام أو بعقد الإحرام (¬2) و (الجدال) (¬3) المجادلة، وهي (¬4) إقامة الحجة بمقابلة الحجة، والمراد ههنا قبل المدافعة في أمر الحج أنه في أشهر، وقيل: أن تمادي صاحبك حتى تغضبه، وفي فحوى قوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} القبول والإنابة {وَتَزَوَّدُوا} قيل: إن قومًا متكلين كانوا يحجون بغير زاد فيبقون كلاًّ على الناس ويرونه توكلًا على الله وتقوى من أنفسهم، فأمر الله برفع الزاد للحجِّ وبيَّن أن خير الزاد للمعاد التقوى وترك السؤال والاتِّكال على الله لا الحج بغير زاد (¬5)، وعن سعيد بن جبير: الزاد الكعك والسويق (¬6) وهو البلغة. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} عمر بن ذر (¬7) ¬

_ = أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 324) - كتاب الحج - باب التلبية، ومسلم في صحيحه (1184) كتاب الحج - باب التلبية، ومالك في الموطأ (1/ 331). (¬1) حكى هذا القول الفراء في معاني القرآن (1/ 120)، والزجاج في معاني القرآن (1/ 259) وابن قتيبة في غريب القرآن ص 79. وأخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (3/ 458). (¬2) وهو نفس تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث فسر الفسوق بأنها كل المعاصي، وكذا فسَّره عطاء والحسن ومجاهد وغيرهم، رواه عنهم الطبري (3/ 472). (¬3) في الأصل: (الجد). (¬4) المثبت من "ب" وفي الجميع: (وهو). (¬5) روى البخاري في صحيحه- كتاب الحج (3/ 383)، وأبو داود (2/ 141)، والنسائي (5/ 243) وغيرهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. (¬6) رواه ابن أبي حاتم (1840)، والطبري (4953)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 78). (¬7) هو الإمام الزاهد العابد عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني المرهبي الكوفي، أبو ذر، قال العجلي: عمر بن ذر القاص، كان ثقة بليغًا يرى الإرجاء وكان لين القول فيه، قال أبو داود: كان رأسًا في الإرجاء، مات في سنة ثلاث وخمسين ومائة، ومن أقواله البليغة: كل حزن يبلى إلا حزن التائب عن ذنوبه، وقال: يا أهل معاصي الله لا تغتروا بطول حلم الله عنكم واحذروا أسفه فإنه قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرُف: 55]. [الثقات (7/ 168)؛ سير أعلام النبلاء (6/ 385)؛ تهذيب التهذيب (7/ 390)].

عن مجاهد (¬1) كانوا يخرجون حجاجًا لا يركبون ولا يتجرون ولا يتزودون فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فرخص لهم في الركوب والتجارة وأمروا بالتزوُّد، وعن سعيد بن جبير: كانت التجار ينزلون عن يسَار مسجد مِنَى ولا يحجون، والحاج ينزلون عن يمينه ويحجون حتى نزلت الآية فحجوا جميعًا (¬2). {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} وهو أن يثبت به ليلة التحريم تصلي الفجر بالغلس ثم تقف فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتكبر وتهلِّل وتدعو إلى أن يسفر (¬3) ثم [تدفع إلى مني قبل طلوع الشمس (والمشعر الحرام) هو المزدلفة كلها موقف فإن لم] (¬4) تبت به ولم تقف ودفعت إلى مني على وجهك من غير عذر فعليك دم وحجك تامٌّ، وروي أن النبي -عليه السلام- قدَّم ضعفة أهلِه إلى مني (¬5) وهو توقيت وليس بأمر الوقوف بها، والإفاضة هي الدفع في السير وكلام مفاض ومستفاض ومستفيض أي جار، و {عَرَفَاتٍ} اسم واحد على صيغة الجمع، وإنما سمي ذلك الموقف عرفات لوقوف الناس واحتباسهم به، وقيل: لطيبه، وقيل: لأن آدم اندفع من سرنديب (¬6) وحواء من جدة فالتقيا من هناك فتعارفا (¬7)، وقيل: لأن ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (3/ 502). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (3/ 507) عن سعيد بن جبير فذكره. (¬3) في "ي": (تُسفر). (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج، باب من قَدَّم ضعفة أهله بليل (3/ 526 الفتح)، ومسلم في صحيحه (2/ 939/49) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أنا ممن قَدَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. وفي رواية له أيضًا في الصحيحين: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمع بليل. (¬6) سرنديب: جزيرة كبيرة قرب الهند كما في "معجم البلدان" (3/ 205 - 216) ولعلها جزيرة سيلان المعروفة. (¬7) انظر: "معجم البلدان" للحموي (3/ 215 - 216)، وهناك روايات أخرى على نزول آدم في بلاد الهند. وانظر: القرطبي (2/ 415).

جبريل عرفه إبراهيم -عليه السلام- ليقف هناك (¬1). و {الْمَشْعَرِ} المعلم والموسَم. {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} نزلت في افتراض الوقوف بعرفات، وعن عطاء (¬2) كانت قريش تفيض من جمع وهو المزدلفة، ويقولون: إنا حمس لا يرون الإفاضة من الجبل وغيرهم يفيضون من عرفات فأمروا أن يفيضوا من حيث أفاض الناس. و {ثُمَّ} بمعنى الواو (¬3) كما في قوله: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} وقيل: الإفاضة من عرفات وجب من فحوى قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} وهذه الإفاضة (¬4) من جمع إلى مني وهذا مخالف للإجماع، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرفة، والظاهر أنَّ المراد بالناس غير الحمس، وقيل: آدم -عليه السلام- (¬5)، وقيل: إبراهيم -عليه السلام- (5) وحده، وقيل: إبراهيم ومن حجَّ معهُ من الناس (¬6)، ومن أدرك الوقوف بعد الظهر إلى أن تمضي ليلة النحر فقد أدرك الحج. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (3/ 199)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 222) لابن المنذر عن ابن عباس. (¬2) وجدته عن عروة وليس عن عطاء كما عند البخاري (3/ 75). (¬3) فيه إشكال وهو مجيء "ثم" الدالة على الترتيب والتراخي مع أن الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى لأن قريشًا كانت تقف بمزدلفة وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس. ويجاب عن ذلك الإشكال بوجوه: الوجه الأول: أن الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه الإفعال. الوجه الثاني: أن تكون هذه الجملة {ثُمَّ أَفِيضُوا} معطوفة على قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} ففي الكلام تقديم وتأخير. الوجه الثالث: أن تكون "ثم" بمعنى الواو. الوجه الرابع: أن الإفاضة الثانية هي من جَمْعٍ إلى مِنَى والمخاطبون بها جميع الناس، وهو قول الضحاك، ورجحه الطبري، وهذا أقرب الأوجه وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن. [الطبري (3/ 532) - الكشاف (1/ 349) - البحر (2/ 99) - الدر المصون (2/ 334)]. (¬4) (الإفاضة) ليست في الأصل. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 214).

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} متعبداتكم بمنى (¬1)، وقال مجاهد (¬2): ذبائحكم، واختلفوا في تشبيه ذكر الله بذكر الآباء، قيل: من حيث التوحيد، فكما لا يدَّعي (العاقل لنفسه أبوين فكذلك لا يدعي) (¬3) إلهين (¬4)، وقيل: من حيث إنَّ الصبي يفزعُ في كلِّ أموره إلى أبيه فكذلك المؤمن يجب أن يفزعَ إلى الله تعالى (¬5)، وقيل: كان أهل الجاهلية يقفون بين الجبل والمسجد ويذكرون آباءهم بصالح الأعمال ويتفاخرون بذلك (¬6)، فأمر الله سبحانه وتعالى أن يذكروه هناك بصفاته الحميدة فإنه أولى {أَوْ أَشَدَّ} بل أشد، وقيل: {أَوْ} (¬7) بمعنى الواو. {فَمِنَ النَّاسِ} قريشًا وأمثالهم كانوا لا يسألون الله تعالى إلا ثواب الدنيا وكانوا ينكرون المعاد {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا} نزلت في المؤمنين، وقيل: أول من دَعا بها أبو بكر في الحج الأكبر (¬8)، والحسنة في الدارين هي النعمة عند مجاهد والعافية (¬9) عند قتادة (¬10)، ويحتمل أنه ¬

_ (¬1) في "ب" "أ": (هنا) بدل (مني). (¬2) تفسير ابن أبي حاتم (1867) بلفظ: (إهراقة الدم)، وهو عند الطبري في تفسيره (3/ 534). (¬3) ما بين (...) ليس في "أ". (¬4) قال القرطبي (2/ 431): هو قول جمهور المفسرين. (¬5) رواه الطبري في تفسيره (3/ 537) عن عطاء والضحاك والربيع. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1871) عن عطاء. وعزاه القرطبي (2/ 431) إلى ابن عباس. (¬6) تفسير الطبري (3/ 536) عن مجاهد. (¬7) (أو) ليست في الأصل. (¬8) روي في سبب نزول هذه الآية عن أبي وائل رواه الطبري في تفسيره (3/ 542) قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعد قضاء مناسكهم فيقولون: اللهمَّ ارزقنا إبلًا، اللهمَّ ارزقنا غنمًا، فأنزل الله هذه الآية. وأما قول المؤلف أن أول من دعا بها أبو بكر في الحج الأكبر فلم أجد من ذكره، والله أعلم. (¬9) لم أجده عن مجاهد، ولكن عزاه ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 216) لابن قتيبة. (¬10) تفسير الطبري (3/ 554)، وتفسير ابن أبي حاتم (1881)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 80).

نعت لاسم مضمر وهو العيشة أو الحالة {لَهُمْ نَصِيبٌ} ثواب أعمالهم (¬1) وهو الخلاف المنفي في الآية الأولى و (النصيب) الحظ والقسم و (السرعة) ضد البطء، والمراد بـ (الحساب) عد الأعمال. روي أن الله تعالى يحاسب الكل مرة واحدة لا يشغله حساب عن حساب، وينتهي الحساب في مقدار حَلبة شاة (¬2)، وروي في مقدار فواق ناقة، وروي في مقدار لحظة. {وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} نزلت في الإقامة بمنى (¬3) لذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي حكم النفر وأيام مني هي المعدودات ثلاثة بعد اليوم العاشر الذي هو آخر الأيام المعلومات، وأيام النحر ثلاثة أيام أولها آخر الأيام المعلومات وآخرها الثاني من المعدودات أفضلها أوَّلها، وأخذ في تفسير المعلومات والمعدودات بقول ابن عباس (¬4) وابن عمر (¬5) وفي توقيت النحر بقولهما وبقول علي (¬6) وأنس -رضي الله عنهم - (¬7). {فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ} وهو أن يرمي الجمار يومين بعد يوم النحر وينفر مع النفر الأول، واختلفوا في رفع الإثم، قيل: هو التخيير بين الأمرين كما نقول: من أفطر في (¬8) السفر فلا حرج عليه ومن صام فلا حرج عليه، وقيل: وجب الرمي ثلاثة أيام بقوله: {وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} فلما أباح التعجُّل في اليومين خرج اليوم الثالث من الوجوب، ¬

_ (¬1) في الأصل: (لعمالهم). (¬2) ذكره القرطبي (2/ 435). (¬3) في الأصل: (تمنى). (¬4) تفسير الطبري (3/ 550)، وابن أبي حاتم (1895)، وفسرها ابن عباس -رضي الله عنهما - بأنها أيام التشريق الثلاثة بعد النحر. (¬5) تفسير ابن أبي حاتم (2/ 361) بدون سند، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 234) للفريابي وابن المنذر وابن أبي الدنيا. (¬6) تفسير ابن أبي حاتم (1894)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 234) لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا. (¬7) العبارة في "ب": (علي -رضي الله عنه- وأنس). (¬8) في "أ": (أفرط السفر).

فلو لم يرفع الإثم عن المتأخر لما جاز الرمي فيه، إذ التنفل بالرمي عبث {لِمَنِ اتَّقَى} أي رفع الإثم لمن اتقى محظورات الإحرام. روي أنَّ رجلًا توفي بمنى فقيل لعمر: أما تشهد دفنه؟ فقال: وما يمنعني عن دفن من لم يذنب (¬1) من غفر له، قال -عليه السلام-: "من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (¬2)، و (الحشر) الجلا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} قال السدي وغيره: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي (¬3) وكان رجلًا حسن المنظر حلو المنطق خبيث السريرة، واسمه فيما يروى أبيّ وإنما لُقِّب بالأخنس لأنَّه خنس مع ثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة يوم بدر ولم يشهدوا (¬4)، قال الحسن: نزلت في كل منافق ومراء (¬5) معناها عامة تنبيهًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وإعجاب الشيء بالشيء أن يسرَّه {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلْبِهِ} يعني يقول: الله شهيد على ما في قلبي من الوفاء والإخلاص {وَهُوَ أَلَدُّ} أشد الخصومَةِ فإنْ كان (الألد) (¬7) ههنا بمعنى النعت فالخصام مصدر كالقتال، وإنْ كان على معنى ¬

_ (¬1) في الأصل: (يثرب). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه- كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (3/ 302)، ومسلم في صحيحه- كتاب الحج، باب في فضل الحج (1350). (¬3) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (57 - 58) وبعضه عند الطبري (3/ 572). وفيه أنه أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وأظهر له الإسلام فأعجَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه وقال: إنما جئتُ أريد الإسلام، والله يعلم أني صادق وذلك قوله: {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ثم خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فَمَرَّ بزرع لقوم من المسلمين وحُمُر، فأحرق الزرع وعَقَرَ الحُمُرَ فأنزل الله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}. (¬4) الأخنس ترجم له ابن حجر في الصحابة في القسم الأول (1/ 25 - 26) (61) وقد أثبت أنه أسلم وكان من المؤلَّفة قلوبهم وشهد حنينًا، بينما ذهب آخرون أنه لم يسلم. وقد أثبت ابن حجر إسلامه وقال: (ولا مانع أن يسلم ثم يرتد ثم يرجع إلى الإسلام). اهـ. وانظر القرطبي (3/ 14). (¬5) عزاه إليه ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 219) وكذا عزاه لقتادة وابن زيد. (¬6) (وسلم) من "أ". (¬7) الألد: هو الشديد من اللَّدَدِ، وهو شدة الخصومة، ومنه قول الشاعر [وينسب للمهلهل]: إنَّ تحتَ الترابِ عَزْمًاوَحَزمًا ... وخصيمًا أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ =

التفصيل فالخصام جمع خصم نحو كلب وكلاب، والمخاصمة قريب من المحاجَّة. {سَعَى} ذهب {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قيل أنه بيَّت قومًا من الطائف كان بينه وبينهم جدال بعد ما رجع من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فقتل مواشيهم وأحرق زروعهم (¬2) (¬3)، وقيل لم يحرق إلا كدسًا واحدًا من الشعير ولم يعقر إلا حمارًا واحدًا (¬4) {وَالنَّسْلَ} الذرية {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} طالبته المنعة وحملته عليه، كما نقول: أخذ فلان فلانًا بحقِّه أي طالبه به {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} جزاؤه جهنم أخذت من التجهم وهو النكرة. قال رؤبة: رُكيَّة جِهِنَّام أي: بعيدة القعر (¬5)، وقال يونس: اسم أعجمي (¬6)، وقال أبو عبيدة: جهنم إنما لا ينصرف لأنه اسم مؤنث زاد على ثلاثة أحرف، والمراد به دار العذاب التي أعدَّ الله لأعدائه في الآخرة {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الوطاء الفراش، قال الله تعالى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وأصل المهد التوثير. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} نزلت في كل مؤمن معناها صفته، والله تعالى جمع بين صفة المنافقين والمؤمنين على سبيل التنويع والإطباق ¬

_ = ورجل ألد وامرأة لَدَّاءُ والجمع لُدٌّ كحُمْر. وفي اشتقاقه أقوال؛ منها: أنه مأخوذٌ من لُدَيْدَي العُنق وهما صفحتاه قاله الزجاج، وقيل: مأخوذ من لُدَيدَي الوادي وهما جانباه. [الكامل (1/ 37) - القرطبي (3/ 16) - معاني القرآن للزجاج (1/ 267)]. (¬1) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬2) لم أجد أنه بيت قوم من أهل الطائف، ولكنَّ رواية الواحدي السابقة أنه مرَّ بزرع لقوم من المسلمين وحُمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله الآية كما مرَّ ذكره قبل قليل. (¬3) في الأصل: (زروتهم). (¬4) لم أجد هذه الرواية التي تذكر كدسًا واحدًا وحمارًا واحدًا. والمثبت ما أثبتناه في سبب النزول. (¬5) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (3/ 56)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 222)، والأزهري في تهذيب اللغة (6/ 515). (¬6) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (3/ 56)، والأزهري (6/ 515)، وابن منظور في لسان العرب (12/ 112). ويونس هو ابن حبيب شيخ سيبويه ذهب إلى أن جهنم اسم أعجمي وعربت وأصلها كُهْنَام. وقيل: بل هي عربية.

وكان عمر وعلي (¬1) يؤوِّلانها بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يشري نفسه ويبذلها في سبيل الله لابتغاء مرضاته، والشري بمعنى البيع قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬2) وقيل: نزلت في صهيب بن سنان (¬3) (¬4) واختلفوا في قصَّته قيل إِنَّهُ اشترى نفسه من مواليه وقال: لا يضركم أكنت منكم أو من غيرهم (¬5) ثم هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وقيل: اشترى نفسه من أهل مكة جميعًا [مع جماعة من المستضعفين، وقيل: كان صهيب قد أعتق من قبل إلا أنه لما هاجر تبعه قوم من أهل مكة] (¬7) فنشر ¬

_ (¬1) أما عن عمر فرواه ابن جرير (2/ 322) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 241) لوكيع وعبد بن حميد. وأما عن علي فذكره بدون سند الطبري (2/ 322)، وذكره القرطبي (3/ 21)، وزاد المسير (1/ 223). (¬2) سورة يوسف: 20. (¬3) هو صهيب بن سنان بن مالك من بني أوس بن مناة من اليمن، كان أصله سبي بالروم ووافوا به الموسم واشتراه عبد الله بن جدعان القرشي كما ذكر في المصادر لا كما ذكره المؤلف - زيد بن جدعان- بل هو عبد الله بن جدعان. أسلم هو وعمار في دار الأرقم وكان من المستضعفين ممن عُذِّبوا في الله حتى هاجر إلى المدينة مع علي بن أبي طالب حتى توفي في المدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، ودُفن بالبقيع. [الصحابة لأبي نعيم (1/ 321) - أسد الغابة (2/ 418) - الإصابة (2/ 195) - معجم الصحابة للبغوي (3/ 343)]. (¬4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 36/7296)، والحاكم في المسندرك (3/ 400)، والبيهقي في الدلائل (2/ 522)، وابن عساكر في تاريخه (6/ 453) وغيرهم، ولفظه: أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا: دلَّنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلَّهم أن يدعوه ففعل. فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ربح البيع أبا يحيى ربح البيع"، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ...} الآية. (¬5) في "ب" "ي": (غيركم). (¬6) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬7) ما بين [...]، ليس في الأصل.

كنانته (¬1) وقال: والله لا أضع سهمًا إلا في قلب رجل ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي، إنْ شئتم فتقدموا وإن شئتم فخلّوا سبيلي وأدلّكم على مالي بمكة، فقالوا: نخلِّي سبيلك، فدلَّهم على ماله، وهو عربي من ولدِ النمر بن قاسط سبته الروم في صغره ثم وقع بالحجاز وصار مملوكًا لزيد بن جدعان فكان يسمى صهيبًا الرومي. و (المرضاة) مصدر مثل المرحمة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} نزلت في العامة، وقيل: نزلت في قوم من اليهود كانوا قد أسلموا ويتحرجون عن بعض رخص الإسلام مثل أكل لحوم الإبل ونحوه (¬2)، و {السِّلْمِ} بالكسر: الإسلام، وإذا أريد به الصلح (¬3) فالفتحة والكسرة لغتان. {كَافَّةً} نصب على الحال أو التأكيد، ويجوز بناء على التنوين كما في يومئذ. و (الكافة) مأخوذة من لغة الشيء وهو صرفه ونهايته. وفي فحوى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تهديد لأن العزيز لا يمنعه شيء عن معاقبة المفسدين من عبيده {هَلْ يَنْظُرُونَ} نزلت في المتثبطين عن الإيمان مع مشاهدة الآيات على وجهِ التهديد. و {هَلْ} أداة استفهام، والمراد به النفي كما تقول: هل بقي بعد هذا شيء {يَنْظُرُونَ} ينتظرون، كقوله: {انظُرُونَا} (¬4) وقوله: {انظُرَنا} (¬5). ولقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ثلاثة معانٍ: أحدها: كون المأتي في ظلل من الغمام كما نقول: (أتيت فلانًا في بيته فخرج إليَّ، والثاني: إتيان الآتي بظلل كما تقول) (¬6) أتاهم السلطان في عسكر لجب، والثالث: [لبس الأمر على المأتي كما ¬

_ (¬1) في الأصل: (كناية). (¬2) ذكره الواحدي في أسباب النزول من "تفسير عبد الغني الثقفي" (59). وعبد الغني الثقفي واهٍ في الحديث لا يعتدُّ بنقل كما ذكره ابن حجر في "العجاب" (1/ 530). وعزاه ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 224) لابن عباس من رواية أبي صالح. (¬3) في الأصل: (الصح). (¬4) سورة الحديد: 13. (¬5) سورة البقرة: 104. (¬6) ما بين (...) ليس في "أ".

تقول: أتاه الملك على صورة كذا وإنما هو في نفسه على صورته وإن] (¬1) لبس الأمر على المأتي والله متعال عن الحلول وعن أن يحيط به شيء في عظمته (¬2). و (الظلل) جمع ظُلَّة، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أمضي حكم الله فيهم. {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} نزلت في تذكير ما نصب الله لبني إسرائيل من الأدلة وإعراضهم عنها وإزالتهم نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكفران (¬3) ليكون في ذلك تعزية لرسول الله -عليه السلام- (¬4) وتنبيهًا للمخاطبين، وقوله: {سَلْ} أمر من السؤال أصله: اسأل، وقيل: من سأل يسال مثل (¬5) نال ينال، وفائدة السؤال تذكيرهم حالتهم الأولى وتقرير (¬6) الأمر عند من لا يؤمن بالتنزيل، و {كَمْ} أداة للسؤال عن عدد الشيء وقلَّته وكثرته، {مِنْ} للتفسير {وَمَنْ يُبَدِّلْ} يغيِّر والإنسان لا يبدل نعمة الله بالبؤسِ غير أنه يكفر فيؤدي ذلك إلى بديل النعمة، وهو كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} والنعمة ههنا (¬7) أدلَّة الحق، وقيل: عامة. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وأنزلت في أبي جهل وأمثاله كانوا يسخرون من المستضعفين (¬8)، وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يسخرون من ¬

_ (¬1) ما بين [...]، ليس في الأصل. (¬2) كما قال المؤلف: إن الله متعالٍ عن الحلول ومع ذلك لا يمنع من إثبات صفة المجيء لله كما أثبت ذلك القرآن: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} وحديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا: قال عليه الصلاة والسلام: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي منادٍ ... " الحديث بطوله أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/ 416)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في السنة (2/ 520)، والحاكم في المستدرك (2/ 376) وغيرهم بإسناد صحيح. (¬3) في الأصل "ب": (بالكفر). (¬4) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) في "ب" "ي": (مثال). (¬6) في "أ" "ب" "ي": (تفسير). (¬7) في الأصل: (هاهنا). (¬8) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 228) وقال الثعلبي: نزلت في مشركي العرب: =

صعاليك المهاجرين (¬1). و (التزيين) قريب من التحسين، والزينة هو الحسْن المكتسب، فالكفار زُيِّنَ لهم الحياة الدنيا حيث نظروا إلى بهجتها المحسوسة ولم يتفكَّروا في عاقبتها فأُعجبوا بها ولهوا عن غيرها كما قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} ومزيِّنها لهم هو الله، قال: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} والسخرية: الاستهزاء. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ} في الرتبة والحال {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير مناقشة في حسابه مثل نعمة سليمان، وقيل: بغير أن يكون عليه حساب يعني نعيم الآخرة، وقيل: ما لا يحصيه كل أحد لكثرته يعني نعيم الآخرة أيضًا. {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس (¬2): كانوا على شريعة من الحق من لدن آدم إلى أن كفروا في عصر نوح -عليه السلام- (¬3)، وقيل: إلى أن قتل قابيل هابيل (¬4)، وقيل: كانوا أمة على الجاهلية في عصر نمرود إلى أن أرسل الله إبراهيم وذويه عليهم (¬5) السلام (¬6) {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} نصب على الحال (¬7)، ¬

_ = أبي جهل وأصحابه، كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ويسخرون من المؤمنين، فنزلت الآية. وروى سبب النزول هذا البغوي في تفسيره (1/ 185). (¬1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 228) وقال: نزلت في علماء اليهود. وهو قول مجاهد كما في ابن أبي حاتم في تفسيره (1968). (¬2) ابن جرير في تفسيره (3/ 621)، والحاكم في المستدرك (2/ 480، 596، 599)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 242) للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم، ولم أجده في تفسير ابن أبي حاتم المطبوع في تفسير هذه الآية، والله أعلم. وقد ورد هذا المعنى عن جمع من التابعين. وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (2/ 376 - 377)، والدر المنثور (1/ 242)، والطبري (3/ 623) وما بعدها. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) هذا القول عزاه ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 229) لابن الأنباري. (¬5) في "أ": (عليه). (¬6) هذا القول ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 31) ولم يذكر النمرود. (¬7) قوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} هما حالان من {النَّبِيِّينَ} وهي حال مقدرة وليس كما قيل أنها حال مقارنة على أن بعثهم كان وقت البشارة والنذارة. [الدر المصون (2/ 374)].

{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي ومع إرسالهم، وقيل معهم بمعنى عليهم، والمراد بالكتاب الجنس، {بِالْحَقِّ} أي: بالدين. والأحكام التي هي (¬1) الحق وما اختلفوا فيه هو مثل اختلافهم في آدم عليه السلام وفي ملة إبراهيم عليه السلام (¬2) وفي أمر سليمان وعيسى عليه السلام، وغير ذلك من الأهواء وما اختلفوا فيه (¬3) من (¬4) شيء إلا من بعد أن (¬5) أوتوا علمهُ (¬6) لينفي فيما بينهم {فَهَدَى اللَّهُ} المؤمنين {بِإِذْنِهِ} إلى الحق الذي اختلفوا فيه، واللام مكان "إلى" في قوله: {مِنَ الْحَقِّ} تفسير لما اختلفوا فيه (¬7). {أَمْ حَسِبْتُمْ} قد سبق الكلام في (أَم) إذا كانت متصلة أبنيت على استفهام سابق، وإذا كانت منقطعة أبنيت على كلام سابق، وهو ذكر أشهر الكفرة بالمؤمنين وما يصيب المؤمنين من ذلك من الحزن {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} ولم يأتكم، و (لما) و (لم) بمعنى (¬8) إلا أن (لم) يقتضي نفيًا مجردًا، و (لما) ¬

_ (¬1) في "أ": (هو). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ي" "أ": (في). (¬4) (من) ليست في "ي" "أ". (¬5) (أن) ليست في "ب". (¬6) في الأصل: (علة). (¬7) قولهُ: {مِنَ الْحَقِّ} يمكن أن تكون في موضع نصب على الحال من "ما" في قوله {لِمَا}. وأجاز أبو البقاء أن يكون {مِنَ الْحَقِّ} حالًا من الضمير في "فيه" والعامل فيها {اخْتَلَفُوا}، وزعم الفراء أن في الكلام قلبًا وهو اختيار الطبري والأصل: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا. [الإملاء (1/ 91) - معاني القرآن للفراء (1/ 131) - الطبري (3/ 630)]. (¬8) قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} "لما": هي حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه، وهي على مذهب الفارسي وأبي البقاء ظرف بمعنى "حين"، وهي حرف جزم معناه النفي المتصل بزمان الحال، والفرق بينها وبين "لم" من وجوه: الوجه الأول: أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام إذا دلَّ عليه دليل كقول الشاعر [ينسب لذي الرمة وليس في ديوانه]: فجئتُ قبورهم بَدْءًا ولمَّا ... فناديتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ أي ولما أكن بدءًا أي مبتدئًا بخلاف "لم" فإنه لا يجوز ذلك فيها. والوجه الثاني: أن "لمَّا" لنفي الماضي المتصل بزمان الحال و"لم" للنفي مطلقًا.=

يقتضي نفيًا دون نفي، إذ المنفي به مراد إثباته في المستقبل لقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا} (¬1) {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (¬2). {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} صفتهم أي يعرض لكم حال كحالهم {وَزُلْزِلُوا} أزعجوا وحركوا مرة بعد مرة من كثر (¬3) البلايا (¬4) {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (¬5) لوعد الله تعالى (¬6) غير تشكك فيهم (¬7)، و {مَتَى} استفهام عن أوان الشيء. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري (¬8) من (¬9) بني سلمة بن جشم قُتل يوم أحد (¬10) وكان شيخًا كبيراً وعنده مال ¬

_ = والوجه الثالث: أن "لمَّا" لا تدخل على فعل شرط ولا جزاء بخلاف "لم ". [الإملاء (1/ 21) - الكتاب (2/ 312) - الدر المصون (2/ 381)]. (¬1) سورة آل عمران: 142. (¬2) سورة يونس: 39. (¬3) في "أ": (كثرة). (¬4) في "ب": (البلا). (¬5) في الأصل: (قطع). (¬6) سبب نزول هذه الآية - كما قاله قتادة والسدي-: أنها نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والحصر والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى فكان كما قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. [أخرجه عبد الرزاق (1/ 83) - وابن أبي حاتم (2/ 380)]. (¬7) في "أ" "ي": (فيه). (¬8) هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري السلمي الخزرجي، شهد العقبة ثم شهد بدرًا، وقتل يوم أحد شهيدًا، ودُفن هو وعبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وكان عمرو أعرج فقيل له يوم أحد: والله ما عليك من حرج لأنك أعرج، فأخذ سلاحه وولى وقال: والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، ثم قال: اللهمَّ ارزقني الشهادة ولا تردَّني إلى أهلي خائبًا، فكان له ما تمنى ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يطأ في الجنة بعرجته - رضي الله عنه - وأرضاه. [الاستيعاب (3/ 1168)؛ صفوة الصفوة (1/ 643)؛ الإصابة (4/ 615)؛ تهذيب الأسماء (2/ 342)]. (¬9) في "ب" "ي": (من). (¬10) في "ب": (بدر).

سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف ينفق، وكان ذلك قبل الزكاة فأنزل (¬1): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} عن ابن عباس: لما كتب الجهاد على المسلمين شقَّ عليهم ذلك لما فيه من المشقة، فنزلت الآية (¬2). قال ابن عرفة: الكُره بضم الكاف المشقة، والكَره بالفتح ما أكرهت عليه (¬3)، تقديره: ذو كره (¬4) لكم. (عسى) لعلَّ، وهو حرف يشبه الفعل {أَنْ تَكْرَهُوا} شيئًا على قضيَّة الطبيعة أو على قضيَّة (¬5) مجرد العقل [{وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي على قضيَّة الوحي مثل التقرب بالرأس وبذل النفس في الجهاد {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} يعني على قضيَّة الطبيعة ومجرد العقل] (¬6) {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} على قضيَّة الوحي مثل الانتفاع بقليل الخمر والانتفاع بالميتة قبل أن يتسارع (¬7) إليه الفساد {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} يعني علل النصوص والمصالح فيها. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} نزلت في أول غزاة غزاها المسلمون، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش (¬8) قبل بدر بشهرين في ¬

_ (¬1) ذكر ابن حجر في "العجاب" (1/ 533 - 535) أنَّ مقاتل والثعلبي والواحدي في أسباب النزول ذكروه عن ابن عباس من رواية الكلبي، وكذا ذكره ابن عساكر في "ذيل الأعلام"، وعزاه صاحب الدر المنثور (1/ 243) لابن المنذر. (¬2) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 234). (¬3) قرأ الجمهور "كُرْهٌ" بضم الكاف، وقرأ السلمي بفتحها، فقيل: هما بمعنى واحد، أي: مصدران كالضَّعْفِ والضُّعْفِ، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري، وقيل: المضموم اسم مفعول والمفتوح مصدر. وأما تقدير المؤلف بقوله: "ذو كره" هذا على تأويل يجوز معه الإخبار به عن "هو"، وذلك التأويل إما على حذف مضاف فيكون التقدير على نحو ما ذكره المؤلف: "ذو كره" أو على المبالغة أو على وقوعه موقع اسم المفعول. [معاني القرآن للزجاج (1/ 280) - الكشاف (1/ 356) - الدر المصون (2/ 386)]. (¬4) في الأصل: (وذكره). (¬5) (أو على قضية) ليست في "ب". (¬6) ما بين [...] ليست في "ب". (¬7) في "أ": (تسارع). (¬8) هو عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، من المهاجرين الأولين، وممن هاجر الهجرتين. شهد بدرًا، واستشهد يوم أُحد، يُعرف بـ: المجدع في الله لأنه مُثِّل به يوم أُحد وقطع أنفه. [الاستيعاب (3/ 877)؛ معجم الصحابة (2/ 108)؛ تهذيب الأسماء (1/ 248)].

ثمانية رهط من المهاجرين منهم واقد بن عبد الله (¬1) [التميمي إلى بطن نخلة ترصد عير قريش، فمرَّ بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله] (¬2) بن المغيرة ونوفل بن عبد الله في يوم يراه المسلمون سلخ جمادى الآخرة وهو غرَّة رجب، فرمى واقد بن عبد الله بن المغيرة (¬3) التميمي وأصاب عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا الحكم وعثمان واستاقوا العير، فلما تبيَّن أن اليوم من (¬4) رجب أطنب المشركون في لوم المسلمين وتخوَّف المسلمون أيضًا وباله؛ لأنَّ القتال في الأشهر الحرم كان محظورًا إذْ ذلك، فسألوا رسول الله محمد فأنزل الله الآية (¬5). {قِتَالٍ فِيهِ} مكسور على طريق بدل الاشتمال (¬6)، وبدل الاشتمال هو إبدال حال الشيء أو ما يجري مجراه منه، وإنما نوِّن {قُلْ (¬7) قِتَالٌ} لأنه لم يرد به القتال المسؤول عنه ولكن أخبر ابتداء بإنشاء يوجد في الشهر الحرام، فمنها: قتال، كبير، ومنها (صد عن سبيل الله) والصدُّ هُو المنع والصرف، ومنها كفر بالله وبالمسجد الحرام، ثم استأنف وقال: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} وهو الصد المذكور أكبر عند الله إثمًا ووبالًا {وَالْفِتْنَةُ} وهي ¬

_ (¬1) هو واقد بن عبد الله بن عبد مناة بن عزيز بن ثعلبة التميمي، كان حليفًا للخطاب بن نفيل، أسلم قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها، ولما هاجر إلى المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين بشر بن البراء بن معرور. شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي في أول خلافة عمر بن الخطاب وليس له عقب. [الاستيعاب (4/ 1550)؛ الطبقات الكبرى (3/ 390)؛ الإصابة (6/ 594)]. (¬2) ما بين [...]، ليست في "أ". (¬3) في الأصل: (غيره). (¬4) (كان) من "أ" "ب". (¬5) الطبري في تفسيره (3/ 650)، وفي تاريخه (2/ 253) من طريق ابن إسحاق عن عروة بن الزبير، وكذا انظر: سيرة ابن هشام (1/ 601 - 605). وقد روي مختصرًا عن ابن عباس كما عند ابن أبي حاتم (2023)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 250) لابن المنذر والطبراني والبيهقي والبزار. (¬6) قال القرطبي (44/ 3): (عند سيبويه بدل اشتمال؛ لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبًا من هتك حرمة الشهر). اهـ. (¬7) في "ب": (فقل).

الكفر {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} المسؤول عنه أو المخبر به، فهون القتال مع كبره بجنب الصدِّ والكفر اللذين دعوا إلى القتال لتكون (¬1) الجريمة من جَنِيَّة الكفار ولا يحزن المسلمون بمباشرتهم القتال المحظور سهوًا. ثم أخبر عن عقيدة الكفار فقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي: لا يبرحون عن قتالكم {إِنِ اسْتَطَاعُوا} إن قدروا، ثم حذَّر المؤمنين {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أي يرتدّ، وهو لغة {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ} بطلت (¬2) {أَعْمَالُهُمْ} (¬3) قيل: اشتقاقه من الحبوط، وحبوط العمل مِنْ حبط الدابة وهو أن تفرط في أكل العشب حتى تنتفخ بطنها فتموت حبطًا (¬4)، قيل: لما هوَّن الله تعالى أمر القتال وخفَّف عن المسلمين ذلك طمعوا أن يكتب ذلك لهم جهادًا فيثابوا عليه، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم عطف عليه {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} للجمع بين المؤمنين الذين لم يبتلوا بالقتال في الشهر الحرام وبين المهاجرين الذين ابتلوا به خاصة. و (المهاجرة) المفارقة في اللغة، وهي في الإِسلام رتبة لقوم هجروا أوطانهم وإخوانهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة لوجه الله كما ختم الله النبوة بمحمد عليه الصلاة والسلام (¬5) ختم الهجرةَ بعمِّه عباس فيما يروى، ومجاهدة الكفار: المبالغة في قتالهم باستفراغ ما في الوسع. {يَرْجُونَ} يطمعون. ¬

_ (¬1) في "ب": (لتكون). (¬2) (بطلت) ليست في "أ". (¬3) (أعمالهم) ليست في "أ". (¬4) الحَبَط في الأصل كما قال الأزهرى نقلًا عن الليث هو وجع يأخذ البعير في بطنه من كلأ يستوبله، وإذا عمل الرجل عملًا ثم أفسده قيل: حبط عمله. وقال ابن السكِّيت: حبط بطنه إذا انتفخ. ومنه قوله عليه السلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمّ" ومعنى الحديث كما قال الأزهري: أن الحريص المفرط في الجمع والمنع مثل الربيع ينبت أحرار العشب التي تحلو للماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها وتهلك، فهو كصاحب المال يجمع ويشح على ما جمع فيهلك في الآخرة. [تهذيب اللغة (4/ 395) - اللسان "حبط " (9/ 139)]. (¬5) في "ب": (لمحمد عليه الصلاة) وفي "ي": (لمحمد عليه) وفي الأصل "أ": (لمحمد عليه السلام).

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} نزلت في ذكر سؤال عمر - رضي الله عنه -: ما هذه الخمر المضيعة لأموالنا المفسدة ذات بيننا؟ (¬1)، وهي (¬2) سؤال بعضهم عن المال الذي يجب إنفاقه، وقيل أن حمزة هو الذي سأل عن الخمر والميسر، وقيل: اتَّخذ بعض الصحابة دعوة فيها سعد بن أبي وقاص فشربوا وتفاخروا وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار فشجَّه بعضهم ثم ترافعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) فأنزل (¬4)، والخمر المجمع عليها عصير العنب إذا غلي واشتدَّ وقذف بالزبد، واشتقاقها من الخمر وهو كل ما سترك من شجر أو نبات، ويقال: اختمرت المرأة إذا لبست الخمار، وليس كل ما يخامر العقل خمرًا (¬5) كما أنَّه ليس كل (¬6) ما يبدع بدعة ولا كل ما يبحر بحيرة، وقد روي عن ابن عباس: حرمت الخمر بعينها والسكر من كلِّ شراب (¬7)، وقال ¬

_ (¬1) هذه هي رواية مقاتل في تفسيره (1/ 111 - 112) وهي ليست في عمر بل عبد الرحمن بن عوف وعلي ونفر من الأنصار، وكذا هي عند الثعلبي في تفسيره كما في "العجاب" لابن حجر (1/ 356). وهو مشهور عن عمر بن الخطاب عند الإمام أحمد في مسنده (1/ 53؛ 2/ 351)، وأبو داود (3670)، والنسائي (8/ 276 - 287)، والترمذي (3049)، والطبري (3/ 681)، والحاكم (4/ 143)، والبيهقي (8/ 275). وسنده صحيح. (¬2) في "أ" "ي": (وفي). (¬3) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" "أ". (¬4) (فأنزل) ليست في "أ". (¬5) قال الزجاج: تأويل الخمر في اللغة أنه كل ما ستر العقل، ويقال لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر، ومنه خمار المرأة لأنها تغطي به رأسها. ومنه الخُمْرَة التي يُسْجَد عليها، سمِّيت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض أي تغطيه، ومنه الحديث الذي رواه البخاري (6/ 355)، ومسلم (3/ 1594): "خمِّرُوا آنيتكم"، وقول الشاعر: ألا يا زيدُ والضحاكَ سيرا ... فَقَدْ جاوزتما خَمرَ الطريقِ [معاني القرآن للزجاج (1/ 291) - القرطبي (3/ 51)]. (¬6) (كلما) ليست في "أ". (¬7) ثبت عن ابن عباس من قوله رواه النسائي في المجتبى (8/ 321)، والكبرى (5194، 5195، 6778)، وابن أبي شيبة في مصنفه (24067)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 214)، وأبو حنيفة في مسنده (45)، والطبراني في الكبرى (10837، 10841، 12389، 12633) وبحشل في تاريخ واسط (157)، =

الحسَن: تحريم الخمر ثبت بهذه الآية؛ لأنَّ الإثم لا يكون إلا في تناول المحظور مع أنَّ (¬1) الله صرَّح تحريم الإثم (¬2) بقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} (¬3) وقال قتادة: ثبت بآية المائدة وهو قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬4) يدل على النهي ويدل عليه ما روي عن عمر أنه كره شرب الخمر فدعا فقال: اللهمَّ بيِّن لنا في الخمر، فنزل قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدعا ثانيًا فنزل قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬5) فدعا ثالثًا فنزل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا. وقد حصل إجماع أهل الإِسلام على حرمة الخمر وإن اختلفوا في محرمها (¬6). الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه بقداح لهم سمي ميسرًا لأنه موضع التجزئة وكل (¬7) شيء جزَّأته فقد يسرته، والياسِر الجازر (¬8). ¬

_ = وأبو نعيم في الحلية (7/ 224)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (4/ 189، 202)، والبيهقي في سننه الكبرى (8/ 297)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 257) وقد ورد مرفوعًا ولا يصح. (¬1) (أن) ليست في "أ". (¬2) إطلاق الإثم على الخمر معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: نشرب الإثم في الصباحِ جهارا ... فترى الكاس بيننا مستعارا وقول الشاعر أيضًا: شربتُ الإثم حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثمُ تذهبُ بالعقولِ [لسان العرب "أثم" (12/ 6) - تهذيب اللغة (15/ 161) - تاج العروس "أثم"]. (¬3) سورة الأعراف: 33. (¬4) سورة المائدة: 91. (¬5) سورة النساء: 43. (¬6) اختلف أهل العلم في هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن هذه الآية تقتضي ذمها دون تحريمها، وهو مرويٌّ عن السدي وأشياخه وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة ومقاتل. الثاني: أن لها تأثيرًا في التحريم، وهو قول جماعة من أهل العلم منهم الزجاج. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 241). وأما قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي ذكره المؤلف عندما نزل قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا، فرواه الطبري في تفسيره (3/ 682). (¬7) في "أ": (فكل). (¬8) (الجازر) ليست في "أ".

قال الأزهري (¬1): وعن مجاهد: الميسر كعاب فارس وقداح الروم (¬2)، وعن ابن عمر: الميسر القمار (¬3)، وعن القاسم بن محمَّد (¬4) أنه سئل عن النرد والشطرنج فقال: كل ما صدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر (¬5)، وعن ابن سيرين (¬6): ما كان من شرب أو قنان أو نَصَفٌ فهو الميسر (¬7). {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} هي مثل الربح في بيع الخمر واللذة والنشاط في شربها والفوز بالأموال في القمار {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬8) لأنَّ إثمهما باقٍ ونفعهما فانٍ {قُلِ الْعَفْوَ} نزلت في جواب السائلين عن المنفعة في الآية الأولى. و {الْعَفْوَ} الفضل الذي يسهل دفعه (¬9)، يقال: خذ ما ¬

_ (¬1) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (13/ 59) والقرطبي في تفسيره (3/ 53). (¬2) الطبري في تفسيره (3/ 675). (¬3) الطبري في تفسيره (3/ 675)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2050). (¬4) هو القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي المدني - رضي الله عنهم -، كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمَّد، من سادات التابعين، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وهو أفضل أهل زمانه علمًا وأدبًا وعقلًا وفهمًا. مات بقديد سنة ثلاث ومائة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل غير ذلك. [رجال مسلم (2/ 140)؛ تقريب التهذيب (451)؛ الطبقات الكبرى (5/ 187)]. (¬5) الطبري في تفسيره (3/ 676)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2056). (¬6) محمَّد بن سيرين أبو بكر الأنصاري البصري مولى أنس بن مالك. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، سمع جمعًا من الصحابة منهم أبو هريرة وعمران بن حصين وابن عباس وغيرهم. وصفه الذهبي فقال: الإمام شيخ الإسلام. قال المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمَّد بن سيرين. توفي سنة عشرة ومائة. [طبقات ابن سعد (7/ 193)؛ التاريخ الكبير للبخاري (1/ 90)؛ تاريخ بغداد (5/ 331)؛ السير (4/ 606)]. (¬7) في الطبري (3/ 676): كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه. (¬8) في الأصل "ب": (منافعهما). (¬9) أكثر المفسرين على أن "العفو" هو الفضل، أي: الفاضل عن الحاجة. انظر: [الطبري (3/ 686) - غريب القرآن/ابن قتيبة (82) - معاني القرآن للفراء (1/ 141) - تفسير البغوي (1/ 213)].

عفا لك، أي جاءك سهلًا، وهذا منسوخ بآية الزكاة وعن ابن عباس والسدي (¬1)، وقال مجاهد: هذا مفسَّر بآية الزكاة. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} التفكير تفعّل من الفكر، وهو البحث عن المعاني (¬2) بالاهتمام. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} سأل عبد الله بن رواحة (¬3) (¬4) وعن مقاتل أن السائل عنهم ثابت بن رفاعة (¬5) (¬6) والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله: {إِنَّ (¬7) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} (¬8) تحرَّج (¬9) الناس وتركوا أموال اليتامى فكان (¬10) يفسد اللبن وينتن اللحم ولا يتعرض أحد، فشقَّ ذلك عليهم فسألوا ¬

_ (¬1) الذي ذهب إلى نسخها السدي عن أشياخه كما في الطبري (3/ 682)، وابن أبي حاتم (2073). وأما عن ابن عباس فذكره الطبري (3/ 682)، وابن أبي حاتم (2073). (¬2) في الأصل "ب": (المعا) وهو خطأ. (¬3) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة، الأمير السعيد الشهيد أبو عمرو الأنصاري الخزرجي البدري النقيب الشاعر، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وعمرة القضاء والمشاهد كلها إلا الفتح وما بعده لأنه قتل يوم مؤتة شهيدًا، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة واحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [الاستيعاب (3/ 898)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 230)؛ تهذيب التهذيب (5/ 186)؛ معجم الصحابة (2/ 128)]. (¬4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 244) عن أبي سليمان الدمشقي. (¬5) ثابت بن رفاعة الأنصاري ذكره ابن منده وابن فتحون وابن حجر في الصحابة، وكان يتيمًا في حجر عمه وأتى عمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحلُّ لي من ماله؟ قال: "أن تأكل بالمعروف من غير أن تَقِيَ مالك بماله، ولا تتخذ من ماله وفرًا" [أخرجه الطبري في تفسيره، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد]. [الإصابة (2/ 9)؛ الطبري (6/ 422)؛ الدر المنثور (2/ 122)]. (¬6) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 244) عن مقاتل. (¬7) (إن) ليست في "أ". (¬8) سورة النساء: 10. (¬9) في "أ": (تخرج). (¬10) في "أ": (وكان).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) (¬2) مخالطتهم، وعن الشعبي (¬3) والضحاك (¬4) أنهم كانوا يتورَّعون (¬5) عن أموال اليتامى ويتشاءمون بمخالطتهم على العادة الجاهلية. قوله: {عَنِ الْيَتَامَى} أي: عن أموالهم {قُلْ إِصْلَاحٌ} الرعاية والحفظ {خَيْرٌ} من الإضاعة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} بالأموال فتأكلوا معًا وتشربوا معًا من غير تمييز فهم إخوانكم، وقد قال الله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي الذي يخالطهم ليفسد أموالهم ليسَ (¬6) كالذي يخالطهم ليصلح أموالهم {لَأَعْنَتَكُمْ} لكلَّفكم ما يشقُّ عليكم، والعنت المشقة، وأكمة عنوت أي شاقَّة المصعد، وعنت البعير إذا أحدث في قوائمه كسر بعد جبر (¬7)، وقال ابن الأعرابي: أصل العنت التَّشديد، يقال: فلان يتعنَّت فلانًا ويُعْنِتُهُ ثم نقل إلى معنى الهلاك (¬8). {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي (¬9) وكان ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬2) رواه أحمد في المسند (1/ 325)، والنسائي (6/ 256)، والحاكم (2/ 278 - 279)، وسفيان الثوري في تفسيره (91). (¬3) الطبري (3/ 701). (¬4) الطبري (3/ 704). (¬5) في "أ ": (يتنازعون). (¬6) كلمات غير واضحة فلعلها (ليفسد). (¬7) انظر: تهذيب اللغة (2/ 273) - معاني القرآن للزجاج (1/ 287) - تفسير البغوي (1/ 214) - الطبري (3/ 710). (¬8) نقله القرطبي في تفسيره (3/ 66) عن ابن الأنباري، وكذا نقله ابن الجوزي عنه في زاد المسير (1/ 244). فلعله تصحيف من الناسخ أو من الجرجاني نفسه. والمعروف عن ابن الأعرابي أنه قال: الإعنات تكليف غير الطاقة. هكذا نقله عنه الأزهري في تهذيب اللغة (2/ 275) كما نقل عن ابن الأنباري قوله: أصل العنت التشديد. (¬9) هو الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد كناز الغنوي، حليف حمزة بن عبد المطلب، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أوس بن الصامت، شهد مرثد بدرًا وأحدًا وقتل يوم الرجيع شهيدًا، وكان أميرًا على السرية، وذلك في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. [تهذيب التهذيب (1/ 524)؛ معجم الصحابة (3/ 70)؛ الطبقات الكبرى (3/ 48)؛ الإصابة (6/ 70)؛ تهذيب الأسماء (2/ 393)].

رجلًا شجاعًا فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) إلى مكة ليخرج ببعض المستضعفين سرًا، وكانت له عشيقة بمكة تسمَّى عناق فأبصرته في الطواف فدعته إلى نفسها فأبى وقال: إن الإسلام قد حال بيننا وبين السفاح، ولكن أستأذنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) الله في (¬3) نكاحك فقالت: أبي تتبرَّم (¬4) وصاحت، فاجتمع الناس على مرثد وضربوه، فلما رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) أخبره بالقصة واستأذن في نكاحها فأنزل الله الآية (¬6)، وهي عامة في جميع المشركين كلهم أهل الكتاب وغيرهم عن ابن عباس والحسن ومجاهد والربيع ثم (¬7) خصصت بآية المائدة (¬8)، وقيل: الآية لم تتناول أهل الكتاب لأنَّها نزلت في مشركة غير كتابية، والله تعالى فرَّق بين المشركين وأهل الكتاب في جميع القرآن (¬9). و (النكاح) في اللغة عبارة عن الوطء حقيقة لقوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} (¬10) ولقوله عليه السلام (¬11): "ملعون مَنْ نكح يده" (¬12)، وعبارة عن العقد ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬2) (رسول الله صلى الله عليه وسلم) من "ب" "أ" "ي". (¬3) (في) من "أ". (¬4) (فقالت أبي تتبرم) ليست في الأصل. (¬5) (الله صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬6) أورده الواحدي في أسباب النزول (67) عن ابن عباس، وردَّه الحافظ ابن حجر في كتابه "الكافي الشافي" (1/ 264) بأنه ثبت عند أبي داود والترمذي والنسائي أن هذا ورد بسند حسن في أسباب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ...} الآية. (¬7) (ثم) من "أ". (¬8) ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (2095) عن ابن عباس ثم قال: وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن ومكحول والضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم. (¬9) وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وقتادة كما في "زاد المسير" (1/ 246). (¬10) سورة النور: 3. (¬11) (السلام) ليست في "ي". (¬12) ذكره الأزدي في "الضعفاء"، وابن الجوزي من طريق الحبسن بن عرفة في جزئه المشهور من حديث أنس ولأبي الشيخ في كتاب "الترهيب"، والحديث ضعيف كما قال ابن حجر. وقال ابن الملقن: غريب جدًا. وانظر: خلاصة البدر المنير (2/ 202)، وتلخيص الحبير (3/ 188).

الذي وضع لاستباحة (¬1) الوطء (¬2) مجازًا. و (الأمة) المرأة المملوكة ملك اليمين أصلها أموة مثل فروة، وتصغيرها أميَّة، وجمعها إماء (¬3)، والعبد: الرجل المملوك ملك اليمين و (لو) للمبالغة كما قال الشاعر: فقلتُ يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوارأسي لديك وأوصالي (¬4) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} نزلت في مجامعة النساء في الحيض، والسبب في ذلك أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت ولا يواكلونها ولا يشاربونها، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) فأنزل الله الآية (¬6) وهي تقتضي اعتزالًا عن العموم في الظاهر لكن النبي عليه السلام (¬7) خصَّصها ببيانه وقال: "جامعوهنَّ في البيوت واصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح" فقالت اليهود: ما يدعُ هذا الرجل شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسيد بن الحضير (¬8) وعبَّاد بن ¬

_ (¬1) في "أ ": (للاستباحة). (¬2) (الوطء) ليست في "أ". (¬3) أصل "أَمَة" أَمَوٌ، فحذفت لامها على غير قياس، وعوض منها تاء التأنيث كـ"قُلَة" و"ثُبَة" والذي يدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع، ومنه قول الكلابي: أمَّا الإِماءُ فلا يدعونني ولدًا ... إذا تداعى بنو الإموانِ بالعارِ وهي على وزن فَعَلَة، وتجمع على إموان أو إماء، والثاني أشهر وأكثر استعمالًا، ومنه الحديث: "لا تمنعوا إماءَ الله مساجد الله" [أخرجه البخاري (2/ 382) - ومسلم (1/ 327)]. [ديوان القتال الكلابي ص 54 - أمالي القالي (2/ 223) - اللسان "أما"]. (¬4) البيت لامرىء القيس وهو في ديوانه ص 32. (¬5) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" "أ". (¬6) أخرج سبب النزول هذا مسلم في صحيحه- كتاب الحيض (1/ 246/ 3) من حديث أنس بن مالك، وأبو داود في سننه (1/ 67)، والترمذي (5/ 214)، والنسائي (1/ 152)]. (¬7) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬8) أسيد بن الحضير بن سماك الإمام أبو يحيى الأنصاري الأوسي، أحد النقباء الاثني عثر ليلة العقبة. وكان أبوه رئيس الأوس، فقتل يومئذ قبل عام الهجرة. آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين زيد بن حارثة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم الرجل أسيد بن حضير" [أخرجه الترمذي وإسناده جيد كما قال الذهبي]. توفي سنة عشرين من الهجرة. [التاريخ الكبير للبخاري (2/ 47)؛ الاستيعاب (1/ 175)؛ أسد الغابة (1/ 111)؛ الإصابة (1/ 75)؛ شذرات الذهب (1/ 31)].

بشر (¬1) يخبران رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) بقول اليهود ثم قالا: أفلا ننكحهنَّ في المحيض؟ فتغيَّر وجه رسول الله حتى ظنَّ الناس أنه قد غضب عليهما (¬3). وأراد بالنكاح المباشرة فيما تحت الإزار، لقول عائشة - رضي الله عنها -: "ربما باشرني النبي عليه السلام (¬4) وأنا حائض فوق الإزار" (¬5). وعن عمر أنه قال: وأما الحائض فلك منها ما فوق الإزار وليس لك ما تحته (¬6)، والمحيض مصدر كالمسير والمصير، وقيل: اسم لأوان الحيض، كالمغرب اسم لأوان الغروب {فَاعْتَزِلُوا} اجتنبوا، افتعال من العزل، وهو قريب من الصرف {النِّسَاءَ} جمع المرأة وكذلك النسوة والنسوان، و (الأذى) كل ما يتأذى ويتقذر منه {حَتَّى يَطْهُرْنَ} من الدم، عن مجاهد والحسن (¬7). {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بالماء فيأخذ بنفس الطهر فيما إذا كان أيام عشر أو بالطهارة أو وجوب الصلاة فيما دون العشر {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} باعتزاله عن مجاهد (¬8)، ¬

_ (¬1) هو عباد بن بشر بن وقش الأنصاري أبو الربيع الأشهلي، من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة، وشهد بدرًا. كان من سادة الأوس، أبلى يوم اليمامة بلاءً حسنًا، وكان أحد الشجعان الموصوفين، وقاتل حتى قُتل بضربات في وجهه - رضي الله عنه - وهو ابن خمس وأربعين سنة. [الاستيعاب (2/ 801)، الإصابة (3/ 611)، سير أعلام النبلاء (1/ 337)؛ الثقات (3/ 306)؛ تهذيب التهذيب (5/ 78)]. (¬2) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬3) مسلم (302). (¬4) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) البخاري (303)، ومسلم (294). (¬6) ذكره الأطرابلسي من "حديث خيثمة" (194)، والضياء في المختارة (1/ 375، 376). (¬7) عن مجاهد رواه الطبري (3/ 731)، وذكره ابن أبي حاتم (2/ 402) بدون سند. وأما عن الحسن فلم أجده وإنما وجدت عكسه عند ابن أبي حاتم (2/ 402) بدون سند. (¬8) عزاه لمجاهد ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 249)، وهو عند الطبري (3/ 735) حيث رواه مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وعن ابن رَزِين (¬1) (¬2) الأمر بالتطهر {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال عطاء: أراد بالتطهر بالماء (¬3)، وعن أبي العالية أراد بالتطهر من الذنوب (¬4)، والأول أولى لقوله: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ} نزلت في إباحة إتيان النساء في بيان المأتي والسبب في ذلك ما زعم اليهود أن مَنْ أتى امرأته من ورائها كان الولد أحول، وهذا السبب مروي عن ابن عمر وجابر وأم سلمة (¬5) (¬6)، واتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر الإتيان وهو المأتي فهو موضع ابتغاء النسل (¬7)، وقد روي أن النبي -عليه السلام- قال لذلك الرجل: "فإن الله تعالى قد نهاكم أن تأتوا النساء في أدبارهن" (¬8). ¬

_ (¬1) محمَّد بن الحسين بن رزين الحموي أبو عبد الله، ولد سنة 603 هـ. من مشايخه أبو عمرو بن الصلاح والسخاوي وغيرهما. قال السبكي: كان فقيهًا فاضلًا حميد السيرة كثير العبادة حسن التحقيق مشارًا إليه بالفتوى. برع في علم التفسير. توفي سنة 680هـ. [طبقات الشافعية (8/ 46)؛ تذكرة الحفاظ (4/ 1465)؛ الوافي (3/ 18)؛ الشذرات (7/ 642)]. (¬2) ابن أبي حاتم في تفسيره (2121)، والطبري (3/ 738)، لكن فيه "عن أبي رزين" وليس ابن رزين، وهو عند ابن أبي شيبة (4/ 233) كذلك. (¬3) الطبري (3/ 742)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2124). (¬4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 249). (¬5) أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومية بنت عم خالد بن الوليد وبنت عم أبي جهل بن هشام، من المهاجرات الأُوَل. دخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة أربع من الهجرة وكانت من أجمل النساء وأكثرهنَّ شرفًا. وهي آخر من مات من أمهات المؤمنين لما بلغها مقتل الحسين غُشِيَ عليها. وتعدُّ من فقهاء الصحابيات. توفي سنة تسع وخمسين من الهجرة. [طبقات ابن سعد (8/ 86)؛ الاستيعاب (4/ 1920)؛ أسد الغابة (7/ 340)؛ الإصابة (13/ 221)]. (¬6) أما عن جابر فهو عند البخاري (4254)، ومسلم (1435). وأما رواية ابن عمر فرواها الطبري في تفسيره (3/ 751). وأما عن أم سلمة فرواه الترمذي (2979)، وأحمد (6/ 305). (¬7) في الأصل "ي" كتبت الكلمة (النسـ). (¬8) أخرجه ابن ماجه (1924)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 213)، والبيهقي (7/ 197) من حديث خزيمة بن ثابت مرفوعًا. وقال ابن الملقن: إسناده صحيح وصححه الشافعي.

وقوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي من أين شئتم وكيف شئتم يدلُّ عليه {أَنَّى لَكِ هَذَا} {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} واتصال قوله {وَقَدِّمُوا} بما قبله من حيث محافظة واستعمال الأحكام {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مجاوزة حدوده {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين يؤمنون بهذه الأحكام ويقبلونها طوعًا يرضون الله تعالى. {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا يحسن إلى مسطح (¬1)، وباقي قصته في سورة النور (¬2)، وقيل: نزلت فيه حين حلف أن لا يصل (¬3) إلى ابنه حتى يسلم (¬4)، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان الأنصاري (¬5) (¬6) ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه (¬7)، واتصالها بما ¬

_ (¬1) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف المطلبي المهاجري المذكور في قصة الإفك، كنيته أبو عبادة، وقيل: أبو عباد، شهد مسطح بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خاض في الإفك على الصدِّيقة عائشة - رضي الله عنها -، فجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن جلد، قال الذهبي: إياك يا جريء أن تنظر إلى هذا البدري شزرًا لهفوة بدت منه فإنها قد غفرت وهو من أهل الجنة، وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتها فتجب لك النار. توفي مسطح سنة أربع وثلاثين وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة، وقيل: شهد مسطح صفين وتوفي سنة سبع وثلاثين. [الاستيعاب (4/ 1472)؛ الطبقات الكبرى (3/ 53)؛ الإصابة (6/ 93)؛ تهذيب الأسماء (2/ 395)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 187)]. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (3/ 402). وكذا ذكره في زاد المسير (1/ 253) عن ابن جريج. (¬3) (يصل) ليست في الأصل. (¬4) هذا مروي عن مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 116)، وكذا ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 253). (¬5) بشير بن النعمان بن عبيد الأنصاري الأوسي، ذكره الحافظ ابن حجر في الصحابة، قال ابن القدَّاح: قتل يوم الحَرَّة وقتل أبوه يوم اليمامة. [الإصابة (1/ 265)]. (¬6) في "أ": (الأنصار). (¬7) أورده الواحدي في أسباب النزول ص 72 عن الكلبي، وذكره ابن حجر في "العجاب" ص 387.

قبلها من حيث التقوى، وللـ (عرضة) معنيان؛ أحدهما: العدة المبتذلة. والثاني: الحائل المانع، وأصله من اعتراض الجدار والجذع أو الخيل أو الحية لك في طريقك، فتقديرها على المعنى الأول {وَلَا تَجْعَلُوا} اسم الله عدة مبتذلة لأيمانكم أن لا تبرّوا، وعلى المعنى الثاني: ولا تجعلوا اسم الله مانعًا لأن تبروا أي أبركم، فيكون {أَنْ تَبَرُّوا} في موضع الجرِّ بدلًا عن الأيمان على طريق الاشتمال عند الخليل والكسائي (¬1)، وعند سيبويه في محل النصب تقديره: تاركين أن تبروا أو لتبروا (¬2). ووحدة الأيمان اليمين وهي الحلف وإنما سمِّي يمينًا لأنهم كانوا يصافحون بأيمانهم عند ذلك، وقيل: للتوثيق والتشديد، واليمن القوة عندهم، وعن ابن عباس أن اليمين اسم من أسماء الله تعالى فإن صحت فاليمين بمعنى اليامن، تقول: يمن الله الإنسان يمنًا ويُمنًا فهو ميمون، تقول العرب: يمين الله وأيمن الله وذلك على الجمع، وربما يستخفّون ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي (3/ 99) فقال: (هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي). (¬2) قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} فيه ستة أوجه إعرابية: الوجه الأول: وهو قول الزجاج والتبريزي أنها في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا خير لكم من أن تجعلوه عُرضةً لأيمانكم. الوجه الثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعول من أجله، وهذا قول الجمهور، التقدير: إرادة أن تبروا، وقدره المبرد: لترك أَنْ تبروا، وقدره أبو عبيدة والطبري: لئلا تبروا، واستشهدوا بقول الشاعر: فحالِفْ فلا والله تَهْبطُ تَلْعَةً ... من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارفُ أي: لا تهبط، فحذف "لا". الوجه الثالث: أنها على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أنْ تبرّوا، وعلى هذا التقدير تكون في محل نصب عند سيبويه والفراء، وفي محل جر عند الخليل والكسائي. الوجه الرابع: أنها في محل جر عطف بيان لـ"أيمانكم" أي للأمور المحلوف عليها. وهذه الوجه فيه شيء من الضعف. الوجه الخامس: أن تكون في محل جر على البدل من "لأيمانكم" بالتأويل الذي ذكره الزمخشري وهو أقرب من عطف البيان. الوجه السادس وهو أظهر الأوجه: أنها على إسقاط حرف الجر، وهو نفى الوجه الثالث، إلا أن التقدير يختلف فيكون التقدير هنا هو: لإقسامكم على أن تبروا.

فيقولون: وأيم الله (¬1)، وقال أبو عبيد الهروي (¬2): يقولون م (¬3) والله ومَ والله ومُ (¬4) والله، ومَن الله ومن الله ومن الله (¬5)، وأيمِ الله بالكسر. {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} نزلت في تنويع الأيمان (¬6) فذكر نوعين منهما: اللغو والغموس، وذكر النوع الثالث في سورة المائدة، وهو المقصود المأمور بحفظه مع اللغو، و (المؤاخذة) قريب من المضايقة والمناقشة والمعافاة كالنقيض له، و (اللغو) ما لا حكم له أو ما لا وجه له، واليمين من اللغو أن يحلف على شيء ماضٍ أو حال سهوًا فإذا هو بخلافه عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن ومجاهد والسدي والربيع، وعن ابن عباس (¬7): ما يجري في اللفظ من غير قصد مثل: لا والله وبلى والله، واليمين الغموس هو أن يحلف على شيء في الماضي وهو يعلم أنه كاذب، سمَّيت غموسًا لغمسها صاحبها في الإثم ثم في النار. ¬

_ (¬1) الأيمان: جمع يمين، وأصله العضو من اليد اليمنى، واستعملت في الحلف مجازًا لما جرت عادة المتعاقدين بتصافح أيمانهم واشتقاقها من اليمن. واليمين اسم للجهة التي هي عكس الشمال أو اليسار. وتجمع اليمين على أَيْمُن وأَيْمَان. وهل المراد بـ"الأيمان" التي في الآية القسم نفسه أو المقسم عليه؟ يجوز الأمران والأول أولى بذلك. [الدر المصون (2/ 429)]. (¬2) أبو عبيد الهروي أحمد بن محمَّد بن محمَّد الهروي الشافعي اللغوي صاحب "الغريبين" الذي اشتهر به حتى انتشر بالآفاق. أخذ علم اللسان عن الأزهري وغيره. توفي في رجب سنة إحدى وأربع مائة. [معجم الأدباء (4/ 260)؛ وفيات الأعيان (1/ 90)؛ الوافي (8/ 114)؛ البداية والنهاية (11/ 344)، السير (17/ 146)]. (¬3) في "أ": (يقولون: والله ومَ والله). (¬4) في "أ": (ولم والله وم الله). (¬5) (ومن الله) أربع مرات في "أ". (¬6) تنويع الأيمان هو ما ذكرته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: "يمين اللغو قول الرجل: لا والله وبلى والله وأي والله" [أخرجه مالك في الموطأ (2/ 477)، وأبو داود (3/ 571)، والبغوي في تفسيره (1/ 221)]. (¬7) ذكرهم ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 254)، وذكر بعضهم البغوي في تفسيره (1/ 221)، والطبري (4/ 32)، وابن كثير (1/ 392)، والبحر المحيط (2/ 179).

{غَفُورٌ} لم يؤاخذ باللغو {حَلِيمٌ} لم يتعجل بالعقوبة ومكّن من التربة عن الغموس و (الحليم) الذي لا يغلقه الغضب. {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} نزلت في حكم الإيلاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يحلفون على ترك قرب (¬1) نسائهم السنة والسنتين لا يقربوهنَّ ولا يسرحوهنَّ، فوقَّت الله ذلك بأربعة أشهر (¬2)، وحكم الإيلاء {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ولا تربص بعدها لحظة كما في المطلقة ثلاثة قروء وفي المتوفى عنها زوجها بعد أربعة أشهر وعشرًا، وإن وقت أقل من أربعة أشهر لم يكن موليًا، والإيلاء الحلف والألية والألوة {فَإِنْ فَاءُوا} يعني في الأربعة الأشهر، وفي قراءة عبد الله (¬3): {فإن فاءوا} فيهن، والفيء للقادر بالحنث، وهو الوطء ولغير (¬4) القادر بقوله: فِئْتُ لأن الإيلاء لا يزيل الملك في الحال، وإنما يزيل في ثاني الحال فجاز فيه الاستدراك بالقول إذا لم يكن بالفعل كالطلاق الرجعي. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} يعني ترك الفيء إلى انقضاء مدة الإيلاء وقعت تطليقة بائنة، هكذا روي عن عثمان (¬5) وعليّ وزيد بن ثابت (¬6) وابن عباس ¬

_ (¬1) (قرب) من "أ" "ي". (¬2) رواه الواحدي في أسباب النزول (72) عن ابن عباس، ورواه سعيد بن منصور في سننه (2/ 27)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 158) ولفظه: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوفت الله أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء؛ وسنده إلى ابن عباس ضعيف. (¬3) في "أ": (أبي عبد الله). (¬4) في "أ": (وبغير). (¬5) هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين، كنيته أبو عمرو، وقيل أبو عبد الله، ولقبه ذو النورين، له مناقب كثيرة لا تحصى، فقد اشترى الجنة في أكثر من موطن، استشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وعمره ثمانون، وقيل: أكثر، وقيل: أقل. [الاستيعاب (3/ 1037)؛ الطبقات الكبرى (3/ 53)؛ تهذيب الأسماء واللغات (297)؛ الإصابة (4/ 456)؛ تهذيب التهذيب (7/ 127)؛ تقريب التهذيب (385)]. (¬6) هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، الأنصاري النجاري، أبو سعيد =

وابن عمر (¬1)، ولا تتعلق (¬2) هذه الفرقة بقضاء القاضي؛ لأنَّ ابتداءه غير متعلق بحكمه بخلاف فرقة اللعان والعنة. و (العزم) القصد، و {الطَّلَاقُ} التخلية والتسريح، وإنما يقال للمرأة طالق لأنَّ هذا نعت مختصٌّ بها كالحائض والحامل، {وَالْمُطَلَّقَاتُ} المطلقة من التطليق دون الإطلاق للمبالغة (¬3) في الوصف لأنَّ طلاقها يتأبد (¬4) ويوجب حرمة بخلاف الإطلاق المستعمل في الإرسال، والتربص بالشيء (¬5): ترقُّب نزول الحادثة. وإنما قال: {قُرُوءٍ} ولم يقل: أقراء لذكر المطلقات إذ كل مطلقة منهن تتربص ثلاثة أقراء فيجتمع قروءًا (¬6) كثيرة، وقيل: "من" فيه مقدر أي: ثلاثة من قروء (¬7)، قال أبو عمرو بن العلاء (¬8): من العرب من يسمَّي ¬

_ = وأبو خارجة، صحابي مشهور، كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أبو بكر أن يجمع القرآن، وأمره عثمان فكتب المصحف وأبيّ بن كعب يملي عليه، وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفرض أمتي زيد بن ثابت". قال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. فضائله كثيرة، مات سنة خمس وأربعين وقيل غير ذلك، وحديثه في الكتب الستة. [الثقات (3/ 135)؛ رجال مسلم (1/ 213)؛ تهذيب التهذيب (3/ 344)؛ الاستيعاب (2/ 537)]. (¬1) ذكرهم ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (1/ 257). (¬2) في "أ": (يتعلق). (¬3) في "ي": (المبالغة). (¬4) في "أ": (يتأيد). (¬5) (بالشيء) ليس في "ب". (¬6) (أقراء فتجمع قروءًا) ليست في "ب". (¬7) وهذا مذهب المبرد ذكره في المقتضب (2/ 159). (¬8) أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي المازني البصري شيخ القُرَّاء والعربية. ولد سنة سبعين من الهجرة. قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية والشعر وأيام العرب، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثم تنسَّك فأحرقها، وكان من أشراف العرب. وكان ثقة في الحديث ومن أعيان أهل السنة. توفي سنة سبع وخمسين ومائة. [تاريخ البخاري (9/ 55)؛ تاريخ الإسلام (6/ 322)؛ بغية الوعاة (367)؛ طبقات القرَّاء لابن الجزري (1/ 288)].

الحيض قرءًا، ومنهم من يسمِّي الطهر قرءًا، ومنهم من يجمعهما فيسمِّي الطهر مع الحيض قرءًا (¬1)، غير أنَّ الحيض أولى لكونه لغة النبي -عليه السلام- (¬2)، وإليه ذهب في تفسير (القرء) عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأبو الدرداء (¬3) ومعاذ وأبو موسى الأشعري (¬4). {أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} من الحيض والحبل، وعارض بين الشرط والخبر {وَبُعُولَتُهُنَّ} والبعل الزوج مثل فحل وفحولة، ويقال للمرأة بعلة والمباعلة المباشرة {أَحَقُّ} أولى {بِرَدِّهِنَّ} في حالة العدة إلى حالة لا ¬

_ (¬1) وقول أبي عمرو بن العلاء هذا تبعه فيه يونس وأبو عبيدة، وقولهم هذا الذي جعلوه من الاشتراك اللفظي وأنه من الأضداد في إطلاق القرْء على الطهر وعلى الحيض. ومن إطلاقه على الطهر قول الأعشى: أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقصاها عظيمَ عَزَائِكا مُوَرِّتَةً عِزًا وفي الحَيِّ رفعةً ... لما ضاعَ فيها من قُروءِ نِسَائكا ومن إطلاق القرء على الحيض قول الشاعر: يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ ... له قروءٌ كقروءِ الحائضِ أي: كدم الحائض. وهذا مذهب جمهور أهل اللسان. [ديوان الأعشى ص 91 - شواهد الكشاف (4/ 470) - الدر المصون (2/ 440)]. (¬2) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬3) عويمر بن زيد بن قيس أبو الدرداء الأنصاري الخزرجي، حكيم هذه الأمة، وهو ممن قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمع القرآن في حياته. أسلم أبو الدرداء يوم بدر، وشهد أُحد والمشاهد، وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد: "نِعْمَ الفارس عويمر" وقال: "حكيم أمتي عويمر" والحديثان مرسلان. قال أنس - رضي الله عنه -: مات النبي -عليه السلام- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو زيد. وأخباره يطول ذكرها، توفي سنة أثنتين وثلاثين هجرية. [التاريخ الكبير للبخاري (7/ 76)؛ الجرح والتعديل (7/ 26)؛ الاستيعاب (4/ 1646)؛ تاريخ ابن عساكر (13/ 366)؛ أسد الغابة (6/ 97)؛ تاريخ الإسلام (2/ 107)]. (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (4/ 87)، وابن الجوزي في تفسيره (1/ 259) عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى. وذكر ابن الجوزي أبو الدرداء. أما زيد بن ثابت وابن عمر فقد ذكرا فيمن يفسر القرء بالطهر، ذكره القرطبي (3/ 113)، وابن الجوزي (1/ 259). أما معاذ فلم أرَ من ذكره في هؤلاء أو هؤلاء.

يعتدون ولا يقتضي للغير فيه حق لقوله: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} في ذلك الوقت {إِصْلَاحًا} استدراك النكاح لا تطويل العدة {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} من حق الصحبة وحسن العشِرة درجة رتبة وشرف لما فضَّلهم الله تعالى في العقل وغير ذلك {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بما شاء، حكيم لا يخطىء في حكمه. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يفيد وقوع الطلاق بعد الطلاق سواء جمع أو فرق على وجه المباح أو المحظور، والمرَّة ظرف زمان الفعل الواقع نظيره التارة {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} يفيد جواز الرجعة بعد تطليقتين، والإمساك قريب من الحفظ ونقيضه الإرسال. وقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بعد الطلقة الثالثة، والتسريح قريب من الإخراج والإبراز، والسنة بتفريقهن في ثلاثة أطهار لم يجامعها (¬1) فيها تفسيرًا لقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2). وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} نهي عن منع المهر وبخسه واسترداده في جميع الوجوه، ثم خصَّ الاستثناء بالاغتصاب وأباح النهي عنه عند الخلع {حُدُودَ اللَّهِ} إقامة حقوق النكاح. وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يفيد إباحة المنهي عنه للزوج على هذا الوجه وإباحة الافتداء للمرأة برفع إثم (¬3) النشوز عنها، ويصحُّ الخلع في غير مجلس القاضي، وإليه ذهب عمر وعثمان وابن عمر (¬4) وهىِ تطليقة بائنة سواء ذكر منه طلاق أو لم يذكر {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الثالثة {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} تطاء زوجًا لقوله -عليه السلام- (¬5) ¬

_ (¬1) المثبت من "ب" وفي البقية (تجامعها). (¬2) سورة الطلاق: 1. (¬3) في "أ": (اسم). (¬4) رواه البخاري عنهم في صحيحه - كتاب النكاح، باب الخلع (7/ 60) وبه قال شريح والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وأهل الرأي، وهي رواية عن أحمد ذكره عنهم ابن قدامة في المغني (10/ 268). (¬5) في "ب": (صلى الله عليه وسلم).

لتميمة (¬1) بنت وهب (¬2): "لا حتى (¬3) (تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك) " (¬4) وهو قول علي وعائشة وأكثر أهل العلم. {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الزوج الثاني {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} على المرأة والزوج الأول {أَنْ يَتَرَاجَعَا} بنكاح جديد {إِنْ (¬5) ظَنَّا} إن كان غالب ظنهما أنهما يؤدِّيان حقوق النكاح. {وَتِلْكَ} إشارة إلى الأحكام المتقدمة. {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قربن من منتهى أجلهن، و (الأجل) هو الوقت المضروب، وإنما عبر عن القرب بالبلوغ على سبيل التوسع، يقال: بلغت قرية كذا {فَأَمْسِكُوهُنَّ} يعني الرجعة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} بترك الرجعة {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} لا تراجعوهن للإضرار بهنَّ لتطويل العدة {لِتَعْتَدُوا} عليهن أو لتتعدوا حدود الله {ذَلِكَ} (¬6) إشارة إلى المنهي عنه، والكاف علامة الخطاب، فلذلك جاز الاجتفاء بالتوحيد في خطاب الجمع على تقدير العسل أو الحرب وظلم النفس بكسب الوبال عليها (¬7) {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ ¬

_ (¬1) في الأصل (أميمة بنت وهب) وهو خطأ. وهي زوجة رفاعة القرظي. (¬2) تميمة بنت وهب من بني قريظة، صحابية جليلة، قال ابن حجر: لا أعلم لها غير قصَّتها مع رفاعة في حديث العسيلة. وكذا قال ابن عبد البر وابن منده، وحديثها هو عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنتُ عند رفاعة فطلَّقني فَبَتَّ طلاقي فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزبير وإنَّ ما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوق عسيلتك" [أخرجه البخاري (2639)؛ ومسلم (1433)]. [الإصابة (12/ 167)؛ النهاية لابن الأثير (5/ 249)]. (¬3) في الأصل: (لأختي) وهو خطأ. (¬4) البخاري (3/ 192)، ومسلم (2/ 1055) ولفظ الحديث: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: إن رفاعة بَتَّ طلاقي وتزوَّجتُ بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال -عليه السلام-: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". (¬5) (إن) من "أ" "ي". (¬6) (ذلك) ليس في "أ". (¬7) قوله: "ذلك" المخاطب به الرسول أو كل سامع، ولذلك جيء بالكاف الدالة على الواحد، وأما الجماعة وهو الظاهر فيكون "ذلك" بمعنى "ذلكم"، ولذلك قال بعده: "منكم". [الدر المصون (2/ 461) - معاني القرآن للزجاج (1/ 311)].

اللَّهِ هُزُوًا} لا تستحقوا بحرمتها فيهون عليكم محاورتها {نِعْمَتَ اللَّهِ} الإسلام، ويحتمل أنها عامة {يَعِظُكُمْ بِهِ} راجع إلى الحكم المذكور في الآية أو إلى الأمر بالذكر أو إلى ما في قوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ}. {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} نزلت في شأن معقل بن يسار (¬1) المدني كانت أخته جمل بنت يسار تحت رجل من قضاعة اسمه أبو البداح بن عاصم (¬2) فطلَّقها، فلما انقضت عدَّتها هويها وهويته فأرادا أن يتراجعا فمنع معقل فأنزل الله الآية (¬3)، وعن السدي أن جابر بن عبد الله عضل ابنة عم له فأنزل الله الآية (¬4). وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أراد إنقضاء الأجل، ولولا ذلك لكان الزوج يقدر على الرجعة من غير نكاح جديد، والعضل التحريج والتضييق، وكذلك الأمر المعضل، وقال للأزواج: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وفي الآية دليل على أن لهنَّ أن يتولين عقود نكاحهن، وفي ¬

_ (¬1) هو معقل بن يسار بن عبد الله المزني، يكنى أبا علي، من مشهوري الصحابة، شهد بيعة الرضوان ونزل البصرة وابتنى بها دارًا، وإليه ينسب نهر معقل الذي في البصرة، ومات بها في آخر خلافة معاوية، وقيل: في ولاية يزيد. [الاستيعاب (3/ 1432)؛ تهذيب التهذيب (10/ 212)؛ الطبقات الكبرى (7/ 14)؛ تهذيب الأسماء (2/ 409)؛ سير أعلام النبلاء (2/ 576)]. (¬2) أبو البداح بن عاصم بن عدي البلوي، حليف للأنصار لا يختلف في صحبة أبيه واختلف في صحبته، والصواب كما قال ابن حجر أنه ولد سنة ست وعشرين، أي بعد وفاة النبي -عليه السلام- بخمس عشرة سنة. وذكر ابن عبد البر أنه توفي عند سبيعة الأسلمية، قال ابن الأثير: وهذا وهم من ابن عبد البر. [أسد الغابة لابن الأثير (6/ 27)؛ الإصابة (4/ 324)؛ الاستيعاب (4/ 329)]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير (8/ 192)، والنسائي (6/ 303)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 426)، والدارقطني (3/ 222) وغيرهم عن معقل بن يسار قال: "فيَّ نزلت هذه الآية {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ...} الآية. قال: كنتُ زوَّجتُ أختًا لي من رجل فطلَّقها حتى إذا انقضت عدَّتها جاء يخطبها فقلت له: زوَّجتك، وأفرشتك، وأكرمتُك فطلَّقتَها ثم جئتَ تخطبها؟! لا والله لا تعود إليها أبدًا؟ قال: وكان الرجل لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، فزوَّجتُها إياه". (¬4) رواه الطبري (4/ 178) والواحدي في أسباب النزول ص82، وذكره الحافظ ابن حجر في "العجاب" ص 408.

تسمية الله إياهم أزواجًا بعد ارتفاع العقد وانقضاء العدة دلالة على بقاء التسمية حقيقة بعد زوال المعنى على سبيل الحكاية. {إِذَا تَرَاضَوْا} والتراضي تفاعل عند (¬1) الرضا، والتفاعل يكون بين اثنين فصاعدًا {ذَلِكَ} إشارة إلى النهي والكف عن العضل {أَزْكَى} أدخل في باب التزكية، وقيل: أزكى: أطهر لكم، فجمع بين اللفظين تأكيدًا {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} خبر بمعنى الأمر كقوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} و {يُجَاهِدُونَ (¬2) فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. ثم قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ} بالجزم على سبيل الجواب. و (الإرضاع) (¬3) سقي اللبن، والرضيع الذي يتغذَّى باللبن (¬4) بالارتضاع (¬5) لا يتغذى بغيره من صغره حولين كاملين لا ينقص منهما {لِمَنْ (¬6) أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} يوفي الرضاعة المفروضة، والإتمام لا يدلُّ على منع الزيادة كقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والرضاع والرضاعة اسم من الإرضاع (¬7) {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي على الأب نفقة الوالدات المرضعات، و (الكسوة) ما يكتسى من اللباس، وهذا يدلُّ أنها نزلت في المطلقات وإلا لكانت النفقة واجبة للنكاح لا للإرضاع. {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} التكلُّف: الأمر بغير المراد، والوسع: الطاقة، وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يحتمل معنيين، أحدهما: لا تدخل الوالدة ضررًا على أب المولود بمنع الدرِّ عن الولد، والثاني: لا يدخل أب الولد ضررًا على الوالدة بالاسترضاع كرهًا من غير أجرة أو بانتزاعه منها كرهًا. ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (من). (¬2) في "أ": (وتجاهدون). (¬3) في الأصل: (الارتضاع). (¬4) (باللبن) ليست في "ب". (¬5) في الأصل "ب": (لارتضاع). (¬6) في الأصل: (من) وفي "ي": (فمن). (¬7) قوله: {الرَّضَاعَةَ} البصريون يقولون بفتح الراء مع هاء التأنيث وكسرها مع عدم الهاء، والكوفيون يزعمون العكس. [الدر المصون (2/ 463)].

وقوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} يحتمل هذين الوجهين {وَعَلَى الْوَارِثِ} المراد: كل موسر من ذي رحم محرم الأقرب فالأقرب، فإذا اشتركوا في استحقاق الميراث لزم كل واحد على قدر ميراثه وما أخذ الوارث من الإرث والورث (¬1) وهو الأصل، يقال: فلان يرجع إلى إرث صدق وقيل: الإرث البقيَّة فالوارث الذي يأخذ الإرث، و (الفصال) الفطام {وَتَشَاوُرٍ} مشاورة، وهو أن يعرض بعض القوم رأيهُ على بعض، من (¬2) قولهم شار البائع السلعة يشورها، إذا عرضها للبيع، وفيها دلالة أن بعض (¬3) الحولين وقت الرضاع، وعن ابن عباس إنْ تراضيا على الفصال قبل الحولين أو بعدهما (¬4) {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} بعد الحولين لأنه رفع الجناح. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} ناسخة لقوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} وتقديم الناسخ على المنسوخ في التلاوة والكتابة لأحد سببين. إما التعبد وإما الإيقاف (¬5) الذي كان بعد فطم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬6) كما اتفق تقديم سورة الجهاد (¬7) على سورة المتاركة وهي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. {وَالَّذِينَ} اسم مبتدأ (¬8) وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} لا يكون إخبارًا عنه، ¬

_ (¬1) في النسخ عدا الأصل: (الورث والإرث). (¬2) في "أ": (ممن). (¬3) المثبت من "ب" وفي بقية النسخ: (بعد). (¬4) الطبري في تفسيره (4/ 236)، وابن أبي حاتم (2/ 434). (¬5) في الأصل "أ": (الاتفاق). (¬6) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬7) أي: سورة الأنفال. (¬8) قوله: "الذين" في إعرابه خمسة أوجه: الوجه الأول: أن "الذين" مبتدأ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأن الحديث معهن في الاعتداد فجاء الخبر عن المقصود إذ المعنى: من مات عنها زوجها تربصت، وإليه ذهب الكسائي والفراء، وأنشد الفراء قول ثابت بن قطنة العتكي: لعلَّي إن مالتْ بي الريحُ ميلةً ... على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا الشاهد: "لعلي" ثم قال: "أن يتندما". =

والوجه أنك إذا ابتدأت باسم ثم ذكرت اسمًا مضافًا إلى الأول أو منه بسبب أجزاك أن يبقي الأول وتخبر عن هذا الثاني، قال الأخفش: إنما جاز أن يكون {يَتَرَبَّصْنَ} خبرًا بتقدير ضمير عائد إلى (¬1) المبتدأ تقديره يتربصن (¬2) (من بعدهم والضمير في يتربصن) (¬3) عائد إلى قوله {أَزْوَاجًا}، وقال أبو العباس: تقديره أزواجهم يتربصن، وقال الزجاج (¬4): النون في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} قائمة مقام أزواجهم فكأنه قال: يتربصن أزواجهم، والضمير في يتربصن عائد إلى المقدر دون قوله: {أَزْوَاجًا} إلا أنَّ في هذين نظرًا. و (التوفي) (¬5) القبض، تقول: توفيت حقي واستوفيت، والمراد: قبض ¬

_ = الوجه الثاني: أن له خبرًا و"يتربَّصْنَ" ولا بد من حذف يصحح وقوع هذه الجملة خبرًا عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواج الذين يتوفون يتربصنَ، ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة. الوجه الثالث: أن الخبر أيضًا "يتربصن" ولكن حذف العائد من الكلام للدلالة عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتهم، قاله الأخفش. الوجه الرابع: أن "يتربصن" خبر لمبتدأ محذوف التقدير: أزواجهم يتربصن، وهذه الجملة خبر عن الأول، قاله المبرد. الوجه الخامس: أن الخبر محذوف بجملته قبل المبتدأ، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون، ويكون قوله "يتربصن" جملة مبنية للحكم ومفسرة له فلا موضع لها من الإعراب، ويُعْزى هذا القول لسيبويه. [معاني القرآن للفراء (1/ 151) - البحر المحيط (2/ 222) - الكتاب (1/ 152) - المحرر الوجيز (2/ 215) - الدر المصون (2/ 477)]. (¬1) في "أ": (على). (¬2) قال القرطبي (3/ 174): (وحذف المبتدأ في الكلام كثير؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} أي: هو النار. وقال أبو علي الفارسي: تقديره: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بعدهم، وهو كقولك: السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم. وتقدَّم تفصيل الكلام على هذه الآية والأوجه الخمسة في إعرابها. (¬3) ما بين (...) ليس في "أ". (¬4) ذكره الزجاج في معاني القرآن (1/ 351). (¬5) في "أ": (والتو).

الأنفس عن الدنيا بالموت {وَيَذَرُونَ} يتركون، وهذا فعل لا مصدر له ولا يشتقُّ منه الاسم ولا يذكر بلفظ الماضي {يَتَرَبَّصْنَ} باجتناب الزينة والطيب والكحل بالإثمد وترك النقلة عن المترك هكذا روي عن ابن عباس (¬1) وابن شهاب (¬2) (¬3) {وَعَشْرًا} أي عشر ليال، وقال ابن (¬4) المسيب (¬5) وأبو العالية (¬6): إنما زيدت عشر ليال لأن فيها ينفخ الروح في الولد {فِيمَا فَعَلْنَ} من التخلية بينهن وبين ما يردن من التزين للخاطبين والخروج عن البيت على ما يجوز في الشريعة ولا ينكر على ما {عَرَّضْتُمْ بِهِ} التعريض بالكلام صرفه عن الظاهر وعن المراد {خِطْبَةِ} مصدر كالخطب وهو مثل قولك: إنه لحسن المشية والقعدة والجلسة والزكوة، ¬

_ (¬1) الطبري (4/ 256). (¬2) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، الإمام العلم حافظ زمانه. روى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله. ولد سنة خمسين من الهجرة. روى أكثر من ألفي حديث، وقال الليث بن سعد: ما رأيتُ عالمًا قط أجمع من ابن شهاب، وتذاكرنا الحديث في مجلسه بعد العشاء فلم ينتهِ من مجلسه حتى أصبح. وقال الداوودي: أول من دوَّن العلم وكتبه ابن شهاب. وأخباره يطول ذكرها. توفي سنة 124هجرية. [التاريخ الكبير للبخاري (1/ 220)؛حلية الأولياء (3/ 360)؛ تاريخ الإِسلام (5/ 136)؛ تذكرة الحفاظ (1/ 108)؛ البداية والنهاية (9/ 340)؛ السير (5/ 326)]. (¬3) ذكره الإمام مالك عن الزهري كما في القرطبي (3/ 176 - 177). (¬4) في الأصل "ب": (أبو). (¬5) هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، وهو أحد الفقهاء السبعة. رأى عمر وسمع عثمان وعليًا وغيرهم من الصحابة، اتفق العلماء على إمامته وجلالته وتقدُّمه على أهل عصره في العلم والفضيلة ووجوه الخير. قال قتادة: ما رأيتُ أحدًا أعلم بحلال الله وحرامه من سعيد بن المسيب. توفي سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وحديثه عند الستة. [تقريب التهذيب (241)؛ تهذيب التهذيب (4/ 74)؛ سير أعلام النبلاء (4/ 217)؛ رجال مسلم (1/ 237)؛ الطبقات لابن خياط (1/ 244)؛ تهذيب الأسماء (1/ 212)]. (¬6) عن ابن المسيب رواه الطبري (4/ 258)، وعن أبي العالية رواه الطبري (4/ 258)، وابن أبي حاتم (2/ 437)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 824.

وقولك: ما خطبك يا فلان؟ أي ما شأنك وإرادتك؟ فالخطبة من الزوج والاختطاب (¬1) من ولي المرأة والخُطبة من الخطيب في عقد النكاح أو في غيره من المجامع بما يخاطب (¬2) ويسمى التشهد خطبَة الصلاة {أَكْنَنْتُمْ} أضمرتم، و (الكنّ) الستر سرّارنا عن إبراهيم والحسن، وقال الشاعر: ويحرُم سِرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنْفَ القِصاعِ (¬3) وقال ابن المسيب (¬4): السِّر أن يواعدها خفية ما لا لئلا تسبقه بنفسها، والقول المعروف ما أبيح على وجه التعريض {وَلَا تَعْزِمُوا} تقصدوا عقدة اسم من العقد، وعقد الشيء ضبطه وإحكامه بنوع تأليف الكتاب {أَجَلَهُ} انتهاء العدة التي أوجبها الله عليها، وخوف الشيء اتقاؤه، وإنما ذكر المغفرة والحلم لئلا يميلهم هذا التحذير عن الاعتدال بين الخوف والرجاء، فالله تعالى رفع الجناح عن شين التعريض والإضمار وحرَّم شيئين: المواعدة سرًا وعزم عقد النكاح، أما التعريض فقد قال ابن عباس: أن يقول بمشهدها (¬5): إني أريد أن أتزوج بزوجة (¬6)، وأما الإضمار أن يخطر بباله أو ينويه من غير عزم صحيح، وأمَّا المواعدة سرًا فقد سبق ذكرها، وأما العزم فهو أن يؤكِّد رأيه عليها ويقصدها من غير تردُّد فيعظم عليه قوتها. {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} قال الكلبي: نزلت في رجل من الأنصار تزوج بامرأة من بني حنيفة ولم يسمِّ لها مهرًا ثم طلَّقها قبل الدخول فقال عليه السلام (¬7): "متِّعها ولو بقلنسوتك" أما إنها لا تساوي شيئأ ولكني أحببتُ ¬

_ (¬1) في "أ": (فالاختطاب). (¬2) في "أ": (يخا). (¬3) البيت للحطيئة كما في ديوانه ص 62، وذكره الطبري (4/ 279)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 277)، والقرطبي في تفسيره (3/ 191) وهي في قصيدة يمدح فيها بني رياح وبني كلب من بني يربوع. (¬4) رواه الطبري (4/ 270). (¬5) في الأصل: (المشهدها). (¬6) البخاري (9/ 178 - الفتح). (¬7) (السلام) ليست في "ي".

أن أحيي السنَّة (¬1)، وللآية معنيان؛ أحدهما: إباحة الطلاق للرجال إن شاؤوا في الحيض والطهر واحدة وأكثر ما داموا قبل المسيس، والثاني: أن يقيم (ما) مقام اللواتي أو مقام حين ولا تجعلها شرطًا لاستدامة الحال. وفائدة الرخصة على هذا القول نفي تحرجهم عن تلك لما يرونه فرارًا من المهر. وألمرأد بالمس المطلق في باب النساء وكذلك اللمس المطلق في بابهن. {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ} (أو) بمعنى الواو (¬2) تسمّوا لهنَّ مهرًا صحيحًا ثابتًا غير فاسد ولا مجهول، والمتعة لها أمور بها واجبة مما يصلح لمثلها على مثله يراعي جنبة الرجل بذكر قدره وجنبة المرأة بقوله {بِالْمَعْرُوفِ}، وعن عمر: أدنى ما يجرى في متعة النساء ثلاثون درهمًا (¬3)، وبذلك أمر شريح (¬4) ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر في "العجاب" (1/ 596) قائلًا: وقال مجاهد وذكره. قال محققه في الهامش: رأيت مثله غير منسوب لقائل في تفسير "مقاتل بن سليمان" (1/ 123)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 279) عن مقاتل بن سليمان، وعزاه القرطبي (3/ 202) للثعلبي في تفسيره. (¬2) قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا} فيه أربعة أوجه: الوجه الأول: أنه مجزوم عطفًا على {تَمَسُّوهُنَّ} فتكون {أَوْ} على بابها، وهو ما ذهب إليه القرطبي وابن عطية. الوجه الثاني: أنه منصوب بإضمار "أَنْ" عطفًا على مصدر متوهم فتكون "أو" بمعنى "إلا". والتقدير: ما لم تمسوهنَّ إلا أن تفرضوا، وهذا الوجه ذكره الزمخشري في تفسيره. الوجه الثالث: أنه معطوف على جملة محذوفة، والتقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهذا الوجه فيه بُعْد. الوجه الرابع: أن تكون "أو" بمعنى الواو و {تَفْرِضُوا لَهُنَّ} عطفًا على {تَمَسُّوهُنَّ} فهو مجزوم أيضًا، وهذا الوجه الأخير هو الذي مال إليه المؤلف وهو أقربها. [المحرر الوجيز (2/ 226) - الكشاف (1/ 374) - الدر المصون (2/ 487)]. (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 201)، وعزاه صاحب الدر (1/ 291) لابن عمر. (¬4) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي الفقيه أبو أمية، قاضي الكوفة، أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، فهو تابعىٌّ ثقة، ولي القضاء لعمر وعثمان وعلي ومعاوية ستين سنة إلى أيام الحجاج. توفي سنة سبع وثمانين وقيل غير ذلك وله مائة سنة وقيل مائة وعشرين سنة. [الاستيعاب (2/ 701)؛ الطبقات الكبرى (6/ 131)؛ تهذيب التهذيب (4/ 287)؛طبقات الحفاظ (1/ 27)؛ سىير أعلام النبلاء (4/ 100)].

رجلًا (¬1). وعن ابن عباس: أعلاها خادم ودون ذلك ورِق ودون ذلك كسوة (¬2)، وروي أنه قدم الكسوة على الورِق، وحكم المتوفى عنها زوجها قبل المسيس والتسمية حكم المدخول (¬3) بها قضى (¬4) بها عبد الله بن (¬5) مسعود باجتهاده، وأخبره معقل بن يسار أنه وافق قضاء رسول الله عليه السلام (¬6) في بروع بنت واشق الأشجعيَّة (¬7) (¬8). {الْمُوسِعِ} ذو السعة، والسعة في المعيشة و {الْمُقْتِرِ} الذي ضاقت معيشته، والقدْر والقدَر (¬9) لغتان، وهو الحد مقدر الشيء، تقديره: إما حد ذاته وإما حدّ شأنه وإما حدّ ما يستحقه من الذكر، ويقتضي نوع نذير ممن ¬

_ (¬1) المعروف في الطبري (4/ 291)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2351) وغيرهما أن شريحًا متع بخمسمائة درهم. (¬2) الطبري (4/ 290)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2350)، وابن أبي شيبة (5/ 156). (¬3) في "ي": (الدخول). (¬4) (قضى) ليست في "ي". (¬5) (بن) من "ي" فقط. (¬6) في "ب" "ي": (صلى الله عليه وسلم). (¬7) بروع بنت واشق الرّؤاسية الكلابية زوج هلال بن مرة، صحابية جليلة، وهي التي قضى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما نكحت رجلًا فتوفي قبل أن يدخل بها أن لها صداق نسائها، والحديث صحيح ومخرج في السنن. [الإصابة (12/ 156)؛ الاستيعاب (12/ 224)]. (¬8) قصة بروع بنت واشق أخرجها النسائي في سننه - كتاب الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها قبل أن يدخل بها (6/ 198) ولفظها عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها حتى مات، قال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق امرأةٍ مِنَّا مثل ما قضيتَ، ففرح ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬9) قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص {قَدَرُهُ} بفتح الدال، وقرأ الباقون بسكون الدال، ثم اختلفوا هل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكثر أئمة العربية أنهما بمعنى واحد فجائز أن تقرأ: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} بفتح الدال و {بِقَدَرِهَا} وسكونها [الرعد: 17]، وكذا في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].

يجد {مَتَاعًا} نصب على المصدر (¬1) أي {وَمَتِّعُوهُنَّ} متاعًا و {حَقًّا} نصب على إضمار حكمنا (¬2) أو قلنا أو أخبرنا حكمًا أو قولًا أو خبرًا حقًا، قاله الفراء وقال: الحق والباطل في الأحكام دون الأسماء (¬3) وإنما خصَّ {الْمُحْسِنِينَ} تشريفًا لهم كقوله: {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} فنصف ما فرضتم فلهن أو فعليكم نصف المسمى ونصف الشيء جزئيه (¬4). {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يسقطن هذا النصف أيضًا (¬5) أو بعض {أَوْ يَعْفُوَ (¬6) الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} {أَوْ يَعْفُوَ} الزوج عن المرأة استرداد نصف المهر، وقيل: المراد به ولي المرأة وليس بصحيح بدلالة قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} قال ابن عباس: هذا خطاب للأزواج (¬7) والنساء جميعًا ولأنَّ عقد النكاح بعد العقد بيد الزوج دون الولي، وإنما كان أقرب للتقوى لأنَّ من ترك حقَّ نفسه كان أصبر على الكف عن كفِّ غيره. {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ولا تتركوا فيما بينكم تفضل بعضكم على بعض بالعفو والمسامحة. ¬

_ (¬1) هذا أحد الوجهين في نصب {مَتَاعًا} وهو أن ينصب على المصدر، وذلك لأنه اسم مصدر، وذكر صاحب البحر في تفسيره أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسم له ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز. والوجه الآخر: أن {مَتَاعًا} منصوب على الحال والعامل فيه ما تضمنه الجار والمجرور من معنى الفعل وصاحب الحال ذلك الضمير المستكن في ذلك العامل، والتقدير: قَدَرُ الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعًا. [البحر المحيط (2/ 234) - الدر المصون (2/ 490)]. (¬2) في الأصل: (حكمًا). (¬3) ذكره الفرأء في معاني القرآن (1/ 154). (¬4) في "أ": (أحد جزئيه)، وفي الأصل: (جزؤه). (¬5) (أيضًا) ليست في الأصل. (¬6) (أو يعفو) ليست في الأصل. (¬7) رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل (2363)، ورواه الدارقطني (3/ 280). وذكره ابن الجوزي في تفسيره (1/ 280) كما صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما- فيما رواه الطبري في تفسيره (4/ 322) قال: هو الولي.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تنبيه للمخاطبين وحثٌّ على الائتمار بالأوامر. وقوله: {حَافِظُوا} الآيتان عارضتان في إيتاء الأحكام الأزواج من حيث التلاوة والكتابة واتصالهما بما قبلهما من حيث قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إذ هو يقتضي المحافظة على الصلاة وغيرها والمحافظة محافظة الأموال على إقامتها، وهي مفاعلة من (¬1) الحفظ وهو ضد التضييع، وقيل: المحافظة المواظبة، فكذلك عداها بـ (على)، وقيل: صلاة الوسطى غير داخلة في الصلوات لأنها عطف عليها، وقيل: دخلت فيها إلا أنه ذكرها ثانيًا تشريفًا لها (¬2). و {الْوُسْطَى} الذي بين شيئين. قال ابن عباس (¬3) وعائشة (¬4) وحفصة (¬5) (¬6) وأبو هريرة (¬7) أنها صلاة العصر، وعن أبي روق (¬8) في قوله: ¬

_ (¬1) في "أ": (محافظة الحفظ). (¬2) قوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} هي عند التحقيق صلاة العصر، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام، ومثله قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68] والوسطى فُعْلَى. وفعلى بمعنى التفضيل، ولا يبنى للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص. (¬3) الطبري (4/ 349) من طريق العوفي ومن طريق آخر. (¬4) الطبري (4/ 346). (¬5) حفصة أم المؤمنين بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام بعد انقضاء عدَّتها من خنيس بن حذافة السهمي في سنة ثلاث من الهجرة، وصحَّ أنه عليه الصلاة والسلام طلَّق حفصة تطليقة ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له: إنها صوامة قوَّامة وهي زوجتك في الجنة. قال الذهبي: إسناده صالح. توفيت حفصة سنة إحدى وأربعين بالمدينة. [تاريخ الإِسلام (2/ 220)؛ تهذيب التهذيب (12/ 411)؛ الإصابة (12/ 197)؛ شذرات الذهب (1/ 10)]. (¬6) الطبري (4/ 348). (¬7) الطبري (4/ 344). (¬8) أبو روق الهمداني عطية بن الحارث، سمع أنس بن مالك والشعبي وإبراهيم التيمي والضحاك وغيرهم من الأعلام، قال ابن عبد البر: ليس به بأس، صالح الحديث، وهكذا قال أحمد وابن معين، وهو صاحب التفسير. [تهذيب التهذيب (7/ 224)؛ الكنى للحاكم (1/ 158)؛ الجرح والتعديل (13/ 382)].

{وَالْعَصْرِ (1)}: أقسم بصلاة العصر، وهي التي شغل عنها سليمان (¬1) وخبر صلوات الخمس (¬2) يدلُّ عليه {قَانِتِينَ} ساكتين عن كلام الناس، قال زيد بن أرقم (¬3): كنا نتكلَّم في الصلاة حتى نزلت الآية. وقال أبو سعيد الخدري: كنا نردُّ السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك (¬4). {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا} جمع راجل كتاجر وتجار وصاحب وصحاب {أَوْ رُكْبَانً} جمع راكب كفارلس وفرسان يعني إن خفتم ميلة العدوِّ عليكم فصلُّوا رجالًا على ما فسّر في سورة النساء أو ركبانًا على ما بيَّنه النبي (¬5) - عليه السلام - (¬6) (¬7)، فإذا زال الخوف فصلّوا صلاة الأمن، وقيل: فاذكروه بالثناء والحمد والتسبيح لإيقاع الفعل بعد الخوف كما شرع قبل الخوف، ولا يجوز صلاة راجل (¬8) ماشيًا ولا صلاة راكب مسايفًا أو طاعنًا لأن الآية ¬

_ (¬1) هذا مروي عن علي بن أبي طالب أخرجه الطبري (4/ 344)، وابن أبي شيبة (8612)، والكامل (6/ 437)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 305) لوكيع والفريابي وسفيان بن عيينة وسعيد بن منصور ومسدد وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب. وهو مرويٌّ عن قتادة، رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (18). (¬2) في "أ": (الخميس). (¬3) هو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان الخزرجي الأنصاري، أبو عمرو، ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمارة، وقيل غير ذلك. صحابي مشهور، غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع عشرة غزوة، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة "المنافقون"، وشهد صفين مع علي وكان من خواصه، قال خليفة: مات بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين وقيل غير ذلك، أخرج حديثه الستة. [سير أعلام النبلاء (3/ 165)؛ تهذيب التهذيب (3/ 340)؛ الاستيعاب (2/ 535)؛ الإصابة (589/ 2)]. (¬4) البخاري (4534)، ومسلم (35/ 539)؛وأبو عوانة (2/ 139)، وابن أبي حاتم (2/ 449)، والطبراني في الكبير (5064)، والطبري (4/ 380). (¬5) (النبي) ليست في "أ". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) بَيَّنَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام ذلك في القتال أمام العدو في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن كانوا أكثر من ذلك فيصلون قيامًا وركبانًا" [أخرجه البخاري (943)، والإمام أحمد في مسنده (10/ 471)، ومسلم (306 - 839)]. (¬8) في الأصل: (الأمية).

اقتضت عموم الأحوال لا عموم الركبان والرجال، والمراد: الخوف من العدو أو ما يقوم مقام العدو مما فيه تلف النفس. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} نزلت في رجل من المهاجرين يقال له حكيم بن الحارث (¬1) مات في أول الهجرة (¬2)، فأمر الله تعالى وصيَّة لأزواجهم نفقة سنة لا يخرجن مكرهات من بيوت أزواجهنَّ، فإن خرجن طائعات بطلت النفقة ووجبت العدة ثلاثة أقراء. وعن مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من أهل الطائف قدم المدينة وله أولاد وأبوان وامرأة فتوفي (¬3) فدفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4) فأعطى الوصيَّة الوالدين والأولاد بالمعروف والمرأة نفقة سنة، وكان الحكم أن تسكن المرأة بيت زوجها إن كانت من أهل المدر وإن كانت من أهل الوبر (¬5) فأنْ تعتزل، وإن خرجت طائعة بطلت النفقة فنسخت الوصيَّة بالميراث والعدَّة بأربعة أشهر وعشرًا أجمعوا أنها منسوخة وإن اختلف في الناسخ (¬6) {وَصِيَّةً} نصب على ¬

_ (¬1) حكيم بن الحارث الطائفي. روى الثعلبي عن ابن عباس أنه هاجر بامرأته وبنيه فتوفي بالمدينة، وفيه نزلت: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البَقَرَة: 234] ورفع أمره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطى الوالدين وأعطى أولاده بالمعروف ولم يعطِ امرأته شيئًا، غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول. [الإصابة (2/ 277)]. (¬2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 285) عن مقاتل بن حيان، وكذا ذكره ابن حجر في العجاب (1/ 600) وعزاه لإسحاق بن راهويه في تفسيره. (¬3) في "أ": (وتوفي). (¬4) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬5) في "ب" بياض. (¬6) وهذا ما ذهب إليه الطبري في تفسيره (4/ 406) مستشهدًا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في أخت أبي سعيد الخدري سعد بن مالك واسمها الفارعة أن زوجها خرج في طلب عبدٍ له، فلحقه بمكان قريب فقاتله وأعانه عليه اْعْبُدٌ معه، فقتلوه، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي خرج في طلب عبد له، فلقيه عُلوجٌ فقتلوه، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري، وإنَّ أجمعَ لأمري أن أنتقل إلى أهلي، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتابُ أجله". [أخرجه أبو داود (2301)، والترمذي (1204)، وابن ماجه (2031)].

إضمار الأمر ورفع بالابتداء (¬1) و {مَتَاعًا} نصب بوقوع الوصية عليه، والمصدر ينصب كالفعل (¬2) {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} من غير نصب بانتزاع الخافض عند الفراء (¬3) وقيل: الإخراج، وقوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ} تفسير لما في قوله: {مِمَّا}. ¬

_ (¬1) في قوله: {وَصِيَّةً} ثمانية أوجه إعرابية: الوجه الأول: أن "الذين يتوفون" مبتدأ و {وَصِيَّةً} مبتدأ ثانٍ وسوغ الابتداء بها لأنها موصوفة. الوجه الثاني: أن تكون {وَصِيَّةً} مبتدأ و {لِأَزْوَاجِهِمْ} صفتها والخبر محذوف، والتقدير: فعليهم وصيةٌ. الوجه الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوف، والتقدير: كتب عليهم وصيةٌ، وهي قراءة عبد الله. الوجه الرابع: أن {الَّذِينَ} مبتدأ على حذف مضاف من الأول، والتقدير: ووصية الذين. الوجه الخامس: أن "الذين" مبتدأ إلا أنه على تقدير حذف مضاف من الثاني، والتقدير: والذين يتوفون أهلُ وصية. والوجهان الأخيران ذكرهما الزمخشري. وهذه الأوجه الخمسة فيمن رفع "وصيةٌ" وهم ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم، والباقون ينصبونها. [الكشاف (1/ 376) - البحر (2/ 245) - المحرر (2/ 241) - الدر المصون (2/ 501)]. (¬2) قوله تعالى: {مَتَاعًا} في نصبها سبعة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه منصوب بلفظ "وصية" لأنها مصدر منون ولا يضر تأنيثها بالتاء لبنائها عليه، فهي كقول الشاعر: فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ ... عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ الوجه الثاني: أنه منصوب بفعل إما من لفظه فيكون التقدير: متِّعوهنَّ متاعًا، أو من غير لفظه فيكون التقدير: جعل الله لهنَّ متاعًا. الوجه الثالث: أنه صفة لوصية. الوجه الرابع: أنه بدل منها. الوجه الخامس: أنه منصوب بفعل محذوف، والتقدير: يوصون متاعًا فهو مصدر أيضًا من غير لفظ فعله، فهو كقولك: قعدتُ جلوسًا. الوجه السادس: أنه حال من الموصين. الوجه السابع: أنه حال من أزواجهم. [المحرر (2/ 241) - الكشاف (1/ 377) - الدر المصون (2/ 503)]. (¬3) ذكره الفراء في معاني القرآن (1/ 156) وكذا قال أبو البقاء العكبري في "الإملاء" (1/ 101).

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} خبر وليس بأمر لكنه مستحبٌّ عندنا لكلِّ مطلقة. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} عارضة في أثناء أحكام (¬1) الشريعة والذي أوجب إيرادها هاهنا هو الأمر بالقتال بعدها ليكو ن وا أقدر على فريضة القتال بعد إلاعتبار. {أَلَمْ تَرَ} ألم تنتهِ رؤيتك إليهم كما تقول للطليعة: أما ترون أما تبصرون إلى موضع كذا غبارًا أو كيفية، والمراد به رؤية القلب وهو العلم كقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬2) وألف الاستفهام في مثل هذا الموضع لا تقتضي (¬3) استعلامًا ولا نفيًا ولا إثباتًا ولكنها للتوقيف كقولك: ألم تسمع، أما سمعت، أما بلغك، إلا أنها مع التوقيف تقتضي إحداث تعجب واستجهال (¬4) (في الحقيقة وأما في المجاز فيجوز إطلاقه سواء) (¬5) تعجبت واستجهلت أم لم (¬6) تتعجب ولم تستجهل (¬7)، والفعل رأى يرأى إلا أن الهمزة حذفت استخفافًا فأعطيت الراء حركتها. و {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} جماعة من بني إسرائيل، روى السدي عن أبي مالك: كانوا في قرية يقال لها داورْدَان تقرب من واسط العراق (¬8)، والألوف جمع ألف، وزعم ابن زيد أنه جمع ألف أي مؤتلفة القلوب (¬9)، وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف (¬10). ¬

_ (¬1) في "أ": (الأحكام). (¬2) سورة سبأ: 6. (¬3) في "أ": (يقتضي). (¬4) بدل (واستجهال) فراغ في "ب". (¬5) ما بين (...) ليس في "ب". (¬6) في الأصل: (كم). (¬7) قال ابن قتيبة: (وهذا على جهة التعجب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان) ذكره ابن الجوزي في تفسيره (1/ 287). (¬8) أخرجه الطبري (4/ 416)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 458)، وذكره القرطبي في تفسيره (3/ 230). (¬9) أورده الطبري (4/ 418)، والبغوي في تفسيوه (1/ 250)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 288)، وابن عطية (2/ 247). (¬10) الطبري (4/ 414)، وابن أبي حاتم (2413).

وعن مقاتل ثمانية آلاف (¬1)، وعن عطاء سبعين ألفًا (¬2)، وعن السدي وأبي مالك ثلاثين ألفًا (¬3)، وعن أبي روق عشرة آلاف، وعن الضحاك عددًا (¬4). {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي الطاعون، وقال الحسن: حذر القتل في القتال (¬5) {مُوتُوا} أمر تكوين وتصيير وإلجاء {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ردَّ إليهم الحياة الدنيوية بعد أن صاروا عظامًا في قول السدي وهلال بن يساف (¬6) ومجاهد ووهب (¬7) وبعد أن أروحت (¬8) أجسادهم (¬9) رائحة الموتى من قول الكلبي ومقاتل، ¬

_ (¬1) ابن الجوزي (1/ 288)، وذكره القرطبي (3/ 230) دون نسبة لأحد. (¬2) عند الطبري في تفسيره (4/ 418) ذكر عن عطاء أنهم كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر، وهو عند البغوي في تفسيره (1/ 293)، وذكره ابن الجوزي (1/ 288) ولكنه ذكر (تسعين). (¬3) أخرجه الطبري (4/ 223) عنهما، وابن أبي حاتم (2/ 457)، وذكره ابن الجوزي (1/ 289) عن أبي مالك. أما عن السدي ببضعة وثلاثين ألفًا. (¬4) وأقرب الأقوال في ذلك ما رجحه الطبري في تفسيره - والله أعلم- حيث قال: وأولى الأقو الذي مبلغ عدد القوم قول من حَدَّ عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، وذلك أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفًا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم: ألوف. وإنما يقال: هم آلاف إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدًا إلى العشرة آلاف، وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف أو عشرة ألوف. الطبري (4/ 423). (¬5) المشهور عن الحسن أنهم خرجوا فرارًا من الطاعون كما في زاد المسير (1/ 288)، والقرطبي (3/ 232). (¬6) هو هلال بن يساف ويقال: ابن أساف الأشجعي الكوفي، يكنى أبا الحسن، تابعي أدرك عليًا، ذكره ابن حبان في الثقات. وكان ثقة كثير الحديث، استشهد به البخاري في الصحيح، وروى له في الأدب، وروى له الباقون. [تهذيب التهذيب (11/ 76)؛ رجال مسلم (2/ 325)؛ الثقات (5/ 503)؛ تهذيب الكمال (30/ 353)]. (¬7) أما عن السدي فرواه الطبري (4/ 417)، وابن أبي حاتم (2420). وأما عن هلال بن يساف فرواه ابن أبي حاتم (2418)، والطبري (4/ 422). وأما عن مجاهد فذكره ألطبري (2/ 587). وأما عن وهب فرواه الطبري (4/ 418). (¬8) أي أصبحت ذات رائحة. (¬9) في "أ": (أجسامهم).

قالوا: كان الإحياء بدعوة حزقيل النبي - عليه السلام - (¬1) قال القتبي (¬2): هو حزقيل (¬3) بن بوزا (¬4)، وقال مقاتل أن حزقيل هو ذو الكفل - عليه السلام - (¬5). {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أمر لأمة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- (¬6) مرتب على (¬7) الأمر بمحافظة الصلوات، وقال مقاتل بن حيان (¬8) أنه أمر لهؤلاء (¬9) الموتى بعد الإحياء. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} يعطي القرض، والقرض في الأصل هو القطع، ثم استعير لما تقتطعه من مالك فتدفعه إلى أخيك لينفقه ويغرم مثله من غير عقد ولا تأجيل، ثم استعمل في تقديم الحسن والسيء إذا اقتضت الجزاء، قال أميَّة بن أبي الصلت (¬10): لا تخلطن خبيثاتٍ بطيِّبة ... واخلع ثيابك منها وانجُ عريانا كلُّ امرىءٍ سوف يُجزى قرضًا حسنًا ... أو سيئًا ومدينًا مثل ما دانا (¬11) ¬

_ (¬1) (السلام) ليس في "ي". (¬2) هو ابن قتيبة الدينوري. (¬3) في "ب": (بوحز). (¬4) في الأصل: (يوذا) بالياء والذال. (¬5) (السلام) ليس في "ي". (¬6) (وسلم) من "ب". (¬7) (على) من "أ" "ي". (¬8) في "أ": (حبان) بالباء. (¬9) في الأصل: (تهولا). (¬10) أمية بن أبي الصلت شاعر جاهلي وُلد ونشأ في الطائف، وهو من أشعر شعراء ثقيف كما قال أبو عبيدة، وقد أدرك الإِسلام ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه لم يسلم. وقال قصيدة في رثاء قتلى بدر من المشركين الذين فيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا خاله، فشقَّ ثوبه وبكى. وكان يريد الإسلام فلما رأى ذلك رجع وقال: لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء، وقال: الآن حلَّت لي الخمر، فسكر حتى مات. وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سُئل عنه قال: "آمن شعرُه وكفرَ قلبُه". [البحر المحيط (4/ 422)؛ طبقات فحول الشعراء للجمحي (1/ 259)؛ أمية بن أبي الصلت وشعره د. بهجة الحديثي]. (¬11) البيتان لأمية بن أبي الصلت، وهما في ديوانه ص. 63 وانظر: لسان العرب "قرض" (7/ 216)، وتاج العروس (19/ 17)، وتهذيب اللغة (8/ 340)، والطبري في تفسيره (4/ 429).

والمضاعفة والتضعيف أن يزيد (¬1) على الشيء مثله مرة فصاعدًا {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أراد الأخذ بالقبول والدفع بالجزاء. وعن أبي أمامة (¬2): لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار: [استقرض ربُّنا وهو غني، قال النبي - عليه السلام -: "نعم، أراد بذلك أن يدخلكم الجنة" فرجع] (¬3) واستقبل أبا (¬4) الدحداح (¬5) عمرو بن الدحداح الأنصاري فأخبره الخبر فجاء أبو الدحداح وقال: يا رسول الله إن أقرضت قرضًا تضمن لي بالجنة؟ قال: "نعم" قال (¬6): وزوجتي؟ قال: "نعم" قال (¬7): وصبيتي؟ قال: "نعم" قال: فإني أُشهدك يا رسول الله أني (¬8) جعلتُ حائطيَّ قرضًا لله سبحانه وتعالى، فقال رسول الله: "يا أبا الدحداح إنا لم نسألك (¬9) كليهما فأمسك إحداهما معيشة لك ولعيالك" قال: إذًا فخيرهما للهِ تعالى ثم رجع حتى أتى أمَّ الدحداح وهي تحت النخل مع صبيانها وأنشأ يقول: هداك ربي إلى سبيل الرشادِ ... إلى سبيلِ الخيرِ والسَّدادِ ¬

_ (¬1) في "أ": (تزيد) بالتاء. (¬2) أبو أمامة الباهلي صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، روى عنه علمًا كثيرًا وهو ممن بايع تحت الشجرة وصحب النبي في حجة الوداع وكان عمره ثلاثين سنة. توفي سنة ست وثمانين هجرية. [طبقات ابن سعد (7/ 411)؛ التاريخ الكبير (4/ 326)؛ الجرح والتعديل (4/ 454)؛ تاريخ ابن عساكر (8/ 145)] (¬3) ما بين [...] ليس في الأصل. (¬4) في "أ": (أبو). (¬5) ويقال أبو الدحداحة الأنصاري المحابي، قيل: اسمه ثابت، وقال ابن عبد البر: لا أقف على اسمه ولا على نسبه غير أنه من الأنصار، وكما في صحيح مسلم: "كم من عذق مدلى في الجنة لأبي الدحداح". [الاستيعاب (4/ 1645)؛ تهذيب الأسماء (2/ 511)]. (¬6) (قال) من "أ" "ي". (¬7) (قال) من "ي". (¬8) (أني) من "أ" وفي البقية (إن). (¬9) في الأصل: (نسلك).

تدني من الحائطِ بالودادِ ... وقد مضى قرضًا إلى التنادِ أقرضتُة لله على اعتمادِ ... طوعًا بلا منٍّ ولا ارتدادِ إلا رجاء الضعفِ في المعادِ ... فارتحلي بالنفسِ والأولادِ والبر لا شك فخير زادِ ... قدّمه المرء إلى المعادِ قالت أم الدحداح: أما إذا بعتَ من الله ورسولِهِ فبيع ربيح لا يقال ولا يستقال، وأيم الله لولا ذلك لم تملك إلا حصتك، فأنشأ يقول: بشَّرك (¬1) الله بخيرٍ وفرح ... مثلك أدَّى (¬2) مالديه ونصح أزلك الحظ إذا الحظ وضح (¬3) ... قد متَّع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهر البلح ... والعبد يسعى وله ما قد كدح ... طول الليالي وعليه ما اجترح ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أتوا الحائط الآخر، فقال النبي -عليه السلام- (¬4):"كم من عِذقٍ رداح وقصر فياح لأبي الدحداح في الجنة" (¬5). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ ¬

_ (¬1) في الأصل: (بشوك). (¬2) في "أ": (مثل أجري). (¬3) هذا البيت غير موجود في بعض المصادر، (¬4) (السلام) ليس في "ي". (¬5) بهذا السياق ذكره القرطبي في تفسيره (1/ 237 - 239)، وساق القرطبي سنده للرواية. والقصة موجودة في الطبري (4/ 430)، وابن أبي حاتم (2430)، والطبراني في الكبير (22/ 301)، والبزار (5/ 402)، وسعيد بن منصور- كتاب التفسير (417)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 249). وأصل الحديث في صحيح مسلم (965) من حديث جابر بن سمرة.

أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} في أشمويل بن هلقا (¬1) ويروى هلقاثاو (¬2) في شأن داود بن إيشا - عليه السلام -، والقصَّة في ذلك أن بني إسرائيل مكثوا دهرًا ما لهم ملك يقاتل، وقد استولى عليهم أعداؤهم يسكنون ساحل بحر الروم (¬3) بين مصر (¬4) وفلسطين يقال لهم البلشتاثا (ويروى البلشتانا ولهم ملك يدعى جالوت، فلقي بنو إسرائيل منهم بلاء) (¬5) شديدًا لما غلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيرًا من أولادهم، وكان عهد الله فيما يروى إلى بني إسرائيل من بعد موسى ويوشع - عليهم السلام - (¬6) ألا (¬7) يقاتلوا إلا من قاتلهم، فلما آل الأمر إلى ما ذكرنا نبغ في بني إسرائيل طاغية ودعاهم إلى أن يملِّكوه ويبايعوه ليقودهم إلى القتال، فبايعوه على ذلك ثم جاؤوا إلى (¬8) أشمويل بن هلقا واسم أمه حنَّة وكان يدعى ابن العجوز (¬9). ويروى عن السدي أنه كان يسمى شمعون أيضًا، وهو بالعربيَّة سمعون (¬10) أي سمع الله دعاء أمه فيه واختاره للنبوة. ويقال: هو المراد بإسماعيل المذكور في سورة الأنعام بين إلياس واليسع وكان من نسل هارون، وطلبوا منه ملكًا يرجون أن يشيرهم إلى ¬

_ (¬1) الذي وجدته في الطبري (4/ 439): (شمويل بن بالي)، وفي بعض المصادر (شمويل بن حنة) نسبة لأمه. كما ذكره الطبري في تاريخه (1/ 459). (¬2) في الأصل بياض. (¬3) هو البحر الأبيض المتوسط الآن. (¬4) (مصر) ليست في "أ". (¬5) ما بين (...) ليست في "أ". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في "أ": (أن لا). (¬8) (إلي) في "أ". (¬9) في "أ": (الفجور). (¬10) الأثر هذا عن السدي بطوله الذي ذكره المؤلف. أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 441)، وفي تاريخه (1/ 467)، وابن أبي حاتم (2/ 463)، وذكره في زاد المسير (1/ 292).

ما بايعوه فقال أشمويل: هل كدتم تمتنعون عن القتال؟ قالوا: لا، فملَّك عليهم بوحي من الله طالوت وهو رجل من سبط يامين وكان مسكينًا راعي حمير وكان خرج من قريته يطلب حمارين له فنزل بأشمويل - عليه السلام - (¬1) فأعلمهم أنه ملكهم فأبوا أن يقبلوه لأنه لم يكن من سبط النبوة وهو سبط لاوي بن يعقوب ولا من سبط الملك وهو سبط يهودا، ولم يكن له (¬2) مال أيضًا، فأعلمهم أن الله فضَّله عليهم بالرأي والمنظر والنجدة، وهذه المعاني أسباب الملك دون الأصل، فلما كذبوه أتى بمعجزة على دعواه وهي الإخبار عن التابوت الذي كانت (¬3) فيه السكينة وبقيَّة من تركة موسى وهارون عليهما السلام، وذلك أن التابوت إنما كان ذلك من شمشار (¬4) مقدار ثلاثة أذرع في ذراع كانت بنو إسرائيل بعد موته في الحروب يجعلونه (¬5) أمام جندهم فإذا صوّت وسار ساروا خلفه وإذا سكن وقفوا بوقفه، ثم استولى على ذلك التابوت قوم من العمالقة فذهبوا به فجعل الله في أعينهم الناسُور (¬6) (¬7) فعلموا أن ذلك أصابهم بغصبهم (¬8) التابوت فحملوها على عجل وشدّوها إلى ثورين وتركوا الثورين في (المفازة فبعث الله ملائِكة تسوق الثورين إلى) (¬9) ديار بني إسرائيل وأخبرهم أشمويل - عليه السلام - بمجيء ذلك التابوت قبل أن يأتيهم (¬10) ذلك فصدقوه وقبلوا طالوت - عليه السلام - طوعًا أو كرهًا. ثم إن طالوت سار بهم إلى العدو، فلما انتهى إلى نهر فلسطين ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل "أ": (لهم). (¬3) في "أ": (كان). (¬4) في بعض المصادر (شمسار). (¬5) (ويجعلونه) في"أ". (¬6) في الأصل: (الناسوب). (¬7) في بعض المصادر (الباسور). (¬8) في الأصل: (بفضيهم). (¬9) ما بين (...) ليست في"أ". (¬10) في "أ" (أتاهم).

أخبرهم بإلهام الله تعالى وتوفيقه (¬1) من جهة أشمويل - عليه السلام - (¬2) أنَّ الله تعالى جعل ذلك النهر محنة للمخلصين وغيرهم. فمن شرب منه فوق غرفة جبن عن القتال ولم يكن من أصحاب طالوت، ومن اقتصر على مقدار غرفة أيَّده الله تعالى وكان من (¬3) أصحابه، فشربوا منه وعصوا أمره إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلًا من جملة ثمانين ألفًا فإنهم شربوا على (¬4) مقدار غرفة فجعل الله لهم رواء وعبروا النهر. {وَلَمَّا (¬5) بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} واستنصروا الله (¬6) ومدَّ أشمويل بوحي من الله طالوت الملك بداود وهو إذْ ذلك صبيٌّ وله ستة إخوة مع طالوت كلّهم أكبر منه، ونادته في مسيره ثلاثة أحجار كل واحد يقول: خذني يا داود فإني أصنع بجالوت كذا وكذا، فجعلها في مخلاة له، فلما شهد الفئتين وجد جالوت بين الصفين عليه بيضة من نحاس فيها ثلاثماية رطل وبقاسها (¬7) الجوشن وسائر السلاح، ووجد طالوت الملك يطوف على أصحابه ويحرِّضهم ويضمن لمن خرج نصف ملكه وتزويجٍ ابنته، فقال داود: أنا أخرج إليه، فاستحقره واستحقره الناس أيضًا، وقال إخوته: إنما يقول هذا القول من عزته وصباه، ثم قال له طالوت: هل جرَّبتَ نفسك؟ قال: نعم، قصد الأسد ذات يوم سائمة أبي فأخذت بفكَّيه وشققته نصفين، قال إخوته: إن هذا لمن عزتهً أيضًا حيث خاطر بنفسه لاستنقاذ السائمة، قال داود - عليه السلام - (¬8): كان ذلك أمانة مني وشققته على ما لي. ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (أو بتوفيق). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (من) ليست في "ب". (¬4) (على) ليست في "أ". (¬5) (ولما) من "ب" وفي البقية: (وبرزوا). (¬6) (الله) من "أ" "ي". (¬7) في الأصل: (ويقاسها). (¬8) (السلام) ليست في "ي".

فدعا له طالوت بالبركة فإذا هو طويل عليه فنزعه (¬1) وبرز إلى جالوت وفي يده مقلاع ومِلقاع لغة، قال جالوت: بم تقاتلني أيها الصبي؟ قال: بمقلاعي هذا، قال: بمثله يقاتل الملوك؟ قال داود: وهل يرمى الكلب إلا بالحجر؟ ثم أدخل يده في مخلاته ليستخرج الحجر من تلك الثلاثة فإذا هي تراكمت وصارت كتلة واحدة فأخرجها وجعلها في ملقاعِه وأدارها من فوق رأسِه ثم رمى بها جالوت، فلما انتهت إليه صارت ثلاثة كما كانت، فوقع أحد الثلاثة في رأسِهِ والآخر في فؤادِهِ والآخر في خاصرتِهِ، فخرَّ جالوت قتيلًا ونفذت الأحجار منه فقتلت أناسًا كثيرًا من الكفار وانهزم الباقون. ثم إن طالوت ندم على ما ضمن من تزويج ابنته ونصف ملكه وحسد داود - عليه السلام - (¬2) وتوارى منه داود - عليه السلام -، وافترقت بنو إسرائيل فرقتين، وطال القتال إلى أن صفا الأمر لداود - عليه السلام - وجمع له الملك والنبوة، وتاب طالوت بعد شرٍّ كثير واستشهد هو وبنوه في سبيل الله (¬3) (¬4). وعن مقاتل (¬5) أن أصحاب جالوت (¬6) كانوا من بني إسرائيل أيضًا إلا أنهم كانوا كفارًا، وذكر ابن المقفى: أنَّ جالوت كان من عشيرة فرعون، وعن قتادة أن هذا النبي هو يوشع بن نون ولا أدري كيف جمع بينهما يعني يوشع وداود من طول العهد، وقيل: إن الملائكة لم تسُق الثورين وإنما رفعته بين السماء والأرض. ¬

_ (¬1) في"ب": (نزعه) بدون واو. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) هذه القصة من الإسرائيليات التي ذكر قسمًا منها جلُّ المفسرين كالقرطبي والطبري وغيرهم. وقد تقدَّم أن الإسرائيليات لا تصدَّق ولا تكذَّب كما قال - عليه السلام -: "حدًّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". (¬4) (الله) ليست في "ب". (¬5) في "ب": (مجاهد). (¬6) في "ب": (طالوت).

{الْمَلَإِ} الوجوه والأشراف لا واحد له من لفظه، والأملاء (¬1) جمع الجمع، وقيل: الملأ جماعة تمتلي بها الأعين، وسمع النبي - عليه السلام - (¬2) رجلًا يقول يوم بدر: قتلنا عجائِز صلعًا، فقال - عليه السلام - (¬3): "أولئك ملأ من قريش لو حضرت فعالهم احتقرت فعالكم" (¬4) (¬5) وإنما حَسُن دخول (هل) على (عسى) لأنَّ (عسى) (¬6) يشبه (¬7) الأفعال و (ما) للنفي عند المبرد (¬8)، وقوله: {أَلَّا نُقَاتِلَ} في تقدير الابتداء، وقال غيره: (ما) للاستفهام، والعلة في دخول (أن) اعتبار المعنى والمعنى ما يمنعنا أن نقاتل (¬9) وكذلك قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) في "أ": (والأملان). (¬2) (السلام) ليست في "ي" وفي "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (1/ 333). ويطلق الملأ على حسن الخلق، ومنه الحديث: "أحسنوا الملأَ فكلكم سيروى" أخرجه مسلم، والقرطبي (3/ 243) ويجمع على أملاء، ومنه قول الشاعر: وقال لها الأملاءُ من كلِّ معشرٍ ... وخير أقاويل الرجال سديدُها وكما قال المؤلف: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه. (¬5) في الأصل: (احتقرتي فعالهم). (¬6) (لأن عسى) ليست في "أ". (¬7) في الأصل "ب ": (تشبيه). (¬8) مدلول "عسى" إن شاء لأنها للترجي أو للإشفاق، فدخول "هل" عليها لأن الكلام محمول على المعنى. قال الزمخشري: والمعنى: هل قاربتم ألا تقاتلوا أراد أن يقول: عسيتم ألاَّ تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل "هل" مستفهمًا عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وهذا القول أقرب ممن قال أنها خبر لا إنشاء. [الكشاف (1/ 308) - الدر المصون (2/ 516)]. (¬9) قوله: {أَلَّا نُقَاتِلَ} فيه ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنها على حذف حرف الجر، والتقدير: وما لنا في ألا نقاتل، أي في ترك القتال، ثم حذفت "في" مع "أَنْ" فجرى فيها الخلاف المشهور بين الخليل وسيبويه أهي في محل جر أم نصب. الوجه الثاني: وهو مذهب الأخفش، أن "أَنْ" زائدة، ولا يضر عملها مع زيادتها كما لا يضر ذلك مع حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفية بعدها في محل نصب على الحال.=

{أُخْرِجْنَا} أجلينا من ديارنا وأخرجنا من بين ظهراني أهالينا وذرياتنا. وقيل: إنها خفض قوله: {وَأَبْنَائِنَا} على الاتباع، والتقدير: وسبيت أبناؤنا (¬1) ويجوز الإعراب على الاتباع لقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ} وقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}. {وَزَادَهُ بَسْطَةً} والبَسطة والانبساط التوسع وقيل: الزيادة والفضل {وَالْجِسْمِ} الجوهر المؤلفه {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} وهو الصندوق على وزن فاعول مثل كانون وجمعه توابيت بلغة قريش وبلغة الأنصار التابوه (¬2) والتوابيه والتوابيت (¬3)، والسكينة فعل في معنى الطمأنينة، والمراد بها ههنا ذات (¬4) السكينة، واختلف فيها قال علي أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان (¬5). وعن مجاهد أنها كانت من الزبرجد وكان لها جناحان ورأس كرأس الهرَّة (¬6)، وعن وهب بن منبه أنها كانت روحًا من الله يكلِّمهم بالبيان (¬7)، وعن السدي أنها طشت من ذهب كان يغسل فيه قلوب الأنبياء عليهم السلام (¬8)، و (البقية) هي عصا موسى ورضراض (¬9) الألواح، عن ابن عباس وقتادة ¬

_ = الوجه الثالث: وهو ما ذهب إليه الطبري أن هناك واوًا محذوفة قبل قوله: {أَلَّا نُقَاتِلَ} التقدير: وما لنا ولأن لا نقاتل. (¬1) في "أ": (أباونا). (¬2) قرأ زيد بن ثابت {التابوه} وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء. هذا ما قاله القرطبي (3/ 248). (¬3) في "أ": (والتوابيت). (¬4) في الأصل: (هاهنا الذات). (¬5) الطبري (4/ 467)، وابن أبي حاتم (2474)، والطبراني في الأوسط (6941). (¬6) الطبري (4/ 468)، وابن أبي حاتم (2476)، والبيهقي في الدلائل (4/ 118). (¬7) الطبري (4/ 469)، وابن أبي حاتم (2479). (¬8) الطبري (4/ 470)، وابن أبي حاتم (2478)، وهو مروي عن ابن عباس كما رواه الطبري (4/ 470). (¬9) في "أ" "ب": (ورضواض).

والسدي (¬1)، والتوراة (¬2) وشيء من ثياب موسى ومن كتب العلم عن الحسن وعمامة هارون وقفيز المن أيضًا في بعض الروايات (¬3)، والمراد بآل موسى وآل هارون أنفسهما {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} على زعمكم، وذلك لأنهم كانوا قد كفروا بردِّهم على نبيهم. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} خرج من البلد كقوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} (¬4) والجنود جمع الجند، وهو الجيش، فمن شرب من مائه {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} لم يذقه، والطعم يشمل المأكول والمشروب (¬5) جميعًا {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} الاستثناء راجع إلى الشاربين خصَّ نَهْيَهُ به (¬6) بعد العموم، والغرفة من المائع كالقبضة من الذرير {فَشَرِبُوا مِنْهُ} على الوجه المحظور {جَاوَزَهُ} (¬7) عبره {طَاقَةَ} وسع وهو الاستطاعة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} ما أكثر من فئة وإن كانت سؤالًا عن كثرة الشيء وقلَّته إذا نصب ما بعده فإنه يعبر به عن الكثرة عند المبالغة إذا جرَّ ما بعده، وكذلك كائن إلا (¬8) أن (كم) أعم (¬9) ¬

_ (¬1) أما عن ابن عباس فرواه الطبري (4/ 473)، وابن أبي حاتم (2484). وأما عن قتادة فرواه الطبري (4/ 473). وأما عن السدي فرواه الطبري (4/ 474). (¬2) المثبت من "ب" وفي البقية: (التورية). (¬3) عن الحسن لم أجده، لكن ورد ذكر التوراة والعلم في رواية مجاهد وعطاء بن أبي رباح، وورد ذكر عمامة موسى ولم أجد (عمامة هارون) وقد ورد ذكر السنن وعمامة موسى في رواية مقاتل. انظر: زاد المسير (1/ 295)، والقرطبي (3/ 250). (¬4) سورة يوسف: 94. (¬5) ومنه قول العرب: طعمت الشيء أي: ذقت طعمه، ومنه قول الشاعر [وينسب للعرجي]: فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... وَإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقَاخًا ولا بَرْدا [الكتاب (2/ 290) - القرطبي (3/ 252) - ديوان العرجي ص 109]. (¬6) (به) من "أ" "ي". (¬7) في الأصل: (مجاوزة). (¬8) في الأصل: (لا). (¬9) قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} "كم" خبرية، فإن معناها التكثير، ويدلُّ على ذلك قراءة =

منه، و (الفتنة) الفرقة، قال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (¬1) وهو مأخوذ من قولك فاوت رأسه وفايته إذا شققته فانفرف و (الغلبة) العزّ بفتح الغين. {بَرَزُوا} خرجوا، والمبارز الذي يخرج في وجه خارج غيره للقتال {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} أي صبَّه علينا صبًّا يغمرنا كما يغمر الماء الإنسان {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي: شجِّعنا فلا ننهزم، وتثبيتك الشيء إقامتك إياه، الأقدام جمع قدم وهي مقدم الرجل {فَهَزَمُوهُمْ} كسروهم، وأصل الهزم الكسر (¬2)، وسقاء منهزم أي منكسر بعضه على بعض، ويقول: هزمت البئر والبير الهزيمة التي خسفت حتى فاض ماؤها، ومنه الحديث: "زمزم هَزْمَةُ جبريل" (¬3) أي ضربها برجله، وقصب منهزم منكسر، ثم كسر الجند منهزم وردهم والنيل منهم بالأسر والقتل {مِمَّا يَشَاءُ} والحال يدلُّ عليه. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي ولولا دفع الله بعض الناس ببعض {لَفَسَدَتِ} خربت (¬4) ثم اختلف في كيفيَّة الدفع، قيل: يدفع الكفار بالمؤمنين، وقيل: يدفع الرعاء (¬5) بالملوك، وقيل: يرفع الله البلاء عن البعض ببركة بعضهم كما روي في الحديث: "لولا رجال خشَّع وصبيان رُضَّع وبهائم رُتع لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا" (¬6). ¬

_ = أُبَي {وكائن} ومحلها الرفع بالابتداء، و"من فئة" في محل نصب على التمييز لأن "من" زائدة واْكثر ما يجيء مميزها ومميز {وكائن} مجرورًا بـ"مِنْ". [البحر المحيط (2/ 267) - الدر المصون (2/ 532)]. (¬1) سورة النساء: 88. (¬2) ذكره القرطبي (3/ 256). (¬3) الحديث رواه الدارقطني (2/ 289)، وعبد الرزاق في مصنفه (9124) موقوفًا على مجاهد، والحديث ضعفه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (5/ 223). (¬4) في "أ": (لخربت). (¬5) في الأصل "أ": (الدعاء). (¬6) الحديث رواه الطبراني في الكبير (22/ 309)، وفي الأوسط (6539، 7085)، وأبو يعلى في مسنده (6633،6402)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (965)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 64)، وابن قانع في معجم الصحابة (675)،=

{بِالْحَقِّ} بالصدق، والآية دليل على نبوة نبينا - عليه السلام - لأن الوحي الظاهر لا يكون إلا إلى الأنبياء فأخبر عن رسالته أيضًا لئلا يتوهم سامع الآية نبوة من غير رسالة. {تِلْكَ} إشارة إلى المرسلين {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أفاد العلم بتفاضل الرسل -عليهم السلام- بالخصال الشريفة بعد استوائهم في رتبة الرسالة كتفاضل المؤمنين فيها بعد استوائهم في رتبة الإيمان، وتقدير {كَلَّمَ اللَّهُ} كلَّمه الله والذين كلَّمهم الله مثل آدم وموسى ونبينا عليهم السلام. و {دَرَجَاتٍ} نصب على التفسير (¬1) كقوله: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} (¬2). وقوله: {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ (¬3) بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬4) والدرجة كالخطوة يقال: جاء على أدراجه، وذهب على أدراجه، ودرج القوم إذا مضوا وانقرضوا، إلَّا أنَّ أكثر استعمالها في المعاني ولذلك تسمى الثنايا الغلاظ مدارج، وتدرج فلان إذا ترقى شيئًا بعد شيء، فإذا الدرجة المرقاة، والمراد ههنا الرفعة بالشأن دون الجثث (¬5)، ومن الذين رفعهم الله درجات آدم بسجود الملائكة وافتتاح النبوة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} (¬6) وإدريس برفعته {مَكَانًا عَلِيًّا} (¬7) ونوح ¬

_ = وابن عدي في الكامل (1/ 243؛ 6/ 380)، والبيهقي في السنن (3/ 345)، وفي الشعب (9820) والحديث ضعيف غير ثابت. (¬1) قوله: {دَرَجَاتٍ} في نصبه ستة أوجه، ذكر المؤلف الوجه الأول منها وهو النصب على التفسير. والوجه الثاني: أنه مصدر واقع موقع الحال. والوجه الثالث: أنه حال على حذف مضاف، والتقدير: ذوى درجات. الوجه الرابع: أنه مفعول ثانٍ لـ"رفع" على أنه ضمن معنى بلَّغ بعضهم درجات. الوجه الخامس: أنه بدل اشتمال أي: رفع درجاتٍ بعضهم. الوجه السادس: أنه مصدر على معنى الفعل لا لفظه، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، فكأنه قال: ورفع بعضهم رفعات. [البحر (2/ 273) - الدر المصون (2/ 536)]. (¬2) سورة الإسراء: 21. (¬3) في "أ" "ي": (أنبئكم) وهو خطأ. (¬4) سورة الكهف: 103. (¬5) في "أ": (الخبث). (¬6) سورة البقرة: 31. (¬7) سورة مريم: 57.

بالنصرة العامَّةِ ونشر ذريته، وإبراهيم بالبركة عليه وعلى آله، وبأن له لسان صدق في الآخرين، وموسى بالكلام والكتاب وابتعاث الأنبياء على شريعته، وعيسى بالآيات والرفع، ونبينا بالدعوة العامة والمعجزة الباقية وبنسخ الشرائع وختم النبوة وبالمعراج الأعلى والشفاعة المدَّخرة صلوات الله على جميع الأنبياء والمرسلين {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ} ما اختلف الذين وما اشتجروا يدلُّ عليه قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} وإنما عبَّر عنه بذلك لأنه قضيته (¬1) وغايته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} دليل على أنه لم يشأ اتفاقهم وشاء اختلافهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} يدلُّ على أنه شاء كينونة اختلافهم فخلقه فيهم تمكينًا ومدًّا على ما أراد من غير إخبار ليميز الخبيث من الطيب بالحكمة. {لَا بَيْعٌ فِيهِ} لا دفع بالثمن كما أن الشراء أخذ بالثمن والبيع دفع به {وَلَا خُلَّةٌ} صداقة وهي مصدر الخليل، وعن الحسن (¬2) أن المراد بالنفقة الزكاة (¬3)، وعن ابن جريج (¬4) التطوع وإنما أمر بالمبادرة ليقدموا خيرًا فلا يخسروا يومًا لا بيع فيه فيفتدوا ولا خلَّة فينبسطوا في خير أخلائهم ولا استبداد لِأَحَدٍ في الشفاعة فيشفعوه إلى أن يفدي الله تعالى من شاء من المؤمنين بمن شاء من الكافرين ويزيل الأهوال عن أفئدة المتقين فيعودا متحابين متشفعين بإذنه {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بترك المبادرة. عن أُبي بن كعب أن النبي - عليه السلام - (¬5) سأله: "أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ " (قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أبا المنذر! أتدري أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ ") (¬6) قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ ¬

_ (¬1) في الأصل: (قضيته). (¬2) عن الحسن ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 301)، والقرطبي (3/ 266). (¬3) في "ب": (الصلاة) وهو خطأ. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (4/ 523)، وعزاه السيوطي في الدر لابن المنذر (1/ 322)، وذكره القرطبي (3/ 266). (¬5) (السلام) ليست في "ي" وفي "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬6) ما بين (...) ليست في "أ".

الْقَيُّومُ}، قال: فضرب على صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1). واتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر الفريقين والإنذار بيوم الدين ليزيد ذكر الله تعالى خشوع قلوب قدّر لها الخشوع، واسم الله مبتدأ و {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبره و {الْحَيُّ} ذو المشيئة والقدرة (¬2) و {الْقَيُّومُ} الدائم الفعل، وقيل: الثابت بنفسه، وقيل: القائم بالحوائج (¬3) وزنه فيعول من القيام والقيام فيه لغة، و (السِّنة) الوسن وهو النعاس ومخامرة النوم مع اليقظة، و (النوم) السبات وانقباض الروح من غير قطع وسبب مع بقاء القوى الحيوانية (¬4) في الجسد، وإنما نفى النوم بعد الوسَن على طريقة قولهم: ما لفلان قليل ولا كثير ونفي القليل ربما أثبت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 556)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 141)، والحاكم في مستدركه (3/ 304) وصححه، ووافقه الذهبي والبغوي في تفسيره (1/ 267). (¬2) هذا جنوح من المؤلف عن المعنى الحقيقي لـ "الحي"، ومعناه كما قال ابن جرير الطبري (4/ 527): الذي له الحياة الدائمة والبقاء الذي لا أول له بحد ولا آخر له بأمد. وبهذا التفسير لمعنى الحي عليه عامة المفسرين كالبغوي في تفسيره (1/ 268) والزجاج في معاني القرآن (1/ 333) والسمعاني في تفسيره (2/ 392) وغيرهم، ومع أن المؤلف أشعري في تأويلاته لآيات الصفات فهو يخالف بتفسيره هذا حتى الأشاعرة الذين يثبتون صفة الحياة لله -عَزَّ وّجَلَّ-، فالأشاعرة عامتهم يثبتون سبع صفات لله جمعت في قول الناظم: له الحياة والكلام والبصر ... علم إرادة وخلق واقتدر ولعل المؤلف ما أراد تفسير ذات الكلمة "الحي" بهذا التفسير وإنما أراد شيئًا متعلقًا فيها، فما من حي إلا وله مشيئة وقدرة، والله أعلم بمراد المؤلف. (¬3) قوله: {الْقَيُّومُ} بمعنى القائم بالحوائج كما قال المؤلف، وبه فسر الطبري معنى القيوم مستشهدًا بقول أمية بن أبي الصلت: لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ ... والشمسُ مَعْها قَمَرٌ يعومُ قَدَّرَهُ المهَيمنُ القَيُّومُ ... والحشرُ والجَنَّةُ والجحيمُ ... إلا لأمر شأنُهُ عظيمُ وأصل "قيُّوم" قَيْوُوم، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء فصار قيومًا. [الطبري (4/ 528) - ديوان أمية ص 24]. (¬4) في "ب": (للحيوانية).

الكثير كقولك: غير مرَّة وغير واحد ولا يطيقه رجل ورجلان، فأكد النفي بهما كما قال زهير (¬1): لا سنة في طوال الدهر تأخذهُ ... ولا ينام ولا في أمرِهِ فندُ (¬2) {مَا} قائم مقام الأشياء، أي له الأشياء التي {فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من غير عرض وجوهر {مَنْ ذَا} استفهام بمعنى النفي كقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} والاستثناء مخصص للنفي وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [يفيد إحاطة العلم بهم من أولهم إلى آخرهم (¬3) {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}، (¬4) أي بشيء من معلومه إلا أَنَّ الإحاطة بصفة الله من المحال كما تقول: هذا الدرهم ضرب الأمير، وفيه دليل على أن العقول قاصرة عن إدراك أقصى العالم وإن كان محدودًا متناهيًا في علم الله تعالى والكرسي مبنيٌّ على النسبة كالدَّردي والخرثىّ والمراد به العلم عند بعضهم (¬5) و (العرش) الرفيع المستوي عليه عند ¬

_ (¬1) هو زهير بن أبي سُلمى-بضم السين- واسم أبي سلمى: ربيعة بن رياح بن قرط بن مازن، وزهير هو الشاعر الجاهلي المشهور، قال ابن عساكر: كان معاوية يقول: كان أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب، وحدث حرملة بن يحيى فقال: سمعتُ الشافعي يقول: كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه، ومن أراد أن يتبحَّر في الشعر فهو عيال على زهير، قال أبو أحمد العسكري: كان موت زهير قبل المبعث. [الطبقات لابن خياط (1/ 39)؛ تاريخ بغداد (13/ 346)؛ تهذيب الكمال (29/ 434)؛ الإصابة (5/ 595؛ 6/ 307)]. (¬2) ديوان زهير بن أبي سلمى ص 128. (¬3) في "ب": (آخرهم إلى أولهم). (¬4) ما بين [...]، ليست في "أ". (¬5) هذا القول نصره الطبري في تفسيره بأدلة أثرية ولغوية. ولم يثبت أثره عن ابن عباس. والكرسي ثبت أنه موضع قدم الرب سبحانه وتعالى عن ابن عباس في الطبري وابن أبي حاتم، وهو الأثر الثابت الوحيد في التفسير المأثور، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 457): والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه الحاكم في المستدرك وقال: إنه على شرط الشيخين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله -عّزَّ وَّجَلَّ-. وكذا قال الطحاوي في شرح العقيدة الطحاوية وردَّ كلام الطبري. ورجح الأزهري كلام ابن كثير كما في تهذيب اللغة (10/ 54) =

بعضهم وكرسي دون العرش عند الآخرين (¬1) وسمي الكرسي المعهود لاستقلاله بما يوضع عليه أو بمن يجلس عليه. {وَلَا يَئُودُهُ} أي لا يوقره ولا يكله ولا يعجزه، والكناية راجعة إلى الله تعالى عند بعضهم، والكناية في {حِفْظُهُمَا} عائدة إلى الجنسين السماء والأرض {الْعَلِيُّ} العالي عن مساواة غيره {الْعَظِيمُ} الممتنع بجلاله عن الإحاطة به. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} عن الحسن وقتادة والضحاك: نزلت في أهل الكتاب والمجوس إذا بدلوا الجزية (¬2)، وعن السدي وابن زيد أنها منسوخة بآيات القتال (¬3)، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: نزلت في أبناء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لأحدهم الولد دفع ما ولد له من ولد إلى اليهود ليعيش تَيَمُّنًا بأهل الكتاب (¬4) فنشأ كثير من أولادهم فيما بين اليهود متهوِّدين، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا أن يخيِّروا أولادهم على الإسلام فنهاهم الله تعالى عن ذلك (¬5)، وقيل: الإكراه إنما يكون قبل الإعجاز وإقامة الحجة، فأما العمل على الحق بعد البيان فلا وإن كان بالسيف ¬

_ = وأثبت أن الكرسي موضع القدمين وقال: هذه الرواية - رواية ابن عباس التي أخرجها الحاكم- اتفق أهل العلم على صحتها والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار. (¬1) الصحيح -والله أعلم- أن الكرسي هو غير العرش، وهذا الذي ذكره ورجحه ابن كثير في تفسيره (1/ 458)، والقرطبي (3/ 278)، والطحاوي في عقيدته (ص312). وقال ابن كثير: روي عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش، وهذا لا يصحّ عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره [البداية والنهاية (1/ 13)] أو صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام عن أبي ذر الغفاري مرفوعًا: "الكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة" رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره (1/ 23). (¬2) ذكر عن الثلاثة في أهل الكتاب كما في القرطبي (3/ 280) ولم يذكروا المجوس، وكذا عند الطبري (4/ 551). (¬3) ذكره عنهما ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 306). (¬4) في "ب": (من أهل). (¬5) رواه أبو داود (2682)، والنسائي في تفسيره (68، 69)، وابن حبان (140) وسنده صحيح.

كالمطالبة بالحق بعد شهادة الشهود، والإكراه الحمل على غير المراد وإلجاء واضطرار {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} الإصابة والاستقامة و {الْغَيِّ} ضده، والرشد والرَّشد والرشاد (¬1) بمعنى. و (الطاغوت) اسم لكلِّ معبود دون الله تعالى أو مطاع في معصية الله (¬2)، وهو واحد يذكر في لفظه مشتق من الطغيان، وقال أبو علي: هو مصدر يوضع موضع الجمع والواحد (¬3) (¬4)، و (الاستمساك) والتمسك بمعنى اللزوم وشدة الأخذ. و (العروة) المتعلق يقال: عروة الجوالق وعروة الكوز وعروة الباب، قال الأزهري (¬5) (¬6): وعروة الكلأ ما له أصل نابت كالشيح الأرضي، وهذا مثل للتمسك بالمعرفة والتوحيد بإذن الله {لَا انْفِصَامَ} انكسار وانصداع من غير أن يبين (¬7)، وفي الحديث: "درَّة بيضاء لا فصم فيها ولا قصم" (¬8) ويروى: "ولا وصَم". {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أراد ولاية النص، ولذلك خصَّ المؤمنين ¬

_ (¬1) في "أ": (والرشد). (¬2) وهو راضِ بذلك (المحقق). (¬3) (والواحد) ليست في " ". (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 281)، والسمين الحلبي في تفسيره (2/ 547) ونقلا مذهب أبي علي الفارسي من أنه مصدر في الأصل، ولذلك يوحد ويُذَكَّر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان وقيل: هو اسم جنس مفرد، فلذلك لزم الإفراد والتذكير، وهذا مذهب سيبويه وقيل: هو جمع وهذا مذهب المبرد وهو مؤنث بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}. (¬5) (قال الأزهري) ليس في "أ". (¬6) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (3/ 159) وقال في معنى الآية: فقد عقد لنفسه من الدين عقدًا وثيقًا لا تحلّه حجَّة. (¬7) وهذا قول الجوهري كما في تهذيب اللغة (12/ 213) ومنه قول ذي الرمَّة يذكر غزالًا شَبَّهَهُ بدمْلُج فضة: كأنَّهُ دُمْلُجٌ من فضةٍ نَبَهٌ ... في مَلْعَبٍ من جوارِي الحيِّ مفصومُ (¬8) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" (460)، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (196 - زوائده)، والخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 296) والحديث ضعيف.

يخرجهم بالتوفيق والتأييد دون الإلجاء فلا يستحقون ثوابًا إذا أدّوا الدعوة فيشاركهم غيرهم، وإنما شبَّه الكفر بالظلمات لأنه وإن كان ملَّة واحدة فإنَّ فيه اعتقادات مختلفة، وجعل النور مثلًا للإيمان لأنه اعتقاد واحد، فأما ضلالات أهل البدع في الإيمان فليس بإيمان هان لم يكفروا بها {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ (¬1) الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} بالتسويل (¬2) والغرور بعد خذلان الله ومشيئته العامة التي هي علَّة الأشياء كلها، ومثل النور الفطرة، إذ كل مولود يولد على الفطرة، وقيل: المراد به بعض من الاعتقادات (¬3)، وقيل: إنه الإيمان فتكون الآية خاصة في المرتدين، وقيل: إنه العقل. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} نزلت في شأن إبراهيم - عليه السلام - ودعوته نمرود إلى الإسلام، والقصة فيه أن نمرود قيل هو فريدون بن كنعان بن حام بن هويجهان (¬4) بن أرفخشد (¬5) علا في (¬6) الأرض بعد الضحاك بن علوان بن عمليق بن عاد واعتقد في النجوم القدرة وتدبير الدنيا، واتَّخذ أصنامًا على أسمائها ثم ادَّعى الربوبية لنفسِهِ على أحد الأوجه الثلاثة، إما على وجه المخاريق واليزنجات، وإما على وجه ما رزق من الغلبة والقهر واستعباد الناس واحتواء الممالك، وإما على وجه رأى لنفسه في قضية أحكام المنجمين من العلو في الأرض، والوجه الأول أظهر لوقاحته وارتكابه بقوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وكان قد اتفق له ظن بخروج (¬7) إبراهيم - عليه السلام - إما من جهة أخبار الأنبياء المتقدمة وإما من جهة الأراهيص والأوهام، وإما من جهة أحكام المنجمين فكاد يقطع النسل ¬

_ (¬1) في الأصل: (أولياء). (¬2) في "أ": (بالتسوية). (¬3) في "أ" "ي": (الاعتقاد). (¬4) في الأصل: (توجمعان) وفي "أ": (يونجهان). (¬5) اسمه في بعض المصادر (النمرود بن كوش)، وفي بعضها (النمرود بن كنعان)، وفي بعضها (النمرود بن فالج)، وأما بقية الاسم فلم أجده. (¬6) بدل (علا في) بياض في الأصل. (¬7) في "أ": (خروج).

لذلك وأبى الله إلا إتمام نوره، والقصة طويلة، فلما بعثه الله إليه (¬1) دعاه إلى ربِّه تعالى فأنكر عليه وسأله: من ربك؟ قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فلبَّس أمره نمرود على الناس وقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ودعا رجلين من جنسه استوجبا القتل في حكمه فقتل أحدهما وأطلق الآخر وقال: أمتُّ هذا وأحييتُ هذا ليوهم الناسَ أن إبراهيم كان يعنيه، أو ليوهمهم أن إبراهيم كان يجادله فانقطع بالمنع أو نحوه. فلما علم إبراهيم ذلك منه جادله أيضًا وتحدَّاه إلى أن يأتي بالشمس من المغرب معارضة فبُهت وكان (¬2) عجزه عن الفعل دلالة على كذبه، وعجزه عن الجواب معجزة لإبراهيم - عليه السلام - حيث لم يقال أنا الآتي بها من المغرب أو لا أسلم أن ربك الآتي بها من المشرق أو آية دلالة على الربوبية في الإتيان بها من المشرق، وإنما جادله إبراهيم بهذه النكتة الثانية ولم يجادله بحقيقة الإحياء والإماتة؛ لأنَّ هذه الثانية كانت أقرب إلى أفهام المستمعين حولهما، وقيل: جادله بالنكتة الأولى وأظهر تمويهه وأخذه بالمجاز وأقام الحجة بتلك النكتة، ثم أتي بالنكتة الثانية بعد إلاستفتاء إلا أن الله أوجز القصة، والأصح أنه لم يكن يجادل أولًا وإنما ذهب نمرود إلى الجدال. {أَلَمْ تَر} يقتضي تعجبًا فكأنه قيل (¬3): هل رأيت كمثله (¬4) والهاء في قوله {أَنْ آتَاهُ} (¬5) راجعة إلى نمرود، ويجوز تسليط الكافر ابتلاء كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} والشمس جسم منير جعلهُ الله آية النهار وسيره في ذلك، واختلف في حرِّها، قيل: شعاعها (¬6) يوصل إلينا حرارة النار من دون الفلك بإذن الله تعالى، ¬

_ (¬1) في "أ": (اليد) (¬2) في الأصل: (فكان). (¬3) في "ب": (قال). (¬4) في "ب": (مثله). (¬5) في الأصل "ي": (اتيه). (¬6) في "أ": (شعا).

وقيل: هي نار في الخلقة، واختلف في سيرها والله أعلم بحقيقتها (¬1)، و (البهت) كالدهش، قال: فبهتهم {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} لا يوفِّقهم للاهتداء ولا يرشدهم، والمراد به: المقدّر عليهم أن يموتوا على الكفر. {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} نزلت في عزير - عليه السلام - (¬2)، وقيل: في أرميا النبي - عليه السلام - (¬3) (¬4)، وقيل: في الخضر - عليه السلام - (¬5)، وقيل: في كافر (¬6)، والأصح أنه عزير أو أرميا عليهما السلام، وذلك في أيام بخت نصَّر والتجاء بعض بني إسرائيل إلى صاحب مصر وخراب إيليا، وذكر في قصة أرميا أنه توارى بمصر حيث تبعهم بخت نصر واستردَّهم من صاحب مصر ثم اتخذ جنتيه بمصر يتعيش بهما، فأوحى الله تعالى إليه ليجزيك هذا البلاء الذي قضيته على إيليا وأهلها وأنه ليس زمان العمران ولكنه زمن الخراب فاعمد إلى جنتيك (¬7) فاهدم جدرها وانتف بقلها وعوّر نهرها والحق بإيليا فلتكن بلادك حتى يبلغ كتابي أجله، فخرج أرميا مذعورًا وركب أتانًا له معه سلة فيها عنب وتين وقربة من ماء، فلما لحق بأرض إيليا رفع له شخص بيت المقدس من بعيد ورأى خرابًا عظيمًا فهاله (¬8) ذلك فخطر ¬

_ (¬1) النص منِ كتاب الله قاطع في سير الشمس، ومنه قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}. (¬2) ذهب إلى ذلك علي بن أبي طالب وأبو العالية وعكرمة وسعيد بن جبير وناجية بن كعب وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل. وانظر: الطبري (4/ 578)، وابن أبي حاتم (2/ 500)، وزاد المسير (1/ 309)، والقرطبي (3/ 289). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ذهب إلى ذلك وهب ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير، وقالوا: اسمه إِرْميَا بن حَلْقِيا وكان من سبط هارون بن عمران. وانظر: الطبري (4/ 580)، وابن أبي حاتم (2/ 500)، وزاد المسير (1/ 309)، والقرطبي (3/ 289). (¬5) ذهب إلى ذلك محمَّد بن إسحاق ووهب بن منبه كما ذكر ذلك النقَّاش، وذكر ذلك القرطبي (3/ 289)، وابن كثير (1/ 464). (¬6) ذهب إلى ذلك ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 309) وعزاه لمجاهد. (¬7) في الأصل بياض. (¬8) في الأصل: (لهاله).

بباله أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها فتلفظ به من غير إنكار، فابتلاه الله في الحال. وقوله: {أَوْ كَالَّذِي} معطوف (¬1) على معنى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ} وقد ذكرنا أن معناه هل رأيت كمثله، وقيل: معناه أو الذي على طريقة من يعبر عن يقين بمثله {خَاوِيَةٌ} خالية، ويعبر به عن الزوال والسقوط {عُرُوشِهَا} والعرش البناء من غير سقف أي ظل، وكان ابن عمر إذا نظر إلى عروش مكة قطع التلبية (¬2) (إحياء القرية) عمارتها. {كَمْ لَبِثْتَ} أقمت بمكان أو على حال، وإنما قال {يَوْمًا} لأنه لم يرَ الشمس حتى انتبه، فلما حقق النظر رأى بقيَّة أثر الشمس فقال: أو بعض يوم، وإنما لم يشعر بمدة لبثه لأحد معنيين: إما لأنه لما غير عليه الحال أنساه الحالة الأولى أعني (¬3) حالة الموت، وإما لأنه لم يرَ في حال الموت شيئًا كالنائم الذي لا يحتلم لم يدر مقدار نومه وإن رأى رؤيا ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي} قيل أنه معطوف على المعنى، وتقديره عند الكسائي والفراء: هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مرَّ على قرية. والعطف على المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير: تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّر غنيمةً ... بنَهْكَةِ ذي قُرْبَى ولابِحَقَلَّدِ فإن معناه: ليس بمكثر ولا بحقلد، وجاءت الباَء زائدة في خبر "ليس". وقيل: إنه منصوب على إضمار فعل، وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، والتقدير: أو رأيتَ مثل الذي. وقيل: الكاف زائدة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقيل: إن الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرف، وهو مذهب الأخفش، وهذا أقرب الأقوال - والله أعلم. وان كان جمهور البصريين على خلافه، ويشهد له قول الشاعر [ينسب لامرىء القيس]: وإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ [معاني القرآن للفراء (1/ 170) - ديوان زهير ص 234 - الكشاف (1/ 389) - الإملاء (1/ 109) - ديوان امرئ القيس ص 44]. (¬2) ابن خزيمة في صحيحه (4/ 206)، ويروى عن عمر كذلك كما في شرح مسلم للنووي (8/ 204). (¬3) في الأصل: (عني).

استدلَّ بها على طول نومه، و (المائة) اسم لعشر عشرات من العدد، وإنما كتبت بزيادة الألف لئلا يشتبه بمئة و (¬1) (العام) الحول. واختلف في قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} قيل: هو التسني من السنين والسنوات والمساناة (¬2)، وقيل: هو التسنه من المسانهة (¬3) (¬4)، وقيل: هو التسنن من الحمأ المسنون (¬5)، و (الحمار) ما يتولد بينه وبين الفرس البغل، فالله تعالى حبس الآفات عن طعامه وشرابه ولم يحبس عن حماره ليشتبه عليه أمره ولا يقدر على قياس ثم تبيَّن بتبيين الله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ} الواو لأحد معنيين: إما لكونه معطوفًا على سبب مضمر قبله أو التقديم مسبّب بعده (¬6) كقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬7) و (العظم) ما جاوز حدَّ العصب صلابة من جسَد الحيوان و (اللحم) ما جاوز العلقة انعقادًا. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي} نزلت في إبراهيم، والقصَّة فيه أن نمرود لما لبس أمر الإحياء والإماتة على الناس أحبَّ إبراهيم - عليه السلام - (¬8) أن يصير ¬

_ (¬1) في الأصل بياض. (¬2) ذهب إلى ذلك الكسائي، ذكر ذلك عنه السمعاني في تفسيره (2/ 412) وقال معناه: كأنه لم تأتِ عليه السنون وقطف من ساعته وكذا أورده البغوي في تفسيره (1/ 278)، والقرطبي (3/ 293). (¬3) أي أن الهاء فيها أصلية، ويشهد له قول الشاعر [وهو منسوب لسويد بن الصامت]: وليستْ بِسَنْهَاءٍ ولا رَجَبيَّةٍ ... ولكن عرايا في السنينِ الجوائِحِ وانظر: زاد المَسير (1/ 311)، والقرطبي (3/ 293). (¬4) في الأصل: (المهالفة) وفي "ي": (المانهة). في "ب" بياض، والصحيح هو المثبت. (¬5) هذا قول أبي عمرو الشيباني كما في القرطبي (3/ 293) وردَّه الزجاج. (¬6) قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} يحتمل ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه متعلق بفعل محذوف مقدر بعده، والتقدير: ولنجعلك فعلنا ذلك. والوجه الثاني: أنه معطوف على محذوف، والتقدير: فعلنا ذلك لتعلم قدرتنا ولنجعلك. الوجه الثالث: أن الواو زائدة واللام متعلقة بالفعل قبلها، والتقدير: وانظر إلى حمارك لنجعلك، وليس في الكلام تقديم أو تأخير. [البحر (2/ 292) - القرطبي (3/ 293) - الدر المصون (2/ 565)]. (¬7) سورة الأنعام: 113. (¬8) (السلام) ليست في "ي".

ذلك من جهة الله تعالى محسوسًا (¬1) له بعد أن كان معقولًا (¬2)، والدليل على مزية العلم الضروري على غيره أنك تقول فيما علمته بالأخبار علمته حتى كأني شاهدته، ولا تقول فيما شاهدته علمته حتى كأني عقلته، وقيل: إن نمرود توعَّده إن لم يره ما ادِّعاه لربِّه تعالى من الإحياء والإماتة، وقيل أن إبراهيم مرَّ على جيفة فرأى السباع تصيب منها والطيور، وربما ألقت الطير بعض أجزائها في البحر فتلقمه الحيتان، فخطر بباله من كيفية الإحياء بعد التلاشي فسأل ربه أن يريَه كيف يحيي الموتى، والإراءة إحداث الرؤية في الرائي، وذلك لا يتعدَّى إلى مفعولٍ واحد وربما كان إظهار الموتى له فيتعدَّى إلى مفعولين (¬3). والمراد بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} إثبات إيمانه كما قال حسَّان (¬4): ألستُم خيرَ من ركِبَ المطايا ... وأندى العالمينَ بطون راحِ وكان (¬5) هذا السؤال لإظهار شأنه للسامعين وتزكية عن الشكِّ والإنكار كسؤاله عيسى - عليه السلام - (¬6): {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (¬7) {قَالَ بَلَى} آمنتُ، ولكن أريد هذه الرؤية ليطمئنَّ قلبي ولا يخطر بباله شيء من الشبه (¬8)، ¬

_ (¬1) في الأصل "ب": (نحوسًا)، وفي "أ": (محبوسًا) والمثبت هو الصواب. (¬2) قصة سبب النزول هذه ساقها الطبري بسنده كما في تفسيره (4/ 624)، والواحدي في أسباب النزول (ص 86)، وذكرها ابن حجر كما في "العجاب في بيان الأسباب" ص 437. (¬3) الأصل أن "رأى" تتعدى إلى مفعول واحد، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها مفعولًا ثانيًا. وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من "رأى" بمعنى عرف فتتعدى لاثنين. [الكشاف (311/ 1)]. (¬4) البيت ليس لحسان كما قال المؤلف، وإنما هو لجرير، بل هو مشهور النسبة إلى جرير كما هو في ديوانه ص 85، وقد نسب لجرير في عامة المصادر منها شرح شواهد المغني (1/ 42)، ولسان العرب (7/ 101 - نقص)، ومغني اللبيب (1/ 17). (¬5) في الأصل: (فكان). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) سورة المائدة: 116. (¬8) في "أ" "ي": (الشبهة).

والاطمئنان هو السكون {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قال محمد بن كعب (¬1) وعبد الله بن سلام: أخذ ديكًا وحمامة وطاوسًا وغرابًا (¬2)، وعن ابن عباس بدل الطاوس بطة (¬3)، فقطعهن وخلط بعض أجزائهن ببعض {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} وأمسك الرؤوس ففعل ذلك ثم ناداهنَّ فامتازت أعضاء كلٍّ منهن وائتلفت به ثم أتته سعيًا ثم دفع إلى كل شخص رأسه. و (الصرّ) (¬4) القطع (¬5)، و (الجبل) الطود، وهو واحد الأجبل، ¬

_ (¬1) هو الإمام العلامة أبو حمزة محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني، من حلفاء الأوس. كان من عبَّاد المدينة وعلمائهم بالقرآن، ومن أفاضلهم علمًا وفقهًا، ولد سنة أربعين على الصحيح، قال عون بن عبد الله: ما رأيتُ أحدًا أعلم بتأويل القرآن منه، وكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف فمات هو وجماعة معه تحت الهدم سنة ثمان عشرة ومائة، وقيل: سنة ثمان ومائة، وقيل غير ذلك. [تهذيب التهذيب (9/ 373)؛ رجال مسلم (2/ 203)؛ الثقات (1/ 65)؛ سير أعلام النبلاء (5/ 65)]. (¬2) ذكره ابن إسحاق عن بعض أهل العلم فيما رواه الطبري عنه في تفسيره، كما رواه الطبري أيضًا عن مجاهد وابن جريج وابن زيد. ولكن الأقرب في ذلك ما قاله ابن كثير في تفسيره، قال: اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنصَّ عليه القرآن. [الطبري (4/ 634) - ابن كثير (1/ 466)]. (¬3) ذكره ابن أبي حاتم (2704). (¬4) في الأصل: (الصورة). (¬5) القراءة المسْهورة هي بضم الصاد {فَصُرْهُنَّ} وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبي عمرو وابن عامر. وهي مأخوذة من قول القائل: صُرْتُ إلى هذا الأمر، إذا ملت إليه. وفي الكلام حذف استغني عنه لدلالة الظاهر عليه، فيكون المعنى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، أي: اضممهنَّ إليك، ثم قطِّعْهُنَّ، ثم اجعل على كلِّ جبل منهن جزءًا. أما من فسَّر "صرهن" بـ: قطعهن وهو تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - فلا يحتاج إلى تقدير، وهذا التفسير معروف في كلام العرب، ومنه قول توبة بن الحُمَيِّر: فلمَّا جذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ ... بأطرفِ عيدانٍ شديدٍ أُسُورُها فأَدْنَتْ ليَ الأسبابَ حتى بَلَغْتُهَا ... بنَهْضِي وقد كان ارتقائي يصورها يصورها، أي: يقطعها. [تفسير الطبري (4/ 635) - السبعة لابن مجاهد ص 190].

و (السعي) العدو والمشي. قيل: فائدة تخصيص الطير عموم الاعتبار ولأنها تطير كالجن وتمشي كالإنس والبهائم والحشرات وتبيض كالحيتان. {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} نزلت في الحثِّ على النفقة من فرض ونفل واتصالها بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} وما بينهما من القصص عارض، وفي الآية مضاف مضمر تقديره: مثل نفقة أو كمثل زراع حبَّة (¬1) والحبة ثمرة السنبل والسنبلة من الزرع كالعنقود من الكرم والنخل، وفيها تشريف عدد السبع قبل ينبت {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وقيل: هذا شيء متصور وإن لم يوجد، وذلك يكفي في التمثيل لقوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ} يزيد على سبعمائة مثلها فصاعدًا. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (¬2) (¬3)، (الإتباع) الإعقاب (المنّ) تذكير النعمة اقتضاء ¬

_ (¬1) لا بدَّ من حذف حتى يصح التشبيه، لأن الذين ينفقون لا يُشَبَّهُونَ بنفس الحبة، واختلف في المحذوف فقيل: من الأول، والتقدير: ومثلُ مُنْفَق الذين أو نفقة الذين. وقيل: من الثاني فيكون التقدير: ومثل الذين ينفقون كزارع حبة. [الدر المصون (2/ 578)]. (¬2) هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري، أحد العشرة، أسلم قديمًا ومناقبه شهيرة، وهو أحد الستة أهل الشورى، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام. عاش خمسًا وسبعين سنة ومات سنة اثنتين وثلاثين. ودُفن بالبقيع، وكان مثلًا للغني الشاكر فقد خلف بعد موته ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا. [الاستيعاب (2/ 844)؛ الإصابة (4/ 346)؛ تهذيب التهذيب (6/ 221)؛ سير أعلام النبلاء (1/ 68)]. (¬3) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (87) عن الكلبي، وذكره ابن حجر في "العجاب" ص 442 عن الثعلبي، أما عن عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضها ربي. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بارك الله فيما أمسكت وفيما أعطيت". أخرجه البزار (2/ 85) وأصل القصة في صحيح البخاري- كتاب الزكاة، باب رقم (10). وأما قصة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال: علىَّ جهاز من لا جهاز له -وذلك في غزوة تبوك-=

الشكر، وذلك لا يحقُّ إلا لله (¬1) تعالى؛ لأنَّه هو المنعم على الحقيقة و (الأذى) النكرة والشتم على الصدقة أو الحلف المكروه بالفقير بتعييره {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأ {وَمَغْفِرَةٌ} عطف عليه خبر على التفضيل (¬2) و (الصدقة) ما يتصدق به من الخير والمعروف {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن الصدقات {حَلِيمٌ} لا يعجل بعقوبة المانِّ بصدقته. {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} إبطال الصدقة إحباط ثوابها، ولا يحبط الخير شيء إلا المنّ لهذه الآية، والكفر لقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} والربا لهذه الآية، ولأنه لا يقع لوجه الله كالذي يحتمل أن يكون تشبيهًا بمشار معروف من المنافقين أو من اليهود والمشركين، ويحتمل أن يكون تشبيهًا لمن يوجد بهذه الصفة و (الرياء) مصدر كالمرأة (الصفوان) الحجر الأملس و (التراب) أجزاء الأرض و (الوابل) المطرُ الشديد (الصلد) الحجر الذي لا غبار له وهو يبرق، ويقال للأرض التي لا تنبت صلدة. {وَتَثْبِيتًا} تثبتنا والتفصيل يجوز مكان التفعل عند زوال الاشتباه قال الله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (¬3) وقيل: تثبيت النية أو الثواب. والرَّبوة والرُّبوة والرِّبوة والرباوة وهو ما ارتفع من الأرض عن مسيل الماء (¬4) وهي أبهى بقاع الأرض وأبهجها، وفي حديث الفردوس: "ربوة الجنة" ¬

_ = فجهَّز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وتصدَّق بـ"رومة" - وهي بئر كانت له- على المسلمين فنزلت فيهما هذه الآية. [أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب الوصايا، باب رقم (23) (5/ 406)، والترمذي (5/ 625)، وا لنسائي (6/ 236)؛ وأحمد (1/ 59)]. (¬1) في "أ" "ي": (الله). (¬2) قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأ نكرة، وساغ الابتداء بها لوصفها وللعطف عليها، و "مغفرةٌ" عطف عليها وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير: ومغفرة من السائل أو من الله. و"خير" خبر عنهما، وهناك وجه آخر وهو أن يكون {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأ وخبره محذوف، أي: أمثل أو أولى بكم، و"مغفرة" مبتدأ و"خير" خبرها. [الدر المصون (2/ 584)]. (¬3) سورة المزمل: 8. (¬4) قاله الخليل وهي مشتقة من ربا يربو إذا ارتفع، وقد أخطأ السدِّي في تفسيره للربوة =

والأكل الثمار المأكول له {وَابِلٌ} طش وهو المطر، وإنما قالَ ذلك لأنَّ مثل هذه البقعة قلَّ ما يحط به المطر من وابل أو طل (¬1)، وقولُه: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية مثل كمثل الصفوان وفيه تحذير عن موجبه ونقيضه وهو المنّ والأذى. {نَخِيلٍ} جمع نخلة واحدته نخلة {وَأَعْنَابٍ} جمع عنب، والعنب ما يسمى يابسه زبيبًا، وإنما خصهما لأنهما أعم نفعًا لأنه ينتفع به (¬2) حالة الرطوبة والجفاف والعصر تفكهًا واقتياتًا وتداويًا (¬3) {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} الشيخوخة، قال زكريا - عليه السلام -: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (¬4) {ضُعَفَاءُ} جمع ضعيف كالفقراء والشركاء، والمراد به: النسوان والولدان الذين لا يهتدون بِحِيْلَةٍ ولا كسب {فَأَصَابَهَا} عطف على قوله: {أَنْ تَكُونَ} لأنه بمنزلة لو كانت يقال وددت أن يكون كذا ووددت أن لو كان كذا (الإعصار) من النكبات وفي المثل: إن كنت ريحًا فقد (¬5) لاقيت إعصارا (¬6) يضرب لمن ¬

_ = حيث قال: هي ما انخفض من الأرض وتثلث راؤها ويقال: رابية، ومنه قول زهير: وغيثٍ من الوسمِيِّ حُوٍّ تِلاعُهُ ... أجابَتْ روابيهِ النِّجَاءَ هواطِلُهْ وقرأ الأخفش بضم الراء بحجة أنها تجمع على رُبَى ومثله: بُرْمَة وبُرَم، وصُورَة وصُوَر، وقرأ ابن عباس -رضي الله عنهما-: "رِبْوة" بالكسر. [السبعة ص 190 - الشواذ ص 16 - القرطبي (3/ 316) - البحر (2/ 312)]. (¬1) الوابل: هو المطر الشديد، والطل: المطر الخفيف الذي لا تكاد تسيل منه الجداول الصغيرة، وهذا تفسير قتادة والسدي والضحاك والربيع. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: الطل: الندى، رواه عنهم الطبري في تفسيره (4/ 676) وابن أبي حاتم (521)، وفي معنى الوابل يقول امرؤ القيس: ساعةً ثم انتحاها وابلٌ ... ساقِطُ الأكنافِ واهٍ مُنْهَمِرْ (¬2) (به) ليست في "أ". (¬3) في الأصل: (وتناوقًا). (¬4) سورة آل عمران: 40. (¬5) في "ب": (فقد). (¬6) هذا المثل أورده العسكري في كتا به "الأمثال" (1/ 31)، والميداني في الأمثال (1/ 30) وابن سلام في الأمثال (ص 96)، والزمخشري في المستقصى في أمثال العرب (ص 373). والإعصار: ريح ترتفع كالعمود نحو السماء، وتسميه العرب وسائر الناس زوبعة. [تهذيب اللغة (2/ 15) - لسان العرب (6/ 254)]

يعتقد قدره (¬1) في نفسه فيبتلى بمن فوقه. و (الاحتراق) افتعال من الإحراق، والإحراق إفساد (¬2) النار الشيء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا} فيها أمر بالنفقة فهو على الوجوب، ولذلك قلنا العشر واجب من قليل الخارج وكثيره، ولقوله - عليه السلام -: "فيما سقت السماء العُشر" (¬3) و (التمِمم) القصد و {الْخَبِيثَ} ضدّ الطيب، والمراد به الحرام، وقيل: هو الرديء من الجنس كالمهزول والمسن من السائمة والسود من البيض والدقل من الرطب والمتدود من الرطاب {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} من غير مائكم {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي إلا على إغماض أو بإغماض عن حقكم مسامحة {حَمِيدٌ} محمود في صفاتِهِ وقيل: شكور مثنٍ على عباده بخير وفقهم هو له، فعملوه بإذنه. {الْفَقْرَ} خلو اليد عن المال، فالشيطان يخوِّف المتصدِّق به ويأمره بمنع الزكاة، عن مقاتل: كل فحشاء في القرآن فهو بمعنى الزنى إلا هذه. {يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} اتصالها بما قبلها من حيث إن من أوتي الحكمة اعتقد وعد الله لا وعد الشيطان (¬4). وفي قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} حثٌّ على الصدقة والعزم على الخير وإيجابه والنذر إيجاب خير في الذمة والتزام طاعة لم يكتبها الله، وفي الحديث: "قضى عمر وعثمان في الملقاط بنصف نذر الموضحة" (¬5) ¬

_ (¬1) (قدره) ليست في الأصل. (¬2) في "ب": (الفساد). (¬3) أخرجه البخاري (1/ 377)، وأبو داود (1596)، والنسائي (1/ 344)، والترمذي (1/ 125)، وابن ماجه (1817) وغيرهم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. (¬4) الحكمة كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو حكمة القرآن، وهو أن يعرف ناسخه ومنسوخه، ومقدمه ومؤخره، ومحكمه ومتشابهه، وحرامه وحلاله، وأمثاله. [أخرجه البخاري (5/ 7)، والبغوي في تفسيره (1/ 291)]. وقال ابن وهب وابن زيد: الحكمة: الفقه في الدين، ورجح الطبري أن معناه: الإصابة فعلًا وقولًا، وقال: إن جميع الأقوال التي قالها القائلون داخلة فيما قلنا. (¬5) لم أجد للأثر أصلًا فيما بين يدي من المصادر.

بفتح الذال يعني الأرش وهو عبارة عن الواجب أيضًا، وفي فحوى قوله: {اللَّهَ يَعْلَمُهُ} القبول والإنابة، والهاء راجعة إلى الظالمين الآخذين بوعد الشيطان الممسكين عن النفقة. {إِنْ تُبْدُوا} الصدقة (¬1) تظهروها، ومنه البداء وهو ظهور الشيء في الرأي و (نعم) ضد بئس {تُخْفُوهَا} تسرُّوها (¬2) فيما يستحبّ أبدلوه من الصدقات هي الزكاة المفروضة وما تنفقون في سبيل الله بالتعاون وما يستحبّ إخفاؤه صدقة التطوّع {فَهُوَ خَيْرٌ} لأن ما يخفى لا يخالطه العجب والرياء ويحتمل الوصف من غير تفضيل، وتكفير السيئة مغفرتها وتمحيصها. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} نزلت فيمن دفع الصدقة المسنونة والمندوبة إليهم، والسبب في ذلك أن أسماء بنت عُميس (¬3) (¬4) امرأة أبي بكر (¬5) امتنعت عن الإنفاق على أقاربها من المشركين في عمرة القضاء إلى أن تستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬6) فنزلت (¬7)، وقيل: إنَّ (¬8) الأنصار أمسكوا عن ¬

_ (¬1) في "أ": (الصدقات). (¬2) في الأصل: (نشروها). (¬3) أسماء بنت عميس بن معبد الخثعمية أم عبد الله، من المهاجرات الأُول. أسلمت وهاجر بها زوجها جعفر الطيار إلى الحبشة ثم إلى المدينة. واستشهد زوجها يوم مؤتة، فتزوَّج بها أبو بكر الصديق حتى توفي فغسلته. ثم تزوج بها علي بن أبي طالب. [طبقات ابن سعد (8/ 280)؛ الاستيعاب (4/ 1784)؛ أسد الغابة (7/ 14)؛ تاريخ الإسلام (2/ 273)؛ الإصابة (12/ 116)؛ السير (2/ 282)]. (¬4) في جميع النسخ: (عميش) وهو خطأ. (¬5) (أبي بكر) ليس في "أ". (¬6) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬7) هنا خطأ المؤلف، فالذي ورد في أسباب نزول الآية هي (أسماء بنت أبي بكر الصديق) وليست (أسماء بنت عميس) امرأة أبي بكر الصديق، وما ورد عن أسماء بنت أبي بكر ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (83)، وذكره ابن حجر في "العجاب" (1/ 632) عن الثعلبي وصححه ورواه النيسابوري في غرائبه (1/ 69) والسمرقندي في بحر العلوم (1/ 233). (¬8) (أن) ليست في"أ".

الإنفاق على أقاربهم من الكفار ليضطرُّوهم إلى الإسلام (¬1) فأنزل (¬2)، ومعناه لا تسأل عنهم لتؤخذ بضلالتهم {وَمَا تُنْفِقُوا} خاصٌّ في المؤمنين المخلصين، وقيل: هو خبر بمعنى النهي (التوفية) التكملة والقضاء. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ} نزلت في المستحقين الزكاة وفيها إضمار (¬3) وتقديره: صدقتكم المفروضة للفقراء أو (¬4) ادفعوا إلى الفقراء {أُحْصِرُوا} أشغلوا عِن الكسب بما ألزموا من الهجرة والغزو وأنواع الصدقات {ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} مشيًا وتقلُّبًا {يَحْسَبُهُمُ} يظنُّهم من لا يعلم حالهم {أَغْنِيَاءَ} من سبب تعفُّفهم عن السؤال والإلحاح و {التَّعَفُّفِ} (¬5) التصبر، وقال جرير: وقائلة ما للفرزدق لا يرى ... عن السرِّ يستغني ولا يتعفَّف (¬6) و (السيما) علامة الحال تبدو في الوجه كالضيزى والشعرى ¬

_ (¬1) الطبري (5/ 14) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) في "ب": (فنزل). (¬3) الجار والمجرور في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} إما أن يكون متعلقًا بفعل مقدر يدلُّ عليه سياق الكلام، والتقدير- كما ذكره أبو البقاء-: اعجبوا للفقراء، والأقرب في التقدير: أعطُوا للفقراء، أو اجعلوا للفقراء على تقدير الزمخشري. وقيل: إن هذا الجار خبر مبتدأ محذوف تقديره: الصدقات التي تنفقونها للفقراء. وحذف المبتدأ الموصوف سائغ في كلام العرب، ومنه قول الشماخ: تسألني عن زوجها أيُّ فتى ... خَبٌّ جروزٌ وإذا جاعَ بكى يريد: هو خب. والجروز: الأكول. والخب: اللئيم. وقيل: إن اللام تتعلق بقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} وهو مذهب القفال، وهو مستبعد لكثرة الفواصل. وقيل: إن {لِلْفُقَرَاءِ} بدل من قوله: {فَلِأَنْفُسِكُمْ} ورده الواحدي والسمين الحلبي لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه. [الإملاء (1/ 116) - ديوان الشماخ (ص 107) - الدر المصون (2/ 615)]. (¬4) في الأصل "أ": (وادفعوا). (¬5) في الأصل بياض. (¬6) ديوان جرير ص 932.

و (الإلحاف) الإلحاح لأنَّ السائِل إذا ألحَّ فقد جعل سؤاله لازمًا للمسؤول شاملًا إياه كاللحاف. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} نزلت في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كانت له أربعة (¬1) دراهم ليس له غيرها، فسأله سائل بالنهار فأعطاه درهمين، وسأله سائلٌ بالليل فأعطاه درهمين، وخرج من (¬2) ماله فأنزل الله ثناء عليه (¬3)، وقيل: نزلت في علف دواب المجاهدين (¬4). وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} الفضل (¬5) في المداينات وإنما نزلت على فضلِ الصدقات لأنه في الأموال، والربا (¬6) في اللغة عبارة عن الزيادة والنماء، وفي الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفات معهودة، والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب ... " الخبر (¬7) تلقته الفقهاء بالقبول فدخل في حيِّز التواتر، وعلَّتها بقياس غيرها عليها التقدير مع الجنس؛ لأنَّ التقدير تعلق به الحكم كالجنس لا يقومون يوم القيامة. {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} والخبط باليدين كالذي (¬8) بالركبتين والرمح ¬

_ (¬1) في "ب": (أربع). (¬2) في "ب" "ي": (من). (¬3) ورد في أسباب النزول عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من عدة وجوه كلها ضعيف لا يثبت منها شيء. - ما ذكره مقاتل في تفسيره (1/ 145) وعنه الواحدي وهو عن الكلبي. - ما ورد عن ابن أبي حاتم في تفسيره (2883) وأورده عبد الرزاق في تفسيره (37) وعنه الواحدي في "أسباب النزول" (86) كلهم من طريق عبد الوهاب بن مجاهد. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم (2880)، والطبراني في الكبير (17/ 188)، والواحدي في "أسباب النزول" (84) مرفوعًا ولا يصح سنده. (¬5) في "أ": (أفضل). (¬6) في "أ" "ي": (الربو). (¬7) حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أخرجه البخاري (2/ 31)، ومسلم (5/ 42)، ومالك (2/ 632)، والنسائي (2/ 222)، والبيهقي (5/ 278)، وأحمد (3/ 39) ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء". (¬8) في "أ" "ب" "ي": (كالذين).

بالرجلين والتخبط (¬1) كمثل، وفيه معنى الصرع والمس إلمام الجن وهو الجنون، وذلك إشارة إلى قيامهم {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قاسُوا أن الزيادة في آخر العقد بالإنساء كما هي في أول العقد (¬2)، فردَّ الله عليهم قياسهم وعاقبهم على ذلك وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (¬3)} قال: ما سلف، أي ما سبق حالة الحظر {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} إن شاء عفا عنه ما ارتكب من الشيء المكروه في العقول بغير إباحةٍ في الشرع، والدليل على كراهته في العقل أنه يؤدي إلى قطع الرحم والأخوة ويذم فاعله ولا يحمد. {يَمْحَقُ اللَّهُ} المحق النقص (¬4) يعني ذهاب البركة، ومنه محاق القمر {وَيُرْبِي} يزيد الصدقات بالإثابة عليها، جاء على التجنيس (¬5) كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} وقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} في العائد على آكل الربا مستحلاًّ له (¬6). ¬

_ (¬1) (والتخبط) ليس في "ب". (¬2) في قوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فيه ما يسميه البلاغيون بالتشبيه المقلوب، أي أنهم يريدون أن الربا مثل البيع ليصلوا إلى غرضهم، فعكسوا الكلام للمبالغة فأصبح المشبه به قائمًا مقام المشبه وتابعًا له، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول البحتري يصف بركة بناها المتوكل: كأنها حين لجَّت في تدفُّقِها ... يَدُ الخليفة لَمَّا سال واديها وقول الآخر: وبدا الصباح كأنَّ غرتهُ ... وجه الخليفة حين يمتدحُ [إعراب القرآن وبيانه - الدرويش (1/ 430)]. (¬3) في "أ" "ي": (الربو). (¬4) وهذا تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث فَسَّر المحق بالنقص، رواه الطبري في تفسيره (5/ 45). (¬5) التجنيس: هو الباب الثاني من البديع عند ابن المعتز، وعَرَّفَهُ: هو أن تجيء الكلمة تجانس كلمة أخرى ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها. ومَثَّلَ الخليل لذلك بقول الشاعر [وهو منسوب للخريمي]: يومٌ خَلَجَتْ على الخليجِ نفوسهم ... غَضَبًاوأَنْتَ لمثلها مستامُ [كتاب البديع لابن المعتز ص 55 - معجم البلاغة العربية لبدوي طبانة ص 139]. (¬6) في "ب" العبارة: (في العارض على أكل الربا استحلاله).

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} عارضة وإنما اقتضى الحث على دفع الصدقة وترك الربا (¬1) بالترغيب في ثواب الطاعة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} نزلت في عباس وعثمان وخالد قد أسلفوا وأُمروا بتركه (¬2). والأظهر أنها نزلت في مسعود (¬3) وحبيب (¬4) وعبد ياليل (¬5) وربيعة [أبناء] (¬6) عمرو بن عمير الثقفي (¬7) كانوا يداينون بني ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (الربوا). (¬2) ورد عن العباس عند الطبري (5/ 49) وفيه العباس ورجل من بني المغيرة، وسماه الواحدي في أسباب النزول (87 - 88) خالد بن الوليد. أما عن عثمان فذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 332). (¬3) هو مسعود بن عمرو بن عمير أخو حبيب وربيعة وعبد ياليل الذين نزل فيهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]، كان له ولإخوته ربًا عند بني المغيرة بن عبد الله، فلما أسلموا طالبوهم، فقالوا: ما نعطي الربا في الإسلام، فلما اختصموا نزل قوله تبارك وتعالى بترك الربا، وروي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، نزلت في رجل من ثقيف ورجل من قريش، والثقفي هو مسعود بن عمرو. [الإصابة (6/ 102)]. (¬4) حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف الثقفي. ذكره الحافظ ابن حجر في الصحابة، وذكر سبب نزول هذه الآية التي ذكرها الجرجاني، لكن الحافظ الذهبي في التجريد قال: في صحبته نظر، ونقله عن ابن منده. [الإصابة (2/ 205)؛ تجريد أسماء الصحابة (1/ 118)]. (¬5) هو عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، كان وجهًا من وجوه ثقيف، وهو الذي أرسلته ثقيف على رأس وفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إسلامهم وبيعتهم. [الثقات (3/ 305)؛ الاستيعاب (3/ 1007)؛ الطبقات الكبرى (5/ 506)؛ الإصابة (5/ 252)]. (¬6) في الأصل "بن" والصواب ما أثبتناه. (¬7) هو ربيعة بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، اْخو أبي عبيد والد المختار، روى ابن مندة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]. [الإصابة (2/ 470)].

المغيرة ابن عبد الله المخزومي وغيرهم من قريش وكانوا (¬1) قد أسلموا على أن كل ربا (¬2) عليهم فهو موضوع (¬3) (وكل ربا (¬4) لهم فهو غير موضوع) (¬5) وكان - عليه السلام - (¬6) أمر بأن يكتب لهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلممن، وكان فعلهم (¬7) هذا دفعًا لهم وحسن نظر في شأنهم من غير خيانة ولا غَدْر، كما روي أن رجلًا أسلم على أن لا يصلِّي إلا صلاتين فقبل (¬8) - عليه السلام - (¬9) إسلامه، فلما تمكَّن الإسلام من قلبه دخل في الصلوات كلها، وهؤلاء الثقفيّون ظنّوا أنه أجابهم إلى ملتمسهم فلما حلَّ الأجل طالبوا بني المغيرة فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد (¬10) فكتب أسيد قصتهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬11) فأنزل الله الآية وبعثها النبي - عليه السلام - (¬12) إليهم فأذعنوا لأمر الله وعلموا أن حكم المؤمنين (¬13) ذلك لا ¬

_ (¬1) في الأصل: (فكانوا). (¬2) في "أ" "ي": (الربوا). (¬3) رواه الطبري (5/ 50)، والواحدي في أسباب النزول (88)، ورواه ابن أبي حاتم (2913)، وذكره ابن حجر في "العجاب" ص 460. (¬4) في "أ" "ي": (الربوا). (¬5) ما بين (...) ليس في "أ". (¬6) (السلام) ليس في "ي". (¬7) في "أ" "ي": (فعله). (¬8) في الأصل: (وقبل). (¬9) (السلام) ليس في "ي". (¬10) هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد، أسلم يوم فتح مكة، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكة عام الفتح حين خروجه إلى حنين، ولم يزل أميرًا عليها حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقره أبو بكر عليها، ولم يزل عليها واليًا إلى أن مات، وكانت وفاته يوم مات أبو بكر الصديق وقيل غير ذلك. [الاستيعاب (3/ 1023)؛ تهذيب التهذيب (7/ 82)؛ معجم الصحابة (2/ 270)؛ الإصابة (4/ 429)]. (¬11) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬12) (السلام) ليس في "ي" وفي "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬13) في "ب": (المسلمين).

الذي توهَّموه من قبل (¬1). و (البقاء) ضدُّ الفناء و (الحرب) ضد السلم و (رأس المال) أصله (¬2) [{لَا تَظْلِمُونَ} بأخذ الربا (¬3) و {لَا تَظْلِمُونَ} بمنع رأس] (¬4) المال. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مديونًا لكم، و (العسرة) ضيق المعيشة والحال، والعسر ضد اليسر {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} أي تصدقكم بالإبراء خير لكم من النظرة. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} روى الكلبي عن أبي صالح (¬5) عن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبريل - عليه السلام - وقال النبي - عليه السلام - (¬6): "ضعها في رأس المائتين وثمانين من سورة البقرة" (¬7) ونزولها بمنى في حجة الوداع، وعاش النبي - عليه السلام - (¬8) بعدها أحدًا (¬9) وثمانين يومًا (¬10)، وفي رواية: ¬

_ (¬1) القصة بطولها أخرجها الطبري في تفسيره (5/ 50)، وابن أبي حاتم (2915) عن مقاتل بن سليمان وفي آخرها أنه عليه الصلاة والسلام كتب إلى معاذ بن جبل "أن اعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم، وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله ورسوله". (¬2) في الأصل: (صلة). (¬3) في "أ" "ي": (الربوا). (¬4) ما بين [...]، ليس في "ب". (¬5) قال الرامهرمزي في المحدث الفاصل: أبو صالح صاحب التفسير الذي يروي عنه الكلبي هو أبو صالح مولى أم هانئ واسمه باذان، روى عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومولاته أم هانئ، قال سعيد القطان: لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح، وما سمعت أحدًا يقول فيه شيئًا، قال يحيى بن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، وهذا الرجل من طبقة السمان لكنه عاش بعده نحوًا من عشرين سنة. انظر: المحدث الفاصل (ص291)، والطبقات الكبرى (6/ 296)، وتهذيب الكمال (4/ 6)، وسير أعلام النبلاء (5/ 37). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) هذه الرواية أخرجها الطبري في تفسيره (5/ 67)، وذكرها القرطبي في تفسيره (3/ 375) عن مكي بن أبي طالب. كما أخرجها الواحدي في تفسيره (1/ 399). (¬8) (- عليه السلام -) ليست في "ي". (¬9) في الأصل: (أحد). (¬10) هذا مروي عن ابن عباس كما في القرطبي (3/ 375)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 335).

إحدى (¬1) وعشرين يومًا (¬2)، وعن ابن جريج: تسعة أيام (¬3)، وهذا يقتضي أن يكون نزولها بالمدينة بعد الرجوع عن حجة الوداع، يقال: وفيت حقك ووفيت حقك إليك ما كسبت جزاء ما كسبت من عمل، وقيل: ما كسبت من جزاء بعملها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} التداين المداينة، وإنما أكَّد بدين لئلاَّ يوهم المجازاة، وقيل: للتأكيد كما تقول: تكلَّمت بكلام وإنما قال: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ليعلم أن الدين إنما يكون مؤجلًا وأن جهالة (¬4) الأجل في البيوع نسيئة (تفسدها) وإنما هو لفظ وتسمية لا شيء غيرها، قال ابن عباس: أشهد أن الله تعالى أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم وأنزل فيه الحول آية من كتابه (¬5). {فَاكْتُبُوهُ} ليكون الصك وثيقة للحق وهو على الندب، ولهذا أبدل (¬6) الرهن منه وجوَّز الائتمان بعدهما كانت بالعدل لا ينقص من حق الدائن ولا يزيد على المديون، فلذلك استحبَّ تعديل الشروط. {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} نهى عن الندب والاستحباب يدلُّ على أن الكاتب يحبُّ أن يكون عالمًا بالشروط، وقيل: شكرًا لما علمه الله {وَلْيُمْلِلِ} أي فيملي (¬7) كما يقال: تطننت وتطلينت (¬8) و (الإملاء) إلقاء الكلمة على الكاتب، وأصلهُ من الإمهال لأنه يلقى فيميل ليكتب {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ليكون ¬

_ (¬1) في "ب": (إحدى). (¬2) هذا قول ابن عمر كما في القرطبي (3/ 375). (¬3) هذا قول سعيد بن جبير كما في ابن أبي حاتم (2944)، وعن ابن جريج كما في زاد المسير (1/ 335)، والقرطبي (3/ 375) وهو عند الطبري (5/ 67). (¬4) في الأصل: (جهالات). (¬5) الطبري (5/ 71)، وابن أبي حاتم (2948). (¬6) في الأصل "ب": (البدل). (¬7) في "ب": (ليملي). (¬8) في الأصل: (تطليت).

ذلك إقرارًا منه {وَلَا يَبْخَسْ} ينقص قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}. و (السفيه) الجاهل عند مجاهد (¬1) لم يذكر صغرًا ولا كبرًا، وهو ينصرف إلى الصغير لذكر (¬2) الضعيف بعده، وبه قال السدي (¬3)، والضعيف ضعيف العقل من عتهٍ أو جنونٍ، وقيل: من لا يحسن العبارة {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} لا يقدر ولعجمة أو خرس {وَلِيُّهُ} ولي المديون عن الضحاك وابن زيد (¬4). {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الأحرار المسلمين كقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}. {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} فإن لم يكن الشهيدان {رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} شهودًا {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} ممن تحمدونهم بالصلاح والعفَّة دون الفسق والمجون، وفسق الديانة من أهل الدين لا يبطل الشهادة كشهادة أهل (¬5) الكتاب بعضهم على بعض بخلاف فسق (¬6) المجنون، والمراد بالضلال النسيان والتذكير والادِّكَار الذكر، وزعم ابن عيينة (¬7) (¬8) أنه ما يضاد ¬

_ (¬1) الطبري (5/ 82)، وابن أبي حاتم (2973). (¬2) في الأصل: (لذلك). (¬3) الطبري (5/ 82)، وابن أبي حاتم (2974). (¬4) أما عن الضحاك فذكره الطبري (5/ 85)، وذكره ابن أبي حاتم (2/ 559). وأما ابن زيد فذكره الطبري (5/ 85). (¬5) (أهل) ليس في الأصل. (¬6) في الأصل: (فسوق). (¬7) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: ما بقي من معلِّمي أحد غير ابن عيينة، قال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة أن سفيان قال له بجمع - آخر حجة حجها-: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كلِّ سنة: اللهمَّ لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله، فرجع فتوفي في السنة الداخلة، سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة. وحديثه عند الستة. [تقريب التهذيب (245)؛ تهذيب التهذيب (4/ 104)؛ سير أعلام النبلاء (8/ 454)؛ تهذيب الأسماء واللغات (1/ 216)؛ طبقات الحفاظ (1/ 119)]. (¬8) الطبري (5/ 89).

التأنيث ففيه (¬1) نظر إذا ما دعوا لإقامتها إلى الحاكم (¬2) عن قتادة والربيع (¬3). {وَلَا تَسْأَمُوا} لا تملّوا {أَقْسَطُ} أعدل {أَقْوَمُ} أبلغ في انتظام الشهادة وتلخيصها عن الزيادة والنقصان وصونها عن النسيان. (التجارة الحاضرة) ما تكون يدًا بيد. {تُدِيرُونَهَا} صفة ثانية للتجارة، و (الإدارة) التعاطي {وَلَا يُضَارَّ} [إن كانت الراء المدغمة مفتوحة فمعناه أن لا يشتغل الكاتب والشهيد عن شغلهما] (¬4) وإن كانت الراء المدغمة مضمومة فمعناه أن لا (¬5) يميلا فيضرا بأحد المتعاقدين. {فَرِهَانٌ} ارتفع لتقدير وهو بدل عن الكتاب (¬6) وأجمعوا أن الرهن ما يأخذه الدائِن من ملك المديون بحق العقد لا يجوز أن يكون الحر والمكاتب وأم الولد مرهونًا وكذلك قولنا في المدبر واتفقوا أَنَّ القبض شرط في الرهن، ولذلك لم يجز رهن المشاع لأنه يؤدي إلى زوال القبض بالمهاياة. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية منسوخة عن ابن عباس وابن ¬

_ (¬1) في الأصل: (وفيه). (¬2) في الأصل: (الحكم). (¬3) الطبري (5/ 93)، وابن أبي حاتم (2992). (¬4) ما بين [...]، من "ب". (¬5) في "ب": (إلا). (¬6) قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه مرفوع بفعل محذوف، والتقدير: يكفي عن ذلك رهان مقبوضة. الوجه الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: فرهان مقبوضة تكفي. الوجه الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: فالوثيقة رهان مقبوضة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فَرِهَنٌ} بضم الراء والهاء. [السبعة ص 194 - الكشف (1/ 322) - الدر المصون (2/ 678)].

مسعود وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسَن (¬1)، وهذا يدلُّ على جواز نسخ الوعيد على ما سبق من وجوه النسخ، فإن قيل: هل كان يجوز قبل النسخ تكليف ما لا يطاق؟ قلنا: هو على وجهين: تكليف ما لا يتوصل إليه إلا بطلب النفس وهو جائز عقلًا وشرعًا لجواز طلب الحق إذا كان وجوده مرجوًا من غير إلمام النفس كقوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬2) الآية، والآخر تكليف ما لا يتوصل إليه بوجه ما، وهو جائز على وجه العقاب والعدوان دون التعبُّد، قال الله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (¬3) وقال عليه السلام: "من كذب في رؤياه كلِّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقدهما أبدًا" (¬4) وقيل: الآية عامة خصصها قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ويحتمل أنها عامة في اللفظ خاصة في المعنى لدلالة الحال، ويحتمل أنها فيما سبيله الاعتقاد دون العمل، ويحتمل أن تكون المحاسبة على وجه الإخبار دون السؤال والجزاء، قيل: ¬

_ (¬1) هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: من الصلاة والصيام والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما اقترأها القوم، وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. [أخرجه مسلم - كتاب الإيمان (1/ 115)، وأحمد في مسنده (2/ 412)، وابن حبان في صحيحه (1/ 350)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 75) وغيرهم]. وقد ذكر النسخ عمن ذكرهم المؤلف وقد ذكرهم الطبري (5/ 130)، وابن الجوزي كما في تفسيره (1/ 243)، والقرطبي (3/ 421) وغيرهم. (¬2) سورة النساء: 66. (¬3) سورة المدثر: 17. (¬4) الحديث في صحيح البخاري (التعبير ب 45)، وأبي داود في سننه - كتاب الأدب (88)، والترمذي - كتاب الرؤيا (8) وغيرهم بلفظ: "من تَحَلَّم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل".

لما نزل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} شقَّ ذلك على المؤمنين فشكوا إلى النبي -عليه السلام- فـ {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فأثنى الله تعالى على نبيِّه وعلى المؤمنين بذلك وخفَّف عنهم، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا جبريل قاعد عند النبي -عليه السلام- سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه فقال: "هذا باب من السماء فتح اليوم لم يُفتح قط إلا اليوم"، فنزل منه ملك فقال: "هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم" فسلَّم على رسول الله فقال: "أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهُما نبيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتم البقرة لم تقرأ بحرف إلا أعطيته" (¬1) فأما ابتداء نزول الآية فقيل أنه كان ليلة المعراج وإنما قال: {كُلٌّ آمَنَ} لأنه ردّ في اللفظ ولو ردّ إلى المعنى لقال: آمنوا، وقد نزل القرآن بالطريقتين جميعًا، ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وإنما لم يبن (كل) إذ أنقطع عن المضاف لأن فيه معنى الإضافة، وإن انقطع بخلاف قبل وبعد {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ} أي يقولون: لا نفرق ضدَّ ما قالت الكفار: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ}. {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} السمع الإجابة والطاعة إتيان الطاعة واستعمالها وهي ضد المعصية {غُفْرَانَكَ} نصب على سبيل السؤال والطلب قريب من الإغراء (¬2). {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} الآية قيل أن جبريل قال للنبي -عليه السلام-: إن الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه- كتاب صلاة المسافرين (1/ 544/ 43) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا. (¬2) قوله: {غُفْرَانَكَ} منصوب إما على المصدرية، قال الزمخشري: منصوب بإضمار فعله يقال: "غفرانك لا كفرانك" ومذهب سيبويه تقدير ذلك بجملة طلبية كأنه قيل: "اغفر غفرانك"، ونقل ابن عطية هذا عن الزجاج، والظاهر- والله أعلم - أن هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور فعدَّها تارة مع ما يلزم فيه إضمار الناصب نحو: "غفرانك لا كفرانك" وتارة مع ما يجوز إظهار عامله. [الكشاف (1/ 704) - الكتاب (1/ 164) - المحرر (2/ 388) - معاني القرآن للزجاج (1/ 370) - الدر المصون (2/ 696)].

تعالى أثنى عليك وعلى أمتك فسله حاجتك، فدعا النبي -عليه السلام- بهذه الدعوات فذكر الله أخبارًا عنه وعن أصحابه ليكون ذلك ثناء عليهم أيضًا، وعن علي قال: خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش. {إِنْ نَسِينَا} النسيان ضد الذكر، وكانت المؤاخذة عليه جائزة على ما سبق في تكليف ما لا يطاق، فأما من يُعرض اليوم للنسيان فيجوز أن يكون مؤاخذًا أيضًا، والخطأ ما يقع من غير قصد كتولد القتل من الضرب وإصابة الإنسان برمي الصيد {إِصْرًا} ثقلًا كتحريم البقية، وقال -عليه السلام-: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". {كَمَا حَمَلْتَهُ} مثل ما أوجبته على من قبلنا من تعليق التربة بالقتل وقطع الجلد بإصابة النجاسة {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لا تكلِّفنا ما يستحيل فعلهُ منَّا على وجه العذاب والعقاب ولا ما يتلف أنفسنا علينا في فعله على وجه الشرع و (التحميل) التكليف، وفي المثل: النفس عَزُوف وما حملتها احتملت. {وَاعْفُ} امسح ومحص عنا ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا} واستُر قبائحنا {وَارْحَمْنَا} أرد بنا الخير، وهذه الأدعية وغيرها عبادة وإظهار للحاجة وتعرض القضايا المعلقة بالشروط دون أن يطالب الله بإحداث ما لم يشأه ولم يعلمه إذ ذاك {فَانْصُرْنَا} أعنَّا على قهرهم وردِّهم ولا تكلنا في ذلك ولا غيره إلى أنفسنا فإنه لا حول ولا قوة إلا بك، وعن النبي -عليه السلام- مخبرًا عن الله تعالى عند كل فصل من هذه الأدعية: "فعلتُ واستجبت"، والله أعلم. ***

الخاتمة الحمد لله الذي بفضله ومنَّته أكرمني بهذا العمل الجليل حتى يسَّر لي بلوغ خاتمة بحثي واكمال فصوله ومباحثه، فعلَّقت على كلِّ ما يحتاج إلى تعليق فجليت المبهمات وفصَّلت المجملات وحررت المسائل المختلفة وترجمتُ الأعلام وأسندت الأشعار إلى دواوينها والمفردات إلى معاجمها، وناقشتُ المسائل الفقهية والأصولية والعقدية واللغوية والنحوية وأوضحتُ الراجح منها وفق الأدلة والبراهين والاستدلالات بعيدًا عن الجمود والتعصب متجردًا للحق. وقد جليت عملي وأوضح التى بسطت طبيعة عملي في التحقيق من خلال الفصول والأبواب والمباحث التي تضمنها العمل وفق المعايير العلمية في تحقيق المخطوطات. كما تجلَّى لي من خلال عملي في هذا الكتاب أن مادة الكتاب تحوي جوانب عدة تعرض لها المؤلف: الجانب الأول: أن مادة الكتاب بسطت بأسلوب في غاية السهولة والجزالة والاختصار، فهي تصلح لعامة طبقات القُرَّاء المتخصصين منهم وغير المتخصصين. الجانب الثاني: أن مادة الكتاب يمكن أن نستلَّ منها معجمًا لغويًا لكثرة المفردات اللغوية التي طرقها المؤلف وبسط القول في معانيها. الجانب الثالث: أن المؤلف قد حرر وناقش كثيرًا من المسائل النحوية والإعرابية، بل يكاد يطغى على كثير من صفحات هذا الكتاب التفسير

النحوي، زيادة على ذلك إسناده لمذاهب النحاة كالخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه والفراء والزجاج والكسائي وغيرهم من أعلام النحاة والمدارس النحوية البصرية والكوفية والبغدادية، ويمكننا أن نجعله مرجعًا ومصدرًا لمعرفة آراء النحاة. الجانب الرابع: المسائل البلاغية المنثورة في الكتاب على قلَّتها فقد بسط القول فيها وحررها في مواضعها، وهذا مما يستغرب على المؤلف الذي يعد إمام البلاغيين وكان المتوقع أن يحشو مادة الكتاب بهذا الجانب لكن ربما أراد أن يأخذ كتابه طابع الاختصار. الجانب الخامس: بسط المؤلف في أسباب النزول بكثرة، ولو جمعت من التفسير كله لاستوعبت مجلدًا كاملًا لكثرتها. الجانب السادس: استعمل المؤلف أسلوب التقسيمات فيما يحتاج إلى تقسيم، والتعداد فيما يحتاج إلى تعداد، والتفصيل فيما يحتاج إلى تفصيل وهكذا محاولًا تحقيق أسلوب الحصر لهذه المسائل لتقريبها. وبهذا يتبين لنا قيمة الكتاب وما يحويه من مادة علمية رصينة، وقد بذلت قصارى جهدي بعد ما أدركت جلالة الكتاب وقدره وجلالة وقدر مؤلِّفه، مما دفعني إلى مضاعفة الجهد بأقصى ما لديَّ من إمكانيات. وأرجو أن أكون قد أدَّيتُ ما عليَّ بأحسن وجه بما يرضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم بما يرضي قُرَّاءَنا الكرام، والله الموفق. ***

توصيات 1 - يوصي الباحث بضرورة الاعتناء والاهتمام بهذا الكتاب وطباعته لما يتضمنه من محتويات علمية رصينة، وما لمؤلفه من مكانة مرموقة بين الباحثين والعلماء. 2 - كما أوصي نفسي أولًا - حيث أخذت العهد عليها- بإتمام باقي الكتاب إلى تفسير سورة الناس ليخرج الكتاب كاملًا وليحصل به النفع. 3 - أوصي الباحثين في مجال النحو والصرف بالاستفادة من تحرير المسائل النحوية المنثورة في هذا الكتاب فهي كثيرة ومفيدة جدًا لا يستغني عنها طالب العلم. هذا والله أسأل أن يكون عملي خالصًا لوجه الله تعالى. والحمد لله رب العالمين. ... إلى هنا ينتهي العمل برسالة الماجستير التي قدِّمَت لجامعة الجنان في لبنان - وقد نقلنا الفهارس إلى آخر التفسير، وذلك لتوحيد العمل ولئلا يتشتت القارئ

دَرْجُ الدُّرَرِ في تَفْسِير الآي والسُّورْ تَأليِفْ عَبْد القَاهِر بن عَبْد الرَّحمن الجرجَاني المتوفي (471هـ) تحقيق وَليدْ بن أحمَد بن صَالِح الحُسَيْن * إيَاد عَبْد اللَطيف القَيْسي مِنْ سُورَة آلْ عِمْران إِلى سُورَة التَّوْبَة المجلَّد الثَّاني

سورة آل عمران

سُورَة آلْ عِمْران مدنية (¬1)، وهي مائتا آية في غير عداد أهل الشام. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ عن أبي إسحاق والربيع أنَّ نيفًا وثمانين آية مِنْ أوّل هذه السورة نزلت في وَفْد نجران (¬2)، وقد مضى تفسير حروف المقطعة. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} أصْل التورية عند الكوفيين تورية بوزن تَوْصِية، فلما أخرجوا اللفظ مِنْ حيّز الأفعال إلى الأسماء نقلوا حركة عين الفعل إلى الفتحة (¬3)، فانقلبت الباء ألفًا، لتحركها وانفتاح ما قبلها (¬4)، وهو معنى ¬

_ (¬1) ذكر القرطبي في تفسيره (4/ 1)، والثعالبي في تفسيره (1/ 230) وغيرهما أنها مدنية بالإجماع، وحكى النقاش أن اسمها في التوراة "طيبة". (¬2) ذكره ابن جرير في تفسيره (5/ 174) وتبعه ابن كثير في تفسيره (1/ 372) عن ابن إسحاق ذكره بطوله، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة. (¬3) في الأصل: (فتحة)، والمثبت من بقية النسخ. (¬4) وهذا القول نقله القرطبي (4/ 5) عن الفرَّاء، وقال الخليل: أصلها فَوْعَلة، فالأصل وَوْرَيَة، قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَجْ، والأصل وولج فَوْعَل من وَلَجَت، وقلبت الياء ألفًا لحركتها وانفتاح ما قبلها وبناء فَوْعَلَة أكثر من تَفْعِلة. وقيل: التوراة مأخوذة من التورية وهو التعريض بالشيء والكتمان لغيره، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، وهو منقول عن الفراء أيضًا، نقله الرازي في تفسيره، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طي، فإنهم يقولون في جارية: جاراة، وفي ناصية: ناصاة، ومنه قول الشاعر: فما الدنيا بباقاة لحيٍّ ... وما حيٌّ على الدنيا بباقِ =

الإيراء؛ لأنّ الله تعالى أورى لموسى -عليه السلام- نارًا، وكان ذلك سبب كتابه، فُسمّي كتابه بذلك، وقيل: سمي لكونه (¬1) ضياء وهدى، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48]. وقيل: إنّه مِن التعريض؛ لأن التعريض في التوراة كثير. وقيل: إنّه باللغة العبرية (توروه) (¬2) وهو الأدب المتأدب. وعند البصريين وزن التورية وَوْرَية كقوصرة قلبت الواو الأولى تاء كما في تَوْلَج، مشتق من الإيراء. {وَالْإِنْجِيلَ} إفعيل مِنَ النَّجل، والنَّجل عبارة عن الولادة والتولّد والتوليد، يقال: قبح الله ناجليه، أي والديه، وإنما سُمّي كتاب عيسى بذلك لأنَّ الحكمة تتولد منه (¬3)، وقال الأصمعي: الإنجيل كُلّ كتاب مسطور وافر السطور (¬4). وقيل: إنّ الله تعالى أعطى المسيح أربعَ كلمات، فأعطاها هو أربعة (¬5) نفر من الحواريِّين: يوحنا ومتّى ومرقوش من جملة الاثني عشر، ولوقا من جملة السبعين، فاستخرج هؤلاء الأربعة من تلك الكلمات معانيها بإلهام مِنَ الله، وضمّنوها كتابًا وسمّوه الإنجيل؛ لأنّه كالمتولّد مِنْ تلكَ الكلمات الأربع (¬6). ¬

_ = [مفاتيح الغيب (7/ 138)؛ معاني القرآن للزجاج (1/ 374)]. (¬1) في "ب": (لأنه). (¬2) في الأصل: (توره)، والمثبت من بقية النسخ. (¬3) في "أ": (تتولد بتولد منه). (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره الجامع (4/ 6) قال: وذكر شمر عن بعضهم فذكره. وذكره المناوي في "الفيض" (4/ 195) بلفظ: ويقال، وقد ساق القرطبي جملة من التعريفات والتفاسير للإنجيل. (¬5) في "ب": (أربع)، وهو خطأ لغة. (¬6) قال الزجاج: إنجيل: إفعيل من النخيل وهو الأصل: هكذا يقول جميع أهل اللغة في إنجيل، =

عن (¬1) عبد الله بن سلام وأخيه عُبيد الله عن الصامين باليمن أنّ الإنجيل الصحيح عندهم أملاه عليهم المسيح -عليه السلام-، وأن هذه (¬2) الكتب الأربعة كتب التلامذة، اكتتبها (¬3) لهم يهودي وحرّف الكَلِم عن مواضعه. {ذُو انْتِقَامٍ} الانتقام: المعاقبة وهو افتعال من النقمة، والنقمة: العقوبة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى} لا ينكتم عليه {شَيْءٌ} وضدّه الظهور، وإنّما لم يقتصر على {شَيْءٌ}؛ لأنَّ ذِكر السماء والأرض أبلغ في التهديد وأوقع في النفوس (¬4). {يُصَوِّرُكُمْ} التصوير: إحداث الصورة، والصورة (¬5) شكل الأجسام حقيقة ويعبر بها عن كيفية كل متكيف، وأصلها من الإحالة، و (¬6) {الْأَرْحَامِ} جمع رحم، ككبد وأكباد وفخذ وأفخاذ، وهي موضع الحيض والحبل، {كَيْفَ يَشَاءُ} كما يشاء من غير إلجاء أحد أو أمره إيّاه، إذْ هو أعلى (¬7) مِنْ (¬8) أنْ يكون أمرُه تحت أمر ونهي هاباحة وحظر، وممّن صوّره في الرحم عيسى -عليه السلام-، والتصوير يوجب التخليق (¬9)، والتخليق: قبل ولادته. ¬

_ = ولأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقال الفخر الرازي: الإنجيل مأخوذ من قول العرب: نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجدٍ. وقال أبو عمرو الشيباني: التناجل التنازع، وسمِّي الإنجيل بذلك لأن القوم تنازعوا فيه. [معاني القرآن للزجاج (1/ 374)؛ مفاتيح الغيب (7/ 138)]. (¬1) في "ب" "ي" "أ": (وعن) بالواو. (¬2) في "ب": (وإن هذه الكلمات الكتب الأربعة). (¬3) في الأصل: (واكتتبها) بالواو، والمثبت من بقية النسخ. (¬4) في "ي" والأصل: (بالنفوس). (¬5) في "أ" والأصل: (والصوت) وهو خطأ. (¬6) (الواو) من "أ" "ب". (¬7) في الأصل: (على). (¬8) (من) جاءت مكررة في الأصل و"ي" "أ". (¬9) في الأصل و"ي": (التخلّق).

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} قال الربيع بن أنس: نزلت في وفد نجران حيث قالوا للنبي -عليه السلام- (¬1): أليس عيسى روح الله وكلمته؟ قال (¬2): نعم، حسبنا هذا (¬3). كأنّهم ذهبوا إلى روح الله، وكلمته هو ما قدّروه نفسًا لا هويته وتوهموها فعبدوها فأنزل الله الآية وهي في المتشابه والمحكم، قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] وقيل: نزلت في اليهود حيث أوّلوا الحروف المقطعة على مدة بقاء هذه الأمة من طريق حساب (¬4) الجمل (¬5)، وهي أصله يرد إليه كل من أوّل متشابهًا، {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} من البدعة والضلالة، عن عائشة قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) عن هذه الآية فقال (¬7): "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم" (¬8). وسئل محمَّد بن إسحاق بن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال: بدعة ابتدعوها ولم يكن (¬9) أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين يتكلمون في تلك، وكانوا ينهون عن ذلك ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة (¬10). والمحكم ما أحْكم وجهه بتشديد (¬11) اللفظ وتلخيصه، فلم يترك ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في جميع النسخ (قالوا)، والمثبت من "ب" وهو الصواب. (¬3) ذكره ابن حجر الحافظ في العجاب (2/ 660) عن مقاتل بن حيان ولم يعزُه لأحد. (¬4) (حساب) ليست في الأصل. (¬5) وردت في المخطوطات مرسومة بهاء (الجهل)، وفي "أ": (الجهلة). (¬6) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" فقط. (¬7) (فقال) من "أ"، وفي بقية النسخ: (وقال). (¬8) رواه البخاري (4547)؛ ومسلم (2665). (¬9) في "ب": (تكن). (¬10) ذكره شيخ الإِسلام في كتابه "الاستقامة" (1/ 108)؛ وعزاه لأبي عبد الرحمن السِّلمي في كتابه "ذم الكلام". (¬11) في جميع النسخ: (بالتشديد)، والمثبت من "أ".

للمتأول فيه متعلَّق وإنّما قال: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، ولم يقل أمهات الكتاب؛ لأنّه اعتبر المعنى وهو الأصل فجعل الآيات شيئًا واحدًا، ثم وحّد وقرب منه (¬1)، كقوله تعالى (¬2): {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 55]. و {وَأُخَرُ} جمع أُخرى، وإنما لم يصرف (¬3) للتأنيث، والعدل (¬4) عند البصريين، وقال الكسائي: لأنّه صفة كالاسم مثل عُمَر (¬5)، {زَيْغٌ} مَيل عن ¬

_ (¬1) أخبر بلفظ الواحد وهو "أُمُّ" عن جمع وهو "هُنَّ" إما لأن المراد كل واحدة منه أم، وإما لأن المجموع بمنزلة آية واحدة كالآية التي ذكرها المؤلف {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع كقوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقَرَة: 7]، وكقول الشا عر: كُلُوا في بعضِ بطنِكم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ أي: بعض بطونكم. وقول علقمة الفحل: بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عظامها ... فبيضٌ وَأَمَّا جلدها فصليبُ وقال الأَخفش: وَحَّدَ "أم الكتاب" بالحكاية على تقدير الجواب. كأنه قيل: ما أم الكتاب؟ فقال: هنَّ أم الكتاب. قال ابن الأنباري: وهذا بعيد من الصواب في الآية لأن الإضمار لم يقم عليه دليل ولم تدع إليه حاجة. [الكتاب (1/ 108)؛ ابن يعيش (5/ 8)؛ أمالي الشجري (1/ 108)؛ ديوان علقمة الفحل ص 40؛ الدر المصون (3/ 25)]. (¬2) (تعالى) من الأصل. (¬3) في "ب": (يثبت). (¬4) في الأصل و"ي" "ب": (والعدد). (¬5) يرى الخليل وسيبويه - كما حكاه الزجاج عنهما - أن "أُخَر" غير مصروفة لأنها فارقت أخواتها، والأصل الذي عليه بناء أخواتها؛ لأن "أُخر" أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كما تقول: الصغرى والصُّغَر والكبرى والكُبَر، فلما عدلت عن مجرى الألف والسلام منعت من الصرف. وقيل: لم تصرف لزيادة الياء التي في واحدتها، وإن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف. وقال أبو عبيد: لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش. وما ذكره المؤلف عن الكسائي أنكره المبرد وقال: إن لبدًا وحطمًا صفتان، وهما منصرفان. [ابن جرير (5/ 191)؛ الزجاج - معاني القرآن (1/ 377)؛ القرطبي (4/ 13)].

الحق. {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال (¬1): {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ: 12]. (يتبعون) يتتبعون، و (التأويل) ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، وقيل: هو تبيين ما يؤدي إليه فحوى الخطاب على وجه الاستخراج. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أي: مآله ومصيره وما يؤدي إليه، وها هنا وقف تام، وفي قراءة أبي: ويقول (¬2): {وَالرَّاسِخُونَ}، وكذلك روى طاوس عن ابن (¬3) عباس، وفي مصحف عبد الله: {إنْ تأويله إلا عند الله}، ثم استأنف (¬4): {وَالرَّاسِخُونَ}. وقال أبو حاتِم: والراسخون في تقدير: وأما الراسخون، وإلى هذا ذهب في مسألة القدر والصفات علي وعائشة وأم سلمة وغيرهم، وإحدى فوائد نزول (¬5) المتشابه الائتلافات، قيل: هل كان النبي -عليه السلام- (¬6) يعلم تأويل هذا النوع من المتشابه؟ قلنا: يجوز أن يعلم بالتوقيف (¬7) لا مِنْ جهة نفسه، كما علم أشياء مِنَ الغيب. فإنْ قيل: هل يجب الإيمان بغير المعلوم؟ قلنا: نعم للإعجاز (¬8) الحاصل بالنظم المعلوم ووقوع بائن معناه موافق للمحكم المعلوم، وفي ¬

_ (¬1) (وقال) من "ي" "أ". (¬2) في الأصل: (يقول) بدون واو. (¬3) في "ي" "ب": (بن). (¬4) انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 191)؛ ومعاني القرآن للزجاج (1/ 378). ورواية طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - رواها الطبري في تفسيره (5/ 218)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 116)، والحاكم في مستدركه (2/ 289)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 6) إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) (نزول) ليست في "ب". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في الأصل و"ي": (بالتوقف). (¬8) في "ب" "أ": (الإعجاز).

معناه {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (¬1)} [النساء: 162] (الرسوخ): الغاية في الثبوت، وفي الحديث: "الإيمان راسخ بالقلب مثل الجبال الرواسي (¬2) " (¬3). {رَبِّنَا} محمول على {آمَنَّا}، أي: يقولون (¬4): {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: لا تخذلنا ولا تمسك عنّا (¬5) توفيقك وتزيغ قلوبنا، وقيل: لا تعاقبنا على ذنوبنا على إزاغة قلوبنا (¬6)، وقيل: لا تكلفنا البحث عن المتشابه فتفرق (¬7) بنا الأهواء، {وَهَبْ لَنَا} أي: أعطنا، وإنّما عبر عن الإعطاء بالهبة؛ لأنّه تمليك بغير بدل، {مِنْ لَدُنْكَ} مِنْ عندك وكل ما هو في الغيب أو كان شأنه موقوفًا على حكم الله تعالى، يقال: هو عند الله؛ لأنّه لا سبيل لغيره إليه بوجه ما، {رَحْمَةً} نَعمة وهي الهدى أو العافية أو الجنة دون اتصاف الرحمن برحمته (¬8). {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} لشأن يوم (¬9) أو إلى يوم، ويحتمل أنّ اللام هي التي تدخل في التواريخ، و (الجمع) ضمّ أحد المفردين إلى الآخر، {لَا ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي" "أ": (بالعلم). (¬2) في "ب": (الجبل الراسي) وهو خلاف الحديث. (¬3) لعله يشير إلى حديث: "إن من أمتي رجالًا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي". أخرجه الطبري محمَّد بن جرير في التفسير (5/ 160 - 161) عن أبي إسحاق السبيعي مرسلًا. (¬4) في "ي" والأصل: (ويقولون). (¬5) في "أ": (عتابه) وهو خطأ. (¬6) من قوله (وقيل .... إلى: قلوبنا) ساقطة من "أ". (¬7) في "أ": (فيفترق). (¬8) ما ذكره المؤلف من تأويل صفة الرحمة هو وفق ما سار عليه من تأويل الصفات بما يتوافق مع مذهب الأشاعرة الذي التزمه في تفسيره هذا كما مرَّ علينا. وأما ما يتعلق بهذه الصفة - صفة الرحمة - ونفيه لها وأن الله لا يتَّصف بها لأنها تقتضي الرقة - على حد زعم الأشاعرة -، فقد وقد ردَّ هذا التأويل ابن القيم - كما في "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 121) - فقال: إن الله فرق بين رحمته ورضوانه وثوابه فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ...} [التوبَة: 21] وهذا يبطل من جعل الرحمة رضوانًا أو إرادة الإحسان، بل الإحسان والرضوان والثواب هي من لوازم الرحمة. (¬9) في الأصل: (لشأن توهم) وهو خطأ.

يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي: هو غير متصرف بما يقتضي بغضًا أو ذمًا و {الْمِيعَادَ} وقت الوعد من الله مِنْ عذاب الله وعقابه. {كَدَأْبِ} الكاف وما بعده خبر مبتدأ تقديره: (وإنّهم كدأب) ويحتمل: أن الذين كفروا كدأب آل فرعون، أي: كفرهم (¬1)، والدأب: الشأن المعتاد. {سَتُغْلَبُونَ} الغلبة: القهر والاستيلاء والاستعلاء. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} الآية: العلامة والعبرة، و {وَأُخْرَى} (¬2) رفع على سبيل الابتداء (¬3) كأنّك قلت: إحداهما. قال الشاعر: إذا مِتُّ كانَ الناسُ صنفين شامت ... وآخرُ مُثنٍ بالذي كنت أصنع (¬4) {مِثْلَيْهِمْ} مثل الشيء ما لا يميّز بينه وبينه على وجه (¬5) المشابهة والمجانسة (¬6) أو على الإحالة (¬7)، فإنْ كان على سبيلِ المجانسة (¬8) فهو ¬

_ (¬1) في هذه الآية وجهان إعرابيان: الأول: ما ذكره المؤلف وهو أن الكاف في محل رفع خبر لمبتدأ مضمر تقديره: دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، وبه قال الزمخشري وابن عطية. والوجه الثاني: أن الكاف في محل نصب، وفي الناصب لها تسعة أوجه إعرابية. فذهب الفراء أنها نعت لمصدر محذوف، والعامل فيه: كفروا. والتقدير: إن الذين كفروا كفرًا كدأب آل فرعون. [الكشاف (1/ 414)؛ المحرر (3/ 26)؛ معاني القرآن (1/ 191)]. (¬2) (أخرى) ليست في "أ". (¬3) قوله "أخرى" صفة لموصوف محذوف، التقدير: وفئة أخرى كافرة، ومن قرأ بالنصب: {وأخرى كافرةً} فهو عطف على الأولى بالنصب على الاختصاص أو الحال كما قال الزمخشري. [الكشاف (1/ 415)؛ الدر المصون (3/ 46)]. (¬4) هذا البيت للعجير السلولي وهو في الكتاب (1/ 36)؛ والنوادر ص 156؛ وابن يعيش (1/ 77)؛ والهمع (1/ 67). (¬5) في الأصل و"ب": (وجهه). (¬6) في الأصل و"ب": (المجالسة). (¬7) في الأصل: (الإجابة). (¬8) في الأصل: (المحاسبة).

غيره لأنّه يتميز عنه بالمكان أو ببعض الصفات، وإذا كان على طريق الإحالة (¬1) فمثل الشيء نفسه؛ لأنّ التميّز بين الشيء ونفسه محال، والمراد هاهنا الكمية والعدد دون الطول والعرض وغيرهما، فإنْ كان المراد به القلّة (¬2) فهو صرف رؤيتهم عن المجموع، وإن كان المراد به الكثرة فهو على سبيل اللبس والتخييل، وتقديره: (يرونهم حينئذٍ كأنّهم مثلاهم) لاستحالة أن يزيد الشيء على كميته فيكون واحد اثنين في حالة واحدة، ووقوع الخلاف في المشاهدة مع عدم الحيل البشرية والأغراض الفاسدة المعهودة من الأول (¬3) ونحوه لا يكون إلا مِنْ فعل الله تعالى، فإذا (¬4) أظهر ذلك لنبي من الأنبياء كان ذلك إعجازًا (¬5)، وإنما قال: {رَأْيَ الْعَيْنِ} للتأكيد، قال الفراء (¬6): مثل الشيء اثنان؛ لأنّ (¬7) مثل الشيء ضعفه، وضعف كميته مرتين وضعفاه هو مثله مرتين (¬8). و"التأييد" الإعانة والمعونة وذلك إشارة إلى (¬9) الأمر والشأن (¬10) و (العبرة) فعل ¬

_ (¬1) في الأصل: (الإجابة). (¬2) في الأصل: (العلّة). (¬3) في الأصل: (الأل). (¬4) في "أ": (إذ). (¬5) في "ب": (إعجازًا له). (¬6) معاني القرآن للفراء (1/ 194). (¬7) من قوله (مثل ... إلى: لأنَّ) ليست في "أ". (¬8) التحقيق في هذه المسألة هو أن الفئة التي رأت الأخرى مثليْ أنفسها هي الفئة المسلمة، قلَّلها الله عزّ وجلّ في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، ويشهد لذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال في هذه الآية: هذا يوم بدر، وقد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهمِ يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفَال: 44]. فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا؛ إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عددُ الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليل عددها الكثير عددها أمثالًا، إنما تكثرها من العدد بِمثْلٍ واحدٍ فهم يرونهم مثليهم. [الطبري (5/ 245)]. (¬9) في "أ": (إلا). (¬10) في "أ": (الثاني).

المعتبر كالقعدة والجِلْسة، و (الاعتبار) باتخاذ المذهب والمعبر للنفس إلى مقصود (¬1) يتوصل إليه بالعقل. {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} على أحد معنيين حبّ المتشهيات أو الحب الشهوي، فأضافه إلى أصله كقولهم (¬2) من بهيمة، و (الشهوة): توقان النفس. {وَالْقَنَاطِيرِ} جمع قنطار، والقنطار مجموع كثير من المال أقله ما قاله السدي مائة (¬3) رطل من ذهب أو فضة (¬4)، وأكثره ما ذكره أبو عبيدة من قول العرب أنه وزن شيء لا يحدونه، وفيما بين القولين أقوال (¬5)، {الْمُقَنْطَرَةِ} مُنفْعَلة كقولهم: (ألف مؤلّفة) و (بدرة مبدرة)، وقيل: معناه المضعّفة، فأقل ما يفيد اللفظ تسعة قناطير. و {الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} منطبعان من الجوهر جعلهما الله تعالى (¬6) ثمنين للأشياء، فالذهب أصفر إلى الحمرة والفضة أبيض. {وَالْخَيْلِ} اسم جنس للفرس (¬7) والبرذون والحصان والروكه وهو معطوف على القناطير دون الذهب والفضة. و {الْمُسَوَّمَةِ} الراعية. عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والربيع (¬8) يقول: أسمتها ¬

_ (¬1) في "أ": (مقصوده). (¬2) في "أ": (فإضافة صلة كقوله). (¬3) في جميع النسخ (أنه)، والتصحيح من مصادر التخريج. (¬4) رواه الطبري (5/ 260)؛ وابن أبي حاتم (189/حكمت)؛ وعبد بن حميد (2/ 11/در) عن السدي قال: القنطار مائة رطل. (¬5) اختلف المفسرون في مقدار القنطار، فروي عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومئتا أوقيَّة [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 254)؛ وابن أبي حاتم (2/ 606)]. وهكذا أيضًا روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وأبي هريرة، وروي مرفوعًا عن أبي بن كعب: "القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية" [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 255)]. ولعل هذا القول أقرب الأقوال. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: القنطار ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وهناك أقوال أخرى، والله أعلم. (¬6) (تعالى) ليست في "ب". (¬7) (للفرس) ليست في "أ". (¬8) رواه ابن أبي حاتم (202 - 702/ تحقيق د. حكمت بشير)؛ والطبري (5/ 258 - 260) =

وسومتها فهي سايمة (¬1)، قال الله تعالى: {شَجَرٌ (¬2) فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10]. وعن ابن عباس: أنها المعلمة (¬3) من السيماء، قال الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. {وَالْأَنْعَامِ} جمع نَعَم، والنَعَم: الماشية من الإبل والبقر والغنم لا واحد لها (¬4) من لفظه، و {الْمَآبِ} المرجع. قال عبيد بن الأبرص (¬5): فكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} طلب الإصغاء من المستمعين وليس باستئذان. وكذلك قوله: هل أنبئكم، ألا أنبئكم، {جَنَّاتٌ} رفع على الابتداء عند البصريين وعلى أنه خبر الكلام عند الكوفيين، وأجاز البصريّون "جناتٍ" على الجرّ بدلًا عن لفظة "خير" وعلى النصب بدلًا من خبر محمولًا على محله دون لفظه، ولم يخبر الفراء المكان الفاصل، وإنما كان المعاد خبرًا من المعاد لمعان (¬6) (¬7) أحدهما: الأمن من زوال النعمة (¬8). ¬

_ = عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان ومجاهد. (¬1) رواه الطبري (5/ 262) عن سعيد بن جبير. (¬2) في الأصل: (شجرة). (¬3) رواه الطبري (5/ 264) عن ابن عباس. (¬4) في الأصل: (له). (¬5) البيت ذكره القرطبي في تفسيره غير منسوب لأحد، وفيه "الأموات" بدل الموت. [القرطبي (4/ 37)]. لكن البيت لعبيد بن الأبرص وهو في ديوانه ص 16 وفيه: الموت، كما ذكره الجرجاني وهو في لسان العرب (1/ 219 - أوب)؛ وتهذيب اللغة (15/ 608)؛ ومقاييس اللغة (1/ 153). (¬6) (لمعان) ليست في "أ". (¬7) في الأصل: (المعان). (¬8) ارتفع "جنات" على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو جنات. فتكون الجملة بيانًا وتفسيرًا للخيرية، ويؤيد ذلك قراءة "جناتٍ" بكسر التاء على أنها بدل من "بخير" =

(الأسحار) جمع سَحَر كأسفار وسَفَر، والسحَر أوان انفلاق الصبح، وإنما خصّ ذلك الوقت بالدعاء؛ لأن اليقظة في ذلك الوقت أضن على النفس وأخلص لوجه الله تعالى، والقائمين بالليل يفرغون من الصلاة تلك الساعة فيشغلون بالدعاء والاستغفار كما أخبر الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 17، 18] فإنّما نصب على القطع (¬1). وتقديره: شهد الله القائم بالقسط إقامة القسط، [وقيامه بالقسط: إقامة القسط] (¬2) في العالم بين العقلاء كما يقال: فلان قائم بالحوايج، ويحتمل أن يكون القسط صفة من اسمه المقسط فيكون عبارة عن قيامه مقسطًا، وثبوته عادلًا من غير كيفية وحال كما يقال: فلان قائم بالخلافة والإمارة. و {الدِّينَ}: الحكم، ولذلك يقال للحاكم: الدّيان، وفي حديث بعض التابعين: كان علي ديّان هذه الأمة، قال الأعشى للنبي -عليه السلام-: ¬

_ = فهي بيان للخير، وقيل: إن الجار والمجرور "للذين اتقوا" خبر مقدم و "جنات" مبتدأ مؤخر، وعلى هذا التقدير يكون الكلام قد تم عند قوله: "من ذلكم" ثم ابتدأ بهذه الجملة، فهي مفسرة للخيرية. وقد ذهب مكي في كتابه "المشكل" (1/ 129) إلى أن "جنات" بدل من "بخير". (¬1) في نصب "قائمًا" أربعة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه منصوب على الحال. والوجه الثاني: أنه منصوب على النعت للمنفي بـ"لا". الوجه الثالث: أنه منصوب على المدح. ويجوز أن يكون المنصوب على المدح نكرة خلافًا لمن منعه. وأنشد سيبويه على ذلك قول أمية بن أبي عائذ الهذلي: ويأوِي إلى نسوةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثًا مراضيعَ مثلَ السعالي الوجه الرابع: أنه منصوب على القطع -كما ذكره المؤلف-، وهذا مذهب الكوفيين ونقله بعضهم عن الفراء، وقد ذكره في معاني القرآن. [ديوان الهذليين (2/ 184)؛ الكتاب (1/ 199)؛ معاني القرآن للفراء (1/ 200)؛ ابن يعيش (2/ 18)]. (¬2) ما بين [...]، سقطت من الأصل.

يا مالك الملك وديان العرب (¬1) والدين الطاعة (¬2) من قولهم: دان فلان لفلان. وقيل: العادة والسُّنّة، قال الشاعر (¬3): تقول إذا دَرَأْتُ لها وضيني ... أهذا دِينهُ أَبَدًا ودِيني؟ و {الْإِسْلَامُ} الانقياد لله تعالى في الناسخ من أحكامه والمنسوخ، وفيما قدر من خير وشر وحلو ومر، وترك المنازعة والابتداع، وقد علم أهل الكتاب هذا ثم أبوا قبول الناسخ وابتدعوا في الدين، {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تهديد لمن كفر بآياته. {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} عطف على الضمير في {أَسْلَمْتُ} (¬4)، وإنما كان قوله: ¬

_ (¬1) أما الأثر عن بعض التابعين في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه ديان هذه الأمة لم أجد له أصلًا في كتب الحديث، وأما قول الأعشى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مالك الملك وديان العرب" كذلك لم أجد له أصلًا، وعلى فرضية صحته فإنه لا يمكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت على هذا الوصف الذي وصفه به الأعشى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه لا مالك لهذا الملك إلا الله -عزّ وجلّ-، فلا يصدف مثل هذا الوصف إلا على الله -عزّ وجلّ-. لكن ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 148) بلفظ: يا سيد الناس وديان العرب. وبه يزول الإشكال من حيث المعنى، وكذا هو في لسان العرب (4/ 459 - دين). وأثر بعض التابعين في علي بن أبي طالب ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (14/ 185)، وابن الأثير في النهاية (2/ 148). (¬2) إطلاق الدِّين علي الطاعة معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: ويوم الحزنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدٌّ ... وكان الناس إلا نحنُ دِينا وقول الأعشى: هو دانَ الرِّبَابَ إذ كرهوا الديـ ... ـن دِراكًا بغزوةٍ وصيالِ كرهوا الدين: أي الطاعة. وقول عمرو بن كلثوم: وأيامًا لنا غُرًّا طِوَالًا ... عصينا المَلْكَ فيها أَنْ نَدِينَا [الطبري (5/ 281)؛ ديوان الأعشى ص 11؛ ديوان عمرو بن كلثوم ص 71]. (¬3) البيت للمُثَقِّب العَبْدي يذكر ناقته وهو في ديوانه ص 195. وقد ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (14/ 159)؛ ولسان العرب (13/ 169 - دين)؛ ومجمل اللغة (2/ 266). (¬4) وبه قال الزمخشري وابن عطية، وقيل: إنه مرفوع بالابتداء والخبر محذوف، وقيل: =

{أَسْلَمْتُ} جوابًا لهم من أوجه أربعة: أحدها. أنهم حاجّوه في عبادة المسيح فقالى: بل أسلم وجهي لمن استوجب العقول عبادته ضرورة ولا أعبد غيره اشتباهًا ومنية. والثاني: أنهم أقروا بوجوب عبادة الله فسلموا له دعواه ثم ادعوا عبادة آخر معه فأجابهم بأنه أخذ المجموع دون المختلف ديه. والثالث: أنهم الحق في لزوم سير (¬1) معهودة بعضها منسوخ (¬2) وبعضها بدعة، فقال -عليه السلام-: "بل الحق في الانقياد لله فيما يمحو أو (¬3) يثبت". والرابع: أنه أعرض (¬4) عن جدالهم وأخبر بما يقطع جدالهم كقول موسى -عليه السلام- حيث قال فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء: 27، 28]. {أَأَسْلَمْتُمْ} بمعنى الأمر (¬5) كقوله (¬6): {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، ومثل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬7) [هود: 14] و {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصّافات: 54]، و {الْبَلَاغُ} اسم من التبليغ كالعذاب والتعذيب والكلام من ¬

_ = إنه منصوب على المعية، والواو بمعنى "مع" أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني، قاله الزمخشري. [الكشاف (1/ 419)، المحرر (3/ 43)؛ البحر المحيط (2/ 412)]. (¬1) في "أ": (سيرة). (¬2) (بعضها منسوخ) ليست في "ب". (¬3) في "ب" "أ": (و). (¬4) في "ب" "ي" والأصل: (إعراض). (¬5) أي أنه استفهام بمعنى الأمر، والتقدير: أسلموا. كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المَائدة: 91] التقدير: انتهوا. فهو بمعنى- كما قال الزمخشري-: أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإِسلام ويقتضي حصوله لا محالة، فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم. [الكشاف (1/ 419)، معاني القرآن للفراء (1/ 252)]. (¬6) في "أ": (كقولهم). (¬7) (وقيل أنتم مسلمون) بياض في "أ".

التكليم، وتبليغ الرسالة أداؤها وإيصالها، وفي قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} تمهيد لعذر النبي -عليه السلام- بعد البلاغ، وفي قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} معنى التهديد. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} عن أبي عبيدة بن الجراح أن بني إسرائيل قتلوا من أول النهار في ساعة واحدة ثلاثة وأربعين نبيًا، فقام إليهم مائة رجل من الصّالحين ينهونهم فقتلوهم أيضًا (¬1). وقد قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام (¬2) وسعوا في قتل المسيح -عليه السلام- (¬3) أبلغ سعي، وسمّوا نبينا -عليه السلام-. والفاء في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ} (¬4) على الجزاء ليضمن الاسم الموصول نوعًا من الشرط. حبوط عملهم في الدنيا أنه لم يفعلوا حسنًا، وحبوطه في الآخرة بطلان الثواب. {نَاصِرِينَ} من عذاب الله تعالى، وإنّما جمع ناصرين لنظم الآي. {أَلَمْ تَرَ} استفهام يقتضي ذم المستفهم عنه كما تقول: ألم تر إلى خبث فلان، {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} ما بقي من التوراة مصونًا عن التحريف والتبديل بتغيير اللفظ أو التأويل، {إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} جميع (¬5) التوراة (¬6)، ¬

_ (¬1) حديث أبي عبيدة بن الجراح أخرجه البزار في مسنده (1285)؛ والطبري في تفسيره (5/ 291)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 620)؛ والبغوي في تفسيره (2/ 20)؛ ولفظه: قلت: يا رسول الله: أي الناس أشدُّ عذابًا يوم القيامة؟ قال: "رجل قَتَلَ نبيًا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف" ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عِمرَان: 21] ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا عبيدة، قَتَلَتْ بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًا من أول النهار، في ساعة واحدة، فقام مائةُ رجل واثنا عشر رجلًا من عُبَّاد بي إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله -عزّ وجلّ-". (¬2) ذكر الطبري في تفسيره أنهم قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام. [الطبري (5/ 289)]. (¬3) (السلام) من "ب" "أ". (¬4) (بعذاب) من "أ". (¬5) في "ب": (جمع). (¬6) في الأصل و"أ" "ي": (التورية).

وقيل: هو القرآن المعجز (¬1)، {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} بإسلام إبراهيم، ونعت نبينا -عليه السلام- (¬2)، وآية الرجم وسائر ما خوطبوا به من أمر الدين، وإنما أكّد التولي بالإعراض لأن من المؤتمرين من يتولى عن الأمر وينصرف (¬3) من عنده مقبلًا على الطاعة فنفى هذا الإيهام. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} تعليل لجرأتهم بقولهم الذي اختلفوا فيه ثم اعتقدوه، {وَغَرَّهُمْ} خدعهم، و {مَا} في محل رفع (¬4) لإسناد الغرور إليه مجازًا (¬5). {فَكَيْفَ} في هذا الموضع لتفخيم الأمر وتهويله، والمستفهم عنه مضمر تقديره: كيف يصنعون أو كيف يحتالون أو كيف يعتذرون. {قُلِ اللَّهُمَّ} قيل أن رسول الله (¬6) أخبر أصحابه يوم الخندق بفتح فارس وملك الروم، فقال بعض المنافقين: هذا الرجل ليس يأمن في (¬7) ¬

_ (¬1) الذي يظهر أن المراد بكتاب الله في هذه الآية هو التوراة، والذي يدل على ذلك سبب النزول، فقد أخرج الطبري في تفسيره بسند حسن (5/ 293) والواحدي في أسباب النزول ص 70؛ والبغوي في تفسيره (2/ 21)؛ وذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (1/ 179) عن ابن عباس قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمَّد؟ فقال: "على ملة إبراهيم ودينه". فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديًا. فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم" فأبيا عليه، فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ...} [آل عِمرَان: 23] وهذا الذي رجحه ابن جرير في تفسيره. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ي" "ب": (فينصرف). (¬4) في "ي" "أ": (الرفع). (¬5) يجوز أن تكون "ما" مصدرية أو موصولة بمعنى "الذي"، والعائد محذوف. والتقدير: الذي كانوا يفترونه. (¬6) في "ي": (قيل أن الله ...) وهو خطأ. (¬7) (في) من "ي" "ب".

بيته حتى صار يحتدق على نفسه ثم يطمِع في ملك الملوك! فأنزل الله الآية (¬1) تنافيه معنى الدعاء والسؤال، و {اللَّهُمَّ} في الأصل: يا الله، فعلّق بآخره الميمان بدلًا عن حروف النداء عند البصريين. وقال الفراء: أرى أن الميم في آخره بقية كلام وتقديره: يا الله أم بالخير، أي: اقصد، مثل هلم إلينا، وقيل: ميم جمع ألحقت بالاسم وذلك جمع الخلق (¬2)، و {اللَّهُمَّ} على هذا آله الخلق وآله العباد زيدت ميم أخرى للتأكيد أو زيادة كما زيدت في عبثم ونحوه. وعن الحسن أن {اللَّهُمَّ} مجمع الدعاء. وعن أبي رجاء العطاردي: في هذا جماعة سبعين (¬3) اسمًا من أسماء الله تعالى. وعن النضر بن شميل (¬4): من ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في تفسيره (5/ 303) وابن أبي حاتم (2/ 624) عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ ...} [آل عِمرَان: 26] وهذا إن صحَّ فهو قريب مما ذكره المؤلف في سبب النزول، لكن الانقطاع فيه ظاهر بين قتادة والنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) قال الفراء: "اللهم" كلمة تنصبها العرب، وقد قال بعض النحويين [منهم الخليل كما ذكره سيبويه]: إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بـ"يا" كما تقول: يا زيد، فجعلت الميم فيها خلفًا من "يا". ومنه قول الراجز: وما عليكِ أن تقولي كُلَّمَا ... صلَّيتِ أوسَبَّحتِ يا اللهم ما ... أُرْدُدْ علينا شيخنا مُسَلَّمَا وهذا خاص بهذا الاسم الشريف - الله- ولا يجوز في غيره، ولذا لا يجوز الجمع بينها وبين حرف النداء في هذا الاسم، فلا تقل - يا اللهمَّ-، وهذا رأي البصريين إلا أنهم أجازوا الجمع في ضرورة الشعر كما في البيت السابق. وأما الكوفيون فقالوا: الميم المشددة بقية فعل محذوف تقديره: أُمَّنَا بخير. أي: اقصدنا به من قولك أَمَّمْتُ زيدًا: أي قصدته، ومنه قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المَائدة: 2] أي: قاصديه. وهذا رأي الفراء كما ذكره المؤلف. والكلام يطول حول هذه الكلمة وما فيها من أحكام ليس هذا مقام بسطها. [معاني القرآن للفراء (1/ 203)؛ الكتاب (1/ 310)؛ الدر المصون (3/ 97)؛ الطبري (5/ 299)]. (¬3) في "ب": (سبعين ألفًا) وهو خطأ. (¬4) في "ب": (النضر بن محمَّد بن شميل) وهو خطأ.

دعا بهذا الاسم فقد دعا الله بجميع أسمائه (¬1)، {مَالِكَ الْمُلْكِ} الذي يكون له المملكة وملك اليمين، {تُؤْتِي الْمُلْكَ} أي: البسطة والسلطان، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ} تجذبه وتسلبه، {وَتُعِزُّ} تجعله عزيزًا من أي وجه كان دنياويًا كان أو عقباويًا، {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} تجعله ذليلًا من أي وجه كان، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي: تحت يدك وسلطانك وتصرفك وإحداثك، وإنما خص الخير دون الشر لمعنيين: أحدهما: أن الله يوسف بأنه رب محمَّد ورب إبراهيم ولا يحسن أن يوسف برب الكلب والخنزير إلا عند العموم. والثاني: أن كل فعل لا يقع منه إلا حميدًا فيه نوع مصلحة عاجلًا أو (¬2) آجلًا، والذم ينصرف إلى المكتسبين للأفعال (¬3). {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الإيلاج: الإدخال، فالله تعالى يدخل بعض ساعات الليل في النهار إذا قدر طلوع الشمس بالصيف في البروج ¬

_ (¬1) ورد في هذه الآية عنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، قال عليه الصلاة والسلام: "اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب في هذه الآية" ثم قرأ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ...} [آل عِمرَان: 26] الآية. أخرجه الطبراني في الكبير (12792) بسند ضعيف، وله شاهد عند ابن ماجه (3856)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 63)، والفريابي في فضائل القرآن (184/ 1)، وغيرهم. وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (ح 746/ص382). (¬2) في "ي": (أو)، وفي البقية: (و). (¬3) الاقتصار على الخير دون ذكر الشر وارد استعماله في الكلام العربي، ومنه قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي: والبرد. ومنه قول الشاعر [ينسب لامرىء القيس]: كأنَّ الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رِجْلُهَا حذفُ أَعْسَرَا أي: رجلُها ويدُها. وقول الفرزدق: تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجرةٍ ... نفي الدراهيمِ تنقادُ الصَّيَارِيفِ أي: يداها ورجلاها. وقيل: خُصَّ الخير هنا لأن المقام مقام ترجي الخير من الله. [التحرير والتنوير (3/ 214)؛ ديوان امرئ القيس ص 64؛ ديوان الفرزدق ص 570؛ الكتاب (1/ 10)].

الشمالية، ويدخل بعض ساعات النهار في الليل إذا قدر طلوع الشمس بالشتاء في البروج الجنوبية، ويجعل كل النهار ليلًا (وكل الليل نهارًا) (¬1) بتفاوت الحساب بين السنة القمرية والسنة الشمسية، {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الجماد كالطير من البيض، والنفس من النطفة، والدود من الأنداء، والعاقل من السفيه، والمؤمن الولي من الكافر العدوّ، ويخرج الجماد من الحي كالشعر والنطفة والبيض من الحيوان، والسفيه من العاقل، والكافر العدو من المؤمن الولي. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} نهى عن (¬2) المغابنة فلايكن من دون المؤمنين، أي: مع موالاة المؤمنين إلا أنه يقتضي نوع حقًا (¬3) وامتياز كقوله: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص: 23]، وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا} [الكهف: 93]، وذلك إشارة إلى اتخاذ الأولياء {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ} مِن دين الله كقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، ويحتمل: ليس من رحمة الله وإثابته، {فِي شَيْءٍ} ثم استثنى (¬4) من أظهر (¬5) موالاتهم خوفأ على نفسه كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. روي أن قريشًا (¬6) كلفوا عمارًا وأصحابه على شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، ففعل عمار وأصحابه ثم أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬8) فصوّبهم جميعًا. ¬

_ (¬1) ما بين (...) ليست في الأصل وأثبتناها من بقية النسخ. (¬2) المثبت من "أ"، وفي بقية النسخ: (على). (¬3) (حقًا) من "ي" "أ". (¬4) في "ب": (استثناه). (¬5) في "ب": (ظهر). (¬6) في "ب": (الصحابة) وهو خطأ. (¬7) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬8) (صلى الله عليه وسلم) من "ب"، وفي الأصل: (صلى عليه)، وفي "أ": (صلى عليه وسلم) وفي "ي": (صلى الله عليه).

وأخذ مسيلمة (¬1) الكذاب رجلين من المسلمين فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. [قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فخلى سبيله، وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم] (¬2). قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ، فكرر عليه قوله مرارًا والرجل يقول قوله، فأمر بضرب عنقه، ولما سمع ذلك رسول الله -عليه السلام- (¬3)، قال: "أما الأول، فقبل رخصة الله تعالى، وأما الآخر فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئًا له" (¬4). والاختيار الثبات لأنه من عزائم الأنبياء لم يكن له رخصة في التقية قط والأخذ به أولى، {وَيُحَذِّرُكُمُ} ينذركم ويأمركم أن تتقوا مقته وسخطه. {يَوْمَ تَجِدُ} "يوم" نصب على الظرف لأحد الأشياء الأربعة: أحدها: الخبر الذي في ليس (¬5). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (مسلمة) وهو خطأ، والمثبت من "أ". (¬2) ما بين [...]، ليست في "أ". (¬3) المثبت من "ب"، وفي الأصل و"أ": (رسول الله -عليه السلام-)، وفي "ي": (رسول الله عليه). (¬4) لم أعثر على هذه القصة في كتب التفسير التي بين يدي، والمعروف في سبب نزول آية "البقرة" وآية "النحل" {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النّحل: 106] أنهما نزلتا في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم فثبت على الإِسلام بعضهم، وافتتن البعض الآخر، فروى أبو عبيدة بن محمَّد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذبوه حتى جاراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن عادوا فَعُد". [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 374) وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 360)؛ وابن سعد في الطبقات (3/ 249)؛ والحاكم في المستدرك (2/ 357). وقال الحافظ في الفتح: مرسل رجاله ثقات، وله طريق عند البيهقي في السنن (8/ 208)، وهو مرسل أيضًا]. (¬5) وهذا بعيد جدًا أن ينتصب بالخبر الذي في ليس لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها - قاله ابن الأنباري- كما أن ما بين الظرف وناصبه معترضًا وهو كلام طويل والفصل بمثله مستبعد. [الدر المصون (3/ 114)].

والثاني: المصير (¬1). والثالث: العقاب المضمر بالتحذير (¬2). والرابع: الجر في فحوى يعلمه (¬3) الله. {وَمَا} في محل النصب لوقوع الوجود أو الود عليه (¬4)، والأمد: الأجل والغاية نصب بأن، والكافر إنما يتمنى بُعد الأمد كما يتمنى طول الأجل ولا محيص، و (إحضار الأعمال) إحضار ثوابها وإحضارها في جوهر قابل لها كالمرآة يقبل الصورة أو كان العرض عينًا قائمة. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ}، (إن) كانت في شأن المؤمنين فـ (إن) (¬5) بمعنى إذ، وإن كانت في شأن الكفار فإن للشرط على قضية زعمهم (¬6). {اصْطَفَى آدَمَ} أبونا صفي الله {وَنُوحًا} وهو ابن ليك بن متوشالخ بن أنوخ، وأنوخ هو إدريس -عليه السلام- بن الياردين بن مهلايل بن فتبين بن ¬

_ (¬1) وإلى هذا ذهب الزجاج وابن الأنباري ومكي وغيرهم، وهذا ضعيف على قواعد البصريين للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلام طويل. [معاني القرآن للزجاج (1/ 399)؛ المشكل (1/ 134)]. (¬2) أي أن العامل فيه "عقاب" وهو الذي ذهب إليه أبو البقاء العكبري. [الإملاء (1/ 130)]. (¬3) في الأصل: (نقله). (¬4) أي أن "ما" مصدرية، ويكون المصدر حينئذ واقعًا موقع المفعول في محل نصب، والتقدير: يوم تجد كل نفس عملها أي معمولها، وهذا قول الجمهور. ويجوز أن تكون "ما" موصولة والعائد مقدر، والتقدير: ما عملته، وهو الذي ذهب إليه الطبري. [الدر المصون (3/ 116)؛ الطبري (5/ 322)]. (¬5) (فإن) من "أ". (¬6) الذي يظهر من سبب النزول وهو الذي رجحه ابن جرير في تفسيره أن هذا أمر من الله لنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لوفد نجران وهم من النصارى: إن كان هذا من قولكم -يعني في عيسى -عليه السلام- حبًا وتعظيمًا له {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عِمرَان: 31]، وسبب النزول هذا رواه محمَّد بن جعفر بن الزبير. [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 326)].

أنوش بن شيت النبي -عليه السلام-، ونوح اسم أعجمي سمي نوح لكثرة نياحته وبكائه من خشية الله تعالى، بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ولم يؤمن به إلا شرذمة، ولما أتاح الله له النصرة والفرج أوحى الله إليه أن اصنع الفلك على ما سنذكره، ثم إنه لما خرج من السفينة وعاد إلى الدنيا بهجتها نشر الله ذريته في أقطار الأرض من بنين ثلاثة: سام (¬1) وهو ولي (¬2) عهد أبيه وولده (¬3) إرم وأرفخشد (¬4). ويافث وهو المبرّك المرضي وولده الترك والخزر والأسبان والصقالب ويأجوج ومأجوج. وحام وهو الطريد المدعو عليه وولده قرط وكوش وكنعان منهم الهند والسند والسودان. وأما عمران قيل: هو أبو موسى وهارون، وقيل: هو جد عيسى ويحيى (¬5)، وهذا أصح (¬6). واصطفاهم بالرسالة لقوله لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي} [الأعراف: 144] وتخصيص الأربعة لأن كل واحد أصل موصل بافتتاح وحي بعد فترة وغاية في الإسناد والانتشار والاعتراف. والعالم (¬7) الذي اصطفى الله آدم عليهم هم (¬8) الملائكة المأمورون ¬

_ (¬1) (حام ويافث) من "أ"، وهو خطأ (¬2) في الأصل: (في). (¬3) في الأصل: (والده)، وهو خطأ. (¬4) انظر: تاريخ الطبري (1/ 203)، المنتظم (1/ 248). (¬5) في "ب": (يحيى وعيسى). (¬6) وهو الذي رجحه ابن كثير في تفسيره (1/ 441) ثم ذكر نسب عمران نقلًا عن ابن إسحاق حتى أرجع نسبه إلى سليمان بن داود -عليهما السلام-. (¬7) في "ب": (العالم) بدون الواو. (¬8) (هم) ليست في "ب".

بالسجود، وأمره بأن ينبئهم بأسماء الأشياء {ذُرِّيَّةً} نكرة نصب على البدل (¬1) {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لمقالة امرأة عمران حنَّة (¬2). وعمران هو ابن ماثان بن إلياقيم (¬3) من ولد داود (¬4) من أشراف بني إسرائيل وعبَّادهم، وكان صهرًا (¬5) لزكريا النبي -عليه السلام-. إيشاع (¬6) أخت مريم و (المحرر) الذي تجرد للعبادة. ويكون حبيسًا (¬7) لخدمة المسجد [لا يعمل للدنيا فهو المعتق في اللغة، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لأن الذكر يمكنه لزوم المسجد] (¬8) عامة أحوالِهِ. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} عارض تلفظت به لحاجة في نفسها وليس بمتصل بالدعاء، فمن قاله جعل مريم من أسماء الأعلام، وقيل: هو متصل بالدعاء، ومريم التي لا تريد الرجال، وقيل: لا تطاوع في الشر. وعن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- قال: "ما من مولود إلا ويمسُّه الشيطان حين يولد ولذلك يستهلُّ (¬9) صارخًا إلا مريم وابنها" (¬10). وهذا عموم بمعنى الخصوص لأنَّه روي أنَّ الملائكة (¬11) نزلت يحرسون نبينا -عليه السلام- ¬

_ (¬1) وقيل إن "ذريةً" منصوبة على الحال، والتقدير: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، والعامل فيها "اصطفى". [الدر المصون (3/ 129)]. (¬2) هي حنة بنت فاقود بن قبيل والدة مريم، انظر: قصص الأنبياء لابن كثير 5008. (¬3) في الأصل: (يعاقيم) وهو خطأ، وهو ليس والد (ماثان) بل هو أحد أجداده، كما في رواية ابن عساكر التي ذكرها ابن كثير في قصصه 508. (¬4) ذكر الطبري نسب عمران فقال: هو عمران بن ياشهم بن أمون بن منش ابن حزقيا بن أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أيشا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن أيشا. [الطبري (5/ 331)]. (¬5) في الأصل: (منهم)، وفي "أ" وجد بياض. (¬6) كتبت في كل النسخ (بايلشفاع)، وهو خطأ والتصحيح من المصادر، انظر: ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق (64/ 168)، والمناوي في فيض القدير (1/ 48). (¬7) في الأصل: (جليسًا). (¬8) ما بين [...]، من "ي" فقط. (¬9) في الأصل و "أ": (يهتل)، وهو خطأ. (¬10) رواه البخاري (4548)؛ ومسلم (2366). (¬11) في "ب": (لأن الملائكة).

حين ولد، وروي أنَّ فاطمة الكبرى (¬1) وضعت عليًا في جوف الكعبة (¬2) ولا سبيل للشيطان إليها (¬3). {بِقَبُولٍ} ولم يقل بتقبل لأنهما بمعنى، وكذلك لم يقل إنباتًا لأن في النبات معنى الإنبات كقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} [البقرة: 100]، ولم يقل: معاهدة، وقوله: {مَتَاعًا} [البقرة: 236] في آية المتعة ولم يقل (¬4): تمتعًا، وقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] ولم يقل: بتداين. (الكفالة) قبول في معنى الضمان، و (المحراب) الصومعة سميت لبعد ارتفاعها وكونها منفردة منقطعة، ومنه سمي القصر محرابًا، وسمي صدر المسجد محرابًا (¬5)، و (الرزق) الذي كان يجيئها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء (¬6). عن ابن (¬7) عباس والضحاك ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد، وعن الحسن أنه كان يأتيها من الجنة، وفي هذا أبين دلالة على جواز كرامة الأولياء من عند الله مِنْ قضائه وحكمته. ¬

_ (¬1) هي أم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أول هاشمية ولدت من هاشمي. (¬2) ذكر الحاكم في مستدركه ذلك قائلًا: (وقد تواترت الأخبار ...) (3/ 550). (¬3) لم أجد أصلًا لهذا الأثر ولا أظنه يثبت سيما أنه لا يوجد لفاطمة ولد اسمه علي، ولذا ذكر المؤلف هذا الأثر بصيغة التمريض "رُوِيَ". (¬4) في الأصل و"ي": (وقوله). (¬5) قال أبو عبيدة: المحراب: هو أشرف المجالس ومقدمها، وهو كذلك من المسجد. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو القصر لعلوِّه وشرفه. وقال الأصمعي: هو الغرفة، وأنشد قول امرئ القيس: وماذا عليه أَنْ ذكرتُ أوانسًا ... كغزلانِ رملٍ في محاريب أقيالِ وقيل: هو المحراب من المسجد المعهود، وهو الأظهر في الآية. [مجاز القرآن (1/ 19)؛ ديوان امرئ القيس ص 34؛ الدر المصون (3/ 144)] (¬6) روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وقتادة والربيع. أخرجه ابن أبي حاتم (3445)؛ والطبري (5/ 354)؛ وأخرجه اللالكائي في كرامات الأولياء ص 70 - 77 عن سعيد بن جبير ومجاهد وجابر بن يزيد والنخعي وقتادة والربيع وعطية والسدي والثوري. (¬7) في "أ": (بن).

{إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} يحتمل أن يكون إخبارًا من قول مريم ويحتمل أن يكون كلامًا مستأنفًا. {هُنَالِكَ} من الأسماء المشار بها إلى الظروف، فهنا أقرب وهناك بعده وهنالك أبعد منه كذا وذاك وذلك، وحقيقتها للأماكن وقد تستعمل في الأزمنة لإيهامها. {دَعَا} لما شاهد كرامة مريم ازداد رجاء أن يرزقه الله ولدًا حالة الشيخوخة وإن كان مخالفًا للعادة، {طَيِّبَةً} اعتبار اللفظ أُنّث النعت وذكر الفعل اعتبارًا بالمعنى. {فَنَادَتْهُ} قيل: ملك من {الْمَلَائِكَةُ}، وقيل: ناداه جبريل ذكره بلفظ الجمع تشريفًا له (¬1)، (يحيى) اسم لا ينصرف للعلمية أو للمضارعة مع التعريف (¬2)، {مُصَدِّقًا} نصب على القطع أو الحال بكلمة عيسى -عليه السلام- (¬3) أو الإنجيل أو وحي [اختص يحيى -عليه السلام- بتصديقه من قبل أبيه أو من قبل نفسه، {وَسَيِّدًا} إمامًا ورئيسًا، {وَحَصُورًا} لا يشتهي النكاح عن ابن مسعود (¬4)، وذلك لغلبة حالة الخوف عليه، والأنبياء من كان يخشع مرة] (¬5) ويبتهج أخرى، {وَنَبِيًّا} من الأنبياء، وقيل: على التقديم والتأخير: وحصورًا من الصالحين ونبيًّا، إلا أنه قدم وأخر النظم. ¬

_ (¬1) ويشهد لذلك قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: {فناداهُ جبريل وهو قائم يصلي في المحراب} وكما ذكر المؤلف أنه جائز أن تخبر بالجمع وتريد به الإفراد للتشريف أو لغرض آخر، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عِمرَان: 173]، والقائل هو واحد، وهو نعيم بن مسعود. (¬2) قوله للمضارعة: أي وزن الفعل. فـ"يحيى" ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وهذا ما قاله الزجاج وغيره، وقيل: إنه اسم أعجمي لا اشتقاق له، فيكون منعه من الصرف للعلمية والعجمى، وعلى كلا القولين يجمع على يَحْيَوْن بحذف الألف. [البحر (2/ 433)؛ شرح الكافية الشافية لابن مالك (4/ 180)]. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرجه الطبري (5/ 377)؛ والبيهقي في سننه (7/ 83)؛ وابن عساكر في تاريخه (4/ 175)]. (¬5) ما بين [...]، من "ب" "ي" "أ"، وأما في الأصل فكتب: (اختصت يحيى -عليه السلام- وكان غيرهما يتقلب في حالة الخوف والرجاء يخشع مرة).

وإنما قال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} طمعًا منه أن يعيده الله شابًا وامرأته شابة أو ليريه آية من طريق المشاهدة كقول إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، أو لم يعلم أن الغلام المبشر يكون من امرأته هذه (¬1) (...) (¬2) أنه من غيرها أو يأمره الله باتخاذ ولد ولده غيرهما، و (الغلام) الصبي و (العاقر) التي يهلك النسمة في رحمها لانسداد وخلل في طبيعتها {كَذَلِكَ} أي الأمر كما ذكرنا، وقيل: عمد جبريل إلى سعفة يابسة فحركها فصارت رطبة، فالتشبيه وقع بها، وقيل (¬3): كذلك تقدير كلام السائل مجازًا على وجه الرفق، {اللَّهُ} رفع بالابتداء. {اجْعَلْ لِي آيَةً} كسؤال إبراهيم، وقيل: كان (¬4) من حين استجيب له إلى أن حبلت امرأته أربعون سنة، فطلب الآية ليعلم أوان الحبل، {رَمْزًا} إيحاءً (¬5)، {بِالْعَشِيِّ} العشية وهي مدة ما بين العصر إلى العشاء الآخرة، وقيل: من الظهر إلى العشاء، {وَالْإِبْكَارِ} صيرورة الزمان بكرة، وهي وجه النهار مقدمه ومنه الباكورة. {وَإِذْ قَالَتِ} واو استئناف بدل عن الأول، {اصْطَفَاكِ} لولادة عيسى من غير زوج، وقيل: هذا الاصطفاء بدل عن الاصطفاء الأول (¬6)، {نِسَآءِ ¬

_ (¬1) (هذه) ليست في "ب". (¬2) بياض في جميع النسخ. (¬3) (بها وقيل) ليست في "ب". (¬4) في الأصل و"ي": (كان جبريل) والأصل حذف كلمة جبريل. (¬5) قوله تعالى: {إِلَّا رَمْزًا} [آل عِمرَان: 41] فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز. ومنه قول جُؤَيَّة بن عائذ: وكانَ تَكَلُّم الأبطال رَمزًا ... وهمهمةً لهم مِثْلَ الهديرِ وأما المراد بالرمز الذي في الآية فهو تحريك الشفتين من غير أن يرمز بلسانه بكلام، وهو قول مجاهد. وذهب ابن عباس إلى أن يكلم الناس بيده أي بالإشارة. [الطبري (5/ 388)، ابن عساكر في تاريخه (9/ 52)]. (¬6) كرر الاصطفاء في الآية رفعًا من شأنها، قال الزمخشري: اصطفاك أولًا حين تقبلك من أمك ورَبَّاك واختصَّك بالكرامة، واصطفاك آخرًا على نساء العالمين بأن وهب لك =

الْعَالَمِينَ} عالمي زمانهم، ومعنى التطهير: من العيوب والذنوب، وقيل: من الحيض والأدناس، وقيل: من مسيس الرجال (¬1)، وتقديم السجود لا يوجب تقديمه على الركوع لأن الواو للجمع والاشتراك دون الترتيب لأن الواو في الاسمين المختلفين كالنسبة في المتفقين وإنما بدىء في الصفا لقوله: "ابدأوا بما بدأ الله" (¬2) ذلك إشارة إلى البناء المذكور. والهاء في {نُوحِيهِ} عائدة إليه، و (الوحي) إعلام في السر، والخطاب يوجب العلم ضرورة {يُلْقُونَ} الإلقاء الطرح والإيقاع، (القلم) القدح سمي به لأنه يبرى، ومنه سمي السهم قلمًا، وقلم الكاتب قلمًا، ومنه (¬3) تقليم الأظفار، والقصة في ذلك أنّ عباد مسجد بيت المقدس وأحباره تنازعوا في كفالله مريم وضربوا بالقداح فخرج سهم زكريا -عليه السلام- (¬4)، وقيل: كانت لهم أقلام من الحديد يكتبون بها وحي الله تعالى فألقوها في الماء فطفا قلم زكريا ورسب سائر الأقلام (¬5)، وإنما جعل الله هذا الخبر إعجازًا لنبينا -عليه السلام- (¬6)؛ لأنَّ هذا النوع من العلم لا يستفاد إلا بالقراءة والكتابة أو بمجالسة أهل العلم أو بوحي من عند الله، وقد عدم منه الوجهان الأولان، فتعين الثالث. ¬

_ = عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. اهـ. ولذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعًا: "خير نساء الجنة مريم بنت عمران". [أخرجه البخاري (3432)؛ ومسلم (2430)؛ والترمذي (3877) وغيرهم]. [تفسير الطبري (5/ 393)؛ الكشاف (1/ 429)]. (¬1) في الأصل: (الرجل). (¬2) رواه مسلم (1218) عن جابر. (¬3) في "ب": (ومنهم). (¬4) روي ذلك عن ابن عباس وقتادة، وفيه: وكان زكريا زوج أختها فكفلها زكريا. [أخرجه الطبري (5/ 454)؛ وابن أبي حاتم (2/ 650)]. (¬5) الذي يظهر أن الأقلام كانت من الخشب وليست من الحديد، وهو الذي تدل عليه رواية الربيع بن أنس، ولم أجد أحدًا ذكر أن عصيَّهم كانت من الحديد. [الطبري (5/ 348)؛ ابن أبي حاتم (2/ 650)]. (¬6) (السلام) ليست في "ي".

{بِكَلِمَةٍ} روح، والروح جوهر لطيف مَسموع بسمع ما فعله الله من غير شيء وأودع كلامه الذي قاله وتكلم به فهو من كلام الله كالنفس من كلام خلقه، ومزية الروح على الريح كمزية النفس على التراب والحياة تركب هذين الجوهرين. وإنما سمي (مسيحًا) لأنّ زكريا مسحه بالدهن ودعا له بالبركة أو (¬1) لأنه تمسّح بصنع يحيى بن زكريا من ماء الأردن أو لمساحه الأرض بسياحته فيها أو لأنه كان يمسح التراب فينام عليه بلا فراش ولا بساط أو لأنه كان يمسح الأكمه والأبرص فيبرآن (¬2) بإذن الله تعالى، أو كان أمسح القدمين غير أخمصهما (¬3). {وَجِيهًا} الوجيه ذو القدرة والجاه {الْمُقَرَّبِينَ} المخصوصين بإمامة الأولياء والخطاب والتوفي من غير موت والتجلي. {وَيُكَلِّمُ} صفة، أي: ومكلمًا في المهد، أي: في حالة الرضاعة حيث قال: إني عبد الله، {وَكَهْلًا} نصب على الحال. والفائدة أنه ولد لثمانية أشهر والعادة جارية أن المولود لثمانية أشهر لا يعيش، وقيل: الفائدة أنه رفع وهو شاب فيكلم الناس كهلًا حين ينزل، والكهل الذي تم شبابه وقارب الشيخوخة وحدّ ذلك بثلاث وثلاثين سنة. واكتهل النبت إذا تم طوله (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: (ولأنه). (¬2) في الأصل و"ي": (فيبرأ). (¬3) اختلف أهل اللغة في سبب تسمية المسيح بهذا الاسم، فقال أبو بكر الأنباري: سمي عيسى مسيحًا لسياحته في الأرض. وقال أبو العباس ثعلب: سمي مسيحًا لأنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، والقولان متقاربان في المعنى. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ. وذكر الأزهري في تهذيبه أنه سمي بذلك لأنه كان أمسحَ الرِّجْل ليس لرجله أخمص، وذكر قولًا آخر أنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن. [المحكم لابن سيده (3/ 218)؛ تهذيب اللغة (4/ 347)؛ اللسان (مسح- 3/ 431)]. (¬4) الكهولة هي إحدى المراحل التي يمر بها الإنسان، فما دام هو في بطن أمه فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، وما دام يرضع فهو رضيع، فإذا بلغ الفطام فهو فطيم، وإذا لم يرضع فهو محوش، فإذا دَبَّ فهو دارج، فإذا سقطت رواضعه فهو ثغور، فإذا نبتت =

{بَشَرٌ} إنسان، روي أن زكريا زوّجها من يوسف بن داود النجار، فلما (¬1) صارت إليه وجدها حبلى قبل أن يباشرها فكف عنها، وكان رجلًا صالحًا فكره أن يغشى عليها وائتمن أن يسرحها خفية، فتزايا له ملك في النوم وبشره بأمر عيسى حقيقة ففرح وسكن إلى أن ولدت، ثم حملها وابنها إلى ناصرة خوفًا من آجاب الملك، وقيل: من هوادش الملك (¬2). {وَرَسُولًا} عطف على قوله: {وَجِيهًا} (¬3)، {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أي: قائلًا إني قد جئتكم، ويحتمل أنه أراد به (¬4) الرسالة؛ لأنّ الرسالة في معنى القول والخلق ها هنا بمعنى (¬5) التأليف والتصوير دون التكوين (¬6)، {الطِّينِ} ¬

_ = بعد إسقاطه فمثغور، فإذا جاوز العشر فمترعرع وناشىء، فإذا لم يبلغ الحلم فيافع ومراهق، فإذا احتلم فهو حَزَوُّر، والغلام يطلق عليه في جميع أحواله، فإذا اخضرَّ شاربه فهو بأقل، فإذا صار ذا لحية ففتيّ وشارخ، فهذا كملت لحيته فهو مُتَجَمِّع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب، ومن الأربعين إلى الستين كهل، أي دون الشيخوخة، فعيسى -عليه السلام- يكلِّم الناس في المهد كتكليمه لهم كهلًا، وبهذا قال قتادة والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير. ويقال للمرأة: كهلة. [الطبري (5/ 412)؛ ابن أبي حاتم (2/ 652)؛ الدر المصون (3/ 180)]. (¬1) في "ب": (فلما وصلت صارت). (¬2) هذه القصة من قبيل الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب كما مر بنا، كما أنني لم أعثر عليها في كتب التفاسير التي بين يدي، وقد تكرر من المؤلف الجرجاني نقله العديد من القصص والأخبار التي لم نعثر لها على أصل في كتب المصادر والمراجع. (¬3) وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يعرب "رسولًا" حالًا كأنه عطف على "يعلمه" بالمعنى. وقيل إن "رسولًا" مفعول به لفعل محذوف التقدير: ويجعله رسولًا، فهو مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحَشر: 9] أي: واعتقدوا الإيمان. وقول الشاعر [وهو منسوب لذي الرمة]: علفتها تِبْنًا وماءً باردًا ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها أي: وسقيتها ماءً باردًا، وهذا اختيار النحاس في إعرابه. [الدر المصون (3/ 186)؛ إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (1/ 334)]. (¬4) في "ب": (ويحتمل أنه أرادا الرسالة). (¬5) في "ب": (هاهنا حتى التأليف). (¬6) الأصل أن صفة الخلق ينفرد بها الخالق سبحانه وتعالى، ولكن أراد المولى -عَزَّ وَجَلَّ- أن تكون معجزة لنبينا عيسى -عليه السلام- فينفخ في الطير الذي كوَّنه من هذا الطين فيكون طيرًا =

التراب المؤلف بتأليف دون الحجر، {كَهَيْئَةِ} أي: مثل هيئة، والهيئة كيفية البنية، يقال: هاء ويهاء وهيئة (¬1)، و (النفخ) تعجل النفس وغيره، والهاء عائدة إلى المثال أو الطين. (الإبراء) إزاحة (¬2) الضرر من مرض أو دين، و {الْأَكْمَهَ} الذي ولد أعمى، {وَالْأَبْرَصَ} الذي به برص وهو داء تبيضُّ منه البشرة، وأما بياض يد موسى نفى الله عنها الداء (¬3) حيث قال: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] و (الادخار) افتعال من الدخر، فالدخيرة ما تعد لنا في الحال من متاع ونحوه، وكانوا يدَّعون معرفة الله تعالى فقال: إن كنتم تعرفون الله ففي هذا آية لكم لأن من صفة المعروف جل ذكره أن لا يفعل الإعجاز دعوة إلا لنبي مختار مخير. {وَمُصَدِّقًا} معطوف على قوله: {بِآيَةٍ} أو مقترنًا أو معجزًا بآية من ربكم، وهو حال للمجيء، و (أحل لكم) معطوف على مصدقًا، أي: لأصدق ولأحل وهو لحوم الإبل والثروب وبعض الطيور والحيتان. عن سعيد بن جبير وقتادة ووهب (¬4)، وهذا يدلّ أنّ الله أحل لهم طيبات حرم الله على اليهود، ولم يحل لهم الظلم والعدوان والكفر، والأب في كلام عيسى -عليه السلام- (¬5) هو الفاعل لأنّ الرجال تكنى بأفعالهم؛ كني النبي -عليه السلام- (¬6) أبا القاسم لقسمه بين الناس رزق الله تعالى، وكني علي أبا تراب لاضطجاعه على التراب مرة (¬7)، ¬

_ = بإذن الله كما يدلُّ عليه ظاهر الآية. فأصل التكوين هو من عند الله ولكن الله أسند فعله إلى نبينا عيسى -عليه السلام- لتظهر المعجزة على يديه. (¬1) (هاء ويهاء وهيئة) ليست في "ب". (¬2) في "ب" بدل (إزاحة): (إزالة). (¬3) (عنها الداء) من "أ". (¬4) أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (5/ 341) بسند حسن، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 657). والثروب جمع ثَرْب وتجمع قلة على أثْرُب، وجمع الجمع على أثارب، ومعناه: الشحم الرقيق الذي يغشِّي الكرش والأمعاء. [لسان العرب (1/ 234) "ثرب"]. [المحكم (10/ 142)؛ النهاية (1/ 208)]. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) قصته عند البخاري (6204، 3703).

وكني أنس أبا حمزة لأنه كان يجتنى بقلة فسمى (¬1) حمزة، ويقال للأرض: أم لأنها مبتدأ الخلق، وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} [القارعة: 9] أي: مآله، ويقال: ابن كذا، أي: مبلغ زمان بقائه فسمي ابنًا من غير ولادة. {فَلَمَّا أَحَسَّ} الإحساس من النفس كالعقل من الروح، وهو مستعمل في معنى الرؤية والسمع والعلم (¬2)، قوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]، وقوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102]، وقال - صلى الله عليه وسلم - (¬3) لرجل: "متى أحسست أم ملدم؟ "، يعني: الحمى (¬4). وقوله: {مَنْ أَنْصَارِي} على وجه الحث والإغراء {إِلَى اللَّهِ} كقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}؟، ويقال (¬5): (الذود إلى الذود إبل)، وقيل: {مَنْ أَنْصَارِي} في السبيل، أي: مرضاته. وقيل: من أنصاري إلى الله، كقوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: (نقله تسرى) ولا معنى له. (¬2) من فَسَّر الإحساس في هذه الآية بالوجد كابن جرير في تفسيره، وغيره لا ينافي ما ذكره المؤلف لأنهما بمعنى واحد، وقد يطلق "الحِسّ" على العطف والرقة، ومنه قول الكميت: هل مَنْ بكى الدارَ راجٍ أَنْ تَحِسَّ له ... أو يُبْكِيَ الدَّارَ ماءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ ويكون الإحساس بالإدراك ببعض الحواس الخمس وهي: الذوق والشم واللمس والسمع والبصر. وقال الفراء: إذا قلت: حَسَسْت، بغير ألف فهي في معنى الإفناء والقتل، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عِمرَان: 152]. [تفسير الطبري (5/ 435)؛ معاني القرآن للفراء (1/ 216)؛ شعر الكميت بن زيد الأسدي (2/ 12)]. (¬3) في الأصل و"أ": (-عليه السلام-)، وفي "ي": (عليه)، والمثبت من "ب". (¬4) رواه الإمام أحمد (2/ 366)؛ وأبو يعلى في المسند (6556)، والحديث ضعيف من هذا الوجه. (¬5) (ويقال) ليست في الأصل. (¬6) أي أن "إلى" بمعنى اللام كما يدلُّ عليه ظاهر الآية، ولذا قدر أبو علي الفارسي قوله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [يُونس: 35] أي: للحق.

{الْحَوَارِيُّونَ} قال ابن عباس: سموا بذلك لبياض ثيابهم (¬1)، وكانوا يصطادون السمك، وكان أفضلهم شمعون الصفا، فقال لهم: تصحبونني فتصطادوا الناس فآمنوا به. وعن الضحاك أنهم كانوا قَصَّارين محوَّري الثياب (¬2)، وعن عطاء أن مريم أسلمته إلى كبير القصّارين ليتعلم الحرفة، فتعلم عنده أيامًا، ثم عرض لهذا (¬3) الأستاذ بسفر مدة عشرة أيام فدفع أثوبة (¬4) الناس إلى عيسى -عليه السلام-، وأمره بأن يصنع كل ثوب منها بلون آخر وأن يغسل بعضها فجعل جميعها في جبّ واحد. قال لها: تكوني (¬5) بإذن الله كما أريد، فلما رجع الأستاذ طالبه بالأثوبة، فأشار إلى جب واحد ففزع الأستاذ وضاق ذرعًا، وقال: أيها الصبي أفسدت أثوبة الناس، قال -عليه السلام- (¬6): قم وانظر، فجعل الأستاذ يخرج الأثوبة بعضها مغسولًا وبعضها مصبوغًا بألوان مختلفة من صبغ واحد، فعلم أنه من فعل الله فآمن هو وأصحابه بعيسى -عليه السلام- (¬7)، فهم الحواريون، [ثم لقب هذا اللقب كل ناصر لنبي، حتى قال النبي -عليه السلام- (¬8): "لكل نبي حواري وحواري طلبة والزبير (¬9) "] (¬10)، وقيل: الحواري المتجرد ¬

_ = وذهب سفيان الثوري وغيره إلى أن "إلى" بمعنى مع. أي: من أنصاري مع الله. وردّه الزجاج وقال: ليس بشيء لأن "إلى" للغاية و"مع" تضم الشيء إلى الشيء. [معاني القرآن للزجاج (1/ 416)؛ تفسير ابن كثير (1/ 449)؛ الدر المصون (3/ 208)]. (¬1) علَّقه البخاري ووصله ابن جرير (3/ 287)؛ وابن أبي حاتم (3568). ورواه الطبري (5/ 442) عن سعيد بن جبير. (¬2) رواه ابن أبي حاتم (3569). والحَوَر عند العرب شدة البياض، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين: أحور، وللمرأة: حوراء. (¬3) في الأصل: (لهذا). (¬4) في الأصل و"أ": (لثوبة). (¬5) في الأصل: (كوني). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) (السلام) ليست في "ي". (¬9) صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لكلِّ نبيٍّ حواريَّ، وحواريَّ الزبير" أخرجه البخاري (2847)، ومسلم (2415) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وليس فيه ذكر طلحة كما ذكر المؤلف. (¬10) ما بين [...]، ليست في الأصل.

للنصرة المتمحض في الموالاة. وقال الأزهري (¬1): هم (¬2) خُلْصَان الأنبياء (¬3). وتأويله: الذين أخلصوا ونُقُّوا عن كل عيب (¬4)، {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أولياؤه {وَاشْهَدْ} وإنما طلبوا منه ذلك لتحقيق الموالاة وتبركًا ليتأكد حالهم بها. {فَاكْتُبْنَا} أي فاكتب أسماءنا مع أسماء المؤمنين (¬5)، وقيل: المراد بالشاهدين: الشهداء (¬6). {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} عامل بالظرف، والمكر إيصال الشرّ في السرّ، فمكرهم ما احتالوا في قتل عيسى وفي صلبه، {وَمَكَرَ اللَّهُ} صونه عيسى عن بأسهم وصرفه الشرّ إليهم في الدنيا والآخرة من حيث لا يشعرون (¬7)، وإنما قيل: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} لأن إيصال الشر ما يمدح وذلك ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (الزهري)، وهو خطأ. (¬2) في الأصل: (نعم)، وهو خطأ. (¬3) ذكره عن الأزهري النووي في شرح مسلم (2/ 28)، وابن الأثير في "غريب الحديث" (1/ 458). وذكره ابن منظور في "لسان العرب" (4/ 220) عن الزجاج. وذكره القرطبي في تفسيره (6/ 364) دون أن يعزوه لأحد. (¬4) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (5/ 228) ونقله عن الزجاج وقال: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حواريون. وقال أبو عبيد: إن أصل هذا كان بَدْؤُهُ من الحواريين أصحاب عيسى -عليه السلام- سمُّوا بذلك لأنهم كانوا يغسلون الثياب يحوِّرونها أي يبيضونها، ومنه امرأة حوارية إذا كانت بيضاء. قال ثعلب عن ابن الأعرابي: الحواريون: الأنصار، وهم خاصة أصحابه. قال ابن كثير (1/ 449): والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال: "إن لكلِّ نبيٍّ حواريًا وحواريَّ الزبير". (¬5) قاله ابن جرير في تفسيره (5/ 445)، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عِمرَان: 53] قال: مع أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن كثير: إسناده جيد. [تفسير ابن كثير (1/ 449)؛ ابن أبي حاتم (3577)؛ الطبراني في الكبير (11732)]. (¬6) لم أجد أحدًا من المفسرين ذكر أو تبنى هذا القول، بل ذكر الرازي في تفسيره سبعة أقوال ليس في واحد منها ما ذكره المؤلف، فلا أدري على من اعتمد في هذا القول. (¬7) في "ب": (لايشعر).

إذا كان مع العدو من غير غدر وخيانة، فالله متصف به خير الماكرين (¬1). {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} قيل: أمات الله عيسى ثلاث ساعات (¬2) ثم أحياه ورفعه من غير صلب ولا قتل وأُلقي (¬3) مثاله على غيره (¬4)، وقيل: متوفيك: قابضك، وقال الفراء: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها: إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا (¬5)، أي: في الحال، ومتوفيك: أي (¬6) بعد الزوال، وقال السدي (¬7): المصلوب رئيس من رؤساء اليهود دخل ليخرج عيسى -عليه السلام- (¬8) من بيته فألقى الله مثاله عليه ورفعه -عليه السلام- (8)، وقيل: المصلوب هو الموكل الذي كان عليه رقيبًا، وقيل: المصلوب الذي ارتدّ من الحواريين وشقي بعيسى -عليه السلام- ودلّ اليهود عليه، وقيل: إنّه أخبر برفعه فاتخذ ضيافة لأصحابه وأطعمهم ثم أتى بماء فتطهروا به، ثم طلب منهم أن يسألوا الله تعالى تبقيته فيما بينهم وخرج من عندهم ثم اطلع عليهم فوجدهم هجوعًا فأعاد الماء إليهم وأيقظهم، وطلب منهم أن يتطهروا ثانيًا ¬

_ (¬1) ذكر الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان" (1/ 342) أن الله لم يبين في هذه الآية مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النِّساء: 157] وبيَّن أن مكر الله بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158،157]. وصفة المكر لا تثبت إلى الله إلا مضافة، فلا يوصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالماكر لأنها صفة ذميمة يتنزه عنها المخلوق فضلًا عن الخالق، ولكن يوصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها مضافة فيقال: ماكر بالكافرين. (¬2) في "ب": (مرات) بدل (ساعات). (¬3) في "ب": (وألقى الله). (¬4) روي ذلك عن وهب بن منبّه اليماني. أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 450) وسنده ضعيف. (¬5) معاني القرآن للفراء (1/ 219). (¬6) في "ب": (إلي). (¬7) أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 654) عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ...} [النساء: 157] وأخرجه البغوي في تفسيره (2/ 45). (¬8) (السلام) ليست في "ي".

ويسألوا الله تبقيته فيما بينهم، فتطهروا وتشمروا للصلاة والدعاء، وخرج عيسى -عليه السلام- ثم التفت إليهم فوجدهم سامدين نائمين، فأعاد الماء إليهم وأمرهم أن يتطهروا وقال: سبحان (¬1) الله أما عهدت إليكم منشورًا منه (¬2)، وتطهروا وقصدوا للصلاة والدعاء فخروا نائمين، فعند ذلك أيقن عيسى -عليه السلام- (¬3) بأنه لا محالة مرفوع، وقال: مَنْ الذي يفديني بنفسه ويكون معي في الجنة؟ فاختار ذلك شمعون، فألقى الله تعالى مثاله -عليه السلام- (3) ورفع عيسى -عليه السلام- (¬4) (¬5). وروي أن مريم جاءت بالليل تحت الصليب مع طائفة من الحواريين يبكون وينوحون (¬6) فأظهر الله تعالى لهم عيسى حيًا غير مصلوب حتى كلمهم وبشرهم بسلامة نفسه وبأنّه راجع إلى الدنيا، ووجه أولئك الحواريين إلى البلاد وأوصى إلى كل واحد وصيته (¬7). {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [اليهود والنصارى، أما اليهود] (¬8) فلدعوتهم صلب عيسى -عليه السلام- (¬9) وغير ذلك، [وأما النصارى فلتسليمهم دعوى اليهود وبغير ذلك. {ذَلِكَ} إشارة] (¬10) إلى ما سبق و {نَتْلُوهُ} خبر له والباقي خبر ثانٍ، ¬

_ (¬1) في الأصل: (سبحانك). (¬2) العبارة في الأصل مضطربة، والمثبت من "ي" "أ"، وفي "ب" سقطت (إليكم). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرج هذه الرواية الطبري في تفسيره (7/ 653) عن وهب بن منبه مطولة بأكثر مما ذكره المؤلف، وأخرجها أيضًا في تاريخه (1/ 601)، وذكرها ابن كثير في تفسيره (2/ 401) وقال: سياق غريب جدًا. (¬5) (السلام ورفع عيسى -عليه السلام-) ليست في "ب". (¬6) في الأصل: (وينوخون). (¬7) انظر أخبار عيسى - صلى الله عليه وسلم - ورفعه في كتاب "قصص الأنبياء" للحافظ ابن كثير ص 560 - 567. (¬8) ما بين [...]، ليست في "أ". (¬9) (-عليه السلام-) من "ب". (¬10) ما بين [...]، ليس في "ب".

أو {ذَلِكَ} (¬1) معنى الذي، و {نَتْلُوهُ} (¬2) صلة له والخبر قوله {مِنَ الْآيَاتِ}، {الْآيَاتِ} (¬3) آيات الله {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} الذي يفيد الحكمة، قيل: إنّ (¬4) وقد نجران قالوا لرسول الله -عليه السلام- (¬5): إنك سبيت صاحبنا سميته عبدًا، فقال -عليه السلام- (5): "ليست العبودية بعار على أخي"، قالوا: أرنا عبدًا مثله وجد بغير أب، فضرب الله تعالى هذا المثل (¬6). وقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} الآية، شبهه بآدم في الوجود من غير أب فقط كما شبه الهلال بالعرجون والكفار بالأنعام، و {آدَمَ} معرفة (¬7)، {خَلَقَهُ} كلام مستأنف ليس بصفة ولا حال، فيكون تقديره فصار تكون ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (وذلك). (¬2) قوله: "ذلك نتلوه" لها عدة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أن يكون "ذلك" مبتدأ و"نتلوه" خبر. و"من الآيات" حال أو خبر بعد خبر. الوجه الثاني: أن يكون "ذلك" منصوبًا بفعل مقدر يفسره ما بعده فتكون المسألة من باب الاشتغال، و"من الآيات" حال أو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو من الآيات. الوجه الثالث: أن يكون "ذلك" خبرأ لمبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك و"نتلوه" حال من اسم الإشارة. الوجه الرابع: أن يكون "ذلك" موصولًا بمعنى الذي و"نتلوه" صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده، التقدير: الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي: المعجزات الدالة على نبوتك، وجوَّز ذلك الزجاج والزمخشري، وهو مذهب الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون ذلك. [معاني القرآن للزجاج (1/ 427)؛ الكشاف (1/ 433)؛ الدر المصون (3/ 216)]. (¬3) (الآيات) ليست في "ب". (¬4) (إن) ليست في "ب". (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) رواه الطبري في التفسير (5/ 460) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكذا رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3606). (¬7) وهو اسم أعجمي غير مشتق على وزن فاعل، ومنع من الصرف هنا للعلمية والعجمى. وهذا أرجح الأقوال، وذهب ابن سيده إلى أنه مشتق وأنه سمي بذلك لأنه خلق من أدمة الأرض، وقال بعضهم: لأُدْمَةٍ جعلها الله فيه، وهو معرفة كما قال المؤلف. [المحكم (9/ 390)].

شيئًا بعد شيء على التدريج وكأنه لم يكن حيًا دفعة واحدة، وذلك سنة الله في خلق الأشياء (¬1) للتمكين من الاعتبار (¬2)، وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {كُنْ}، ثم ابتدا فقال: {فَيَكُونُ} أي: يكون (¬3) كل مأمور بأمر. فلما نزلت {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} دعا -عليه السلام- (¬4) وقد نجران إلى المباهلة وخرج بنفسه متيقنًا بما أوحى إليه ربه، معه علي وفاطمة والحسن والحسين، ولم يخرج وقد نجران وتكعكعوا عن ذلك لما كان فيهم من التشكيك والظن، فقال -عليه السلام- (4): "لو خرجوا للمباهلة لاضطرم (¬5) الوادي عليهم نارًا"، وجعل آله تحت كسائه ثم دعا فقال: "اللَّهم هؤلاء آلي والِ مَنْ والاهم وانصر مَنْ نصرهم واخذل من خذلهم" ورجع مستجابًا له بفضل مِنَ الله ورحمته، والتزم وقد نجران الجزية وصالحوا على الفيء حلة وثلاثين درعًا عادية من حديد (¬6). {تَعَالَوْا} هلموا، والتعالي إلى الشيء التقارب منه على سبيل العلو حقيقة وعلى غيره (¬7) مجازًا، والتعالي عن الشيء: التباعد منه على سبيل ¬

_ (¬1) في "ب": (الشيء). (¬2) الذي يظهر- والله أعلم- أن جملة "خلقه من تراب" بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه وكيف كان. وهذا اختيار ابن جرير الطبري. [الطبري (5/ 463)]. (¬3) (يكون) من "أ". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل: (لا اضطرم). (¬6) حديث المباهلة مع وفد نجران وقع عند البخاري (7/ 965 - ك المغازي، باب قصة أهل نجران)؛ ومسلم (2420 - ك فضائل الصحابة، باب فضل أبي عبيدة) يختلف تمامًا عن اللفظ الذي ذكره المؤلف وهو عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنَّا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، فقال: "لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين". فاستشرف له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح". فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أمين هذه الأمة". (¬7) في "ب": (على غير).

العلو والرفعة حقيقة لا مجاز له، و (الابتهال) المبالغة في الدعاء بالشر، ويقال: عليه بَهْلَةُ الله، أي: لعنته (¬1). {الْقَصَصُ} الأخبار، والاسم منه قصة والجمع منه قصص وإنه في معنى التلاوة، وقوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتبعي أثره. وفي فحوى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} تهديد للمتولِّين فإنهم مفسدون. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} خطاب لوفد نجران، عن الحسن والسدي وابن زيد (¬2): واليهود (¬3)، عن قتادة والربيع وابن جريج (¬4): ولأهل الكتابين (¬5) في الظاهر، {إِلَى كَلِمَةٍ} المقالة التي هي قاعدة الدين والأمر هو التوحيد ثم ابتدعت اليهود فادعت اتخاذ الولد كاتخاذ الولي والخليل والبيت فلم يعلموا أن ما ادعوه يقتضي المشابهة أولًا وهو شرك بخلاف اتخاذ الولي والخليل (¬6)؛ لأنه يقتضي إرادة الخير بخلاف اتخاذ البيت لأنه يقتضي اتخاذ متعبد للعبادة (¬7). وابتدعت النصارى فزعمت أن الله تعالى هو الروح تزوج بمريم وهي النفس فتولد منها المسيح وهو العلم، وزعم بعضهم أن المسيح ¬

_ (¬1) أصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه لله عز وجل، قاله ابن سيده. وهي افتعال من البُهْلَة. وخُصَّ في هذه الآية بالملاعنة بين خصمين يوقع أحدهما بالآخر اللعنة إن كان كاذبًا كما يدلُّ عليه ظاهر الآية. ثم تُجُوِّزَ فيه فاستعمل في الاجتهاد في الدعاء المطلق، قاله الزمخشري. [الكشاف (1/ 434)]. (¬2) أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (5/ 475) إلا الحسن فلم أجد من ذكره عنه. (¬3) في "ي" "أ" والأصل: (واليهود). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم (3636) عن مجاهد قال: اليهود. وأما ما ذكره المؤلف عن قتادة والربغ وابن جريج فأخرجه الطبري عنهم في تفسيره (5/ 474)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (3628). (¬5) في الأصل: (والأهل). (¬6) في الأصل: (والمثيل). (¬7) في "أ" "ب" "ي": (للعباد).

عينه جل في العالم، ولم يعلموا أن الله سبحانه وتعالى متعال تقدس (¬1) عن الازدواج والانفصال والتغير والانتقال تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. {سَوَاءٍ} عدل (¬2) وكذا سوًى وسوى. وقيل: سواء مصدر أقيم مقام الصفة ومعناه كلمة مستوية (¬3)، {أَلَّا نَعْبُدَ} (¬4) تفسير الكلمة ويدل عليها {اشْهَدُوا} يقتضي التمحيص في مخالفة الخصم، تقول لخصمك: اشهد عليّ بما أقول وحدث به عني (¬5) من شئت. و (محاجتهم في أمر إبراهيم -عليه السلام- (¬6) قد سبق في سورة "البقرة"؛ وإنما دلَّ نزول الكتابين بعده على أنه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا لأنه لم يكن فيهما (¬7) ذلك، ولو كان على أحدهما لذكر كما ذكر في القرآن أنه كان مسلمًا ووصفه فيهما (¬8) بالطاعة والانقياد ولا محالة وهو الإِسلام، وكانوا يزعمون أن اليهودي الذي لزم السبت والنصراني الذي لزم الصليب ولم يكن هذان (¬9) في عصر إبراهيم -عليه السلام- (6). وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} على معنى اللوم والتسفيه. {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ} والمراد بمحاجتهم فيما لهم به علم زعمهم ذلك بعد التبديل والتحريف على قراءة قنبل، ومحاجتهم المشركين قبل أن ¬

_ (¬1) في الأصل: (تقدير). (¬2) وهي قراءة عبد الله بن مسعود حيث قرأ {إلي كلمة عدل} وهي قراءة شاذة وربما هي تفسير لا قراءة. [البحر المحيط (2/ 483)؛ الشواذ ص 21؛ الدر المصون (3/ 232)]. (¬3) الأشهر استعمال "سواء" بمعنى اسم الفاعل، أي: مستوٍ. وبذلك فسَّرها ابن عباس فقال: إلى كلمة مستوية. [الطبري (5/ 477)؛ البحر المحيط (2/ 483)؛ الدر المصون (3/ 233)]. (¬4) في "ب": (أن لا نعبد). (¬5) (عني) ليست في "ب". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في الأصل: (فيهم). (¬8) في الأصل: (فيها). (¬9) في الأصل و"ب": (هذا).

غيروا وبدلوا أن جعلنا آلهًا، ومحاجتهم المشركين بعد التحريف بما لم يحرفوا ولم يبدلوا، ومحاجتهم عامة المشركين فيما لم ينزل الله في القرآن من الشرائع التي بعثت غير منسوخة (¬1). {أَوْلَى (¬2) النَّاسِ} أقربهم (¬3) به، {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في عصره لأنهم كانوا أمته، وهذا النبي -عليه السلام- (¬4)؛ لأنه كان دعوته والمصلي إلى قبلته والآخذ في الحج بسنته (¬5). {وَالَّذِينَ آمَنُوا} لموافقتهم (¬6) إياه بالإيمان والاستسلام لأمر الله طائعين وهم الأنبياء -عليهم السلام - كلهم وكل عبد مؤمن في السماء والأرض. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} نزلت في مثل ما نزل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬7) و (الإضلال) ها هنا بالخدع. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بأن الله قادر على ما يشاء ولا ينبئكم بمثل هذه الآيات أو تشهدون بخروج النبي -عليه السلام- (4) وتشاهدون الآيات وقت بدوها. ¬

_ (¬1) الأظهر في معنى الآية أن محاجَّتهم فيما لهم به علم من أمر دينهم الذي وجدوه في كتبهم مما أتت به رسلهم. وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم أي فيما لا علم لهم به من أمر إبراهيم ودينه ولم يجدوه في كتب الله ولا أتت به أنبياء الله، وهذا اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 484). (¬2) في الأصل: (أو إلى). (¬3) في الأصل: (أقربها). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) (بسنته) ليست في "أ". (¬6) في الأصل: (لوافقتم). (¬7) وسبب النزول هو ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت في نفر من اليهود، قالوا للمسلمين بعد وقعة أُحُد: ألم تروا إلى ما اْصابكم؟ لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم. قال الحافظ ابن حجر: هذا لعله من تفسير الكلبي، والذي ذكره ابن إسحاق أقوى سندًا منه. ولفظه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان حُيَي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدًا إذ خَصَّهم الله تعالى برسوله، وكانا جاهدين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله هذه الآية: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ...} [البقرة: 109]. [أسباب النزول للواحدي ص 35؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر ص 169].

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قيل: إن اليهود أرادوا تشكيك المؤمنين بهذه (¬1) الحيلة ليشتبه (¬2) الأمر على المؤمنين فيرتدوا بارتدادهم ويشكوا بتشكيكهم، وقيل: أرادوا التقية ورد المؤمنين عن أنفسهم بإظهار الإيمان بما لا (¬3) يوافق شرائعهم كاستقبال القبلة الأولى ونحوه، {وَجْهَ النَّهَارِ} أوله، وإنما خصوا آخر النهار بالكفر لأن النبي -عليه السلام- (¬4) تحول إلى الكعبة في الظهر أو العصر فخص بخاص ويتخذ خاصته. {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} نازلة عند قتادة والسدي (¬5) وغيرهما في تنويع أهل الكتاب وذم قوم منهم لا يوفون بعهودهم مع العرب قاطبة، وكذلك سائر الأمم من غير أهل الكتاب ويرون الخيانة حلالًا ويحتجون بأنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: لا حكم ولا حجة علينا في كتابنا في أخذ أموال الأميين، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في إباحة نقض العهود وتحليل الغدر والخيانة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله أمر بالوفاء والأمانة على الإطلاق ولم ينزل في تركهما إباحة إذ هو باقٍ على أصل الحظر ومظنة (¬6) العقل، ولذلك لا يجوز في الإِسلام لمن دخل دار الحرب بأمان أن يسرق أو يخون، وعن مجاهد والحسن (¬7) أنّها في قوم من اليهود عاملوا المشركين، (لمقت الله) (¬8) اليهود حقوقهم وقالوا: إنكم بدّلتم دينكم و {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ (¬9) سَبِيلٌ} في منع حق من بدل دينه (¬10). و (الدينار) اسم ¬

_ (¬1) في الأصل: (بتلك). (¬2) في "ب": (وليشتبه). (¬3) (لا) ليست في "ب" "ي". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (5/ 509)؛ وابن أبي حاتم (3709). (¬6) في "ب": (قضية). (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3705)، ونقله السيوطي في الدر المنثور عنه (3/ 629). (¬8) هذه العبارة لم أفهم معناها. (¬9) في "ب" "ي" بدل الأميين (في كتابنا)، وفي "أ" (فراغ). (¬10) هذا الأثر لم أجده عن الحسن ومجاهد ولم أجده بهذا اللفظ، وأقرب شيء وجدته ما =

المضروب من الذهب للمعاملة (¬1) و (الدوام) امتداد الحال، وفي صفات الله صفة بنفي حدوث الحال. وفي قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} تأليف استمالة لقلوب المؤمنين بالعهد بل إضراب عن الكلام الأول، و {مَنْ أَوْفَى} مبتدأ وهو شرط (¬2)، {وَاتَّقَى} زيادة في الشرط، جوابه {فَإِنَّ اللَّهَ} وإنما (¬3) لم يقل: فإن الله يحبه لنظم الآي ولم يقل: يحب الموفين بالعهود والمتقين؛ لأن الوفاء بعض التقى فهو داخل فيه. {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} نزلت في كنانة بن أبي الحقيق وأبي (¬4) رافع وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب عن عكرمة (¬5)، وفي الذين قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} وكتبوا بأيديهم وزعموا أنه (¬6) من التوراة عن الحسن (¬7). وقيل: نزلت في الأشعث بن قيس وخصمه حين ¬

_ = أخرجه الطبري (6/ 523) عن سنيد من طريق ابن جريج، قال: تبايع اليهود ورجال في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عِمرَان: 75] يعني اليهود. وهو عند مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 179) قريبًا منه. (¬1) أصل "الدينار" دِنَّار - بنونين- فاستثقل توالي مثلين فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفًا لكثرة دوره في لسانهم، ويدلُّ على ذلك رده إلى النونين تكسيرًا وتصغيرًا في قولهم: دنانير ودنينير، ومثله قيراط. والدينار مُعَرَّب وهو أربعة وعشرون قيراطًا، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلة، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرة. [المعرَّب للجواليقي ص 187؛ الكشف (1/ 349)؛ الدر المصون (3/ 261)]. (¬2) هذا ما اختاره الزجاج وغيره أن جملة "من أوفى ... " مستأنفة. و"من" شرطية ويجوز أن تكون "من" موصولة كما قال السمين الحلبي. [معاني القرآن للزجاج (1/ 434)؛ الدر المصون (3/ 269)]. (¬3) في "ب": (إنما) بدون الواو. (¬4) في "ب": (وابن) وهو خطأ. (¬5) أخرجه الطبري (5/ 516) عن عكرمة، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص 82. (¬6) في "ب": (أنها). (¬7) عن الحسن لم أجده.

اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بئر (¬1)؛ عن ابن جريج (¬2)، وفيمن نفق سلعة بيمين فاجرة (¬3)، عن الشعبي (¬4). وروى الكلبي: أنها نزلت في امرئ القيس بن عابس (¬5) الكندي وعبدان، وقيل: عيدان (¬6) بالياء ابن أشوع الحضرمي اختصما في أرض كانت في يدي امرئ القيس ولا بينة لعيدان. وقد همّ امرؤ القيس أن يحلف فأنزل الله الآية، فنكل وأقر فأنزل الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97] وقيل: أخصم (¬7) امرؤ القيس ربيعة بن عبدان (¬8)، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} أي: يناجيهم مناجاة أوليائه ولا ¬

_ (¬1) من قال أنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصمه استدلَّ بحديث ابن مسعود مرفوعًا: قال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمينٍ هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقيَ الله وهو عليه غضبان" فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ، فجحدني، فقدَّمْتُهُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قلتُ: لا. فقال لليهودي: "احْلِفْ" قلت: يا رسول الله إذنْ يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الآية. [أخرجه البخاري (2416)؛ ومسلم (138)؛ وأحمد (6/ 81)؛ وأبو داود (3243) وغيرهم]. (¬2) رواية ابن جريج عند الطبري (6/ 531) وأصلها في البخاري (5/ 33) الفتح، ومسلم (1/ 122 - 123)، وأحمد (1/ 3791). (¬3) يشير بذلك إلى حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - كان يقول: من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار، فقال له قائل: شيء سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال لهم: "إنكم لتجدون ذلك، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...} [آل عمران: 77] الآية. [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 520)؛ والإمام أحمد في مسنده (4/ 436)؛ وأبو داود (3242) وغيرهم]. (¬4) لم أجده عن الشعبي. (¬5) في جميع النسخ (عياش)، وهو خطأ. (¬6) الصحيح (عيدان). (¬7) في جميع النسخ (خصم)، والمثبت من "ب". (¬8) وسبب النزول هذا -أعني من قال أنها نزلت في امرئ القيس والحضرمي- أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (17718)؛ والنسائي في الكبرى (5996)؛ والطبراني في الكبير (17/ 108)؛ والبيهقي (10/ 254) عن عدي بن عميرة.

يخصهم بالخطاب، {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} لا يقبل إليهم بالرحمة، بل يخذلهم و (¬1) يعرض عنهم بلا كيفية. {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} نزلت في اليهود حيث قدروا ما شاؤوا في التنزيل مضمرًا متأولين، ثم أظهروه وتلفظوا به وزعموا أنه من التنزيل أيضًا (¬2) وكذلك فعلت النصارى، و (الليّ): التحريف (¬3)، وتلوَّت الحية إذا تثنت، ولؤى الغريم ليًا إذا ماطل وأخلف الموعد (¬4)، (الألسنة) جمع لسان وهو آلة النطق. {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نزلت في وفد نجران وأحبار المدينة حيث تناظروا ثم أقبلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) فقالت اليهود: ما تريد منا إلا ما أراد عيسى من هؤلاء فاتخذوه ربًا، وقالت النصارى: ما تريد منّا إلا أن نتخذك ربًا كما اتخذ هؤلاء عزيرًا، ربًا فكذّب الله الطائفتين وأنزل {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} (¬6) وسعًا أو حكمًا، ويقول: نصب عطف على {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ} (¬7)، {تُعَلِّمُونَ} من ¬

_ (¬1) في "ب": (أو). (¬2) رواه الطبري (5/ 522) عن ابن عباس وقتادة. (¬3) في النسخ (في التحريف)، والمثبت من "ي". (¬4) أصلُ اللَّيِّ: الفتل والقلب من قول القائل: لوى فلان يدَ فلان إذا فتلها وقلبَها، ومنه قول الشاعر [وينسب لفرعان بن الأعرف أبو منازل]: تَغَمَّدَ حقي ظالمًا، ولوى يدي ... لوى يَدَهُ الله الذي هُوَ غَالِبُهْ ثم استعمل في الرأس فقالوا: لوى رأسه أي أمال وأعرض، ومنه قوله تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5]، ثم استعمل في اللسان كما في هذه الآية: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران: 78] أي يحرفونها ويزيدون، هكذا رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. [المحكم (10/ 453)؛ اللسان (لوي 12/ 370)؛ الطبري (5/ 522)؛ ابن كثير (1/ 462)]. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) أخرجه ابن هشام في السيرة (3/ 91)؛ وابن جرير (5/ 524)؛ وابن أبي حاتم (3756)؛ وابن المنذر (2/ 46/ در)؛ والبيهقي في الدلائل. (¬7) وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد وأبو عمرو في رواية محبوب (يقولُ) بالرفع، وخرجوها على القطع والاستئناف، لكن القراءة المشهورة هي النصب. [البحر (2/ 506)؛ المحرر (3/ 137)].

التعليم، والرباني منسوب إلى الربان، [وهو المدبّر القائم بالمصالح، ولم يجىء فعلان من فعل بكسر العين إلا هذا، وقيل: هو منسوب إلى الرب] (¬1)، والألف والنون زائدتان كما يقال: لحياني ورقباني، ويجوز أن ينسب إلى الله على سبيل التخصيص كما يقال: علم الإلهي وهو مثل الإضافة (¬2)، {وَبِمَا كُنْتُمْ} إثبات للحال وليس بإخبار عن ماض، (والدرس) كالنسخ والمحو، ودرس العلم حفظه ونقله من الكتاب إلى القلب (¬3) مجازًا. {أَيَأْمُرُكُمْ} استفهام بمعنى الإنكار، ويحتمل أن (إذ) (¬4) للمستقبل من الزمان كقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} [المائدة: 116] فتقديره: إذا هو يأمركم بالكفر بعد أن تسلموا بأمره على معنى الإحالة. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} أضاف إليهم لأنه أخذ الميثاق لأجلهم أو أخذ ميثاق الأمم دون الأنبياء ولقد صرح ابن مسعود وقرأ: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} حتى ظن مجاهد أن قراءة ابن مسعود هو لفظ القرآن وأن ما انعقد الإجماع من سهو الكاتب وليس كما ظن مجاهد؛ ولأنّ هذا اللفظ يحتمل ما يحتمله لفظ ابن مسعود ولا يتعدى دخول الأنبياء مع الأمم في حكم الميثاق كدخولهم معهم في حكم ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "ب" "ي". (¬2) الربانيون: جمع رباني، وفي معناه قولان: القول الأول: أنه منسوب إلى الرَّب، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كما يقال في رقباني لغليظ الرقبة، وشعراني لكثير الشعر، ولحياني لكثير اللحية، وهذا المعنى أشار إليه سيبويه. والقول الثاني: أنه منسوب إلى رَبَّان، والربَّان هو المعلم للخير ومن يسوس الناس ويعرِّفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالَّتان على زيادة الوصف، ولذلك لما مات عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بمحمد ابن الحنفية: "مات اليوم رَبَّانيُّ هذه الأمة". [الكتاب (2/ 89)؛ الدر المصون (3/ 275)]. (¬3) (القلب) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل و "أ": (إذا)، وهو خطأ.

التكليف يدل عليه قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} (¬1) فنصره من لم يدرك نبيًا والوصية بنصره ونصره من أدرك موالاته واتباعه (¬2). {أَأَقْرَرْتُمْ} استقرار و (أخذ الإصر) قبوله، ويحتمل أن الخطاب للأنبياء والربانيين، وأن أخذ الإصر: توثيقه وإحكامه و (اشهدوا)، أي: ليشهد بعضكم على بعض، {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} على المجاز (¬3)، وإنما جاز ذلك لأنه وصف نفسه بالشاهدة ووصفهم بالشهادة (¬4). وقوله: {فَمَنْ تَوَلَّى} خاصة في الأمم دون الأنبياء عليهم السلام، ولا يبعد أن تكون عامة؛ لأن الوعيد لمن المعلوم منه أنه موجبه والذي قضى له بالعصمة عن موجبه سواء، فإذا جاز أحدهما على سبيل التحريف والزيادة والتأديب والتهذيب فكذلك يدل الآخر عليه (¬5)، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. {وَلَهُ أَسْلَمَ} والكلام في إسلام الكثرة (¬6) كالكلام في قنوته (¬7) و (الطوع) (¬8) قريب من الرضا وهو ضد الكره. ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ" (أخذ الله من النبيين). (¬2) الخطاب في هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ...} [آل عمران: 81] الآية، إلى أهل الكتاب يذكِّرهم الله به أنه أخذ الميثاق على الأنبياء وهو طاعته سبحانه وتعالى والتزام أمره، وهذا ما قرره الطبري في تفسيره وغيره من المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بمعناه. [الطبري (5/ 536)]. (¬3) في الأصل: (المحاذة). (¬4) لا ينبغي حمل شهِادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم على المجاز، بل الأصل حملها على الحقيقة، وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النِّساء: 166]، وقال أيضًا: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. والشواهد على ذلك كثيرة في إثبات صفة الشهادة لله. (¬5) الخطاب في هذه الآية -والله أعلم- لنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - تسلية له فيمن أعرض عن دعوته ودعوة الرسل من قبله، وبهذا فَسَّرَ الآية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فيما أخرجه الطبري عنه (5/ 547). (¬6) في جميع النسخ: (الكاف). (¬7) في "أ" "ب" "ي": (دبونه). (¬8) في "أ": (والتطوع).

وقوله {وَمَنْ يَبْتَغِ} نزلت في عشرة رهط كفروا بعد إسلامهم ولحقوا بمكة وهي (¬1) دار الحرب يومئذٍ ثم تاب بعضهم فيستثني الله التائبين (¬2) وهي ناسخة لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: 62] في رواية علي بن أبي (¬3) طلحة عن ابن عباس (¬4)، ويصح الجمع بينهما على ما سبق. {كَيْفَ} استفهام بمعنى البيان لموضع التعجب، وقيل: استفهام بمعنى الإنكار والإحالة لأن اجتماع حالتي (¬5) الكفر والإِسلام محال، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} هداية التوفيق حالة إصرارهم وعتوِّهم، ولكن إذا شاء هدايتهم سبّب أسبابًا يتضحُ بها (¬6) فساد ما هم فيه فيندمون ثم يلهمهم ويهديهم إلى معرفته. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} التائب الذي استثناه من جملة العشرة هو الحرث بن سويد بن الصامت وهي (¬7) عامة في كل تائب (¬8). {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} قيل: لما بلغ أصحاب الحارث خبره ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (وبني)، وهو خطأ. (¬2) ذكره ابن حجر في العجاب (2/ 713 - 714) عن ابن الكلبي. (¬3) (أبي) ليست في جميع النسخ ولا بدَّ منها. (¬4) رواه الطبري في التفسير (2/ 45)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (635). وذكره ابن الجوزي في ناسخه ص 130. (¬5) في الأصل: (حالي). (¬6) في الأصل: (لها)، وفي "ب": (بها فؤاد). (¬7) في الأصل: (وبني). (¬8) ونص الحديث الذي رواه مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، ثم كفر الحارث، فرجع إلى قومه فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران:86 - 89] قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله ما عَلِمتُ لصدوق، وإنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك، وإنَ الله عزو جل لأصدق الثلاثةِ، قال: فرجع الحارث فأسلم، فحسن إسلامه. [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 558)؛ وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 125)؛ والواحدي في أسباب النزول ص 83].

قالوا: نقيم بمكة ونتربص محمدًا ريب المنون فإنْ بدا لنا (¬1) أن نرجع إلى قومنا أيقنا بقوله كما فعل الحارث، فأنزل الله الآية، وإنما نفى قبول توبتهم لأنهم قصدوا توبة على تردد ونفاق وازديادهم الكفر حملهم وظنهم أنهم قادرون على التوبة خداعًا، فالكفر يتزايد بتزايد الاعتقاد الفاسد، والإيمان يتزايد بتزايد (¬2) الاعتقاد الصحيح في الآيات الناسخة، ولما كمل الدين صار النقصان في أصل الإيمان وحقيقته كفرًا من جميع الوجوه على أي تأويل لأن تزايد الاعتقاد بعد إنقطاع محال. وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} دلالة أن التوبة مقبولة قبل الموت، والتي نفي قولها، هي توبة نفاق وتردد، أو توبة عند معاينة الباس وانقطاع الأحكام الدنيوية (¬3)، {إِنَّ الَّذِينَ} في معنى الشرط وتشبيه لإيهامه ولذلك أجاب بالفاء. و {مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} على سبيل التقدير والتفخيم دون التحقيق، وإنما خص ذلك لأنه مما يتعاظمه الناس في معاملاتهم وعاداتهم (¬4) ومبادلاتهم. قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، قال الكلبي: منسوخة بآية الزكاة وليس كذلك لأنه لا تنافي بينهما إذ الزكاة إنفاق من بعض المحبوب، والبر ها هنا الجنة، عن السدي (¬5)، وعن عطاء: أشرف مراتب التقوى (¬6)، وقيل: البر الخير. {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا} نزلت ردًّا على اليهود حيث أنكروا النسخ ¬

_ (¬1) في "ي" "أ": (بدلنا). (¬2) (والإيمان يتزايد بتزايد) ليست في "ب". (¬3) في جميع النسخ (الديناوية)، والمثبت من "أ". (¬4) (وعاداتهم) ليست في "ب". (¬5) أخرجه الطبري (5/ 573)؛ وابن أبي حاتم (3809)، وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وعمرو بن ميمون. أخرجه الطبري عنهما (5/ 573)؛ وابن أبي شيبة (13/ 424). (¬6) رواه ابن أبي حاتم (3810) عن مقاتل بن حيان قال: التقوى.

وادعوا أن المحظورات كلها لم تزل (¬1) كذلك من لدن آدم إلى يومنا هذا، وزعموا أن موسى لم يأت بتحريم حادث ولا تحليل إلا فيما اختلفت العقول فيه، فكذَّبهم الله وأخبر أن الكليات كلها كانت حلًّا (¬2) لبني إسرائيل إلا ما حرمها إسرائيل نذرًا، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم، وكانوا كلما أذنبوا ذنبًا عظيمًا حرم عليهم رزق طيب أو سلط عليهم الطاعون. والقصة في نذر إسرائيل أنه اشتكى عرق النسا فنذر إن شفاه الله لا يأكل لحوم الإبل وألبانها لوخامتهما وإضرارهما عند ملازمتهما، وكان من أحبّ الطعام إليه (¬3)، ووجه القربة فيه أنه مخالفة لهوى النفس الأمارة بالسوء (¬4) وقهر لها، ووجه جوازه من ذات نفسه أن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يجتهدون بإذن الله تعالى، يدل عليه حكم داود وسليمان -عليهم السلام- في الحرث وكان حكم سليمان بفهم لا محالة وحكم داود مما يسوغ الاجتهاد في مقابلته لمثله، وكذلك قبل نبينا -عليه السلام- الفداء بالمشاورة (¬5) والاجتهاد ولم يقتل أسارى بدر، وفيه نزل (¬6): {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الآية ¬

_ (¬1) وهو ما أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 578)؛ والبغوي (6812)؛ وذكره القرطبي (4/ 134)؛ وابن كثير في تفسيره (2/ 62) عن السدي قال: قالت اليهود: إنما نحرم ما حرم إسرائيل على نفسه، وإنما حرَّم إسرائيل العروق، كان يأخذه عِرق النَّسَا، كان يأخذه بالليل، ويتركه بالنهار، فحلف لئِن عافاه الله منه لا يأكل عرقًا أبدًا، فحرمه الله عليهم، ثم قال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]. (¬2) في "ب": (كاهلًا). (¬3) العجاب (2/ 714 - 716). (¬4) في "ب": (بالسواء). (¬5) في الأصل: (المشاورة). (¬6) صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في نزول هذه الآية قال: كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمم إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلًا أو كثيرًا، حُرِّمَ ذلك على كل نبي وعلى أمته فكانوا لا يأكلون منه، ولا يَغُلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلًا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه، وكان الله حرَّمه عليهم تحريمًا شديدًا فلم يُحِلَّهُ لنبي إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ". وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر في أخذ الفداء من الأسارى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ...} [الأنفال: 68] الآية. =

وأذن للمخلفين في غزوة تبوك باجتهاده حتى نزل (¬1): {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وافتتح الصوم بشهادة الواحد (¬2) على سبيل التحري والاجتهاد. وإنما توقف وانتظر الوحي في أحكام لم يكن للاجتهاد إليها سبيل، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3] لا ينفي الاجتهاد لأن الاجتهاد ليس بهوى، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4] خاص في القرآن وما أوحي إليه من علم الغيب والأحكام دون ما بينه على سبيل المشاورة والاجتهاد والتحري (¬3)، ثم لا يجوز في مقابلة اجتهاد النبي --عليه السلام-- (¬4) اجتهاد إلا (¬5) بتمكينه؛ لأن اجتهاده كالنص من حيث تقدير الله كما لو حكم بعض الصحابة حكمًا بمشهد النبي -عليه السلام- (4) ولم ينكر ذلك. {حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: حلالًا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم، فلم يأتوا بالتوراة خوف الفضيحة بتأويلهم الفاسد. {افْتَرَى} افتعال من الفري المختلق (¬6) وهو القطع وكأن المختلق يقطع شيئًا من موهومه الباطل فيتكلم به، وذلك إشارة إلى الإتيان بالتوراة أو تحريم إسرائيل. {صَدَقَ اللَّهُ} أي: أخبر بالحق عن كيفية ابتداء التحريم والتحليل، {فَاتَّبِعُوا} استحلوا لحوم الإبل وألبانها فإنه ملة إبراهيم لأنه سبق نذر ¬

_ = [أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 277)؛ وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 204) إلى ابن مردويه]. (¬1) ذكر ذلك الطبري في تفسيره فقال: هذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتب به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه حين شخص إلى تبوك لغزو الروم من المنافقين. وبنحو ذلك روي عن مجاهد وقتادة، أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 477). (¬2) في "ب": (القوم). (¬3) في "أ" " ب" "ي": (والنجوى). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل و"أ": (لا). (¬6) (المختلق) من "أ"، وفي "ب": (من الفري وهو القطع).

إسرائيل (¬1) لا محالة. {حَنِيفًا} نصب على القطع (¬2)، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثناء عليه. واتصال قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} بما قبلها من حيث اتباع ملة إبراهيم، {وُضِعَ لِلنَّاسِ} ضرب متعبدًا لهم، مكة هي (¬3) الكعبة، و (بكة) هي مكة لأن الباء قريبة من الميم في المخرج، يقال: سبَد وسمد، وقيل: لأن الناس يتباكون يتراحمون فيها أيام الموسم، ويقال: بكة كأنها تبكُّ أعناق الجبابرة لاتضاعهم فيها (¬4) (¬5)، و (المبارك) الذي بورك فيه أو عليه، وضده المشؤوم. {وَهُدًى} سببًا من أسباب الهدى فبقعة الكعبة مُتَخَيَّم آدم، فيما يروى أن الله تعالى أنزل عليه خيمة من خيام الجنة ليطوف حولها كما (¬6) (يطوف الملائكة (¬7) حول البيت (¬8) المعمور في السماء الرابعة وقد) (¬9) طاف حولها (¬10) سفينة ¬

_ (¬1) في "ب": (إبراهيم)، وهو خطأ. (¬2) تقدم الكلام على قوله "حنيفا" والأوجه الإعرابية فيه في سورة "البقرة" في قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]. (¬3) في النسخ: (ببكة بني)، وهو خطأ. (¬4) ذكره ابن جرير في تفسيره وابن سيده في المحكم، وأنشد قول الراجز [وهو منسوب لعامان بن كعب]: إذا الشريبُ أخذتْهُ أكَّهْ ... فَخَلِّهِ حتى يَبُكَّ بَكَّهْ وأما قول الجرجاني أن مكة هي الكعبة وبكة هي مكة، فهذا عكس ما ذكره عامة أهل اللغة ومنهم الزجاج - نقله عنه الأزهري في تهذيب اللغة - أن بكة موضع البيت وسائر ما حوله مكة. والإجماع أن مكة وبكة الموضع الذي يحجُّ الناس إليه وهي البلدة. والذي يظهر أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف، وهو الذي رجحه ابن جرير ورواه عن أبي مالك الغفاري ومجاهد وقتادة وغيرهم. [ابن جرير (5/ 594)؛ المحكم لابن سيده (6/ 670)؛ تهذيب اللغة (9/ 461)؛ جمهرة اللغة ص 58]. (¬5) في "أ": (لاتضاعهم فيه). (¬6) (كما) ليست في "أ". (¬7) (الملائكة) ليست في "ب". (¬8) في "ي": (بيت). (¬9) ما بين (...) ليس في "أ". (¬10) (وقد طاف حولها) ليست في "ب" "أ".

نوح -عليه السلام-، وحج كثير من الأنبياء، وقد دخل خبر وقد عاد في حيّز التواتر، وتواترت الأخبار ببناء إبراهيم البيت العتيق وقد نزل فيه القرآن. {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} من جملة الآيات البينات لأنه حكم ثبت كضرورة في الجاهلية والإسلام، في المثل: (آمن من حمام مكة وآمن من ظبي بالحرم) (¬1)، وقال ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي في الحرم (¬2) لما هجته (¬3)، وعن ابن عمر مثله (¬4)، وعن ابن الزبير: إنما يستنزل سعيد مولى معاوية (¬5) وجماعة من أصحابه كانوا تحصنوا بالطائفة فأدخلهم الحرم (¬6) ثم استفتى ابن عباس فيهم فلم يرخص له في شيء، وقال: هلا (¬7) قبل أن أدخلتهم الحرم؛ فأخرجهم (¬8) ابن الزبير من الحرم ثم صلبهم (¬9). ولسنا نرى الإخراج، ولكن لا يطعم الجاني ولا يسقى ولا يجالس حتى يضطر إلى الخروج فيخرج فيتبع فيقام عليه الحد (¬10). وأما ما دون القتل وما فعل في الحرم يقام فيه وفرض الحج على الفور خلافًا لمحمد، (استطاع السبيل) وجود الزاد والراحلة والسلامة من العوائق، ¬

_ (¬1) في الأصل: (بالحرام). (¬2) المثبت من "أ"، وفي البقية: (الحرام). (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 603)؛ وعبد الرزاق في مصنفه (9225)؛ وذكره الأزرقي في أخبار مكة (1/ 368). (¬4) أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 604)؛ وعبد الرزاق في مصنفه (9229)؛ والأزرقي في أخبار مكة (1/ 369) بلفظ: "لو وجدتُ قاتل عمر في الحرم ما هجته". (¬5) في الأصل: (سعيد أموال). (¬6) في الأصل: (الحرام). (¬7) في "ب": (لا). (¬8) في الأصل: (فأخرجهم من قبل ابن الزبير). (¬9) روي ذلك عن طاوس، قال: "عابَ ابن عباس على ابن الزبير في رجل أخذ في الحل ثم أدخله الحرم ثم أخرجه إلى الحل فقتله". [أخرجه ابن المنذر (741) ونقله عنه السيوطي في الدر (3/ 683)، وهذه قريبة من القصة التي ذكرها المؤلف]. (¬10) وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 604)؛ وعبد بن حميد ذكره السيوطي في الدر (6843).

والعمى عائق عند أبي حنيفة، ومستطيع الإحجاج كمستطيع (¬1) الحج حين المرض والحبس فيما تواترت فيها الأخبار، {وَمَنْ كَفَرَ} أي: امتنع التزام هذا الفرض وقبوله، {فَإِنَّ اللَّهَ} جواب الشرط إذ الكافر داخل في جملة العالمين. وإنما قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} للإعراض عن خطابهم وإنما وقع الإنكار على وجه السؤال للتعجيز (¬2) عن إقامة العذر كقوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} أعظم توبيخ وتهديد. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} نزلت في اليهود كانوا يغرون بين الأنصار من الأوس والخزرج بتذكير ما بينهم من الوقائع لينسخلوا من الدين بالضغائن والعصبية، عن زيد بن أسلم (¬3)، وفي اليهود والنصارى جميعًا وإنكارهم نعت نبينا -عليه السلام- (¬4) عن الحسن (¬5)، {تَبْغُونَهَا} تبغون لها، كقوله: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]، والهاء عائدة إلى السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث. و (العِوج) - بكسر العين-: الزيغ في الرأي، والعَوج - بالفتح-: الميل فيما يكون منتصبًا (¬6)، {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} بما في كتابكم، ¬

_ (¬1) في "أ" والأصل: (مستطيع). (¬2) في الأصل: (للتعجب). (¬3) رواية زيد بن أسلم أخرجها الطبري في تفسيره (5/ 627)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (3878)؛ وعزاه السيوطي في الدر (2/ 57) إلى ابن المنذر وأبي الشيخ ولفظه عن زيد بن أسلم قال: مَرَّ شأسُ بن قيس وكان شيخًا عَسَا -أي كبر سِنُّهُ- في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضِّغنِ على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج في مجلسٍ قد جمعهم يتحدثون فيه ... " إلى آخر سبب النزول هذا، وقد سردها الطبري بطولها. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) رواه عن الحسن ابن جرير في تفسيره (5/ 630)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 717). (¬6) في نصب "عوجًا" وجهان: الأول: منصوب على أنه مفعول به، هذا إذا كان "تبغون" بمعنى تطلبون - قاله الزجاج والطبري. والثاني: أنه حال من فاعل "يبغونها"، هذا إذا كان "تبغون" بمعنى تتعدون، والمعنى تبغون عليها أو فيها -قال الزجاج: كأنه قال: تبغونها ضالين. [معاني القرآن (1/ 457)، الطبري (5/ 626)؛ الدر المصون (3/ 326)].

وقيل: أنتم عقلاء، كقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] أي: حاضر بالعقل والهمة (¬1). {فَرِيقًا} للتبعيض والتنويع لأن بعض الذين أوتوا الكتاب (¬2) آمنوا ولمٍ يغيروا فما (¬3) كانت طاعتهم كفرًا، وقيل: عني به جميع اليهود وذكر فريقًا بمعنى أحد على التأكيد. (الاعتصام): الامتناع من قوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] وإنما بعد الكفر بعد الإيمان لمعنيين: أحدهما: استماع الوحي. والثاني: كونه -عليه السلام- (¬4) بين أظهر المؤمنين، فالمعنى الأول باقٍ لعامة المؤمنين المستمعين، والثاني أيضًا كالباقي لمن يلاقي رسول الله صلّى (¬5) الله عليه وسلم (¬6) بالروح في المنام أو يحيي سنة ويكثر الصلاة عليه ويزور قبره ثم أحال المستعيذ بإثبات الهداية إلى الصراط المستقيم في حق المعتصمين باللهِ على الإطلاق لأنهم بمشاهدة الله تمجدوا بنور الوحدانية وعطلوا عن الرسوم القابلة للآفات فهم ممتنعون عن الغير والحوادث. {بِاللَّهِ} قيل: تقوى الله حق (¬7) تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى (¬8)، وإنما يكون هذا بتلاشي النفس في مشاهدته وأن لا ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (الهمة) بدون واو. (¬2) (أوتوا الكتاب) ليست في "ب". (¬3) في الأصل و"ي": (ولم يغيرو إنما)، وهو خطأ. (¬4) في "ب": (عليه كونه السلام)، وهو خطأ. (¬5) في النسخ (رسول الله -عليه السلام-)، والمثبت من "ب". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في "ب" "ي": (تقوى إسحاق تقاته)، وهو خطأ. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة (34553)؛ وابن المبارك في الزهد (22)؛ وأبو نعيم في الحلية (7/ 238)؛ والطبري في التفسير (4/ 28)؛ والطبراني في الكبير (8501)؛ والحاكم (2/ 323) وعزاه في الدر (2/ 59) لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والنحاس في الناسخ وابن مردويه.

يشارك في حول ولا قوة لا ينازع في اختيار بعزم أو خاطر، وقيل: تقوى الله حق تقاته محافظة أحكام الشرع، فالأول في المعتصمين بالله والثاني المعتصمين بحبل الله، وعن قتادة والسدي وابن زيد: أن هذه الآية منسوخة (¬1) بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} نزلت في الأوس والخزرج وتذكيرهم الضغائن واقتتال الطائفتين. قال ابن إسحاق: كانت العداوة قائمة بينهم مائة وعشرين سنة، فأزالها الله تعالى بجمعهم على الإسلام (¬2)، وقال الحسن: نزلت في جميع القبائل وما كان بينهم من الطوايل فرفعها الله بالإِسلام، و (الحبل) العهد وعهد الله القرآن والإِسلام، {وَلَا تَفَرَّقُوا} أمر بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة؛ لأن ضد التفرق واحد وهو الإجماع، والنهي عن الشيء الذي له ضد واحد أمر بضده، و (التأليف): التوفيق (¬3) وإزالة التنافر، {شَفَا حُفْرَةٍ} حرف أخدود وقبر، وهذا على وجه المثل لمن قرب من الهلاك، {فَأَنْقَذَكُمْ} أنجاكم من الحفرة والنار، وإنما أخبر عنهما وأعرض عن شفا لأن المقصود فيها. {وَلْتَكُنْ} لام أمر وأصلها كسر، سُكنا لصيرورة الواو من نفس ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3911) عن سعيد بن جبير وقال: وروي عن زيد بن أسلم نحو هذا التفسير، وروي عند أبي العالية وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي أنها نسختها أخرجه عنهم الطبري (5/ 642). وذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها محكمة غير منسوخة، وأن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهد في الله حق جهاده. ومثله روي عن طاوس. أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (5/ 641). (¬2) ذكر في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ...} [آل عِمرَان: 101] الآية. [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 636)؛ والطبراني في الكبير (12666)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (3898)]. (¬3) في "ب": (التوفيق) بدون واو.

الكلمة (¬1)، و (من) للتبعيض (¬2) والأمر فرض على الكفاية إذا قام به البعض وحصل المعروف وزال المنكر سقط الفرض عن الباقين، وقيل: (من) لتخصيص المخاطبين وهي مؤكدة كقوله: {فَاجْتَنِبُوا (¬3) الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} اليهود والنصارى تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الديانة بالمنازعة في الأصول وترك الاقتصار على الكلمة السواء التي ارتضاها الله وكان صدر الأمة عليها. {يَوْمَ} نصب على الظرف والمظروف، {الْعَذَابَ} العظيم. و (ابيضاض الوجوه): إسفارها ونضارتها لفراغ القلب وبرد العيش، واسوداد الوجوه: إظلامها بالقتر والذلة، وذلك إذا تزايدت الحسرات وغلا الدم وصار الإنسان كالمخنوق، {أَكَفَرْتُمْ} يقال لهم: أكفرتم وهو في شأن المرتدين عن الإسلام ويجوز في أهل الكتاب لأنهم كانوا مؤمنين بما عندهم من نعت نبينا -عليه السلام- (¬4) إلى أن غيّروا وبدلوا ويحتمل في الكافة لأن (¬5) كل مولود يولد على الفطرة، والذوق إحساس طبيعته بالمس يستعمل في المطعوم والمشروب حقيقة وفي الثواب والعقاب استعارة (¬6)، قال الله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]، وقال أبو سفيان لحمزة: ذق عقق. ¬

_ (¬1) قرأ العامة "ولتكن" بسكون اللام، وهي قراءة المصحف المشهورة، وقرأ الحسن والزهري والسلمي بكسرها وهو الأصل كما ذكر الجرجاني. [البحر (3/ 20)]. (¬2) في "ب": (للتبعيض والفرض والأمر). (¬3) في "ب": (واجتنبوا). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب": (إن) بدون لام. (¬6) الاستعارة في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} [آل عِمرَان: 106] حيث شبهه بالمر مما يؤكل، ثم حذف المشبه به وأبقى شيئًا من لوازمه وهو الذوق، ولا يخفى ما فيه من الشعور بالمرارة، وذلك على طريق الاستعارة التبعية المكنية. [إعراب القرآن وبيانه/ محيي الدين الدرويش" (2/ 17)].

{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا} أي: لا يشاء أن يعاملهم على غير قضية حكمته (¬1) كإخلاف الوعد وكنقض الثواب من غير نسخ والزيادة في العقاب من غير إنذار، {يُرِيدُ} يحبّ، ومعناه: لا يحب منهم (¬2) الظلم فيما بينهم، فاتصالها بما قبلها من حيث ذكر الثواب والعقاب أو من حيث ذكر الوعد والوعيد. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} اتصالها بما قبلها (¬3) لأن الإساءة (¬4) إلى الملوك على الإطلاق لا يكون ظلمًا ما لم يخالف الحكمة (¬5) يدل عليه إحداث الآلام الدنياوية في الحيوان ابتداءً من غير خبر، وعلى المعنى الثاني من حيث ذكر الوعد والوعيد، فأعقب ذكر الملك والاستيلاء ليكون الوعد والوعيد أمكن في قلوب المخاطبين. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} نتظم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عِمرَان: 102] إلى قوله (¬6): {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عِمرَان: 105] وما بينهم عارض، وزعم الكلبي: أنه عني بالخطاب ابن مسعود وسالمًا وحذيفة ومعاذ (¬7)، وقال -عليه السلام-: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل: (حكمة). (¬2) في الأصل: (منه)، وفي "ب": (بينهم). (¬3) (بماقبلها) ليست في "أ". (¬4) في "ب": (الإشارة). (¬5) في "ب" "ي": (للحكمة). (¬6) (إلى قوله) ليست في "ب". (¬7) روي أيضًا عن عكرمة قال: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل. [أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 672)؛ وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 63) إلى ابن المنذر]. (¬8) الحديث رواه الترمذي (3001)؛ وابن ماجه (4287)؛ والنسائي في الكبرى (11431)؛ والإمام أحمد (4/ 446 - 447؛ 3/ 553)؛ وفي الفضائل (1710)؛ وعبد بن حميد (409، 411)؛ وابن المبارك في الزهد (382)؛ وفي المسند (601)؛ والدارمي (2760)؛ والروياني (921، 924، 937)؛ والطبراني في الكبير (19/ 419 - 427)؛ وفي الأوسط (1415، 6402)؛ والبيهقي (9/ 5). =

{كُنْتُمْ} أي: أنتم، و (كان) زائدة إلا أنه للتأكيد (¬1)، كقوله: {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] (¬2)، وقيل: تكونتم ووجدتم، وقيل: كنتم في اللوح المحفوظ، {أُخْرِجَتْ} أبرزت وأظهرت من الغيب بتركيب الأرواح والأجساد، وقيل: أخرجت من الكفر إلى الإسلام، {لِلنَّاسِ} أي: أنتم خير الناس للناس وأظهر لتدعوا الناس أو ليراها الناس، والآية دالة على صحة الإجماع، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: لكان الإيمان الموجب للنعمة الأبدية مع الأنبياء والصديقين والشهداء خيرًا من الكفر المقتضي متاعًا قليلًا من الرشى ومواريث الكفار، {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} عبد الله بن سلام وأمثاله، {الْفَاسِقُونَ} الكافرون. {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر أهل الكتاب والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإخبار عن صرف ضررهم، {إِلَّا أَذًى} لن يبلغ ضررهم لكم إلا مقدار ما تتأذون به من القول المكروه ونقض العناء في استئصالهم، وإما أن يهزموكم أو يقاوموكم أو يستزلوكم ¬

_ = ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 134) ومن طريقه الطبري (1/ 265؛ 4/ 45؛ 24/ 107)؛ وابن أبي حاتم (3967)؛ والرافعي في تاريخ قزوين (2/ 262)؛ وابن عساكر (1/ 115؛ 13/ 82؛ 54/ 261)؛ والدقاق في حديثه (265). (¬1) في "كان " ستة أوجه إعرابية: الأول: أنها ناقصة على بابها. الوجه الثاني: أنها بمعنى "صِرْتُم"، ومجيء "كان" بمعنى صار كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: بتيهاءَ قَفْر والمَطِيُّ كأنها ... قطا الحَزنِ قد كانت فِراخًا بيوضُهَا الوجه الثالث: أنها تامة بمعنى وُجِدْتُم. الوجه الرابع: أنها زائدة، وهذا ما ذهب إليه الجرجاني، والتقدير: أنتم خيرُ أمة، وهذا بعيد جدًا، وقد نقل ابن مالك الاتفاق على أنها لا تزاد. الوجه الخامس: أنها على بابها، والمراد: كنتم في علم الله، أو كنتم في اللوح المحفوظ. الوجه السادس: أن هذه الجملة متصلة بقوله: "ففي رحمة الله". [شرح الكافية الشافية (1/ 411)؛ الكشاف (1/ 44)؛ البحر (3/ 28)؛ الدر المصون (3/ 348)]. (¬2) الآية ليست في "ب".

فلا (¬1). {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} يستقبلوكم بأدبارهم؛ حالة إدبارهم منهزمين، وهو (¬2) مجزوم لأنه جواب الشرط، {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} كلام مستأنف لأنه من قضيّة الكفر قاتلوا أو لم يقاتلوا الآن قضية القتال. وحكم الآية معجزة فضلًا عن النظم والمعنى لأن الله أنجز وعده وكبت يهود (¬3) المدينة وبني قريظة وبني النضير وبني قينقاع ويهود خيبر. وكان الإخبار قد سبق به الإنجيل من الله يعني ما نطق به كتابه من المنع عن قتلهم (¬4) وسبيهم عند بذلهم الجزية. {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} عهود المسلمين وذممهم مؤتمرين بعهد الله وعهود النصارى والمجوس وعبدة الأوثان لهم (¬5)، فإن اليهود لا عزّة لهم ولا منعة حيث كانوا إلا بعهد وذمة، وذلك الثاني بدل عن ذلك الأول، و (العصيان): الاعتداء مع الكفر والقتل في معنى واحد، وقيل: إن العقوبة على كفرهم (¬6) وقتلهم وكفرهم وقتلهم بشؤم عصيانهم واعتدائهم على سبيل التدريج. {لَيْسُوا سَوَاءً} كالاستثناء في الحكم لأنه خصّ الذم العام المتقدم (¬7)، والضمير في (ليسوا) أهل الكتاب سواء مستوين على الصفة المذمومة المقدمة بين اختلافهم ومن خالف الصفة المذمومة المتقدمة منهم {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ¬

_ (¬1) ذكر ابن جرير الطبري أن هذا الاستثناء منقطع وأنه مخالف معنى ما قبله. كما قيل: ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا، وذهب غيره كالسمين الحلبي إلى أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلًا، وهو استثناء مفرغ من المصدر العام كأنه قيل: لن يضروكم ضررًا البتة إلا ضرر أذى لا يبالى به من كلمةِ سوءٍ ونحوها. [الطبري (5/ 111)؛ الدر المصون (3/ 351)]. (¬2) في الأصل: (فهو) بالفاء. (¬3) في الأصل: (اليهود). (¬4) في "ب": (قبلتهم)، وهو خطأ. (¬5) في الأصل: (لم). (¬6) في الأصل: (عماكفهم). (¬7) ولذا يحسن الوقوف على "سواء" لأنه وقف تام. و"سواء" في الأصل مصدر فلذلك وُحِّد، وتقدم الكلام عليه في سورة "البقرة" آية (6)، والمعنى أن الله قسَّم أهل الكتاب قسمين وهما لا يستويان: أهل الإيمان وهمِ قِلَّة، وأهل الفسق والكفر وهم الكثرة، كما قال تعالى عنهم: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عِمرَان: 110].

{أُمَّةٌ} مبتدأ {قَائِمَةٌ} مستقيمة عادلة (¬1) عن الحسن وابن جريج، وقيل: {قَائِمَةٌ} في الصلاة، {آنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته. {وَيُسَارِعُونَ} يسابقون ويبادرون إلى القرب والطاعات، وضد السرعة: البطء، وضد العجلة: الأناة. {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} لن (¬2) يجحدوا خيرهم كقوله: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] بالكفر يعدى بغير يا، قال الله تعالى: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] (¬3) المعنى أن من كسب خيرًا لم يحرم جزاءه ولم يظلم بإخلاف الوعد. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} خصهم لأن التقدير من عذاب الله وبأسه وعذابه على الإطلاق عليهم دون غيرهم، أو لأن أولاد المؤمنين وأموالهم بنفقاتهم من حيث الكفار والدعاء والشفاعة. {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} نزلت في أبي سفيان يوم بدر على عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، وقال مقاتل: نزلت في نفقة اليهود على رؤسائهم (¬5)، وهي (¬6) عامة فيهما وفي كل معصية، {صِرٌّ} برد. نهى -عليه السلام- عن أكل ما قتله الصر من الجراد (¬7)، والصر ما يضاعف فيه البرد، وقيل: الصر: النار ¬

_ (¬1) روي ذلك عن مجاهد: رواه ابن أبي حاتم (1223/ حكمت)؛ وابن جرير (5/ 693)؛ وعبد بن حميد (2/ 65/ در)؛ تفسير مجاهد ص 258. أما عن الحسن وابن جريج فلم أجده. (¬2) في الأصل و"ي": (أن). (¬3) في "ب" والأصل: (جزاء لمن كفر). (¬4) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬5) لم أجد سببي النزول هذين فيما بين يدي من مصادر التفسير. (¬6) في الأصل: (وبني)، وهو خطأ. (¬7) الحديث بهذا اللفظ لم أجد له أصلًا في كتب الحديث التي بين يدي، وهو- فيما يظهر- مخالف لحديث جواز أكل الميتة من الجراد، وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 97)؛ وعبد بن حميد في المنتخب (2/ 89)؛ وابن ماجه (3314)؛ والحاكم (1/ 254) عن ابن عمر مرفوعًا: "أحلَّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". والحديث صحَّحه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (3/ 111/ 1118).

ذات الالتهاب، وإنما شبه نفقتهم بهذا الريح لأنها وضعت شرفهم وهدمت مجدهم وأورثتهم العار في الدنيا والآخرة كما أهلكت الريح الحرث، {قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بمعصية الله لا حصدوا زرعهم ولا نالوا ثواب المعصية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في قوم أضافوا اليهود والمنافقين لمودة (¬1) كانت بينهم في الجاهلية (¬2). عن ابن عباس: قدم أبو موسى [على عمر الفاروق وذكر من شأن كاتب نصراني فأنكر عمر ذلك وتلا هذه الآية، قال أبو موسى] (¬3) له دينه ولي كنانته، قال عمر: لا أرفعهم وقد وضعهم الله، ولا أُقرِّبهم وقد أبعدهم الله تعالى، (بطانة) الرجل خاصته من أصحابه الذين يستبطن أمره، {مِنْ دُونِكُمْ} من دون المؤمنين المخلصين، {لَا يَأْلُونَكُمْ} لا يقصرون في أمركم. قال الأزهري: الإلو يكون جهدًا أو يكون بتقصير أو يكون استطاعة (¬4)، {خَبَالًا}، فسادًا (¬5)، {وَدُّوا} حبّوا وتمنوا ¬

_ (¬1) في "ب": (لمود). (¬2) أخرجه الطبري (5/ 709)؛ وابن إسحاق (30/ 95 , 96)؛ وابن أبي حاتم (1273/ حكمت)؛ وعزاه في الدر (2/ 66) لابن المنذر، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص 88. (¬3) ما بين [...] سقطت من الأصل. (¬4) انظر تهذيب اللغة للأزهري (15/ 434). والأَلْوُ بزنة "الغَزْو", ومعناه التقصير، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: سَعَى بعدهم قومٌ لكي يُدْرِكوهُمُ ... فلم يفعلوا ولم يُلِيموا ولم يَأُلُوا وقال امرؤ القيس: وما المرءُ ما دَامَتْ حُشَاشةُ نفسِهِ ... بمُدْرِكِ أطرافِ الخطوب ولا آلِ يقال: آلى يؤلي، فأبدلت الهمزة الثانية ألفًا. قال الراغب: أَلَوْتُ فلانًا أي: أوليتُه تقصيرًا، فقوله تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عِمرَان: 118] أي: لا يقصرون في طلب الخبال، بمعنى: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالًا. [المفردات للراغب ص 18؛ ديوان زهير ص 114؛ البحر (3/ 33)؛ ديوان امرئ القيس ص 18؛ الطبري (5/ 708)]. (¬5) يطلق الخبل على الفساد، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "من أصيب بقتل أو خَبْلٍ =

عنتكم و {الْبَغْضَاءُ} حالة شدة (¬1) الغضب. قال الفراء (¬2): هو مصدر، (أفواه): جمع فوه كأمواه (¬3) وموه، ولم يستعملوه إلا مضافًا لعدم استقلاله، وفوهة الشعب فمه. والفوهة: الكلمة، وما بدا (¬4) بأفواههم: اللي بألسنتهم، والتبغيض: تعريضًا وتصريحًا، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} اشتهاء القتل والسبي. {أُولَاءِ} وقعت الإشارة إلى اسم يكنى تقدمت هاء التنبيه على الاسم المكنى، تقول: ها أنا ذا، وها هو ذا، وإنما عادت هاء التنبيه بعد الاسم المكنى ها أنا ذا وها هو هذا، أو هأنت هذا، والمراد بمحبة المؤمنين للكفار: عطف الرحم والشفقة الطبيعية دون اعتقاد المحبة كقوله (¬5): {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. و (العض) من الإنسان كالكدم من البعير، و (الأنامل) جمع أنملة وهي طرف الإِصبع (¬6) في المحسوس وما يقع به ابتداء القبض في المعقول، وإنما فعلوا لما ذاقوا من الغيظ، وكذلك يفعل الإنسان إذا ضاق من تأسف، {الْغَيْظِ} الحزن الذي يسجى، قال الله (¬7) تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} تقريع من جهة النبي -عليه السلام- كقولك: اخسأ، مقابلة كقولهم السام عليكم أو الموت مع (¬8) الغيظ حقيقة حكمًا من الله أن لا يموتوا إلا مع الغيظ وإن طال عمرهم. ¬

_ = فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، ... " الحديث رواه أبو داود (4/ 636)؛ وابن ماجه (2623)؛ وأحمد في المسند (16375)؛ وغيرهم من حديث أبي شريح الخزاعي - ومعنى الخبل: فساد الأعضاء. (¬1) في "ب": (الشدة). (¬2) معاني القرآن (1/ 231). (¬3) في الأصل: (كاسواه). (¬4) في "ب": (وبدا). (¬5) في الأصل: (كقولك)، وهو خطأ. (¬6) في "ب": الأصابيع. (¬7) (الله) ليست في الأصل. (¬8) (مع) ليست في الأصل.

{تَسُؤْهُمْ} تحزنهم، {وَإِنْ تَصْبِرُوا} عن مخالطتهم، والكيد: إلطاف الحيلة في مكروه، فكيد الله: إلطاف حيلة أوليائه في مكروه من يخالفهم. {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} من أول السورة إلى هذه الآية كفصل واحد، وهذه الآية مبتدأ (¬1) فصل آخر (¬2) واتصالها بالفصل الأول من حيث ذكر المتن، والأحوال الموجودة فيما بين المؤمنين والكفار، قال ابن عباس وعلي وعائشة وقتادة والسدي والربيع: نزلت في حرب بدر سنة ثلاث (¬3)، وقال الحسن ومجاهد ومقاتل: في حرب الأحزاب وهي الخندق سنة أربع (¬4)، {وَإِذْ} ظرف العامل فيه (¬5) قوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} لأنه بدل على زمان، ويحتمل مضمرًا وهو: كفيناكم ونصرناكم (¬6)، (الغدو): البروز في وجه النهار والرواح بالمساء، قال مقاتل: غدا -عليه السلام- على راحلته، وقال مجاهد: على رجليه (¬7)، (تبوئة المكان): تهيئته، و (اتخاذه مقاعد): مجالس. ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (مبتداة). (¬2) في الأصل و"ي": (آخره). (¬3) رواه الطبري (6/ 6 - 7)؛ وابن أبي حاتم (1313/ حكمت) عن ابن عباس قال: يوم أحد. وروي ذلك عن قتادة والربيع والسدي وابن إسحاق، وذكر الطبري وغيره سبب نزول آخر وهو أنها نزلت يوم الأحزاب. وأما ما ذكره المؤلف الجرجاني فلعله وهم منه، فلم أجد من ذكر أنها نزلت يوم بدر مع أن قتاله عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، كما رواه البيهقي في الدلائل (3/ 393) وهو مما يؤكد وهم المؤلف. (¬4) رواه الطبري (6/ 8)؛ وابن أبي حاتم (1317) عن الحسن قال: يوم الأحزاب، ورواه عن مجاهد أيضًا (4/ 72). وقد رجح الطبري القول الأول. (¬5) في الأصل و"أ": (قيد)، وهو خطأ. (¬6) الأنسب أن يكون العامل المضمر في "إذْ" هو اذكر، أي: اذكر إذْ غدوت فينتصب انتصاب المفعول به لا على الظرف، وهذا ما اختاره السمين الحلبي في تفسيره. [الدر المصون (3/ 378)]. (¬7) رواه الطبري (4/ 69)؛ وابن أبي حاتم (1311/ حكمت)؛ وابن المنذر (863)؛ وعبد بن حميد (2/ 67 / در).

{طَائِفَتَانِ}: بنو سلمة وبنو حارثة أشار عليهم عبد الله بن أبي بن سلول (¬1) بالانصراف إلى المدينة والمقام بها (¬2)، و (إذ) بدل عن (إذ) الأولى (¬3) لاتخاذ وقتهما كقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40]. {هَمَّتْ} كادت على سبيل الاستعارة (¬4) كقوله له: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، و (الفشل): الجبن، وروي عن بعضهم قال: ما يسرنا أنا لم نهم لأن الله أعقب قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} وفيه أعظم رجاء، وفي جزء عبد الله: و {الله وليهم} (¬5) كما في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وقوله: {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19]، بدر اسم رجل غفاري من بطن يقال لهم (¬6) بنو النار سميت بدر (¬7) باسمه (¬8)، وكانت غزوة بدر ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (أبي بن سلول)، وهو خطأ. (¬2) روي ذلك عن جابر قال: هم بنو حارثة وبنو سلمة، رواه ابن أبي حاتم (1320 - 1326/ حكمت)؛ وابن جرير (4/ 70 - 73) عن ابن عباس ومجاهد والشعبي والربيع وقتادة وسعيد بن أبي هلال. (¬3) أي "إذ همت" بدل من "إذ غدوت" فيكون العامل فيه نفس العامل في المبدل منه. ويجوز أن تكون "إذ همت" ظرفًا لي "غدوت"، وجوَّزَ أبو البقاء العكبري أن يكون الناصب لي "إذ همت" و"عليم". وقيل: العامل فيه: إما "سميع" وإما "عليم" على سبيل التنازع، وهو اختيار الزمخشري. [البحر (3/ 46)؛ الإملاء (1/ 148)؛ الكشاف (1/ 460)؛ الدر المصون (3/ 381)]. (¬4) الأصل أن الهَمَّ هو: العزم، وقيل: هو دونه، وقرينة السياق تحدد ذلك. وأنَّ أول ما يمرُّ بقلب الإنسان يسمَّى خاطرًا، فإذا قويَ سميَ حديث نفس، فهذا قويَ سميَ همًّا، فإذا قويَ سميَ عزمًا، ثمَّ بعده إمَّا قول أو فعل. وبعضهم يعبِّر عن الهمِّ بالإرادة وهو ما ذهب إليه المؤلِّف. (¬5) قراءة ابن مسعود ذكرها الطبري محمَّد بن جرير في التفسير (6/ 16)؛ والفراء في معاني القرآن (1/ 233). (¬6) في الأصل: (لم). (¬7) في النسخ كلمة تختلف عن (بدر) ولكنها قريبة منها. (¬8) هذا ما نقله الطبري في تفسيره عن الواقدي قال -أي الواقدي-: ذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري، فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له: بدر. وما هو من بلاد جهينة، إنما هي بلاد غفار. قال الواقدي: =

في شهر رمضان سنة اثنين وكان لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) يومئذٍ (¬2) أبيض معٍ مصعب بن عمير وراية سوداء مع علي (¬3)، وكانت قريش (أخرجت عباسًا وعقيلًا مكرهين مع أنفسهم وكان عباس من مطمعي) (¬4) قريش يومئذٍ، فلما التقت الفئتان أهب الله ريح النصر لأوليائه وشاهت وجوه الكفار وكان كما قال الله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] الآية، قتل حمزة: شيبة بن ربيعة (¬5) والأسود بن عبد الأسود المخزومي، وقتل علي: العاص بن سعيد والوليد بن عقبة وعامر بن عبد الله ونوفل بن خويلد وعبد الله بن حميد، وقتل عمر: خالد بن العاص بن هشام، وقتل الزبير: عبيدة بن سعيد بن العاص، وقتل عبيدة بن الحارث: عتبة بن ربيعة، وضرب عمرو بن الجموح رجل أبي جهل ووقف عليه ابن مسعود وارتقى ظهره واحتزَّ رأسه، وقتل عمار: عليّ بن أمية بن خلف (¬6). عن سعيد بن جبير: أن النبي -عليه السلام- قتل يومئذِ ثلاثة صبرًا: عقبة ابن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، وطعيمة بن عدي، وأسر العباس وعقيل ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فالتجأ عباس إلى مثل قولهما (¬7): {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42]، فقال النبي -عليه السلام- (¬8): "الله أعلم بإسلامك فإن كان حقًا فهو يجزيك وأما ظاهر أمرك فكان علينا" وأمره أن يفدي نفسه وابني أخيه، فقال: ما لي شيء ولا تترك ¬

_ = هذا المعروف عندنا. وذهب الشعبي إلى أنه سمي بذلك لأنه كان ماءً لرجل من جهينة يقال له: بدر. [الطبري (6/ 17)؛ طبقات ابن سعد (2/ 27)؛ فتح الباري (2/ 27)]. (¬1) (وسلم) من "ب" "أ". (¬2) (يومئذ) ليست في "ب". (¬3) في "ب": (قريش)، وهو خطأ. (¬4) ما بين (...) سقطت من "ب". (¬5) سيرة ابن هشام (2/ 214 - 215). (¬6) سيرة ابن هشام (2/ 226). (¬7) في الأصل: (قولهما). (¬8) (السلام) ليست في "ي".

عمك يسأل الناس في كفه، قال -عليه السلام-: "أين المال الذي وضعته عند أم الفضل بمكة وأوصيت منه لعبد الله كذا وللفضل كذا"! "، فقال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله، فأسلم (¬1) وأدى فداء نفسه ماية أوقية وفدى كل واحد من ابني أخيه بأربعين أوقية، وأمر عقيلًا فأسلم ولم يسلم نوفل إلى أيام الخندق، وفائدة فداء عباس كون إسلامهم على سبيل الاختيار دون الاضطرار وقطع ألسنة الطاعنين المنافقين. {أَذِلَّةٌ} جمع ذليل وهو قليل الشوكة والمنعة بالسلاح والعدد (¬2)، ودفع (¬3) الحاجة إمداد الجيش لزيادة فيهم بالعدد والعدة (¬4). والقصة فيه أن فريقًا من المؤمنين كرهوا الخروج على ما سنذكره في "الأنفال" فقال -عليه السلام-: "هذا بوحي من عند الله" فأجابوه بالسمع والطاعة. {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} قال ابن عباس: إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر (¬5)، قيل: هي عدة ليوم أحد على شريطة الصبر فلم يصبروا ولم يكن هذا الإمداد، وقيل: لما وعد النبي -عليه السلام- بثلاثة آلاف بإذن الله ¬

_ (¬1) (فأسلم) ليست في "ب". (¬2) الأظهر أنهم أذلة بسبب قلة العدد لأنهم كانوا ثلاثمائة نفس وبضعة عشر، وعدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وهذا الذي رجحه الطبري في تفسيره ونقله عن قتادة والحسن والربيع. [الطبري (6/ 18)]. (¬3) في الأ صل: (وودفع). (¬4) في "أ": (العدد). (¬5) رواه الطبري في التاريخ (2/ 36)؛ وفي التفسير (6/ 25)؛ وابن إسحاق (3/ 182)؛ والطبراني في الأوسط (9125)؛ وذكره ابن كثير (1/ 403)؛ والقرطبي (4/ 194) عن ابن عباس.

وأجابوه بالسمع والطاعة زاد الله في تلك العدة وهذا أصح (¬1)؛ لأنه قال: {مِنْ فَوْرِهِمْ} أي على وجههم وحالهم دون وقت آخر، قيل: كانت جملة الملائكة يومئذٍ ثمانية آلاف لأن (بل) يثبت الثاني يدفع الأول في اللفظ ولا يثبتهما معًا، وقال في "الأنفال": {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] وذلك يكون ألفين وألفان مع ثلاثة آلاف خمسة آلاف، {مُسَوِّمِينَ} قال ابن عباس والحسَن وقتادة ومجاهد والضحاك أنها الصوف في نواصي الخيل وأذنابها (¬2)، وعن ابن عباس: عمايم بيض كانوا يتدلون بين أكتافهم، وقيل: كانت عمايم صفر مثل عمامة الزبير يومئذٍ (¬3)، وقال مجاهد: كانت أذناب خيلهم محزوزة (¬4)، وقيل: كانوا على خيل بُلق (¬5)، فالجمع بين الأقاويل ممكن ما خلا لون العمايم فإنها تخيلت لقوم بلون ولقوم بلون. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}: الإمداد، وقيل: الوعد المشروط. وإن عظمت ¬

_ (¬1) وهو اختيار الطبري لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} [آل عِمرَان: 124] فوعدهم بثلائة آلاف ثم وعدهم بعدها بخمسة آلاف إن صبروا واتقوا الله. [الطبري (6/ 28)؛ ابن كثير (1/ 491)]. (¬2) رواه الطبري (6/ 36)؛ وابن أبي حاتم (4112) عن ابن عباس؛ ورواه ابن أبي حاتم (1370) عن مجاهد قال: محذفة أعرافها معلمة نواصيها بالصوف والعهن، ورواه (1372) عن مجاهد قال: معلمين مجززة أذناب خيولهم عليها العهن والصوف. ورواه ابن أبي شيبة (32721)؛ والطبري (6/ 34)؛ وابن المنذر في التفسير (893، 894) عن قتادة. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في الفضائل (1268، 1269؛ 3/ 754)؛ وعبد الرزاق في التفسير وابن أبي شيبة (24753، 32724، 36703)؛ والطبري في التفسير (4/ 83)؛ وابن أبي حاتم (1374)؛ والطبراني في الكبير (518)؛ وابن المنذر في التفسير (896)، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 513)؛ وابن إسحاق في السيرة (3/ 282)؛ وابن عساكر (18/ 353 - 354). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) أخرجه الطبري (6/ 35) عن الربيع، وأخرجه أيضًا عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر (2/ 70) إلى عبد بن حميد، وقد روي من غير هذا الوجه عن غير قتادة والربيع.

بهذا الإمداد شوكتكم وكثرت عدتكم وسكنت روعتكم، {وَمَا (¬1) النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} من حكم الله وتقديره، وهذا دليل أن العبد محتاج إلى الله تعالى في جميع أحواله. (القطع): إبطال التأليف بالجز، و (الطرف) حدف الشخص، و (الكبت) القهر، والمكبوت: الحزين، والكبت والكبد بمعنى، كما يقال: سبد رأسه وسبت؛ أي: حلقه، و (الانقلاب): الانصراف، و (الخيبة): انقطاع الأمل، ولا بدّ لحروف المعاني من أفعال يتصل بها إلى الأسماء، فالتقدير (¬2): وأنهم أذلة ليقطع أو منزلين ليقطع أو مسومين ليقطع (¬3)، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. {لِيَقْطَعَ}: ليقتل طائفة منهم وينقصهم، وإنما استعمل في النقص قطع الطرف دون الوسط (¬4) لأن قطع الوسط يأتي على الكل. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} نزلت حين لعن -عليه السلام- أبا سفيان (¬5) بن حرب والحارث بن هشام وصفوان بن أمية، فتاب الله عليهم وأسلموا وحسن إسلام بعضهم أو كلهم (¬6)، وقيل: نزلت في قنوته على عُصية وذكران حين قتلوا سبعين رجلًا ببئر معونة من أصحاب الصفة (¬7)، قال ¬

_ (¬1) (وما) ليست في "أ". (¬2) (فالتقدير) ليست في "ب". (¬3) في "ب" "ي" "أ" كلمة (أو) بعد ليقطع. (¬4) في "ب": (القسط). (¬5) في "ب": (أبو سفيان)، وهو خطأ. (¬6) لم يرد "ولعن أبو سفيان" إلا في رواية عند الترمذي (3004)، وهذه الرواية منكرة، وقد ثبت عند أحمد وغيره دون ذكر أبي سفيان، ورواية الإمام أحمد صححها أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5997)، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو على أربعة، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عِمرَان: 128] قال: وقد هداهم الله للإسلام. أخرجه الترمذي (5/ 228)؛ وأحمد (5812)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (1392). (¬7) ذكره الحافظ في العجاب (2/ 751 - 752) وهو في صحيح البخاري (8/ 226)؛ ومسلم (1/ 466).

ابنِ مسعود: كاد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) أن يدعو (¬2) على المنهزمين يوم أحد، فأنزل الله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} بعدها (¬3). وعن ابن عباس وأنس والحسَن وقتادة والربيع: أنه -عليه السلام- أراد أن يدعو (2) على الكفار أجمعين يوم أحد لما شجوا رأسه وكسروا رباعيته فأنزل (¬4)، وقيل: أنها نزلت في النهي عن المثل والعقوبات، كانت هند أعطت قلادتها يوم أحد لوحشي قاتل حمزة واتخذت قلادة من الآذان والأنوف وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فحرمها الله عليها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. وعن سعيد بن المسيب أن عبد الله بن جحش قال قبل أحد: اللَّهم إن لاقينا هؤلاء غدًا فإني أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ويمثلوا بي فيقول لي (¬5) يوم القيامة: فيم فعل بك هذا؛ فأقول: فيك فيك، فلما كان يوم أحد قبض الله الكفار ففعلوا به ما تمناه فمر به من سمع مقالته، فقال: أما هذا فقد أعطاه الله في نفسه ما سأله في الدنيا، وهو يعطيه ما سأله في الآخرة، ولما بلغ الأمر هذا المبلغ همّ -عليه السلام- (¬6) أن يعمهم بالدعاء، وأن ينال منهم ضعف ما نالوا، فأنزل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} [النحل: 126] الآية. {مِنَ الْأَمْرِ} الشأن والألف والسلام للمعهود وهو في معنى قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عِمرَان: 126] وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، ¬

_ (¬1) المثبت من "ب" وفي البقية: (-عليه السلام-). (¬2) في "ب": (يدعوا)، وهو خطأ. (¬3) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير (2/ 147) عن الكلبي، وذكره الحافظ في العجاب (2/ 752) عن الثعلبي. (¬4) في الأصل: (في)، وهي خطأ. (¬5) لم أجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد الدعاء على الكفار جميعًا، لكن المشهور عنه في هذه الحادثة عندما شُجَّ رأسه قال: "كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم .. " أرواه البخاري (7/ 365)؛ ومسلم (3/ 1417)]. (¬6) (السلام) في "ي".

{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (¬1) معطوف على قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، ويحتمل أنه في معنى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقيل: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يعني إلا أن يتوب عليهم، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، فعلى هذا معناه: ليس لك أن تحكم على أعيانهم بجنة ولا نار حتمًا إلى أن يظهر الله أمره ويميز الخبيث من الطيب. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} يدل أن إطلاق الملك يوجب نفاذ المشيئة واتجاه العذاب على حكم المشيئة. واتصال آية الربا بما تقدم من حيث ذكر المتن لأنها توجب الشكر والانقياد، وإنما بدأ بالربا لأنه كان من شرائع الجاهلية فنهى المسلمين عنه، ليدخلوا في السلم كافة ولا يتشبهوا بالكفار، (والأضعاف أقلها ثلاثة) (¬2) والأضعاف المضاعفة (¬3) أقلها ستة (¬4)، وإنما ذكر لقبحه في المعاملة. ¬

_ (¬1) في قوله: "أو يتوب" أربعة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبله، والتقدير: ليقطعَ أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، وعلى هذا فيكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عِمرَان: 128] جملة اعتراضية بين المتعاطفين، وإلى هذا ذهب الفراء والزجاج وغيرهما. الوجه الثاني: أَنَّ "أو" بمعنى حتى. وعلى هذا يكون الكلام متصلًا بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عِمرَان: 128]، وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، وأنشد قول امرئ القيس: فقلتُ له لاتبكِ عينك إنما ... نحاولُ ملكًا أونموتَ فنعذرا الوجه الثالث: أنه منصوب بإضمار "أَنْ" عطفًا على قوله "الأمر"، والتقدير: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم أو تعذيبهم شيء، فهو كقول الشاعر [ينسب لميسون بنت بحدل]: لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ الوجه الرابع: وقد ذكره المؤلف وهو أن "أو" بمعنى: إلَّا أنْ، والتقدير كما ذكره المؤلف، وهذا الوجه ذكره السمين الحلبي في تفسيره وذكره قبله الفراء وابن الأنباري. [معاني القرآن للفراء (1/ 234)؛ معاني القرآن للزجاج (1/ 480)؛ الدر المصون (3/ 39)؛ الكتاب (1/ 426)]. (¬2) ما بين (...) ليست في "أ". (¬3) في الأصل و"ي" "ب": (للمضاعفة). (¬4) الأصل أن "أضعاف" جمع قلة، لكن قصد به هنا الكثرة ولذا أتبعه بقوله "مضاعفة" =

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} إنما ذكر الرسول ليعلم أن أوامره شريعة واجبة وإن لم ينطق بها الكتاب لتقرير الله ذلك بتبقيته إعجازه، وقد تواترت الأخبار أنه -عليه السلام- (¬1) قال: "أوتيت الكتاب ومثله مرتين" (¬2). وذكر أولي الأمر في النساء ليعلم أنه يترك الاجتهاد لاجتهادهم وأن لهم إقامة الجمعة والعيد والفيء والحدود، وإن وقع التنازع (¬3) في شيء رجحوا إلى كتاب الله وسنة رسوله. {وَسَارِعُوا} المسارعة إلى الجنة وهي مسابقة بعض الناس بعضًا أو مسابقتهم انقضاء الأجل إلى عمل يوجب الجنة، فقيل: إنه التوبة، وقيل: الغزو، وقيل: الهجرة، وقيل: الوقوف على قضية الأمر والنهي، وقيل: الجمعة والجماعات. وعن سعيد بن جبير: الطاعة (¬4)، وعن أنس بن مالك: التكبيرة الأولى (¬5)، وعن عثمان: الإخلاص في العمل، وعن علي: الفرائض. {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ} أي: كعرض السماوات، وإنما حذف لعدم الإيهام ¬

_ = وهي مصدر في موضع الحال كما قال أبو البقاء. والضعف مثل قدرين متساويين، وقيل مثل الشيء في المقدار، ويقال: ضعف الشيء: مثله ثلاث مرات، إلا أنه إذا قيل "ضعفان" فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث إنَّ كل واحد يضعف الآخر. [الإملاء (1/ 149)؛ البحر المحيط (2/ 252)؛ الدر المصون (3/ 512)]. (¬1) (السلام) في "ي". (¬2) رواه أبو داود (4604)؛ والإمام أحمد (4/ 130)؛ والطبراني في الشاميين (1061)؛ والمروزي في السنة (403،244)؛ والخطيب في الكفاية (1/ 80)؛ وابن عبد البر في التمهيد (1/ 149 - 150) بلفظ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ... " الحديث عن المقدام بن معدي كرب وسنده صحيح. (¬3) في الأصل: (الشارع). (¬4) رواه ابن أبي حاتم (1421/ حكمت) قال: سارعوا بالأعمال الصالحة. (¬5) رواه ابن المنذر (921) عن أنس قال: التكبيرة الأولى، وذكره القرطبي (17/ 206) عن مكحول.

كقوله -عليه السلام-: "الضبع نعجة (¬1) سمينة" (¬2)، وذكر العرض دليل على الطول أنه زائد والطول لا يدل على العرض، قيل: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب، فقال: أرأيت قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} الآية، فقال عمر لأصحاب محمَّد -عليه السلام-: أجيبوه، ولم يكن عندهم فيها شيء، فقال: أرأيت النهار إذا جاء يملأ السماوات والأرض، قال: بلى، قال: فأين الليل؛ قال؛ حيث شاء الله، (وقال عمر: والنار حيث شاء الله) (¬3)، فقال اليهودي: والذي نفسك بيده يا أمير المؤمنين، إنها لفي كتاب الله المنزل كما قلت (¬4). و {السَّرَّاءِ} حالة السرور والنعمة، و (كظم الشيء) حبسه عن الظهور والخروج. يقال: كظم البعير على جرّتِه إذا ردّها في حلقه، وكظم فلان القربة. والكظام لوح عريض يسد به فم النهر، وهو مستعمل في الغضب والحزن إذا لم يظهرهما الإنسان. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآيتان تدلان (¬5) أن الله تعالى أحب أن يعبد بابتداء الخير والرجوع إلى الخير بعد الشر. وفي الحديث: "إن الله (¬6) تعالى يحب العبد المفتن التواب" (¬7)، (والفاحشة: الكبيرة، وظلم الأنفس: ¬

_ (¬1) في "ب": (نعجة عظيمة). (¬2) ذكره ابن المنذر في الأوسط (2/ 312) عن عكرمة. (¬3) ما بين (...) ليست في "أ". (¬4) رواه الطبري في تفسيره (6/ 55) عن طارق بن شهاب أن ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض: أين النار؛ قال: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؛ فقالوا: اللهم نزعت مثله من التوراة. وكذا رواه ابن المنذر (918، 919)، وعزاه في الدر (2/ 72) لعبد بن حميد، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثله، أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 56). (¬5) في "ب": (تدل على). (¬6) (الله) من "ب" "أ". (¬7) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند (1/ 80 - 103)؛ وفي زوائد الفضائل (1191)؛ والحارث في مسنده (1076 - بغية)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (7122)؛ وأبو يعلى (483)؛ وأبو نعيم في الحلية (3/ 178 - 179)؛ والحديث ضعيف جدًا وهو إلى الوضع أقرب.

الصغاير. وقيل) (¬1): الفاحشة: ما يعدو، وظلم النفس: ما لا يعدو، ويحتمل قلبُ هذا، {ذَكَرُوا اللَّهَ} بقلوبهم عند ألوان دامت عليهم بعد الغفلة، {وَمَنْ يَغْفِرُ} استفهام بمعنى التقرير (¬2)، {الذُّنُوبَ} الجرائم التي تكون آثامًا دون ما يمكن الناس مغفرته. واختلف في أرجى آية، قيل: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]، وقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، وقيل هذه الآية. {وَلَمْ يُصِرُّوا} لم يعزموا المقام على ما فعلوا بترك نية الإقلاع عنها والتوبة منها، وقال عطاء: إذا أذنب أحدكم فليسرع إلى الرجوع يغفر الله له، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} عالمين أنه معصية، فأما إذا اشتبه عليهم مما يسوغ فيه الاجتهاد فلا عليهم، وقيل: وهم يعلمون أن الله يقدر أن يجعل الذنوب مغفورة، {الْعَامِلِينَ} عاملو الخصال المذكورة من الخيرات. {سُنَنٌ} واحدها سُنّة: وهو ما وضع من رسم (¬3) ومثال في السيرة، ¬

_ (¬1) ما بين (...) ليست في "أ". (¬2) الأظهر أن الاستفهام هنا بمعنى النفي أي: ما يغفر الذنوب إلا الله، وهو اختيار الزجاج والسمين الحلبي وابن كثير وغيرهم، ولا مانع من الثاني، وجوَّز ابن جرير الوجهين. [ابن كثير (1/ 498)؛ معاني القرآن (1/ 469)؛ الدر المصون (3/ 397)؛ ابن جرير (6/ 65)]. (¬3) أي أن "سُنَة" بمعنى الطريقة، ومنه: سنة الأنبياء -عليه السلام- أي: طريقتهم، ومنه قول خالد الهذلي: فلا تَجْزَعَنْ مِن سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فأوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يسيرها وقال المفضل الضبي: السُّنَّة: الأمة، وهو قول ابن جرير، ومنه قول الشاعر: ما عاينَ الناسُ من فضلٍ كفضلكم ... ولا رُئِيْ مثله في سائر السننِ وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى صَوَّرَهُ. ومنه قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]. [الطبري (6/ 70)؛ ديوان الهذليين (1/ 57)؛ الخصائص (2/ 212)؛ البحر (3/ 56)].

قال الحسَن وابن إسحاق: سنن الله تعالى في المكذبين (¬1)، وقال الزجاج: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ} سنن وطرايق، هذا إشارة إلى التنبيه على السنن الخالية، وقيل: إلى النظر المأمور به. (الوهن): الضعف (¬2)، وإنما جاز النهي عنه لأن الإنسان ربما اكتسبه بالجبن والتخوف (¬3) وتمكن الأهوال من القلب، و (العلو): الرفعة والسمو مكانًا أو مكانة، وأراد ها هنا (¬4) المكانة والغلبة، ومنه كان فضيلة هذه الأمة علي بني إسرائيل حيث قال لموسى -عليه السلام- وجنده: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]. وقال لهذه الأمة: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} متصل بالنهي، وقيل: بالخبر. {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} نزلت في تسلية المؤمنين مما أصابهم يوم أحد، وشاور رسول الله يومئذٍ أصحابه في الخروج إلى العدو، وقال: "إني رأيتني لبست درعًا فأولتها المدينة" (¬5) فأشار عليه ابن أبي بن سلول (¬6) أن لا يخرج، وأشار عليه رجال من المسلمين أن يخرج، فلبس درعًا وخرج في ألف رجل، وانخذل ابن أبي بن سلول (6) بثلث الناس غيظًا أن لم يقبل قوله (¬7)، واتبعه عمرو بن حزام. (ولما وصل) (¬8) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬9) إلى الشعب من ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (الكذابين). (¬2) في قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ...} [آل عِمرَان: 139]. (¬3) في الأصل و"ب": (التخويف). (¬4) في الأصل: (هنا). (¬5) رواه الإمام أحمد (1/ 271؛ 3/ 351)؛ والحاكم (2/ 141)؛ والبيهقي (7/ 41) عن ابن عباس مرفوعًا، ورواه النسائي في الكبرى (7647)؛ وابن سعد (2/ 45)؛ والدارمي (2159) عن جابر مرفوعًا، والحديث صحيح ثابت. (¬6) في الأصل: (ابن أبي سلول)، وهو خطأ. (¬7) سيرة ابن هشام (3/ 11). (¬8) بدل (...) بياض في الأصل. (¬9) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب".

أحد (¬1) أمَّر عبد الله بن جبير أحد بني عمرو بن عوف (¬2) على خمسين رجلًا من الرماة وأوصاهم أن لا تبرحوا أكانت الحرب لنا أو علينا كيلا تأتينا الخيل من ورائنا، وظاهر بين درعين وجعل ظهره إلى أحد، وتهيأ للقتال (¬3). ودفع سيفًا إلى أبي دجانة ضمن أن يأخذه بحقه، وتعمم بعمامة حمراء وتبختر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموضع" (¬4)، وقاتل أبو دجانة يومئذٍ قتالًا (¬5) شديدًا موفيًا عهده (¬6)، وحميت الرب فقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش (¬7) فخلفه سعد بن أبي طلحة، فرمى سعد بن أبي وقاص فقتله (¬8) فخلفه شافع، فرماه عاصم بن ثابت الأنصاري وقتله، فخلفه الحكم بن الأخنس، ثم عبد الله بن حميد وأبو حذيفة بن حميد وأبو أمية بن حذيفة (¬9)، وأسر أبو عزة الجمحي الشاعر بعد ما من عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬10) يوم بدر فجيء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (10) فضرب عنقه وقال: "لا تمسح خديك بين الصفا والمروة، وتقول: خدعت محمدًا مرتين" (¬11) وصدق الله وعده عبده وانهزم الكفار، فكان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عِمرَان: 152] الآية. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (3/ 13). (¬2) في "ب": (عمرو بن حزام بن عوف)، وهو خطأ. (¬3) سيرة ابن هشام (133)؛ تاريخ الطبري (2/ 506 - 507)؛ دلائل النبوة للبيهقي (2273). (¬4) أخرجه الطبري في التاريخ (2/ 511)؛ والبيهقي في الدلائل (2333 - 234) بسند منقطع. ورواه الطبراني في الكبير (6508) بسند فيه مجهول. وخبر أبي دجانة ذكره ابن حبان في الثقات (1/ 225). (¬5) في "ب"ي": (قتلًا). (¬6) سيرة ابنِ هشام (3/ 18). (¬7) سيرة ابن هشام (3/ 22 - 23)، وعنه ابن كثير في التاريخ (4/ 22). (¬8) سيرة ابن هشام (3/ 23). (¬9) ذكر بعض هؤلاء ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (233). (¬10) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬11) سيرة ابن هشام، وذكره الشافعي في الأم (4/ 239)، وعنه البيهقي في السنن (9/ 65)؛ وفي الدلائل (3/ 281). وانظر تاريخ الطبري (2/ 536)، وكذا ابن كثير (4/ 59).

فلما نظر أصحاب المركز إلى القوم قد انكشفوا أقبلوا يريدون النهب والغنائم وخلوا ظهور المسلمين عارية، فأتوا من ورائهم وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل، يقال: إنه كان إبليس (¬1)، وصار المسلمون ثلاثة أثلاث: ثلث قتلى، وثلث جرحى، وثلث منهزمون. وكان حمزة يقاتل رجلًا من الكفار فتعرض وحشي وطعنه بحربة في أنثييه فقتله (¬2)، ثم خلصوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) فقذفوه بالحجارة فأدمي وجهه وأصيبت رباعيته، وكان زياد بن السكن الأنصاري ممن شرى نفسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وفداه بنفسه، وترس أبو دجانة دون رسول الله يقع في ظهره النبل. وقصد عبد الله بن قمئة الليثي قتل رسول الله فدرأ عنه مصعب بن عمير فقتل مصعبًا (¬5) وهو يرى أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، ورجع إلى أبي سفيان مبشرًا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6)، وأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة وغيرهما من المهاجرين فوجدهم واقفين متحيرين، فقال: ما بالكم؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا إكرامًا (¬7) على ما مات عليه (¬8) نبيكم، ثم انحاز إلى القوم فقاتل حتى قتل (¬9)، وأول من عرف رسول الله (¬10) بعد هذا كعب بن مالك قال: عرفت عينيه تحت ¬

_ (¬1) قاله ابن هشام. انظر: السيرة (3/ 28). (¬2) سيرة ابن هشام (3/ 19 - 20)؛ وانظر خبر قتل حمزة عند البخاري (4072) باب قتل حمزة - رضي الله عنه -. (¬3) (وسلم) من "ب". (¬4) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬5) سيرة ابن هشام (3/ 22)؛ والطبري في تاريخه (2/ 516)؛ والبيهقي في الدلائل (3/ 238)، وذكره المؤرخ ابن كثير في تاريخه (4/ 22). (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬7) (إكرامًا) من "ب"، وفي البقية (كرامًا). (¬8) (عليه) ليست من "ب". (¬9) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة لابن هشام (3/ 37)، وعنه الطبري في التاريخ (2/ 517)؛ وفي التفسير (4/ 112 - 113)؛ والبيهقي في الدلائل (3/ 245)؛ وابن حبان في الثقات (1/ 228)؛ وابن كثير في التاريخ أيضًا (4/ 39). (¬10) في "ب": (رسول الله أنه).

المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليَّ أن اسكت (¬1). ثم نهض المسلمون إلى رسول الله يقيم نحو الشعب، ونادى أبو سفيان حين أراد الرجوع بأعلى صوته: اُعلُ (¬2) هُبَل فوق ذروة الجبل، يوم بيوم: يوم أحد بيوم بدر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) عمر بن الخطاب أن يجيبه، فقال: الله أَعْلَى وأَجَل، لا سواء قتلانا في الجنة يتنعمون وقتلاكم في النار يعذبون، فلما سمع أبو سفيان ذلك، فقال: هلمَّ يا عمر أنشدك الله هل قتلنا محمدًا؟ قال: كلا، وإنه ليسمع كلامك، فقال: والله إنك عندي أصدق من عبد الله بن قمئة الليثي زعم أنه قتله (¬4). وكان -عليه السلام- يقول يومئذٍ لسعد: "ارم فداك أبي وأمي" (¬5). وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنتيه فردَّها رسول الله إلى مكانها فعادت (¬6) كأحسن ما كانت (¬7). ولما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬8) تبعه أبي (¬9) بن خلف يقول: لا نجوت إن ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (3/ 38)، وفيه: "أن أنصت". (¬2) في الأصل و"ي": (اعلي). (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬4) انظر شماتة أبي سفيان عند ابن هشام (3/ 50) وأصلها في الصحيح عند البخاري (3034، 3986، 4043). (¬5) رواه البخاري (2905، 4055، 4056، 4057، 4058، 3812، 3725)؛ ومسلم (2411). (¬6) بدل (فعادت) بياض في الأصل. (¬7) رواه أبو يعلى (1549)؛ وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 391)؛ وابن عدي في الكامل (4/ 283)؛ والطبراني في الكبير (19/ 8/ 12)؛ وأبو نعيم في الحلية (6/ 337)؛ وفي الدلائل (2/ 484/ 417)؛ وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 371)؛ والبيهقي في الدلائل (3/ 253) من طرق عن قتادة بن النعمان مرفوعًا، والحديث حسن كما نصَّ عليه بعض أهل العلم بهذا الشأن. (¬8) (صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬9) في الأصل و"ب": (بن أبي بن خلف)، وهو خطأ.

نجوت، فقالى بعضهم: ألا يعطف عليه رجل؟ فقال -عليه السلام- (¬1): "دعوه" حتى إذا دنا تناول حربة من الحارث بن الصمة ثم عطف عليه وأشار بها إلى عنقه فخدش خدشة، وقد هراء عن فرسه يقول: قتلني محمَّد! وأحاطت به قريش تقول: ما بك بأمر، وهو يقول: بلى، فإن محمدًا كان توعدني أن يقتلني، فلو بزق علي بعد مقالته تلك لقتلني، فكان كما قال ولم يبلغ مكة (¬2). ولما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) فم الشعب استقبلته فاطمة معها قربة من ماء وغسلت الدم عن وجهه، ثم جيء بعلي وعليه نيف وستون جراحة من طعنة ورمية وضربة، فجعل رسول الله يمسحها بإذن الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فتلتئم بإذن الله كأن لم تكن، وجيء حمزة وسائر الشهداء فصلى عليهم رسول الله حتى كبر سبعين تكبيرة (¬4)، فلما فرغ رسول الله من صلاته مال نساء المدينة يبكين موتاهن، قال: "أما حمزة لا بواكي عليه (¬5) "، له. فبكت نساء المدينة حمزة أولًا، ثم بكين قتلاهن (¬6) (¬7) وصار ذلك عادة لهن إلى يومنا هذا. (مداولة الأيام): صرفها وإدارتها (¬8)، {وَلِيَعْلَمَ} عطف على المعنى ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) سيرة ابن هشام (3/ 38 - 39). وذكره الطبري في تاريخه (2/ 518)، وكذا ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 39 - 40) عن ابن إسحاق. (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) (من "ب". (¬4) سيرة ابن هشام (553)؛ وعنه ابن كثير في تاريخه (4/ 45). (¬5) (عليه) من الأصل. (¬6) في الأصل و"ي": (قتلهن). (¬7) رواه الإمام أحمد (2/ 40، 84)؛ وابن ماجه (1591)؛ وابن أبي شيبة (12127، 36754)؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 293)؛ وأبو يعلى (3576، 3610)؛ وابن سعد (3/ 17)؛ والطبراني في الكبير (2944)؛ والحاكم (1/ 537؛ 3/ 215، 217)، وعنه البيهقي في سننه الكبير (4/ 70)، والحديث صحيح ثابت. (¬8) أصل المداولة: المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهد الشيء مرة بعد أخرى، ومنه قوله الشاعر: يرد المياهَ فلا يزالُ مداولًا ... في الناسِ بين تمثُّلٍ وسَمَاعِ [شواهد الكشاف (4/ 39)؛ الإملاء (1/ 150)].

وكأنه (¬1) قال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} فلأنه مس القوم قرح مثله، وليعلم، وقيل: فيه إضمار وتقديره نداولها بين الناس لضروب من المصلحة، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ}، وقيل: أول القصة {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عِمرَان: 152] {وَلِيَعْلَمَ} عطف عليه (¬2)، {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يجيبكم بالشهادة، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: لم يدلهم عليهم (¬3) لمحبتهم (¬4)، ولكن بهذه المعاني. والتمحيص والمَحْق كلاهما إذهاب الشيء، إلا أن المراد بتمحيص المؤمنين تمحيص ذنوبهم وما في قلوبهم من الغلّ والعيوب، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} سلب عزيمتهم وشوكتهم وإزهاق أرواحهم بالعقوبة لهم في ثاني الحال أو بالمداولة. {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} نزلت في قوم لم يشهدوا بدرًا فلما شاهدوا الموت في أصحابهم يوم أحد (¬5) فهزموا (¬6) ولم يقدموا لما تمنوا؛ عن الحسن ومجاهد وقتادة والربيع (¬7)، وهي وجه العتاب وإنما تمنوا ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: (فكأنه). (¬2) ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلق هذه اللام وعطفها وجهين: أحدهما: أن اللام صلة لفعل مضمر يدلُّ عليه أول الكلام، والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا نداولها. والوجه الثاني: أن العامل فيه و"نداولها"، ويكون التقدير: نداولها بين الناس لنظهر أمرهم وليبين أعمالهم وليعلم الله الذين آمنوا. فلما ظهر معنى اللام المضمرة في "ليظهر" و"ليبين" جرت مجرى الظاهرة فجاز العطف عليها. وجوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة فلا عطف. [معاني القرآن (1/ 125)؛ الإملاء (1/ 150)؛ الكشاف (1/ 466)]. (¬3) في الأصل: (عليه). (¬4) ما ذكره المؤلف هو تأويل لصفة المحبة وصرفها عن حقيقتها على غرار مذهب الأشاعرة الذي سار عليه الجرجاني، والذي ندين الله به هو إئبات المحبة لله لأن نفي محبته للظالمين دليل على إثباتها للمؤمنين محبة تليق بجلال الله وعظمته. (¬5) في الأصل و"ي": (يواحد). (¬6) في الأصل: (فروا). (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم (1539/ حكمت) عن ابن عباس، قال ابن أبي حاتم: =

لأنهم كانوا متيقنين لمحاربة الكفار وقتلهم بعض المسلمين، فلم يقع تمنيهم لغلبة الكفار ولكنه لما رجوه من أن يكون ذلك البعض، واختلف في رؤية الإعراض، فمن جوز أراد به رؤية العينين، ومن لم يجوز فهي رؤية (¬1) القلب. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} نزلت في المنهزمين يوم أحد وفي المتشككين في أمرهم إذ سمعوا: ألا إن محمدًا قد قتل (¬2)، فأخبرهم الله تعالى أن محمدًا ليس إلا رسولًا وأنه قد خلت من قبله الرسل موتًا وقتلًا، أي هو سائر إلى ما صاروا إليه وأنكر عليهم الانقلاب على أعقابهم إن مات أو قتل، وألف الاستفهام داخلة على الشرط لفظًا وعلى الجزاء معنى؛ لأن الجزاء كلام مستقل بنفسه لقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] أي: فهم الخالدون إنْ مت (¬3) (¬4)، وفي قوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} تهديد ووعيد كما في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [آل عِمرَان: 97] والمراد بالشاكرين المضادون للمنقلبين المرتدين لخليفة رسول الله أبي بكر الصديق وأصحابه (¬5) وأمثاله. ¬

_ = وروي عن الحسن ومقاتل ومجاهد والسدي ومحمد بن كعب وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. ورواه الطبراني (6/ 94)؛ والفريابي كما في العجاب (2/ 761) عن مجاهد. ورواه الطبراني أيضًا (4/ 109) وعبد بن حميد كما في العجاب أيضًا (2/ 762) عن قتادة، ورواه الطبري (6/ 95) عن الحسن والسدي والربيع. (¬1) في الأصل: (رواية)، وهو خطأ. (¬2) أخرجه ابن جرير (6/ 99) عن قتادة والربيع، وهناك أسباب أخرى في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وأسانيدها كلها ضعيفة. (¬3) في الأصل و"أ": (وإن مت). (¬4) الهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم لأنها حرف عطف. وإنما قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وقال أبو البقاء: الهمزة عند سيبويه في موضعها، والفاء تدل على تعلق الشرط بما قبله. اهـ. وزعم يونس أن هذه الهمزة في مثل هذا التركيب داخلة على جواب الشرط أي أنها بهذا التركيب في غير موضعها. [الكشاف (1/ 468)؛ الإملاء (1/ 151)]. (¬5) (وأصحابه) من الأصل فقط.

{بِإِذْنِ اللَّهِ} ها هنا قدر الله، وفي الآية تشجيع للمؤمنين، كتب {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} مؤقتًا، ومثله يجيء للتأكيد كقوله: {وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31]، {كِتَابَ اللَّهِ} [البقرة: 101]، {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88]، و {رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 28]، و {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ: 36] (¬1). {ثَوَابَ الدُّنْيَا} الغنيمة، والذكر و {ثَوَابَ الْآخِرَةِ} المغفرة والأجر (¬2). والمرافى بالشاكرين مريدو ثواب الآخرة، وإنما كرر وعد جزائهم للتأكيد، وقيل: لما يجمع لهم من ثواب (¬3) الدارين. {وَكَأَيِّنْ} في معنى كم (¬4)، والقتل واقع على النبي وعلى الربيين معه في قراءة من قرأ بغير ألف، والوهن منفي عن الباقين كذلك على قراءته، كقول الرجل: هزمنا بنو فلان وقتلونا، أي: قتلوا أصحابنا، والربيّون جمع ربية وهي الجماعة، وقيل: العربي والرباني الرجل المنسوب إلى الرب (¬5)، ¬

_ (¬1) أي كما في قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} [الروم: 6]، و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النِّساء: 24]، و {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النَّمل: 88]، و {رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسرَاء: 28]، و {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النَّبْأ: 36]. (¬2) المثبت من "ي"، وفي بقية النسخ: (وثواب المغفرة الآخرة المغفرة). (¬3) في الأصل: (الثواب). (¬4) قوله "كأَيِّنْ" مركبة من كاف التشبيه ومن "أي"، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من "كم" الخبرية، ومثلها في التركيب وإفهام التكثير: "كذا" في قولهم: له عدي كذا درهمًا. والأصل كاف التشبيه و"ذا" الذي هو اسم إشارة، فلما ركِّبَا حدث فيهما معنى التكثير، و"كأين" من حقها أن يوقف عليها بغير نون لأن التنوين يحذف وقفًا، إلا أن الصحابة كتبتها "كأين" بثبوت النون، فمن ثم وقفَ عليها جمهور القرَّاء بالنون اتباعًا لرسم المصحف، ووقف أبو عمرو وغيره من القراء عليها فقالوا "كأي" من غير نون على القياس. [الكشف (1/ 357)؛ البحر (723)؛ الحجة (2/ 240)]. (¬5) قوله "رِبِّيون" قرأ الجمهور بكسر الراء، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعطاء بضمِّها، وقراءة أخرى لابن عباس بفتح الراء فيما رواه قتادة عنه، قال الزجاج: قراءة الضم بمعنى الجماعات الكثيرة. [القرطبي (2/ 175)؛ الكشاف (1/ 424)؛ بحر العلوم للسمرقندي (1/ 306)؛ المحتسب لابن جني (1/ 272)].

{فَمَا وَهَنُوا} أي: بعقولهم وآرائهم، {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} من الشدائد والمصائب، {وَمَا ضَعُفُوا} بقلوبهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا} ما خضعوا وما تضرعوا ولكن صبروا، {قَوْلَهُمْ} نصب لأنه خبر (ما). و (الذنوب): هي الآثام، و (الإسراف): مجاوزة الحد والتمادي والانهماك، والسرف: ضد القصد. وقوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ} الآية تحريض للمؤمنين أن يقتدوا بأولئك الماضين لينالوا ما نالوا، وإنما قال (¬1): {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} للتأكيد وإزالة الإيهام؛ فإن من المثوبة ما ليس فيه. قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} [المائدة: 60]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يدل أنهم كانوا بهذه الخصال محسنين. لما حذر الله المؤمنين الانقلاب على أعقابهم إن مات رسوله -عليه السلام- أو قتل، ذكر السبب الداعي إلى ذلك ليحذروه وهو طاعة الكفار. {بَلِ اللَّهُ} (بل) للإضراب عن الأول والإقبال على الثاني، أي: بل الله هو أهل لأن يطاع لا الذين كفروا. {سَنُلْقِي} قيل: لما انصرف أبو سفيان عن أحد، قال: أين الموعد؟ فأمر النبي -عليه السلام- أن يقول: بدر الصغرى فرجع على ذلك، فلما كان وقت ذلك ألقى الله في قلوب الكفار الرعب فلم يحضروا (¬2) وأرسلوا نعيم بن مسعود الثقفي يخوف المسلمين لئلا يخرجوا (¬3) وفي ذلك أنزل الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عِمرَان: 173]، و {الرُّعْبَ} الخوف، {بِمَا أَشْرَكُوا} الباء للمسبب، {بِاللَّهِ} الباء بمعنى مع {بِهِ} أي بعبادته وإشراكه، والسلطان الحجة والبرهان، قال الله: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرَّحمن: 33]، وقال: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] وكل معبود دون الله لم ينزل الله به سلطانًا قط، و (المثوى) موضع اللبث والثوي. ¬

_ (¬1) (وإنما قال) ليست في "ب"، وفي "أ": (وإنما قالوا). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (1619/ حكمت)؛ والطبري في التفسير (6/ 127) عن ابن عباس - رضي الله عنه - وعن السدي. (¬3) كما أخرجه مقاتل في تفسيره (1/ 205 - 207).

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ} (¬1) أنزل الله تثبيتًا للمؤمنين وحسمًا للخواطر الفاسدة، وبين الله أنه (¬2) صدق وعده بالتمكين من أصحاب الألوية وأتى غرة الجمحي وأمثاله ورد الكفار أجمعين يوم أحد من أول الالتقاء إلى أن عصت الرماة بتركهم المركز بعد ما أراهم الله ما يحبون من النصرة والظفر، وتنازعوا واختلفوا فيما بينهم وفشلوا بما سمعوا من الإرجاف أن محمدًا قد قتل، ثم صرفهم بعد ذلك عن الكفار بما كسبوا وأدالهم منهم ليمتحنهم بالقتل والشدائد عقوبة لتركهم المركز، وإنما عفا عنهم كما عفا عن بني إسرائيل بعد الموت وقتل الأنفس، {تَحُسُّونَهُمْ}: تهلكونهم بمشيئته وأمره، يقال: البرد محسة للبيت، وقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} الآية، قيل: عارض، وقيل: بيان لحالهم عند تركهم المركز، فإن بعض ترك الغنيمة وبعضهم للجهاد ومباشرة القتال والقتل. والمراد بقوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} وقت صرفهم وابتلائهم، والإصعاد هو الذهاب في الصعود وهو الارتقاء، وقيل: الإصعاد الإبعاد في الأرض، وقيل: أن تذهب على وجهك ولا تميل (¬3)، {وَلَا تَلْوُونَ} لا تثنون ولا تعرّجون (¬4) في إخوتكم أي من ورائكم، تقول: إليَّ عباد الله، إليّ يا أهل سورة البقرة وآل عِمرَان، {غَمًّا بِغَمٍّ} أي: غمًا غم فالأول الهزيمة، والثاني ما ذكره ابن جريج أن أبا سفيان لما (¬5) توسط الشعب وقف فظن المسلمون أنه سوف يميل عليهم فأنساهم ذلك الغم الأول (¬6)، وقيل: ¬

_ (¬1) (ولقد صدقكم الله) بياض في الأصل. (¬2) في الأصل (بأنه)، وفي "أ" ليست موجودة. (¬3) قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} [آل عِمرَان: 153] وذلك حين انهزموا عن عدوهم، وأخذوا في الوادي هاربين، ويدلُّ لذلك قراءة أُبَيَ: {إذ تصعدون في الوادي} والنبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم: "يا لعباد الله، يا لعباد الله". [الطبري في تفسيره (6/ 146)؛ عن قتادة والربيع]. (¬4) في الأصل: (تعوجون). (¬5) في الأصل: (فما). (¬6) رواه ابن جرير (6/ 156)؛ وابن المنذر (1080)، ورواه مقاتل في تفسيره (1/ 198 - 199)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (4350)؛ أن الهم الأول الهزيمة وما فاتهم =

غمكم مكان ما غمتم نيته ليترك إجابته، {لِكَيْلَا} أي: إنما أثابكم غمًا لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنائم ولا ما أصابكم من العناء والمشقة والجراح، قيل: هذا الغم الثاني الذي أنساكم الغم الأول مخافة الاستئصال، والغم: حزن كأنه يغشى القلب ويستره لما يشغله عن كل شيء. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} والقصة أن أبا سفيان لما وعدهم الرجوع تهيأ المسلمون للقتال وطارت قلوب المنافقين فأنزل الله أمنه على المسلمين حتى غشيهم النعاس وامتازوا عن المنافقين، وذلك أدل دليل على وجود الأمن وزوال الخوف، ولذلك قال -عليه السلام-: "النعاس في الحرب من الرحمن وفي الصلاة من الشيطان" (¬1)، روى أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا (¬2)، {أَهَمَّتْهُمْ} شغلتهم أنفسهم عن كل شيء حتى لم يهتموا إلا لأنفسهم، و {غَيْرَ الْحَقِّ} هو الباطل، {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (¬3) ثم بين ظنهم فقالوا: يقولون أي في أنفسهم {هَل لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} على وجه الإنكار، أي: ما لنا من الخير والظفر والفلاح من شيء في متابعة هذا الرجل وفي هذه الحروب (¬4)، وقوله: {لَوْ كَانَ} ¬

_ = من الغنائم، فأشرف عليهم خالد بن الوليد من الشعب في الجبل، فلما عاينوه أنساهم ما كانوا فيه من الغم الأول. (¬1) رواه الطبري (4/ 141؛ 9/ 193)؛ وابن أبي حاتم (4360)؛ وابن المنذر (1082) وعزاه في الدر (2/ 88) لعبد بن حميد. (¬2) رواه البخاري (4562). (¬3) المثبت من الأصل، وفي بقية النسخ (ظن أهل الجاهلية). (¬4) اختلف في الاستفهام في هذه الآية هل هو على ما ذكره الجرجاني أنه استفهام إنكاري بمعنى النفي فيكون كما قدره المؤلف: ما لنا من الخير من شيء، وما ذهب إليه المؤلف هو الذي ذهب إليه قتادة وابن جريج، لكن يضعف هذا القول -كما قال السمين الحلبي- بقوله تعالى بعده: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عِمرَان: 154] فإن من نفى عن نفسه شيئًا لا يُجَاب بأنْ يُثْبِتَ لغيره لأنه مقرٌّ بذلك. وقيل: إن الاستفهام هذا على حقيقته. [الإملاء (1/ 155)؛ الدر المصون (3/ 449)].

استدلالهم الفاسد واعتبارهم الباطل، فبين الله تعالى أن المعلوم المقدر كائن لا محالة، وذلك وحده لا يدلس على حق وباطل إذ هو علم في جميع الحيوان، كتب وقدر وقضى، والمضجع موضع الإضجاع، والمراد بالمضاجع (¬1) ها هنا المصارع. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} نزلت في المنهزمين يوم أحد منهم من انهزم ساعة ومنهم من رجع إلى المدينة ومنهم من خرج إلى جلعب (¬2) جبل بالمدينة فلم يرجع إلا (¬3) بعد ثلاث (¬4)، {اسْتَزَلَّهُمُ} بأن خوفهم أن يقتلوهم، قيل: التوبة الإقلاع عن الذنوب والمظالم، وإنما توصل إلى تخويفهم بشؤم تركهم المركز فعفا الله عنهم أجمعين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في المؤمنين تحذيرًا أن يكونوا كالمنافقين وإنما قال: {إِذَا ضَرَبُوا} ولم يقل: إذ ضربوا؛ لأن المراد هو الإخبار عن عادتهم في الحال والماضي والمستقبل دون الإخبار عن فعلة واحدة فيما مضى، و {غُزًّى} جمع غازي كركع وسجد جمع راكع وساجد، والغزو: الخروج إلى القتال، {لِيَجْعَلَ اللَّهُ} لام العاقبة، وإنما يصير ذلك حسرة في قلوبهم لافتضاحهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة والله هو المحيي والمميت في الحقيقة لأن هذه الأسباب الموهمة للموت. واللام في قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} جواب (لئن) خير لكم وذلك لأن القتيل والميت محتاجان إلى المغفرة ورحمة من الله مستغنيان من حطام الدنيا فما يحتاجان إليه أبدًا، هو {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} مما يستغنيان عنه. {وَلَئِنْ مُتُّمْ} بشرى للعارفين وتطييع للمحسنين وتنبيه للمذنبين وتقريع للكافرين. ¬

_ (¬1) في الأصل: (المضاجع). (¬2) في المخطوطات كلمات قريبة من هذه الكلمة. (¬3) في الأصل: (لا). (¬4) رواه عبد بن حميد كما في العجاب (2/ 772 - 773)؛ والطبري في تفسيره (6/ 172)؛ وابن المنذر (1095).

{فَبِمَا رَحْمَةٍ} (ما) صلة عند الكوفيين وقائم مقام شيء عند البصريين (¬1)، والرحمة كالبدل والبيان، و (اللين): ضد الخشونة والفظاظة، ورجل لين الجانب إذا كان رقيقًا سهل المأخذ، و (الفظ) في الأصل ما في الكرش من الفرث، ورجل فظ سيء العشرة والخلق، وإنما زاد غلظ القلب في الوصف للتأكيد؛ لأن من الناس من يكون رقيق القلب سريع الرضا حسن المرجع سيء الخلق والعشرة، و (الانفضاض): التفرق والانتشار، {فَاعْفُ عَنْهُمْ} يقتضي إباحة العفو، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} على الوجوب، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} على الندب والإباحة، والمعنى فيه استمالة قلوب القوم بالإصغاء إليهم وبإشراكهم في إمضاء الأمر، {فَتَوَكَّلْ} (¬2) فرض لازم لا يسع تركه. في قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} بيان المعنى الموجب للتوكل وخذلانك صاحبك وتركك (¬3) إياه إلى قدر نفسه بلا إعانة ولا توفيق إرادة منك هوانه يقال: طيبة خذول إذا قعدت عن تعهد ولدها وقالت الأشعرية الخذلان نسخ قدرة الخير بقدرة الشر. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ} نزلت في يوم بدر فقدوا قطيفة حمراء فاتهم بعض المنافقين أو الجهال رسول الله. و (الغلول): الخيانة، وأصله من انغلال الماء بين الأشجار (¬4)، وتواترت الأخبار في تعظيم شأن غلول الغزاة في الغنيمة. ¬

_ (¬1) في "ما" وجهان إعرابيان: أحدهما: أنها زائدة للتوكيد. والوجه الثاني: أنها غير مزيدة، بل هي نكرة. إما نكرة موصوفة، والتقدير: فبشيء رحمةٍ. وإما غير موصوفة فتكون "رحمة" بدلًا منها، وهذا محكي عن ابن كيسان، ونقله أبو البقاء عن الأخفش، وقال الزجاج: "ما" هذه صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين. [المشكل (1/ 165)؛ الإملاء (1/ 155)؛ معاني القرآن (1/ 497)]. (¬2) في "ب": (وتوكل). (¬3) في المخطوطات: (وكونك) (وكفلك)، ولا معنى لها. (¬4) رواه الترمذي (3009)؛ وأبو داود (3971)؛ وأبو يعلى (2438، 2651)؛ وابن أبي حاتم (1760/ حكمت)؛ وابن المنذر (1125)؛ والواحدي في أسباب النزول ص 759؛ والطبراني في الكبير (12028، 12029)؛ والطبري في التفسير (4/ 154 - 155)؛ وابن عدي في الكامل (3/ 72).

(اتباع رضوان الله): اتباع ما يرضاه من الأفعال كالأمانة، والذي باء بسخط من الله هو الغال ونحوه، و (السخط): إرادة الخذلان والشر. معنى {هُمْ دَرَجَاتٌ} إن المتبعين رضوان الله والذين باؤوا [بغضب من الله] (¬1) بمسخط منه ليسوا في درجة واحدة ولكنهم ذوو درجات ومدارج، وأما أهل الجنة فأمرهم معروف وقد قال -عليه السلام-: "إن أهل الجنة ليتراؤون أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" (¬2)، وأما أهل النار فإن لهم دركات لا محالة بعضها أسفل من بعض، ولا تكون بعضها أسفل إلا وبعضها أعلى، فالأعلى درجة بمقابله الأسفل. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر المتن في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عِمرَان: 159] ووجه المنة ها هنا أنه لو كان من غير العرب لمنعتهم النخوة العربية عن الإيمان به، ولما فهموا كلامه ولا نالوا به شرفًا ومجدًا، فأرسل إليهم رسولًا من أنفسهم عرفوه وامتحنوه وسمّوه أمينًا قبل دعوته ليزيدهم أسباب الإيمان, وإن أجرينا على العموم فهو من أنفسنا لأنه آدمي مثلنا من ذرية نوح تمكننا متابعته في هديه وسمته ولا تنفر عنه طباعنا {وَإِنْ كَانُوا} ما كانوا إلا في ضلالة كقوله: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186] واللام مكان الاستثناء (¬3)، وقيل: ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "ب". (¬2) رواه الترمذي (3608)؛ وابن ماجه (96)؛ والإمام أحمد (3/ 26 - 27، 72، 93، 98)؛ وفي الفضائل (162، 164، 166) وابنه في زوائد الفضائل (168، 212، 568، 569، 646، 650، 667)؛ وعبد بن حميد (887)؛ وابن أبي عاصم في السنة (416)؛ وابن الجعد (2011، 2028)؛ والطبراني في الكبير (2065) والأوسط (7340)؛ والإسماعيلي في المعجم (2/ 602 - 603)؛ وأبو نعيم في الحلية (7/ 250). (¬3) قوله: اللام مكان الاستثناء. هذا إذا جعلنا إنْ: بمعنى النفي، فيكون التقدير: ما نظنك إلا من الكاذبين. إلا أن الزمخشري ومكيًا جعلاها مخففة وقدرا لها اسمًا محذوفًا، والتقدير: وإن الشأن ... ، وذهب سيبويه إلى أنها مخففة واسمها مضمر، والتقدير: وإنهم كانوا. =

المبالغة، أي: يرشدهم وإن كانوا غير راشدين لنوع تأكيد، و {لَمَّا} استفهام بمعنى الإنكار (¬1) وهو داخل على الفعل العامل في (لما) أعني قوله: قلتم، والواو للعطف على مضمر، فكأنه قال: أعصيتم أمر نبيكم وقلتم: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} عارض وهو كالوصف لهذه المصيبة المذكورة والمراد بمثليها ما أصابوا يوم بدر (¬2)، ووجه النهار من يوم أحد إلى أن صرفهم الله عنهم بما كسبوا، {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} قال الكلبي: هو من عند أنفسهم بتركهم المركز، وعن قتادة: بخروجهم من المدينة وكان من رأيه -عليه السلام- (¬3) أن يتحصن بالمدينة، وبذلك عبروا رؤياه (¬4) وأشار إليه (¬5) ابن أبي بن سلول، وعن علي: بأخذهم الفداء يوم بدر ولو قتلوا الأسارى لما بقيت للكفار شوكة، وقد عاتبهم الله على أخذ الفداء يومئذٍ حيث قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] (¬6) وفيه بعد وغموض. ¬

_ = واعترضه السمين الحلبي على أنَّ "إنْ" المخففة إنما تعمل في الظاهر على غير الأفصح، ولا عمل لها في المضمر، ولا يُقَدَّر لها اسم محذوف البتَّة. [الكشاف (1/ 477)؛ الدر المصون (3/ 472)]. (¬1) الاستفهام الذي بمعنى الإنكار هو الهمزة وليست "لما"، أَمَّا "لمَّا" فهي ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشرط مبني في محل نصب متعلق بالجواب "قلتم"، وهذا قول الزمخشري. و"لما" بمعنى حين هو مذهب الفارسي. [الإيضاح ص 319؛ الكشاف (1/ 477)؛ المحرر (3/ 228)؛ إعراب القرآن لمحمود صافي (2/ 363)]. (¬2) أي أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مِثْلَي ما أصابوا منكم يوم أحد. وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما -، رواه عنه الطبري في تفسيره (6/ 218)؛ وابن أبي حاتم (4475). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرجه ابن جرير (6/ 216)؛ وعبد بن حميد كما في الدر (2/ 94)، والرؤيا التي رآها في النوم -عليه السلام- أن يقرًا تُنْحَر، فتأولها قَتْلًا في أصحابه، ورأى أن سيفه ذا الفقار انفصم فكان قتلُ عمِّه حمزة قُتِلَ يومئذٍ وكان يقال أسد الله، ورأى أن كبشًا أَغْبَرَ قُتِلَ فتأوله كبش الكتيبة عثمان بن أبي طلحة أصيب يومئذٍ وكان معه لواء المشركين. (¬5) (إليه) ليست في الأصل. (¬6) أخرجه الإمام أحمد (1/ 30، 32)؛ وابن أبي شيبة في المصنف (36684)، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" ص 60 لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} بمشيئته وتقديره، والفاء لكونه مشبهًا بجواب الشرط؛ لأن (ما) مناسب للشرط (¬1). {الَّذِينَ نَافَقُوا} خالفوا ظاهر أمرهم، أراد (¬2) ابن (¬3) أبي بن سلول وأصحابه (¬4) حين انخذلوا، وإنما سمي المنافق منافقًا تشبيهًا لليربوع وذلك أن له حجرين يقال لأحدهما: القاصَعاء والآخر النافقاء، فإذا طلب من أحدهما خرج من الآخر، وقيل: اليربوع يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق (¬5) التراب فإذا أراد به ريب رفع التراب برأسه فخرج، والنفق السرب، ونفق الشيء: إذا دخل في السرب، وتنفقته: إذا استخرجته (¬6)، {أَوِ ادْفَعُوا} قاتلوا دفعًا عن حريمكم إن لم يقاتلوا حسبه، وقيل: كثّروا الجيش بخيلكم إن لم تقاتلوا لأن تكثير الجيش يؤثر في قلوب الأعداء (¬7)، {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} أي: ¬

_ (¬1) أي أن "ما" في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عِمرَان: 166] يمكن أن تكون شرطية، والفاء في قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عِمرَان: 166] واقعة في جواب الشرط. ويجوز أن تكون "ما" موصولة بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء، و"فبإذن الله" هو الخبر، وهو على إضمارٍ تقديره: فهو بإذن الله، ودخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، فهو كقولك: الذي يأتيني فله درهم. [المحرر (3/ 290)؛ الدر المصون (3/ 475)]. (¬2) في الأصل (أو)، وهو خطأ. (¬3) في الأصل: (دين). (¬4) ذكره الطبري في تفسيره (6/ 222) عن الزهريّ وابن حبان وعاصم بن عمرو والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم، وذكره ابن هام في سيرته (2/ 64). (¬5) في الأصل: (أراق). (¬6) قال أبو عبيد: سمي المنافق منافقًا للنَفَقِ وهو السرب في الأرض. ومنه قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 35]. وهو مأخوذ -كما قال المؤلف- من النافقاء وهو جحر الضب واليربوع، وهو موضع من جحره، فإذا أُتي من قِبَل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج، وهكذا وصف به المنافق على أنه يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه - كما قاله أهل اللغة. [العين (4/ 314)؛ مقاييس اللغة (2/ 202)؛ المحكم (6/ 447)؛ لسان العرب "نفق" (14/ 245)]. (¬7) رواه ابن المنذر (1161) عن الضحاك قال: كونوا سوادًا أو كثروا. وقد أخرجه (1160) عن ابن عباس وعند ابن جريج (1162).

لا يكون اليوم قتال، ولو (¬1) علمنا أن اليوم قتال لكنا معكم، وإنما جعلهم يومئذٍ إلى الكفر أقرب؛ لأن المراد ظاهرهم، كانوا قبل ذلك إلى الإيمان أقرب بما يظهرون من موالاة المؤمنين فصاروا يومئذٍ إلى الكفر أقرب لإظهارهم العداوة والخذلان، ولو كان باطنهم مرادًا لكانوا يومئذٍ وقبله وبعده سواء في كونهم كفارًا على الحقيقة عند الله. {الَّذِينَ} نصب بدل عن الأول (¬2) لإخوانهم في النسبة وبني أعمامهم، وقيل: إخوانهم في النفاق، الذين قاتلوا رياءً لا جهادًا فقتلوا، و (القعود): الجلوس، ومجازه التخلف عن السعي في الأمور، {قُلْ فَادْرَءُوا} ادفعوا الموت المكتوب عليكم {عَنْ أَنْفُسِكُمُ}، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنهم لو قعدوا لصرفوا القتل المكتوب عليهم عن أنفسهم. {أَحْيَاءٌ} رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: بل هم أحياء، وقال ¬

_ (¬1) في "ب": (وإن). (¬2) ما ذكره المؤلف من أن "الذين" بدل من "الذين نافقوا" الأولى، وهو اختيار ابن جرير في تفسيره. والوجه الثاني في النصب هو النصب على الذم، والتقدير: أذم الذين قالوا. والوجه الثالث في النصب: أنه صفة لهم. أما من ذهب أنها في محل رفع فمن ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يكون مرفوعًا لخبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين. والوجه الثاني في الرفع: أنه بدل من واو"يكتمون". والوجه الثالث: أنه مبتدأ والخبر قوله: {قُلْ فَادْرَءُوا} [آل عِمرَان: 168] ولا بد من حذف عائد تقديره: قل لهم فادرؤوا. وهناك من جعلها في محل جر من وجهين: الوجه الأول: أنها بدل من الضمير في "بأفواههم". والوجه الثاني: أنها بدل من الضمير في "قلوبهم" كقول الفرزدق: على حالةٍ لو أَنَّ في القومِ حاتمًا ... على جوده لضنَّ بالماءِ حاتمِ بجرِّ حاتم على أنه بدل من الهاء في "جوده". [ابن جرير الطبري (6/ 224)؛ البحر (3/ 111)؛ إعراب القرآن/ محيي الدين الدرويش (2/ 104)؛ الدر المصون (3/ 479)].

الزجاج: لو كان منصوبًا على تقدير أحسبهم أحياء لكان جائزًا (¬1) وليس كذلك لأن الأمر من الحسبان غير جائز. و (الفرح): السرور، والفرِح ذو الفرح كالورع والوجِل، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي: كما يفرحون بأحوال أنفسهم فكذلك يفرحون بما يبشرهم الله به من الوعد لإخوانهم {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}. {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} نعت للمؤمنين، واستجابتهم حين ندبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) إلى قتال (¬3) قريش ببدر الصغرى وهو ماء لبني كنانة عليها بطن منهم، وقيل: إن قريشًا لما رجعوا من أحد وكانوا (¬4) بالروحاء قال بعضهم لبعض: بئسما صنعتم لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فندب المؤمنين إلى الخروج إليهم فأجابوه بالسمع والطاعة، ولما بلغ ذلك قريشًا مضوا ولم يرجعوا (¬5). {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده (¬6) ¬

_ (¬1) ذكره الزجاج في معاني القرآن (1/ 488)، والرفع في قوله "أحياءٌ" هي قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة {أحياءً} بالنصب، وقراءة النصب كما قال أبو البقاء العكبري تُخَرَّج على وجهين: الأول: أن تكون عطفًا على "أمواتًا". والوجه الثاني -وهو الذي ذهب إليه الزمخشري-: أن تكون منصوبًا بإضمار فعل تقديره: بل أحسبهم أحياءً، وهو الوجه الذي ذكره الجرجاني. [الإملاء (1/ 157)؛ الكشاف (1/ 479)]. (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬3) في الأصل: (القتال). (¬4) في "ب": (وكان). (¬5) ورد في صحيح البخاري (7/ 373)؛ ومسلم (4/ 1880) أن عائشة - رضي الله عنها - قالت لعروة: يا ابن أختي! كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لمَّا أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: "من يذهب في إثْرِهِم؟ " فانْتُدِبَ منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير. (¬6) الأظهر كما ذكر ابن جرير ورجحه في تفسيره أن "الناس" الأول هم قوم كان أبو سفيان قد سألهم أن يثبطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه =

وذلك لما أراد المدينة فأتاه أبو سفيان، وقال: إني واعدت محمدًا أن (¬1) نلتقي ببدر الصغرى وليس يتأتى في ذلك الآن، وأكره أن يخرج هو وأصحابه ولا نخرج نحن فيزيده ذلك جرأة (¬2)، فثبِّطه عن الخروج ولك عشرة من الإبل، فقدم نعيم بن مسعود وخوَّف المؤمنين فلم يصغوا إليه (¬3)، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}: كافينا الله، أحسبك الشيء: إذا كفاك، وأحسبك فلان: إذا أعطاك حتى قلت: حسبي، و (الوكيل): الذي يوكل الأمر إليه. {فَانْقَلَبُوا} القصة فيه أنهم لما وفدوا بدر الصغرى سنة أربع من الهجرة أصابوا سوقًا وربحوا ربحًا كثيرًا وكسبوا أجرًا عظيمًا باستجابتهم (¬4). {لَمْ يَمْسَسْهُمْ} قتال ولا شر. وعن عثمان قال: والله ربحت دينارًا بدينار. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ} إشارة إليه كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] و {الشَّيْطَانُ} كالبيان المشار (¬5) إليه، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} لأن قوله: إنما ينجع في قلوب أوليائه من الكفار والمنافقين دون أولياء الله من المؤمنين، إذ المؤمن لا يخاف غير الله، وقيل: يخوف بأوليائه كقوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]. {وَلَا يَحْزُنْكَ} نزلت في المنافقين، عن مجاهد وابن إسحاق، وقيل: في رؤساء اليهود (¬6) والذين كتموا بعثة النبي -عليه السلام- (¬7) والنهي مصروف إلى ¬

_ = عن أُحد إلى حمراء الأسد. و"الناس" الثاني: هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأُحُد. [الطبري (6/ 244)]. (¬1) في الأصل: (الآن). (¬2) في الأصل: (جمرات). (¬3) قصة نعيم بن مسعود أوردها مقاتل في تفسيره (2/ 205 - 207). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 250)؛ وابن أبي حاتم (4523) عن مجاهد ابن جريج مرسلًا. (¬5) في "ب" "ي" "أ": (المشارة). (¬6) أخرجه ابن جرير (6/ 258)؛ وابن أبي حاتم (4545)؛ وابن المنذر (1206)؛ وعبد بن حميد (2/ 104) عن مجاهد قال: المنافقين. وقد فسَّره الحسن ومجاهد بالكفار. كما أخرجه ابن أبي حاتم (4543، 4542). (¬7) (السلام) ليست في "ي".

غير المنهي، كقولك (¬1): لأرينك ها هنا ولا يرينك أحد، والحزن لكفر الكافرين طاعة ما لم يجاوز الحد، فالنهي ها هنا عن مجاوزة الحد في الحزن دون الحزن القليل كقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6]. و (مسارعتهم في الكفر): مسابقتهم فيما بينهم، {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} بيان لغير النبي - عليه السلام -، إذ هو كان عالمًا بذلك، قيل: هذا البيان بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- كقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: 57] ثم بين موجب مسارعتهم في الكفر هو إرادته سبحانه وتعالى أن لا يجعل لهم نصيبًا في الآخرة. {الَّذِينَ كَفَرُوا} في محل الرفع بإسناد الفعل إليه إذا قرأت بالياء، وفي محل النصب إذا قرأت بالتاء (¬2)، {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مفعول قائم مقام مفعولين إذا قرأت بالياء (¬3) كقولك: لا يظنن زيد أنه منطلق، وهو المفعول ¬

_ (¬1) في "ب": (كقوله). (¬2) قرأ الجمهور {وَلَا يَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 178] بخطاب الغيبة وهو الياء، وقرأ حمزة بالتاء. وعلى هاتين القراءتين يتم تخريج إعراب "الذين كفروا"؛ فأما قراءة الجمهور فتكون "الذين كفروا" في محل رفع و"أنَّ" وما اتصل بها سادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند سيبويه، ومسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش. والوجه الثاني: يجوز أن يكون مسندًا إلى ضمير غائب يراد به النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتقدير: ولا يحسبنَّ النبيُّ - عليه السلام -. فعلى هذا يكون "الذين كفروا" مفعولًا أول. وأما قراءة حمزة التي ذكرها الجرجاني بالتاء "تحسبنَّ مع أنها قراءة مشهورة بين القراء فإن النحاس نقل عن أبي حاتم وغيره تلحين هذه القراءة لكنها عند التحقيق ثابتة. فعلى هذا يمكن تخريجها على وجهين: الوجه الأول: أن يكون فاعل "تحسبن" ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - و"الذين كفروا" مفعول أول و"إنما نملي لهم خير" مفعول ثانٍ. الوجه الثاني: أن يكون "إنما نملي لهم" بدل من "الذين كفروا"، وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء والزمخشري والزجاج وغيرهم. [معاني القرآن (1/ 248)؛ الكشاف (1/ 482)؛ الإملاء (1/ 159)؛ الدر المصون (3/ 496)]. (¬3) وهو مذهب سيبويه كما تقدم.

الثاني لفظًا إذا قرأت بالتاء (¬1)، كقولك: لا تظنن زيدًا أنه منطلق، وفي الحقيقة هو المفعول الثاني هو المفعول حقيقة فقط؛ لأنك تنهى عن ظن الانطلاق لا عن زيد نفسه، و (الإملاء): الإمهال. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} نزلت في الفرق بين المخلصين والمنافقين؛ عن ابن جريج ومجاهد وابن إسحاق، وذلك أن القوم تمنوا أن يعطوا علامة يعرفون بها أحد الفريقين من الآخر (¬2) ومعناه: ما الله بتارك للمؤمنين، اللام لام الجحد، وإنما تنصب لأنها في الحقيقة لام كي (¬3) الذي أنتم عليه من حال الالتباس والاختلاط {حَتَّى} غاية لمحالِ الالتباس كقولك (¬4): لست أدعك على ما أنت عليه حتى (¬5) أعزك وأكرمك، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي: لا يعطيكم ما تمنيتم من العلامة، ولكن الله يلهم ويعطي العلامة من اجتباه من رسله كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ} [الجن: 26] الآية، و (الاجتباء): الاختيار أصله من اجتبيت الماء إذا حصلته لنفسك. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} نزلت في اليهود بخلوا بإظهار نعت النبي - عليه السلام - عن ابن عباس (¬6)، وقيل: مانعي الزكاة (¬7)، وقيل: في الذين امتنعوا ¬

_ (¬1) ولا بد على هذا التخريج من حذف مضاف، إما من الأول، والتقدير: ولا تحسبنَّ شأنَ الذين كفروا، وإما من الثاني، والتقدير: أصحابَ أنَّ إملاءنا خير لهم. (¬2) أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (6/ 263). رواه الثعلبي كما ذكره الحافظ في العجاب (2/ 799) والواحدي ص 127 عن أبي العالية. (¬3) أي اللام في قوله "ليذر" هي لام الجحود، وهي التي ينصب بعدها المضارع بإضمار "أن" وجوبًا ولا يجوز إظهارها. وأما قول الجرجاني أنها هي لام كي فهو بعيد - والله أعلم - لأن لام الجحود يشترط أن تسبق يكون منفي عكس لام كي. (¬4) في "ب": (كقوله). (¬5) في "ب": (على). (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم (4575)؛ والطبري (6/ 270) عن ابن عباس، ونقله الثعلبي كما في العجاب (2/ 804)؛ والواحدي ص 127 - 128. (¬7) قال الواحدي ص 127 - 128: أجمع جمهور المفسرين على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وقد روي ذلك عن السدي. أخرجه الطبري (6/ 269)؛ وابن أبي حاتم (4577).

عن الإنفاق في الجهاد (¬1)، و (البخل): الشح، وضده السخاوة، وفي الحديث: "إن البخل والجبن لا يجتمعان في قلب مومن" (¬2)، {سَيُطَوَّقُونَ} أي: يجعل ذلك طوقًا في أعناقهم، جاء في التفسير أنه يجعل شجاعًا أقرع فيطوق به البخيل الذي يمنع الواجبات (¬3)، و (الميراث): اسم من ورث، كالميزان من وزن. {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} نزلت في فنحاص بن عازور اليهودي من بني قينقاع، وذلك أن أبا بكر الصِّديق - رضي الله عنه - قرأ ذات يوم {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] فقال اليهودي على وجه الاستهزاء: لئن كنت صادقًا فإن الله إذًا لفقير (¬4)، فلطم أبو بكر وجهه، فرفعٍ اليهودي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر قول نفسه، فأنزل الله تصديقًا للصدِّيق وتقريعًا لليهودي (¬5)، والآية تدل على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لا يليق به جدًا ولا هزلًا ولا على وجه التشنيع تعظيمًا له، {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} في نسخ أعمالهم، و (القتل) معطوف على {مَا قَالُوا} ونقول عند إدخالهم النار أو عند استصراخهم فيها: {ذُوقُوا} {الْحَرِيقِ}: اسم من الإحراق. ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ في "الفتح" (8/ 230) في معرض ردِّه على قول الواحدي السابق. (¬2) جاء في الحديث: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد مؤمن". [رواه النسائي (6/ 13)؛ وفي الكبرى (4319)؛ والإمام أحمد (2/ 441)؛ والبخاري في الأدب (281)؛ وهناد في الزهد (467)؛ وابن أبي شيبة (26608)؛ والطيالسي (2461)؛ ومحمد بن نصر في الصلاة (459، 460)؛ والطبراني في الأوسط (5878)؛ والبيهقي في السنن (1618)؛ وفي شعب الإيمان (10828)]. وفي رواية لابن عدي في الكامل (5/ 1966): "لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن". (¬3) رواه البخاري (3/ 268، 230 - الفتح). (¬4) في الأصل و"ي": (فقير). (¬5) رواه الطبري (6/ 278)؛ وابن أبي حاتم (4589)؛ والطحاوي في مشكل الآثار (1830) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص 98، وحسَّنَهُ الحافظ في الفتح (8/ 231).

{ذَلِكَ} إشارة إلى كناية قولهم وقتلهم، وإلى القول لهم: {ذُوقُوا} وإنما أسند الفعل إلى اليد لأن أكثر العمل إنما يكون بها، {وَأَنَّ اللَّهَ} بأن الله، وإنما جعله سببًا لأن كناية قتل الأنبياء بغير حق عدل منه، ولو لم يكتب ذلك لكان ظلمًا على الأنبياء - تعالى الله عن ذلك - وإبدال المؤمنين عنهم قد أظلم والله ليس (¬1) بظلام للعبيد فبقوا في النار غير معذبين أو لأنه بتعذيبهم غير ظالم فلذلك يعذبهم، ولو كان تعذيبهم ظلمًا لما عذبهم، ثم وصف العبيد الذين تقدم ذكرهم. و {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} تأويلًا لقوله - عليه السلام - (¬2): "من جاءكم بكلام ما أتيتكم به فلا تقبلوه" (¬3) فأخطأوا في التأويل ولم يعلموا أن كل ما يقع به الإعجاز شيء واحد فتعلقوا بالصورة، وطالبوا بالكيفية الظاهرة جهلًا، وقيل: إنهم قالوا ذلك اختلاقًا وافتراءً لم يكن عندهم شيء مما يحتمل هذا المعنى بوجه من الوجوه، ألا ترى نقض الله تعالى عليهم علتهم بقوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي} وقيل: إن في التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول بني فلان (¬4) فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان (¬5) تأكله نار منزلة من السماء حتى يأتيكم المسيح وخاتم النبيين فأظهروا بعضًا وكتموا بعضًا فكذبهم الله في ادعائهم التمسك بالعهد. و (القربان): اسم لما نتقرّب به إلى الله تعالى من المال كالنهبان، وهو مخصوص بالنعم الأهلي في الأحكام، وكان بنو إسرائيل قبل أن ¬

_ (¬1) (ليس) ليست في "أ". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) لم أجد لهذا الحديث أصلًا، ويغني عنه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...} [الحشر: 7] وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ...} [الأعراف: 3] والآيات في ذلك كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، منها على سبيل المثال حديث عائشة في الصحيحين مرفوعًا: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (¬4) في "ب" "أ": (فلا). (¬5) في الأصل: (بفرقان)، وهو خطأ.

يغير الله عليهم يذبحون القرابين ويضعونها (¬1) في بيت لا سقف له فينزل نار بها صوت فتأكلها إن كانت طيبة متقبلة، وكذلك قربان هابيل (¬2). {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} فيه (¬3) تسلية للنبي - عليه السلام -، {وَالزُّبُرِ} جمع زبور، والزبور: كل كتاب ذي حكمة، وزبرت الكتاب إذا أحكمته (¬4)، {الْمُنِيرِ} المبين. {كُلُّ نَفْسٍ} تسلية للنبي - عليه السلام - أيضًا من حيث إن نعيم الدنيا وبؤسها لا تبقيان، وأن الناس إنما يوفون أجورهم يوم القيامة. فالاعتبار بالحالة الآخرة دون هذه، و (ما) (¬5) في {وَإِنَّمَا} كافة إذ لو كانت بمعنى (الذي) لكان أجورهم بالرفع (¬6) ولكان قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من الصلة، والصلة لا تنفك عن الموصول كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} [فاطر: 18] و {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} [فاطر: 28]، و {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 92]، و {أُجُورَكُمْ} هو المفعول الثاني و {يَوْمَ} نصب على الظرف، و (الفوز) النجاة، وسمي المهمة مفازة على وجه التفاؤل، إلا كمتاع الغرور وإنما شبهها به لأنه يسرُّ عاجلًا ويسوء آجلًا وكذلك الدنيا، و {مَتَاعُ الْغُرُورِ} كل ما استمتعت به مغرًّا، والغرور قريب من الخداع. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ويضعون لها)، وهو خطأ. (¬2) أخرجه ابن المنذر (1235) عن ابن جريج. وانظر العجاب (2/ 808 - 809). (¬3) (فيه) من "ب". (¬4) قال الليث: كل كتاب فهو زَبُور، ومنه قول امرئ القيس: لمن طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فشجاني ... كخطٍّ زبورٍ في عسيب يَمَانِ وتجمع على "زُبُور" بضم الأول والثاني، وتجمع أيضًا على "زُبُر" بضم الأول والثاني. وقد غلب هذا الاسم على صحف داود - عليه السلام -، قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النِّساء: 163]. [تهذيب اللغة (13/ 196)؛ لسان العرب (زبر -6/ 11)]. (¬5) (ما) ليست في "ب". (¬6) وهذا قول مكي - قاله في المشكل (1/ 171) وعلل ذلك بأنه يلزم منه رفع "أجورَكم" ولم يقرأ به أحد لأنه يصير التقدير: "وإن الذي توفونه أجورُكم" كما إنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء إذا جعلنا "ما" موصولة.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن ابن عباس (¬1)، وهي عامة في الظاهر لأن المؤمنين ابتلوا بأموالهم وأنفسهم من وجوه كثيرة و (سمع الأذى) ما سمعوا من وصفهم الله (¬2) بما لا يليق به، ووقيعتهم في النبي - عليه السلام - وتضليلهم (¬3) المؤمنين، و (الصبر) ههنا هو صبر النفس على مرّ القدر والتسليم لله تعالى والرضا بقضائه واحتمال الأذى فيه وتنتهوا عما نهى الله تعالى عن ذلك إشارة إلى كسب الصبر والاتقاء، و {عَزْمِ الْأُمُورِ} عزيمتها، وهي الشروع (¬4) فيها بالحزم وابتداؤها بالجد، وعن عطاء أنه حقيقة الإيمان. {لَتُبَيِّنُنَّهُ} الهاء عائدة إلى الكتاب. و {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} في جماعة من أهل خيبر أتوا النبي - عليه السلام - وزعموا أنهم على دين إبراهيم يطلبون بذلك المحمدة فأنزل الله الآية وفضحهم، فما أتوه هو زعمهم وتلبيسهم، {بِمَفَازَةٍ} ببعيد، والمفازة موضع الفوز. {وَلِلَّهِ مُلْكُ} اتصالها بما قبلها من حيث نفي فوز القوم من عذاب الله تعالى لاقتداره وسعة ملكه. عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طولها، فنام حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه وقرأ العشر الخواتم من سورة "آل عمران" (¬5)، الخبر. عن ابن عباس قال: بعثني أبي (¬6) ¬

_ (¬1) أخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4617) عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب. (¬2) في "ب": (لله). (¬3) في الأصل: (وتقليلهم). (¬4) في الأصل: (الشرع). (¬5) رواه البخاري (183، 1198، 4571)؛ ومسلم (763). (¬6) في الأصل: (في).

إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحفظ له صلاته، قال: فهبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل فتعار ببصره إلى السِماء ثم تلا هؤلاء الآيات من سورة "آل عمران": {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى انتهى إلى عشر منها. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} (¬1) عن عمران بن حصين، قال: سألت النبي - عليه السلام - عن صلاة الرجل وهو قاعد، قال: "من صلّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلّى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلّى نائمًا فله نصف أجر القاعد" (¬2). {وَعَلَى} حرف وإنما عطفها على الاسم لأنها في معناه قيامًا وقعودًا ومضطجعين، والتفكير هو الاعتبار بتأليفها وتصويرها، {بَاطِلًا} نصب بنزع الخافضة (¬3) أي: حرف الصفة، أي: لأمر أو حكم باطل هزل غير حق وجد، وقيل: الباطل ها هنا بمعنى المبطل، أي: ما كنت مبطلًا في فعلك، في الحديث: "نزلت هذه الآية: وبل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (697، 859، 699، 4569، 6316، 697، 6215، 7452، 5919) (¬2) رواه البخاري (230/ ط. البغا). (¬3) في نصب "باطلًا" خمسة أوجه إعرابية: الأول: أنه نعت لمصدر محذوف، والتقدير: خلقًا باطلًا. الثاني: أنه حال من المفعول به، وهو "هذا". الثالث: أنه على إسقاط حرف خافض وهو الباء، والتقدير: ما خلقتهما بباطل بل بحق. الرابع: أنه مفعول من أجله. الخامس: أنه مفعول ثانٍ لـ "خلق"، هذا إذا كان خلق بمعنى جعل التي تتعدى لاثنين، والمعروف عند أهل العربية أنها إذا كانت بمعنى جعل تعدَّت لواحد فقط. وأقرب هذه الأوجه الخمسة هو الوجه الثاني، وهو أنه حال من "هذا". [الكتاب (1/ 116)؛ الدر المصون (3/ 532)]. (¬4) رواه ابن مردويه وعبد بن حميد، كما عند ابن كثير (1/ 477)؛ وابن حبان (620) في الصحيح، وأبو الشيخ في أخلاق النبي ص 186.

(الإخزاء): الإلجاء إلى الخزاية وهي الاستحياء أو الإيقاع في الخزي وهو الفضيحة، وههنا أقاويل أربعة: أحدها: أنه لا يدخل المؤمنين النار وإن ارتكبوا الجرائم، بل يغفر لهم ويشفع فيهم لأنه تعالى لا يخزي النبي والذين آمنوا معه، أي: والمؤمنين. وهذا قول فيه مقال، وقال مقاتل: المراد بالإدخال ههنا التخليد (¬1). وقيل: المراد بالإخزاء ههنا الإلجاء إلى الخزاية، وبقوله: {لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} [التحريم: 8] الآية الإيقاع في الخزي، فالله تعالى يلجىء بعض المؤمنين إلى الخزاية ولكنه لا يوقعه في الخزي. وقيل: إن النار لا تعم عصاة المؤمنين فلا يكون داخلًا فيها وإن مسَّته، وإنما يتصل قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} بما تقدم لأن الحال يدل على أن من يدخله النار إنما دخله عقوبة لظلم حصل منه على نفسه أو غيره، وإنما قال: {مِنْ أَنْصَارٍ} ولم يقل: من ناصر لنظم رؤوس الآي أو مقابلة للظالمين و (المنادي): القرآن، عن قتادة ومحمد بن كعب القرظي (¬2) كقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، وعن ابن جريج وابن زيد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، لقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ويحتمل أن يكون المراد بالسمع سمع القلب، وبالمنادي نذير الله في قلب كل مؤمن، ¬

_ (¬1) وهو مروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 312)؛ وابن أبي حاتم في تفسيره (4660). وأقرب الأقوال وهو الذي رجحه ابن جرير هو قول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: إن من أُدخل النار فقد أُخزي بدخوله إياها وإن أُخْرِجَ منها. (¬2) رواه ابن أبي حاتم (4662)؛ والطبري (6/ 314)؛ وابن المنذر (1270)، وعزاه في الدر (2/ 111) لعبد بن حميد والخطيب في المتفق والمفترق عند القرطبي. وقد روي عن ابن جريج وابن زيد قال: هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ورجح الطبري تفسير محمَّد بن كعب القرظي. (¬3) أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (6/ 315)؛ وابن أبي حاتم (6464)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 111) إلى ابن المنذر.

وليس فيها دلالة على نفي وجوب الإيمان قبل السماع لأن (¬1) الله أثنى على الذين سمعوا ولم يذكر (¬2) غيرهم. والسلام بمعنى إلى (¬3) كقوله: {هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]. وأوحي لها {أَنْءَامِنُوا} ترجمة للنداء، {وَتَوَفَنَا} موافقين للأبرار حاصلين في عدادهم كقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]. {رَبَّنَا} تكرار للنداء {وَآتِنَا} عطف على قوله: {فَاغْفِرْ لَنَا}، {عَلَى رُسُلِكَ} على ألسن رسلك أو على نصرة رسلك أو على اتباع رسلك، وهذا يدل على أن خير الآخرة إنما تستحق بوعد الله تعالى لا غير أو العبد لا يستحق ثوابًا إلا بوعد سيده. والسبب في نزول قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، لم يذكر النساء في شيء من الهجرة وأنا أول من هاجر من النساء (¬4)، {مِنْ} بدل من قوله: {مِنْكُمْ}، وقيل: هو بيان لجنس العاملين (¬5)، {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، والمراد به اتفاقهم في صفة ¬

_ (¬1) في الأصل: (لأنه). (¬2) في الأصل و"ي": (يذكروا). (¬3) لكن الزمخشري يذهب إلى أنه لا حاجة إلى أن نجعل اللام بمعنى "إلى"، ذلك لأن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعًا في معنى اللام، فاللام في موضعها. [الكشاف (1/ 489)]. (¬4) رواه الترمذي (3023)؛ والحميدي في مسنده (301)؛ وسعيد بن منصور (552)؛ والطبراني في الكبير (23/ 294)؛ والطبري في التفسير (5/ 214)؛ والحاكم (2/ 328) عن أم سلمة. (¬5) قوله تعالى: {مِنْ ذَكَرٍ} [آل عمران: 195] في "مِن" خمسة أوجه إعرابية، ذكر الجرجاني منها وجهين: الأول: أنها بدل من قوله "منكم"، قال أبو البقاء العكبري: وهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحد. والوجه الثاني: الذي ذكره الجرجاني أن "مِنْ" لبيان الجنس أي: جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكر أو أنثى. =

الإيمان كما نقول لفرق اليهود والنصارى والروافض والمعتزلة بعضكم من بعض، أي: يجمعكم أصل واحد من مقالة، وقريب منه قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ويحتمل نسبة الأرحام لأن الجميع ذرية رجل واحد {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} مجازه أوحشوا وعوملوا بالمكروه، و {ثَوَابًا} نصب على المصدر، وقيل: على التفسير (¬1). {لَا يَغُرَّنَّكَ} في معنى ولا يعجبك ولا تحسبن {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} اختلافهم سالمين غانمين، {فِي الْبِلَادِ} الأرض الموضع جمع بلدة. {مَتَاعٌ} أي: ذلك متاع قليل. {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} وخافوا واتقوا سخطه، {خَالِدِينَ} نصب على الحال، ¬

_ = الوجه الثالث: أنها زائدة لتقدم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون "من ذكر" بدلًا من نفس "عامل"، وهذا فيه نظر - كما قال السمين الحلبي - لأن البدل لا يزاد فيه "مِنْ". الوجه الرابع: أنها متعلقة بمحذوف لأنها حال من الضمير المستكن في "منكم". الوجه الخامس: أن يكون "من ذكر" صفة ثانية لـ "عامل" قصد بها التوضيح، فتتعلق بمحذوف كالتي قبلها. [الإملاء (1/ 163)؛ الكتاب (1/ 393)؛ الدر المصون (3/ 539)]. (¬1) في نصب "ثوابًا" تسعة أوجه إعرابية، ذكر الجرجاني منها وجهين: أنها منصوبة على المصدر أو على التفسير. الوجه الثالث: أن يكون حالًا من "جنات" أي مثابًا بها. والوجه الرابع: أنه حال من ضمير المفعول، أي: مثابين. الوجه الخامس: أنه حال من الضمير في "تجري" العائد على "جنات"، وخصص أبو البقاء كونه حالًا بجعله بمعنى الشيء المثاب به. الوجه السادس: أنه نصب بفعل محذوف، والتقدير: يعطيهم ثوابًا. الوجه السابع: أنه بدل من "جنات"، ويمكن أن يقال أنه جعل الثواب ظرفًا لهم مبالغةً. فهو كقوله تعالى: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9]. الوجه الثامن: أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء. الوجه التاسع: أنه منصوب على القطع، وهو مذهب الكسائي. [الإملاء (1/ 163)؛ معاني القرآن للفراء (1/ 251)؛ الدر المصون (3/ 543)؛ إعراب القرآن محمود صافي (2/ 420)].

و {نُزُلًا} على التفسير (¬1) والنُّزل والنزُل بمعنى وهو الرزق يعده المنزل وهو المضيف، النزول: وهم الضيفان، {وَمَا} أي: والذي {عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ} المتاع والقليل، وقيل: خير وليس بشر بخلاف ما عنده للفجار. {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، قال مجاهد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه (¬2)، وعن قتادة وابن جريج أن النبي - عليه السلام - لما بلغه وفاة النجاشي صلّى عليه فعيرهم المشركون، وقالوا: صلّى على علج فأنزل الله (¬3)، واتصال {سَرِيعُ الْحِسَابِ} بما قبله من حيث إن الجزاء بعد الحساب. واتصال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما قبله من حيث أطمع الله المؤمنين فيما عنده، فلذلك دلَّهم على ما يعملون به الصبر على أي مكروه وعن آية شهوة، و (المصابرة) للعدو وعلى مكروه الحرب وحرها، و (المرابطة) مقاومة العدو بالثبات على مرّ الأمر، والظاهر من (الرباط) ارتباط الخيل ¬

_ (¬1) في قوله "نزلًا" ستة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد لأن معنى "لهم جنات" نُنْزِلهم جناتِ نزلًا. الوجه الثاني: نصب بفعل مضمر، والتقدير: جعلها لهم نزلًا. الوجه الثالث: أنه منصوب على الحال من "جنات" لأنها تخصصت بالوصف. الوجه الرابع: أن يكون حالًا من الضمير في "فيها"، والتقدير: مُنَزَّلَةً، هذا إذا قلنا إن "نزلًا" مصدر بمعنى المفعول كما قاله أبو البقاء العكبري. الوجه الخامس: أنه حال من الضمير المستكن في "خالدين"، هذا إذا قلنا إنه جمع نازل كما قاله الفارسي في التذكرة. الوجه السادس - وهو قول الفراء -: أنه منصوب على التفسير أي التمييز وهو ما ذكره الجرجاني. [الكشاف (1/ 491)؛ الإملاء (1/ 164)؛ معاني القرآن للفراء (1/ 251)؛ الدر المصون (3/ 547)]. (¬2) أخرجه سنيد بن داود في تفسيره كما في العجاب (2/ 822)، وعنه الطبري (6/ 329) عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 113) إلى ابن المنذر. (¬3) رواه الطبري (6/ 330)؛ والطبراني في الأوسط (4645)؛ وابن عدي في الكامل (3/ 325) عن أبي سعيد الخدري، وقال الطبري: ذلك خبر في إسناده نظر، ولا يمنع أن تعم النجاشي ومن كان على شاكلته.

ولكنه يستعمل في كل ما يلزم ويثبت، وفي الحديث: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (¬1) (¬2). ... ¬

_ (¬1) في "ب" "أ": (فذلكم الرباط) ثلاث مرات. (¬2) رواه مسلم (251) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.

سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاءِ مدنية، وهي مائة وخمس وسبعون آية حجازي (¬1). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} هذه السورة تشمل على أحكام كثيرة وإنما ابتدت (¬2) بالموعظة ليكون الكلام بعده أوقع في الأسماع وأنجع في القلوب {خَلَقَكُمْ} من غير تفصيل بين الشهود والغيب للإيجاد، وهو قريب من تغليب المفرد على المضاف والمذكر على المؤنث والأعم وجودًا على الأعز وجودًا {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} نفس (¬3) آدم - عليه السلام -، وإنما أُنّث اعتبارًا (¬4) باللفظ (¬5) {وَخَلَقَ مِنْهَا} من تلك النفس {زَوْجَهَا} حواء. ¬

_ (¬1) اتفقوا على مدنيتها، وقال أبو عمرو الداني في "البيان في عدِّ آي القرآن" (146): (هي مئة وسبعون وخمس آيات في المدنيين والمكي والبصري). (¬2) في "أ" "ب": (ابتديت). (¬3) (نفس) من "أ". (¬4) قوله: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] راعى فيه اللفظ في التأنيث ويجوز أن يراعي فيه المعنى - وهو آدم - عليه السلام -، فيجوز من نفسٍ واحدٍ، فيكون التذكير باعتبار المعنى وهذا اختيار ابن جرير وغيره. [الطبري (6/ 340)]. (¬5) في جميع النسخ: (اللفظ)، والمثبت من "أ".

قال ابن عباس والحسَن وإبراهيم (¬1): خلقت من ضلع من أضلاع آدم. وفي الحديث: "إنّ المرأة خلقت من ضلع فإذا أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها وفيها عوج" (¬2). وروي أن الله ألقى النوم على آدم وخلق حواء (¬3) من ضلعه اليسرى، فلما استيقظ قيل له: يا آدم ما هذه؟ قال: المرأة لأنها خلقت من المرء فقيل: ما اسمها؟ قال: حواء (¬4)؛ لأنها خلقت من حيّ وليس من الحوّة واللقس، كما أن آدم ليس من الأدمة بل لأنّه من أديم الأرض، وإنما لم تخلق من مائه؛ لأنّ الماء يقتضي رحمًا يستقر فيها ولم يكن ثمة رحم وإنما تخلق من غيره لتكون شجنة منه فيكون إليها أميل وعليها أقبل وليكون هذا الجنس بعضهم من بعض. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} للتكرار كما في قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} [المدثر: 19، 20] وقوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} [القيامة: 34، 35] وإنما عرّف نفسَه (¬5) سبحانه وتعالى بالخلق والتساؤل به؛ لأنّ الخالق يستحق العبادة والمخلوق به يستحق التعظيم. و (الرقيب) (¬6) دائم النظر على وجه التحفظ. {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} نزلت في رجل من غطفان وكان لابن أخ له عنده مال، فلما بلغ امتنع عن رده، فشكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت فرد عليه ¬

_ (¬1) أما عن ابن عباس فرواه ابن أبي حاتم (4718)، وابن المنذر (1304)، والبيهقي في "الشعب" (7798). وأما عن الحسن وإبراهيم فلم أجده. (¬2) البخاري (3331)، ومسلم (1468). (¬3) في "أ" "ب": (حوى). (¬4) رواه عن مجاهد ابن جرير (6/ 341)، وابن المنذر (1305)، وابن أبي حاتم (4719)، وعزاه في الدر المنثور (4/ 209) ط. تركي لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وعزاه في زاد المسير (2/ 2) لابن عباس. (¬5) (نفسه) ليست في "أ". (¬6) (والرقيب) ليست في "ب".

المال (¬1)، وسمي اليتامى بالحالة الماضية لقول عمر لبلال ألا إن (¬2) العبد قد نام، وقول ابن عمر - رضي الله عنه -: "ما زدناك على عجوة وزبيب" (¬3)، {وَلَا تَتَبَدَّلُوا} تستبدلوا الخبيث بالطيب أي الحرام بالحلال. قال ابن المسيب والضحاك والسدي والزهري أنه أن تأخذ من مال اليتيم شاة سمينة وتعطيه شاة مهزولة (¬4). {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم (¬5) كقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]. (الحوب): الإثم (¬6). وقال الفراء: الإثم العظيم، وفي الحديث: "ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي" (¬7)، وقد يطلق بمعنى الحاجة ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم (4728، 4735) عن سعيد بن جبير. (¬2) في "أ" "ب": (إلا أن). (¬3) الأثر في كتاب "الآثار" لأبي يوسف (1001) وسنده ضعيف. (¬4) أما عن سعيد بن المسيب فرواه ابن جرير (6/ 352)، وابن المنذر (1314)، وابن أبي حاتم (4736). وأما عن الضحاك فعزاه له ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 5)، والقرطبي في تفسيره (3/ 9). وأما السدي فرواه ابن جرير (6/ 352، 353)، وابن أبي حاتم (4738)، وأما الزهري فرواه ابن جرير (6/ 352). (¬5) روي ذلك عن مجاهد قال: أموالهم مع أموالكم. أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 355)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4739). (¬6) إطلاق الحوب على الإثم يشهد له الحديث الذي ذكره المؤلف: "ربِّ تقبَّل توبتي واغسل حوبتي" قال أبو عبيد: يعني المأثم, وكذا قال ابن الأثير، ومنه الحديث: "اغفر لنا حوبنا" وحديث: "إن الجفاء والحوب في أهل الوبر والصوف". وللحوبة عدة معاني فتأتي بمعنى الحاجة ومنه قول الفرزدق: فهب لي خُنَيْسًا، واحتسب فيه مِنَّةً ... لحوبةِ أُمٍّ، ما يَسُوغُ شَرَابُهَا وتطلق؛ ويراد بها القرابة - قاله ابن السكيت. وتطلق ويراد بها الهلاك ومنه قول الهذلي: وكلُّ حِصْنٍ، وإن طالت سلامتهُ ... يومًا ستدرِكُهُ النكراءُ والحوبُ وهناك معانٍ يطول ذكرها في معنى الحوب. ولغة أهل الحجاز بضم الحاء ولغة تميم بالفتح. [تهذيب اللغة (5/ 268)، النهاية لابن الأثير (1/ 455)، لسان العرب (3/ 374) "حوب"]. (¬7) أبو داود (1510)، والترمذي (3551)، والنسائي في الكبرى (10443)، وابن ماجه (3830)، وابن حبان (947)، وأحمد (1/ 227)، وعبد بن حميد (717) والحديث صحيح.

ومنه قيل في الدعاء: "إليك أرفع حوبتي" (¬1). سأل عروة بن الزبير عائشة عن قول الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية. قالت (¬2): يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في مالها (¬3) فيعجبه (¬4) مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن تقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فيقول (¬5) لا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهنّ وتبلغُوا بهنّ على نسبهنّ في الصداق وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس (¬6) استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) بعد هذه الآية فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]. قالت: والذي ذكر الله أنهُ يتلى عليكم في الكتاب هذه الآية التي فيها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت عائشة في (¬8) قوله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]: رغبة أحدكم عن يتيمته، التي تكون في حجره حتى (¬9) تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا لم يكن لهن مال وجمال (¬10)، و (¬11) اليتيمة: الصغيرة، وفيه دليل على أن للولي أن يتزوجها وهو مذهب علي. {مَا طَابَ لَكُمْ} من غير إثم ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ وإنما هو جزء من الحديث السابق ولفظه: "اغسل حوبتي" والحوبة تغسل ولا ترفع. (¬2) في جميع النسخ: (قال)، والمثبت من "أ". (¬3) (ما لها ليعجب) ليست في "أ". (¬4) (فيعجبه) من "ب"، وفي الأصل "ي": (ليعجب). (¬5) في "أ": (وقوله). (¬6) في "ب": (النساء). (¬7) (- صلى الله عليه وسلم -) من "أ" "ب". (¬8) في "أ" "ب": (وقوله). (¬9) في "أ" "ب": (حين). (¬10) البخاري (5064)، ومسلم (3018). (¬11) في "ي"، الأصل: (اليتيمة) بدون واو.

وكراهة و (ما) بمعنى (¬1) (من) كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]، وقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]. {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} معدولات من اثنتين واثنين وثلاثة وثلاث وأربعة وأربع، وإنما لم يقل اثنتين وثلاثًا وأربعًا لئلا يوهم التسع، وإنما لم يقل أو ثلاث (¬2) أو رباع لأن فيه ليس معناه اثنتين فتوهم الجمع ولكن معناه اثنتين اثنتين وكذلك معنى ثلاث ورباع وإن لم يقل ومثلث ومربع ولا اثنان وثلاث ورباع ليجمع بين اللغتين (¬3). {أَلَّا تَعْدِلُوا} بين النساء في القسمة {فَوَاحِدَةً} أي فاختاروا وعاشروا {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ما حل لكم من الحرائر ذوات الأرحام وأمهات الرضاع وأخوات الرضا عة (¬4) والمشركات والذكور {أَلَّا تَعْدِلُوا} لا تجرؤوا ولا تعتدوا، و (العول): مجاوزة (¬5) الحد، وفيه العول في ¬

_ (¬1) وهي قراءة ابن أبي عبلة حيث قرأ "مَنْ طاب" على أنها بمعنى "الذي" فتكون للعاقل. والوجه الثاني في إعراب "ما" أنها نكرة موصوفة وهو قول البصريين، والتقدير: انكحوا جنسًا طيبًا. الوجه الثالث: أن "ما" مصدرية وهو قول الفراء وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل والتقدير: فانكحوا الطيب. والوجه البرابع: أنها ظرفية والتقدير: فانكحوا مدة يطيب فيها النكاح لكم. [البحر المحيط (3/ 162)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 392)، الدر المصون (3/ 561)]. (¬2) (أو ثلاث) ليست في "أ". (¬3) هذه الألفاظ "مثنى وثلاث ورباع" المعدولة فيها خلاف هل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع، فالبصريون يقولون بعدم القياس، أما الكوفيون فيجيزون ذلك فيقولون أحاد وموحد ... إلخ. ومنعها من الصرف فيه أربعة مذاهب: الأول - وهو مذهب سيبويه: أنها منعت من الصرف للعدل والوصف. المذهب الثاني - هو مذهب الفراء: وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام. والمذهب الثالث - وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج: وهو عدلها عن عدد مكرر وعن التأنيث. والمذهب الرابع - نقله الأخفش عن بعض النحويين أنه تكرار العدل حيث عدل عن لفظ اثنين اثنين وعن معناه. [معاني القرآن للفراء (1/ 254)، الكتاب (2/ 15)، معاني القرآن للزجاج (512)]. (¬4) (وأخوات الرضاعة) ليست في "أ". (¬5) وهذه الألفاظ الثلاثة تجتمع في معنىً واحد وهو الميل عن الحق، وهذا تفسير =

الفرائض، ومنه يقال للبكاء الشديد: العويل، ولو كان من كثرة (¬1) العيال أو الافتعال لقال: أن لا تعيلوا من الإعالة [وأن لا تعيلوا من العيلة] (¬2). وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ} خطاب للأزواج. وقال الفراء: خطاب لأولياء المرأة (¬3). كانوا في الجاهلية لا يعطونها من صداقها إلا بعيرًا يحملونها عليه ويرسلونها إلى بيت الزوج ويحبسون ما في الصداق لأنفسهم. والصدقات جمع صدقة مثل مثلات ومثلة. وعن علي بن أبي طالب قال: لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم (¬4)، وهذا في حكم المرفوع؛ لأنّ الغاية لا تدرك (¬5) قياسًا واجتهادًا. {نِحْلَةً} عطيّة (¬6) مصدر جاء (¬7) بخلاف المصدر فهي في معنى الإيتاء وإنما أجري مجرى العطيّة لأنّه يثبت من غير معاوضة، وقيل: النحلة ما ينتحله الرجل من الدين وهي نصب لأنّه مفعول له (¬8). ¬

_ = ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة وعكرمة، أخرجه الطبري عنهم، ومنه قول الشاعر ينسب إلى أبي طالب: بميزانِ قِسْطٍ لا يُخِسُّ شعيرةً ... وَوَازنِ صدقٍ وَزْنُهُ غيرُ عَائِلِ [الطبري (6/ 378)، سنن سعيد بن منصور - التفسير (558)، ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 361)]. (¬1) في "ب": (كثير). (¬2) ما بين [...] من "أ" "ب". (¬3) انظر معاني القرآن للفراء (1/ 256). (¬4) ذكره الشافعي في "الأم" (5/ 160) عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) في "ب" "أ": (لا تدركه). (¬6) والمراد بالنِّحْلَة: المهر كما فسره ابن عباس - رضي الله عنهما - رواه عنه الطبري في تفسيره (6/ 380)، وهو نفس نفسير المؤلف؛ لأن المهر عطية من الزوج لزوجته. وكذا فسرها الراغب كما في كتابه (شرح المفردات، ص 506). (¬7) في "ب": (ما). (¬8) هذا أحد الأوجه في إعراب "نِحْلَة" ويجوز أن تكون منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها، ويجوز أن تكون "نحلة" مصدرًا واقعًا موقع الحال، ويجوز أن يكون انتصابها بإضمار فعل بمعنى شرع والتقدير: نحل الله ذلك نحلةً. [الدر المصون (3/ 570)، إعراب القرآن - محيي الدين الدرويش (2/ 154)].

{فَإِنْ طِبْنَ} طابت أنفسهن بالخروج لكم عن شيء من الصداق، أي رضين ببدله، وإنما قال: {عَنْ شَيْءٍ} ليتناول القليل والكثير والبعض والكل. و (من) في {مِنْهُ} ليتبين الجنس دون التبعيض فـ {هَنِيئًا مَرِيئًا} سائغًا شافيًا حال للمفعول (¬1)، والمراد به نفي الوبال ورفع الحرج عن الآكلين، يقال: هنأني الطعام ومرأني، فإذا لم يقل (¬2) هناني قلت: أمراني با لألف. وقال ابن الأعرابي: هنأني (¬3) ومرأني وأمرأني (¬4)، إذا انهضم الطعام، ولا يقول (¬5): مرئني. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} قال ابن عباس: لا تعمل إلا (¬6) ما خولك الله من المال وجعله معيشة لك فتعطيه أولادك وتنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسكه (¬7) وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقتهم (¬8). وقيل: الخطاب للأوصياء، وإنما قال: {أَمْوَالَكُمُ} على سبيل المجاز. كقولك: استرق بأموالنا إذا استرق أموال (¬9) أقربائك وجيرانك. وكسوتك: نقيض قولك: عريته. وكسى يَكسى إذا صار مكتسيًا، والكاسي من كسَوت: وهو الملبس، ومن كسى يُكسى وهو اللباس. {قَوْلًا مَعْرُوفًا} أن ¬

_ (¬1) هذا أحد الأوجه في إعراب "هنيئًا مريئًا" وهو أنه منصوب على الحال من الهاء في "كلوه" وهو اختيار أبي جعفر النحاس، والوجه الثاني: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. والتقدير: أكلًا هنيئًا، والوجه الثالث: أنهما صفتان قامتا مقامَ المصدر المقصود به الدعاء النائب عن فعله. [إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (2/ 395)، الدر المصون (3/ 576)، الجدول في إعراب القرآن - محمود صافى (2/ 437)]. (¬2) في "أ": (تقل). (¬3) في "أ" "ب": (هنيني). (¬4) عزاه لابن الأعرابي القرطبي في تفسيره (273). (¬5) في "أ": (ولا تقولوا). (¬6) في "أ" "ب": (إلي). (¬7) في "ب" "ي" والأصل: (أمثلة). (¬8) ابن جرير (6/ 398)، وابن المنذر (1349)، وابن أبي حاتم (4791). (¬9) في "ي" والأصل: (استرف أموال أقربائك).

تقول: خيركم الله وأصلح بالكم ونصركم مصالح معاشكم ومعادكم، وقيل: هو العدة الجميلة وتمنيه الخير، وقيل: هو الوعظ، وفي الجملة هو أن تلطف (¬1) لهم القول بما يرضيهم ولا يسخط ربّه. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} واختبروهم في المعاملات قبل البلوغ. {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} تأجيل وتوقيت، وهو بلوغهم وقت الإنزال ما بين ثنتي عشرة سنة إلى ثماني عشرة سنة (¬2). وقال سعيد بن جبير في قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ (¬3) أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] قال: ثماني عشرة سنة (¬4) وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - (¬5). {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} شرط؛ أي فإن أحسستم منهم هديًا في المعاملات. {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} حكم معلق بشرط ومجرده لا يدل على نفي ما عداه، ولأن الآية تضمنت حكم الدفع عند وجود الشرط ولم تتضمن الدفع عند عدمه. وعن ابن سيرين وإبراهيم النخعي لم يَريان (¬6) الحجر على الحرّ (¬7)، وبه أخذ أبو حنيفة - رحمه الله - (¬8) {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} أي (¬9): مسرفين أو بإسراف. وكل نفقة لم يأذن بها الله ¬

_ (¬1) في "ي" والأصل: (تطلق). (¬2) أي إذا بلغوا الحُلُم، وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو مروي عن مجاهد والسدي وابن زيد رواه عنهم الطبري في تفسيره (6/ 404)، وأما تفسير سعيد بن جبير فهو بناء على الأغلب، وهو أن يحصل البلوغ بسن الثامنة عشرة، وإلا فإن البلوغ قد يحصل قبل ذلك. (¬3) في "أ": (هو). (¬4) رواه عن مع سعيد الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 220)، وانظر ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 150). (¬5) الذي روي عن أبي حنيفة هو خمسة وعشرين سنة كما في القرطبي الهداية (7/ 135)، وانظر المفتي (4/ 296)، وذكره المرغناني عن الحنفية كأحد أقوالهم كما في شرح الهداية (3/ 284). (¬6) في "أ": (يرياني). (¬7) أما عن ابن سيرين فلم أجده. وأما عن إبراهيم النخعي فذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 15)، والقرطبي في تفسيره (3/ 37). (¬8) انظر القرطبي (3/ 37). (¬9) في "ب": (أي) والبقية: (أو).

تعالى فهي إسراف {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} أي: مبادرين كبرهم مصدر عمل في فعل (¬1) {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} محكم متفق في معناه {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} مختلف فيه. قال عمر: يا رقي إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم إن احتجت أخذت منه وإن (¬2) أيسرت رددت (¬3) (¬4)، فهذا (¬5) يدل على أنه لا يأخذه إلا على وجه الاستقراض، وبه قال أبو العالية وعبيدة السّلماني (¬6). وعن ابن عباس أنه أباح للوصي الطعام إن احتاج إليه (¬7) ولم يبح له الكسوة، وعنه أنه قال: إن المحتاج إنما يأكل على وَجْه العمالة (¬8)، وبه قال مجاهد وابن المسيب (¬9)، وقال الشعبي: هو كالمضطر فإنْ أيسر رد وإنْ لم يوسر فهو له حلال (¬10). وعن سعيد بن جبير: إن أيسر رد وإن لم يوسر دعا اليتيم فاستحل منه (¬11). وهذا إن لم يفرض له الأب والقاضي عمالة، فأما إذا فرض فهو له حلال غنيًا أو فقيرًا. ¬

_ (¬1) قوله: {إِسْرَافًا وَبِدَارًا} [النساء: 6] أقرب الأوجه في إعرابهما أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي لأجل الإسراف والبدار، والوجه الثاني: هو الذي ذكره المؤلف وهو أنهما مصدران في موضع الحال، أي مسرفين ومبادرين. (¬2) في "أ" "ب": (وإذا). (¬3) في "أ" "ب": (رددته). (¬4) رواه عبد الرزاق في مصنفه (10128، 19276)، وسعيد بن منصور (788 - التفسير)، وابن سعد (3/ 276)، وابن أبي شيبة (12/ 324)، وابن جرير (6/ 412)، والنحاس في ناسخه (296)، وابن المنذر (1394)، والبيهقي (6/ 354). (¬5) في "ب": (وهذا). (¬6) انظر زاد المسير (2/ 16)، والقرطبي (3/ 41) وكلاهما ذكره عن أبي العالية وعبيدة السلماني، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره بدون سند (4829). (¬7) ورد عن ابن عباس الإطعام كما عند ابن بي حاتم (4825، 4828)، وابن جرير (6/ 411). (¬8) في "ي" والأصل: (المعاملة). (¬9) هذا مروي عن ابن عباس وعائشة كما في زاد المسير (2/ 16)، وقد ذكره عن مجاهد ابن أبي حاتم (4829) بدون سند، وهو مذكرر كذلك عن سعيد بن جبير وليس سعيد بن المسيب عند ابن أبي حاتم (4829) بدون سند. (¬10) ذكره عن الشعبي كما في زاد المسير (2/ 16). (¬11) ابن أبي حاتم (4830، 4831).

{فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} ندب كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} كافيًا من شاهد، وقيل: محاسبًا لكم على أعمالكم إن أشهدتم أو لم يشهدوا. {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} نزلت في رفع حكم الجاهلية، كانت العرب لا تورث إلا من يطاعن ويحمي المال. وكانت الفلاسفة تورث الإناث دون الذكور فأبطل الله حكمها، والسبب في نزولها روي أن رجلًا توفي عن امرأة وبنات وأخوين، فأراد الأخوان أن يذهبا بالمال فجاءت المرأة ورفعت بحال (¬1) البنات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فأنزل الله تعالى الآية، فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وتلا عليهما فقالا: أنورث من لا يطاعن بالرمح ولا يذود عن المال؟! فقال - عليه السلام -: "أعطيا البنات الثلثين والزوج الثمن" يعني أمهما "وما بقي فلكما" قال: فمن يلي أموالهن يا رسول الله؟ قال: "أنتما" (¬4). وقوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدل (¬5) عن قوله: {مِمَّا تَرَكَ} منه لتبيين الجنس. {نَصِيبًا} نصبه على الحال (¬6). {أُولُو الْقُرْبَى} ورثة الرجل من غير أولاده. {وَالْيَتَامَى} أولاده لأنهم أكثر مما يبقون صغارًا يتامى (¬7) ¬

_ (¬1) في "ب": (حال). (¬2) و (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬4) ورد سبب النزول هذا عند أبي الشيخ عن ابن عباس كما في الدر المنثور (4/ 241)، وأورده ابن حجر في العجاب (2/ 834) عن الثعلبي وهي عند الواحدي في "أسباب النزول" (137 - 138). وأورده مختصرًا ابن جرير (6/ 430)، وابن المنذر (1404)، وابن أبي حاتم (4844). (¬5) ويجوز في قوله: (قَلَّ أو كَثُرَ) أن يكونا منصوبين على الحال من الضمير المحذوف في قوله: {تَرَكَ} والتقدير: تركه قليلًا أو كثيرًا، ذكر السمين الحلبي. [الدر المصون (3/ 588)]. (¬6) قاله أبو إسحاق الزجاج وتبعه أبو جعفر النحاس، وقال الأخفش والفراء: هو مصدر كما تقول: فرضًا، ولو كان غير مصدر لكان مرفوعًا على النعت لـ "نصيب". [معاني القرآن للزجاج (2/ 15)، معاني القرآن للفراء (1/ 257)، إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (2/ 397)]. (¬7) في "أ": (اليتامى).

{وَالْمَسَاكِينُ} أصحاب الوصية، و (الرزق) هو قسم المال على فرائض الله و (القول المعروف) أن يقول: هذه حقوقكم وأنصباؤكم في كتاب الله. وعن ابن عباس وعبيدة السلماني، عن سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين ومجاهد والشعبي (¬1) أن المراد بهؤلاء من حضر منهم غير وارث ولا صاحب وصيّة، وأن الأمر بالرزق واجب بحكم غير منسوخ ثم اختلفوا، قال بعضهم: يعطون من نصيب البالغين برضاهم. وقال بعضهم: يرضخ لهم شيء من رأس المال. وقد ذبح لهم عبيدة السلماني شاة من التركة وأطعمهم ثم قال: كنت أحب أن يكون ذلك من مالي لولا هذه الآية (¬2). وهكذا روي عن ابن سيرين وابن المسيب وأبي مالك والسدي والضحاك أن وجوب حكم هذه الآية منسوخ ولكنه باق (¬3) على سبيل الندب والاستحباب (¬4). و (القول المعروف) أن يقول: بورك فيكم، صنع لكم، وأن يعتذر إليهم بقلة المال. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ} قال ابن عباس وابن جبير وقتادة والسدي والضحاك (¬5): وإنما أمروا بالخشية لئلا يسرفوا في الوصية إذا تركوا {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} يخافون الفقر عليهم فكأنهم (¬6) كانوا يخافون الفقر (¬7) على ذراريهم ¬

_ (¬1) هؤلاء جميعًا ذكرهم ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 9)، عدا عبيدة السلماني وابن سيرين، ذكره ابن أبي حاتم (4862) بدون سند، وأخرجه الطبري (6/ 446) عن سعيد بن جبير. (¬2) ابن أبي حاتم (4859)، والطبري (6/ 445)، وأبو عبيد في ناسخه ص 28. (¬3) (باق) ليست في "أ". (¬4) ذكرهم جميعًا ابن أبي حاتم بدون سند (4862) باستثناء ابن سيرين والسدي. وكذلك ذكرهم ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 21)، والقرطبي (3/ 49) عدا ابن سيرين والسدي كذلك، ولم يذكروا جميعًا أنه على سبيل الندب وذكر ذلك النحاس في "ناسخه" (303). (¬5) ذكرهم ابن الجوزي (2/ 22)، والقرطبي (3/ 52)، وانظر ابن أبي حاتم (4869)، وابن جرير (6/ 451) عن ابن عباس وسعيد بن جبير. (¬6) في "أ": (وكأنهم). (¬7) (عليهم .... الفقر) ليست في "أ".

ومع ذلك يكثرون الوصية غلوًا ورياء فنهوا عن ذلك وأُمروا بالخشية والاتقاء لئلا يسرفوا في الوصية (¬1). وعن الحسن أن المأمورين بالخشية عوّاد المريض كانوا يحرضونه على كتاب (¬2) الوصية ولا ينظرون للورثة فحذرهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يخشوا على ذرية هذا المريض كما لو كانت لهم ذرية كيف كانوا يخافون عليهم (¬3). {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} خص الأكل بالظلم لرفع الجناح عن المخاطبين (¬4) والآكلين بالمعروف و (الصلي) و (الصلا) بمعنى، تقول: صلى يصلى صلًا وصلاة وصَليًا إذا مسّها، وصل اللحم: إذا (¬5) شواه، والإصلاء والتصلية على سبيل الإحراق. و (السعير) النار المتقدة ذات الالتهاب. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} نزلت في ورثة سعد بن الربيع فيما يروى عن جابر بن عبد الله قال: دعاني رسول الله في بني سلمة ومعه أبو بكر فوجدني لا أعقل فرشّ عليَّ الماء فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فأنزل الله الآية (¬6) {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} بمعنى الأمر ومعناه: لكل ابن ضعف ما ¬

_ (¬1) (لئلا يسرفوا في الوصية) من "ب". (¬2) في "أ": (إكثار). (¬3) هو مروي عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم (4874)، وعزاه ضمنًا ابن الجوزي (2/ 22) للحسن. (¬4) في "ب": (المخالطين). (¬5) في "ي" والأصل (ذا). (¬6) البخاري (194، 4577)، ومسلم (1616) من قصة جابر، أما قوله سعد بن الربيع فهي أسباب نزول أخرى ذكرها ابن سعد في الطبقات (3/ 524)، وأحمد في المسند (رقم 14798، 15020)، وأبو داود (2891، 4892)، والترمذي (2092)، وابن ماجه (2720)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4892)، وابن حبان (1130)، وأبو يعلى (2039)، والحاكم (4/ 333، 334)، والبيهقي (6/ 216، 229) وسنده حسن. قال ابن حجر في العجاب (2/ 844) إلا يمتنع نزولها في عدة أسباب).

لكل ابنة يرثون جميعًا بالتعصيب {كُنَّ} أي: الأولاد اسم يُطلق على الأنثى، والمراد به البنات حالة الانفراد يرثن بالفرض للابنتين الثلثان، وقال ابن عباس: لهما النصف (¬1)، وغيره اعتبر الابنتين بالأختين من الأب والأم أو من الأب فروي أن سعد بن الربيع (¬2) استشهد وترك ابنتين وامرأة وعمّا فورّث النبي - عليه السلام - الابنتين الثلثين والمرأة الثمن وأعطى الباقي للعم ولا تيقنا (¬3) باستحقاق إحدى الابنتين ثلث المال وأكثر منه لو كانت واحدة وشككنا في بخسها (¬4) عنه ولأن (¬5) الاثنين (¬6) في حكم الجماعة بدليل تقدم الإمام عليهما، فإن قيل علق بالشرط قلنا لفظة فوق زائد في الكلام (¬7) قال الله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] أي: الأعناق، وقال - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة تومن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا فوق ثلاثة أيام" الخبر، وأراد ثلاثة أيام، فلم يثبت كونها شرطًا، وإن ثبت فهو منسوخ لحديث سعد بن الربيع. {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} أي الولد واحدة، ¬

_ (¬1) ذكر القرطبي (3/ 63) بقوله: (الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف). (¬2) هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي. صحابي استشهد يوم أحد. [تجريد أسماء الصحابة (1/ 214)]. (¬3) في "ي" للعم، وفي "أ": (تيقناه). (¬4) في الأصل: (بحثها). (¬5) في "ب": (وأن). (¬6) (الاثنين) لا توجد في "أ". (¬7) الصواب - والله أعلم - أن "فوق" ليست زائدة في الكلام كما يقول المؤلف، بل ليس هناك شيء في القرآن زائد لا فائدة فيه، فكل ما هو زائد في المبنى فهو زائد في المعنى، كما قال الحافظ ابن كثير، وأما استشهاد المؤلف بقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] أي الأعناق فهو مردود كما قاله أبو جعفر النحاس وابن عطية؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: لأن قوله: {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} هو الفصيح وليست "فوق" زائدة بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ. [ابن كثير (1/ 561)، تفسير القاسمي (3/ 41)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 398)].

وتقدير الرفع: وإن كانت واحدة من الأولاد ولكل واحد من الأبوين مع الولد (¬1) السدس. ثم بيّن فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد فكان الباقي للأب {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} يعني اثنين من الإخوة والأخوات في قول عامة الصحابة، وفي قول ابن عباس ثلاثة منهم ردّ الأم إلى السدس. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} بيان تقديم الوصية على الميراث ولفظة (أو) يطلق ويراد بها الواو، ويحتمل أنه لإباحة تقديم أيهما كان على الميراث {نَفْعًا} نصب على التفسير (¬2)، و (النفع) هو الإيراث لم يكونوا يعلمون حتى أعلمهم الله تعالى. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} نصب على المصدر (¬3)، أي يوصيكم الله فريضة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ} أي: لم يزل {عَلِيمًا حَكِيمًا}. {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أي: ولد الموروث وولد ابنه وإن سفل دون ولد البنت لأنه ينسب إلى أبيه، ودون القاتل ومفارق الملة ودون المملوك. {يُورَثُ كَلَالَةً} أي: متكلل للنسب، نصب على الحال، وقيل: على خبر كان. وقيل: الكلالة المصدر لا بمعنى الاسم نصب بنزع ¬

_ (¬1) (مع الولد) من "أ" "ب". (¬2) الأظهر أن "نفعًا" منصوبة على التمييز من "أقرب" وهو منقول من الفاعلية، وهو واجب النصب. [الدر المصون (3/ 604)]. (¬3) قاله أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن (2/ 400) أي أنها مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة من الوصية. ويجوز - كما قال أبو البقاء العكبري - أن تكون مصدرًا منصوبًا بفعل محذوف من لفظها والتقدير: فرض الله ذلك فريضة. [الإملاء للعكبري (1/ 169)].

الخافض تقديره: بكلالة، أي: بإحاطة (¬1) (¬2) وإحداق به، ومنه سمي الإكليل إكليلًا، والكلالة يعبر به عن الموروث مرة وعلى الوارث أخرى، فالموروث الذي لا يرثه الأب والجد من فوقه، والولد من دونه، والموروث الذي ليس (¬3) بينه وبين الموروث والد، وإليه ذهبَ أبو بكر الصدِّيق وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وهو قول عمر، ثم رجع وقال: الكلالة من لا ولد له سواء كان له والد أم لم يكن. وروي عنه أنه لم يقل فيه شيئًا. {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من الأم، فإن كانوا أي كانت الإخوة والأخوات أكثر من ذلك" أي من واحد. {غَيْرَ مُضَارٍّ} حال للموصي وهو أن يضار ورثته بأن يزيد وصيته على الثلث {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} كقوله: {فَرِيضَةً} [النساء: 11]، وقيل: منصوب بإضمار فعل {عَلِيمٌ} لإفادته العلم والحلم (¬4) {حَلِيمٌ} لحلمه عن المضار بالوصية ومنعه نفاذ وصيته لئلا تحق (¬5) مضارته فتحق (¬6) عقوبته. ¬

_ (¬1) في إعراب الكلالة أوجه عدة تختلف باختلاف تفسيرهم لمعنى الكلالة. فجوز بعضهم أن تكون حالًا منصوبة هذا إن فُسِّرَت الكلالة بمعنى الميت، ويجوز أن تقدر على حذف مضاف والتقدير: ذا كلالة، ويجوز أن تكون جملة "يورث كلالة" خبرًا لكان وتكون كلالة على هذا إما حالًا من الضمير في "يورث" وإما أن تكون مفعولًا من أجله والتقدير: يورث لأجل الكلالة. وإما أن تكون نعتًا لمصدر محذوف، والتقدير: يورث وراثة كلالة. ويجوز أن تكون مفعولًا ثانيًا لـ "يورث"، وهناك أوجه إعرابية يطول ذكرها. [الإملاء (1/ 169)، معاني القرآن للزجاج (2/ 25)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 400)، الدر المصون (3/ 606)]. (¬2) في "أ": (حاطه). (¬3) (ليس) ليست في "أ". (¬4) في "أ": (العلم). (¬5) المثبت من "ب"، وفي البقية: (يحق) بالياء. (¬6) في "أ": (ويحق).

{تِلْكَ} إشارة إلى هذه الوصايا أو (¬1) الفرائض و (¬2) إلى جميع الأحكام التي تقدمت، وذلك إشارة إلى الدخول الذي هو من قضية الإدخال، ويحتمل أنّه إشارة إلى الخلود، و {خَالِدِينَ} نصب على الحال (¬3) بـ "من"، ومن يصلح للواحد والجماعة. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} يأبى أحكام الله تعالى ويحكم بغيرها فيكفر وإن حمل على أدنى معصية؛ فإدخال النار جزاء فيجوز نسخه وليس بخبر (¬4)، والخلود يجوز أن يكون متناهيًا. {خَالِدًا} نصب على الحال (¬5) بـ "من". {وَاللَّاتِي} جمع التي على غير قياس. {الْفَاحِشَةَ} الزنا {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي: من المؤمنين إن ادعى عليهن مدعٍ أنهن زنين فاستشهدوا على دعواه أربعة من الرجال العدول، هذا حكم الله لم ينسخه شيء ¬

_ (¬1) في "ب": (واو) بدل (أو). (¬2) في "ب": (أو) بدل (واو). (¬3) أي أنه حال من الضمير المنصوب في "يُدْخِلْهُ" ولا يضر تغاير الحال وصاحبها من حيث كانت جمعًا وصاحبها مفردًا، ويجوز أن تكون "خالدين" نعتًا لـ "جنات" قاله الزجاج وتبعه التبريزي. [إعراب القرآن للزجاج (2/ 26)]. (¬4) في "ي" والأصل: (لخبر). (¬5) في هاتين الآيتين نكتة بلاغية حيث ورد وصف أهل الجنة في الآية الأولى بصيغة الجمع "خالدين"، بينما ورد وصف أهل النار في الآية الثانية بصيغة الإفراد "خالدًا"، وأجيب عن ذلك بثلاثة أوجه: الأول: أن أهل الجنة ذوو مراتب متفاوتة، ولذلك اقتضى وصفهما بصيغة الجمع، وإن أهل النار لا يتفاوتون في العقاب فكلهم في النار ولذلك وصفهم بصيغة المفرد. والوجه الثاني: قيل إن الإفراد لأهل النار لأنهم فرقة واحدة زيادة في الوحشة وقساوة في العقاب، والجمع لأهل الجنة يقتضي الآنس بالاجتماع والسعادة بالتعارف واللقاء ولأنهم طبقات بحسب تفاوت درجاتهم. والوجه الثالث: وقد ذكره السمين الحلبي: وهو أن أهل الطاعة هم أهل الشفاعة، فلما كانوا يدخلون هم والمشفوع لهم ناسبَ ذلك الجمع، والعاصي لا يدخلُ به غيره النار فناسب ذلك الإفراد. [الدر المصون (3/ 616)، إعراب القرآن للدرويش (2/ 179)].

{فَأَمْسِكُوهُنَّ} احبسوهن (¬1) إلى أن يمتن {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ} أو إلى أن يحكم الله فيهن بحكم آخر صار منسوخًا بخبر عبادة بن الصامت "خذوا عني" (¬2) أي: خذوا عني الخبر، ثم نسخ التغريب (¬3). والجمع بين الجلد والرجم (¬4) بخبر ماعز وغيره (¬5). {وَاللَّذَانِ} قال مجاهد: الرجلان (¬6)، وأبطل القاضي أبو عاصم (¬7) فائدة التثنية على هذا القول إلا أن تكون الفاحشة هي اللواطة (¬8). وقيل: ¬

_ (¬1) احبسوهن من "أ" "ب". (¬2) رواه مسلم (1690). ولفظه: "خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". (¬3) في "أ": (التغرب). (¬4) في "ب": (الجلد). (¬5) الجمع بين الجلد والرجم هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر، وأما الاقتصار على الرجم فهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وابن مسعود، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وأما ما ذكره المؤلف الجرجاني من الجمع بينهما في حديث ماعز بن مالك فالصحيح أنه لم يجمع بينهما في حديث ماعز، ولذا صح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها وقال: "وَاغدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" أخرجه البخاري (3/ 241)، ومسلم (3/ 1324). لكن الأحاديث المذكورة في إقامة حد الثيب بالرجم والتي لم تذكر الجلد لا يدل على أنه لم يجمع بينهما، فعدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، فقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه (3/ 1316) وغيره من حديث عبادة بن الصامت قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فرحم الله ماعزًا الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام في حقه: "لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزأت عنهم" وقال عنه أيضًا: "لقد رأيته يتخضخض - أي يغتسل - في أنهار الجنة". (¬6) ابن جرير (6/ 499، 500)، وابن المنذر (1472)، وابن أبي حاتم (4984). (¬7) هو شيخ الشافعية القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عباد العبادي الهروي إمامًا محققًا مدققًا. من مؤلفاته "المبسوط" و"الهادي". توفي سنة 458 هـ. (¬8) في جميع النسخ: (اللوط)، والمثبت من الأصل و"ي".

الرجل والمرأة، وعن السدي (¬1): أن الآية الأولى كانت في النساء الشيب وهذه الآية كانمت في البكرين (¬2)، ثم نسختا جميعًا بالجلد في سورة "النور"، والرجم على لسان النبي - عليه السلام -. (الإعراض) الصفح. {التَّوْبَةُ} إعادة النعمة، والتوقيف على الله مجازاة في ضمان الله، ووعده للذين يعملون العمل السيء بغير علم بوجوب (¬3) العقوبة {ثُمَّ يَتُوبُونَ} قبل المعاينة، فالله نفى توبته عن الذين يتوبون ويؤمنون عند المعاينة قبل خروج أنفسهم، والذين يموتون سكرى ومصعوقين وفجاءة فلا يعاينون إلا بعد الموت، فالتوبة على الله غير واجبة لهذين الفريقين ولكن أمرهم في مشيئته يغفر لمن يشاء ما خلا الشرك والكفر والنفاق من غير وعد ولا ضمان ولكن بفضل (¬4) منه ورحمة. {أَعْتَدْنَا} أي: جعلناه (¬5) عتادًا لهم، والعتاد: المعتد اللازم، والشيء العتيد: الحاصل المعدّ. {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} كان الرجل يرث امرأة أبيه في الجاهلية بالمهر الأوّل إنْ شاء تزوجها بذلك وإنْ شاء زوجها ممن شاء أن يكون له المهر، هكذا روي عن الحسن وأبي مجلز (¬6)، إلاّ أن مجاهدًا قال: ابنه لم يتزوج امرأة أبيه ولكنه يزوجها من غيره وليس ذلك بصحيح إلا أن عني به أمه (¬7). {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} نهى الأزواج عن إمساكهن على وجه مضارتهن ¬

_ (¬1) ابن جرير (6/ 499)، وابن أبي حاتم (4985). (¬2) في الأصل و"ي": (البكر). (¬3) في "ي" والأصل: (يوجب). (¬4) المثبت من "ب"، وفي جميع النسخ: (تفضل). (¬5) في "أ": (جعلنا). (¬6) أما عن أبي مجلز فذكره ابن أبي حاتم بدون سند (5032)، وذكره القرطبي في تفسيره (3/ 94)، وابن الجوزي (2/ 39)، وأما عن الحسن فلم أجده، وأصل الرواية في البخاري (4579) بلفظ مختلف عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬7) ذكره ابن حجر في العجاب (2/ 848).

ليفتدين بمهورهن، عن ابن عباس. وقال الزهري: كانوا يطلقون ويراجعون بغير عدّة ويطولون (¬1) العدة بذلك مضارهّ؛ لا يقربونهن ولا يدعونهن يتزوجن (¬2)، فنهوا عن ذلك. و (الفاحشة المبينة) هو النشوز، عن ابن عباس وأبي مجلز: يجوز للرجل قبول الفداء حينئذ (¬3). وقال قتادة والسدي: هو الزنا والحكم على هذا منسوخ (¬4)، و (معاشرفهن بالمعروف) أن يُحسن معها المقام والعشرة بالإنصاف في المبيت والنفقة وحسن الخلق وبشاشة الوجه {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} فيه ترجية وتطميع للرج الذي خير يرزقهم الله (¬5) من نساء يكرهن لدمامتهن أو فقدهن مِنْ ولد أو ميراث أو موافقة أو ثواب على حسن معاشرتهن. {كَرْهًا} نصب بنزع (¬6) الخافض (¬7) {خَيْرًا كَثِيرًا} إن حرصتم عليها. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} هو أن يطلق (¬8) امرأة ويتزوج أخرى، ويتعين ذلك على من عنده أربع وأراد خامسة (¬9) {وَآتَيْتُمْ} أعطيتم أوجبتم لها من الصداق {قِنْطَارًا} مثلًا فلا تستردوا ولا تحبسوا من ذلك القنطار شيئًا يعني بغير رضاها (¬10). {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهام بمعنى النهي ¬

_ (¬1) في الأصل: (يعولون) أو (يصولون). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 40) وعزاه لابن زيد فقط. (¬3) رواه ابن جرير (6/ 533)، وابن أبي حاتم (5037، 5040) عن ابن عباس، وأما عن أبي مجلز فلم نجده. (¬4) أما عن قتادة فلم أجده ولكن روي عن قتادة أنه فسر الفاحشة بالنشوز. أخرجه الطبري (6/ 289)، وأما عن السدي فذكره القرطبي (3/ 95). (¬5) (الله) من "اْ""ب". (¬6) في "ب": (لنزع). (¬7) الذي يظهر أن "كرهًا" مصدر في موضع نصب على الحال من النساء، وهذا ما رجحه النحاس، والتقدير: ترثوهنَّ كارهات. [إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (2/ 404)]. (¬8) (هو أن يطلق) ليست في "ب". (¬9) (خامسة) ليست في "ب". (¬10) تقدم الكلام عن مقدار القنطار في سورة آل عمران آية (14).

والإنكار {بُهْتَانًا} أي: بهتان وهو أن يدعي الإبراء أو يجحد الوجوب أصلًا، والآية في المدخول بها، ويدلس على جواز المفاداة بالصداق وإن كان مكروهًا. {وَكَيْفَ} (¬1) أداة التعجب، وهي هاهنا بمعنى النهي والإنكار و (الإفضاء إليها): الوصول إليها في الخلوة سواء وجد الجماع أم لم يوجد عند الزجاج والفراء (¬2)، وعن ابن عباس أنه الجماع (¬3)، فعلى القول الأول الخلوة أوجبت كمال المهر بالآية، وعلى القول الثاني أوجبت بقضاء الخلفاء الراشدين، و (الميثاق الغليظ) هو العقد والإشهاد. وقال الزهري: كان يقال للناكح: لله عليك أن تمسكها أو تسرحها بإحسان (¬4)، وفي الحديث: "أخذتموهن بأمانة الله واسثحللتم فروجهن بكلمة الله" (¬5) فهذا كله في الميثاق الغليظ. {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} تحريم موطوءة الأب ومنكوحته عن ابن عباس وعكرمة وقتادة (¬6)، وفي قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أربعة أقوال: استثناء متصلًا، كأنه قيل: أنتم منهيون عن نكاحهن وذلك موهم للماضي ¬

_ (¬1) في الأصل: (من) وهو خطأ. (¬2) ذكره الزجاج في معاني القرآن (2/ 31)، والفراء في معاني القرآن (1/ 259)، وذكر ابن الجوزي النسخ وذكر أن ابن جرير ردّ هذا القول وعلله بأن الحد حق الله والافتداء حق للزوج وليس أحدهما مبطلًا للآخر. انظر زاد المسير (2/ 41). (¬3) ابن جرير (6/ 541)، وابن المنذر (1514)، وابن أبي حاتم (6/ 506). (¬4) عن الزهري لم أجده، ولكنه ورد عن قتادة كما عند عبد الرزاق في تفسيره (1/ 152)، وابن جرير (6/ 543). وقريبًا منه عن ابن عمر كما عند ابن أبي شيبة (4/ 142، 143)، وابن المنذر (1518)، وعن أنس كما عند ابن أبي شيبة (4/ 142). (¬5) أخرجه مسلم (1218) في حديث خطبة حجة الوداع المشهورة عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬6) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (6/ 550)، وابن أبي حاتم (5074)، وابن المنذر (1526)، والبيهقي في السنن (7/ 161). وأما عن عكرمة وقتادة فلم أجده.

والحال والمستقبل فاستثنى ما سَلَف لإزالة الإيهام، والثاني: أن النهي مقصود على ابتداء العقد دون استبقائه، وهذا لا يصح لأن الشرع لم يرد بجواز استبقاء نكاح محرمة على التأبيد، والثالث: استثناء منقطعًا بمعنى لكن، والرابع: أن يكون الاستثناء بمعنى واو العطف (¬1) كقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 150] أي: صاروا. وقيل: صار (¬2) مكروهًا عند بعض العرب ويسمون الولد مقيتًا. وفي قول من قال كان (¬3) في شريعة من قبلكم أو (كان) زائدة نظر. و (المقت) البغض. {وَسَاءَ} بئس ذلك السبيل من سبيل. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} يعني: الوالدات واحدهن أمّ. والبنات الإناث من الولد وإحداهن بنت. والأخوات بنات الأبوين وإحداهن أخت. والعمات أخوات الأب وإحداهن عمّة، والخالات أخوات الأمّ وإحداهن خالة، {وَبَنَاتُ الْأَخِ} الإناث من ولد الأخ (¬4). {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} الإناث من ولد الأخت، و (الأمهات من الرضاعة): المرضعات في مدة الرضاعة وبناتهن، و (أمهات النساء) و (الربائب) بنات الزوج من غير الزوج وإحداهن ربيبة، والصبي في حجر فلان؛ أي في كفالته ورعايته، و (حليلة الرجل) امرأته، وإنما سميت حليلة لأنها نزيلته، أو لأنّها تحلله. والتقدير: حرِّم عليكم نكاح أمهاتكم. وأجناس المحرمات خمسة: النسَب والرضاع والمصاهرة والسبب والجمع. وما يحرم من النسب سبع: الأم والابنة والأخت والعمّة والخالة وابنة الأخ وابنة الأخت. ¬

_ (¬1) الأوجه الإعرابية الأربعة التي ذكرها المؤلف ذكرها السمين الحلبي في تفسيره الدر المصون (3/ 635)، ويرى النحاس أنه استثناء منقطع ليس من الأول. [إعراب القرآن (2/ 404)]، كما فصل الطبري في تفسيره (6/ 550) الأوجه الإعرابية الأربعة التي ذكرها المؤلف ولم يرجح واحدًا منها. (¬2) في الأصل و"ي": (كان). (¬3) (كان) من "أ" "ب". (¬4) (من ولد الأخ) ليست في "ب".

وما يحرم من الرضاع: كل ما يحرم مثلهُ من جهة الأم أو من جهة الأب في النسب. وما يحرم من المصاهرة فأربع: أم المرأة وابنتها وامرأة الأب وامرأة الابن وموطوءة هؤلاء. وما يحرم بالسبب فست: معتدة الغير والحامل من الغير والمبتوتة حتى تنكح زوجًا غيره، والكافرة من غير أهل الكتاب وذات الزوج والأمة على الحرة. وما يحرم بالجمع نوعان: كل شخصين لو كانا ذكرًا وأنثى من وجهين حرم التناكح بينهما كالأختين، والجمع بين أكثر من أربع للحر (¬1) وثنتين للعبد. {وَالْمُحْصَنَاتُ} ذوات الأزواج {أَيْمَانُكُمْ} جمع يمين وهي اليد اليمنى، وإنما يسند الملك إليها لأنها أضبط اليدين وأقواهما غالبًا وأكثر الكسب بها. ومجرد الملك بالسبي أو الوراثة أو الشراء لا يوجب فسخ عقد النكاح ما لم ينضم إليه معنى بسبب الزوج من مباينة الدار أو نحوها. {وَأُحِلَّ لَكُمْ} وأُبيح لكم أن تتزوجوا بمن وراء هؤلاء اللواتي سبق ذكرهن {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} تفسير لما أحل {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} متزوجين غير زانين، والسفاح: الزنا، والكناية في {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} راجعة إلى (ما) وهي للواحد والجماعة {أُجُورَهُنَّ} مهورهن {فَرِيضَةً} مقدرة. وفي قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} إباحة الإبراء والخلع، وفي فحواه أن العقد لا يعزل عن المهر إذا اتصل بالدخول وإن جاز إسقاطه بعد الوجوب، وذكر العلم والحكمة لإفادة العلم والحكمة في الشريعة أو لعلمه بعلل النصوص وبالمصَالح فيها. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} نزلت (¬2) في أخيار المؤمنات حرائِرهن وإمائِهن على ¬

_ (¬1) (للحر) ليست في "أ". (¬2) لم أجد من ذكر أسباب نزول في هذه الآية.

الكتابيات حرائِرهن وإمائِهن، لا في قصر الإباحة على المؤمنات، و (الطول) الفضل والغنى منصوب على التفسير (¬1) للاستطاعة المنفية، وعن إبراهيم النخعي أن المراد به الهوى (¬2)، والتقدير: من لم يكن عنده قصد ورأي وحزم لمصَائر الهوى وبصبر عن الإماء {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائِر {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فليتزوج مما ملكت أيمانكم من الإماء {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} إمائكم المؤمنات، والفتاة: الشابة في اللغة، وقال - عليه السلام -: "لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأمتي بل يقول فتاي وفتاتي أو غلامي وجاريتي فإنكم كلكم عبيد والرب واحد" (¬3). وعدم الطول ليس بشرط في جواز نكاح الإماء المؤمنات ولكنه مندوب إليه بقول علي - رضي الله عنه -: "إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة الثلث وللحرة الثلثين" (¬4). وقال جابر بن عبد الله: "لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة والله أعلم" (¬5). {بِإِيمَانِكُمْ} يريد الأخذ بالظاهر وكون الحقيقة إلى الله تعالى {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: الأحرار والعبيد والحرائر والإماء، بعضهم من بعض في باب الإِسلام والشريعة والموالاة {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يفيد وقوف العبد على إجازة المولى بخلاف العقد على الحرائر {مُحْصَنَاتٍ} مزوجات ¬

_ (¬1) في نصب "طولًا" ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه مفعول به لـ "يستطع" وهذا الذي رجحه السمين الحلبي في تفسيره. والوجه الثاني: أن يكون مفعولًا له على حذف مضاف والتقدير: ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والوجه الثالث: أن يكون منصوبًا على المصدر وهذا اختيار ابن عطية ويكون العامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى. [الدر المصون (3/ 653)، المحرر (4/ 83)]. (¬2) ذكره عن إبراهيم النخعي القرطبي (3/ 137)، وهو مروي عن جابر بن عبد الله كما في الطبري (6/ 593، 594)، وابن المنذر (1609)، ورواه ابن أبي حاتم (5140) عن ربيعة. (¬3) أصل الحديث في صحيح البخاري (2414)، ومسلم (2249) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. (¬4) الدارقطني (3/ 285)، وسعيد بن منصور في سننه. (¬5) عبد الرزاق في مصنفه (13089).

أو عفائف {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} زانيات {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أخلاء، وإنما ذكره لأنّ من العرب من لا يعد السر سفاحًا {أُحْصِنَّ} بفتح الهمزة: أسلمن، عن ابن مسعود وزر والشعبي (¬1)، وهو يحتمل التزوج أيضًا، وبضم الهمزة (¬2) إذا تزوجن عن ابن عباس ومجاهد (¬3)، وهو يحتمل أدخلن في الإسلام. {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} زنين {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر من الجلد، وحكم جلد العبد مستفاد من فحوى الآية وثبت بالإجماع. {ذَلِكَ} أي: الندب إلى نكاح الإماء والتنبيه عليه {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} الإثم والضرر في دينه ودنياه من العزوبة أو الهوى (¬4) {وَأَنْ تَصْبِرُوا} قيل: الصبر من الكل {خَيْرٌ لَكُمْ} وقيل: الصبر عن العنت {خَيْرٌ لَكُمْ} وقيل: عن نكاح الإماء {خَيْرٌ لَكُمْ} فإن قيل: كيف ندب إلى ما الصبر عنه خير؟ قلنا: إن فعله خير من وجه وهو أن فيه مندوحة عن الزنا، والصبر عنه خير وهو أن لا يعرض أولاده للرق. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} اللام بمعنى "أن" عند الفراء والكسائي (¬5)، ¬

_ (¬1) أما عن ابن مسعود فمروي عدة روايات رواها عبد الرزاق في مصنفه (13604)، وابن جرير (6/ 609)، وابن المنذر (1621)، والطبراني في الكبير (9691). وأما عن زر فلم أجده. وأما عن الشعبي فرواه الطبري (6/ 610)، والبيهقي (8/ 243). (¬2) القراءتان صحيحتان الضم (أُحْصِنَّ) والفتح (أَحْصَنَّ) ولذا قال ابن جرير (6/ 605) أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام. (¬3) أما عن ابن عباس فرواه ابن أبي شيبة (4/ 394)، وابن جرير (6/ 611). وأما عن مجاهد فذكره ابن أبي حاتم (5158) بدون سند. (¬4) عامة المفسرين ذهبوا إلى أن "العنت" هو الزنا كابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم ولا مانع من تفسيرها بالإثم؛ لأن الزنا من أعظم الإثم أو الضرر في الدين والدنيا بسبب العزوبة فهو من باب تفسير التنوع لأن تلك المعاني كلها كما قال ابن جرير الطبري هي جميع معاني العنت، ولذا أطلقها الله ولم يحددها فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]. [الطبري (6/ 616)]. (¬5) ذكره الفراء في معاني القرآن وقال: العرب تجعل اللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] =

وكذلك في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] و {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} [الأنعام: 71] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} (¬1) [الصف: 8]. {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: الأحكام الشرعية {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الأنبياء - عليهم السلام - (¬2) لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] و {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} البقرة: 130] و {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فمن ذلك تحريم الأمهات والبنات وما لم ينسخ من الشرائع المتقدمة. والآية وما بعدها في أهل البيت وفي أولياء الله دون الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. {أَنْ تَمِيلُوا} الميل: الجور وهو نقيض الاستقامة. و {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} الكفار والشياطين. {أَنْ يُخَفِّفَ} أراد رفع الإصر وضعف الإنسان وقلّة احتماله التكليف وسرعة تغيره بما يلقى من المكروه والمحبُوب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا فضل مبتدأ واتصاله بما قبله من حيث الأحكام المأمور بها والمنهي عنها. و (الأكل (¬3) بالباطل) بالربا (¬4) والقمار والبخس والظلم وما يشاكلها؛ عن السدي (¬5). وأكلها بغير معاوضة؛ عن ¬

_ = وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} [الصف: 8] وهذا مذهب الكوفيين كما حكاه الزجاج عنهم في معاني القرآن ورد كلامهم بقوله: هذا غلط أن تكون لام الجر تقوم مقام أن وتؤدي معناها. ورجح ابن جرير الطبري جواز أن ينوب بعض هذه الحروف عن بعض وهي (اللام، وأَنْ، وكي) وشواهده معروفة في القرآن كما تقدم وفي كلام العرب. واستشهد الطبري بقول الشاعر الذي جمع بين الثلاثة بقوله: أرَدْتَ لكيما أن تَطِيرَ بقربتي ... فتترُكَهَا شَنًّا ببيداءَ بَلْقَعِ [الطبري (6/ 620)، معاني القرآن للفراء (1/ 261)، معاني القرآن للزجاج (2/ 42)]. (¬1) في "ب": (نور الله بأفواههم). (¬2) في "ب": (الإسلام). (¬3) في "ب": (أكل). (¬4) في "ب" "أ": (بالربوا). (¬5) ابن جرير (6/ 626)، وابن أبي حاتم (5183، 5185).

الحسن (¬1). والظاهر أنه بذل المال في السفاح دون النكاح لتقدم {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} والاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراضٍ ليست من جنس المنهي عنه، قيل: لما نزلت هذه الآية امتنع الناس عن التبسط حتى نزل {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] في سورة "النور". {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، وقيل: هو نهي عن أن يقتل الرجل نفسه. وإنما وصف نفسه بالرحمة لأنه أراد بنا الخير حيث نهانا عن أكل المال بالباطل وقتل النفس المحظورين بالعقل قبل الوحي ذلك إشارة إلى قتل النفس عن عطاء، وقيل: إلى الظلم الموجود في أكل الأموال وقتل الأنفس جميعًا، وقيل: إلى ما نهى من أول السورة إلى هنا. وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} جزاء وشرط وليس بخبر (¬2) {وَكَانَ ذَلِكَ} أي: الإصلاء {يَسِيرًا} غير عسير. {إِنْ تَجْتَنِبُوا} الاجتناب والمجانبة أن تدع الشيء جانبًا ولا تتعرض له. و (الكبائر) المجمع عليها ثلاثة (¬3)؛ الشرك: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، والكفر: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} [المائدة: 5]، والنفاق، وما عداها مختلف فيه، فقيل: كل ما نهى من أول السورة إلى هاهنا من الكبائر، وقيل: كل ما أوجب الحد. وقيل: كل ذنب أوجب الله عليه (¬4) حدًّا في الدنيا وتوعَّد عليه بالنار في الآخرة، وقيل: كل ذنب كان محظورًا في قضية العقل قبل الوحي، وقيل: كل (¬5) ما أرسل الله في ذلك رسُولًا وعاقب عليه أمة، وقيل: ما يرجع إلى فسق الديانة والاعتقاد، وقيل: ما يبطل العدالة، وقيل: ما وصفه الله في القرآن بالعظم أو الكبر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير عن الحسن (6/ 627). (¬2) لأن "الفاء" رابطة لجواب الشرط و"سوف" حرف استقبال و"نصلي" فعل مضارع والهاء مفعول به أول و"نارًا" مفعول به ثان، والجملة في محل جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء. ولذا كما قال المؤلف أن الجملة ليست بخبر. (¬3) في جميع النسخ: (ثلاث)، والمثبت من "ب". (¬4) في "ب": (فيه). (¬5) في "أ" "ب": (كل ما).

والاعتداء. ولو بقيت الكبائر لخصها الناس بالاجتناب وارتكبوا سائر المناهي اتكالًا على هذه الشريطة، ولو ارتكبوا لبطل التفاضل بالورع (¬1). {وَلَا تَتَمَنَّوْا} نزلت في أم سلمة قالت: الجهاد كتب علينا فنصيب من الثواب ما يصيبه الرجال (¬2)، عن مجاهد، وقيل: تمنى الرجال أن يزادوا في ثواب الآخرة كما زيدوا في الميراث في الدنيا (¬3)، وقيل: حسد الناس بعضهم بعضًا فنهوا عن ذلك. {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} أي: لكل واحد [من الفريقين نصيب من قضية ما كسبوا من أجل كسبه، ويحتمل أن معناه لكل واحد] (¬4) من الفريقين حظ في الدنيا إذ جميع كسب الإنسان ربما لا يكون رزقًا وإنما يجمع لغيره {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} إبدال عن المنهي عنه، أي: سلوا من فضله مكان ما كنتم تمنون، وقيل في الزبور: يا ابن آدم لا تقل: اللَّهم ارزقني مال فلان، ولكن قل: اللَّهم ارزقني مثل مال فلان {عَلِيمًا} أخبر عن معلومة من أنصباء الرجال والنساء. تقدير الآية: ولكلِّ شيء مما (¬5) ترك الوالدان والأقربون {وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) ذكر العلماء في حد الكبيرة عدة تعاريف. ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري جملة من هذه التعاريف منها قول الرافعي: "هي الموجبة للحد"، وقول البغوي: "هي ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة". وقول العز بن عبد السلام: "كل ذنب قُرنَ به وعيد أو لعن". ثم قال الحافظ ابن حجر: ومن أحسن التعاريف قول القرطبي: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو أخبر فيه بشدة العقاب، أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة. [فتح الباري (12/ 183)]. (¬2) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 156)، وسعيد بن منصور (624 - تفسير)، والترمذي (3022)، وابن جرير (6/ 664)، وابن المنذر (1677)، وابن أبي حاتم (5224، 5225)، والحاكم (2/ 305، 306)، والبيهقي (9/ 21) وهو صحيح عن أم سلمة مرفوعًا قالت: يا رسول الله لا نُعْطَى الميراث ولا نغزو في سبيل الله؟! فنزلت {وَلَا تَتَمَنَّوْا ...} الآية. (¬3) رواه الطبري (6/ 664) وهو مروي عن قتادة كما عند ابن جرير (6/ 667، 668). (¬4) ما بين [...] سقط من "ب". (¬5) في "أ" والأصل: (ما).

عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} جعلنا موالي يستحقونه. أو تقديره: ولكل واحد جعلنا (¬1) ثَمَّ (¬2) بينهم من الذين تركهم الوالدان والأقربون والذين عاقدتهم الأيمان. و (المولى) على وجوه والجميع ينهى عن نوع قرب واختصاص، وإنما أسند العقد إلى اليمين لأنها سببُ انعقاده كقوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] والمراد بالمعاقدين عن ابن عباس وعنه: هم الذين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) بينهم، ومولى الموالاة يرث عندنا (¬4)، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود ومسروق. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ} نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي (¬5)، وقيل: نزلت في حبيبة بنت سهل (¬6)، وقيل: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير. لطمها لطمة فانطلق أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) واستعدى عليه فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فأنزل الله الآية فدعاهما وتلا عليهما الآية وقال: "أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراد الله خيرًا" (¬8)، وكان القصاص جاريًا بين الرجال والنساء في كل شيء إلى أن نسخ الله بهذه الآية. وقيل: أمرهُ محمول (¬9) على العفو دون القصاص لاعتبار المساواة فيما دون النفس {قَوَّامُونَ} قيامون وقيمون (¬10) على مصالحهن بسبب ما فضلهم الله عليهن في العقل ¬

_ (¬1) في "ب": (جعلناهم). (¬2) (ثم) ليست في "ب". (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "ب". (¬4) البخاري (4580، 6747). (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 169)، وابن حجر في العجاب (2/ 869) عن أبي روق. (¬6) لم أجد هذا الاسم وإنما هي حبيبة بنت زيد بن أبي زهير والذي سيأتي. (¬7) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬8) ذكره مقاتل في تفسيره (1/ 234 - 235)، والواحدي في أسباب النزول (144). (¬9) المثبت من "ب". (¬10) يقال هذا قَيِّمُ المرأةِ وقوامها، ومنه قول الأحوص: اللهُ بيني وبين قيِّمِها ... يَفِرُّ مني بها وأَتَّبِعُ [معاني القرآن للزجاج (2/ 46)].

والشهادة والجهاد والولاية والإمامة وبسبب إنفاقهم على الزوجات {فَالصَّالِحَاتُ} غير الناشزات الفاسدات {قَانِتَاتٌ} مطيعات لله ولأزواجهن {حَافِظَاتٌ} لأنفسهن (¬1) وبيوتهن بحفظ الله تعالى وعصمته إياهنّ وما حفظ الله عليهن من الأحكام الشرعية أو بما حفظ الله لهن من حقوقهن من المهر والنفقة، وإنما أثنى عليهن ليعلم أنه ما عليهن من سبيل. والهجران في المضاجع هو أن لا يضربها مدة ويرى من نفسها الملال عنها لعلها تخاف الفرقة فتترك النشوز وتحسن العشرة والطاعة {وَاضْرِبُوهُنَّ} أدِّبوهن بضرب لا إتلاف فيه ولا تبريح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} في الدين والفراش {فَلَا تَبْغُوا} تطلبوا {عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} حجة وعلة ولا تتجنوا عليهن، وإنما وصف الله نفسه بالعلو والكبرياء لتعاليه عن إباحة التجني والعدوان والكبر شأنه في إقامة القسي والأخذ للمظلوم من الظالم المتجني. {فَابْعَثُوا حَكَمًا} حاكمًا، والظاهر أن الحاكم (¬2) من تحاكم إليه الخصمان ورضيا بحكمه وجعلاه كالوكيل فيما أُسند إليه، والحاكم الذي له أن يحكم وإن لم يتحاكم إليه (¬3)، وإنما أمر بحكمين لأنه أبعد من الجور والميل {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} أي: يجعل حكم أحد الحكمين موافقًا لحكم الآخر إن أرادا إصلاحًا، وليس للحكمين أن يحكما بالطلاق والخلع إلا أن يكون الزوجان قد أذنا لهما في ذلك. (الخبير العليم) كقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] وقيل: المخبر والمخبّر والمعلّم واحد. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وهذا فصل آخر يتناول ما تقدم من حيث إن الجميع أمر ونهي و {إِحْسَانًا} نصب على الحث والتحريض (¬4) ومثله قوله تعالى: ¬

_ (¬1) في "ب": (لأنفسهم). (¬2) في "أ" "ب": (الحكم). (¬3) (والحاكم الذي ... إليه) ليست في "ب". (¬4) والناصب له جملة "وأحسنوا". والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا. كما تقول: ضربًا زيد أي اضرب زيدًا ضربًا. هذا ما ذكره الزجاج، وأجاز الفراء الرفع على أنه مبتدأ =

{وَقَضَى رَبُّكَ} إلى قوله: {إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]. و (الجار): النزيل في الحي وهو المجاور {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أدنى الجيران {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أبعدهم، وقيل: ذي القربى المناسب القريب، والجنب الأجنبي الغريب {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الرفيق في السفر؛ عن ابن عباس وابن جبير والحسن ومجاهد والضحاك (¬1)، وعن ابن عباس أيضًا: هو المنقطع إليك يرجو خيرك ونفعك وإليه ذهب ابن زيد (¬2)، وقال ابن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى: هو المرأة (¬3) {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو الضيف؛ عن قتادة وابن زيد (¬4)، والمسافر الغريب؛ عن الربيع (¬5) {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء، ويجوز أن يدخل في عمومه الدواب والمواشي. وقال - عليه السلام -: "كلكم راعٍ وكلكم مسوول عن رعيته" (¬6)، وقال - عليه السلام - في العبيد والإماء: "اكسوهم ما تلبسون وأطعموهم ما تطعمون" (¬7). وقال ¬

_ = و"بالوالدين" خبر له وهي قراءة ابن أبي عبلة كما ذكره القرطبي في تفسيره. [معاني القرآن للزجاج (2/ 50)، معاني القرآن للفراء (1/ 266)]. (¬1) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (7/ 11)، وابن المنذر (1756)، وابن أبي حاتم (5303) , والبيهقي في الشعب (9524)، وأما عن سعيد بن جبير فرواه ابن جرير (7/ 11 - 13)، وابن أبي حاتم (5307)، وابن المنذر (1760)، وأما عن مجاهد فرواه ابن جرير (7/ 11 - 13)، وابن أبي حاتم (5305، 5306)، وابن المنذر (1758)، وأما عن الضحاك فرواه ابن جرير (4/ 83) ط. أخرى. (¬2) رواه عنهما ابن جرير في تفسيره (7/ 15). (¬3) أما عن ابن مسعود فرواه ابن جرير (7/ 14)، وابن المنذر (1762)، وابن أبي حاتم (5302)، والطبراني في الكبير (9077). وأما عن إبراهيم النخعي فرواه ابن جرير (7/ 15)، وابن المنذر (1763). وأما عن ابن أبي ليلى فرواه ابن جرير (7/ 14)، وابن المنذر (1764). (¬4) أما عن قتادة فرواه ابن جرير (7/ 18). وأما عن ابن زيد فلم أجده. (¬5) رواه ابن جرير (4/ 83) ط. أخرى. (¬6) رواه البخاري (853) ط. البغا، ومسلم (1829). (¬7) رواه مسلم (3006).

عند الوفاة: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" (¬1). و (الاختيال) افتعال من الخيلاء وهو ركوب الرأس والذهاب بالنفس. و (الفخور) الذي يكثر التفاخر بتقدير المكارم تكبرًا وتعظمًا غير شكر، وإنما لا يحب لأنه يأنف عن طاعة الوالدين ومخالطة الأقربين ومرافقة الجيران ومعاشرة العبيد والإماء، ويخاف الفقر والذلّ في بذل الأموال فلا يبذلها. {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} عن ابن عباس ومجاهد: اليهود خاصة حيث كتموا نعت (¬2) نبينا - عليه السلام -، والظاهر أنه في البخيل المعتل المعتذر عند السؤال كذبًا وشحًا. {وَأَعْتَدْنَا} يقتضي مضمرًا فكأنه قال: هم كافرون. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} وإنما جاز وصفهم بالكفر لأن من اعتقد أن البخل حسن محمود ورضيه وأوصى به غيره فقد كَذب الله ورسول الله (¬3) فكان كافرًا (¬4). {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} إنما ذكرتهم لئلا يظن (¬5) ظان أن كل منفق محمود مأجور؛ فإنّ المختال الفخور ربما أنفق رياء وذلك غير مقبول منه ولا محسُوب له عند الله إذا لم يبتغ وجهه والدار الآخرة. {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ} يقتضي مضمرًا فكأنه قال: قرينهم الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ} وإنما لم يصرح به لأن الملفوظ به يدل عليه. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} إلزام محض من طريق النظر كقولك: هب أني مبطل في الإنذار فهل عليك بأس في الحذر، وهب أنه غير مستحق (¬6) فهل عليك لوم في السخاء، كذلك الإيمان بالله واعتقاد انقضاء الدنيا واجب في العقل ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (3/ 117) والحديث صحيح. (¬2) (نعت) ليست في "أ" "ب". (¬3) (الله) ليست في "ب". (¬4) من اعتقد أن البخل حسن محمود ورضيه لا يكون كافرًا، والبخل الذي في الآية في قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] الآية هم الذين يبخلون في بيان الحق ويكتمونه، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره (7/ 25). (¬5) (لئلا يظن) ليست في "ب". (¬6) (فهل عليك ... مستحق) ليست في "ب".

قبل الدعوة، ومواساة الفقراء محمود عند كل ذي عقل، فماذا عليهم في الإجابة لداعٍ يدعو إلى هذه المعاني (¬1)، سواء كان عدوًا أو صديقًا صغيرًا أو كبيرًا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ} لا يخلف الوعد بزيادة العقاب أو نقص الثواب، ومجازه أن الله لا يظلم شيئًا وإنما ذكر ذلك لأنه أقل ما يثبت في القواعد المحسوسة، أو لأنه أقل أجزاء (¬2) الجوهر لا يستثير منه بعضه. ومثقال الشيء مقداره في الوزن، والذرة من الحيوان النملة الصغيرة الحمراء؛ وهي جسم مؤلف من الذرة، والجماد جزء واحد من أجزاء الغبار وذلك ليس بجسم. فالله تعالى لا يزيد في عقاب ولا يبخس من ثواب ذلك القدر، فإن كان ذلك القدر حسنة ضعفها إلى عشرة أمثالها إلى سبع مائة إلى ما شاء من فضله، وإنما وصف الأجر بالعظم لأنه لا ينقص ولا ينفد. {فَكَيْفَ} في مثل هذا الموضع تقتضي تهويل الأمر، وتقديره: كيف يختالون وكيف يصنعون أو كيف هم أو كيف حالهم، وحذف المستفهم عنه أبلغ في التهديد ليذهب نفس السامع كل مذهب، والمراد بالتوقيت يوم القيامة، كما في قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا (¬3) عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89] والشهداء: الأنبياء والمرسلون وسائر الأئمة، يقولون: هذا أجاب وهذا لم يجب وهذا أطاع وهذا لم يطع، وذلك بعد أن يثبت الله أقدامهم وينزل عليهم السكينة ويذهب بالوجل عن قلوبهم، وأما في ابتداء الوهلة فيقولون: لا علم لنا كما قال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] الآية، وعميت الأنباء على المشهود عليهم أيضًا فلا يتساءلون، ثم يوقف الله من يشاء للجواب الصالح ويجحد من قدر له الجحود، ثم ينطق أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بفعلهم (¬4) فحينئذ ¬

_ (¬1) في "ب": (المعايل في). (¬2) في "أ": (الجزاء). (¬3) في "ب": (ليشهد). (¬4) (بفعلهم) من "أ" "ب".

يقولون: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] عن ابن مسعود أن النبي - عليه السلام - (¬1) قال له: "اقرأ" قال: عليك أقرأ يا رسول الله وعليك أُنزل؟! قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأ سورة "النساء"، فلما انتهى إلى هذه الآية دمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) (¬3)، وفي بعض الروايات قال: "اللَّهم هذا علمي بمن أنا بين ظهرانيهم فكيف بمن لم يرنِ" (¬4). {يَوْمَئِذٍ} ظرفان من الزمان أضيف أحدهما إلى الآخر فصارا زمانًا معرّفًا فكأنك تقول: يوم إذ يكون كذا، فلذلك تعرف وصَار حكمه حكم الفعل وهذا على قول من يعرب اليوم من {يَوْمَئِذٍ} وأما من لم يعربه فيقولون: هذان اسمان جعلا اسمًا واحدًا بني على صيغة واحدة لزمان معين {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} واو استئناف، أي: لا ينكتم شيء مما (¬5) يتحدثون فيما بينهم أو تحدث به أنفسهم. {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} موضع الصلاة وهو (¬6) المسجد- دون الدعاء والصلاة - المعهود؛ لأنه قال: {إِلَّا (¬7) عَابِرِي سَبِيلٍ} والعبور لا يتصور إلا في المسجد؛ فإن قيل عن أبي عبد الرحمن السلمي: إن عليًا وعبد الرحمن بن عوف كانا في دعوة رجل من الأنصار وأصابوا من الخمر وقدموا عليًا في صلاة المغرب وقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] على غير ما أنزلت فنزلت الآية (¬8)، قلنا: اعتبار عبور السبيل الذي نطق به الكتاب أولى ¬

_ (¬1) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) البخاري (4582، 5050، 5055). (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬4) الطبراني في الكبير (19/ 221) (492) وفيه عبد الرحمن بن لبيبة لم أعرفه كما قال الهيثمي في المجمع (7/ 5). وأخرجه الطبري في تفسيره بدون الزيادة (7/ 40). (¬5) (مما) من "ب"، أما في البقية: (ما). (¬6) في "ي" والأصل: (وهي). (¬7) (إلا) ليست في "أ". (¬8) أخرجه أبو داود (3671)، والترمذي (3026)، وابن جرير (7/ 46)، وابن أبي حاتم (5352)، وابن المنذر (1798)، والحاكم (2/ 307)، والنحاس في ناسخه (338) والحديث صحيح.

من اعتبار حادثة علي، فإنْ قيل: لم لا تحملونه عليهما جميعًا (¬1)؟ قلنا (¬2): لامتناع حمل اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز في حالة واحدة، فإنْ قيل: كيف حملتم قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] على العقد والوطء جميعًا، قلنا (¬3): لأنه حقيقة فيهما كأسهم الإخوة في حجب الأم والمعنى المفسد عدم منه. {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الواو للحالى و (سكارى) جمع سكران، وقيل: الجمع سكرى، وسكارى جمع الجمع {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يفيد القضاء عند الصحو {وَلَا جُنُبًا إ} أي: ولا مجنبين، و (الجنب): واحد وجمع إذا كان نعتًا لاسم، يقال: رجل جنب وامرأة جنب وقوم جنب، وإن أقمته مقام الاسم ثنيت وجمعت. وإنما استثنى {عَابِرِي سَبِيلٍ} لضرورة، قال إبراهيم: هو أن لا يجد طريقًا غيره (¬4)، وقيل: هو أن لا يصل إلى الماء الآية فيتيمم ويدخل {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} مقدم على الاستثناء في التقدير {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} بحال تخافون زيادة المرض باستعمال الماء. وقال ابن عباس: هو صاحب الجدري وصاحب القرحة. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إن كنتم مسافرين {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي: رجع عن قضاء الحاجة. و (الغائط): اسم للمكان المنخفض (¬5). و (اللمس): كناية عن الجماع؛ عن علي وابن عباس وأبي موسى الأشعري (¬6)، ولأنّه لمس مطلق. والمراد بالماء: الماء الشرعي دون ¬

_ (¬1) (جميعًا) ليست في "ب". (¬2) في "ب": (قلت). (¬3) في "ب": (قلت). (¬4) الطبري (7/ 58). (¬5) ولذا فَسَّر مجاهد "الغائط" بأنه الوادي. أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 63). (¬6) أما عن علي فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 166)، وابن جرير (7/ 67، 68)، وابن المنذر (1820). وأما عن ابن عباس فرواه عبد الرزاق في مصنفه (506)، وسعيد بن منصور (640 - تفسير)، وابن أبي شيبة (1/ 166)، وابن جرير (7/ 63 - 67)، وابن المنذر في التفسير (1819)، وفي الأوسط (1/ 116). وأما عن أبي موسى فلم أجده.

اللغوي لجواز التيمم مع وجود الماء النجس, ولهذا جوزنا الوضوء بنبيذ التمر لأنه ماء شرعي (¬1)، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} معطوف على المعنى المقدر لأن عدم الماء غير شرط في حق المريض. وقوله: {فَتَيَمَّمُوا} جواب للشرطين جميعًا، والتيمم: القصد، والقصد لا يتم إلا بالفعل، والفعل تيمم من غير حصول الانفعال، فلذلك اكتفينا بضرب اليدين من غير رفع الصعيد. و (الصعيد) وجه الأرض لقوله: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] و {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، و (الطيب): الطاهر. وإنما وصف نفسه بالعفو والغفران لأنه رفع الإصر ولم يؤاخذنا بما يشق علينا. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} اتصالها بما قبلها من حيث ما في ضمنها من النهي عن موالاة اليهود والتحذير عنهم {أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي: أن تنسوا السبيل وتضيعوه. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} منكم فهؤلاء أعداؤكم وإن أظهروا مودة {وَكَفَى بِاللَّهِ} خبر بمعنى الأمر وتقديره: اكتفوا باللهِ من ولي، و (الكافي): القائم بالحاجة، والباء في {بِاللَّهِ} دليل على ما النفي، وقيل: للتعجب والمبالغة و {وَلِيًّا} نصب على الحال. {مِنَ الَّذِينَ} يحتمل أن يكون {مِنَ} تفسيرًا، أو تبيينًا و {الَّذِينَ أُوتُوا} ويحتمل أن تكون راجعة إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}، ويحتمل أن تكون متصلة بقوله: {نَصِيرًا} أي: ينصره منهم، ويحتمل أن تكون منقطعة مبتدأ تقديره (¬2): من الذين هادوا من يحرفون الكلم. قال الله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات: 164] أي: إلا من له مقام معلوم (¬3) {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (¬4)} [مريم: 71] أي: يردها ولا يحسن إضمار (من) إلا في المبتدأ بمن {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} غير صاغر ولا مجبر على الاستماع؛ كأن ¬

_ (¬1) هذا دليل على أن المؤلف ربما يخرج عن مذهبه الشافعي إلى مذهب الأحناف. (¬2) (مبتدأ تقديره) ليست في "ب". (¬3) (معلوم) ليست في "أ" "ب". (¬4) في "أ" "ب" "ي": (إلامن).

المؤمنين يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى، وقيل: اسمع لا سمعت، وقيل: اسمع غير ممكّن من الاستماع وكأن المنافقين واليهود يريدون بهذا اللفظ أحد هذين المعنيين (¬1). {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} على أنه مفعول له أو على التفسير والطعن في الذين هو الطعن عليه وَعيبُه (¬2)، وقوله: {سَمِعْنَا} وما بعده يدل على ما في قلبه {وَانْظُرْنَا} أي: انتظر وتأنّ بكلامك {لَكَانَ} هذا القول الثاني (¬3) {خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} أعدل وأقسط وأبعد عن الليّ {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ} حرمهم التوفيق لمثل هذه المقالة المحمودة خبرًا لكفرهم أو أمره {إِلَّا قَلِيلًا} منهم ويحتمل {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬4) إيمانًا قليلًا، وذلك قولهم (¬5): {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نزلت في شأن اليهود (¬6) ويحتمل العموم في أهل الكتاب وغيرهم بادروا وقت هذا الوعيد الكائن لا محالة، والوعيد أحد شيئين: إمّا طمس الوجوه وردها على أدبارها وإما اللعن، واختلف في الطمس والرد على الأدبار، قيل: محو آثار الوجوه من أصلها وصرف الأعين إلى الأقفية والمشي قهقرى؛ عن ابن عباس وابن جريج (¬7)، وقيل: الطمس (¬8) كختم القلوب وإغشاء الأسماع والأبصار وهو الخذلان، ¬

_ (¬1) أي يقول اليهود عندما كانوا ينالون من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسبونه كانوا يقولون له: اسمع لا سمعت، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه عنه الطبري في تفسيره (7/ 105). (¬2) (وعيبه) ليست في "ب". (¬3) (الثاني) ليست في "ب". (¬4) (إلا قليلًا) من الأصل فقط. (¬5) (قولهم) ليست في "ب". (¬6) ابن جرير (7/ 118)، وابن المنذر (1847)، وابن أبي حاتم (5411)، والبيهقي في السنن (2/ 533، 534). (¬7) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (7/ 112)، وابن أبي حاتم (5412،5415) من طريق العوفي عنه. وأما عن ابن جريج فلم أجده. (¬8) في "ب": (الطمث).

والذهاب بالبركة والتوفيق. و (الرد على الأدبار): هو الحشر والإجلاء إلى الشام (¬1). وقيل: الطمس (¬2) إنبات الشعر على الوجوه كإنباته على الأقفية وإليه ذهب الزجاج، وهذا الوعيد كائن لا محالة إما في الدنيا وإما في الآخرة. ولعن أصحاب السبت مسخهم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} أي: مأمور الله كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] وفائدته على هذا الإخبار عن نفاذ القدرة في جميع المرادات، وقيل: المفعول الموعود (¬3) وفائدته أن الله لا يخلف الميعاد. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ} نزلت في وحشي قاتل حمزة (¬4) وهي على العموم وتضمنت مغفرة من غير توبة لأنه نفي مغفرة الإشراك؛ وتضمنت مغفرة الكبائر. والإشراك بالله من وجهين: إثبات شيء لا ابتداء له مع الله تعالى (¬5)، والثاني: إثبات مدبر منفرد بفعله دون الله. فالأول: إشراك الدهرية والثنوية، والثاني: إشراك عبدة الجن والإنس والملائكة والنجوم والأصنام. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ} قيل في نزولها: أن اليهود حملوا أولادهم الأطفال إلى النبي - عليه السلام - فقال - عليه السلام - (¬6): "ما عليهم ذنب" فقالوا: ما نحن إلا أمثال هؤلاء ما نعمله بالليل يغفر لنا بالنهار وما نفعله بالنهار يغفر لنا بالليل، فأنزل (¬7). وقيل: سبب نزولها قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (¬8) [المائدة: 18] بأفوا ههم التراب، وقيل: إن ¬

_ (¬1) ذكره الطبري (7/ 114)، وابن أبي حاتم (5418). (¬2) في "ب": (الطمث). (¬3) في "أ": (للوعود). (¬4) لم أجد في أسباب نزول هذه الآية أنها نزلت في وحشي، وقد وردت آثار في أسباب نزولها غير الذي ذكره المصنف. (¬5) (تعالى) ليست في "ب". (¬6) (السلام) ليست في الأصل. (¬7) أورده الواحدي في أسباب النزول (148) من طريق الكلبي. (¬8) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 164)، وعنه الطبري (7/ 124)، وابن أبي حاتم (5431).

بعضهم أثنى على بعض، والتزكية وضعه بالعدالة وبأنّه زكي، و (الفتيل) الوسخ الذي ينفتل بين الإصبعين؛ عن ابن عباس (¬1). وقيل: الفتيل: في شق النواة، والنقير: النقطة على ظهر النواة، والقطمير: القشر (¬2) الرقيق على ظاهر النواة (¬3). {انْظُرْ} إنما أمرنا (¬4) بالنظر للتعجب، وموضع التعجب شدة وقاحتهم وغاية جهلهم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب قدما مكة فأتتها قريش وقالوا: أنتم أهل كتاب وعلم أخبرونا عنا وعن محمد - عليه السلام - (¬5)، قالا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: ديننا القديم ودينه الحديث؛ ونحن نسقي اللبن علي الماء ونصل الرحم ونسقي الحجيج ونفك العناة، ومحمد صُنبور (¬6) قطع أرحامنا واتبعه سُرّاق الحجيج بنو غفار، فنحن أهدى أم هو أهدى (¬7) وأصحابه؟ قالا: بل أنتم أهدى سبيلًا (¬8)، وهما يعلمان أنهما يكذبان لا محالة لأنّهما كانا يريان (¬9) محمدًا - عليه السلام - يوحّد ويذكر اسم الله (¬10) على الذبيحة ويتوضأ (¬11) ويغتسل ويذكر الأنبياء بخير ويؤمن بهم ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن ¬

_ (¬1) ابن جرير (7/ 130)، وابن المنذر (1866)، وابن أبي حاتم (5434). (¬2) المثبت من الأصل، وفي البقية: (القش). (¬3) هو مروي عن ابن عباس كما في سعيد بن منصور (650 - تفسير)، وابن المنذر (1861). (¬4) في "ي" "أ": (أمر). (¬5) (السلام) ليست في الأصل. (¬6) الصنبور: الرجل الفرد الضعيف لا أهل ولا عقب ولا ناصر له؛ أي أنه أبتر فإذا مات انقطع ذكره [التاج "صنبر"]. (¬7) (أهدى) من الأصل فقط. (¬8) رواه ابن أبي حاتم (5440)، والطبراني في الكبير (11645)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 193)، وسنده صحيح وله شواهد. (¬9) في "ب": (يريدان). (¬10) في "ب": (الله اسم). (¬11) كتبت في النسخ بعدة أشكال منها (ويتوضاء) (ويتوضى).

الزنا وعن جميع الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا هو دين المرسلين، فأدّى بهما العدوان والخذلان إلى اختيار المشركين على المؤمنين، وروي أنهما سجدا لصنم قريش تقربًا إليهم واستمالة لقلوبهم (¬1). و (الجبت): كل ما عبد من دون الله تعالى؛ عن ابن عرفة وأبي عبيد، وعن الشعبي: الجبت: الساحر (¬2)، وقيل: السحر بلغة الحبشة يعني مشتركة بينهم وبين بعض العرب (¬3)؛ وفي إحدى الروايتين الجبت: الأصنام (¬4) {وَالطَّاغُوتِ} مترجم الأصنام، وفي الرواية الأخرى: الجبت: كعب بن الأشرف، والطاغوت: حيي بن أخطب (¬5). {أَمْ لَهُمْ} متصلة معادلة لألف الاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ} أنفسهم (¬6) أو {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا} وقيل: متعلقة بمعنى ألف الاستفهام. و (إذًا) يوجب جواب شرط. و (النقير): أدنى ما يتعين بنقر الأصابع أو المنقار، والمعنى: أن الله تعالى وصفهم بغاية البخل. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} قال ابن عباس: الناس محمدٌ -عليه السلام- (¬7) (¬8). والفضل إباحة التزوج له بكم شاء من النساء (¬9) (¬10). وآل إبراهيم: ¬

_ (¬1) رواه الطبري بألفاظ مختلفة (7/ 142)، والبزار (2293) وغيرهما. (¬2) الطبري (4/ 132)، وابن أبي حاتم (5447). (¬3) هذا ورد عن ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة. وانظر الطبري (4/ 557 - 558) (7/ 137 - 138). (¬4) هذا مروي عن ابن عباس عند ابن جرير (7/ 135)، وابن أبي حاتم (5446، 5451). (¬5) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والضحاك، رواه عنهما الطبري في تفسيره (7/ 139)، وابن أبي حاتم (5450). (¬6) (أنفسهم) من "ب". (¬7) مروي عن طريق العوفي عن ابن عباس كما في الطبري (7/ 154) وهو مروي عن عدّة من التابعين. (¬8) (السلام) ليست في "ي". (¬9) في "أ": (الناس). (¬10) هو مروي من طريق العوفي عن ابن عباس عند الطبري (7/ 156، 157)، وابن أبي حاتم (5465).

سليمان -عليه السلام- فالملك العظيم ملكه. وقال السدي (¬1) كذلك إلا أنه قال: وآل إبراهيم داود -عليه السلام- وملكه سليمان -عليه السلام- وملكه. كان قد أبيح لداود -عليه السلام- (¬2) تسع وتسعون امرأة مهرية وثلثمائة سرية، ولسليمان ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية، وقيل: إبراهيم وما آتاه الله تعالى (¬3) في (¬4) النساء. وذلك أن اليهود عيّروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) قالوا: لو كان نبيًا لشغله شأن النبوة عن شأن النساء، فبيَّن الله تعالى حالة من مضى من الأنبياء حجة لنبيّه -عليه السلام-، وقال قتادة: {النَّاسَ} العرب (والفضل) النبوة (¬6)، والوجه أنهم حسدوهم وقالوا: هذا أمر لا يكون إلا في بني إسرائيل، فبين الله أنهم وبنو إسرائيل شرع سواء لأنهم جميعًا من ابني إبراهيم: إسماعيل وإسحاق فكانا اثنين آتاهما الله تعالى الكتاب والحكمة والملك، وقيل: {النَّاسَ} محمَّد وأصحابه (¬7)، وعن الحسن: أن الملك العظيم النبوة (¬8)، وقيل: الإمداد بالملائكة. الهاء في {بِهِ} و {عَنْهُ} راجعة إلى النبي -عليه السلام- (¬9). وقيل: إبراهيم، وقيل: إلى الخبر عن آل إبراهيم (¬10). {سَعِيرًا} لمن صد عنه. ¬

_ (¬1) ابن جرير (7/ 159)، وابن أبي حاتم (5472، 5477، 5480). (¬2) (-عليه السلام-) ليست في "ب". (¬3) (تعالى) ليست في "ب". (¬4) المثبت من الأصل، وفي البقية: (هذه). (¬5) (- صلى الله عليه وسلم -) من "أ"، وفي "ب": (النبي -عليه السلام-). (¬6) ابن جرير (7/ 155). (¬7) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 110) وعزاه للماوردي. (¬8) لم أجده. (¬9) (السلام) ليست في "ي". (¬10) أما أن الهاء عائدة إلى النبي فذكره عن مجاهد الطبري (7/ 161)، وابن المنذر (1905)، وابن أبي حاتم (5484). وأما من قال هو إبراهيم فهو مذكور عن السدي، رواه ابن المنذر (1906)، وابن أبي حاتم (5486، 5488). وأما عن آل إبراهيم فقد ذكر عن قتادة. رواه ابن المنذر (1900).

{كُلَّمَا نَضِجَتْ} الانطباخ والانشواء وهو غاية استرخاء التأليف بالحرارة {بَدَّلْنَاهُمْ} غيرها. والعذاب للنفوس دون الجلود إذ لا حياة في الجلود وإن كانت من جوهر النفوس، وقيل: أن يجدد جلودهم (¬1) النضيجة وهي أجسادهم، ويجوز (¬2) إطلاق اسم الغير عند (¬3) الانقلاب كقوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] يعني: غيره، وقيل في تفسير قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48]: إنما هي (¬4) هذه الأرض ولكنها تقلب ظهرًا عن بطن. و (الظل الظليل): هو الظل الذي يستطاب ويستظل به. قال الله تعالى في هذه: {إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 31] والمراد بالظل الظليل جميع أنواع السلامة عن الحرّ والبرد وغيرها في حمى الله وكنفه. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} عامة في الظاهر يدخل (¬5) كل أمانة من كلام أو مال ويدخل (5) فيه ما كان عند أهل الكتاب من نعت نبينا -عليه السلام- (¬6)، ويدخل فيه ما ائتمن الله الأئمة فيه من العهد، وروي أن النبي -عليه السلام- أخذ مفتاح الكعبة حرسها الله يوم الفتح من عثمان بن طلحة وجه بني عبد الدار وكانت الحجابة فيهم. فقال عثمان: خذ بأمانة الله، ثم إن عباسًا أحب أن يدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) المفتاح إليه لينضم له فضيلة الحجابة إلى فضيلة السقاية، فتلا رسول الله الآية ورد المفتاح إلى عثمان، وقيل: أنها نزلت حينئذ ثم إن عثمان بن طلحة دفعه بعد ذلك إلى أخيه شيبة وهو في بيته اليوم (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل: (جلود). (¬2) في "ب" "ي": (فيجوز). (¬3) في "أ": (عنه). (¬4) (هي) ليست في "ب". (¬5) في "ب": (تدخل). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب" فقط. (¬8) ذكره ابن مردويه من طريق الكلبي. وانظر: لباب النقول للسيوطي (71)، تفسير ابن كثير في تعليقه على الآية، وعن الثعلبي كذلك ذكره ابن حجر في العجاب (2/ 893)، وذكره عن ابن جريج ابن جرير (7/ 170، 171)، وابن المنذر (1920).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} طاعة الله (¬1) فريضة وطاعة رسُوله واجبة وطاعة أولي الأمر في طاعة الله فريضة. فريضة حتمًا وفي سائر المصالح حسنة مندوبٌ إليها، ولو كان حتمًا لما أمر برد المتنازع فيه إلى الله ورسوله، وينهى عن التنازع أصلًا، و (أولو الأمر) منا الولاة من مذهبنا وديننا الذين عقيدتهم ظاهرة وملتهم ظاهرة وبيعتهم سابقة، والمتنازع فيه ما اختلف فيه أهل الرأي والاجتهاد من الفروع دون الأصول، والردّ إلى الله وإلى الرسول، وقيل: رفعه إلى رسوله وانتظار نزول القرآن وهذا كان مختصًا بالصحابة، كانوا إذا رأوا من أمير السرايا شيئًا ينكرونه ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعهم. والثاني بجعل المنصموص عليه بالسنة والكتاب أصلًا ويستنبط علة إن أمكن ثم يرد المتنازع فيه إلى ذلك الأصل بتلك العلة. والمنصوصان لغرض التعليل كالجمع (¬2) بين الأختين في الكتاب والتفاضل في الأشياء الستة في الحديث، إلا ما نهى الله (¬3) عن تعليله كقضاء الحائض صومها دون صلاتها، وهذا الوجه وجد بين جماعة من الصحابة وبين عمر في ولايته فمرّة رجعوا إلى قوله، ومرة رجع إلى قولهم، وكذلك وجد في ولاية عثمان وعلي. والثالث أن (¬4) ترجي أمر المتنازع فيه إلى الله إذا تجاذب الأصلان ولم يكن ترجيح لأحدهما فحينئذ يجعل حكم المتنازع فيه موقوفًا. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} نزلت في المنافقين (¬5). {الطَّاغُوتِ} ¬

_ (¬1) (الله) ليست في "ب". (¬2) في الأصل: (كان الجمع). (¬3) (الله) ليست في "ي". (¬4) (أن) من "ي". (¬5) رواه ابن جرير في تفسيره (7/ 189)، والواحدي في أسباب النزول (ص 119)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 178) إلى ابن المنذر عن عامر بن شراحيل الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود وبين رجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين؛ لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه هذه الآية.

كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب عن ابن عباس (¬1)، وقال مجاهد وقتادة والسدي (¬2): {الطَّاغُوتِ} هاهنا أبو بُردة الأسلمي الكاهن. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} في صفة هؤلاء المنافقين أيضًا: روي أن يهوديًا ومنافقًا يسمى بشر اختصما فيما بينهما فقال اليهودي: بيننا أبو القاسم، فرافعه إلى النبي -عليه السلام- (¬3) وكان الحق بيد اليهودي في تلك الخصومة فحكم على بشر المنافق، فلما خرجا من عنده لم يرض المنافق بذلك الحكم ورافع اليهودي إلى أبي بكر الصدِّيق فحكم لليهودي أيضًا فلم يرض المنافق بذلك ورافعه إلى عمر، فلما أتياه قال المنافق: حكم بيني وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فلم أرض بحكمهما ورضيت بحكمك الساعة قال: رضيت بحكمي؟ قال: نعم، فدخل بيته ثم خرج شاهرًا سيفه وضرب رقبة المنافق (¬4). {مُصِيبَةٌ} أحد شيئين: إما نزول ما يفضحهم من القرآن، وإما قتل عمر بشر المنافق. {بِاللَّهِ} يجوز أن يكون متصلًا بيحلفون على أنه محلوف به، ويجوز أن يكون حكايته حلفهم إذ الحلف في معنى القول {إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك {إِلَّا إِحْسَانًا} للأمر وتوفيقًا بين حكمك وحكم غيرك، ويحتمل ما أردنا بتوسط غيرك إلا الصلح دون مُر الحكم الذي هو من قضية الديانة والتسليم له. ¬

_ (¬1) ورد عند ابن جرير (7/ 193)، وابن أبي حاتم (5450، 5552) من طريق العوفي وفيه (كعب بن الأشرف فقط). (¬2) أما عن مجاهد فورد بالتلميح وليس بالتصريح في رواية لابن المنذر (1946). وأما عن قتادة فرواه الطبري (7/ 191). وأما عن السدي فرواه الطبري (7/ 192). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) عزاه السيوطي في الدر (4/ 518 - 519)، وابن حجر في العجاب (2/ 309)، وفي تخريج أحاديث الكشاف الزيلعي (1/ 330) للثعلبي، وهو من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهو ضعيف.

{يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ} إنما أبهم لأنه إن كان نفاقًا فإظهاره (¬1) يوجب القتل وفيه عنف ومضايقة، وإن كان إيمانًا فإظهاره (¬2) يوجب قبول العذر ورفع الملام ففيه نوع إخلال بالسياسة، فلذلك أبهم إن شاء الله وردّ حكمهم إلى الإنذار والوعظ {فَأَعْرِضْ} عن عقوبتهم أو عن قبول عذرهم، و (وعظهم) هو لومهم على الفعل المذموم وحثهم على الفعل المحمود. والقول البليغ في أنفسهم تهديدهم بالقتل وسائر العقوبات إن رجعوا إلى مثل فعلهم ليبلغ ذلك القول في نفوسهم كل مبلغ من الإنذار والزجر. {إِلَّا لِيُطَاعَ} أي: إلا يستحق الطاعة، وكذلك قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وتقول المرأة لابنها: لم ألدك إلا لتكبر فتبرَّ بي {بِإِذْنِ اللهِ} بأمره وحكمه {وَلَوْ} تدخل على الأفعال وإنما وليتها هاهنا أنّ المشددة لأنها تنوب عن الاسم والخبر، تقول: ظننت أنك عالم، أي: ظننتك عالمًا. والكناية منهم (¬3) راجعة إلى المنافقين وإلى أوليائهم. و {إِذْ ظَلَمُوا} ظرف والعامل فيه {جَاءُوكَ} أي: أتوك تائبين {فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ} لذنوبهم {لَوَجَدُوا اللهَ} أي: لأقبل الله عليهم بالتوبة والرحمة. {فَلَا وَرَبِّكَ} نزلت في خصم الزبير بن العوام من الأنصار كانت بينهما خصومة في شرج من شراج المدينة فاختصما إلى النبي -عليه السلام- فقال: "يا زبير اسق أرضك ثم أرسل إلى جارك" وأوصاه بالمعروف، فلم يرض الخصم بذلك وقال: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وأمر الزبير باستيفاء حقه واستيعابه غاية الاستيعاب على سبيل المضايقة وقال للزبير: "أمسك الماء حتى يبلغ الجدر" فأنزل الله الآية (¬5). {فَلَا} نفي لكلام الخصم، أي: ليس كما يزعم، ثم ابتداء القسم ¬

_ (¬1) في الجميع: (ظهره)، والمثبت من "ي". (¬2) في "ب": (فإظهار). (¬3) في "ب": (هم)، وفي "ي": (في هم). (¬4) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬5) البخاري (2359، 2360)، ومسلم (2357).

وهذا قوله {فَلَا} أقسم ولو أنه لتأكيد (¬1) النفي المتأخر عن القسم على سبيل التكرار كما تقول والله لا أفعل كذا. {وَرَبِّكَ} قسم {لَا يُؤْمِنُونَ} لا يكونون مخلصين في الإيمان {حَتَّى} إلى أن يتحاكموا إليك ويرجعوا إلى قولك فيما التبس واختلط عليهم من الأمر بسبب الشجر، {ثُمَّ لَا يَجِدُوا} معطوفة على {يُحَكِّمُوكَ}، و (الحرج) الضيق ولذلك سمي موضع الشجر الملتف حرجًا {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ويفوضوا الأمر إليك تفويضًا. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} قيل: لما رجع الزبير وخصمه حاطب ابن أبي بلتعة من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) مرّ خصمه على المقداد وقيل: على ثابت بن قيس وعنده يهودي فقال: لمن كان القضاء؟ قال: لابن عمته ولوى شدقه، ففطن اليهودي بذلك فقال (¬3): قاتل الله هؤلاء يزعمون أنّ محمدًا نبي ثم يتهمونه في حكمه ولا يرضون به، فقال المقداد أو ثابت: والله لو أمرني محمَّد أن أقتل نفسي لقتلت، ولو أمرني أن أخرج من (¬4) مالي لخرجت، فأنزل الله الآية (¬5). {إِلَّا قَلِيلٌ} هذا القليل عمار وابن مسعود (¬6)، {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} ما يؤمرون به من أمر، وإنما قال: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} لأنه مشقة يوجب راحة دائمة فهو خير من لذة عاجلة تؤدي إلى العقاب، {وَأَشَدَّ} ¬

_ (¬1) في الأصل: (للتأكيد). (¬2) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬3) في "ي" "ب": (وقال). (¬4) في "ب": (عن). (¬5) هذه الرواية لم أجدها بهذا السياق ولكني وجدت التالي: - أما مخاصمة الزبير وحاطب فرواها ابن أبي حاتم (5559). - ومن قوله: (مرّ خصمه على المقداد) إلى قوله: (ولا يرضون به) فعزاه ابن حجر في العجاب (2/ 907) للثعلبي. - ومن قوله: (فقال المقداد أو ثابت) إلى نهاية القول. فهو عند الطبري (7/ 206، 207)، وابن أبي حاتم (5568) عن ثابت بن شماس. (¬6) عزاه لهما مقاتل في تفسيره (1/ 205) وقيل: لما نزلت الآية قال رجل: لو أُمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافنا فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن من أمتي لرجالًا، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" أخرجه ابن جرير (7/ 207).

{تَثْبِيتًا} أىِ: أثبت ثباتًاَ وهو في معنى قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى: 36]. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} نزلت في ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكان شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه، فقال: يا رسول الله إني أخاف أن لا ألقاك في الآخرة فإنك ترفع إلى الرفيق الأعلى (¬2)، وعن مقاتل: نزلت في عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان (¬3)، وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة (¬4)، وهي على العموم في الظاهر. و (الصدِّيق): فعيل من الصدق وهي لأقصى غاية المبالغة في الوصف بالصدق أو التصديق، والصديق "المجمع عليه أبو بكر، و (الشهداء) الأئمة الذين يشهدون [على قومهم أو المقتولون في سبيل الله وأنهم سموا شهداء لأنهم يتبعون وما يشهدون] (¬5) الأنبياء على مخالفتهم أو لأنهم يحضرون حظيرة القدس قبل يوم القيامة، ويحتمل أن المراد بالشهداء الأشهاد، وبالشهيد الشاهد، وإنما سمي شاهدًا لأنه شهد ما يشهده النبي -عليه السلام- من ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) من "أ" "ب". (¬2) رواه الطبراني في الأوسط (477)، وفي الصغير (1/ 26)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 125) عن عائشة وفي روايتها رجلًا من الأنصار. قال الهيثمي في المجمع (7/ 7): رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. ورواه ابن عباس من طريق الطبراني في الكبير (12559)، وقال في المجمع (7/ 7) فيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وله شواهد مراسيل عن سعيد بن جبير والشعبي وغيرهما، ولم يذكروا ثوبان، وقد جاء اسمه في رواية الثعلبي كما عند الواحدي في أسباب النزول (158) من طريق الكلبي. (¬3) ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 250 - 251). (¬4) ورد ذلك عن مسروق عند ابن جرير (7/ 214)، وابن أبي حاتم (5577) (قال أصحاب محمَّد ...). وفي رواية قتادة عند ابن جرير (7/ 214)، وابن المنذر (1975) (ذكر لنا أن رجالًا ...). وفي رواية السدي التي رواها ابن جرير (7/ 215) (ناس من الأنصار). (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل.

علم الغيب دون سائر الناس، هاما من طريق المشاركة مثل هارون -عليه السلام- (¬1)، وإما من طريق المتابعة مثل السبعين، وإنما قدم النبي لأن اسم النبي مختص بالداعي الموحى إليه فكان لاختصاصه أشرف، والصديق يستجمع معنى الشهادة كلها لصدقه، ثم يزيد صدقًا في سائر المعاني من استواء ظاهره وباطنه، فلزيادته كان أشرف، والشهيد كان أخص من الصالح (¬2)؛ لأن كل مسلم صالح إذا حافظ على الشريعة سواء كان من أهل المشاهدة أو لم يكن. {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} ما أحسن أولئك وأحسن بأولئك (¬3)، {رَفِيقًا} مرافقة. {ذَلِكَ} يعني إدخال الجنة فضلًا لأنه بفضله جعلها موعودة، فلولا فضله ووعده لما كانت الجنة مستحقة ولكان يكفي المحسن أن لا يعاقب بعقوبة المفسد، {عَلِيمًا} أي من عليم يعلم المطيع وغيره. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} اتصالها بما قبلها من حيث أنه لما رغبهم غاية الترغيب اتبعه بما تكرهه النفوس ليهون عليهم ذلك في مقابلة ما رغّبهم فيه، {حِذْرَكُمْ} الحذر السلاح والعدة. وقيل: الحَذر والحِذر (¬4). {فَانْفِرُوا} فأخرجوا النفر، والنفور: الخروج في وجه العدو، والنفور: التباعد، والنفار: التجافي، {ثُبَاتٍ} جمع ثبة وهي السرية ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "أ": (المصالح). (¬3) أي أنهما صيغتا تعجب. وقد حمل الزمخشري الآية على أنها صيغة تعجب ولذا قُرِىءَ "وحَسْنَ" بسكون السين وهي قراءة أبي السمَّال مثل عَضْد وعَضُد وهي لغة تميم. [الكشاف (1/ 540)، البحر (3/ 289)، الشواذ (27)]. (¬4) الحَذَر والحِذْر: لغتان بمعنى واحد لكن قد يستعمل أحدهما في موضع ما لا يستعمل فيه الآخر فتقول: خُذْ حِذْرك بالكسر ولا يجوز فتح الأول والثاني. قاله السمين الحلبي (4/ 27).

والعصبة وجمعها ثبات وثبون (¬1)، فالله تعالى يقول: اخرجوا سرايا أو جندًا مجندًا على حسب الإمكان وموافقة للحال (¬2). {وَإِنَّ مِنْكُمْ} نزلت في المنافقين (¬3) المتثاقلين عن الخروج المتربصين بالمؤمنين {لَمَن} اللام هي التي في قولك إنه ليفعل وإنه لفاعل، فلما قام الاسم مقام الخبر اكتسى بتلك اللام والسلام في {لَيُبَطِّئَنَّ} اللام (¬4) لام القسم (¬5) فكأنه قال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ} والله ليبطئن وهي تدخل على صلة المنقوصات والنكرات (¬6)، وإنما قال (منكم) لأنهم كانوا في الظاهر من جملة المؤمنين أو من أهل المدينة، والبطء: ضد السرعة، والإبطاء ضد الإسراع. أو (¬7) لقوله ليبطئن وجهان؛ أحدهما: ليبطئن بالتخفيف (¬8)، وإنما شدد للمبالغة. والثاني: ليبطئن غيره من الخروج كما أخبر عنهم بقوله: {وَقَالُواْ لَا ¬

_ (¬1) وزنها في الأصل فُعَلَة كَحُطَمَة، وإنما حذفت لامها وعوض عنها لام التأنيث لأنها مشتقة من ثبا يثبو كخلا يخلو. وقيل: لأنها مشتقة من ثبيتُ على الرجل إذا أثنيتُ عليه كأنك جمعت محاسنه. والثُّبَة: الجماعة من الرجال وتُصَغَّر على ثُبَيَّة. [الدر المصون (4/ 28)، البحر (3/ 390)]. (¬2) في "ب": (الحال). (¬3) روي ذلك عن مجاهد. أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 220)، وابن أبي حاتم (5587)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 183) إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وقد قال المنافقون ذلك يوم أُحُد لتثبيط المسلمين عن الجهاد. (¬4) (اللام) من "ب" فقط. (¬5) في "ب": (قسم). (¬6) التفريق بين اللامين لام "لَمَن" ولام "لَيُبَطَّئَنَّ" ذكرهما ابن جرير في تفسيره، واللام في "ليبطئن" يجوز أن تكون جوابًا لقسم محذوف -كما ذكره المؤلف- والقسم وجوابه صلة لـ"مِنْ" أو صفة لها والعائد الضمير المرفوع بـ"ليبطئن" والتقدير: وإن منكم للذي والله ليبطئن. ويجوز كما نقله ابن عطية عن بعض النحاة أنها لام التأكيد بعد تأكيد. [الطبري (7/ 221)، المحرر (4/ 173)، البحر (3/ 291)، الدر المصون (4/ 29)]. (¬7) في "أ" "ب": (واو) بدل (أو). (¬8) قراءة التخفيف هي قراءة مجاهد. [الشواذ ص 27].

تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] {مُصِيبَةٌ} نكبة (¬1) {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} أي: شمت بالمؤمنين ويعدّ تخلفه عن موجب الإجزاء والشهادة نعمة ولم يعلم أنه خذلان وخسران، وذلك لفساد اعتقاده وإنكاره الدار الآخرة. {فَضْلٌ} ظفر وغنيمة، وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} عارض (¬2)، والتقدير: ليقولن يا ليتني، ثم العارض يجوز أن يكون في موضعه لأن الحبيب يفرح بغنيمة الحبيب ولا يتمنى مشاركته على سبيل المزاحمة، ويحتمل أنه راجع إلى قوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ}. و (يا): حرف نداء، والتقدير: يا قوم (ليتني كنت معهم فأفوز) نصب لأنه جواب (¬3) التمني (¬4). {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} المؤمنون، والشري: بمعنى البيع. ويحتمل أنهم المنافقون، فيكون الشراء بمعنى الاشتراء ¬

_ (¬1) (نكبة) ليست في الأصل. (¬2) واعتراض الجملة: قيل إنها معترضة بين جملة الشرط التي هي "فإن أصابتكم" وبين جملة القسم التي هي "ولئنْ أصابتكم" فأخرت الجملة المعترضة والنية بها التوسط. وهذا قول الزجاج ولعل هذا -كما قاله السمين الحلبي- من الزجاج تفسير معنى لا إعراب. وقيل: الجملة معترضة بين القول ومفعوله وهو قول الزمخشري. وقال أبو علي الفارسي: هذه الجملة من قول المنافقين للذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم: (كأن لم تكن بينكم وبينه -أي وبين الرسول -عليه السلام- مودة) فيخرجكم معه لتأخذوا من الغنيمة ليُبْغِضُوا بذلك الرسول إليهم. فأعاد الضمير في "بينه" على النبي -عليه السلام- وتبع الفارسي في ذلك مقاتلًا. [معاني القرآن للزجاج (2/ 80)، الكشاف (1/ 541)، المحر (4/ 174)، الدر المصون (4/ 32)]. (¬3) في الأصل: (جواز). (¬4) هذا قول الجمهور أنه منصوب جوابًا للتمني، والكوفيون يزعمون نصبه بالخلاف، والجرمي يزعم نصبه بنفس الفاء. والأظهر من هذه الأقوال قول الجمهور؛ لأن الفاء تعطف هذا المصدر المؤول من "أن" والفعل على مصدر متوهم ويكون التقدير: يا ليت لي كونًا معهم. [الإنصاف (1/ 557)، البحر (3/ 292)، الدر المصون (4/ 35)].

والتفسير هو الأول، وإنما قال ليقتل أو يغلب لينبه على الثواب والأجر العظيم في الوجهين، إذ كل واحد منهما إحدى الحسنيين. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}، أي: وفي سبيل المستضعفين، وسبيلهم: نُصْرتهم وهم قوم لم يقدروا على الهجرة وبقوا بمكة مفتونين مستضعفين. {وَالْوِلْدَانِ} جمع ولد {الْقَرْيَةِ} مكة و {الظَّالِمِ} صفة أهلها، ثم الصفة والموصوف جملة صفة للقرية فلذلك أنجز الظالم، وإنما لم يقل الظالمين لأنها صفة تشبه الفعل من حيث تقدمت على الاسم، فكأنه قيل: من هذه القرية التي ظلم أهلها و {أَهْلُهَا} ابتدأ في اللفظ وفاعل في المعنى، قال الفراء: وفي المصحف {كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء:11]. {وَاجْعَلْ} وابعث، قيل: استجاب الله دعاءهم فبعث الله نبيه منتصرًا لهم، وما مَرَّ عليهم عتاب بن أسيد إلا لينتصف من الظالم للمظلوم. {الَّذِينَ آمَنُوا} فيه تحريض للمؤمنين وتشجيع لهم. و (الكيد) ما يكره الخصم من الحيلة، وإنما قال: {ضَعِيفًا} لأنه يجمع أولياءه بالغرور ولا يواليهم حقيقة الموالاة، ثم يتبرأ منهم سريعًا وينكص على عقبيه. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} قيل: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون كانوا يستأذنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) في قتال قريش قبل الهجرة وقبل نزول آية السيف، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: "كفوا أيديكم" (¬2) {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} كرهه فريق منهم وهو طلحة بن عبيد الله وقال ما قال، ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬2) هذه رواية مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 252)، ويشهد لها رواية عند النسائي (3086)، وابن جرير (7/ 231)، وابن أبي حاتم (5630)، والحاكم (2/ 66، 67، 307)، والبيهقي في سننه (9/ 11) وهي صحيحة، وفيها ذكر عبد الرحمن بن عوف وأصحابه. وكذلك هناك رواية مرسلة عن قتادة رواها ابن جرير (7/ 232)، وابن المنذر (2007) فيها ذكر عبد الرحمن بن عوف فقط.

فأنزل الله الآية (¬1)، وقال مجاهد: نزلت في اليهود (¬2)؛ وذلك أن موسى -عليه السلام- (¬3) كان يأمرهم بالصبر وهم يريدون القتال، فلما كتب عليهم القتال وهم في التيه قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24]، وقيل: نزلت في قوم منافقين (¬4)، و (الكف): الإمساك والحبس. و (لما): ظرف زمان (¬5)، والعامل فيه (¬6) فجاءة (¬7) الفريق الخشية. و {إِذَا} للتوقيت إن اتصلت بالفعل، وإن اتصلت بالاسم أفادت الفجاءة {يَخْشَوْنَ} في معنى الحال وتقديره: فلما كتب عليهم القتال فجىء فريق منهم خاشين، والمراد بخشيتهم من الناس الجبن دون الاعتقاد والحزم. {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي: مثل خشيتهم من الله {أَوْ أَشَدَّ} أي: وأشد، وإنما جاز الوصف بالخشية الممثلة دون الأشد لأن الأقل داخل في الأكثر، وقيل: أو هاهنا للإبهام (¬8) كأنهم (¬9) موصوفون بإحدى الخشيتين لا بعينها (¬10). وقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} إن كان إخبارًا عن المؤمنين (¬11) فهو سؤال بمعنى ¬

_ (¬1) ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 252) في نفس الرواية السابقة. (¬2) ابن جرير (7/ 233)، وابن المنذر (2006)، وابن أبي حاتم (5619). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ذكرهم ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 134)، والقرطبي (5/ 381) دون نسبة لأحد. (¬5) تقدم الحديث على "لما" وأنها حرف وجوب لوجوب عند سيبويه وظرف زمان بمعنى حين عند أبي علي الفارسي وأن الأقرب هو قول سيبويه؛ لأنها أجيبت بإذا الفجائية وأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها فأغنى عن إعادته. انظر الآية (17) من سورة البقرة. (¬6) (فيه) ليست في "ب". (¬7) في الأصل و"ي": (فجاه). (¬8) في "ب": (للأوهام). (¬9) في الأصل: (كانوا). (¬10) الأظهر هنا أن "أو" للتنويع والتقدير: أن منهم من يخشاهم كخشية الله، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله. وقد تقدم مثلها في سورة البقرة الآية (200) في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. (¬11) استنكر القرطبي (5/ 381) أن يكون هذا كلام الصحابة فقال: (ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرًا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم - رضي الله عنهم -) أهـ.

الاسترشاد، وإلا فهو بمعنى الإنكار {لَوْلَا} هلا {أَخَّرْتَنَا} على وجه الطلب. وذلك أنه لما لزمهم فرض الجهاد وخافوا (¬1) القتل وطلبوا التأخير إلى أجل قريب للتخلص في الحال، كما نقول للمطالب: (خلني ساعة) وفي قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} تزهيد لهم في الدنيا، وقوله (¬2): {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ترغيب في (¬3) الآخرة. {أَيْنَمَا تَكُونُوا} نزلت في المنافقين الذين قالوا لإخوانهم {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]. {وَلَوْ كُنْتُمْ} تأكيد للشرط وتقديره: أينما تكونوا {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} يدرككم الموت، وواحد البروج: برج، وهو القصر المرتفع سُمي برجًا لظهوره، وقيل (¬4): ومنه سمي الكواكب بروجًا، وتشييد (¬5) البنيان تكرار الفعل في رفعه وأحكامه {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} إخبار عن بعض المنافقين تشاءموا بالنبي -عليه السلام- وقالوا: نقص بقدومه غلاتنا وغلت أسعارنا (¬6)، وهو قريب من قصة آل فرعون {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} [الأعراف: 131] الآية، و (الفقه): إدراك العلم بالفهم، فَقِهَ إذا فهم، وفَقُهَ إذا صار فقيهًا. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} ليس بين الآيتين تضاد (¬7) لأنه تعالى قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} ولم يقل: ما أصابهم من حسنة. {فَمِنَ اللَّهِ} وما أصابهم من سيئة {فَمِنْ نَفْسِكَ} ولو كان (¬8) قال هكذا يحملنا الأول على الحكاية ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (خافوا) بدون واو. (¬2) (وقوله) ليست في "ب". (¬3) في "ب": (إلي). (¬4) في "أ" "ي" والأصل: (قيل) بدون واو. (¬5) أصلها (الشيد) بكسر الشين وهو كل ما طلي به الحائط من جص أو بلاط، ومنه قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] والمشدد لتكثير الفعل. هذا قول والآخر أن المشيّد هو المرتفع المطوّل، والمشيد هو المطلي بالشيد، انظر القرطبي (5/ 383). (¬6) انظر القرطبي (5/ 284). (¬7) في "ي" "أ": (تضاد)، وفي الأصل: (تضاده). (¬8) (كان) ليست في "ب".

والثاني على الاستفهام (¬1) بمعنى الإنكار وهذه في معنى (¬2) قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] أي: النعم مبتداة من الله تعالى قبل الاستحقاق والاستيهال، والحوادث إنما يقضى بها لا نسبتها لنا إياها بكونها محلًا لها ولاستباحتنا (¬3) إياها بارتكاب الجرائم وإنما قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} لأن قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} شهادة. {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ} طاعة الائتمار بأمره والانتهاء إلى قوله دون منه أوانه في فعله، وليس يطيع الرسول من ينكر نسخ القرآن بالسنة، وإنما كانت طاعته طاعة الله تعالى لأنه -عليه السلام- لم ينطق عن الهوى {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ} أي: لم نبعثك جبارًا عليهم لتحفظهم عن التولي بالخبر، قيل: وهذا منسوخ بآية السيف، لم نبعثك رقيبًا عليهم لتحفظهم في السر والعلانية. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} نزلت في المنافقين، و (طاعة) خبر مبتدأ محذوف. {يُبَيِّتُونَ} والتبييت إذا وقع على المعاني وهو التفكير بالليل وإذا وقع على الذوات فهو مكرها بالليل. قال الله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ} [النساء: 108] وقال: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] وهو واقع هاهنا على غير قولهم وهي قرينة من قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} (¬4) في اللوح المحفوظ، وقيل: كُتَّابه الحفظة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: الهُ عنهم ولا يهمنّك أمرهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فيما يريدون بك وفي جميع أمورك. ¬

_ (¬1) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية أن الحسنة: هو ما فتح الله عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح. والسيئة: هو ما أصابه يوم أُحُد أن شُجَّ في وجهه، وكسرت رباعيته. أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 242)، وابن أبي حاتم (5653)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 185) إلى ابن المنذر. (¬2) في "ب": (وهذهِ بمعنى). (¬3) في جميع النسخ: (ولاستجابنا)، والمثبت من الأصل. (¬4) (ما يبيتون) من "ب".

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} والمراد بالاستفهام حثّهم على التدبر (¬1)، والتقدير: ليتدبروا في القرآن. والتدبُّر هو التأمل في عواقب الأمور وأدبارها وتصرف الرأي في مفهومها ومعقولها وكأن التدبر (¬2) إبدال لهم عن تبييتهم الفاسد، {وَلَوْ كَانَ} أي: القرآن من عند جني أو إنسي كما ظن بعضهم {اخْتِلَافًا} أخبارًا غير موافقة للخبر عنها في الإخبار عن الماضي والإخبار عما في ضمائرهم وعما سيكون كما يجدونه في كتب النساب والمؤرخين، وفي أحكام الكهنة والمنجمين وقيل: لوجدوا فيه تناقضًا كثيرًا كما يجدونه في كلام مطنب متفنن وضّاع قد اختلفت به الأحوال مع مباينة أجناس المخاطبين، والكلام المختلف هو المتناقض الذي لا يمكن توفيقه دون ما اختلف فيه، فإن الكتب المنزلة كلها مختلف فيها. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} جاء في سفهاء المؤمنين والمنافقين (¬3) والغاغة منهم، وإنما رتبه على التي تقدمت وهي في ذوي الرأي من المنافقين؛ لأن بعضهم كان من بعض، فقوله (أمر) أي نبأ وخبر من الأمن من الأعداء {أَوِ الْخَوْفِ} منهم، أذاعوه: أفشوه، {أُولِي الْأَمْرِ} أمراء السرايا (¬4)، وقيل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - (¬5)، وقيل: أولو العلم والبصَارة (¬6)، {يَسْتَنْبِطُونَهُ} يستخرجونه، وإنباط الماء استخراجه (¬7)، وسمي ¬

_ (¬1) المثبت من "ب"، وفي جميع النسخ: (التدبر). (¬2) المثبت من "ب"، وفي جميع النسخ: (التدبر). (¬3) وهي الطائفة المُبَيِّتَة إما ضعاف النفوس من المسلمين أو المنافقون كما روي ذلك عن ابن جريج وابن زيد والضحاك، رواه عنهم ابن جرير الطبري في تفسيره (7/ 254). (¬4) هذا مروي عن ابن زيد ومقاتل كما في زاد المسير (2/ 147)، وهو في القرطبي (5/ 291) دون نسبة. (¬5) هذا مذكور عن ابن عباس كما في "زاد المسير" (2/ 147) وفيه (مثل أبي بكر ... إلخ). (¬6) ورد عن الحسن وقتادة كما في "زاد المسير" (2/ 147) ولفظه (العلماء)، وفي القرطبي (5/ 291)، ولفظه (أهل العلم والفقه). (¬7) الاستنباط مأخوذ من النبي: يقال: نبط الماءُ يَنْبُطُ بفتح الباء وضمها، والنبط: الماء الذي يخرج من البئر أول حفرها، والنَّبَط أيضًا: جيل من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات. قال كعب بن سعد الغنوي: =

الأنباط أنباطًا لعلمهم باستخراج المياه (¬1)، والقليل مستثنى من المذيعين، وقيل: من معلوم المستنبطين. {فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} الكتاب والرسول، أو بعض أسباب التوفيق مما استغنى عنه الخاصّة (¬2) دون العامة كانشقاق القمر والفتح فعل هذا القليل مستثنى من المتبعين للشيطان فإن عمرو (¬3) بن زيد وزريبًا وقسًا (¬4) آمنوا من غير كتاب ورسول، وأبو بكر وعلي وزيد بن حارثة آمنوا قبل انشقاق القمر، والمهاجرون والأنصار آمنوا قبل الفتح. {فَقَاتِلْ} الفاء جواب الشرط وهو قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى} [النساء: 80] ويحتمل التعقيب، هذا الأمر، الأمر بالتوكل (¬5) تقديره: وتوكل على الله فقاتِل، أو التعقيب الكلام الكلام والآية الآية {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} يعني التكليف عنه، تقديره: أنك لا تكلف إلا فعل نفسك، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، أي: لا تأخذ بتكليف غيرك وإن كانوا مكلفين مثلك، وقيل: لا تكلف نفس إلا نفسك، وهذا بعيد لأنه لو كان كذلك لضم نفسك، ثم حملناه على التكليف الضروري دون الشرعي {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حثهم على القتال {عَسَى} من الله إيجاب منه لأن التكريم يصدق في التطميع ولأنه تقوية لأحد الموهومين المختلفين على الآخر بالقول، فصار كالأمر باعتقاد أحدهما وذلك لا يكون إلا بالواجب، {بَأْسَ} شدة الإصابة والامتناع {تَنْكِيلًا} فعل النكال (¬6). ¬

_ = قريبٌ ثَراهُ ما ينال عَدُوُّهُ ... له نَبَطًا، آبي الهوانِ قَطُوبُ [اللسان "نبط"- الأصمعيات (ص 103)، البحر (3/ 403)]. (¬1) قريبًا من هذا المعنى عند القرطبي (5/ 291)، وابن الجوزي كما في "زاد المسير" (2/ 147). (¬2) في الأصل: (للخاصة). (¬3) في "ب": (عمر). (¬4) في الأصل: (وفتيا). (¬5) في "ب": (الأمر بالتوكيل). (¬6) أي أنه مصدر من قولك: نكلت بفلان، فأنا أُنَكِّل به تنكيلًا إذا أوجعته عقوبة. والمعنى: والله أشد نكاية في عدوه من أهل الكفر به، منهم فيك يا محمَّد وفي أصحابك. [الطبري (7/ 267)].

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} أراد تشفيع العمل وهو أن يقرن (¬1) بين فعل الماضي وبين فعل الحال فيضم الحسنة إلى الحسنة أو سيئة إلى سيئة (¬2). وعن الضحاك ومحمد بن جرير (¬3) أن الشفاعة الحسنة موالاة المؤمنين بتشفيع وتوهم والشفاعة السيئة موالاة الكفار بتشفيع وتوهم. وعن مجاهد وابن زيد (¬4): هي دعاء الرجل لأخيه المؤمن وعليه، وقيل: شفاعة بعض الصحابة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) للفقراء والمحتاجين إلى الزاد والراحلة ولأصحاب الأعذار وشفاعة بعضهم للمنافقين وللذين وجبت عليهم الحدود {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} من ثوابها {كِفْلٌ} نصيب من وزرها مقيتًا مقتدرًا. {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} إن حملنا الشفاعة على الدعاء والتحية على التسليم فاتصالها بها ظاهر، وإلا فالأمر بالتحية مرتب على الشفاعة الحسنة والتحية على وزن التفعيل من الحياة وأصْله بثلاث ياءات حذفت التي هي لام الفعل وعوض منها هاء وأدغمت إحدى الياءين في الأخرى كالتوصية، وقولك: التحيات لله، قيل: الإحياء لله تعالى تقول: حياك الله، أي: أحياك الله. وقيل: أوصاف الحياة لله فكأنك وصفته بالحياة كما أنك إذا كبرته (¬6) وصفته بالكبرياء. وقيل: الملك لله وهذا هو الأظهر لأن التحية اسم للملك، وسمي الهدية تحية لما فيها من حقيقة أو لمجاوزتها السلام في العادة، والمراد بالتحية هاهنا التسليم والتسليم سنة وردّه فريضة. قال -عليه السلام-: "لا تبدؤوا اليهود بالسلام فإن سلم ردّوا عليه" (¬7)، وقال رجل ¬

_ (¬1) في الأصل: (يفرق). (¬2) (إلى سيئة) ليست في "ب". (¬3) ابن جرير (7/ 268)، وعزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 150) له ولأبي سليمان الدمشقي. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 150) وعزاه للماوردي، وذكره القرطبي (5/ 295) ولم ينسبه لأحد. (¬5) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬6) (وصفته بالحياة كما أنك إذا كبرته) ليست فى "أ". (¬7) الثابت في هذا الباب هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ... " وأنه إذا سلم علينا أهل الكتاب أن نقول لهم "وعليكم" وكلا الحديثين في البخاري ومسلم، أما رواية المصنف فلم أعثر عليها.

للنبي -عليه السلام- (¬1): السلام (¬2) عليك يا رسول الله فقال: "عليك السلام ورحمة الله " فقال آخر: عليك السلام ورحمة الله فقال: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته" وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال: "وعليك"؛ لأنه أبلغ غاية السلام (¬3) فلم يترك شيئًا ليزيده في الجواب. وقيل: التحية الهدية والهبة (¬4) وردها مستحق ما لم يعوض إلا أن يكون ذا محرم {حَسِيبًا} مدركًا للحساب، وقيل: كافية. قال الله تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تسلية للمؤمنين وزجر لغيرهم و {إِلَى} لاعتبار معنى الجمع وهو الحشد والإرجاء والتأخير أو يكون (¬5) يوم القيامة من المجموع كما تقول: جمعت الخيل إلى (¬6) الإبل، أي: ضممت يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] {فِيهِ} الهاء عائدة إلى الخبر أو اليوم {وَمَنْ أَصْدَقُ} استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد كلامه أصدق من كلام الله لأن الكذب غير متصور فيه. {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} قال ابن عباس: نزلت في جماعة من قريش هاجروا منافقين، ثم اجتووا المدينة واستأذنوا في الرجوع إلى مكة فرجعوا، ثم خرجوا إلى الشام تجارًا واستبضعتهم قريش بضائع وقالوا: إن محمدًا لا يتعرض لكم فإنكم تظهرون دينه، فلما خرجوا انتهى الخبر إلى المدينة قال بعض الصحابة: نخرج إليهم ونغير عليهم. وقال بعضهم: كيف نخرج إلى قوم مسلمين (¬7)؟ ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) السلام ليست في الأصل. (¬3) ابن جرير (7/ 277)، وابن المنذر (2073)، وابن أبي حاتم (5726) دون سند، والطبراني في الكبير (6114) وسنده قابل للتحسين. (¬4) في "ب": (الهدية) بدل (الهبة). (¬5) (وزجر لغيرهم ... أو يكون) ليست في "أ". (¬6) في "ب": (إلا). (¬7) ابن جرير (7/ 283، 284)، وابن أبي حاتم (5741)، وسنده ضعيف لأنه من طريق العوفي عن ابن عباس.

وعن زيد بن ثابت نزلت في المتخلفين يوم أحد (¬1). وعن ابن زيد أنها في أهل الإفك (¬2). {فِئَتَيْنِ} نصب على الحال (¬3)، {أَرْكَسَهُمْ} نكسهمِ في الكفر والكفر مشبه بالعمق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] الآية وليس الإركاس ترديًا (¬4). وقال الله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا} [النساء: 91] بسبب ما اجترموا من إفساد الهجرة أو التخلف أو غيره {أَتُرِيدُونَ} على وجه التعجب والإنكار على إرادتهم صرف القضاء والقدر دون هداية الكفار {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} من الدين تيسيرًا عليهم سلوكه. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} يدل على أن الآية في (¬5) الأولى في المنافقينِ من أهل مكة دون المنافقين من أهل المدينة، وفيهم قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28]. {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} لا توالوهم موالاة المسلمين فيما بينهم ولا (¬6) موالاة الجلفا {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الهجرة أو هاجروا ثم أفسدوا الهجرة. {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ} نزلت في المنضلين بسُراقة بن جعشم المدلجي ¬

_ (¬1) البخاري (1884، 4050، 4589)، ومسلم (1384، 2776). (¬2) ابن جرير (7/ 286) وقال: إنها في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أي أنها حال من الكاف والميم في "لكم" والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به "لكم" وهذه الحال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم دونها وهذا مذهب البصريين، وهناك وجه إعرابي آخر في "فئتين" منصوبة على أنها خبر كان مضمرة وهذا مذهب الكوفيين، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين. [ابن جرير (7/ 287)، الدر المصون (4/ 60)]. (¬4) الذي رجحه الطبري أن الإركاس هو ترد، فأركسهم معناه ردهم، وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - رواه عنه الطبري في تفسيره (7/ 288)، وابن أبي حاتم (5747)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 191) لابن المنذر. (¬5) (في) من الأصل فقط. (¬6) (ولا) ليست في "ب".

وهلال بن عويمر الأسلمي وسائر بني (¬1) مدلج (¬2) وأسلم كان بعضهم صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) أن لا يكون له ولاء عليه وبعضهم آمن به وصدقه ولم يهاجر، ولم يدعهم رسول الله إلى الهجرة، وكان هذا حين هاجر ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط فكانوا يستقبلونه في الطريق ليلًا ونهارًا أفواجًا وفرادى ويشاهدون منه الآيات فيتخذون (¬4) لأنفسهم وعشائرهم عنده عهدًا يأمنون بها عند ظهوره على قومه، والمراد بالمنضلين المنضمّون من قريش وسائر أهل الحرب إلى هؤلاء ليكونوا على حكمهم: أمر الله أن يسالمهم أيضًا. وقال أبو عبيدة: والمراد بالمنضلين من رجع إلى هؤلاء في النسبة لأنهم دخلوا (¬5) في عموم أمانة لعشائرهم. والمراد بقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} جماعة من المستأمنين الذين قدموا المدينة أن يجيرهم كما قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التربة: 6]. {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت ونوت الإمساك والكف عن قتال الفريقين، وقوله (¬6): {وَلَوْ شَاءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} يذكر نعمة الدفع إياهم ليشكروا وليسارعوا في الإجابة، و (التسليط) (¬7) التخلية بين القادر والمقدور {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} اجتنبوكم {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} بيان لاعتزالهم {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: سالموا وأسلموا غير مهاجرين {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ} جواب بهذه الشرائط لم يجعل الله لكم عليهم (¬8) حجة في قتالهم ونهب أموالهم. ¬

_ (¬1) (بني) ليست في "ب". (¬2) إلى هنا أخرجه ابن جرير (7/ 293)، وابن أبي حاتم (5757)، وأما بقيته فقريبًا منه عند القرطبي (5/ 309). (¬3) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "أ" والأصل. (¬4) في الأصل: (فيتخذونه). (¬5) (دخلوا) ليست في "ب". (¬6) (وقوله) ليست في "ب". (¬7) في الأصل: (التسليط). (¬8) (عليهم) ليست في "ب".

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} نزلت في أمثال نعيم بن مسعود الأشجعي وأشباهه كانوا يظهرون الصلح مكرًا وحيلة (¬1)، ويحتمل أنها في الذين نافقوا (¬2) وأظهروا الإسلام لا هاجروا ولا اتصلوا بأصحاب المواثيق، ولكن أقاموا بين ظهراني قريش معتذرين بأنهم مستضعفون وهم كاذبون، فأمر الله بأسرهم (¬3) وقتلهم حيث ثقفوا، ويجوز قتل المنافق إذا اطُّلع على كفره لقوله تعالى في المنافقين: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61] وإنما لم يقتل ابن أبي بن سلول وأصحابه لنوع من المصلحة، ألا ترى أنه لم ينكر على المستأذن في قتله (¬4). {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي كان قد خرج مهاجرًا فتبعه أبو جهل أخوه من أمه والحارث بن زيد وردّاه إلى مكة وعذباه على إسلامه، ثم تخلص منهما وهاجر وحلف بالله أن يقتل الحارث حينما يراه، ثم أسلم الحارث ولم يعلم به عياش فرآه ذات يوم وجده في ظهر فناء فقتله، ثم سمع بإسلامه فندم فأنزل الله الآية (¬5). (ما كان) ما جاز (¬6) لمؤمن (¬7) أن يقتل مؤمنًا عمدًا، المستثنى والمستثنى منه أحد اسمي الباقي (¬8) ................................. ¬

_ (¬1) الطبري (7/ 302)، وابن أبي حاتم (5767). (¬2) هذا الاحتمال من المؤلف لأني لم أجد هذهِ الرواية. (¬3) المثبت في "ي"، وفي البقية: (بأسريهم). (¬4) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري (4624) ط. البغا، ومسلم (2584)، وفيه أن ابن أُبي قال عند عودتهم من غزوة: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل (يقصد بالأعز نفسه والأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". (¬5) ابن جرير (7/ 306، 307)، وابن المنذر (2108)، وابن أبي حاتم (5781). (¬6) في "أ": (جاوز). (¬7) في "أ" "ي": (لمؤمن). (¬8) قوله تعالى: {إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] فيه أربعة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه استثناء منقطع -وهو قول الجمهور- إن أريد بالنفي معناه. ولا يجوز أن يكون متصلًا إذ يصير المعنى في الاتصال -إلا خطأ فله قتله-. والوجه الثاني: أنه متصل إن أريد بالنفي التحريم. والوجه الثالث: أنه استثناء مفرغ وينصب على أنه مفعول له أو حال أو نعت لمصدر=

وليس على (¬1) هذا التقدير دليل إباحة القتل الخطأ (¬2) لأنه كالمسكوت عنه، وإثبات الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، ويحتمل أن معناه قتل المؤمن المؤمن منهي عنه معاقب عليه إلا في الخطأ؛ لأن النهي لا يتصور مع عدم القصد، والعقاب على الفعل لا يثبت مع الخطأ والنسيان، ويحتمل ما جاز لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، فإنّ ذلك جائز مباح إذا كان غالمب ظنه أنّه كافر وأنه يريد القتل {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} عتق عبد أو أمة، ويجزىء في ذلك الرضيع الذي أحد أبويه مسلم. و (الدية): قيمة الدم وهي مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لما روي عن خِشف بن مالك الطائي عن ابن مسعود "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدِّية في الخطأ أخماسًا" (¬3). وعن عبيدة السّلماني أن عمر جعل الديّة على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم (¬4) "إلا أن يصدقوا" أن يتصدقوا الدِّية دون الرقبة؛ لأن الرقبة خالص حق الله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أسلم في دار الحرب وأقام به، هكذا روي عن (¬5) ¬

_ = محذوف على ثلاث احتمالات ذكرها الزمخشري. الوجه الرابع: أن تكون "إلا" بمعنى "ولا" ويكون التقدير: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا عمدًا ولا خطأً. وإقامة "إلا" مقام الواو جائز في كلام العرب حكى ذلك أبو عبيدة عن يونس بن حبيب واستشهد له ببيت رؤبة بن العجاج: وكلُّ أخ مُفَارِقُهُ أخوهُ ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ [الكشاف (1/ 552)، الدر المصون (4/ 69)]. (¬1) (على) من "ي". (¬2) في "ي": (خطأ). (¬3) رواه الدارمي (2367)، والإمام أحمد (1/ 384)، وأبو يعلى (5210) بسند ضعيف مرفوعًا، وروي موقوفًا وهو الصحيح؛ قاله الدارقطني. (¬4) رواه أبو داود (4542) بسند حسن. (¬5) في "ب": (وهي من عطاء).

عطاء بن السائب عن أبي عياض (¬1)، وإن كان من قوم المقتول من جملة المعاهدين وهو معاهد غير مؤمن فالواجب عليكم دية مسلمة إلى أهله كما في المسلم. أبو داود عن الزهري عن سعيد بن المسيب "أن النبي -عليه السلام- (¬2) قضى في كل ذي عهد في عهده يقتل بدية ألف دينار" {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي رقبة (¬3) {تَوْبَةً} نصب لأنه مفعول له (¬4). {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} على سبيل الاستحلال لأنها نزلت في شأن مِقْيس بن ضُبابة. وذلك أن بني النجار قتلوا أخاه هشام بن ضُبابة خطأ فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث الفهري معه إلى بني النجار ليوفوه دِيَة أخيه فذهب الفهري معه فأدّى الرسالة وأخذ له الدِّيَة ورجعا جميعًا، فلما كان ببعض الطريق أنف مقيس من الاقتصار على الدِّيَة وحدثته نفسه بقتل الفهري رسول رسول (¬5) الله فقتله قال: قتلتُ به فهرًا وحملتُ عقله ... سَراةَ بني النّجّارِ أربابِ فارِعِ فأدركت ثأري واضطجعت موسّدًا ... فكنت إلى الأوثان أول راجع ¬

_ (¬1) ابن جرير (7/ 316)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 194) إلى عبد بن حميد وابن المنذر ولفظه قال: كان الرجل يُسْلِمُ، ثم يأتي قومه، فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَيُقْتَل فيمن يُقْتَل، فَيُعْتِقُ قاتلُه رقبةً ولا دية له. (¬2) في "ب": (أن - صلى الله عليه وسلم -). وفي "ي": (أن النبي عليه). (¬3) في "ب" "أ": (الرقبة). (¬4) في نصب "توبةً" ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: ما ذكره المؤلف ويكون التقدير: شرع ذلك توبة منه. الوجه الثاني: أنها منصوبة على المصدر. والتقدير: تاب عليكم توبةً. الوجه الثالث: أنها منصوبة على الحال ولكن على حذف مضاف والتقدير: فعليه كذا حال كونه صاحب توبة. [الإملاء (1/ 190)، الدر المصون (4/ 72)]. (¬5) (رسول) ليست في "ب".

فأنزل الله الآية في شأنه وهذا سبب مروي (¬1) فصار كالمتلو فوجب تعليق الحكم به، و (التعمد) مأخوذ من العمْد وهو القصد الصادق. وقتل (¬2) العمد عندنا ما (¬3) يوجد بالسلاح أو ما يجري مجرى السلاح في تعريف الإجزاء. وقال -عليه السلام-: "كل شيء خطأ إلا السيف" (¬4)، وإن أجرينا على العموم فالمراد بالخلود خلود متناهٍ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} نزلت في أسامة بن زيد، أو مثله عن أبي ظبيان أن أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) في سرية إلى حرقات من جهينة فأتيت على رجل فذهبت لأطعنه فقال: لا إله إلَّا الله، فطعنته وقتلته فجئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته وقال: "قتلته وشهد أن لا إله إلا الله؟! " قلت: يا رسول الله قالها تعوذًا، قال: "ألا شققت عن قلبه" (¬6). وعن خالد بن الوليد أنه سار في قوم من خزيمة (¬7)، يقولون: صبأنا صبأنا، أي: أسلمنا فقال -عليه السلام-: "اللهم إني أبرأ إليك من صنع خالد" (¬8). وإنما قال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ} لأن هذه الواقعة تقع للمسافرين في الغالب {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ما يعرض من المال في الحياة الدنيا وجمعه أعراض إنما تبادرونهم بالقتل لتغنموا أموالهم {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} ¬

_ (¬1) الطبري (7/ 341)، وابن أبي حاتم (3/ 1037) (5816)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 195) إلى ابن المنذر. (¬2) في جميع النسخ: (وقيل)، والمثبت من "ي". (¬3) (ما) من "ب" "ي". (¬4) ابن جرير (7/ 357، 358)، وأصله في الصحيحين دون أسباب النزول. البخاري (6872)، ومسلم (96). (¬5) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬6) الطبري (7/ 339)، والبيهقي في الكبرى (8/ 42)، والدارقطني (3/ 106)، وابن أبي شيبة (27681)، وعبد الرزاق (9/ 273) عن النعمان بن بشير مرفوعًا وإسناده ضعيف فيه جابر الجعفي. (¬7) في الأصل: (يوم من هزيمة). (¬8) البخاري (4084) ط. البغا.

صرف لهمِّهم عن مال المقتول إلى ما عند الله {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} مشركين في إسلامكم أو مسلمين بين الكفار {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أنعم الله عليكم بصرفكم (¬1) عن تلك الحالة إلى هذه الحالة. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} نزلت في تفضيل المجاهدين على القاعدين، وفيها دليل بأن الجهاد فرض على الكفاية لأنه وعد القاعد بالحسنى. عن قتادة قال: "أملى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) على زيد بن ثابت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فجاء (¬3) ابن أم مكتوم وهو يمليها قال: يا رسول الله (¬4) لو استطعت لجاهدت، قال زيد: فأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وفخذه على فخذي حتى ظننت أنه يرض فخذي ثم سري عنه ونزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬6) أصحاب العلل الضارة المانعة عن المقاصد سواء كانت في البصر أم غيره {دَرَجَةً} رتبة وشرفًا أو منازل الجنة نصب على التفسير (¬7). ¬

_ (¬1) في "ب": (أنعم عليكم بصرفكم)، وفي الأصل و"أ": (بصرفكم)، والمثبت من "ي". (¬2) (وسلم) من "أ" "ب". (¬3) في "ب": (قام). (¬4) (قال يا رسول الله) ليست في الأصل. (¬5) في "ب": (وسلم). (¬6) هذا مروي عند البخاري (4593، 4594)، وغيره عن البراء بن عازب وعن سهل بن سعد الساعدي عند البخاري (2832، 4592). وهو مروي عن غيرهما بأسانيد صحيحة، أما الذي ذكره عن قتادة فهو ضعيف لأنه مرسل. وكان الأولى الاستناد إلى الروايات الموصولة الثابتة. (¬7) في قوله تعالى: {دَرَجَةً} خمسة أوجه إعرابية: الأول: ما ذكره المؤلف. الوجه الثاني: أنها منصوبة على المصدر لوقوع "درجة" موقع المرَّة من التفضيل كأنه قيل: فضلهم تفضيلةً كقولك: ضربته سوطًا. الوجه الثالث: أنها حال من "المجاهدين" والتقدير: ذوي درجة. الوجه الرابع: أنها منصوبة انتصاب الظرف، أي: في درجة. الوجه الخامس: أنها منصوبة على إسقاط الخافض أي: بدرجة. [الدر المصون (4/ 76)].

و {الْحُسْنَى} نعت للحالة (¬1) أو الخصلة ونقيضها السوء أي {دَرَجَاتٍ} نصب على التفسير. وقد يكون التفسير بلفظ الواحد ويكون بلفظ الجمع. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} نزلت في منافقي مكة (¬2)، {ظَالِمِي} نصب على الحال تقديره ظالمين {أَنْفُسِهِمْ} معرف بمعنى النكرة فيتم فبماذا كنتم من الدين والسؤال سؤال توبيخ. {إِلَّا} بمعنى آخر {لَا يَسْتَطِيعُونَ} حال لهم. تقديره: غير مستطيعين (حيلة): احتيالًا في التخلص والهجرة، و (الحيلة): التصرف النافذ اللطيف {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} طريقًا من مكة إلى المدينة (¬3) أو طريقًا في المكايدة والاحتيال. {أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} زلاتهم وذنوبهم لا تخلفهم عن الهجرة؛ لأن ذلك لم يكن منهم. {وَمَنْ يُهَاجِرْ} الآية نزلت فيمن هاجر واتصل وفيمن هاجر ولم يتصل، روي أن رجلًا من المؤمنين المستضعفين لما سمع وعيد المتخلفين عن الهجرة قال: لا عذر لي فإني أعرف السبيل، فأمر من حمله وكان شيخًا هرمًا فلما بلغ التنعيم مات، فأنزل الله الآية. واختلفوا في اسمه قيل جُنْدَع بن ضمرة، وقيل: جندب، وقيل: جندب بن ضمرة (¬4)، وقيل: ¬

_ (¬1) الأظهر -والله أعلم- أن "الحسنى" مفعول ثان لـ"وعد"، والمفعول الأول هو "كلًا"، مقدمًا عليه. (¬2) البخاري (4596)، والذي يظهر من سياق الآية والأحاديث الواردة أنهم ليسوا منافقين لكنهم مسلمين من أهل مكة، كانوا قد أسلموا وتخلَّفوا عن الهجرة إلى المدينة فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وكانوا يعتذرون أنهم مستضعفون فلم يقبل الله عذرهم وقال: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ثم استثنى الله منهم {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء: 98] وهذا اختيار ابن جرير (7/ 381). (¬3) روي ذلك عن مجاهد وعكرمة والسدي. أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (7/ 390). (¬4) لعل المؤلف هنا عكس الاسمين، ولعل الصواب ضمرة بن جندب لما أخرجه ابن أبي حاتم (5887)، وأبو يعلى (2679)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (1/ 486)، =

ضمضم بن عمرو (¬1) الخزاعي (¬2). و (المراغم): الذي يراهم فيه أعداءك بحسن حالك. والمراغمة: أشد من المعاتبة. {ثُمَّ يُدْرِكْهُ} معطوف على الشرط وهو مجاز وحقيقته: ثم يمت {فَقَدْ وَقَعَ} أي: وجب، أي: ضمن الله أجره وأوجب ذلك في حكمه. {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم، واختلفوا في رفع الجناح، قيل: هو كرفع الجناح عن المتطوف بالصفا والمروة وذلك أفاد الوجوب. كذلك هاهنا، وقيل: هو على الإباحة للقصر عن مقدار الواجب وهو عندنا لرفع الوجوب فيما زاد على الشطر من الصلوات الرباعية {أَنْ تَقْصُرُوا} والقصر النقص، والإقامة التي تُوجب (¬3) الإكمال خمسة عشر يومًا {إِنْ خِفْتُمْ} على سبيل اعتبار الغالب من أحوالهم كقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] قال يعلي بن منبه: قلت لعمر: ما بالنا نقصر ونحن آمنون؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، وسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوها" (¬5). ¬

_ = ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع (7/ 10) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرًا، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل الوحي {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} [النساء: 100] الآية. (¬1) في "ب": (عمر). (¬2) أما كونه جُندع فهي رواية عزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 649) لابن سعد وابن المنذر. وأما كونه (جندب) فهي رواية الطبري (7/ 396 - 397). وأما كونه ضمضم فلم أجده وإنما وجدت ضمرة بن زنباع الخزاعي. ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 181). (¬3) في الأصل و"ي": (يوجب). (¬4) (صلى الله عليه وسلم) ليس من "ب". (¬5) الذي يظهر أن القصر صدقة من الله سواءٌ في حال الأمن أو الخوف الحرب أو السلم، فما دام وُجِد سببه وهو السفر فقد تعين القصر لحديث يعلي بن منبه الذي ذكره المؤلف =

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الصلاة المذكورة في هذه الآية مختصة بالخوف من العدو عند اللقاء سواء تبين ظلمهم وقتالهم أو لم يتبيّن لوجود الخوف فيهما، والإمام يقوم مقام رسول الله كما في الجمعة والكسوف واختلفوا في صفة الصلاة والسلاح و (الحذر): آلة القتال {فَيَمِيلُونَ} أي: يعطفون ويفرون وهو معطوف على تغفلون، والرخصة في وضع السلاح عند الضرورة. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} على عموم أحوالكم {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أقمتم، والاطمئنان: السكون، وضده الاضطراب {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} المقيم {كِتَابًا مَوْقُوتًا} واجبًا فرضًا منجّمًا. وهذا يدل على وجوب الترتيب في الفوائت. {وَلَا تَهِنُوا} نزلت فيما لقي المسلمون يوم أحد من أبي سفيان بن حرب وأصحابه (¬1). عن ابن عباس يقول: لا تضعفوا في طلب الكفار قتلًا وأسرًا {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، وقيل: إنها عامة فمعناه إن كنتم من لحم ودم، {تَأْلَمُونَ} بالقتال فأعداؤكم أمثالكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}، أي: إحدى الحسنيين فأنتم أولى بالإقدام والشجاعة والحكمة، وذكر العلم والحكمة لبيان كون المؤمنين أولى بالإقدام والشجاعة. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} نزلت الآيات في طعمة بن أبيرق سرق درعًا لقتادة بن النعمان الأنصاري، وكان الدرع في جراب فيه دقيق فذهب بها إلى بيت زيد بن السمين اليهودي أودعها إياه، وافتقد قتادة درعه فلم يجدها فاتبع أثر الدقيق إلى بيت زيد بن السمين وأخذه فوجد الدرع عنده ¬

_ = قال: قلت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ ...} [النساء: 101] وقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبتَ منه، حتى سألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". أخرجه مسلم (686)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 308)، والنسائي (1432) وغيرهم. (¬1) سبب النزول هذا أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 544) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: "يا محمَّد، يا محمَّد، ألا تخرج ألا تخرج ... " الحديث بطوله.

فأتى به رسول الله وادعى عليه بالسرقة. قال اليهودي: أودعنيها (¬1) طعمة بن أبيرق وإخوته بشر وبشير ومبشر، وأنكر طعمة وإخوته ذلك ولم يكن لليهودي بينة فكان الظاهر أنه هو السارق، وجاء أناس من المسلمين يثنون على طعمة ويزكونه فهمّ رسول الله بمعاقبة زيد بن السمين فأنزل الله الآية وبرّأ اليهودي وفضح بني أبيرق وفرّ طعمة إلى مكة مرتدًا، ثم سرق هناك أيضًا فنفي إلى الشام، ورافق رفقة في طريق الشام فسرق منهم أيضًا فأخذوه ورجموه (¬2) {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} بما هداك الله وبيَّن لك. و (الخصيم): في الباطل، و (الخصم): في الحق. {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} لما هممت من مبادرة الوحي ومعاقبة اليهودي. {وَلَا تُجَادِلْ} ولا تخاصم ولا تدافع عن بني أُبيرق {مَنْ كَانَ} أي: مَنْ هُوَ خوّان أثيم. {يَسْتَخْفُونَ} ويتوارون في اختلاف المعذرة، {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} لا يخفون عليه {مُحِيطًا} لا يفوته أعمالهم {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} خطاب متوجه إلى المثنين علي بني أُبيرق المزكين إياهم، أي: هب أنكم دافعتم اليهودي عنه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهل من يدافع الله عنهم يوم القيامة {وَكِيلًا} كفيلًا، استفهام بمعنى النهي على سبيل التهديد. {وَمَنْ يَعْمَلْ} ندب ودعوة للذين والوْا بني أبيرق سواء ما يسوء به غيره من الغصب والسرقة ولخونهما {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يتعداه من الذنوب ثم يستغفر الله بالحزن والندامة. {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يرجع وباله إليه في الحقيقة. (الخطيئة): ما أصيب خطأ كالقتل ونحوه، و (الإثم): ما أصيب عمدًا، وقيل: من المعاصي ما يسمى خطية ومنها ما يسمى إثمًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ادعينها). (¬2) هذه رواية ابن جرير (7/ 468، 469)، وله شواهد كثيرة عند ابن أبي حاتم (4/ 1063، 1066).

{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} يقذف بذلك الكسب أو الإثم بريئًا غير جانٍ و (البراءة) المباينة والانفصال {فَقَدِ احْتَمَلَ} اقترف واكتسب. ثم ذكر لنبيه نعمة ليزيد فرحًا وشكرًا قال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} توفيقه وعصمته {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} كانوا يستزلونك في الحكم بأنْ يجري الأمر على ظاهره غير منتظر للوحي الممكن نزوله عليك {الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} الفقه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من الأشياء المستورة مما يجب الإيمان به عند السماع. {مِنْ نَجْوَاهُمْ} مصدر (¬1) ويطلق بمعنى الاسم. قال الله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وإذ هم نجوى متناجون فإن كان المراد هاهنا الاسم فهم بنو أُبيرق والاستثناء منقطع بمعنى لكن، وإن كان بمعنى المصدر، فالكناية ترجع إلى معنى المؤمنين والاستثناء متصل (¬2)، وإنما أخبر بأنه {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} لأنّ المناجاة في الشرِّ شرٌّ، وفي المباح الذي لا يمكن إظهاره شر أيضًا، قال -عليه السلام-: "لا يتناجى اثنان دون ثالث فإن ذلك يحزنه" (¬3). {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} ضيافة أو إقراض غيره {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ¬

_ (¬1) (من نجواهم مصدر) ليست في "ب". (¬2) في هذا الاستثناء {إِلَّا مَنْ أَمَرَ} [النساء: 114] قولان: الأول: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقولان مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها المصدر كالدَّعوى فتكون بمعنى التناجي وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقًا للمصدر على الواقع منه نحو: رجل عَدْلٌ، فعلى الأول يكون منقطعًا لأنَّ من أمر ليس تناجيًا، والكوفيون يقدرون المنقطع بـ"بل" وإن جعلنا النجوى بمعنى التناجي كان متصلًا. ومعروف أن المنقطع منصوب أبدًا في لغة الحجاز، وأن بني تميم يُجْرُونه مجرى المتصل بشرط توجه العامل عليه، وقد رجح ابن جرير أن النجوى بمعنى المتناجين وهو أظهر معانيه، ويكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين يا محمَّد من الناس، إلا في من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير. [الطبري (7/ 483)، الكشاف (1/ 563)، الدر المصون (4/ 89)]. (¬3) البخاري (6288)، ومسلم (2183).

تأليف بينهم، ذلك إشارة إلى التناجي بهذه الأشياء {أَجْرًا عَظِيمًا} معظم (¬1) قدره كثير الأجر أو لم يكن. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} يخالفه في الكتاب والسنة بالاعتقاد {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} من بعد ما قامت الحجة عليه بالبيان والإعجاز {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يخالف بالاعتقاد إجماعهم بعد إنعقاده، وإنما صار إجماع هذه الأمة حُجّة بقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وقوله -عليه السلام- (¬2): "لا تجتمع أمتي على الضلالة" (¬3). قوله: {مَا تَوَلَّى} نقلده ما تقلّد بخذلانه وتيسيره للعسرى. وهذا الجزاء إنما وجد حالة وجود الشرط، ثم لله المشيئة فيه بعد ذلك من لا يرى نسخ الوعيد، فللَّه أن لا يفعل الوعيد بمن شاء من خلقه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ} نزلت في طعمة بن أُبيرق فتكون آية عذاب، والسابقة نزلت في وحشي فتكون آية رحمة (¬4)، والمراد بهذه الآية عبدة الأصنام وبالأولى أهل الكتاب {بَعِيدًا} يبعد عن الحق وقصد الطريق، والبعيد: ضدّ القريب. {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} تقدير الآية: إن يدعون من دونه إلا إناثًا وشيطانًا، كقولك: لا أطيع إلا الأمير ولا أطيع إلا الوزير، أي: لا أطيع غيرهما، ولو أسقطت الواو أيضًا وكلامك بالإبدال على سبيل الاستدراك {إِلَّا إِنَاثًا} جنيًا كوافر حللن في الصحراء، و (الإناث) كاللات والعزى ومنوة ونبواته وناميلة، ويحتمل بالإناث الأنفس المعبودة من دون الله على سبيل العموم (¬5). ¬

_ (¬1) في "ي" "ب": (نعظم)، وفي "أ": (يعظم). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) مرّ تخريجه. (¬4) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 202) لسعيد بن جبير وقال: وهو قول الجمهور. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 203) عن الحسن قال: كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة فهو إناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنّث.

{إِلَّا شَيْطَانًا} جنيًا كافرًا متمردًا وهو إبليس لعنه الله، ويحتمل أن النفي الثاني نفي المستثنى المثبت من قبل على سبيل التحقيق واعتبار الأصل كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى (¬1)} [الأنفال: 17]، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] و (المريد): المتجرد بالشر، والصخرة المراد العاصي (¬2) هي الملساء، والشجرة المراد التي تساقطت أوراقها، والجدار المملس الممرد، والرجل الأمرد: الذي لا لحية له. {لَأَتَّخِذَنَّ} أي: بعزتك لأتخذن وهو في معنى قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82] وإنما قال هذا: بعد زوال المعرفة وألا يعلم أنه ليس بمعجز لله لا بمعاند إياه، والمراد بالنصيب المفروض غير المخلصين، و (المفروض): المقطوع المحدود بالتقدير. {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} إضلاله تزيينه وتمنيته ووسوسته بالعمل وأمره ووسوسته وكلامه من حروف الأصنام {فَلَيُبَتِّكُنَّ} يقطعن {آذَانَ الْأَنْعَامِ} أي: بحر البحيرة، {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} تغير الدين والفطرة؛ عن ابن عباس، الإخصاء؛ عن أنس وعكرمة (¬3)، والوشم؛ عن ابن مسعود والحسن (¬4)، وقيل: هو وصل الشعور، وقيل: هو اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء. ¬

_ (¬1) (ولكن الله رمى) من الأصل فقط. (¬2) في "أ" "ب": (المعاصي). (¬3) أما عن ابن عباس رواه ابن أبي شيبة (12/ 227)، وابن جرير (7/ 495). وأما عن أنس فرواه عبد الرزاق (8444)، وابن أبي شيبة (12/ 226)، وابن جرير (7/ 494). وأما عن عكرمة رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 173)، وفي "المصنف" (8445)، وابن جرير (7/ 495، 496). (¬4) أما عن ابن مسعود فرواه ابن جرير (7/ 501، 502). وأما عن الحسن فعزاه صاحب الدر المنثور (5/ 26)، لعبد بن حميد وابن المنذر وهو عند ابن جرير (7/ 501)، وابن أبي حاتم (4/ 1070).

{وَيُمَنِّيهِمْ} يحملهم على التمنِّي مختصًا معدلًا ومصرفًا قيلًا تقولًا، قال الله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] أي: قوله، ويقول: هذا من قيل فلان، أي من قوله. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} نزلت في المنافقين والمشركين والخطاب لهم؛ عن مجاهد (¬1)، وقال غيره: خطاب للمؤمنين، أي: ليس إلا بمحكوم على ما يتمنون (¬2)، وقوله (¬3): {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} عام وبل مقدر فيه، أي: الوعيد شامل على اعتبار الأفعال من دون الذوات، إذ الذوات لا توجب ثوابًا ولا عقابًا. روي لما نزلت هذه الآية خاف أبو بكر الصدِّيق خوفًا شديدًا وأظهر ذلك لرسول الله فقال -عليه السلام-: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فيجزون بذلك في الدنيا، وأمّا الآخرون فيجمع ذلك عليهم حتى يجزوا به في الآخرة" (¬4). وفي بعض الروايات: "ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك البلاء؟ " (¬5)، مصداق ذلك قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} اشتراط الإيمان يدل على أن غير المؤمن قد يعمل صالحًا وذلك ما يحمد في العقل كالسخاء والوفاء وصلة الأرحام والصدق، وإنما شرط الإيمان لأنَّ الجنة حرام على غير المؤمن وقد أحبط عمله بكفره وابتغائه غير وجه الله ومنّه على مَنْ أنعم عليه. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} ليس أحد أحسَن دينًا {أَسْلَمَ} أخلصَ {وَجْهَهُ} أمره مقبلًا معترفًا بالتوحيد {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يدلّ أن إحسان العمل فرع الإيمان والإِسلام {حَنِيفًا} حال لمن أسلم {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} أي: ¬

_ (¬1) أما عن مجاهد فرواه سعيد بن منصور (692 - تفسير)، وابن جرير (7/ 512)، وابن أبي حاتم (4/ 1070) وليس فيه ذكر للمنافقين. (¬2) رواه سعيد بن منصور (693 - تفسير)، وابن جرير (7/ 508) عن مسروق. (¬3) (وقوله) ليست في الأصل. (¬4) رواه عبد بن حميد (7)، والترمذي (3039) وسنده ضعيف. (¬5) أحمد (1/ 21)، وابن حبان (2910)، وأبو يعلى (98 - 101) والحديث صحيح بطرقه وشواهده.

جعله مخصوصًا بالولاية فيه ترغيب في الإسلام والإحسَان وزجر عن العمل السيء. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} فصل مبتدأ في ذكر النساء مرتب على الفصل الأول في هذه السورة عائد إليه، والاستفتاء طلب الإفتاء وهو الإجابة ببيان الحكم. {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {تَنْكِحُوهُنَّ} في محل الجر معطوف على الضمير في {فِيهِنَّ} وتقديره: ويستفتونك في حكم البالغات وفيما يتلى عليكم من حكم اليتامى النساء غير البالغات أيضًا (¬1) {لَا تُؤْتُونَهُنَّ} أي: اللواتي لا تؤتونهن ما أوجبَ لهن من مهر المثل {وَتَرْغَبُونَ} في نكاحهن بالمهر القليل. وهذا التفسير للإقساط المنفي المتقدم ما هو وإفتاؤه سبحانه وتعالى فيهن جميعًا ما بيّن من حكم أنكحتهن ومواريثهن صغائر وكبائر وبيَّن في حكم مواريث المستضعفين {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: ويفتيكم في قيامكم لليتامى بالقسط أيضًا عند الوصية وقسم المواريث. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} علمت {نُشُوزًا} ترفعًا وخروجًا عن الحد المحدود في حسن العشرة، والإعراض هاهنا في معنى الهجران والطلاق، والصلح المأذون فيه تركها القسمة على أن لا يطلقها. عن عروة (¬2) عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) لا يفضل بعضنا على بعض في القسم وكان ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى} [النساء: 127] فيه ستة أوجه إعرابية وذلك أن موضع "ما" يحتمل أن يكون رفعًا أو نصبًا أو جرًا. فالرفع من ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون مرفوعًا عطفًا على الضمير المستكن في "يُفْتيكم" العائد على الله. والثاني: أنه معطوف على لفظ الجلالة كما ذكره أبو البقاء العكبري. والثالث: أنه مرفوع بالابتداء والجر من وجهين: الأول: أن تكون الواو للقسم، ذكره الزمخشري. والثاني: أنه عطف على الضمير المجرور بـ "في" أي يفتيكم فيهن وفيما يتلى، وهذا رأي الكوفيين. وأما النصب فبإضمار فعل؛ أي: ويبين لكم ما يتلى لأن "يفتيكم" بمعنى يبين لكم. [الإملاء (1/ 196)، الدر المصون (4/ 100)، الكشاف (1/ 567)]. (¬2) في "ب": (عرفة) وهو خطأ. (¬3) (صلى الله عليه وسلم) من "ب".

قلّ يوم إلا هو يطوف علينا جميعًا فيصيب من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت له سودة بنت زمعة حين أسنّت وخشيت أن يفارقها رسول الله: يومي الذي يصيبني فيك هو لعائشة" قالت: "فيها وفي أمثالها نزلت هذه الآية" (¬1). وعن سميّة قالت: "وجد رسول الله على صفية بعض الموجدة في شيء، فقالت صفية لعائشة: هل لك أن ترضي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ولك يومي؟! قالت: نعم، فأخذت خمارًا لها مصبوغًا زعفران فرشته بالماء ليفوح رائحته واختمرت به وقعدت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فقال: "إليك عني يا عائشة إنه ليس يومك"، قالت أم المؤمنين: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وأخبرته بالأمر فرضي عن صفية" (¬3)، وعن رافع بن خديج وامرأته ابنة محمَّد بن مسلمة الأنصاري نحو من هذا (¬4). {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ} ألزمت إياه وقرنت به وجبلت عليه {الشُّحَّ} الضنّة وهي حب إمساك المال وسائر الحظوظ، والمراد به هاهنا ضنة المرأة بنصيبها من الرجل وضنة الرجل بنفسه، أي: قل ما يترك المرأة بحظها، وقيل: ما يعطيها الرجل ذلك إذا رغب {وَإِنْ تُحْسِنُوا} معاشرتهن وتنفقدا بمحافظة الحدود {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} تنبيه على الجزاء. {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} نفي كل الاستطاعة، كل العدل بينهن؛ لأن الإنسان وإن سوى بينهن في القسم لم يقدر أن يسوي بينهن في الحب والمناكحة والمطايبة {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} تجوروا كل الجور بأن تقبلوا على ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3040)، والطيالسي (2805)، والطبراني في الكبير (11746)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 297) عن ابن عباس وسنده صحيح. ورواه أبو داود (2135)، وابن سعد في الطبقات (8/ 53، 169)، والبيهقي في الكبرى (7/ 74، 75) عن عائشة وسنده حسن. (¬2) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬3) عزاه القرطبي في تفسيره (5/ 405) لابن خويز منداد في "أحكام القرآن". (¬4) مالك في الموطأ (2/ 548، 549)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 175)، وابن جرير (7/ 557)، والحاكم (2/ 308).

بعضهن وتعرضوا عن بعضهن {فَتَذَرُوهَا} تتركوها كالمعتدة أو كالمولى عليها. {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} وإن لم يصلحا وتفرقا بالطلاق {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} كل واحد منهما عن صاحبه {مِنْ سَعَتِهِ} وغناه إما بأن يبدله خيرًا منه، وإما أن يرزقه الصبر والقناعة الواسعة. وفي قوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تهديد أي: لا مهرب لكم منه {غَنِيًّا} ينفي الحاجة ويثبت القدرة والوسع {حَمِيدًا} محمود الصفات لقدمه وإحسانه وأنه يثني على عباده المطيعين. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} تضمنت الآية معنيين التهديد والإخبار عن القدرة ونفاذ المشيئة: إن يشأ إذهابكم يذهبكم، يفنيكم أو ينقلكم من الدنيا إلى الآخرة {بِآخَرِينَ} الرزية أو ما الله به أعلم. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} أي: من كان مريدًا عمل الشرط في معنى كان في دون لفظه؛ فإن لفظه ماض والماضي مبني غير معرب، ولذلك أتينا بالماضي إذا توسط بين حرف الشرط والشرط متوسط في نحو قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (¬1)} [النساء: 128] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] ولو أتينا به والمتوسط بالفعل المستقبل لما حسن ذلك؛ لأنا إن أعملنا الشرط فيه بطل توسط المتوسط ولا بطل معنى الشرط {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: فليطلبه بطاعة الله فإنه عند الله دون ما يطلبونه من الطواغيت. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فصل آخر مبتدأ واتصالها بما قبلها من حيث المواريث والوصايا والأنكحة تحتاج إلى الشهادة وإقامة القسط {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} والشهادة على الأنفس الإقرار والاعتراف، قال الله مخبرًا عن الكفار: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] إن يكن (¬2) المشهود عليه، ¬

_ (¬1) (نشوزًا أو إعراضًا) من "ب". وفي "أ": (نشوزًا) فقط. (¬2) في "ب": (يكون).

فالله أولى بكل واحد من الغني والفقير وهو يأمركم بالشهادة عليهما، أي: لا يحملنكم موالاتكم إياهما عن كتمان الشهادة؛ فإن من هو أولى منكم بما يأمركم بأدائها ويحتمل أن الكناية راجعة إلى المشهود عليه والمشهود له وتقديره فالله أولى به وبخصمه {أَنْ تَعْدِلُوا} لتعدلوا (¬1) وتقسطوا عند الزجاج والفراء (¬2)، وقال ابن جرير: هذا من العدول فيكون ترجمة لاتباع الهوى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} أي: آمنوا ببعض آمنوا بالكل لما تتلوه، وقيل: آمنوا بالنعت آمنوا بالمنعوت كقوله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وقيل: آمنوا وجه النهار وآمنوا آخره لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} به (¬3) وقيل: آمنوا بألسنتكم آمنوا بقلوبكم لقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ} [النساء: 140] وقيل: آمنوا فيما مضى وفي الحال وذاقوا على الإيمان في المستقبل لقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] وقيل: آمنوا بألسنتهم أخلصوا بعقائدهم تحققوا في الإيمان بدوام مراقبتكم وتهذيب خواطركم لقوله -عليه السلام- لحارثة: "كيف أصبحت؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًا ... (¬4) الخبر. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} عن قتادة: أنها نزلت في أهل الكتاب (¬5)، وعن الحسن: في الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره (¬6)، وعن مجاهد وابن زيد: نزلت في المنافقين (¬7)، وهذا أصح لأنهم تردّدوا في أمرهم وأصرّوا ¬

_ (¬1) (لتعدلوا) ليست في "ب". (¬2) ذكره الزجاج في (معاني القرآن) (2/ 118)، والفراء في (معاني القرآن) (1/ 291). (¬3) (به) من الأصل. (¬4) رواه عبد بن حميد (445)، والطبراني في الكبير (3367)، وابن أبي شيبة (30425) بسند ضعيف، وروي عن أنس وأبي هريرة بسند ضعيف أيضًا. (¬5) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 176)، وابن جرير (7/ 597). (¬6) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 225) للحسن. (¬7) أما عن ابن زيد فعند ابن جرير (7/ 598). وأما عن مجاهد فعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 77) لابن المنذر.

على اعتقاد الكفر وماتوا عليه، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} شيئًا من كفرهم الأول والثاني والثالث لأن الكفر المتأخر أحبط العمل المتقدم {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} لا يوفقهم، و (التوفيق): هو التيسير لليسرى، وذلك غير واجب بعد التمكين الذي يلزم به الحجة، وقبول توبة هؤلاء مختلف فيه. {أَيَبْتَغُونَ} على الإنكار {فَإِنَّ الْعِزَّةَ} أي: المنعة {لِلَّهِ جَمِيعًا} يكرم بها من يشاء وقد وردها لرسوله وللمؤمنين. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] وإن لترجمة المنزل ما هو، والتقدير: وقد نزل عليكم في الكتاب شيئًا وهو قوله: {أَنْ (¬1) إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا (¬2)} بالقرآن وهو استخفافه {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} فطرد المعاشرة دون المجادلة والتقية، وإنما أباح القعود بعد الغاية لرفع الجناح ولاستمالتهم، والكناية في {مَعَهُمْ} راجعة إلى الكافرين والمستهزئين، والخوض في الحديث هو الشروع في الكلام وضده الإمساك عنه، {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي: إن قعدتم معهم موالين إياهم كنتم مثلهم في الكفر والنفاق {الْمُنَافِقِينَ} المضمرين الكفر و {وَالْكَافِرِينَ} المظهرين له. {يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي: نزول الدوائر والحوادث {فَتْحٌ} نصرة {نَصِيبٌ} دولة {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نشارككم في هذا الغزو ويطلبون الشركة في الغنيمة {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ} ألم نغلبكم ونستول عليكم مع المؤمنين ونحكم ونُجرْكم، يذكرون أياديهم حالة الاستيلاء {فَاللَّهُ يَحْكُمُ} يفصل الحكمة {سَبِيلًا} أي: حجة صحيحة، ويحتمل أن معناه إن ينصرهم عليهم فإنهم وإن غَلَبوا فهم المخذولون الأخسرون. {كُسَالَى} جمع كسلان، و (الكسل): التثبط والتبرم والقليل من الذكر ما {يُرَاءُونَ} ويسمعون به. ¬

_ (¬1) (أن) من الأصل. (¬2) (ويستهزأ بها) ليست في "أ".

{مُذَبْذَبِينَ} مترددين مضطربين ومنه يقال لأسافل الثوب: ذباذب، ويحتمل من الذب، أي: يذبون كل فريق من أنفسهم بنوع من الخداع {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ} أي: ليسوا مع هؤلاء في الإخلاص ولا مع هؤلاء في المحاربة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}، أي: هم ضالون أضلهم الله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} يأتيها. {أَتُرِيدُونَ} على سبيل (¬1) الإذكار {أَنْ تَجْعَلُوا} أي: تقيموا {سُلْطَانًا} أي: حجة، وهذا على المجاز، وحقيقته: أتريدون أن تكونوا من الذين لله عليهم سلطان بيِّن بالإعذار والإنذار. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} لأنهم شر أصناف الكفرة لخبثهم وخداعهم، و (الدركات والإدراك): المنازل والمراتب إلى الأسفل. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} عن النفاق {وَأَصْلَحُوا} عقائدهم {وَاعْتَصَمُوا} امتنعوا بالله عن الشيطان ووساوسه والكفار ومكائدهم {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} أي: نابذوا الكفار وحققوا موالاة المؤمنين، وإنما قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يصرح بإيمانهم تعظيمًا لشأن النفاق. {مَا يَفْعَلُ} ما يصنع به، وأي غرض له فيه استفهام بمعنى النفي. {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ} اتصالها بما قبلها من حيث إن الجهر (¬2) بالسوء من خصال المنافقين، وفيهم قوله: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] وقد سبق ذكرهم، وعن عبد الرحمن بن زيد: أن الآية نزلت في أبي بكر الصدِّيق شتمه رجل مرارًا وهو ساكت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ثم ردّ أبو بكر مرة فقام رسول الله كالمنكر عليه (¬4)، ومعناه: لا يحب الله ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (على وجه الإذكار)، والمثبت من الأصل. (¬2) في الأصل: (الخبر). (¬3) (صلى الله عليه وسلم) من "ب". (¬4) أما سبب النزول بهذا اللفظ فلم أجده إلا ما ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 237)، وعزاه لمقاتل، ولكن وردت هذه القصة عند أبي داود مرسلًا دون ذكر أسباب النزول.

الجاهر بالقول السيء {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: الجاهر المظلوم مثل أبي بكر، ويحتمل: لا يحب الله جهر أحد بالقول السيء إلا جهر من ظلم (¬1)، والاستثناء على هذين متصل، وقيل: منقطع، أي: لكن من ظلم فله أن يجهر، وعن مجاهد: أن المظلوم هو الضيف المحتاج إذا مرّ بإنسان فلم يقريه فله أن يشكوه ويذمه. (العليم): يعلم الزجر عن جهر قول السيء وعن إسراره (¬2). وفي قوله: {إِنْ تُبْدُوا} الآية ندب إلى الجهر بالقول الحسن وإلى إضماره وإلى العفو للمظلوم عفوًا يعني: فافعلوا فإن الله عفو بقدرته يحب أن يستنوا بسنته، أو فافعلوا فإنّ الله يجازيكم بعفوه قدير على مجازاتكم. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} نزلت في أهل الكتاب. وفي الآية في ليل أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص (¬3)، وأنه لا منزلة بين المنزلتين، وأن من اتخذ ¬

_ (¬1) من قوله: (أي الجاهر) إلى قوله: (من ظلم) ليست في "ب". (¬2) عن مجاهد رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 176)، وابن جرير (7/ 629). (¬3) لا يوافق الجرجاني على قوله هذا بل الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الذي تظافرت به الأدلة من الكتاب والسنة والآثار عن السلف؛ قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفَال: 2]. وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريَم: 76]. وقال تعالى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدَّثِّر:31]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وغيرها من الآيات. وأما من السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "ما رأَيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا .... " الحديث أخرجه البخاري (1/ 345) ومسلم (1/ 79) كتاب الإيمان- باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ..... " أخرجه مسلم (1/ 35) كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان عن أبي هريرة مرفوعًا، وحديث الشفاعة وأنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، والأحاديث كثيرة في ذلك؛ ومن أقوال الصحابة قول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه. وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيمانًا. وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانًا ويقينًا وفقهًا. والآثار عن السلف كثيرة جدًا في ذلك؛ وبهذا يتبين الحق في هذه المسألة من أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

من ذلك سبيلًا كان كافرًا حقًا؛ لأن الله يشهد بالصدق لجميعهم فمن كذب بالبعض فقد كذب بالكل. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} نزلت في اليهود طالبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) بكتاب مكتوب مثل التوراة تنزله من السماء متحكمين، فأنكر الله ذلك عليهم وبيَّن لهم (¬2) أن موسى أتاهم بذلك فلم يقتنعوا به وطالبوه بما هو أجل شأنًا منه (¬3)، وفيه دليل على جواز رؤية الله تعالى، ثم في قوله: {اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} لترتيب الأخبار دون المخبر فيها؛ لأن مطالبة السبعين بالرؤية وعبادة الباقين العجل في آنٍ واحد {الْبَيِّنَاتُ} ما أيد الله موسى بمصر حين عبر البحر قبل المتغلب. {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} عارض بين الأسباب المذكورة لتحريم الطيبات وبكفرهم وقولهم على مريم من الأسباب المحرمة للطيبات، لمَّا عَلِمَ الله أنهم سيأتونه لا محالة عجَّل المسبب، وليس هو كتقديم العقوبة على المذنب، ولكنه كخلقه آدم وإسجاد الملائكة له (يعلم ما لا يعلمون). {وَقَوْلِهِمْ} أي وبقولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا} وهذا من الأسباب المحرمة للطيبات أيضًا، ويحتمل أن هذا وما قبله من البهتان سبَّبا الطبع على القلوب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} من اليهود والنصارى {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطع عند البعض (¬4) قالها في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ} راجعة إلى العلم أو الظن، أي: لم يحكموه. ¬

_ (¬1) في "ب": (طلبوا - صلى الله عليه وسلم - بكتاب). (¬2) (لهم) من "ب". (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 639)، وابن أبي حاتم (6186)، عن السدي وعن محمَّد بن كعب القرظي وابن جريج. (¬4) وهذا قول الجمهور، والأظهر في الآية أنه استثناء منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من حسن العلم وهي لغة الحجاز -أي النصب- ويجوز عند تميم الإبدال من "علم" لفظًا فَيُجَر أو على الموضع فيرفع لأنه مرفوع المحل. والوجه الثاني: أنه استثناء متصل وهو اختيار ابن عطية بحجة أن العِلْم والظن يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين. وقول ابن عطية هذا فيه بُعْد؛ لأن هناك فرقًا بين الظن -وهو ما ترجح فيه أحد الطرفين- وبين اليقين - وهو ما جزم فيه بأحدهما. وعلى هذا فإن القول الأول بأنه استثناء منقطع هو المتعين -والله أعلم-. [المحرر (4/ 304)، الدر المصون (4/ 147)].

وقيل: إلى المقتول المصلوب، أي: قتلوه متوهمين لا بيقين أنه المسيح -عليه السلام-، وقيل: عائدة إلى المسيح ما قتلوه حقيقة ولكن على زعمهم، بل رد لكلامهم. {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} بعيسى، وعن عكرمة: بمحمد (¬1)، والجميع أنه عند معاينة العباس يؤمن بالجميع فلا ينفعه إيمانه {قَبْلَ مَوْتِهِ} - موت عيسى [-عليه السلام-] (¬2) - يؤمنون به إذا أنزل من السماء. وإنما قيد أخذ الربا بالنهي؛ لأنه ليس بمذموم قبل النهي في العقل قبله إلا أن فيه نوع كراهة فيوقف الذم على النهي بخلاف الضد، وأكل أموالط الناس وخص الكافرين منهم لأنهم لم يكونوا سواء. والواو في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} للجمع بين صفتي القوم والمقيمين في محل الخفض عطفًا على الضمير في {مِنْهُمْ} أي: {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} من حملة اليهود ومنِ غيرهم من المصلين، أو عطف على قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي هؤلاء [الراسخون يؤمنون بالمقيمين أيضًا وهم الأنبياء، وقيل: نصب على المدح (¬3). ¬

_ (¬1) من قال أنه عيسى روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد والضحاك والحسن، ومن قال: "يؤمنن به" أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - روي ذلك عن عكرمة، وقد روى ذلك عنهم الطبري في تفسيره (7/ 670). (¬2) ما بين [...] من "ب". (¬3) أي أن "المقيمين" منصوب على المدح، وهو أظهر الأقوال، وهو منسوب لسيبويه وأبي البقاء. والقول الثاني: أن يكون معطوفًا على الضمير في "منهم" أي: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة. والقول الثالث: أن يكون معطوفًا على الكاف في "إليك" والتقدير: يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة وهم الأنبياء. القول الرابع: وينسب إلى الكسائي: أن يكون معطوفًا على "ما" في قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: يؤمنون بما أنزل إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبالمقيمين. [المحرر (4/ 308)، الإملاء (1/ 202)، البحر (3/ 395)].

اتصال قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}] (¬1) بما قبله من حيث مقابلة اليهود بتنزيل الكتاب المكنون نقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا} إلى هؤلاء وإنما ابتدأ بنوح لأنه يعرفه الكل بالأخبار المتواترة، وهو المسمى آدمٍ الأصغر، ولا يعرف من قبله الأنبياء، وعطف إبراهيم على الأنبياء تشريفًا له كما قال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأحزاب: 7] ويحتمل النبيين هم الذين كانوا بين نوح وإبراهيم، وقدم عيسى على أيوب ويونس تشريفًا له لكونه من جملة أولي العزم، والواو لا توجب الترتيب. وأيوب -عليه السلام- هو أيوب بن موص بن زَعّوِيل؛ عن وهب، وكان أبوه ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه، وأمه بثينة بنت لوط -عليه السلام- وتحته ليَّا بنت يعقوب وهي التي ضربها بالضغث، وكان أيامه أيام الأسباط. وبعدهم يونس -عليه السلام- وهو يونس بن متّى أحد عباد بني إسرائيل وزهادهم بعثه الله بعد إلياس واليسع إلى أهل نينوى، وهو ذو النون، وإنما قدمه على هارون وداود وسليمان لأن الواو لا توجب الترتيب {وَهَارُونَ} هو هارون بن عمران أخو موسى أكبر منه بسنة أشركه الله في أمر موسى وأرسله إلى آل (¬2) فرعون، وإنما قال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} لينوّه بذكره تعويضًا عن تقديمه أو ليعلم أنه أتى بالزبور ولم يأت به مكتوبًا من السماء. {وَرُسُلًا} نصب عطف على داود أي: أعطيناهم زبرًا أو لوقوعٍ القصص عنيه، وإنما قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} لينوه بذكره تعويضًا عن تقديمه أو ليعلم أنه أتى بالتوراة ولمٍ يأت به مكتوبًا عامة للحجة بما أتى من الكلام المعجز هان لم يكن مكتوبًا من السماء، وأكد بالمصدر ليعلم أن الله كلمه حقيقة وخاطبه خطابًا وليحسم توهم المجاز، ونحو قولك: مال برأسه، وقال بيده، والتكلم صفة لله تعالى حقيقة من غير كيفية. {رُسُلًا} أي: أرسلنا رسلًا. ¬

_ (¬1) ما بين [...]، ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (وأرسلهما إلى فرعون)، وفي "ي": (وأرسلها إلى آل فرعون)، والمثبت من "ب" "ي".

{لَكِنِ} يدل على مستدرك نحو قولهم: لن يشهد لك بالنبوة حتى تنزل علينا كتابًا نقرأه، وشهادة الله هو هذا القرآن المعجز وما ذكر في التوراة والإنجيل والزبير من نعته وما آلم أولياءه من التصديق له {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزله وهو عالم غير ساهٍ ولا مخطئ، و (شهادة الملائكة): إيمانهم به، وإنما أخبر لتشريف النبي -عليه السلام-. (صدوا): صَرَفوا الناس. {وَظَلَمُوا} ما ضموه إلى كفرهم من سائر الخصال المذمومة {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} كفرهم {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ} التوفيق لظلمهم في {طَرِيقًا} سبيلًا. {طَرِيقَ جَهَنَّمَ} وهو الكفر {خَالِدِينَ} نصب على الحال للمهديين إلى النار {خَيْرًا} نصب على القطع عند الكوفيين وعلى المحل عند البصريين فكأنك قلت: أتيت خيرًا (¬1). {لَا تَغْلُوا} لا تجاوزوا الحد، و (الغالي): الفاحشبى، وغلوهم في دينهم: الإفراط في أمر المسيح -عليه السلام-، {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} أب أم وابن أو روح ونفس وعلم، {إِنَّمَا اللَّهُ} إنما هو خالق الأشياء كلها سبحانه تنزيهًا عن السوء. {لَّنْ يَسْتَنْكِفَ} لن يأنف أولًا رد على المخاطبين الذين يدعون لعيسى لنظم الكلام، ثم رد على من يشاكلهم كمن قال للأمير: لا تقاومني أنت ولا وزيرك ولا أتباعك، المراد بـ (البرهان): القرآن، وكذلك بـ (النور المبين). {وَاعْتَصَمُوا} بالله أو بالقرآن، {فِي رَحْمَةٍ}: في نعمة وهي الجنة، {وَفَضْلٍ} ونعمة زائدة على الموعود. {يَسْتَفْتُونَكَ} نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري سأل ما يرث من ¬

_ (¬1) انظر الكتاب لسيبويه (1/ 143)، والكاف للزمخشري (1/ 584)، معاني القرآن للفراء (1/ 295)، الدر المصون (4/ 164).

أخته وما ترث منه أخته، {إِنِ امْرُؤٌ} مرتفع بإسناد الفعل إليه، هلك: في محل الجزم، {أَنْ تَضِلُّوا} لئلا تضلوا، حذف للاكتفاء. وعند البصريين بين كراهة أن تضلوا، والله أعلم. ***

سورة المائدة

سُورَةُ المَائِدَةِ مدنية إلى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فإنّها نزلت بعرفات، وحكمها مدنية (¬1)، وهي ماية واثنتان وعشرون آية حجازي شامي. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المواثيق الشرعيّة التي تكون عقدها طاعة عن ابن عباس (¬2)، والحال تدل عليه وإنما ابتدأ بهذا الأمر لما أعقبه من الأوامر والنواهي وهي عقود وعهود كلها. {أُحِلَّتْ لَكُمْ} اتصالها بما قبلها من حيث التمسك بعقد الإحرام في اجتناب الصيد. {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم (البهيمة) كل دابّة أبهمت عن العقل والتمييز واستبهمت عن الكلام وجمعه بهائم، و (الأنعام) جمع النعَم، وهي جمع لا واحدَ له من لفظه، ويقع هاهنا على البقر الوحشيّة والظباء والوعُول لقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْد [إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} استثنى من بهيمة ¬

_ (¬1) نقل محمَّد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (7/ 121) أنها مكية بالاتفاق، وذكر عن ابن عباس أنها نزلت بمكة ليلًا جملة واحدة كما رواه عنه عطاء وعكرمة، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ستة آيات منها نزلت بالمدينة، ووافق المؤلف فخر الدين الرازي بكونها مدنية إلا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...} [المَائدة: 3] الآية (3) فنزلت بعرفات. وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات. (¬2) ابن جرير (8/ 9،6)، والبيهقي في "الشعب" (4356) بلفظ: (يعني بالعهود؛ ما أحلَّ الله وما حرّم، وما فرض ...).

الأنعام والمراد به المشبه ونحوها {مُحِلِّي الصَّيْدِ}] (¬1) استثناء من حالِ المخاطبينَ تقديره غير محلين للصيد والواو في {وَأَنْتُمْ} للحالِ (¬2) أيضًا. و (الصيد) اسم لما يصطاد والمراد هاهنا نعمَ الصيد أو كل ما يحل من الصيد في غير حالة الإحرام وإلا لما كان لتقييد الوصف بالإحرام فائدة. {حُرُمٌ} جمع إحرام (¬3) قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194]، وقال: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. {مَا يُرِيدُ} تكون الإرادة بمعنى المشيئة فيدل على أنه ليس تحت حكم ولكنه متصرف على قضية مشيئة أو بمعنى المحبّة فيدل على أن الأحكام الشرعية كلها محبوبة مرضيّة محمودة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في شريح بن ضبيعة بن شرحبيل أتى المدينة، وقال لرسول الله: إلى ما تدعو إليه؟ قال: "إلى (¬4) شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة"، قال: إن ما تدعو إليه حسَن، ولكن لي قومًا لا أقطع الأمر دونهم، فقال: "لقد دخل هذا بوجه كافر وخرج بعقبى غادر، وما هو بمسلم" فمرَّ على سرح المدينة فاستاقها، فلما كان العام المقبل خرج هذا الرجل حاجًا في حجاج بكر بن وائل فاستأذن المسلمون رسول الله في التعرض لهم فأنزل. وعن السدي وابن جريج أن اسم الرجل حُطم (¬5). {شَعَائِرَ اللَّهِ} غير المعطوف عليه كالمواقيت التي لا ¬

_ (¬1) ما بين [...]، من "ي" فقط، وفي "أ" {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المَائدة:1] فقط. (¬2) أي أن جملة "وأنتم حُرُم" مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال وهي حال من {مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المَائدة:1] وهو اختيار الزمخشري والأقرب أنها حال من الضمير في "مُحلي" وهو اختيار مكي بن أبي طالب ورجحه السمين الحلبي. [الكشاف (1/ 591)، الدر المصون (4/ 186)]. (¬3) وقيل: "حُرُم" جمع حرام بمعنى مُحرِم، ومنه قول المخبل السعدي: فقلت لها فيئي إليك فإنني ... حَرَامٌ وإني بعد ذاك لبيبُ أي محرم ومُلَبٍّ. [أمالي القالي (2/ 171) اللسان "لبب"]. (¬4) (إلى) ليست في "ب". (¬5) هذه رواية الواحدي في أسباب النزول (107) بدون سند. وقد ورد عن الحُطَمُ بن هند البكري والبعض يقول: (شريح بن ضبيعة بن شرحبيل) نفسه هو (الحُطَم ...) وقد رواه ابن جرير (8/ 31 - 33).

يجوز مجاوزتها بغير إحرام، وكالحرم لا يجوز القتال فيه {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} رجب، وعن عكرمة ذو القعدة (¬1) {وَلَا (¬2) الْقَلَائِدَ} قال ابن عباس: حرم الله الهدايا (¬3) المقلّدة وغير المقلّدة، وقيل: كان المشركون يقلّدون الإبل بلحاء الشجر تشبيهًا بالهدايا لئلا يُتعرض لها فأمر الله باجتنابها كالهدايا، وقيل: نهى الله عن إمساك القلائد بعد نحو البدن فإن سبيلها الصدقة وهي من صوف. قالت عائشة: كنت أفتل قلائد بدن رسول الله وهو في بيته يصنع ما يصنع الحلال (¬4)، {يَبْتَغُونَ} حال {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} إنما نصب البيت لوقوع الفعل عليه {فَضْلًا} رزقًا ونعمة {وَرِضْوَانًا} على سبيل الظن كقولهم (¬5): {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} إباحة {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم ولا يستعملنكم، و (الاعتداء) أخذ البريء بالجاني؛ لأن الصدّ كان من جهة قريش، وهم كانوا يستحلون حجاج بكر بن وائل وقد قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. {تَعْتَدُوا} في محل النصب بأن يدل عليه سقوط النون {وَتَعَاوَنُوا} في محل الجزم على سبيل الأمر بدليل سقوط النون. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} الآية، لا بدّ من كون هذه المحرمات محرمة قبل نزول الآية، فإنها نزلت بعرفات عام حجة الوداع، وفائدة ذكرها التأكيد إذ {وَاخْشَوْنِ} رأس آية تامّة حتى يكون النازل يوم عرفة قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬6) روي أن يهوديًا قال للفاروق: لو نزل علينا مثل هذه الآية يومًا لاتخذناه عيدًا، فقال: إنها نزلت يوم الجمعة وهو عيدنا ويوم عرفة وهو عيدنا، واستخرج بعض المنجمين أنه يوم دخول الشمس في برج ¬

_ (¬1) ابن جرير (8/ 25) واختار ابن جرير أن الشهر الحرام هو رجب مضر وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. (¬2) (ولا) ليس في "ب". (¬3) (الهدايا) ليس في "ب". (¬4) البخاري (1615) ط. البغا، ومسلم (1321). (¬5) في "ب": (كقوله). (¬6) (دينكم) ليس في "ب" "ي".

الحمل. قال -عليه السلام-: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض" (¬1) فكان هذا المستخرج يقول قوله -عليه السلام- هذا حجة على جميع الفلاسفة حيث إنه علم ولم يكن منجمًا ولا صاحب منجم، ثم بين الله للمؤمنين محافظة حساب القمر دون الشمس؛ لأنه أحوط لأوقات العبادة. وروي أن اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية كان قد اتفق عند اليهود والنصارى والمجوس. {وَالْمُنْخَنِقَةُ} التي ماتت بالمنعِ عن التنفس {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي وُقذت بالعصا وضربت حتى ماتت {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} (¬2) التي ماتت بالتردي (¬3) من أعلى إلى أسفل {وَالنَّطِيحَةُ} التي نطحتها صاحبتها فقتلتها. وذكر الأربع ليبين أن سبب الموت إذا كان ظاهًا لم يقم مقام الذكاة بخلاف السمك {وَمَا أَكَلَ} افترس السبع {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ذبحتم، والتذكية: التطهير. وفي الحديث: "ذكاة الأرض يبسها" (¬4) الاستثناء راجع إلى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} وقيل إلى {وَالْمُنْخَنِقَةُ} فما بعدها، وشرط الاستدراك أن يكون حياتها واضطرابها أكثر من حياة المذبوح و {النُّصُبِ} ما نصب من الأوثان إلا أنه لا صورة له والصنم مصور (¬5) {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} وذلك ما يتقامرون به، كانوا يجتمعون عشرة ويشترون جزورًا ويضربون بالأزلام -وهي القداح واحدها زلم وزُلم- يطلبون القسمة، فمنهم من ذهب باللحم ومنهم من غرم الثمن ¬

_ (¬1) البخاري (45)، ومسلم (3017). (¬2) في الأصل: (المتردي). (¬3) في "أ": (التي ماتت بالمنع عن النفس) وهو خطأ. (¬4) هذا الحديث احتجت به الحنفية مرفوعًا في كتبهم كالهداية، ولا أصل له مرفوعًا وإنما ورد عن محمَّد بن علي الباقر، وروي عن أبي قلابة من قوله بلفظ: جفوف الأرض طهورها. (¬5) أي أن الأنصاب غير الأصنام فهي نوع من الحجارة يذبح عليها أهل الجاهلية. وكان عند الكعبة ثلاثمائة وستون حجرًا فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدمَ على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد وقتادة، رواه عنهم الطبري في تفسيره (8/ 70). وانظر: تفسير مجاهد، ص300، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

لما وضعوا من الرسم، وربما كانوا يفعلون على وجه البر والصلة بزعمهم وصرفهم (¬1) ويصرفون ذلك إلى الفقراء (¬2) مراءاة ومباهاة فحرّم الله ذلك على المسلمين {ذَلِكُمْ} إشارة إلى الاستقسام (¬3) بالأزلام (¬4). {الْيَوْمِ} اللام للمعهود وهو يوم عرفة، وقيل: المراد به الآن {يَئِسَ} قنط، كانوا من قبل يطمعون في رجوع المؤمنين لما يشاهدون من النسخ والتبديل فلما قرن الله الشرائع كلها ونفى المشركين عن الحرم وأبطل النسيء قنطوا ويئسوا، والكامل لا يحتمل الزيادة بخلاف التمام {وَرَضِيتُ (¬5)} الواو ليس للعطف على العامل في اليوم؛ لأن الرضا لم يختص (¬6) بذلك اليوم {مَخْمَصَةٍ} مجاعة، والأخمص: الضامر {مُتَجَانِفٍ} متمايل إلى الإثم (¬7) كقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تقديره (فأكل غفر له) أو يدل على الرخصة في بيان المحرمات عند الضرورة ولذلك قام مقام الجزاء. {يَسْأَلُونَكَ} نزلت في زيد الخيل الذي سماه النبي -عليه السلام- (¬8) زيد الخير، وفي عدي بن حاتم الطائي سألا رسول الله عن حكم الصيد وما يحل من ¬

_ (¬1) (وصرفهم) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: (للفقراء). (¬3) في الأصل: (الاستفهام). (¬4) قوله تعالى: {ذَلِكُمْ} [المَائدة: 3] لا يعود إلى الاستقسام بالأزلام فحسب بل يعود إلى كل ما ذكره الله في الآية من المحرمات فهي خروج عن طاعة الله. وهكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه عنه الطبري (8/ 77). (¬5) في "أ": (ونصبت). (¬6) في "أ": (تختص). (¬7) وهذا تفسير الطبري وأعقبه بقوله: وهو في هذا الموضع مراد به المتعمد له المقاصد إليه، من: جنف القوم عليَّ إذا مالوا، وكل أعوج فهو أجنف عند العرب، وما ذكره الطبري رواه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال في قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} [المَائدة: 3] غير متعمد. وروي مثله عند الطبري عن مجاهد وقتادة. [الطبري (8/ 94)]. (¬8) (-عليه السلام-) ليست في "ب"، وفي "أ": (عليه).

الطيبات المذكيات أو غير الخبائث من السبع والحشرات (¬1) {وَمَا عَلَّمْتُمْ} من الشرط والجواب {فَكُلُوا} و {الْجَوَارِحِ} الكواسب من الفهود والكلاب و (التكليب) تعليم هذه الجوارح ونصب {مُكَلِّبِينَ} حال (¬2) {تُعَلِّمُونَهُنَّ} حال أيضًا لمضارعته (¬3). الاسم {أَمْسَكْنَ} جنس الصيد على الصائد ولا يأكلن منه بالتعليم لا بالإتقان إلا (¬4) الدم المسفوح {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} على الصيد حالة إرسال الجوارح {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما أحل وحرّم، ذكر (سرعة الحساب) لتأكيد الزجر والتحذير في معنى الجزاء ومن نوقش في الحساب عُذِّب (¬5). {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ذبائحهم، واذكروا عليه اسم الله وحده، وفائدة تحليل طعامنا لهم رفع الجناح عنا في إطعامهم {وَالْمُحْصَنَاتُ} العفائف ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في ابن كثير (3/ 28). (¬2) انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 302)، وللزجاج (2/ 149)، وإعراب القرآن للنحاس (2/ 484)، وهي حال من فاعل "علمتم"، وفائدة هذه الحال أن يكون المُعَلِّم ماهرًا بالتعليم حاذقًا فيه موصوفًا به. واشتقت هذه الحال من لفظ (الكلب) الحيوان المعروف وإن كانت الجوارح يندرج فيها غيره حتى سباع الطيور تغليبًا له. (¬3) ما ذكره المؤلف هو أحد الأوجه الإعرابية. والوجه الثاني: أنها جملة مستأنفة. والوجه الثالث: أنها جملة اعتراضية وهذا على جعل "ما" شرطية أو موصولة خبرها "فكلوا" فيكون قد اعترضت بين الشرط وجوابه أو بين المبتدأ وخبره. والوجه الرابع: أنها حال متداخلة أي أنها حال من الضمير المستتر في "مكلبين" فتكون حال من حال وتكون حال مؤكدة. [الإملاء (1/ 207)، الدر المصون (4/ 203)]. (¬4) في "أ": (لا). (¬5) قوله: "من نوقش في الحساب عُذِّب" هو قطعة من حديث أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2204/ 79) من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ" فقلت: أليس قد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ فقال: "ليس ذاك الحساب انما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبَ" والحديث أخرجه أيضًا الترمذي (3337)، والإمام في مسنده (6/ 91 - 127)، والحاكم في مستدركه (4/ 250) وغيرهم.

غير الزانيات {أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ {وَمَنْ يَكْفُرْ} يجحد الإسلام وشرائعه، و (حبوط أعماله) (¬1) إنكاره الثواب ورضاه بأن يجازى على الإسلام. إنما قال: {إِذَا قُمْتُمْ} ليعلم أن الصلاة هي الصلاة المفتقرة إلى الوضوء دون القصد إليها وليعلم أنه شرط في صحة عبادته وليست بعبادة في نفسها (¬2) {إِذَا قُمْتُمْ} عن النوم (¬3). عن ابن عباس وابن زيد: دلّت الآية (¬4) الحال على أنهم محدثين، وممن خصّ المحدثين بالخطاب عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وجابر بن عبدالله وابن عمر (¬5). وصلَّى النبي -عليه السلام- الصلوات كلها يوم فتح مكة بوضوء واحد فقال عمر: فعلت شيئًا يا رسول الله عمدًا؛ فقال: "لتبيين الشرع" (¬6)، ¬

_ (¬1) في "ي": (عمله). (¬2) أي أن الوضوء وسيلة إلى تحقيق العبادة المتمثلة بالصلاة ليستقبل ربه بالطهور الحسين في غسل أعضاء البدن المنصوص عليها شرعًا، مع أن ذات الوضوء عبادة وقربة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأن فيه امتثالًا لأمر الله الذي قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المَائدة: 6] الآية. وفيها من ألفاظ الذكر كالتسمية عند الوضوء والدعاء بعد الفراغ منه وأن العبد يؤجر في هذه العبادة أثناء الوضوء فتتساقط ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، كما جاء في الحديث، فهي عبادة من هذا الوجه. والله أعلم. (¬3) روي ذلك عن زيد بن أسلم والسدي، رواه عنهما الطبري في تفسيره (8/ 156). أما ما ذكره المؤلف عن ابن عباس وابن زيد فلم نجده. (¬4) (الآية) ليست في "ب " "ي". (¬5) أما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فرواه الطبري (8/ 152) قال في هذه الآية: لا وضوء إلا من حدث، وأخرجه عبد الرزاق (167). وأما عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فقال: "صلِّ بطهورك ما لم تحدث"، أخرجه الطبري (8/ 153)، والدارمي (1/ 168)، والطحاوي (1/ 45). وأما عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: لا وضوء إلا على من أحدث. أخرجه الطبري (8/ 153)، وذكره ابن عبد البر في التمهيد (8/ 238). وأما عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - فقال الفضل بن المبشِّر: "رأيت جابر بن عبدالله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بالَ أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين ... " أخرجه الطبري (8/ 156)، وابن ماجه (511). (¬6) لفظ الحديث عن سليمان بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة صلى الصلوات كلها بوضوء واحد فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئًا لم تكن تصنعه. فقال: "عمدًا فعلته يا عمر". أخرجه مسلم (277)، =

ويجوز ترك الفضيلة لبيان الشرع، كتأخير المغرب عند تعليم المواقيت. و (الغسل) إمرار الماء على أعضاء الوضوء، فلولا قوله {فَلَمْ تَجِدُوا} ماء لسقط الوجوب بالغسل بكل مائع و (إلى) بمعنى مع و {الْمَرَافِقِ} اسم لجميع الذراع (¬1) والعضد، (والمسح) إمساس الماء (والباء) للتبعيض كقولك أخذت بزمام الناقة، وقيل: للاستيعاب (¬2) كقوله: {وَلْيَطَوَّفُواْ بِاَلبيتِ العَتِيقِ} [لحج: 29]. وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - (¬3) مسح على ناصيته (¬4) و (الأرجل) الأقدام واحدها رجل {فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} لابتداء الغاية وهو أن يدفع يديه للمسح من الصعيد ويحتمل التبعيض. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إن أجريت الخطاب على العموم فالميثاق المذكرر ما التزمناه عند الدخول في الإسلام أو حين عقلنا الإسلام (¬5) أو ما ¬

_ = وأبو داود (172)، والترمذي (61)، والنسائي (133)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 358)، وابن خزيمة (12)، والدارمي (1/ 169) وغيرهم. (¬1) قال الزجاج: المرفق في اللغة ما جاوز الأَبره وهو المكان الذي يرتفق به، أي يتكأ عليه على المرفقة - أي الوسادة - وهو حد ما ينتهي إليه في الغسل منها. فإلى بمعنى مع كما قال أهل اللغة. [(معاني القرآن (2/ 153)]. (¬2) وقيل إن الباء للإلصاق أي: أَلْصقوا المسح برؤوسكم قاله الزمخشري، وقيل: الباء زائدة فهي كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [لبَقَرَة: 195] ومنه قول الراعي النميري، وقيل لقتال وهو قول الكلابي: هُنَّ الحرائرُ لا رَبَّاتُ أَحْمِرَةٍ ... سُودُ المَحَاجِرِ لا يقرأْنَ بالسُّوَرِ وهذا ظاهر كلام سيبويه. وقال الفراء: تقول العرب "خذ الخطام، وخذ بالخطام". وأما ما ذكره المؤلف من أنها للتبعيض فيشهد له قول أبي ذؤيب الهذلي: شربنَ بماء البحر ثم ترفعت ... متى لججٍ خُضْرٍ لهنَّ نئيجُ أي شربن من ماء البحر. [الكتاب (1/ 37)، الكشاف (1/ 597)، معاني القرآن للفراء (2/ 165)، ديوان الهذليين (1/ 51)]. (¬3) في الأصل: (-عليه السلام-)، وفي "ي": (عليه). (¬4) رواه الشافعي في مسنده (14). (¬5) وهو اختيار عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، رواه عنه ابن جرير الطبري (8/ 220)، وأخرجه الطبراني في معجمه (13031)، ورجحه الطبري في تفسيره، وابن كثير (2/ 41).

أخذ الله بقوله علينا (¬1) قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وقيل: الخطاب للمؤمنين من اليهود، و (الميثاق) ما أخذ الله عليهم في التوراة (¬2)، وقيل: الخطاب لأصحاب الشجرة أو لأصحاب العقبة، والميثاق هي البيعة المأخوذة منهم {بِذَاتِ الصُّدُورِ} الضمائر، سمي للعرض هاهنا ذا جوهر، والجوهر في سائر المواضع ذا عرض فقال سبحانه وتعالى: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] و {ذَاتِ قَرَارٍ} [المؤمنون: 50] و {ذَاتِ الشَّوْكَةِ} لاتساع لفظ (ذا) وإطلاقه على جميع ما ينطلق عليه اسم الشيء؛ وهو إذا أضيف إلى شيء أعربه وخرج عن كونه مشارًا إليه، وهو عند الإضافة هو المضاف إليه في الحقيقة دون ما أضيف إليه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في النبي -عليه السلام- ذهب إلى اليهود يستقرضهم شيئًا في تحمل الدية فهمّوا بقتله فأنزل الله (¬3)، وقيل: هي في صدّ قريش، و (العدل مع الكفار) أن لا يجاوزوا بالمثلة وقتل (¬4) النساء والصبيان، والمقابلة بالبهتان {هُوَ} عائد إلى القتل، والتفضيل وقع على غير العدل مما ذكرنا. {وَعَدَ اللَّهُ} المغفرة والأجر العظيم، وإنما ارتفع على الابتداء أو على أنه خبر اللام ولم ينتصب (¬5) لأنه جاء محكيًا إذْ الوعد كالقول (¬6). ¬

_ (¬1) وهذا قول مجاهد رواه ابن جرير (8/ 220)، تفسير مجاهد (302)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 265) إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 41) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) أخرجه ابن جرير (8/ 228) عن عبد الله بن كثير. وانظر: سيرة ابن هشام (3/ 183)، والبداية والنهاية لابن كثير (5/ 528) وسنده ضعيف ففيه ضعيفان ومدلس. (¬4) في "ب" "ي" والأصل: (وقيل). (¬5) في الأصل: (ينصب). (¬6) إجراء الوعد مجرى القول هو مذهب كوفي ويجعل "وعد" واقعًا على الجملة التي هي قوله "لهم مغفرة". و"وعد" تتعدى لاثنين، الأول: الاسم الموصول، والثاني: محذوف. وجملة "لهم مغفرة" مفسرة لذلك المحذوف وهي الجنة وقد صرح بها في آية التوبة (72) في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [التوبَة: 72] الآية. =

{وَالَّذِينَ} الواو للاستئناف {أُولَئِكَ} مبتدأ آخر مع خبره، خبر المبتدأ الأول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} عن جابر أن العرب همّوا (¬1) باغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعثوا إليه أعرابيًا ورسول الله نازلٌ تحت شجرة علّق فيها سلاحه وقد تفرق عنه أصحابه مستظلين تحت العضاة (¬2)، ففجئه الأعرابي شاهرًا سيفه وقال: مَنْ يمنعك مني؟ قال: "الله"، وكرر الأعرابي كلامه ثالثًا وكرر النبي -عليه السلام- (¬3) جوابه، فصرف الله المخذول عنه فرجع خائبًا فأنزل (¬4)، وعن ابن عباس: أن اليهود صنعوا طعامًا ودعوا رسول الله يريدون به القتل فأعلمه الله وصرف كيدهم (¬5)، ثم ذكر منّته على المؤمنين بذلك، وعن مجاهد والسدي وأبي مالك وعكرمة أنه -عليه السلام- كان صالح اليهود من قريظة والنضير على أن يقرضوه إذا استقرضهم فيما يحتاج إليهم من الديات، ثم إن عمرو بن أمية الضمري قتل قتيلين من الأسلميين خطأ، فذهب النبي -عليه السلام- (¬6) معه أبو بكر وعمر وعلي إلى بني قريظة يستقرضهم شيئًا في دية القتيلين، فقالوا: مرحبًا بأبي القاسم، ثم قالوا: إخواننا بنو النضير لا نقضي دونهم شيئًا ترجع اليوم وتأتينا يوم كذا، ثم تآمروا فيما ¬

_ = وذكر الزمخشري في جملة "لهم مغفرة": يجوز أن تكون بيانًا للوعد أو منصوبة بقول محذوف، التقدير - قال لهم مغفرة - أو أنه أجري الوعد مجرى القول كما هو مذهب الكوفيين. [الكشاف (1/ 598)، الدر المصون (4/ 218)]. (¬1) في الأصل "ب ": (هو). (¬2) العضاة: شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عِضة بالتاء، وقيل: واحدته: عضاهة [النهاية (3/ 255)]. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) القصة في البخاري ومسلم دون ذكر سبب نزول الآية أما سبب نزول الآية ففي عبد الرزاق في تفسيره (1/ 85)، وعبد بن حميد (1080)، وابن جرير (8/ 232، 233)، والبيهقي في السنن (3/ 374)، وأبي نعيم في "دلائل النبوة" (152). (¬5) رواه أبو نعيم في "الدلائل" (425)، وابن جرير (8/ 231)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 266) إلى ابن أبي حاتم. (¬6) (السلام) ليست في "ي".

بينهم وأجمعوا على الفتك به يوم الميعاد، فلما أتاهم يوم الميعاد أجلسوه مع أصحابه في صفة وخرجوا يرفعون الأسلحة وينتظرون كعب بن الأشرف وكان غائبًا، فلما كاد يتم كيدهم أطلع الله نبيه على ذلك فخرج ولم يُعلم أحدًا من (¬1) أصحابه لئلا يقابلوهم بالشر، ثم (¬2) خرج (¬3) واحد بعد واحد في أثره فأنزل الله الآية (¬4). وسبب اختلاف الرواة في مثل هذه الآية غيبتهم عن النبي -عليه السلام- وقت النزول ومشاهدتهم إياه يتلوها في حادثة مثل ما نزلت فيه، وكانوا يظنون أنها نزلت في (¬5) ابتداء {هَمَّ} أراد وقصد {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أن يصيبوكم بمكروه ويبسطوا عليكم يقال: بسط يده بسطًا، ومنه قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 93] وقال هابيل لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} [المائدة: 28]. (النقيب): فوق التعريف سمي نقيبًا لكونه بالمرصاد من قومه لا ينفذ لهم أمر دونه (¬6)، والنقب الطريق (¬7). والنقباء اثنا عشر الذين اختارهم موسى -عليه السلام- وبعثهم عيونًا إلى العمالقة فنصح لله اثنان وخان عشرة، وقيل: هم كفلاء الأسباط وضمناؤهم، وكان لكل سبي كفيل وضمين، وقيل: هم ملوك بني إسرائيل منهم من أوفى بالعهد ومنهم من نقض العهد (¬8) {إِنِّي مَعَكُمْ} ¬

_ (¬1) (من) ليست في "أ". (¬2) (ثم) ليست في "ب". (¬3) (خرج) ليست في "ب". (¬4) أما عن مجاهد فرواه ابن جرير (8/ 228). وأما عن السدي وأبي مالك فعند ابن جرير كذلك (8/ 231)، وأما عن عكرمة فرواه ابن جرير (8/ 230 - 231). (¬5) (في) من "ي" "ب". (¬6) في "ي" "ب": (ليردونه). (¬7) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1/ 156): النقيب هو الأمين الضامن على القوم، وهو قول الربيع بن أنس. وهو الذي يفتش عن أحوال القوم وأسرارهم ومنه قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: 36]. (¬8) أخرج الطبري (8/ 241) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المَائدة: 12] قال: هم من بني إسرائيل، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة، =

بالموالاة قبل التحريف والتبديل، والخطاب لبني إسرائيل، و (تعزير الرسل): موافقتهم ومظاهرتهم، وقيل: تعظيمهم وتوقيرهم. {لَأُكَفِّرَنَّ (¬1)} جواب لقوله: {لَئِنْ}. {وَنَسُوا} تركوا (¬2)، وقيل: تغافلوا حتى خفي عليهم وذهب عنهم عمله. {تَطَّلِعُ} افتعال من الطلوع وهو الوقوف على الشيء، و (الخائنة): الخائن دخلت الهاء للمبالغة، وقيل: صفة للطائفة، وقيل: مصدر كالعاقبة والكاذبة، وخيانتهم مكرهم (¬3) {إِلَّا قَلِيلًا} عبد الله بن سلام وأصحابه {فَاعْفُ} اترك محاربتهم ما لم يظهروا عدوانهم، وقيل: الآية منسوخة بقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً (¬4)} [الأنفال: 58] الآية. {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} دليل أنهم لُقِّبُوا بهذا اللقب مبتدعين من عند أنفسهم (أغرينا) هيجنا وسلطنا بينهم؛ بين فرق النصارى، فتفرقوا اثنتين وسبعين فرقة، وقيل: بين اليهود والنصارى، وأسباب المودة والعداوة وغيرهما لا تنقطع إلا يوم القيامة فيومئذ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص: 66]، وكانت أفئدتهم هواء {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} تهديد {يَصْنَعُونَ} يفعلون. ¬

_ = فانطلقوا. فنظروا إلى المدينة، فجاؤوا بحبةٍ من فاكهتهم، وِقْرَ رجلٍ فقالوا: اقدروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم فعند ذلك فتنوا، فقالوا: لا نستطيع القتال. اهـ. وعزا السيوطي هذا الأثر في الدر المنثور (2/ 267) إلى ابن أبي حاتم، وظاهر القرآن يشهد أنهم نقضوا الميثاق ولذا جعل الطبري محذوفًا في الكلام، وقدر الكلام بدلالة الظاهر عليه فيكون المعنى: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل، فنفضوا الميثاق، فَلعَنْتُهم، فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم. (¬1) المثبت من "أ"، وفي جميع النسخ (لأن كفرن). (¬2) في الأصل: (نزلوا) وهو خطأ. (¬3) الأظهر أن "خائنة" بمعنى خيانة وهو قول قتادة [أخرجه عنه عبد الرزاق بـ "سند صحيح"]. واختاره الزجاج وقال: فاعله في أسماء المصادر كثيرة، نحو عافاه الله عافية وكقوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5]، وقد يقال: رجل خائنة كقول الشاعر: حَدَّثْتَ نفسك بالوَفَاءِ ولم تكنْ ... للغدرِ، خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ فقال: خائنة على المبالغة لأنه يخاطب رجلًا. [معاني القرآن للزجاج (2/ 160)]. (¬4) (خيانة) ليست في "أ".

{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ترك بيان ما بدلوه من الفروع في شرائعهم لم نؤمر به ولا نهينا عنه في شريعتنا، وقيل: عفوه عن كثير كان معلقًا بشرط الإسلام فإن الإسلام يهدم ما قبله. {نُورٌ} نبينا (¬1)، وقيل: الكتاب. {رِضْوَانَهُ} نصب بـ (اتبع) و {سُبُلَ (¬2) السَّلَامِ} بأنه مفعول ثان للهداية (¬3) والمفعول الأول {مَنِ اتَّبَعَ}، وذلك من ابتغى رضوان الله بمحافظة الواجبات العقلية هداه الله بالوحي طريق السلام وهي ما وعد الله عليه الجنة من الفروع السماعية مثل دار السلام، والسلام اسم الله، وقيل: السلامة عن الآفات، وإنما ذكر (ليخرجهم من الظلمات إلى النور) لينبه على التوفيق بعد الهداية، ثم بيّن أن سُبل (¬4) السلام تؤدي إلى العدل والحق وذكر اللفظين تأكيدًا. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (¬5)} دخل فيها كل نصراني اعتقد أن المسيح أو شيء فيه حادث (¬6) غير محدث أو ادعى ثلاث أقنومات أو أقنومين {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لا يقدر أحد صرف مشيئة الله وإرادته، وقيل: إن هلاك (¬7) المسيح وأمه متصور. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وإنما خصّ لاستيعاب غاية جهات ¬

_ (¬1) في "أ" "ب": (-عليه السلام-). (¬2) في "ي": (سبيل). (¬3) ويجوز في "سبل السلام" أن ينتصب على أنه بدل من "رضوانه" إما بدل كل من كل؛ لأن "سبل السلام" هي من رضوان الله تعالى، وإما بدل اشتمال؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام، وإما بدل بعض من كل؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان، قاله السمين الحلبي. [الدر المصون (4/ 229)]. (¬4) في "ي" "ب": (سبيل). (¬5) (ابن مريم) من الأصل. (¬6) (حادث) من "ب". (¬7) في "أ": (إهلاك).

فوق و (¬1) غاية جهات تحت {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الحيوان والنبات وغيرهما (¬2) {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يدل على أنه يخلق اختيارًا واقتدارًا من غير احتياج واضطرار (¬3). {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إنما ادعوا البنوة لما رأوا أن الله سبحانه وتعالى قال ليعقوب -عليه السلام-: ولدك بكر ولدي، فإن صح فتأويله عندنا إضافة مُلك، كما يقول صاحب الماشية: تاجي ورسلي، ثم أن بعضهم قال: ولد الله وبعضهم قال: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] فكذب الله الطائفتين بكونهم بشرًا مدبرين مقهورين، ودعواهم المحبّة مبنية على دعواهم الأولى، والتعذيب بالذنب لا ينافي المحبّة لجواز أن يكون إرادة للخير، قال الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] {مِمَّنْ خَلَقَ} من جنس سائر الناس. {يُبَيِّنُ لَكُمْ} على وجه الحال تبيينًا لكم ما لا يتبين بالعقل دون السماع {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} على حين فترة: يعني مدة ما بين عيسى ونبينا عليهما السلام. ولد عيسى -عليه السلام- في الشام في ولاية هوادش الإسرائيلي وهو والٍ من تحت يد قيصر، فخافته مريم فاحتملته إلى ناصرة فنشأ هناك وكان الزمان زمان الطوائف بعد الإسكندر، وقيل: أن جرجيس كان بعد عيسى وكان تلميذًا لبعض الحواريين، وقيل: الفترة ما بين جرجيس ونبينا -عليه السلام- وهذا (¬4) ليس بسديد لأن جرجيس لم يوصف بالرسالة واختلف في نبوته (¬5)، وقيل: الفترة ما بين الثلاثة المرسلين الذين قصتهم في سورة يس ونبينا -عليه السلام-، وقيل: الفترة ما بين خالد بن سنان العبسي ونبينا -عليه السلام-، ولا ¬

_ (¬1) (غاية جهات فوق و) ليست في "أ". (¬2) في "أ": (وغيرها). (¬3) (واضطرار) ليست في "ب". (¬4) في "أ": (وهكذا). (¬5) من قوله (أن جرجيس) إلى قوله (في نبوته) ليست في "ب".

يعلم كميّة سنين الفترة أحد حقيقة إلا الله آمنا بالله وبجميع أنبيائه (¬1). أرسل نبينا -عليه السلام- {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} ختم به النبوة فلا نبي بعده {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} فإن الله تعالى حسم بإرسال الرسل احتجاجًا باطلًا، لو لم يرسل لما كانت للناس حجة صحيحة، والخطاب هاهنا لأهل الكتاب ولا خلاف في وجوب الإيمان عليهم. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} العامل في (إذ) قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى} والعامل في (إذ) (¬2) الثانية ما في النعمة (¬3) من معنى الإنعام {فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} موسى وهارون ومن بعدهما من الأسباط {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} باستيلاء يوسف على مصر. ثم يردهم إلى ما ترك آل فرعون من جنات وعيون {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} ابتلاء آل فرعون بأنواع من العذاب لألجهم وفرق البحر وأنزل التوراة في الألواح إليهم ومناجاة السبعين منهم والتوبة عليهم حين اتخذوا العجل. {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا} حين خرج بهم (¬4) من مصر غازيًا غير هاربٍ وهي الخرجة الثالثة له والثانية لقومه {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أوجب الله لكم ملكها ميراثًا من أبيكم إبراهيم، وقالوا بعد ما رجعت (¬5) العيون إليهم وهم ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره الخلاف في مقدار هذه الفترة التي هي ما بين نبي الله عيسى -عليه السلام- ونبينا محمد -عليه السلام-، فنقل عن أبي عثمان النهدي وقتادة أنها ستمائة سنة ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وهناك أقوال أخرى في تحديد المدة الزمنية عن الضحاك والشعبي. وأما ما ذكره المؤلف أن الفترة ما بين خالد بن سنان ونبينا محمد، وحكاه القضاعي وغيره، فهو مردود، كما قاله الحافظ ابن كثير وغيره، فخالد بن سنان ليس بنبي كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا قال: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا؛ لأنه لا نبي بيني وبينه". [الطبري (8/ 275)، تفسير ابن كثير (2/ 47)]. (¬2) (إذ) ليس في "أ". (¬3) في الأصل و"ي": (النقمة) وهو خطأ. (¬4) (بهم) من "أ" "ي". (¬5) في الأصل: (بعده أربت) وهو خطأ.

اثنا عشر نقيبًا من اثني عشر سبطًا بعثهم موسى -عليه السلام- ليأتوه (¬1) بأخبار (¬2) الجبابرة وهم: العمالقة، وقيل: كانوا من ولد روم بن عيصو بن إسحاق وأوصاهم أن لا يقولوا إذا رجعوا إلا ما يزيدهم حرصًا وإقدامًا، فذهبوا وأقاموا بين الجبابرة أربعين يومًا يتعرفون مداخل الأمر ومخارجه، فلقيهم رجل من العمالقة فجعلهم في كساه وذهب بهم إلى مَلِكِهم فألقاهم بين يديه، فتعجب الملك منهم وحذرهم وصرفهم إلى موسى -عليه السلام- وزودهم شيئًا من ثمارهم، قيل: أحمل أربعة (¬3) منهم عنقودًا واحدًا من العنب، وأربعة منهم نصف رمان، فلما حصلوا في معسكر بني إسرائيل خالفوا موسى -عليه السلام- وذكروا من عظم أجسام القوم وشأنهم (¬4) ما هال بني إسرائيل إلا رجلان يوشع بن نون وكالوب بنيوفنا فإنهما ذكرا كثرة النعمة وشدة خوف العدو وما فيهم من الفشل والجبن، فتمكن الخوف في قلوب بني إسرائيل بقول العشرة وخرجوا عن أمر موسى -عليه السلام- (¬5). وقالوا {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أقوياء عظام الأجسام. وقد يكون الجبار بمعنى العاتي وبمعنى القاهر (¬6)، قيل: إنهم كفروا بذلك القول، وقيل: لم يكفروا لأنهم لم يمتنعوا عن الدخول (¬7) أصلًا ولكن جادلوه على سبيل ¬

_ (¬1) في "أ" لا توجد (ليأتوه). (¬2) في "ب": (بخبر). (¬3) في الأصل: (أحل أربعة). (¬4) في "أ" "ب": (وشوكتهم). (¬5) روى تفاصيل هذه القصة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أخرجها عنه الطبري في تفسيره (8/ 290)، وفي تاريخه (1/ 428). (¬6) في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المَائدة: 22] الجبارين قال أبو الحسن اللحياني: أراد الطول والقوة والعِظَم، وقد يراد به القَتَّال بغير حق كما في قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} [الشعراء: 130]، وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} [القَصَص: 19] وقد يراد به المتكبر عن عباد الله كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريَم: 14] وأما وصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالجَبَّار، فالمراد به القاهر خلقه على ما أراد. [تهذيب اللغة (11/ 58)، المحكم (7/ 406)]. (¬7) (عن الدخول) ليست في "ب".

المشاورة كما جادل المؤمنون نبينا -عليه السلام- حين أراد الخروج إلى بدر يدل عليه قوله: {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}. {قَالَ رَجُلَانِ} يوشع بن نون وغالب بن يوفنا {يَخَافُونَ} أي يخافون الله في مخالفة أمره، مثل موسى وهارون - عليهما السلام - (¬1)، وقيل: من الذين يخافون العمالقة لم يتشككوا في وعد الله، وقيل: الرجلان رجلان من العمالقة آمنا بموسى في السرّ وكانا يخبرانه بأخبار قومهما ويحرضان بني إسرائيل عليهم وهذا من العمالقة كانوا يخافون بني إسرائيل. {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا} نفي في المستقبل نظير (قط) في الماضي (¬2) {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} يدل على جهلهم وكفرهم (¬3) {قَاعِدُونَ} خبر {إِنَّا} ورفع الأنفس. {وَأَخِي} وإنما استثنى أخاه دون الرجلين المنعم عليهما؛ لأن أخاه كان رسولًا معصومًا ما فرق في الأحكام العقباوية، وقبل أن يخرجه من بينهم فأجاب الله دعوته وأخرجه من بينهم ومكنه (¬4) من عوج بن عنق، وقيل (¬5): لا ¬

_ (¬1) الرجلان هما يوشع بن نون فتى موسى وكالب أو كالوب بن يوفنا ختن موسى، حيث رجع النقباء كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم، إلا يوشع وكالوب يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وقتادة. رواه عنهم الطبري في تفسيره (8/ 296). (¬2) قوله: "أبدًا" ظرف زمان منصوب متعلق بـ "ندخلها" وهي هنا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، قاله الزمخشري. [الكشاف (1/ 604)، إعراب القرآن لمحيي الدين الدرويش (2/ 446)]. (¬3) وصحابة نبينا محمد -عليه السلام- تنزهوا عن هذه الإجابة فقد روى البخاري في صحيحه (8/ 122 - كتاب التفسير) عن عبد الله بن مسعود قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن امض ونحن معك، فكأنه سُرِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) في "ب": (ومكنهم). (¬5) في "ب": (وقال).

تحبسنا في التيه معهم (¬1)، ولذلك روي أنه وأخاه يقدران على الخروج ولكنهما كانا يلزمان قومهما لأنهما كانا مبعوثين إليهم. قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا} يعني (¬2) الإرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} تحريم كينونة لا تحريم شرع {أَرْبَعِينَ سَنَة} نصب على الظرف للتحريم {يَتِيهُونَ} يحارون (¬3) ويضلون، قال: الأرض (¬4) تنبيه وبلاد تيه (¬5) {فَلَا تَأْسَ} فلا تحزن، وإنما سماهم (فاسقين) تصديقًا لموسى -عليه السلام- وليكون أبلغ في تسليته. {ابْنَيْ آدَمَ} قابيل وهابيل، قال وهب: إن آدم كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وكان الرجل منهم يتزوج أخته توأمته، فأبى قابيل أن يتزوج (¬6) توأمته أخوه هابيل وقال: أنا أحق بها، فغضب آدم وقال: اذهبا وتحاكما إلى الله بالقربان فأيكم قُبل قربانه فإنه (¬7) هو أحق بها، فقربا القربان (¬8) بمنى، فنزلت نار فرفعت قربان هابيل ولم ترفع قربان قابيل، فازداد قابيل غيظًا وحسدًا فاغتال هابيل فرضخ رأسه بحجر وهو نائم واحتمل توأمته وذهب بها إلى واد من أودية اليمن في شرقي عدن، فكمن ¬

_ (¬1) (معهم) ليست في "ب". (¬2) في "ب": (أي). (¬3) في "أ": (مجاورون). (¬4) في "ي" "ب": (أرض). (¬5) روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - فيما أخرجه الطبري عنه (8/ 310) قال: قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لما دعا موسى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله، قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتح يوشع المدينة. اهـ. ومعنى يتيهون كما قال الطبري وتبعه المؤلف: يحارون فيها ويضلون ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق تائه. [الطبري (8/ 315)]. (¬6) في "أ": (يزوج). (¬7) (بأنه) من "أ". (¬8) في الأصل و"ي": (القرآن).

فيه، ووجد آدم هابيل قتيلًا وقد نشقت الأرض دمه، فلعن الأرض، فمن أجل لعنته -عليه السلام- تنشقت الأرض وأنبتت الشوك (¬1). وقيل: لما أراد آدم -عليه السلام- أن يخرج إلى حج بيت الله تعالى استحفظ السماء أهله فأبت، واستحفظ الأرض فأبت، واستحفظ الجبال فأبين، وقبلهم قابيل على أمانة الله تعالى ثم خان الأمانة فاغتال هابيل، ورأى آدم -عليه السلام- الشجر قد اشتاكت والماء قد ملح والأرض قد تغيرت عن بهجتها فأنكرها وأحسّ بشرِّ، فلما رجع إلى أهله لم يجد هابيل فعلم أنه مقتول. قال عمر لكعب: أي ابني آدم نسل؟ قال: ليس لأحدهما نسل أما المقتول (...) (¬2)، وأما القاتل فهلك نسله في الطوفان، فالناس من بني نوح ونوح من بني شيت، وفي التوراة أن شيت بدل من هابيل وخلف منه، وقيل (¬3): اسم توأمة قابيل أمليما واسم توأمة هابيل لبودا (¬4). وكان قابيل صاحب حرث وقربانه شيء من شر زرعه، وهابيل كان راعي غنم وقربانه كان: حمل (¬5) سمين ولبن وزبد، وقيل: الكبش العظيم الذي فداه ابن إبراهيم -عليه السلام- به هو ذلك الحمل (¬6) الذي كان يقرب به هابيل، وعن الحسن والضحاك أن ابني آدم رجلان من بني إسرائيل (¬7) نسبهما إلى أبيهما الأعلى كما نسبنا إليه، وقال: يا ابني آدم قابيل {لَأَقْتُلَنَّكَ} وهو يدل على قسم مضمر فقال هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ} من الذين يتقون مخالفة الله في التزويج. ¬

_ (¬1) تفاصيل سبب هذه القصة رواها أيضًا ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود - رضي الله عنه -. أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (8/ 322). (¬2) ما بين (...) كلمة ممسوحة في جميع النسخ. (¬3) في الأصل: (قيل). (¬4) في "أ": (أبودا). (¬5) في "أ"؛ (جمل). (¬6) في "أ": (الجمل). (¬7) أما عن الحسن فرواه ابن جرير (8/ 324) وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 85): وهذا غريب جدًا، وقد خطّأ ابن جرير هذا القول. وأما عن الضحاك فلم أجده.

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} قال هابيل: وإنما لم يبسط إليه يده (¬1) لأنه توعده بالقتل ولم يقاتله جهرًا فأخبره بذلك ليستميله بذلك ويدعه إلى السلم وينبهه على عظم وبال القتل، وقيل: إنهم كانوا متعبدين بترك الدفع. {بِإِثْمِي} أي بإثم قتلي {وَإِثْمِكَ} أي: وإثم ما ارتكبته وعصيان في التزويج (¬2) (والإثم) هاهنا: وبال الفجور، فلا إثم عليه، فلا وبال عليه. {فَطَوَّعَتْ لَهُ} أي: جعلت القتل فعلًا متأنيًا سهلًا طوعًا {فَأَصْبَحَ} صار، وكان {مِنَ الْخَاسِرِينَ} المغبونين (¬3) بذهاب الدنيا والآخرة، روي أن آدم -عليه السلام- دعا عليه وقال له: كن خائفًا لا يلقاك أحد إلا خفته، فصار يفر ويتوحش وكل من رآه رماه بحجر حتى قتله (¬4) بعض ولد ولده، وعن علي بن الحسن بن علي قال: أوّل دم وقع على الأرض دم حواء من حيضها وقتل يومئذ سدس الدنيا يعني هابيل؛ لأنه كان أحد الستة من أبويه وأخيه وأختيه وكأنه لم يكن لآدم -عليه السلام- يومئذ ولد غيرهم، قال: ووكل بقابيل ملكان يطلعان به مع الشمس ويغربان (¬5) به مع الشمس وينضحانه بالماء الحار إلى يوم القيامة (¬6). {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} قيل إن الله تعالى بعث غرابين وقيض أحدهما ليقتل الآخر فقتله ثم واراه في التراب و (البحث) رفع ظاهر الأرض ¬

_ (¬1) (يده) ليست في "ب". (¬2) قال الطبري (8/ 332): الصواب من القول بإجماع أهل التأويل عليه في قوله: "أن تبوء بإثمي وإثمك" إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك معنى قوله "إثمي"، وأما معنى "إثمك" فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصية الله جل ثناؤه في أعمال سواء لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائزٍ أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل. اهـ. (¬3) (المغبونين) ليست في "ب". (¬4) (قتله) ليست في "ب" "ي". (¬5) في "ب": (وينزلان). (¬6) لا نعلم دليلًا صحيحًا صريحًا على ما ذكره المؤلف وصريح القرآن لم يشر إلى مثل ذلك.

لكشف باطنها {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} ليدله وينبهه على قبر أخيه فإنه لم يقبر أحد قبل هابيل، عن ابن عباس: أنه بقي معه سنة (¬1)، وعن مجاهد أنه بقي معه مائة سنة (¬2)، وقيل: مائة يوم لا يدري ما يصنع به وكيف يخفيه، وإن أجرينا على قول الحسن والضحاك فمعناه ليذكر قتل أخيه فإنه تحيّر ودهش ونسي (¬3) القبر، والأول أصح. و (السوأة) (¬4) العورة (¬5) سميت سوأة لأنها تسوء الرائي وتوحشه، وأراد هاهنا: الجسد كله {يَا وَيْلَتَا} نداء للويلة، والويل والويلة بمعنى، والألف في ويلتى إما للندبة أصله يا ويلتاه، وإما بدلًا من الإضافة وأصله يا ويلتي بترقيق الياء، والمقصود بنداء ما لا يجب تنبيه للنفس أو السامعين على فوق ذلك الشيء وأوانه (¬6) {أَعَجَزْتُ} استفهام بمعنى التعجب، والعجز عن القدرة كالموت من الحياة، قيل: هو عدمها، وقيل: هو معنى يضادها و (أصبح) صار {مِنَ النَّادِمِينَ} على قتله. وإنما لم ينفعه الندامة لقوله -عليه السلام-: "ثلاث لا تقبل توبتهم: إبليس رأس الكفرة، وقابيل رأس القتلة، ومن قتل نبيًا أو قتله نبي" (¬7) والندامة لم تكن توبة لهم ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (8/ 341) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: قال ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة حتى بعث الله - عز وجل - الغرابين فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟ فدفن أخاه. (¬2) أخرجه عنه الطبري (8/ 343) وعزاه ابن كثير (3/ 84) إلى ابن أبي حاتم. (¬3) في الأصل: (وبمعنى). (¬4) في "ي": (السواة). (¬5) قال الليث: السَّوْء فرج الرجل والمرأة ومنه قوله تعالى: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعرَاف: 22] واللفظة لها عدة استعمالات منها ما ذكره المؤلف واقتضاه سياق الآية. [تهذيب اللغة (13/ 133)]. (¬6) قلب ياء المتكلم ألفًا لغة فاشية في المنادى المضاف إليها كما في هذه الآية: {يَا وَيْلَتَا} [المَائدة: 31] والنداء وإن كان أصله لمن يتأتى منه الإقبال وهم العقلاء إلا أن العرب تتجوز فتنادي ما لا يعقل، والمعنى: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك ومنه قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} [الزمر: 56]. [البحر (3/ 466)، الدر المصون (4/ 245)]. (¬7) هذا الحديث لم أجد له مصدرًا فيما بين يدي من المصادر والمراجع.

كالذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل، وقيل: ندم عند معاينة البأس وحلول العذاب. {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} من جراه وجرايته وجريرته وخيانته {ذَلِكَ} إشارة إلى القتل {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: بغير قصاص عن نفس {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يبيح الدم كزنا المحصن والارتداد ومحاربة الله ورسوله في التلصص أو الكفر {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} لأنه قد سبب قتلهم وسن بسنة القتل وقتل جميع المقتولين دون غيرهم {وَمَنْ أَحْيَاهَا} سبب حياتها بفداء ودواء أو نصرة أو عفو، وإنما قال أحيا الناس لئلا يكون الثواب أقل من العقاب {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يعني بني إسرائيل. {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} اتصالها بما قبلها من حيث القتل. قال ابن عباس: نزلت في شأن المشركين وحكمها بتناول المسلمين إلا في خصلة واحدة (¬1)، وهي التوبة قبل القدرة فإنها مختصة بالكفار، عن ابن عباس: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} تعني يحاربون أولياء الله، والعقوبات مرتب على الجزاء، ثم إن أخافوا (¬2) الطريق نفوا من الأرض، وإن أخذوا المال (¬3) ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا، وإن أخذوا المال (¬4) وقتلوا قتلهم الإمام وصلبهم وله أن يقطعهم ثم يقتلهم ثم يصلبهم ليكون القطع ثأر الأخذ والقتل ثأر القتل والصلب للجمع بين المحظورين، والنفي عندنا بالحبس حيث (¬5) يستصوبه الإمام، والصلب بعد (¬6) القتل. وروى الحسن بن زياد وعن أبي حنيفة أنه ¬

_ (¬1) أبو داود (4372)، والنسائي (4057). (¬2) في "ب": (خافوا). (¬3) في "أ": (المال لا يوجد السفر كله ولم). (¬4) (المال قتلوا وإن أخذوا المال) ليست في "أ". (¬5) (حيث) ليست في "أ". (¬6) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما أخرجه عنه الطبري في تفسيره (8/ 373)، والبيهقي (8/ 283) قال: إذا حارب فقتل فعليه القتل إذا ظُهِرَ عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصَّلْبُ إن ظُهِرَ عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخذ ولم يقتل فعليه =

يصلب حيًا ثم يطعن في نحوه، وإن أخذوا مالًا ولم يخص كل واحد عشرة دراهم لم يقطعوا وضمنوا المال، ومن يغلب في الأمصار فقتل ونهب لم يكن حكمه حكم قطاع الطريق، قوله {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يدل على أن عقوبتهم [من غير توبة لم تقع طهرة له ولذلك لا يصلى عليهم. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الاستثناء رفع حكم قطاع الطريق دون غيره] (¬1) من الضمان والقصاص والأرش، وقيل: على توبة الحارث بن زيد، وقال أبو موسى الأشعري وأبو هريرة: توبة فلان الأسدي. {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} القربة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ وخبره جملة من شرط وجواب، فالشرط لواو الجواب واو اللام مقدرة. وروي عن أبي حنيفة عن يزيد بن صهيب عن جابر بن عبد الله قال: سألته عن الشفاعة قال: يعذب الله أقوامًا من أهل الإيمان ثم يخرجهم بشفاعة محمد -عليه السلام-، قلت: فأين قوله {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}؟ قال: هي (¬2) في الذين كفروا وقرأ ما قبلها (¬3) {يُرِيدُونَ} يتمنون {أَنْ يَخْرُجُوا}، {عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم مستمر. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن ¬

_ = قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِرَ عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخاف السبيل فإنما عليه النفي. (¬1) ما بين أ، من "ب" "ي". (¬2) (هي) ليست في "ب". (¬3) أصل هذا الأثر في مسلم (191) عن يزيد الفقير عن جابر، ويزيد الفقير هو يزيد بن صهيب، لكن الآية المستشهد بها تختلف عن هذه فقد ذكر فيِ رواية أخرى كذلك مسلم وغيره أنه استشهد بقوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عِمرَان: 192] وقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]. واستدلال المؤلف برواية أبي حنيفة دليل آخر على حنفيته، وأنه ليس بالجرجاني.

الآية نزلت في طعمة بن أُبيرق سارق الدرع (¬1)، فتحتمل أن امرأة كانت معه {أَيديَهُمَا} واحدة من كل واحد منهما لأن العضو الواحد إذا أضيف إلى اثنين جمع كقوله {فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يدل عليه قراءة ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما} (¬2) ولكل إنسان يمين واحد. [{فَمَنْ تَابَ} من السارق والسارقة وألفاظ (¬3) العموم (من) فيمن يعقل (¬4) و (ما) فيما لا يعقل (¬5)، وأي: وكل واحد] (¬6) ومن أحد والذي إذا كان بمعنى الشرط ولام التعريف إذا لم تفد المعهود والتنكير في النفي. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر التصرف في المماليك بالقتل والقطع والصلب على سبيل المجازاة. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ} نزلت في المرجفين من اليهود والمنافقين منهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر الأنصاري قال لبني قريظة بلسانه: انزلوا، وأشار إلى حلقه (¬7) بيده ينذرهم بالذبح حين استنزلهم (¬8) رسول الله على حكم معاذ (¬9)، وقال: تاب أبو لبابة هذا بعد ذلك وقال: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله (¬10) {لَا يَحْزُنْكَ} لا يغمك، نهي ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 348). (¬2) أخرج هذه القراءة عن ابن مسعود الطبري في تفسيره (8/ 407)، وسعيد بن منصور في سننه (737)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 280) إلى ابن المنذر وأبي الشيخ. (¬3) في "أ": (واللفظ). (¬4) في "أ": (يفعل). (¬5) في "أ": (يفعل). (¬6) ما بين [...] لا توجد في الأصل. (¬7) في "أ": (حقه). (¬8) في الأصل: (استهزلهم). (¬9) الصواب - على حكم سعد بن معاذ - وسبب النزول هذا أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 413)، وابن أبي حاتم (6353)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 283) إلى أبي الشيخ. (¬10) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 357)، وعزاه إلى السدي ومقاتل.

إلى غير المنهي كقوله {تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55] والمقصود من النهي التسلية و {مِنَ} الأولى لتبيين الجنس و {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} قيل لتبيين الجنس، وقيل أنها مستأنفة (¬1) {سَمَّاعُونَ} مبتدأ أو خبر، وقيل: صفة للذين (¬2) {يُسَارِعُونَ} {يَأْتُوكَ} صفة للآخرين {يُحَرِّفُونَ} في معنى الحال للذين (¬3) {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} من يشأ ابتلاه بتقدير أنه معصية أو عقوبة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ} يدل على ثبوت الخذلان وإرادة الكفر مع التكليف بالتقصي عنه وذلك من الله عدل وحكمة واقتدار لسبقه الذم والعيب وانتهائهما دونه {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} الجزية أو القتل والإجلاء. (السحت) المال الحاصل بالكسب الخبيث وأصله من الهلاك قال الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] وإنما أخذ منه لأنه لا يبارك فيه. والتخيير بين الحكم والإعراض منسوخ بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ (¬4) بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقيل: ليس بمنسوخ فإذا رفعنا إلينا لا (¬5) يسعنا أن نحكم بينهم بحكم الإسلام إلا في النكاح بغير شهود، ونكاح المعتدة (¬6). ¬

_ (¬1) يجوز أن تكون "من" الأولى بيانًا لجنس الموصول الأول وكذلك "مِنْ" الثانية فتكون تبيينًا وتقسيمًا للذين يسارعون في الكفر، ويجوز في "من" الثانية أن تكون خبرًا مقدمًا و"سماعون" مبتدأ مؤخر، ويكون التقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون فتكون جملة مستأنفة إلا أن الوجه الأول أقرب وأوجه والله أعلم. (¬2) قال أبو جعفر النحاس: التقدير: هم سماعون ومثله "طوافون عليكم" قال الفراء: يجوز سماعين وطوافين كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا" ويجوز أن يكون المعنى: "قوم سماعون" ويجوز أن يكون رفع "سماعون" على معنى: ومن الذين هادوا سماعون فيكون الإخبار أن السماعين منهم وهذا مذهب الأخفش وزعم سيبويه أن هذا يرتفع بالابتداء، وتكون "من" مبتدأ بمعنى بعض، حكاه عنهم الزجاج. [معاني القرآن للزجاج (2/ 175)، وللفراء (1/ 309)، وإعراب القرآن للنحاس (2/ 497)]. (¬3) ويجوز أن تكون صفة لـ"سماعون" والتقدير: سماعون محرفين، ويجوز أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم محرفون، ويجوز أن تكون في محل جر صفة لي"قوم" والتقدير: لقوم محرفين. (¬4) في الأصل "ب" "أ": (فاحكم). (¬5) في الأصل: (فلا). (¬6) الذين قالوا بعدم النسخ هم الشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء وابن جريج. أما الذين =

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ}؟ وكيف (¬1) أداة تعجب (¬2) وهو استبقاء درجة وجودة تحكيمهم النبي -عليه السلام- (¬3) وتسليمهم له وهم به (¬4) منكرون مع (¬5) مخالفتهم التوراة وهم به مقرُّون. {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إنما وصفهم بالإسلام ليميز بينهم وبين الذين هادوا فإن الأنبياء -عليه السلام- بقوا على محض الفطرة المجردة وهي الإسلام (¬6) ولم يقبلوا بسنن (¬7) {لِلَّذِينَ هَادُوا} يدل على أن (¬8) شريعة التوراة كانت مختصة باليهود دون غيرهم في زمانهم إلى أن خوطبنا باتباع شرائعهم فيما لم ينسخ، و (الأحبار): العلماء، واحدهم حبر {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} بدل من قوله لها، و (الاستحفاظ): المطالبة بالحفظ. وقد منّ الله علينا بأن ضمن حفظ كتابنا ولم يكله إلينا حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. {مِنْ كِتَابِ} ليتبين له الجنس و {عَلَيْهِ} الهاء عائدة إلى (ما استحفظوا) أو إلى {كِتَابِ اللَّهِ}. ¬

_ = قالوا بالنسخ وأنها منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المَائدة: 49] هم الحسن البصري وعكرمة والسدي ومجاهد وقتادة والزهري، روى عن الفريقين الطبري في تفسيره ورجح عدم النسخ وأن للحاكم الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليه. وقصة اليهود الذين احتكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة التي زنت دليل على ما رجحه الطبري. [الطبري (8/ 444)]. (¬1) في "أ": (فكيف). (¬2) في "أ" "ب": (التعجب). (¬3) في "أ": (النبي عليه النبي عليه). (¬4) في "ب": (له). (¬5) (مع) من "أ" "ب". (¬6) في الأصل و"أ": (ولم) مرتين. (¬7) في الأصل و"ب": (سيز). (¬8) في الأصل و"أ": (يدلان).

{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فداء أو جزاء أو قصاص (¬1) وكذلك ما بعده النفس بالنفس عام بالذكر والأنثى والحر والعبد والمسلم والذمي {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} خاص في الأحرار، والعين: العضو الذي فيه الحدقة المختص بالنظر إلى الألوان {وَالْأَنْفَ}: العضو الحاجر بين العينين المختص بشم الروائح {وَالسِّنَّ}: واحد الأسنان وهي العظام المهيأة للمضغ، {وَالْجُرُوحَ (¬2)} التي يجري فيه القصاص فهو ما يمكن المماثلة فيه كالموضحة (¬3) والسمحاق (¬4) فهو (¬5) كفارة المتصدق بالعفو. قال ابن مسعود: منه يهدم الله -عَزَّ وَجَلَّ- من (¬6) ذنوب مثل ما تصدق به. وعن ابن عمر نحوه (¬7). وقال ابن عباس: الكفارة للجاني (¬8) أي: كما سقط عنه الحكم الدنيوي بالعفو فكذلك العقبوي، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} المعتدون في شأن القصاص. {مُصَدِّقًا} حال للمقفى به وهو عيسى والتاء للموتى {هُدًى} الإنجيل، والتكرار للإطناب في المدح والوصف. ¬

_ (¬1) في "أ" تقديم وتأخير، وفي كل النسخ بينهما (واو عطف)، وفي "ب": (أو). (¬2) في "أ": (والجرح). (¬3) في الأصل: (كالمواضحة). (¬4) الموضحة: هي ما أوضح العظم من الشجاج، فإذا ظهر من العظم شيء قل أو كثر فهي موضحة. قال ابن جريج ويحيى بن سعيد القطان: الموضحة لا تكون إلا في الوجه والرأس دون الجسد وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وجعل الليث جراحة الجسد إذا وضحت عن العظم كموضحة الرأس، وقال أبو عبيد: الموضحة من الشجاج التي تبدي وضح العظام. أما السمحاق: فقال الأصمعي: هي التي بينها وبين العظم قشيرة رقيقة. [تهذيب اللغة (5/ 156 - 302)]. (¬5) (فهو) من "ي" "ب". (¬6) في "أ": (عن). (¬7) لعله عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، أخرجه عنه الطبري بلفظ: يُهْدَمُ عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به. وأخرجه ابن أبي حاتم (6448)، أما عن ابن مسعود فلم أجده. (¬8) روي بمعناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال: هي كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله. أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 475)، وسعيد بن منصور في سننه (758).

{الْفَاسِقُونَ} فسق المجانة دون فسق الديانة أن لا يقبل شهادة النصراني الماجن على النصراني المستور، والمراد بالظلم والفسق هو الكفر (¬1). {وَمُهَيْمِنًا} شاهدًا أو قاضيًا {مِنْكُمْ} يعني النبي -عليه السلام- ومن معه، ويحتمل الأنبياء ويحتمل المتمسكون بالكتب المنزلة، {شِرْعَةً} طريقة واضحة كذلك منهاجًا وجمع بينهما للتأكيد {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لتعبدكم شريعة كما دعاكم إليه دين واحد {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} ولكن لم يجمعكم للابتلاء في مخالفة الهوى، فالابتلاء يتفاوت بتفاوت (¬2) الطباع والعادات والمصالح، ثم قال: إن الله (¬3) ابتلى الناس بشريعتنا ونسخ بها سائر (¬4) الشرائع فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85]، وقال: {وَأَنَّ (¬5) هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وقال: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] وما في معناها من السنة والإجماع. {وَأَنِ احْكُمْ} يعني ومما نأمرك من استباق الخيرإت (أن احكم بينهم) {أَنْ يَفْتِنُوكَ} أي يستزلوك، قالوا: وإنْ كادوا ليستفزوك، وفيه دليل أن النبي -عليه السلام- مع كونه مأمون العاقبة كان متعبدًا بالحزن عن الموهومات {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ (¬6)} أي: بأكلها، وقيل: البعض صِلة، وقيل {يُصِيبَهُمْ} ببعضها في الدنيا وببعضها في العقبى، وقيل: إنما ذكر البعض ليبين أن الكل لا غاية له على حسب عزائمهم ونياتهم. ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في تفسيره (8/ 457)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 38) عن البراء بن عازب، مرفوعًا عند الطبري وموقوفًا عند وكيع في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المَائدة: 44] {الظَّالِمُونَ} [المَائدة: 45] {الْفَاسِقُونَ} [المَائدة: 47]، والآيات الثلاث في الكافرين كلها. وعن الضحاك: نزلت في أهل الكتاب. (¬2) (بتفاوت) ليست في الأصل. (¬3) في الأصل و"أ": (فإن الله). (¬4) في "ب": (جميع). (¬5) (وأن) ليست في "ب". (¬6) (ببعض ذنوبهم) ليس في "ب".

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ (¬1)} نزلت في بني النضير كانوا يتشرفون على بني قريظة وكانوا يأخذون منهم على الرجل الواحد ديتين ويدفعون إليهم عن الرجل الواحد دية امرأة فشكت بنو قريظة إلى رسول الله فقال -عليه السلام-: "أنتم وإخوانكم شرع سواء". فلم يرض بنو النضير بحكمه وقالوا: لا نبطل رسمًا رسمه أولونا فأنزل الله الآية (¬2) {أَفَحُكْمَ (¬3)} استفهام كما في قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] {وَمَنْ أَحْسَنُ} استفهام بمعنى النفي، والحكم يتصف بالحسن والقبح كالقول والرأي {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يرونه حسنًا ويتبين لهم حسنه دون المتشككين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يحتمل أنها نزلت في المنافقين ويحتمل في المؤمنين (¬4) الذين والوا الكفار قبل النهي، ويحتمل المؤمنين الذين كادوا أن يتخذوا ولم يتخذوا، وروي أن عبادة بن الصامت وابن أُبي كانا يواليان اليهود قبل النهي فتبرأ منهم عُبادة، ولم يتبرأ منهم ابن أُبي فنزلت فيه وفي أمثاله (¬5). {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال عطية: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول (¬6) كان يتشفع لأسارى بني قينقاع فقال -عليه السلام-: "لا بارك الله لك فيه"، فلم يبق (¬7) منهم فالح إلا صرمه لدعوته -عليه السلام- (¬8)، وعن مجاهد ¬

_ (¬1) (يبغون) ليس في "ب". (¬2) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (8/ 437)، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 376) وأخرجه سنيد في تفسيره. (¬3) في الأصل: (الحكم). (¬4) (ويحتمل في المؤمنين) ليست في "ب". (¬5) ابن هشام في "السيرة" (295، 296)، وابن جرير (8/ 505، 529)، وابن أبي حاتم (4/ 1155). (¬6) في الأصل: (عبد الله بن سلام أبي سلول)، وفي "ب": (عبدالله بن أبي سلول)، وفي "أ": (عبد الله بن سلام بن أبي سلول). (¬7) في الأصل و"ب": (يتق). (¬8) لم أجده.

والسدي: نزلت في جماعة من المنافقين يوالون نصارى نجران ويهود المدينة لما يرتفقون (¬1) بمعاملاتهم ويرجون بنصرهم (¬2)، والفاء في {فَتَرَى} جواب شرط مقدر يعني إن نهيتهم عن الموالاة {فَتَرَى} يحتمل لتعقيب وصفهم النهي {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} في موالاتهم و {دَائِرَةٌ} نكبة ضد الدولة {أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} فتح قريات اليهود والاستيلاء على نجران، وعن السدي: أنه فتح (¬3) مكة ويحتمل أنه الحكم الموعود بإهلاكهم وإن لم يؤمنوا {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} وهو إظهار نفاقهم، وقيل: موتهم، وعن أنه وضع الجزية (¬4) على اليهود والنصارى (¬5) {فَيُصْبِحُوا} عطف على قوله {أَنْ يَأْتِيَ}. {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بعضهم لبعض على سبيل التعجب من أكاذيب المنافقين وأيمانهم الفاجرة {أَقْسَمُوا} حلفوا، قوله: أقسم يمينًا سواء أضمر المحلوف به أو أظهره {جَهْدَ} توكيد (¬6) والجهد المبالغة والمشقة نصب بنزع في، وقيل: على المصدر لما في القسم من معنى الجهد كقوله: {تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} [العاديات: 1]. {يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أول ارتداد عام في أيام أبي بكر ارتد العرب {فَسَوْفَ (¬7) يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} وهم ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أثناء الناس فجاهدوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حتى قهروهم فسبوا ¬

_ (¬1) في الأصل "ب": (يرتفعون). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 378) وعزاه لابن عباس. (¬3) أخرجه عنه الطبري في تفسيره (8/ 514)، وابن أبي حاتم (6526). (¬4) المثبت من "ب"، وفي البقجة (للجزية). (¬5) روي ذلك عن السدي أيضًا عند الطبرى (8/ 514) قال: الأمر الجزية. (¬6) أي أنه مصدر مؤكد ناصبه "أقسموا" فهو من معناه والتقدير: أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين ويجوز - كما ذهب إليه أبو البقاء - أنه منصوب على الحال، والتقدير: وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم، وجؤَّزَ المؤلف أن يكون منصوبًا على المصدر. [الإملاء (1/ 219)، الدر المصون (4/ 305)]. (¬7) (فسوف) من "أ".

منهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هيّنين ليّنين على إخوانهم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} متجبرين عليهم. اللوم واللومة: الذم والتعيير. والواو في قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} واو الجمع أي يتصدقون في الركوع. كما روي أن عليًا تصدّق بخاتمه (¬1) وهو راكع (¬2) وهذا يدلّ على ولاية علي، وقيل: للعطف والمراد به التنفل بالنوافل. {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ} جواب الشرط فقد غلب أو كان غالبًا {حِزْبَ} القتيل والجماعة والجند. وفائدة تكرار النهي بالاتحاد واتصال النهي الأول بأنهم سيهزمون وأن موالاتهم لا تورث إلا حسرة، واتصال هذا النهي بالإخبار على (¬3) اتخاذهم الدِّين {هُزُوًا وَلَعِبًا} وفيه نوع تحريض على المعاداة، إذ العاقل (¬4) يعادي من يستهزئ به، واللعب: العبث، وفي الحديث: "كل لعب حرام إلا ثلاثة" (¬5) و (الكفار) جميع أصناف الكفرة (¬6). {نَادَيْتُمْ} النداء: الدعاء. روي أن يهوديًا تاجرًا كان (¬7) كلما سمع المنادي (¬8) يتشهد بالرسالة قال: أحرق الله الكاذب، فجاء خادمه ليلة بنار ¬

_ (¬1) في "أ": (بخاتم). (¬2) رواه الخطيب في "المتفق والمفترق" (106)، والطبراني في الأوسط (6232)، وابن عساكر في تاريخه (42/ 356، 357) (45/ 303) وكل هذه الأسانيد قال عنها ابن كثير (لا يفرح بها). وقال: (وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها). وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" بفصل جميل على ذلك. (¬3) في "ب": (عن). (¬4) في "أ" "ب": (الغافل). (¬5) روي بمعناه عن عقبة بن عامر الجهني مرفوعًا: "كل شيء يلهو به ابن آدم باطل إلا ثلاثًا: رميه عن قوسه وتأديبه فرصه وملاعبته امرأته". أخرجه أحمد في مسنده (4/ 148)، والطبراني (17/ 341). (¬6) في "أ": (الكفر). (¬7) (كان) من "أ" "ب". (¬8) في "ب": (النداء).

فتطاير منها شرر فأحرق البيت والرجل (¬1) {لَا يَعْقِلُونَ} نفي لسفاهتهم وحمقهم (¬2) وخفَّتهم أو لمكابرتهم العقل وتركهم استعماله. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} نزلت في اليهود حيث عابوا المؤمنين (¬3) الإيمان بعيسى -عليه السلام- (¬4) وقيل: نزلت في النصارى حيث عابوا المؤمنين الإيمان بسليمان -عليه السلام- وببعض شرائع التوراة، وبقولهم أن عيسى عبد وافتخروا بجحود ذلك، نقول: ولستم تنقمون وتنكرون علينا إلا إيماننا بالكل وذلك منقبة وليس بمنقصة (¬5) وأنتم تتفضلون علينا بأن جحدتم بعض (¬6) الأنبياء ودينكم فسق (¬7) ونقيصة، وأراد بالأكثر الكل أو الرفق في الخطاب أو إخراج بني سلام وأصحابه من الوصف. {قُلْ (¬8) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} استفهام على سبيل التهديد والتوبيخ {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} وقيل: شبّان (¬9) أيلة قردة ومشايخها مسخوا خنازير (¬10)، وقيل: هم الذين كفروا من أصحاب مائدة عيسى -عليه السلام- (¬11)، وعن أبي أيوب الأنصاري كانت امرأة مسلمة من بني إسرائيل نابذت ملكهم (¬12) حين نبذ ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 386) دون أن يعزوه لأحد. (¬2) في "ب": (نفي استفهام وحمقهم)، وفي الأصل: (لسفهاتهم وجفتم). (¬3) في "ب": (المسلمين) بدل (المؤمنين). (¬4) ورد ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه عنه الطبري في تفسيره (2/ 596 - 8/ 537)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1299) ونسبه السيوطي كما في الدر المنثور (3/ 107) لابن المنذر وأبي الشيخ وابن إسحاق. (¬5) في الأصل: (منقصة). (¬6) في الأصل: (جحدتم الأنبياء)، وفي "أ": (جحد بعض الأنبياء)، وفي "ي": (وجحدتم بعض الأنبياء). (¬7) (ودينكم فسق) ليست في "ب". (¬8) (قل) ليست في "ي" "ب". (¬9) في الأصل: (سبّان) بالسين. (¬10) هذا مروي عن ابن عباس كما في "زاد المسير" (2/ 387). (¬11) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 387) دون نسبة لأحد. (¬12) (نابذت ملكهم) ليست في "ب".

الدين وحاربته، فنال الملك من عسكرها ثلاث مرات فأمست محزونة، ولما أصبحت وجدت عسكر الملك قد مسخوا خنازير (¬1). ويمكن الجمع بين الأقوال لأنهم مسخوا غير مرة والتفصيل وقع على زعمهم، كقولك: إذا خطاك رجل بل أنت أضل وأخطأ. {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} نزلت في المنافقين من اليهود ودخولهم بالكفر وخروجهم (¬2) به عبارة عن دوام حالهم به، أي لا ينفكون عن الكفر داخلين لا خارجين. {لَوْلَا (¬3) يَنْهَاهُمُ} هلا ينهاهم على وجه الحث والتحريض. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} نزلت في فنحاص بن عازور اليهودي (¬4) كانوا مخاصيب الرجال فلما كفّروا نبينا -عليه السلام- ابتلاهم الله تعالى بالقحط وقَدَر عليهم الرزق وأذهب بركة أموالهم فضاقت صدورهم (¬5)، فقالوا ذلك جزاء وإنما قالوا على سبيل المجاز والتشبيه؛ كقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} [الإسراء: 29] {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ويحتمل (¬6) الدعاء، ويحتمل الإخبار، ولذلك قالوا: أبخل الناس، (بسط اليد) نفاذ التصرف آمنًا بما أخبر الله من غير تأويل {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا} كقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [لبقرة: 26] وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125]، {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} بين (¬7) فرق اليهود {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ} أي: هيجوا فتنة وشرًا من ذلك إرجافهم بخروج الدجال كل أوان سيطفئ الله شره. ¬

_ (¬1) ابن جرير (8/ 540، 541). (¬2) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والسدي وابن زيد، رواه عنهم الطبري في تفسيره (8/ 547). (¬3) في "ب": (هل لا). (¬4) أخرجه سنيد في تفسيره ومن طريقه الطبري (6/ 194) عن عكرمة وسنده ضعيف للانقطاع بين عكرمة وابن جريج. (¬5) ذكره عنه ابن الجوزي في تفسيره (2/ 393). (¬6) في "ب" "ي": (يحتمل) بدون واو. (¬7) (بين) ليست في "أ".

{آمَنُوا وَاتَّقَوْا} ندبهم إلى الإيمان والاتقاء (¬1) بعد اللوم ليوفق بعضًا ويؤكد الحجة على الباقين. {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} أعطتهم السماء مطرها {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} والأرض نباتها بإذن الله كقوله: {بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] وقوله: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. {أُمَّةٌ مُقْتَصِدَة} معتدلة متوسطة في السيرة، قيل: هم أصحاب النجاشي، وقال مجاهد وقتادة (¬2): هم مؤمنو أهل الكتاب، قيل: قوم تمسكوا بكتبهم من غير تبديل وتحريف قبل نسخها، وقيل: خروج نبينا -عليه السلام-. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} قال محمد بن كعب القرظي: رأى أعرابي رسول الله وحده مستظلاًّ تحت شجرة فأخذ السيف وصاح: يا رسول الله يا محمد من يمنعك مني؟ قال: "الله"، فسقط سيفه، وروي صار يضرب رأسه بالشجرة حتى انتثر دماغه (¬3)، وفي الحديث: كان الصحابة يحرسون النبي -عليه السلام-، فلما نزلت هذه الآية طلع عليهم وقال لهم (¬4): "ارجعوا فقد كفيتم" (¬5)، وهذا التكليف لاستحقاق الثواب، وفي الآية دليل أنه لم يكتم ¬

_ (¬1) (والاتقاء) ليس في "أ". (¬2) أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (8/ 565)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 297) إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬3) هذه القصة في البخاري أما علاقتها بهذه الآية فقد رواها أحمد (15868)، وابن حبان (1739 - موارد)، وابن أبي حاتم (4/ 1173)، وابن جرير (8/ 567) وليس في كل هذه الروايات تهشيم رأسه بالشجرة إلا في رواية وردت عند الطبري (8/ 570). (¬4) (لهم) ليست في الأصل. (¬5) الترمذي (3046)، وابن جرير (7/ 569)، وابن أبي حاتم (4/ 1173)، والحاكم (2/ 313)، والبيهقي (2/ 184)، والحديث حسنه الترمذي لكن ابن كثير في تفسيره يقول: وهذا حديث غريب جدًا وفيه نكارة، فإن هذه الآية مدنية وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.

شيئًا من الوحي لقيه (¬1) ولا يجوز للأنبياء ذلك خلاف ما قالت الروافض (¬2)، قالت عائشة: لو كتم رسول الله شيئًا لكتم قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] (¬3) وقيل: لو كتم شيئًا لكتم قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية، وقيل: لو كتم شيئًا لكتم قوله في حمزة {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقيل: لو كتم شيئًا لكتم قوله في أبي (¬4) طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} لم تبلغ كل ما أنزل إليك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} شيئًا من الرسالة أي تحبط (¬5) عملك {يَعْصِمُكَ} قال: ليزيده جرأة وتيسيره لتبليغ الكافرين في الحال أو قوم ماتوا على الكفر أو لا يهديهم طريق الوصول إلى استئصال أمر النبوة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} قال ابن عباس: قالت جماعة من اليهود (¬6) للنبي -عليه السلام-: يا محمد هل تقر بأن (¬7) التوراة حق؟ قال: "نعم"، قالوا: فنحن نؤمن بها ولا نؤمن بغيرها (¬8) لأنه متفق عليه (¬9)، ¬

_ (¬1) (لقيه) ليست في "ب". (¬2) نسب هذا القول للروافض القرطبي في تفسيره (6/ 242 - 243) قائلًا: (.. فدلّت الآية على ردّ قول من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئًا من أمر الدين تقيَّة وعلى بطلانه، وهم الرَّافضة ..) وقال: (وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئًا مما أوحى الله إليه كان بالناس حاجة إليه). (¬3) الترمذي (3207، 3208)، والطبراني في الكبير (24/ 41)، والطبري في تفسيره (19/ 117)، وهو مروي عن أنس كما عند ابن سعد (8/ 101، 102)، والحاكم (4/ 23، 24) واستغربه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 111). (¬4) في الأصل و"ي": (علي بن أبي طالب) وهو خطأ. (¬5) المثبت من "ب"، وفي البقية (حبط). (¬6) (من اليهود) ليست في "ب". (¬7) في "ب": (تقر أن). (¬8) في الأصل: (فنحن لا نؤمن بها لأنه ..). (¬9) سيرة ابن هشام (1/ 567، 568) عن ابن إسحاق، وابن جرير في تفسيره (8/ 573)، وابن أبي حاتم (4/ 1174).

فرد الله (¬1) عليهم بالمنع في ضمن قوله: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ} أي: لستم آخذين بها ولا مقيمين إياها وبالتنبيه على فساد أصل المقالة في ضمن (¬2) قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: ما ثبت من القول الجابر بالإعجاز والأمر والنهي؛ فإن الموجب لقبول الكتاب هذا المعنى دون الإجماع، وإذا كان الموجب هذا لزم الحكم بوجوده وزال لعدمه. {وَالصَّابِئُونَ} ارتفع عطفًا على الضمير في {هَادُوا} لأن الفعل لا يخلو عن ضمير تقديره: والذين هادوا وهم الصابئون، وقيل بالابتداء على تقدير التأخير أو على تقدير إلغاء حكم إنّ (¬3). {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} استيلاء بخت نصر والروم عليهم {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (¬4) أعاد الأمن والرخاء، وقيل: فتنة ابتلائهم بنسخ الشرائع وقبول توبتهم إن تابوا {كَثِيرٌ} رفع بالابتداء (¬5) وخبره أو بإسناد الفعل أو بالتأكيد (¬6). {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} قيل: من كلام عيسى استئناف كلام الله من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ¬

_ (¬1) (فرد الله) ليست في "أ". (¬2) من قوله (قوله {حَتَّى تُقِيمُواْ} ...) إلى قوله (في ضمن) ليست في "أ". (¬3) (أنّ) ليست في "ب". (¬4) في الأصل: (تاب الله عليهم)، وفي "ي" "أ" "ب": (ثم تاب الله). (¬5) وذهب الزجاج إلى أن "كثير" خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: ذوو العمى والصمم كثير منهم. ويجوز - كما قال الفراء - أن تجعل "عموا وصموا" فعلًا للكثير كما قال أحيحة بن الجلاح: يلومونني في اشترائي النخيـ ... ـلَ أهلي فكلهم أَلْوَمُ ولو نصبت "كثير" في غير القرآن لكان صوابًا ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: وسوَّد ماءُ المَرْدِ فاها فلونه ... كلونِ النَّؤُور وهي أدماء سَارُهَا والبيت في وصف ظبية، والمرد: الغض من ثمر الأراكَ، والنؤور: النيلج وهو دخان الشحم، يعالج به الوشم فيخضر. وسارها: أي سائرها، والأدماء من الأدمة وهي في الظباء لون مشرب بالبياض. [معاني القرآن للفراء (1/ 316)، معاني القرآن للزجاج (195/ 2)]. (¬6) في "ب": (بإسناد الفعل أو بإسناد الفعل أو بالتأكيد).

والهاء ضمير الأمر والشأن، قالت: ثلاثة أحدهم وما في (¬1) الاثنين أحدهما. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} من مقالة هؤلاء على سبيل وصفهم بتناقض قولهم (¬2) كلامهم، وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى ودخول من للتأكيد، والانتهاء التمسك بالنهي والامتناع عن النهي عنه أحسن والله {لَيَمَسَّنَّ}. {أَفَلَا يَتُوبُونَ} استفهام (¬3) على سبيل الحث والتحريض فدخلت من قبله عارض ينبه على فناء المسيح ومضيّه لسبيله. ولا بدّ للنبي من إمامة مطلقة، والمرأة لا تقدر عليها فلذلك لم يصف أمه بالنبوة ووصفها بالصدق {يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} تنبيه على احتياجهما والاحتياج آية للحدوث والعبودية (¬4) {يُؤْفَكُونَ} يصرفون و (الإفك): ما صرف من الكلام إلى الباطل {أَتَعْبُدُونَ} استفهام بمعنى الإنكار وفيه دليل أن العبد وإن اتصف بالقدرة لم يملك لأحد {ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} إلا بمشيئة الله تعالى وتقديره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا} في شأن النصارى، وقيل: في اليهود والنصارى جميعًا {غَيْرَ الْحَقِّ} قيل: استثناء منقطع وقيل متصل (¬5) {ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} سلفهم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} من إخوانهم. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ} هم الذين ناصبُوه مع طالوت ماتوا على ذلك من غير توبة وأصحاب إيلة وأمثالهم والذين لعنوا على لسان عيسى هم اليهود والذين قامت عليهم الحجة بعيسى -عليه السلام-. (التناهي): تفاعل من النهي أي: لم ينه بعضهم بعضًا {يَتَوَلَّوْنَ ¬

_ (¬1) في "أ": (ويأبي)، وفي "ي": (ويأتى). (¬2) (قولهم) من الأصل. (¬3) (استفهام) ليست في "أ". (¬4) في الأصل و"ي": (العبود). (¬5) استبعد أبو حيان الاستثناء المتصل والمنقطع وذهب الزمخشري إلى أن قوله: "غير الحق" نعت لمصدر محذوف، والتقدير: لا تغلوا في دينكم غلوًا غيرَ الحق. وذكر أبو البقاء أنه منصوب على الحال من ضمير الفاعل في "تغلوا" والتقدير: لا تغلوا مجاوزين الحق. [الكشاف (1/ 635)، البحر (3/ 539)، الإملاء (1/ 223)].

الَّذِينَ كَفَرُوا} المشركون {أَنْ (¬1) سَخِطَ اللَّهُ} بيان لما قدمت {لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: إن حلوا محل المسخوط عليهم بكسبهم خصالًا لا يرضاها الله تعالى و (السخط): الغضب وفيه معنى الكراهية {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} نزلت في المنافقين من أهل الكتاب لأنه نفي إيمانهم به وبالنبي -عليه السلام- وما في شأن الجميع والشعبي موسى -عليه السلام- أو عيسى -عليه السلام-. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} في اليهود والمشركين على العموم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} النصارى على العموم وقيل: جماعة مخصوصة من النصارى وهم أصحاب النجاشي. عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد والسدي (¬2)، وقال قتادة (¬3): هم قوم كانوا على دين عيسى -عليه السلام- آمنوا بنبينا -عليه السلام- اثنان وثلاثون من الحبشة قدموا مع جعفر الطيار وثمانية من الشام وأربعون من نجران، {مَوَدَّةً} محبة ذلك إشارة إلى وجودهم وقربهم {قِسِّيسِينَ} جمع قسيس وهو العالم (¬4) بلغة الروم، والقس في لغة العرب تتبع الخير والقساس التمام (¬5) {وَرُهْبَانًا} جمع راهب وأنهم أي النصارى. {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} صفة الذين قدموا على النبي -عليه السلام- وأسلموا ويجوز أن يجاب إذا بفعل المستقبل. قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)} [الصافات: 14] {تَفِيضُ} تمتلىء مع السيلان، يقال للخبر الفاشي فائض ومستفيض و {الدَّمْعِ} ماء العين من فرحٍ كان أم حزن، ويحتمل (¬6) أنهم بكوا فرحًا لإدراك النبي -عليه السلام- ويحتمل خوفًا على إفراطهم. ¬

_ (¬1) في "أ": (أي). (¬2) أما عن ابن عباس فرواه الطبراني في الكبير (12455)، وفي الأوسط (4639)، وأما عن سعيد بن جبير فرواه ابن جرير (8/ 600)، وابن أبي حاتم (6673). وأما عن مجاهد فرواه ابن جرير (8/ 595)، وابن أبي حاتم (4/ 1183). وأما عن السدي فرواه ابن جرير (8/ 596، 601)، وابن أبي حاتم (4/ 1184). (¬3) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 406 - 407) لأبي الشيخ. (¬4) في "أ": (الغلام). (¬5) في "أ": (العمام). (¬6) في "أ" "ب": (يحتمل) بدون واو.

{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ} استفهام على سبيل التعجب توجه إلى من أنكر عليهم إيمانهم {لَا نُؤْمِنُ} في الحال وما وبما جاءنا ونطمع عطف على لا نؤمن وقيل استئناف كلام، الإثابة جزاء الخير. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} قيل: أن علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون والمقداد وسالمًا مولى أبي حذيفة وأبا ذرّ تذاكروا القيامة فيما بينهم فتعاقدوا وتعاهدوا في بيت عثمان بن مظعون على لبس المسوح وإخصاء الأنفس وترك الشهوات والسياحة في الجبال (¬1). وقيل: إن أبا بكر وعمر كانا معهم (¬2)، وقيل: إن ابن مسعود وعمار وسلمان (¬3) الفارسي معهم فأنزل الله هذه الآية، فجاء رسول الله بيت عثمان فلم يجده واستخبر امرأته فقالت: إن أخبر الله رسوله (¬4) بشىء فهو الحق فقال: "إذا رجع زوجك فقولي لا تحدث شيئًا حتى تراني"، فلما رجع أخبرته فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظهر عليه ضميره فأنكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وقال: "لكنّي أصوم وأفطر وأصلي وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي (¬6) فليس مني" (¬7). {وَكُلُوا} إباحة وهاهنا أمر باعتقاد الاستباحة بدليل النهي عن اعتقاد التحريم قبله. (الأيمان المعقودة) هي التي محافظتها موهومة، ويجوز أن يؤمر بها وينهى عنها، و (الكفارة) (¬8) مختصة بها دون اللغو والغموس، وحقيقة ¬

_ (¬1) ابن جرير (8/ 609 - 611)، وله شواهد عند الطبراني (7715)، وعبد الرزاق في المصنف (12592). (¬2) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 410) لابن عباس. (¬3) في الأصل و"ي": (أو)، وفي "أ": (سليمان) وهو خطأ. (¬4) في الأصل: (إن أخبر الله بشيء)، وفي "ب": (إن الله أخبر رسوله). (¬5) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬6) (فهو مني ... بسنتي) ليست في "أ". (¬7) أصل الحديث في البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬8) في الأصل: (الكفار).

الإيمان ما يكون بأسماء الله تعالى وبصفاته التي يوسف بها ولا يوصف بضدها. كفارة الحنث، وقيل: العقد، وعلى هذا إيمانكم كفارة حنث أيمانكم، ولا يجوز التكفير قبل الحنث خلافًا للشافعي - رحمه الله -، و (الإطعام): لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو صاع من شعير، وإن عشاهم (¬1) وغدّاهم جاز خلافًا للشافعي، وإن أطعم واحدًا عشرة أيام جاز خلافًا للشافعي، ويجوز دفع القيمة خلافًا له، و (الكسوة) إزار ورداء وقميص أو قبا، وعن محمد أجازه السراويل أو المئزر، ويجوز فيه الكافرة (¬2) والمسلمة (¬3) إذا لم تكن مستهلكة المنفعة أو السن أجمع، ولا يجوز صوم الكفارة إلا متتابعًا خلافًا للشافعي (¬4) كما روي في قراءة ابن مسعود وأبي {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} (¬5). {رِجْسٌ} قبيح مستقذر وفاعله يسمى رجسًا والعقوبة عليه يسمى رجساَّ {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من رسومه وموضوعاته {فَاجْتَنِبُوهُ} أي: الرجس أو عمل الشيطان أو الشيطان بعينه. إيقاعه العداوة بين الشرب وسوسته بالعربدة وبين المقامرين وسوسته بالمشاجرة وصدهم و (¬6) إلهاؤهم {مُنْتَهُونَ} أمر بالانتهاء كقوله: {هَل أَنتُم مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] إنما (ما) الكافة ولولاها لانتصب البلاغ وهذا تعريض بالتهديد أي: هو لا يؤاخذ بإعراضكم وأنتم المؤاخذون بذلك. {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وقال سعيد بن جبير: لما نزلت قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] تأثم بعض الناس إلى أن نزل ¬

_ (¬1) (أوصاع ... عشاهم) ليست في "أ"، وفي "ي" "ب": (وغداهم وعشاهم). (¬2) في الأصل: (الكافر). (¬3) (والمسلمة) ليست في "أ". (¬4) (للشافعي) ليست واضحة في الأصل. (¬5) قراءة ابن مسعود رواها ابن أبي حاتم (4/ 1194، 1195)، وأما قراءة أُبيّ فرواها ابن جرير (8/ 652)، وابن أبي داود في "المصاحف" (53)، والحاكم (2/ 276)، والبيهقي في سننه (10/ 60)، والقراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف. (¬6) (وإلهاؤهم) الواو ليست في الأصل.

قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فامتنع آخرون عن الشرب بالنهار وشربوا بالليالي (¬1)، فلما نزل هذه الآية قال عمر: بعدًا (¬2) لكِ يا خمر وسحقًا قرنت بالأنصاب والأزلام، وتركها جميع الناس ووقع في صدور الناس شيء وأتوا رسول الله وسألوه عن حمزة ومصعب ابن عمير وعبد الله بن جحش وأمثالهم أليسوا في الجنة؟ قال: "بلى"، قالوا: إنهم ماتوا يشربون الخمر فما بالنا لا نشرب؟ فأنزل الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ} الآية وفي حمزة وأصحابه هذه الآية (¬3). وحدّ الشرب ثمانون جلدة وعند الشافعي أربعون جلدة، قال علي: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر (¬4) هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة (¬5)، إبقاء الأول إبقاء عن الكفر (¬6)، والثاني بقاء على إبقاء الأول وإبقاء عن الارتداد بعد الإيمان، والإيمان بقاء على الإيمان السابق، والأحكام الناسخة المستقبلة كقوله: {زَادَتهُم إِيمَانًا} [الأنفال: 2] والثالث: إبقاء عن السيئات والإحسان الذي قال -عليه السلام-: "هو أن تعبد الله كأنك تراه (¬7) فإن لم تكن تراه فهو يراك" (¬8). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} نزلت عام الحديبية وهم كانوا محرمين فحشر الله الصّيد إليهم وابتلاهم بكثرتها وتيسير تناولها مع الحظر عنها، وتقديره: والله ليبلونكم {مِنَ الصَّيْدِ} لتبيين الجنس {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} البيض ¬

_ (¬1) في "أ": (بالليل). (¬2) في "ي" والأصل: (بعيدًا). (¬3) عزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 458) لابن المنذر. (¬4) (وإذا سكر) ليست في "أ". (¬5) مرّ تخريجه. (¬6) في "أ": (الكفرة). (¬7) في "أ": (كأنه يراك). (¬8) هذه جملة من حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما سأل جبريل النبي -عليه السلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الإيمان (1/ 37)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1/ 39/ 5)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 27 - 3/ 107) وغيرهم.

والفراخ التي لا يمتنع، وما تناله الرماح: المتوحش الممتنع كالظباء والحبالة والنعامة وغيرها. و (الرماح): جمع رمح {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليعلمه وقد خاف بعدما علمه سيخاف {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو: التعزير والتأديب، وقيل: وعيد عقباوي. وكفارة الصيد (¬1) تجب على القاتل عمدًا بنص الكتاب وعلى القاتل خطأ بالسنة والاستدلال؛ لأن النبي -عليه السلام- أوجب في الضبع كبشًا مسنًا (¬2) ولم يفصّل، وعن عمر: تمرة خير من جرادة (¬3). {مِنَ النَّعَمِ} تبيينًا لجنس الجزاء أو لجنس (¬4) ما قتل من الصيد (¬5) {النَّعَمِ} نعم المواشي الأهلية والصيد جزاء {مِثْلُ مَا قَتَلَ} أي القيمة لأنها علامة متأتية في الصيد (¬6) كله {يَحْكُمُ بِهِ} بالمثل وهو القيمة، ثم ينظر المحكوم عليه إن لم يجد بها ما يصح في المتعة والقران أطعم أو صام، وإن وجد اختار من الكفارات الثلاث ما شاء. {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يدل أن (¬7) الكفارة تجري مجرى العقوبات وبال الخصلة السيئة (¬8) {أَمْرِهِ} فعله وشأنه {عَفَا اللَّهُ} عن المكفر (¬9) {وَمَنْ عَادَ} وعيد لا يرفع الكفارة لأن القاتل بدأ قبل القود فقد هتك الحرمة ثم الكفارة لازمة، وعن سعيد بن جبير وعطاء: إن عاد (¬10) أعيد عليه (¬11). ¬

_ (¬1) في "أ": (العمد). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (القسم الأول من الجزء الرابع)، ص 264 قريبًا منه، والحاكم (1/ 453) وسنده صحيح. انظر: إرواء الغليل (4/ 243). (¬3) ابن أبي شيبة (4/ 77). (¬4) في الأصل: (والجنس). (¬5) (من الصيد) من "ب". (¬6) (والصيد) ليست في "ب". (¬7) في الأصل: (يدلان). (¬8) في "أ": (الخصال السبعية). (¬9) في "أ": (الكفر). (¬10) من قوله (وعيد لا) إلى قوله (إن عاد) سقط من "ب". (¬11) أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (8/ 715)، وسعيد بن منصور في سننه (831) عن عطاء، وعبد الرزاق في مصنفه (8180)، وابن أبي شيبة (4/ 99) عن سعيد بن جبير.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} خطاب للمحرمين وطعامه ليس مصيدًا (¬1) في الظاهر وطعامه ما قذفه البحر من السمك فمات عطشًا أو بسبب دون الطافي. وعن ابن عباس في رواية وابن جبير ومجاهد وقتادة أن الطري من السمك دخل في اسم الصيد والمملح منه دخل في اسم الطعام (¬2) {وَلِلسَّيَّارَةِ} وإنما خص لأن المخاطبين محرمين كانوا سيارة فذكر في مثل حالهم من الناس ولأنهم هم المحتاجون إليه في الغالب، ويحتمل أنه من باب اقتصار أحد طرفي الكلام كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] وقيل: الآية خطاب للمقيمين فذكر السيّارة ليعم الحكم عامة الناس {صَيْدُ الْبَحْرِ} كل ما كان جنسه متوحشًا مأكول اللحم أو غيره، قال -عليه السلام-: "خمس تقتلهن في الحل والحرم: الغراب والحداة والفأرة والحية والكلب العقور" (¬3) حصره بعدد، ويلحق غيرها بها حالة وجود العدوان. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} اتصالها بما قبلها من حيث إمساك المناسك و {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} هي الكعبة حرسها الله، والمكعب في المساحات ما له طول وعرض وسُمك {قِيَامًا لِلنَّاسِ} يكون (¬4) آمنًا لمن التجأ إليها، ويتوجه العالم إليها في يوم وليلة خمس مرات في أقطار الأرضين متحرمين بالصلاة جموعًا وفرادى وبإحجاج المحتاجين عن الموتى وذوي الأعذار وبحفر الآبار واستخراج المياه في طريقها واختلاف السفر إليها وتوقير زائريها أبدًا ما عاشوا مع ما (¬5) انضم إليه بيان سمت القبلة وبناء المساجد والمنارات {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} كان {قِيَامًا} لهم لتركهم القتال فيه وتقلبهم آمنين {وَالْهَدْيَ} ¬

_ (¬1) في "ي": (مصدر)، وفي "أ": (يصيد). (¬2) أما عن ابن عباس فرواه سعيد بن منصور (834 - تفسير)، وابن جرير (8/ 723، 731)، وابن أبي حاتم (4/ 1211). وأما عن سعيد بن جبير فرواه الطبري (8/ 724)، وأما عن مجاهد وقتادة فرواه الطبري أيضًا (8/ 732). (¬3) البخاري (1731) ط. البغا، ومسلم (1198). (¬4) في الأصل: (ويكون). (¬5) (ما) من "ب" "ي".

قيامًا لهم لانتفاع المحتاجين والفقراء، وكذلك {وَالْقَلَائِدَ} لامتناعهم عن الغارة على أصحاب القلائد (¬1)، ذلك إشارة إلى الجعل أو الخبر عنه، وإنما كان علّة لعلمنا لوجودنا المصالح فيما جعل إذا اعتبرنا الغالب ولا يكون ذلك إلا فعل حكيم عليم. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} نبه على العقاب للحث على محافظة ما هي قيام للناس، ثم ذكر أنه {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لئلا يؤدي بهم التخويف إلى القنوط. وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} يفيد خلوص الحجة على المخاطبين وخروج المبلغ عن الملام، وفيه نوع تنبيه كما قال: {فَإِنَمَا عَلَيكَ اَلْبَلَغ وَعَلَينَا اَلِحْسَابُ} [الرعد: 40] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} زجرًا عن النفاق والعقائد المذمومة. {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} نزلت في المؤمنين حيث أرادوا أن يُغِيرُوا على حجاج اليمامة فنهاهم الله عن ذلك وزهدهم فيه (¬2)، (الخبيث): الكافرون، و (الطيب): المؤمنون (¬3)، ذكرهم لعموم الخطاب {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} على سبيل المبالغة ولذلك لم يقتض جوابًا كقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] وقال: فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا لديك رأسي وأوصالي (¬4) ¬

_ (¬1) قوله "القلائد" جمع قلادة كان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شَعَر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نَفَرَ تقلد قلادة من الإذخر، أو من لِحَاء السَّمَر فمنعته من الناس، حتى يأتي أهله، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. روي نحو ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. [الطبري (9/ 10)، ابن كثير (2/ 135)]. (¬2) لم نجده. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري (9/ 12)، وابن أبي حاتم (6870)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 334)، إلى أبي الشيخ كلهم عن السدي. (¬4) البيت من الطويل وهو لامرئ القيس في ديوانه ص 32، والصحيح أن عجزه هو =

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا} قال أبو أمامة (¬1) وأبو هريرة: لما نزل قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلبَيْتِ} [آل عمران: 97] قال رجل من الأعراب: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه، فأعاد عليه ثلاث مرات فاستغضب، فمكث (¬2) طويلًا ثم تكلم فقال: "من هذا السائل؟ " قال الأعرابي: أنا، فقال: "ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم! لو قلت نعم لوجب ولو وجب لكفرتم" فأنزل الله الآية (¬3)، وإنما أنكر السؤال؛ لأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار إلا بقرينة ولم يقع سؤاله للضرورة. أبو صالح عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ذات يوم غضبان قد احمرّ وجهه فجلس (¬4) على المنبر فقال: "لا تسألوني (¬5) عن شيء إلا أحدثكم (¬6) به" فقام رجل وقال: أين أبي؟ قال: "في النار"، فقام عبد الله بن حذافة وكان يطعن في نسبه فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" فقام عمر وقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبمحمد نبيًا، يا رسول الله كنا حديث عهد في الجاهلية وشرك فالله أعلم من آباؤنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت الآية (¬7). وعن سعيد بن جبير نزلت في السائل عن البحيرة والسائبة والوصيلة (¬8) يعني ¬

_ = (ولو قطعوا راأسي لديك وأوصالي). وهو هكذا في المصادر. [خزانة الأدب (9/ 238)، الخصائص (2/ 284)، شرح أبيات سيبويه (2/ 220)، لسان العرب (13/ 463) "يمن"]. (¬1) في "أ": (تمامة). (¬2) في "أ": (فمكت). (¬3) أما عن أبي أمامة فرواه ابن جرير (9/ 19، 20)، والطبراني في الكبير (7671)، وسنده ضعيف كما قال ابن كثير. وأما عن أبي هريرة فرواه ابن حبان (3704) وسنده صحيح. (¬4) في "أ": (وجلس). (¬5) (لا تسألوني) ليس في الأصل. (¬6) في "أ": (وحدثكم). (¬7) ابن جرير (9/ 17)، وابن أبي حاتم (4/ 1219)، والطحاوي في المشكل (1475)، وعزاه السيوطي في الدر (2/ 335) للفريابي وابن مردويه. (¬8) أخرجه الطبري (9/ 22)، وابن أبي حاتم (6879)، والطحاوي في المشكل (4/ 118)، وعزاه السيوطي في الدر (2/ 336) إلى أبي الشيخ.

عن (¬1) أسلافهم الذين ماتوا في الجاهلية متدينين بذلك في الحياة (¬2)، البحيرة والسائبة عن مقسم على حكم سعد بن معاذ وقال: [تاب أبو لبابة هذا (¬3) بعد ذلك وقال: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله {لَا يَحزُنكَ} [المائدة: 41] لا يغمك نهي إلى غير المنهي كقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55] والمقصود من النهي التسلية ومن الأولى لتبيين الجنس {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 41] قيل: لتبيين الجنس وقيل إنها مستأنفة {سَمَّاعُونَ} [المائدة: 41] مبتدأ أو خبر. وقيل: صفة للذين يسارعون أو السماعين إذ الآخرين وتحريفهم ما سبق {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] ابتلاه بتقدير أنه معصية أو عقوبة] (¬4) نزلت في الطالبين بالآيات الملجئة، وهذه السؤالات مذمومة لعدم الفائدة و {أَشْيَاءَ} جمع شيء، وشيء في الأصل شيء على وزن شفيع فلينت الهمزة الأولى وأدغمت كما في ميت وهين فصار شيًا ثم استخف بحذف المدغم {تَسُؤْكُمْ} تحزنكم {عَفَا اللَّهُ} أمهل الله، وقيل: عفا الله عن أمواتكم الماضية. {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} هم المضيقون عليهم أمر البقرة والمطالبون بالرؤية جهرة والمستنزلون مائدة وأمثالهم، (البحيرة) للخامس (¬5) من ولد الناقة إن كان أنثى بحروا أذنها وحرموا ركوبها ولحومها على النساء إن قتلت، وإن ماتت حلّت للنساء (¬6)، و (السائبة) ما كانوا يخرجونه عن الملك إلى مالك ¬

_ (¬1) (عن) ليست في "أ". (¬2) (الحياة) ليست في "ب". (¬3) (على حكم) إلى قوله (.. لبابة هذا) ليست في "ب". (¬4) ما بين [...] من نسخة "ب" وهو كذلك في نسخة "أ" ولكنه شطب. (¬5) في "أ": (الخامس). (¬6) البحيرة: فعيلة من قولك: بحرتُ أُذن هذه الناقة - إذا شققتها - وناقة مبحورة ثم تصرف إلى فعيلة، فيقال: بحيرة، ومنه حديث أبي الأحوص عن أبيه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أرأيت إبلك، ألست تنتجها مُسَلَّمَةً آذانها فتأخذ الموسَ فتجدعها، =

ويحرمون الانتفاع به من كل وجه ولا يرون ذوده عن المرعى، و (الحمى والوصيلة) قال ابن عرفة: ما كان البطن السابع من ولد الشاة ذكرًا أو أنثى توأمين (¬1) قالوا للأنثى: وصلت أخاها فلا يذبح ويكون لحمها حرامًا على النساء، قال ابن الأنباري: كانت الشاة إذا ولدت ستة أبطن عناقين عناقين وولدت في السابعة عناقًا وجديًا قالوا: وصلت أخاها حلّوا لبنها للرجال دون النساء، و (الحامي) الفحل الذي ركب ولد ولده، وقيل: إذا كان من ولده عشرة أبطن، قالوا: حمى (¬2) ظهره فلا يركب ولا يمنع عن (¬3) مرعى. نفى الله أن تكون هذه الأحكام دينًا له وأمر أمته، والمبتدع لهذه الأحكام عمرو بن لحي وهو الذي نصبَ الأنصاب وبدّل الحنيفية وأدخل الإشراك في التلبية (¬4). {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} تقديره: حفظ أنفسكم وإصلاحها دون التعليق بما كان عليه الآباء فإنهم لا يضرونكم إذا اهتديتم، وفيه ما يدل على نسخ الأمر بالمعروف خطبة أبي بكر الصديق وقال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتعتقدونها رخصة الله، والله ما نزلت آية أشد من هذه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وإني سمعت أن (¬5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنّ ¬

_ = تقول: هذه بحيرة، وتشق آذانها ... " الحديث، أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 29)، وابن أبي حاتم (6885)، والبيهقي في الأسماء والصفات (742)، والبغوي في شرح السنة (3118)، والإمام أحمد (17228). (¬1) في "أ": (تومين). (¬2) في الأصل و"ب": (أحمى). (¬3) في "ب": (من). (¬4) عمرو بن لحي الخزاعي أول من سيب السوائب وغيَّر دين إبراهيم كما في حديث زيد بن أسلم مرفوعًا. قال عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف أول من سيب السوائب وأول من غير عهد إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي ريحه أهل النار ... " الحديث، أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 28)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 197)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 338) إلى عبد بن حميد، وأصل الحديث في صحيح مسلم. (¬5) (أن) من "ب".

الناس (¬1) إذا رأوا منكرًا فلم يغيّروه يوشك أن يعمهم الله بعذاب" (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ابن جبير عن ابن عباس كان تميم الداري وعدي بن نبدي نصرانيان يختلفان إلى مكة بالتجارة، فخرج مسلم من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم فأوصى إليهما فلما رجعا من سفرهما دفعا تركته إلى أهله وحبسا (¬3) جامًا من فضة مخوّصًا بذهب فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كتما ولا اطّلعا، ثم عرف الجام بمكة فقال الذين اشتروه: اشتريناه من عدي وتميم، فقام رجلان من أولياء السهمي وأخذا الجام وفيهم نزلت الآية (¬4)، دليل أن الورثة صدقوهما في الوصاية واتهموهما في الأمانة ولذلك استحلفهما على الكتمان والاطلاع، وفيه دليل أن المراد بالشهادة اليمين وإنما وجب عليهما اليمين لأن الورثة يدّعون عليهما الزيادة. وفي أيمان الورثة وجهان: فإن ادعى الوصيان وصية أو ملكًا في الجام يخرجان به عن حكم الميراث والورثة ينكرون ذلك فهذا حكم قائم، وإن كان يمينهم قائمة مقام البينة وإبطال اليمين الأولين فهذا حكم منسوخ، وعن زيد بن أسلم (¬5) قال: كان ذلك في رجل توفي في أرض حرب والناس كفار وليس عنده أحد من أهل الإسلام وكان الناس يتوارثون بالوصيّة، ثم نسخت (¬6) الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها والمراد بقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الإخبار أو الأمر (¬7) {إِذَا حَضَر} توقيت ¬

_ (¬1) (إن الناس) ليست في "أ". (¬2) أبو داود (4338)، والترمذي (2168، 3057)، والنسائي في الكبرى (11157)، وابن ماجه (4005)، وأحمد (1/ 177، 197، 208، 221)، وأبو يعلى (132)، وابن جرير (9/ 51، 52)، وابن حبان (304، 305)، والحديث صحيح. (¬3) في الأصل و"ي": (وجلسا). (¬4) الترمذي (3059)، وابن جرير (9/ 88، 89)، وابن أبي حاتم (4/ 1230، 1231)، والنحاس في ناسخه ومنسوخه (409)، وأبو نعيم (1223)، والحديث ضعيف. (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 67) وذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 212). (¬6) (ثم نسخت الوصية) ليست في "أ". (¬7) هذه الآية كما قال مكي بن أبي طالب: في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها =

{حِينَ الْوَصِيَّةِ} بدل (¬1) عن التوقيت اثنان أي شهادة اثنين فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه {ذَوَا عَدْلٍ} صفة للخبر أي ذوا عدالة {أَوْ آخَرَانِ} أو شهادة آخرين عدلين {مِنْ غَيْرِكُمْ}، والعدالة كون الإنسان مرضي السيرة في دينه، والشهادة في العدالة (¬2) شرط واليمين ليس بشرط ولكنه احتياط فإن المنكرين إذا كانوا جماعة فيستحلف عدولهم كما في القسامة {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} صلاة العصر، وفائدة ما بعدها لأن أهل الذمة يوافقدننا في حرمة ذلك الوقت واجتناب الإثم فيه، وقيل: استحلاف المؤمنين كانوا في تلك الساعة أشد تورعًا منهم في غيرها (¬3) {فَيُقْسِمَانِ} يعني الوصي والأمين لا يحلفان إلا عند الريبة والتهمة {لَا نَشْتَرِي بِهِ} باسم الله وقوله {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} دليل أن الوصيين كانا قريبين للميت {وَلَا نَكْتُمُ} ما تحملناه عن الميت من وصية {إِنَّا إِذًا} أي إن (¬4) اشترينا وكتمنا. {فَإِنْ عُثِرَ} العثور الاطلاع والإعثار: أن تطلع غيرك على شيء، قال: وكذلك اعترافًا، (الاستحقاق): الاستحباب، وهذا يدل على أن قضاء القاضي ينفذ في الظاهر، ثم بين وجه الاحتياط الحبس للاستحلاف بعد الصلاة. {أَنْ يَأْتُوا (¬5) بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} والثاني أن يبطل الخوف (¬6) من أن يبطل (¬7) ¬

_ = وأحكامها من أصعب آي القرآن وأشكلها، ومثله قال السخاوي والواحدي، فعلى قراءة الجمهور فيها خمسة أوجه إعرابية، وفي قراءة الرفع منونة وهي قراءة الحسن والأعرج والشعبي، وفي قراءة النصب منونة وهي قراءة السلمي والحسن، أوجه إعرابية متعددة يطول ذكرها. [الكشف (1/ 420)، المحرر (5/ 217)]. (¬1) في "أ": (تدل). (¬2) في "ب" والأصل: (العدالة في الشهادة). (¬3) في "ب" "ي": (وغيرها). (¬4) (إن) من "أ" "ي". (¬5) (أن يأتوا) ليست في "أ" "ب". (¬6) (أن يبطل الخوف) ليست في "أ" "ب"، وفي "ي": (للخوف). (¬7) في "أ": (تبطل).

إيمانهم بإيمان غيرهم إذا عثر على خيانتهم، وقيل: أو بمعنى الواو أي الاحتياط أحد المعنيين. {يَوْمَ يَجْمَعُ} العامل في الظرف {وَاتَّقُوا} وقيل: لا علم وفائدة السؤال توبيخ الأمم وتقريعهم وثناء الرسل على الله وتبريهم عن علم الغيب، وفيه دليل أن السؤال يكون عن الصادفة والصادرة عن (¬1) العقائد. (إذ) بدل عن {يَومَ} وهما للماضي، ولكن عني بهما زمان مستقبل، وإنما جاز ذلك لتحقيق وجوبه فكأنه كان ومضى كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]. (عيسى): اسم في محل النصب و (مريم) لعيسى بمنزلة الأب كمحمد ابن الحنفيّة ومحمد بن زبيدة. النعم (¬2) المنعم بها على عيسى ما نطقت به الآية، والنعمة المنعم بها على والدته كلامه في إظهار شهادة ببراءة والدته وفي اكتهاله على مسرّة والدته (¬3) و {الْكِتَابَ} القدرة على القراءة، وقيل: الزبور، و {وَالْحِكْمَةَ} (¬4) الفقه وسائر ما آتى الله من الحجج والبيان، و (كف بني إسرائيل): صدّهم عنه حين أرادوا قتله وصلبه. {وَإِذْ أَوْحَيْتُ} الوحي هاهنا الإلهام (¬5)، وقال السدي: قذف في قلوبهم (¬6)، وقال الزجاج: أمرهم الله تعالى على لسان عيسى (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل: (وعن). (¬2) في الأصل: (والنعم) بالواو. (¬3) (كلامه في ... والدته) ليست في "أ". (¬4) في الأصل: (الحمة). (¬5) في الأصل و"أ": (إلهام). (¬6) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 116)، وابن أبي حاتم (7005)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 346) إلى أبي الشيخ. (¬7) ذكره الزجاج في معاني القرآن (2/ 219) واستشهد له بقول الشاعر وينسب إلى العجاج وهو في ديوانه (5): الحمد لله الذي استهلَّتِ ... بإِذنهِ السماءُ واطمأَنَّتِ أوحَى لها القرارَ فاستقرَّتِ أي أمرها.

و (المائدة): الخوان (¬1) حالة (¬2) كون الطعام عليه مشتق من الميد وهو العطاء والنفع والعون، تقول: مادني ويميدني، وإنما أنكر عليهم إما للمطالبة والإعجاز على وجه التمني والشهوة وإما لجهالة قدرة القديم الفاعل. {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ} إما للحرص الطبيعي الذي هو في نفس الحيوان وإما للتشرف (¬3) والتبرك وإما لكسب العلم الضروري وحسم توهم السحر واللبس، فالذوق والمضغ والابتلاع ويحتمل أنهم تنوّعوا في هذه المعاني أنواعًا وافترقوا فرقًا على حسب همهم. {قَالَ عِيسَى} في الحال دلالة أنه استنزل المائدة بعد الإذن في السؤال والدعاء {تَكُونُ} أي كانت لنا عيدًا أو هي على سبيل المجاز؛ لأن المائدة لا يتصور أن تكون عيدًا ولكن زمانها من السنة عيد مأخوذة (¬4) من عاد يعود، وقيل: نزلت المائدة يوم الأحد فاتخذوه عيدًا، فيوم الأحد (¬5) لهم كيوم السبت لليهود {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل عن (¬6) {لَنَا}. قال الله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} عن الحسن ومجاهد (¬7) أن القوم لما سمعوا هذا الوعيد ندموا وتابوا ولم ينزل المائدة (¬8)، والأكثرون على أنها نزلت فيما روى الكلبي عن بعضهم أن عيسى -عليه السلام- سأل شمعون ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (الخون). (¬2) في الأصل: (كون حالة). (¬3) في الأصل: (للتشريف). (¬4) في الأصل و"ي": (مأخوذ). (¬5) (فاتخذوه عيدًا فيوم الأحد) ليست في "أ". (¬6) قاله الزمخشري أنها بدل من "لنا" بتكرير العامل ويجوز في قوله: "لأولنا وآخرنا" أن يكون متعلقًا بمحذوف صفة لـ"عيدًا". [الكشاف (1/ 655)]. (¬7) أخرجه الطبري عنهما في تفسيره (9/ 130)، وابن أبي حاتم (7046) عن الحسن وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 348) عنهما إلى أبي عبيد وابن المنذر. (¬8) في "أ": (ينزل من المائدة).

- وهو أفضل الحواريين -: هل معك طعا؟ قال: نعم معي سمكتان وستة أرغفة، فقال: عليَّ بها فجاء فقطعها (¬1) قطعًا صغارًا ثم قال للقوم: اقعدوا وترفّقوا رفاقًا كل رفقة عشرة، ثم قام عيسى ودعا الله تعالى فاستجاب له بالبركة فيها، فجعل عيسى -عليه السلام- يلقي إلى كل رفقة ما تحمل أصابعه ويقول: كلوا باسم الله والطعام ينمى حتى بلغ ركبهم، فأكلوا ما شاء الله وفضل خمسة وثلاثون مكيلًا، وقيل: أربعة وعشرون مكيلًا، وكان الناس خمسة آلاف ونيفًا، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله. ثم سألوا مرة أخرى فأنزل الله خمسة أرغفة وسمكتين فصنع لها مثل ما صنع في المرة الأولى، فلما رجعوا إلى قراهم (¬2) ونشروا الحديث ضحكوا وقالوا: إنما سحر أعينكم، فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمكثوا ثلاثة أيام ثم مسخوا خنازير. وفي هذه الرواية (¬3) النزول هو النموّ والبركة، وعن عمار بن ياسر وقتادة: أن المائدة كانت عليها من ثمار الجنة كانت تنزل عليهم بكرة وعشيًا كال منّ والسلوى (¬4). وعن باذان وأبي ميسرة: كان عليها كل شيء إلا اللحم (¬5)، وعن عطية: وجدوا في السمك طعم كل شيء (¬6)، وعن عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي قال: لما سألوا المائدة لبس (¬7) صوفًا وبكى وسأل الله (¬8) ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (بقطعها). (¬2) في "ي" "ب": (قربهم). (¬3) في "أ": (الآية). (¬4) ابن أبي حاتم (4/ 1245) عن عمار بن ياسر بلفظ: نزلت المائدة عليها ثمرٌ من ثمر الجنة. وأما عن قتادة فرواه ابن جرير (9/ 129)، وابن الأنباري في الأضداد (351). (¬5) هذا مروي عن سعيد بن جبير رواه ابن أبي حاتم (4/ 1245، 1248). (¬6) ابن جرير (9/ 125، 126)، وابن أبي حاتم (4/ 1246)، وابن الأنباري في الأضداد (351). (¬7) في "أ": (للبس). (¬8) (وسئل الله) ليست في "ب".

فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها (¬1) وهي تهوي حتى سقطت بين أيديهم، فبكى -عليه السلام- وقال: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة، ثم قام وتوضأ وصلَّى صلاة طويلة ثم كشف المنديل عنها فإذا تحته سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك (¬2) وعند رأسها ملح وعند ذنبها خلّ وحولها من أنواع البقل ما خلا الكراث، وروي إلا الخمس (¬3) والكراث، وإذا (¬4) خمسة أرغفة على (¬5) واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس زبيب أو شيء آخر، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة فكلوا ما سألتم، فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال عيسى -عليه السلام-: يا سمكة احيي بإذن الله، فاضطربت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ففزعوا منها، ثم قال: يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله فعادت مشوية كما كانت، وقالوا (¬6): يا رسول الله كن أنت أول آكل منها (¬7)، فقال عيسى: معاذ الله أن آكل منها ولم يأكل من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا عيسى (¬8) -عليه السلام- أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين فأكلوا وصحّوا كلهم، وإذا السمكة كما كانت، ثم طارت المائدة إلى السماء وهم ينظرون (¬9). ¬

_ (¬1) (إليها) ليست في "أ". (¬2) في "ب" والأصل: (شواك). (¬3) في "أ": (النحل). (¬4) في الأصل: (ولم ذا). (¬5) (على) ليست في "أ". (¬6) في "أ": (فقالوا). (¬7) (منها) ليست في الأصل. (¬8) (عيسى) ليست في "أ". (¬9) في "أ": (ينظر).

فلبث أربعين صباحًا تنزل عليهم المائدة ضحى فلا تزال منصوبة يأكلون منها فوجًا فوجًا حتى إذا فاء الفي طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت، وكان ينزل غبًّا، فأوحى الله إلى عيسى اجعل ما ترى رزقي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء (¬1) وتشككوا (¬2) الناس وقالوا: أترون (¬3) أنها تنزل من السماء حقًا؟ فقال عيسى: تشمروا لعذاب الله، فمسخ منهم ثلثمائة وثلاث وثلاثون رجلًا خنازير في ليلة واحدة ولم يبيتوا (¬4) الدواب ولم يأكلوا ولم يشربوا ولكنهم كانوا يبعدون (¬5) الطريق ويترددون ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام (¬6). {أُعَذِّبُهُ} عائد إلى (من يكفر) {لَا أُعَذِّبُهُ} عائد إلى الفعل المفعول وهو العذاب وذلك ما خصّهم من الألم المخصوص بهم حالة المسخ أو ما خصهم به من عذاب الآخرة. {وَإِذْ} بمعنى إذا، لتحقق الوجوب (¬7)، وعن السدي (¬8) أنه للماضي وذلك عند رفعه إلى السماء، فالسؤال سؤال لوم وتقريع للنصارى عند الجمهور وسؤال الابتلاء والاختيار أي (¬9) عند السدي روى أن عيسى -عليه السلام- ¬

_ (¬1) (فعظم ذلك على الأغنياء) ليست في "أ". (¬2) في الأصل: (فشككوا). (¬3) في "ب": (تريدون). (¬4) في الأصل و"ب": (ينتهوا). (¬5) في الأصل و"ب": (يفدون في). (¬6) ابن أبي حاتم (4/ 1244 - 1255)، وأبو الشيخ في "العظمة" (1011) واستغربه ابن كثير في تفسيره. (¬7) بمعنى هل هذا القول وقع وانقضى أو سيقع يوم القيامة؟ قولان؛ فقيل: إنه لما رفعه إليه قال له ذلك. وعلى هذا تكون على بابها في الدلالة على المضي وهذا هو الظاهر الذي تدل عليه الآية، وقيل: إن الله سيقول له ذلك يوم القيامة وعلى هذا فـ "إذ" بمعنى "إذا" و"قال" بمعنى يقول. [الدر المصون (4/ 511)]. (¬8) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 133)، وابن أبي حاتم (7051). (¬9) (أي) ليست في "ب".

لما سئل (¬1) هذا السؤال أُرعِد كل مفصل منه وانفجرت من تحت كل شعرة عين دم {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} تأكيد للنفي إذ لا يصح شيء من الأشياء لا يعلمه الله تعالى والعلم أعم من السر (¬2) قال: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7]، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي (¬3)} مضمر ما في قلبي ولا أعلم ما هو مستور في غيبك، وإنما ذكر النفس لمردوح الكلام ولا يحل نفس الله شيء من الحوادث تعالى الله (¬4) أن يكون ظرفًا للإنسان (¬5). {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ترجمة للمستثنى المقول (¬6) {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي شهدت عليهم وعلمت خيرهم وشرهم، (الرقيب) الشهيد. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} قول عيسى -عليه السلام- إرجاء منه الأمر إلى الله وترك للتحكم والتالي عليه كما قال نوح: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] الآية، وقال إبراهيم {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وإنما قال العزيز الحكيم ليبين أن مغفرته لم تقع عن جهل ولا عجز ولكنه يعفو مع القدرة على الانتقام، حكيم فيما فعل، وقيل: إنما وصف بالعزيز الحكيم (¬7) دون الغفور الرحيم ليبين أنه غير متشفع (¬8) لهم هذا أي الأمر والحكم أو الشأن. {يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} عيسى ومن شهد من الأنبياء والصدّيقين {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} صرف عنهم موجبات سخطه بوجود المرضي عنهم وهو الصدق {وَرَضُوا} صرفوا الكراهة عن نعم الله تعالى بوجودها مرضية في الحال والمال مأمونة الخبال والوبال، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: (مثل). (¬2) في "ب": (السمع). (¬3) في الأصل: (النفس). (¬4) (الله) ليست في الأصل. (¬5) في جميع النسخ (للانسا) والمثبت من "أ". (¬6) في "أ": (القول). (¬7) من قوله (وترك للتحكم) إلى قوله (بالعزيز الحكيم) ليست في "ب". (¬8) في "أ": (مشفع).

سورة الأنعام

سُوْرَةُ الأَنْعَامِ مكية عند ابن عباس وعطاء إلا (¬1) ثلاث آيات {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151] أنزلت بالمدينة أو بين مكة والمدينة (¬2)، وعند ابن المبارك والكلبي عن ابن عباس هذه مدنيات وآيتان (¬3) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، و {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} [الأنعام: 21]، وعن الحسن ثلاث آيات نزلت بالمدينة {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: 23]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] نزلت في ثابت بن قيس (¬4)، وعن أبي أنها مكيّة كلها نزلت جملة (¬5) واحدة، شيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد (¬6). ¬

_ (¬1) (إلا) ليست في "أ". (¬2) أما عن ابن عباس فرواه النحاس في "ناسخه" (415)، وذكره عنه أبو عمرو الداني في "البيان" (151)، وأما عن عطاء فذكره الداني في البيان (151)، وعطاء هو ابن السائب. (¬3) ذكره الداني في البيان (151)، وأما عن ابن المبارك فلم أجده، وأما عن الكلبي فذكره ابن عطية في المحرر (6/ 1)، والألوسي في "روح المعاني" (7/ 98). (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (6/ 382). (¬5) في "ب" "ي": (نزلت جملة بسم الله الرحمن الرحيم واحدة). (¬6) عن أبي ورد مرفوعًا عند أبي الشيخ كما في "الدر المنثور" (6/ 8،7) وله شواهد عن أنس رواها الطبراني في الأوسط (6447)، والبيهقي في الشعب (2433)، وفي السنن الصغرى (1007)، والإسماعيلي في معجم شيوخه (187) وسنده ضعيف. وعن ابن عمر رواه الطبراني في الصغير (220)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 44) وسنده ضعيف جدًا. =

وهي ماية وسَبع (¬1) وستون آية حجازي (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬3) {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} هما صفتان للسماوات والأرضِ، والتقدير: جعلهن [مظلمة ومنيرة كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] وإنما قدم الظلمات لأنها هي المخلوقات أولًا] (¬4) فيما يروى عن ابن عباس (¬5)، وقيل: لكونها مجموعة كالسماوات، ثم بعد هذه النعم كلها والدلائل بأسرها طفق هؤلاء الكافرون بربهم يشركون ويجعلون لله عديلًا وشريكًا. وعن النضر بن شميل أن الباء بمعنى عن (¬6)، أي: عن ربهم يعرضون ويحرفون. ثم خاطب جميع بني آدم {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} والمراد به خلقه آدم من ¬

_ = وعن جابر رواه الحاكم (2/ 314، 315)، والبيهقي في الشعب (2431)، وسنده تالف حتى قال الذهبي: وأظن هذا موضوعًا. وعن ابن عباس كما عند ابن الضريس (201)، وأبو عبيد في الفضائل (69). وعن أسماء بنت يزيد عند الطبراني في الكبير (24/ 178)، وله لفظ آخر عنها في الخلعيات، هكذا ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 6). ومجموع هذه الآثار تشعر أن لنزولها جملة واحدة أصل في السنة وإن كانت الروايات ضعيفة، والله أعلم. (¬1) (وسبع) ليست في "أ". (¬2) عدها المدنيون والمكيون كذلك، وأما الكوفيون فعدوها (165) آية، وأما البصريون والشاميون فعدّوها (166) آية. وانظر: "البيان في عدِّ آي القرآن" لأبي عمرو الداني (151). (¬3) (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست في "ب" "ي". (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬5) يروى عن قتادة: خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور، رواه ابن جرير (9/ 145)، وابن أبي حاتم (7079، 7083). (¬6) نقله عن النَّضر ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 2)، والقاسمي في تفسيره (4/ 316).

الطين المبلول (¬1) بالماء المهيج للروح (¬2) المولد حرارة بالهيجان، والدليل على أن أصل الخلقة من الطين هو الرجوع إلى الطين عند فسخ البنية، والأجل المقضي أجل الدنيا والأجل المسمى أجل الآخرة (¬3)، وقيل: الأجل المقضي أجل اليقظة إلى النوم والأجل المسمى أجل الحياة إلى الموت (¬4) وهذا كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]، وقيل: الأجلان واحدة، والتقدير: ثم قضى أجلًا وذلك (أجل مسمى عنده)، وقيل: الأجل المقضي ما جعله من قضيته الطبيعية، والأجل المسمى عنده ما لا يتوصل إلى علمه من الحوادث. (الامتراء) من المرية وهي الشك. {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} مختصة بمن أصرّ على الكفر من قريش. {فَقَدْ كَذَّبُوا} التكذيب من توابع الإعراض، وإثبات (¬5) العذاب من توابع التكذيب، فلذلك دخلت الفاء، {أَنْبَاءُ} الأخبار العظيمة وهي العذاب كما يقال في التهديد سيبلغك الخبر، و {مَا كَانُوا بِهِ}: {بِالْحَقِّ} وهو القرآن. (القَرْن) مدة من الزمان مختلف في مقداره وحقيقته مدة استقامة بقاء العالم غالبًا على رسم واحد مشتق من اقتران أهل العصر واجتماعهم، والمراد بالقرن أهله، (التمكين) كالتسليط، يقال: مكنته ومكنت له، {السَّمَاءَ} المطر (¬6)، و (المدرار) من الدر على وزن مفعال ¬

_ (¬1) في "أ": (من الطين والماء المبلول المهيج). (¬2) في "أ" "ب": (بالروح). (¬3) هذا مروي عن ابن عباس كما عند ابن جرير (9/ 151)، وابن أبي حاتم (7090، 7091، 7100)، والحاكم (2/ 315). (¬4) هذا مروي عن ابن عباس كذلك كما عند ابن جرير (9/ 153)، وابن أبي حاتم (7093، 7097) قال ابن كثير: وهذا قول غريب. (¬5) في "أ" "ي" "ب": (وإتيان). (¬6) يطلق السماء ويراد به المطر ومنه الحديث الذي رواه أبو داود (4/ 227)، ومالك في الموطأ (1/ 192) "في أثر سماء كانت من الليل" ومنه قول الشاعر وينسب لمعاوية بن مالك: إذا نزل السماءُ بأرض قومٍ ... رعيناه وإن كانوا غضابا

لا يؤنث، تقول (¬1): رجل مذكار ومئناث وامرأة مذكار ومئناث (¬2)، {مِنْ تَحْتِهِمْ} من تحت مساكنهم (أهلكناهم) بالخسف والمسخ والطاعون، ونقل الدول والولايات دون الموت الذي لا بدّ منه، و (الإنشاء): الابتداء. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} مختصة بكفار قريش (¬3) الذين قالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 190]، و (القرطاس) الصحيفة من أي شيء كان، وإنما قال: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} لتأكيد العلم الضروري فإن الرؤية يقع فيها على طريق المشاهدة [التخيل ولا يقع لحاسة المس، وقال: {لَوْلَا أُنْزِلَ} طالبوا رسول الله بآية توجب العلم الضروري] (¬4) دون الاستدلال والاجتهاد، فبيَّن الله أن ذلك يوجب الإهلاك ورفع الإمهال. ولو جعلنا الرسول {مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ} في صورة البشر ولجعلنا الأمر ملتبسًا للامتحان والابتلاء وترجية الثواب والعقاب. ¬

_ (¬1) في الأصل: (نقول) بالنون. (¬2) قوله: {مِدْرَارًا} [الأنعَام: 6] هو للمبالغة على وزن مفعال، قال مقاتل: {مِدْرَارًا} متتابعًا مرة بعد أخرى ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو كقولهم: امرأة مِذْكار، إذا كانت كثيرة الولادة للذكور ومئناث إذا كانت كثيرة الولادة للإناث، وأصله من "دَرِّ اللبن" وهو كثرة وروده على الحالب، ومنه قولهم: "لا دَرُّ دَرُّه" في الدعاء عليه بقلة الخير. [معاني القرآن للزجاج (2/ 229)، تفسير الرازي (12/ 132)، الدر المصون (4/ 542)]. (¬3) يدل على ذلك سبب النزول وإن كان في سنده ضعف عن ابن إسحاق، قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأُبي بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام الذي يقول له: لو جعل يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعَام: 7]. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (7120)، وذكره البغوي في تفسيره معلقًا عن الكلبي ومقاتل (3/ 129). (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل.

{فَحَاقَ} قال الأزهري (¬1): الحيقُ: ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، {مَا كَانُوا} أي: وبال، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من الأقوال والأفعال. {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لم يقدروا أن يطلقوا إضافة الملك إلى آلهتهم وكرهوا التسليم للسائل -عليه السلام- فأمر الله أن يأتي بجواب سؤال بعينه وفائدة الإفحام، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ} ضمن ووعَد الرحمة والإمهال (¬2) بعد الدعوة إن شاء الله، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي: والله ليجمعنكم، {الَّذِينَ خَسِرُوا} مبتدأ في معنى الشرط، ولذلك أجاب بالفاء (¬3). {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} اقتصار على أحد طرفي الكلام كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] والمراد بالسكون وجود الشيء في حيثيته، والمراد بهما الليل والنهار (¬4) حالة القرار والتقلب، والجوهر في هاتين الحالتين السماء فما فوقها والأرض فما تحتها. {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ} جواب كلام الكفار في معنى الدعوة (¬5) إلى الشرك، {فَاطِرِ} نعت لله، و (الفطر): الخلق، وقيل: الفتق بعد الرتق، قال: {وَهُوَ يُطْعِمُ} لاستحقاق الطاعة بالإطعام، {وَلَا يُطْعَمُ} لنفي الحاجة، {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} في زمانه، {وَلَا تَكُونَنَّ} نهي على قوله: قل، لا على قوله: أن أكون. ¬

_ (¬1) هذا القول ذكره الزجاج في معاني القرآن (2/ 231)، وذكره الأزهري في تهذيب اللغة (5/ 126 - حاق). (¬2) في "أ": (الأمثال) وهو خطأ. (¬3) هذا أحد الأوجه في إعراب: {الَّذِينَ خَسِرُوا} [الأنعَام: 12] وهو قول الزجاج، والوجه الثاني: أنه منصوب بإضمار "أذم" وقدره الزمخشري بأريد، والوجه الثالث: أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين، والوجه الرابع: أنه منصوب على البدل من ضمير المخاطب وإليه ذهب الأخفش. [معاني القرآن للزجاج (2/ 255)، الكشاف (2/ 8)، المحرر (6/ 14)، الدرر المصون (4/ 551)]. (¬4) (الليل والنهار) من الأصل. (¬5) (الدعوة) ليست في "أ".

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ} مسك الشيء بالشيء إمساكه إياه، والكشف نقيض التغطية. {وَهُوَ الْقَاهِرُ} القهر: التسخير وصرف الشيء عن طبيعته، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ} فائدة السؤال الإفحام ولتفخيم الأمر في نفوس المخاطبين، وفي الآية دلالة على جواز إطلاق اسم الشيء على الله وإنما لم يقل شهيد لي ولهم (¬1)؛ لأن الشهادة لم تكن لهم، وإنما لم يقل: عليَّ وعليكم؛ لأن الشهادة لم تكن عليه، {وَمَنْ بَلَغَ} دلالة أن الناس كلهم مخاطبون بالقرآن على شرط العقل والسماع، {أَئِنَّكُمْ} استفهام بمعنى التقريع واللوم، والسؤال بأئن للتقريع. {فِتْنَتُهُمْ} وهذه الفتنة أشد فتنة تصيبهم لجهلهم بعد الخسار والتجائهم إلى الإنكار والجحد بين يدي الجبار في دار القرار عند معاينة النار. {انْظُرْ} أمر تعجيب، {وَضَلَّ} غاب وفات، و {مَا كَانُوا} هي دعاويهم الكاذبة في الدنيا. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} قيل: إن أبا سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحرث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية وأُبي ابني خلف استمعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ثم قالوا للنضر: أتعرف ما هذا؟ قال: لا، إلا أني أراه يحرك لسانه (¬3)، {أَكِنَّةً} جمع كنان وهو الستر، {وَقْرًا} نقلًا والمراد به الخذلان، و {الَّذِينَ} و {حَتَّى} غاية لاستماعهم، أي: غايته الجدال والإنكار دون الإقبال والإقرار، {أَسَاطِيرُ} واحدتها أسطورة، وقيل: أسطارة، وقيل: لا واحد لها، وهي ما سطره الأولون وكتبوه في كتبهم من الأسماء والأباطيل. {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} والمراد بالنهي ذب أبي طالب عن النبي -عليه السلام- (¬4)، ¬

_ (¬1) في "أ" "ب": (ولكن)، وفي "ي": (ولكم). (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 18) من رواية أبي صالح عن ابن عباس، وكذا القرطبي (6/ 405). (¬4) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -).

رواية عن ابن عباس (¬1)، و (النأي) تباعده عن القرآن وموجباته، أخبر الله عن تناقض أمره وعجب فعله، إلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وابن زيد والحسن، وروي عن ابن عباس (¬2): المراد بالنهي صدّهم وتنفيرهم الناس عن الإسلام (¬3)، والنأي تباعدهم بأنفسهم، والنأي البعد (¬4). {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} حبسوا، وجواب لو محذوف. {بَلْ} ردّ لحقيقة تمنيهم بما اضطرهم إلى ذلك وهو ظهور ما كتموه وجحدوه من الشرك وغيره بشهادة (¬5) سمعهم وأبصارهم وجلودهم وأيديهم وأرجلهم (¬6). {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} إخبار عن غاية الموهوم والمتصور (¬7) من حالهم المعلقة بشرط الإعادة ولا إعادة. {إِنْ هِيَ} كناية (¬8) عن الحياة. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عن ابن عباس عبد الرزاق في تفسيره (1/ 206)، وسعيد بن منصور (874)، وابن جرير (9/ 203، 204)، وابن أبي حاتم (7199، 7206)، والطبراني في الكبير (12682)، والحاكم (2/ 315)، والبيهقي في الدلائل (2/ 340). (¬2) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (9/ 201)، وابن أبي حاتم (7200، 7207). وأما عن مجاهد فرواه ابن جرير (9/ 202)، وابن أبي حاتم (7202). وأما عن قتادة فرواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 205)، وابن جرير (9/ 202)، وابن أبي حاتم (7203). (¬3) من قوله: (ابن عباس) إلى هنا: ليست في "ب". (¬4) قوله تعالى: "ينهون" و"ينأون" بينهما -كما قال البلاغيون- تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف، فـ"ينهون" انفردت بالهاء، و"ينأون" بالهمزة، ومثله قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وقوله -عليه السلام-: "الخيل معقود في نواصيها الخير". رواه البخاري (6/ 54 - كتاب الجهاد). والنأي هو البعد ومنه قول ذي الرمة: إذا غيَّرَ النأيُ المُحِبَّين لم يزل ... رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ [البحر (4/ 100)، ديوان ذي الرمة (2/ 192)، الخزانة (4/ 75)]. (¬5) في الأصل: (وغير الشهادة). (¬6) (وأرجلهم) ليست في "أ". (¬7) في الأصل: (والمتصور). (¬8) في الأصل: (بني كنانة) وهو خطأ.

{عَلَى رَبِّهِمْ} على سؤال ربهم، وهذا إشارة إلى البعث وأمور الآخرة حتى غاية التكذيب. {بَغْتَةً} فجأة وهو وقوع عن الموهوم. نداء الحسرة مجاز كنداء الويل والتمني، (التفريط): العجز والتضييع {فِيهَا} في الآيات، {أَوْزَارَهُمْ} جمع وزر، وهو الثقل المثقل للظهر، وقد وزر إذا أكمل الثقل فهو وازر {وَمَا} نكرة صلة، وقيل: تقدير اسم نكرة. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: الحياة المقصورة على الاشتغال بالمنافع العاجلة لا حياة من يكسب الآخرة بإذن الله، و (اللهو) أشد من اللعب وهو ما يلهيك عما يعينك، تقول: لهوت إذا لعبت ولهيت إذا غفلت، وإنما خصّ بأن الآخرة للمتقين خير من الدنيا لأن الأطفال والمجانين تبع للمتقين غير منفردين بالحكم حتى. {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} غاية الصبر والأيد الإصابة بالمكروه من قول أو فعل، ومما لا يبدل قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} [الصافات: 172،171] وفيه تسلية للنبي -عليه السلام- (¬1). {كَبُرَ عَلَيْكَ} عظم عليك (¬2)، {إِعْرَاضُهُمْ} أي: شأن كفرهم، وهذا شرط وجوابه إن استطعت مع جزاء مضمر، أي فافعل (¬3)، {نَفَقًا} سربًا (¬4)، {سُلَّمًا} مرقاة، وفي هذا تعجيز للنبي -عليه السلام-، وفي البأس إحدى الراحتين، أي: ليس بيدك شيء من الآيات الملجئة المضطرة فإنما أنت رحمة، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} تنبيه على أنه شاء أن لا يجمعهم، وإنما نبه على ¬

_ (¬1) في "ب": (للنبي صلى الله وسلم)، وفي "ي": (للنبي عليه). (¬2) (عظم عليك) ليس في "ب". (¬3) قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ} [الأنعَام: 35] هذا شرط، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني، وجواب الثاني محذوف تقديره: فإن استطعت أن تبتغي فافعل، ثم جُعِلَ الشرط الثاني وجوابه جوابًا للشرط الأول. [الدر المصون (4/ 607)]. (¬4) في الأصل: (نفقًا في).

تسلية النبي -عليه السلام-، و (الجهل) أن تتكلف إيجاد ما علم (¬1) أن الله تعالى لم يشأه. {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} هم الموفقون لاستماع الحق، والواو للاستئناف، {وَالْمَوْتَى} الكفار، شبههم بالموتى (¬2) لعدم روح الإيمان، وذكر المبعث للتهديد. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ} أخبر عن اقتراحهم أنه ملجئه وأنها مقدورة له ولكن {لَا يَعْلَمُونَ} وجه الحكمة في الإمهال إلى تتمة الآجال، وإيمان لمن قدر من النساء والرجال. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} اتصالها بما قبلها من حيث التنبيه على كمال القدرة، و (جناح الطير) بمكان الأيدي وذكر الجناحين للتأكيد كقوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51]، {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف: 77] والمماثلة بالحاجة إلى الصانع بالدلالة على حدوث ذواتها وبالشهادة لله بالوحدانية عن السدي، وبالتسبيح لله عن عطاء، وبأنها أصناف مصنفة تعرف بأسمائها عن مجاهد. {مَا فَرَّطْنَا} ما ضيعنا وقصرنا، {فِي الْكِتَابِ} القرآن، {مِنْ شَيْءٍ} يحتاج إلى علمه إلا ذكرناه مفسرًا أو مجملًا، وقيل: الكتاب: اللوح المحفوظ أو القضاء الذي قضاه الله على خلقه، و (الحشر) الموت عن علي وابن عباس (¬3)، وقيل: الحشر البعث لاقتصاص بعضها من بعض، عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- قال: "تقتص الشاة الجماء من القرناء" (¬4)، وقيل: إن الله يجازيها حقيقة المجازاة على مقدار ما ألمها من قبح الأفعال (¬5) وحسنها، ثم ¬

_ (¬1) في الأصل: (ما على الله أن الله). (¬2) في الأصل: (شبههم بالكفار الموتى). (¬3) أما عن علي فلم نجده. وأما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (9/ 234)، وابن أبي حاتم (7260). (¬4) مسلم (4/ 1997). (¬5) في الأصل: (الأنعام) وهو خطأ.

اختلفوا في حال الحيوانات، قيل: تصير ترابًا بعد الاقتصاص (¬1)، وقيل: ما تستأنس به الإنس أدخل الجنة ينتفع بها أهلها وسائرها يجعل كافورًا ومسكًا في الجنة، وقيل: يعوض هذه الحيوانات آلامها الدنياوية عوضًا متناهيًا، وقيل: عوضًا غير متناه، فكل هذا الحكم على الله تعالى لا يثبت إلا بالوحي أو بالأخبار المتواترة. {أَرَأَيْتَكُمْ} سؤال إفحام (¬2)، و {السَّاعَةُ} اسم من أسماء القيامة كالآزفة، وهي اسم الجزء من أربعة وعشرين من الملوين واسم لكل مدة قريبة. {بَلْ} للإثبات بعد النفي، وإنما يدعون الله ويستجدونه إلى كشف ما أصابهم لما في صلة المخلوق من الفزع إلى الخالق عند الضرورة. {فَأَخَذْنَاهُمْ} أخذ الله إياهم بالبأساء كأخذه (¬3) آل فرعون بالطوفان وأخواته، وأخذ أهل نينوى (¬4) لما عاينوا من البأس. {تَضَرَّعُوا} إلى الأنبياء -عليه السلام- (¬5) وهم لم يفعلوا إلا الفزع إلى الخالق ¬

_ (¬1) ورد ذلك عن عدة من السلف مثل أبي هريرة ومجاهد وعكرمة وغيرهم، ولفظ أبي هريرة قال: "يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم، والدواب، الطير، وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجَمَّاءِ من القرناء، ثم يقول: كوني ترابًا، فلذلك يقول الكافر: {لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النّبَإِ: 40] " أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 206)، والطبري (9/ 235)، وابن أبي حاتم (7262). (¬2) وهو سؤال بمعنى الإخبار بمعنى: أخبروني. ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام "قل" وتحذف الهمزة تخفيفًا وهي قراءة ورش وهو تسهيل مُطرد. [الكشف (1/ 431)، البحر (4/ 125)]. (¬3) في الأصل: (بأقباسًا كأخذ)، وفي "أ": (بالناس كأخذه). (¬4) يقصد قوم نبي الله يونس -عليه السلام-. (¬5) هذا التفسير غير سليم فيما يظهر، فإنما يقصد بالتضرع لله واللجوء إليه ويكون تقدير الكلام: فَهَلاَّ إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المُكَذِّبَة رسلها الذين لم يتضرعوا عندما أخذناهم بالبأساء والضراء تضرعوا فاستكانوا لربهم وخضعوا لطاعته فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهذا اختيار وتقدير ابن جرير في تفسيره (9/ 243).

صلة، وأما فرعون وقومه فإنهم كانوا يخادعون موسى -عليه السلام- (¬1) ولا يتضرعون حقيقة، والمراد بالحث المستقبلون، وإن كان اللفظ في الماضين. {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} وهذا فتح على سبيل الاستدراج كقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] وإنما لم يفعل ذلك بهم على وجه المكر والعقوبة ليزدادوا إثمًا (¬2)، (المبلس) الحزين، والإبلاس الاكتئاب (¬3). {دَابِرُ الْقَوْمِ} آخرهم، وقيل: أصلهم (¬4)، ذكر {دَابِرُ الْقَوْمِ} عبارة عن الاستئصال (¬5)، وذكر الحمد نصرة المؤمنين بدلالة فحوى الكلام يدلس على أنه جواب الشرط وليس بمبتدأ، والهاء عائدة إلى المأخوذ أو الإحساس وإنما ذكرهم بمثل هذا الاقتضاء للطاعة والعبادة فصرف الآيات عن وجوهها إلى جهات مختلفة وعبارات شتى. {يَصْدِفُونَ} يعرضون (¬6). {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} في الآية دلالة أن الأنبياء أتوا بعد الإعجاز من الآيات هي البشارة والإنذار دون الإتيان بالآيات الملجئة إذ ذاك إهلاك (¬7)، ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (إثمًا) ليست في الأصل. (¬3) قاله مجاهد: أخرجه عنه الطبري في تفسيره (9/ 248) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 12) إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) في الأصل: (أعلهم). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (9/ 250) عن ابن زيد، ودابر الشيء آخره، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فأهلكوا بعذابٍ حَصَّ دابرهم ... فما استطاعوا له صرفًا ولا انتصروا [ديوان أمية (ص63)]. (¬6) قاله مجاهد وقتادة رواه عنهما الطبري في تفسيره (9/ 253)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7311). (¬7) في الأصل و"ب": (هلاك).

والإهلاك إلى الله تعالى ودون الإتيان بكل ما يقترفه، الإثم إذ ذاك شيء لا نهاية له، ووجود (¬1) ما لا نهاية له محال. {خَزَائِنُ} جمع خزينة، والخزينة الأموال المخزونة المستورة عن أعيُن الناس، والخزانة بكسر الخاء الموضع المخزون، والصناعة: الخازن بفتح الخاء المصدر، وأراد هاهنا غوامض مقدوراته ونعمه المستورة، {الْغَيْبَ} ما لم يطلعه الله عليه ولم يخبره عنه، وفي الآية أربع خصال من الأدب بترك الصلف وترك الكبر وحسم التهم والشبه ووضع سنَّة يستنُّ بها من بعد، {الْأَعْمَى} الكافر الجاهل {وَالْبَصِيرُ} المؤمن العالم (¬2). {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ} نزلت في شأن المؤمنين (¬3) {بِهِ} بالقرآن والوحي، {يَخَافُونَ} يعلمون، قاله الحسن (¬4). وإنما خصّ المؤمنين لانتفاعهم به كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ} [يس: 11]. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ} نزلت في الموالي والفقراء مثل عمار وبلال وصهيب وخباب وسالم وابن مسعود. كان أبو جهل قال: يا محمد، لو طردت هؤلاء لأتاك أشراف قومك (¬5)، وعن السدي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن قالا: يا محمد، تأتيك وفود العرب ونحن نستحي أن ¬

_ (¬1) في "أ": (فوجود). (¬2) قاله ابن جرير في تفسيره (9/ 256)، ورواه عن قتادة. (¬3) روي ذلك عن ابن مسعود، رواه أحمد (7/ 92)، وابن جرير (9/ 258، 259)، وابن أبي حاتم (7342)، والطبراني في الكبير (10520)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 346) وسنده حسن ولفظه: (مرّ الملأ من قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعَام: 53]؟! أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعَام: 51] إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعَام: 58]. (¬4) انظر تفسير القرطبي (3/ 431). (¬5) لم أجده عن أبي جهل، ولكن ذكر في بعض الروايات جمع من كبار كفار قريش كعتبة وشيبة ابني ربيعة، ومطعم بن عدي وغيرهم. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 263) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 13) إلى ابن المنذر.

نجلس معك وعندك هؤلاء فاطردهم عنك إذا حضرنا واجلس معهم إذا صرفنا، فهمَّ النبي -عليه السلام- بالإجابة وأظهر شيئًا من ذلك فطلبا منه كتابًا وعهدًا فدعى (¬1) عليًا ليكتب لهم الكتاب فأنزل الله، فألقى الصحيفة من يده وعانق هؤلاء الفقراء (¬2)، والطرد في معنى التنفير والحشر، {يَدْعُونَ} يعبدون لا يريدون بعبادتهم (¬3) إلا وجه الله وجوابه (¬4)، {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي (¬5) العارض بين النهي وجوابه وذلك قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: ليس عليك إحصاء أحوالهم وبواطنهم وحفظهما، ولا عليهم إحصاء أحوالك وبواطنك وحفظها فتجد بذلك (¬6) عليهم سبيلًا، {فَتَطْرُدَهُمْ} وإنما السبب الجامع بينك وبينهم اتصال البلاغ بالقبول فقط وقد بلغت وقبلوا فلا سبيل لك عليهم في طردهم. {أَهَؤُلَاءِ} استفهام بمعنى الإنكار، {أَلَيْسَ} ابتداء كلام من الله على وجه الإثبات فإنه دخل على المنفي. {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ} نزلت في شأن من تقدم ذكرهم، وعنه -عليه السلام- كان إذا رآهم يبدأهم بالسلام ويقول: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام" (¬7)، {كَتَبَ} وعد (¬8) وأوجب حكمه، {الرَّحْمَةَ} وكذلك الواو للاستئناف (¬9) والإشارة إلى ما تقدم. ¬

_ (¬1) في الأصل: (فطلبا). (¬2) ابن ماجه (4127)، وابن أبي شيبة (12/ 207، 208)، وابن جرير في (9/ 259 - 261)، وابن أبي حاتم (7331، 7346)، والطبراني في الكبير (3693)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 344)، والبيهقي في الدلائل (1/ 352، 353) وسنده صحيح ثابت. (¬3) بعبادتهم ليست في الأصل. (¬4) في جميع النسخ: (جوابه فتكون ...)، والمثبت من الأصل. (¬5) قاله النحاس في إعرابه (2/ 548)، والزجاج في معاني القرآن (2/ 252). (¬6) في الأصل: (وتجد عليهم سبيلًا). (¬7) روي هذا عن الحسن وعكرمة كما عند ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 48). (¬8) (وعد) ليست في الأصل، وكتب في الأصل: (كتب واو وأوجب ..). (¬9) أي: الواو التي في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعَام: 54].

{وَلِتَسْتَبِينَ} والواو للعطف على مضمر تقديره لتفصل الآيات، {وَلِتَسْتَبِينَ} أو ليتوقف عليها وليستبين (¬1)، الإجرام ارتكاب الجريمة، والجريمة الجناية. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} أي: إن اتبعت أهواءكم، أكد جزاء الشرط. {عَلَى بَيِّنَةٍ} بصيرة (¬2) واستبانة من أمري، {مَا عِنْدِي} نفي، الذي {تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآيات الملجئة ونزول العذاب، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} لا يرفع الاجتهاد وفي الشريعة لأنه من أحكام الله تعالى. وفي قوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي} دلالة أن النبي -عليه السلام- كان يريد نزول العذاب بهم بعدما ضاق بهم ذرعًا لكن لم يكن بيده، {بِالظَّالِمِينَ} أي: بمن يثبت على كفره فيحق عليه العذاب وبمقدار استحقاقه. {مَفَاتِحُ} خزائن واحدها مفتح وآلة الفتح مفتاح، وجمعها مفاتيح بالياء، وعن مجاهد أن البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء (¬3)، والعلم علمه الأشياء على التفصيل والسقوط انحدار في الهواء (¬4)، {وَرَقَةٍ} واحدة ورق الشجر، {لَا يَعْلَمُهَا} علم تقلبها في الهواء كم مرة، {وَلَا حَبَّةٍ} و (الرطب): الماء والريح، و (اليابس): النار والتراب، وقيل: الرطب ما ينمى، [والظاهر الرطب ما فيه بلة] (¬5)، واليابس ما فيه جفاف، ¬

_ (¬1) التقدير الذي قدره الكوفيون في هذه الآية هو: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ -لنبيِّن لكم- وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعَام: 55]. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه. والسبيل تُذَكَّر وتؤنث؛ فتذكيرها على لغة نجد وتميم ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ...} [الأعرَاف: 146] الآية. ولغة الحجاز التأنيث ومنه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] وقول الشاعر وينسب إلى جرير: خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها ... وابْرُزْ بِبَرْزَةَ حيث اضطرك القَدَرُ [إعراب القرآن للنحاس (2/ 551)، الدر المصون (4/ 655)، ديوان جرير (ص211)]. (¬2) (بصيرة) ليست في الأصل. (¬3) الطبري (18/ 510). (¬4) في "أ" "ب": (الهوى). (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل.

وفي الآية دلالة أن العالم كله معلوم مضبوط داخل في الإحصاء محدود ذو نهاية، و (الكتاب): اللوح. {يَتَوَفَّاكُمْ} وفاة النوم قبض من غير سلب وقطع وإبطال خلقه، بخلاف وفاة الموت، {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} يوقظكم في النهار، و (القضاء) يحتمل أن يكون فعل الله تعالى على وجه الإلجاء، ويحتمل أفعال المخاطبين على سبيل الانطباع. {حَفَظَةً} جمع حافظ، وهم الملائكة يحفظون الأعمال والأنفاس، {أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: وقت الموت وأوانه، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أعوان ملك الموت، وقال الزجاج (¬1): هم هؤلاء الحفظة. {إِلَى اللَّهِ} أي: إلى حكمه من السؤال والحساب وغير ذلك. {تَضَرُّعًا} التضرع التذلل وإظهار الخشوع، {لَئِنْ أَنْجَانَا} حكاية الدعاء. {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ} الآية مختصة بالدواهي ينجون منها، والحال بدل كرب وغم، {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} بعد النجاة تثبتون على ترككم ثم تتركونه وزال عنكم بزوال القدرة ثم عاد بعودها. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} يخلطكم ذوي أهواء مختلفة، وشيعة الرجل خاصته وقبيلته، قال الحسن: المراد بالخطاب أهل الصلاة (¬2)، وقيل: هم وغيرهم، وعنه -عليه السلام-: "أنه استعاذ من عذاب تحت وفوق لأمته فأستجيب له فيهم، ولم يجب إلى أن لا يلبسوا شيعًا" (¬3)، وقال -عليه السلام-: "إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع إلى يوم القيامة" (¬4). ¬

_ (¬1) معاني القرآن (2/ 258). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 308) لكن بلفظ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعَام: 65] قال: هذه للمسلمين. (¬3) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري (4628، 7313، 7604) عن جابر بن عبد الله. (¬4) رواه الترمذي (2202)، وأبو داود (4252)، وابن ماجه (3952)، والإمام أحمد (5/ 284)، عن ثوبان - رضي الله عنه -، ورواه الإمام أحمد (4/ 123) عن شداد، والحديث صحيح.

{وَكَذَّبَ بِهِ} أي: القرآن أو الخبر والتصديق، {وَهُوَ الْحَقُّ} في تقدير (¬1) الحال لأنه جملة (¬2)، {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: أمركم غير موكول إليّ. {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} لكل صدق موقع ووقت يحق فيه لا يتصور تأخيره وتقديمه. {فَلَا تَقْعُدْ} للمسامرة والتحدث دون الدعوة والإنذار، {الذِّكْرَى} ما يرفع النسيان. وفي قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} دلالة أن المؤمنين دخلوا في النهي بالآية المتقدمة والظاهر من هذه الآية أن المقعود لم يكن منهيًا عنه لنفسه ولكن بمعنى (¬3) الاحتياط، {وَلَكِنْ ذِكْرَى} النهي عظة، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عن مثل خوضهم. {وَذَرِ} أي: كف يدك عنهم إن كانت الآية منسوخة ونابذ إنْ لم تكن منسوخة، {تُبْسَلَ} ترتهن، {كُلَّ عَدْلٍ} أي: أيّ عدل الحميم الحار. {أَنَدْعُو} استفهام بمعنى النفي، {وَنُرَدُّ} أي: يردنا أحد على أعقابنا والله هادينا، {اسْتَهْوَتْهُ} دعته إلى أهوائها، وقيل: زينت له متابعة هوى نفسه، {حَيْرَانَ} في الأرض والحيرة الدهش، قيل: التشبيه وقع بعبد الرحمن بن أبي بكر كان كافرًا وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام (¬4)، {ائْتِنَا} حكايته الدعاء، وفي مصحف عبد الله {بينًا} (¬5)، أي: دعاء بينًا. ¬

_ (¬1) في "أ": (تقدم). (¬2) هذا أحد الوجهين في إعراب الجملة، والوجه الثاني أنها استئنافية وهو اختيار السمين الحلبي. [الدر المصون (4/ 673)]. (¬3) في الأصل: (المعنى). (¬4) هذا ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 67)، عن ابن عباس عن أبي صالح، وانظر: القرطبي (7/ 18). (¬5) ابن جرير (9/ 332)، وانظر: "مختصر الشواذ" لابن خالويه (44).

{بِالْحَقِّ (¬1)} بالفعل الحق غير الباطل، وهذه متصلة بما قبلها (¬2) بعدها {الصُّورِ} (¬3) القرن، وقيل: شيء كهيئة القرن والبوق ينفخ فيه إسرافيل لنداء الخلق، وقيل: جمع (¬4) صورة وهي الجسد، والنفخ نفخ الأرواح يوم البعث. {آزَرَ} لقب تارخ (¬5) وهو كالذم والشتم بلغتهم بدل من قوله أبيه، (الأصنام) جمع صنم وهو التمثال كانوا يصوّرون على صور ملوكهم، وعلى صورة النجوم السيّارة بزعمهم. {وَكَذَلِكَ نُرِي} نذكر من قصته أو كما أريناك (¬6) أو على سبيل المجاز له؛ أي: كما ذم الإشراك كذلك أريناه دلائل التوحيد، ولفظه للمستقبل ومعناه للماضي، ويجوز مع عدم الإبهام، و (الملكوت) صيغة مبالغة من الملك، وقيل: المراد به نجوم السماء والأرض والجبال والبحار، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ} [الأعراف: 185] عن السدي ومجاهد (¬7) أنه فتحت له أبواب السماوات والأرض حتى نظر إلى العرش وإلى ما تحت الثرى، قال السدي: ورأى مكانه في الجنة (¬8)، {وَلِيَكُونَ} ليقف أو ليشاهده. ¬

_ (¬1) (الحق) ليست في "أ". (¬2) (بما قبلها) ليست في الأصل. (¬3) في "ي" والأصل: (صور). (¬4) في الأصل: (قادح). (¬5) هو (تارح) أو (تارخ) بالخاء والحاء، بالعربية بالحاء وعند أهل الكتاب بالخاء، وقد كتب العلامة أحمد شاكر في تحقيقه لكتاب "المعرب" للجواليقي بحثًا بذلك ص407 - 413. وقد ذكر ابن أبي حاتم في تفسيره (7495) عن ابن عباس أن اسم (آزر) (تارح). (¬6) في "أ": (أرينا). (¬7) أما عن السدي فرواه سعيد بن منصور (833)، وابن أبي حاتم (7502). وأما عن مجاهد فرواه ابن أبي حاتم (7501، 7503)، وتفسير مجاهد (324) (هو لآدم بن أبي إياس). ورواه مختصرًا البيهقي في الأسماء والصفات (613). (¬8) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 349)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7502)، وسعيد بن منصور في سننه (883).

وجملة قصة (¬1) إبراهيم ببابل أن نمرود بن كنعان بن حام (¬2) وهو فريدون بلغة العجم لما استرد الملك من الضحاك العادي واجتمع معه عشيرته كلهم وهم بنو أرمخشد تكلف على النجوم وأعجبه ذلك فاعتقده، ثم سوَّلت له نفسه دعوى الربوبية فادعاها واصطنع لنفسه سبعة نفر من عشيرته سماهم الكوهيارين (¬3) وفوض إلى كل واحد منهم أمرًا من أموره ورتب المراتب، فكان آزر بين الأصنام، ثم إن أمر إبراهيم -عليه السلام- وفساد ملك نمرود بسببه كان شيئًا موهومًا مخوفًا من جهة علم نبوي كان قد بقي من نوح -عليه السلام- أو من جهة رؤيا رآها إبراهيم: نمرود إله، أو من جهة ما وضع الله ذلك على ألسنة الكهنة والعامة على سبيل الإرجاف، وفي تقادير المنجمين، فأمر نمرود بقتل الصبيان وأمر بحبس النساء عن أزواجهن وجعل نساء حضرته في حصن حصين، ووكل آزر عليهن وهو شيخ أمين عنده، ولا مرد لقضاء الله، فكان من قضاء الله وقدره أن خرجت إليه امرأته ذات يوم من الحصن بطعام وقت الهاجرة، فإذا نظر إليها آزر لم يملك نفسه أن واقعها فأعلقها، ولما ظهر الحبل سُقط في يده وخاف على نفسه ووعدته امرأته أن تخبره بوضع الحمل الثقيل إن كان غلامًا، فلما وضعت إبراهيم -عليه السلام- أشفقت عليه وأخفته في مفازة، وقالت لآزر: إني ولدت ولدًا ميتًا فدفنته، فصدقها، وكانت تأتيه فتجده يمصّ إبهامه، ولما بلغ سبع سنين أظهرته على آزر وقد ألقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه محبته فلم يجد آزر من نفسه أن يسلمه للقتل، ثم ألهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- إبراهيم التوحيد وذم الأصنام فكان يدعو أباه وهو يزجره ويهدّده بالملك وبالقتل (¬4) ويظن أنه يقول ذلك ¬

_ (¬1) في "أ": (قضية). (¬2) اختلف المؤرخون في نسب النمرود ففريق منهم ينسبه إلى سام، ومنهم مفسرنا منهم ينسبه إلى حام، والبعض يسميه (النمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح). وآخرون يسمونه النمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح. والبعض يسميه (النمرود بن كنعان بن كوش بن سام)، والله أعلم بالصواب. (¬3) في "أ": (أكوهيارين). (¬4) في الأصل: (والقتل).

من عزّة وصبا حتى إذا كسر الأصنام وظهر (¬1) أمره، قال نمرود لآزر: ما الذي حملك على كفران نعمتي وكتمان أمر هذا الغلام؟ قال: أيها الملك لا تعجل فإنّي إنما فعلت ذلك نصيحة لك ونظرًا لرعيتك، فإنّك تُفني الرعية خوفًا من عدوك ولا تعرفه، وأنا ربيت هذا الغلام فظهر أنه عدوك فاقتله ثم استرح وأرح الناس، ثم كان من أمر إبراهيم -عليه السلام- ما كان، وأمّا هذه القصة فقد اختلف فيها قيل: كانت في المفازة قبل (¬2) أن لقي (¬3) أباه وهو إذ ذاك ابن سبع سنين، وعن محمد بن إسحاق والكلبي (¬4) أنه كان ابن خمس عشرة سنة، وقيل: كانت حين جادل النمرود وقد رأى زُهرة أولًا في آخر الشهر، فلما غاب طلع القمر ثم ضاءت القمر بضوء الصبح ثم طلعت الشمس (¬5). {جَنَّ} أي: أظلم، و (الكوكب) النور المجتمع في السماء، {هَذَا رَبِّي} أي: أهذا ربي؟ استفهام على وجه الإنكار (¬6) كقول موسى -عليه السلام-: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} [الشعراء: 22] أو تلك نعمة؟ وقيل: هذا ربي بزعمهم، قال الله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] وقيل: استدراج ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (فظهر). (¬2) (كانت في المفازة قبل) ليست في "أ". (¬3) في جميع النسخ: (ألقى)، والمثبت من "ي". (¬4) ذكره الطبري (1/ 143) عن محمد بن إسحاق، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 331) بعد أن سرد هذه القصة: هو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها لا سيما إذا خالفت الحق. (¬5) (الشمس) ليست في الأصل. (¬6) حذف همزة الاستفهام في "هذا" سائغ في كلام العرب وهو مستعمل كثيرًا ومنه قول أبي خراش الهذلي: رفَوْني وقالوا يا خويلدُ لا تُرَعْ ... فقلتُ وأنكرتُ الوجُوهَ هُمُ هُمُ؟ أي: أهمُ همُ. وقول الأسود بنيعفر، وقيل أوس: لعَمْرُك ما أدري وإن كنت داريًا ... شعيثُ ابن سَهْم أم شُعَيْثُ ابنُ مُنْقَر؟ أي: أشعيث بن سهم؟ فحذف الألف ونظائر ذلك كثير في كلام العرب. [ديوان الهذليين (3/ 1217)، الكتاب (3/ 175)، الطبري (9/ 360)].

القوم ليطمئنوا إليها بإظهار الموافقة فيرجعوا برجوعه، ومثله يتصور في الشرع كالتقية، وعن بعض الحواريين نحو هذا، وقيل: إنه قول نظن والذي من مقدمات اليقين ويترتب اليقين عليه معفو عنه، إذ هو من خير الخواطر، ولكن الظن المذموم هو الظن اللازم وبعد اليقين، {رَبِّي} خالقي وفاعلي، وقيل: مدبري وسيدي بإذن الخالق الفاعل القديم الأول، {أَفَلَ} غاب وإنما قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} لأن الأفول يدل على اضطراب التدبير أو يدل على حدوث {الْقَمَرَ} النجم المختص بالإمحاق وهو أحد النيرين. {بَازِغًا} طالعًا، وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} يدل أنه كان يعرف الله تعالى على قضية العقل حق معرفته، ويعلم أن التوفيق منه ولا حول ولا قوة إلا به وإن كانت الشبه تخطر بباله فيتكلم (¬1) بها، ويدل أيضًا أن غير المهدي يكون ضالًّا كافرًا وإن لم تبلغه الدعوة. {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} يدل على أنه لا يعرف الشمس وإلا لقال: هذه، ويدل على أن الكبرياء والعظمة من صفة الربوبية (¬2) على الإجمال، {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} يدل على أن الله تعالى تفضل عليه وهداه وأزال عنه الشبه جزاءً لاجتهاده وإلا لما كان للشبه موضع. {وَجَّهْتُ} توجيه الوجه إلى الله هو الإقبال على مرضاته، {حَنِيفًا} نصب على الحال. {وَقَدْ هَدَانِ} الواو للحال، {وَلَا أَخَافُ} كلام مستأنف جوابًا لتخويف سبق منهم، {شَيْئًا} أي: خوفًا يقضيه الله عليّ {تَتَذَكَّرُونَ} الذكر الذي أذكركم (¬3) به من الآيات. {وَكَيْفَ أَخَافُ} استفهام دخل على شيئين بمعنى الإنكار خوف إبراهيم وأمن المخاطبين، {أَنَّكُمْ} أي: بأنكم أو لأنكم لما وقع الإفحام ¬

_ (¬1) في الأصل: (فينظم) وهو خطأ. (¬2) من قوله: (لا يعرف) إلى هنا: ليست في "أ". (¬3) في الأصل: (إذا ذكركم).

بالسؤال أتى إبراهيم بالجواب لسؤاله على طريق البيان، خلط الإيمان بالظلم بالبدع والأهواء والفسق. {تِلْكَ} إشارة إلى محاجته -عليه السلام-. نصب {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} بوهبنا، {وَنُوحًا} بهدينا وكذلك سائر الأسماء، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} ذرية نوح، وإنما ذكر نوحًا وهؤلاء ليبين سنته تعالى مع كل محسن أوذي في سبيله قديمًا وحديثًا. (إلياس) رجل من سبط يوشع بن نون (¬1) بعثه الله إلى بعلبك وملكهم أجاب، وامرأته أزبيل (¬2) كان الملك إذا تغيب استخلفها على ملكه وكانت بنت ملك وكانت فتانة (¬3) للأنبياء، هي التي قتلت زكريا ويحيى وغيرهما، وتزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل فلم يؤمن الملك هذا بإلياس ولا امرأته فسأل الله تعالى أن يؤخر مذاقه الموت ويرفعه إليه فاستجاب دعوته وألبسه ريشًا يطير مع الملائكة (¬4). (إسماعيل) ابن إبراهيم، وقيل: أشمويل بن هلقانا، {وَالْيَسَعَ} رجل صحب إلياس -عليه السلام- وكان تلميذه، فلما رفع إلياس نبأه الله تعالى بمثل روح إلياس، و (لوط) هو ابن هاران ابن تارخ، وهاران أخو (¬5) إبراهيم (¬6)، وآمن لوط بعمه إبراهيم وهاجر معه، ثم بعثه الله تعالى إلى المؤتفكات ثم رجع إلى إبراهيم فكان معه إلى أن مضى لسبيله، وقيل: إن أبا لوط من مدينة سدوم ¬

_ (¬1) اختلفوا في نسب نبي الله "إلياس" فذهب محمد بن إسحاق إلى أنه: إلياس بن تسبى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران ابن أخي موسى نبي الله، ونقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه هو إدريس -عليه السلام-؛ كما أن إسرائيل هو يعقوب. أخرجه عن ابن مسعود عبد بن حميد في تفسيره كما في التغليق (4/ 9)، وابن أبي حاتم (7556)، والطبري في تفسيره (9/ 383). (¬2) انظر: الطبري (1/ 273). (¬3) في "أ" "ب": (قتالة). (¬4) رواه الطبري (1/ 274) من طريق محمد بن إسحاق. (¬5) من قوله: (نبأه الله) إلى هنا: سقط من "أ". (¬6) انظر تاريخ الطبري (1/ 148).

صاهر تارح وتزوج بابنته وهي أخت إبراهيم فولدت لوطًا، ثم إن لوطًا (¬1) آمن بخاله إبراهيم وهاجر معه من بابل ثم لحق بأهل بيته بمدينة سدوم وهي ما بين الأردن إلى تخوم أرض العرب، ثم كان من أمره ما كان. (وهدينا) جماعة من آبائهم، {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} معطوف على (هدينا). {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} والهاء عائدة إلى (¬2) الكتاب والحكم والنبوة أو إلى القصة و {هَؤُلَاءِ} إشارة إلى كفار مكة وأمثالهم، {وَكَّلْنَا} قيّضنا وألزمنا، {قَوْمًا} أي: المؤمنين إلى يوم القيامة. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي أنهم أهل المدينة (¬3)، وعن قتادة أيضًا أنهم الأنبياء الذين سبق ذكرهم (¬4)، وعن أبي رجاء أنهم الملائكة (¬5). (الاقتداء): الائتمام (¬6) والاستنان ولزمنا شرائع من قبلنا بهذه الآية، وقيل: وجب الاقتداء في الأصول دون الفروع و {هُوَ} ضمير يعود إلى القرآن. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عظموه حق تعظيمه وما عرفوا رتبة ذكره (¬7) ووصفه، قيل: نزلت في مالك بن الصيف وكان رجلًا سمينًا، فقال رسول الله: "أما قرأت في التوراة أن الله تعالى يبغض الحبر السمين"، قال: قرأت، قال: "فأنت الحبر السمين" فغضب وقال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (¬8)، وعن ابن عباس وقتادة ومحمد بن كعب أن جماعة من ¬

_ (¬1) (ثم إن لوطًا) ليست في "أ". (¬2) (إلى) ليست في "أ". (¬3) أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (9/ 388، 389) وابن أبي حاتم في تفسيره (7571 - 7574). (¬4) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 213)، وابن أبي حاتم (7572، 7576). (¬5) المقصود بأبي رجاء العطاردي التابعي المعروف، وأثره هذا رواه ابن أبي حاتم (7577). (¬6) في "أ": (الاهتمام). (¬7) في "أ": (رتبته ذكروه). (¬8) ابن جرير (9/ 393، 394)، وابن أبي حاتم (7597).

اليهود قالوا لرسول الله: أنزل الله عليك كتابًا من السماء؟ قال: "نعم"، قالوا: إن الله لم ينزل كتابًا من السماء ينزل على بشر (¬1) (¬2)، وقيل: نزلت في خطاب قريش ثم قرأها على مالك بن الصيف (¬3)، ويحتمل أنها نزلت في خطاب اليهود وأن الجعل والإبداء والإخفاء خبر عن آبائهم الماضين. {مُصَدِّقُ} أي: ليصدق الذي بين يديه، و {أُمَّ الْقُرَى} مكة لأن مكة فيها {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] وقيل: لأنها قبلة سائر القرى ومكانتها بإنذار أهلها، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يدل أن الكافر به كافر بالله وباليوم الآخر في الحقيقة فإن الإيمان لا يتبعض. {وَمَنْ أَظْلَمُ} قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي (¬4)، وعن عكرمة أنها في مسيلمة الكذاب وابن أبي سرح، وكان ابن أبي سرح كاتب الوحي (¬5)، وربما كتب الغفور الرحيم مكان العزيز الحكيم والعزيز الحكيم مكان الغفور الرحيم، ولا ينكر عليه رسول الله لأن الكل قرآن بعضه في بعض (¬6). وذلك من الله فتنة واستدراج لابن أبي سرح حتى نزل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12] الآية، فجرى على لسانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فقال -عليه السلام-: "اكتب ما جرى على لسانك" فكتب وكان ذلك سبب كفره فارتدّ ولحق بمكة، فقال: إن أنزل إلى محمد قرآن فقد أنزل إلى كذلك وإلا فقد أتيت بمثله، (افتراء) افتعال من الفري وهو القطع، والمفتري يقطع من موهومه شيئًا فيتقوله، {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ظنًا منه وغرورًا، وإسناد الإنزال إلى نفسه مجاز، كقولهم: {حَتَّى تُنَزِّلَ ¬

_ (¬1) من قوله: (وعن ابن عباس) إلى قوله: (على بشر)، ليست في "ب". (¬2) رواه عن محمد بن كعب القرظي ابن جرير (9/ 395). (¬3) هذا مروي عن مجاهد رواه ابن أبي حاتم (7592). (¬4) الذي عند ابن جرير (9/ 406) عن قتادة أنها نزلت في مسيلمة فقط، وكذا عند ابن أبي حاتم (7626). (¬5) في الأصل: (سرج كاتبًا لوحي)، وفي "أ": (السرح كتاب الوحي). (¬6) رواه ابن جرير (9/ 405)، وانظر كذا ابن أبي حاتم (7626).

عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]، {غَمَرَاتِ} جمع غمرة وهو ما يعلو الإنسان ويغطيه ويغمره، والمراد بغمرات الموت هو الظاهر، وقيل: عذاب الآخرة (¬1)، وتصديقه قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم: 17]، {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي: يقولون موتوا، وقيل: تخلصوا إن استطعتم، {تَسْتَكْبِرُونَ} عن قبول الآيات والإيمان به. {فُرَادَى} جمع فريد كأسير وأسارى تنفرد الأجزاء ثم بأحكامها حتى يصير الواحد بالتأليف ألوفًا، ولذلك يجحدون بأنفسهم وليشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وكل ذلك لزوال القدرة والتلاشي والتفسخ مشاهدة أو حكمًا عند مشاهدة الله تعالى وعرضه وسؤاله، {خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم وملكناكم [وأنعمنا به عليكم] (¬2)، {وَضَلَّ عَنْكُمْ} بطلت دعاويكم. {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ} الفلق الشق و {الْحَبِّ} بذور النبات كلها، واحدها حبة، {وَالنَّوَى} عجم التمر وسائر الثمار واحدتها نواة، وكمون (¬3) النبات في الحبة ككمون النطف في الأصلاب، ولا محالة أن التمكين أصل وهو إجراء المركز وسائر الأجزاء المتركبة (¬4) النامية فهي بعد الظهور (¬5) من الهواء (¬6) والغذاء بالإحالة، والتقليب (¬7) من صنع الله تعالى. ¬

_ (¬1) الغمرات جمع غَمْرَة، وغمرة كل شيء كثرته، وأصله: الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، تقول: غمره الماء إذا ستره وغطاه، ومنه قول الشاعر وينسب إلى بشر بن أبي خازم: ولا ينجي من الغمرات إلا ... بَرَكاءُ القتالِ أو الفرارُ وتجمع على غُمَر كَعَمْرة وعُمَر. وقد فَسَّر ابن عباس - رضي الله عنه- {غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} بسكرات الموت. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 409). [ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي (ص79)، الدر المصون (5/ 41)]. (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬3) في الأصل: (ويكون). وفي "أ": (كون). (¬4) في الأصل: (المركبة). (¬5) في "أ": (ظهور). (¬6) في "أ" "ب": (الهوى). (¬7) في "أ": (والتقلب).

{الْإِصْبَاحِ} اسم كالإعصار والإبهام وهو الصبح، يقال: أبين من فلق الصبح، وكأنّ فلقه شق كاذبه لصادقه، ونسخ بعض الظلام بالضوء على ما يشبه التحلل، {سَكَنًا} ما سكن إليه أو عليه أو فيه من جوهر أو حال، وقوله: {حُسْبَانًا} مصدر، أي: الشمس والقمر آيتي حسبان أو سميا حسبانًا لاختلافهما في الفلك وتسييرهما في البروج، وذلك إشارة إلى الفعل، والتقدير: النجوم المعروفة في السماء من السيارة، والثانية دون المجهولة التي هي رجوم الشياطين، والنجم السماوي الكوكب سمي نجمًا لظهوره. {لِتَهْتَدُوا} بالنجوم أراد اهتداء المسافرين للأمكنة التي يمكن المرور فيها على الصواب، وفي البحر، ولاستقبال القبلة، ولمعرفة الرياح. {فَمُسْتَقَرٌّ} بفتح القاف موضع القرار والسكون وبكسره الساكن الثابت، {وَمُسْتَوْدَعٌ} موضع الوديعة والأمانة أو عين الأمانة والوديعة (¬1). {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أصل كل نجم وشجر، ويجوز دخول الحيوان فيه، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي: من الماء، و (الخضر) نعت (¬2) من خضر يخضر، {نُخْرِجُ} صفة للخضراء كلام مبتدأ فيه من النبات الحب المتراكب السنبل والطلع الكفري في رأس النخلة فيه الحمار، {قِنْوَانٌ} جمع قنو وهو العذق، {دَانِيَةٌ} متدانية (¬3) قريب بعضها من بعض أو القريبة التناول، ولم يذكر غير دانية اقتصارًا، {وَالزَّيْتُونَ} ما يتخذ منه الزيت، وإنما خصهما لكثرة فوائدهما، ¬

_ (¬1) هذه الآية: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعَام: 98] مثل قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هُود: 6]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: {مُسْتَقَرَّهَا} في الأرحام، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 433)، وهكذا رواه الطبري أيضًا عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬2) في الأصل: (يعني). (¬3) (متدانية) ليست في "أ".

أو لشهرتهما وإعجابهم بهما، وقال الزجاج (¬1): لأن الورق يشمل هاتين الشجرتين من أولهما إلى آخرهما، و (الينع) النضج (¬2) والإدراك وأنها من النبات. {الْجِنَّ} بنو الجان، ونصب لأن الجعل يقتضي مفعولين (¬3) وقطعوا وميزوا من جنس الأمة، {لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} عن السدي (¬4) و (الخرقة) القطعة. {صَاحِبَةٌ} أنثى قديمة مجانسة (¬5) مفاعلة وإثباتها لا يتصور؛ لأن الأنوثة والذكورة من أسباب الحاجة؛ ولأن الجنسية دالة على الوضع. والمثال والأحداث والمفاعلة تحتاج إلى (¬6) التقسيم فإذا لم تثبت هذه المقدمات كيف يترتب ثبوت الولد عليه. ¬

_ (¬1) معاني القرآن (2/ 276). (¬2) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة السدي والضحاك، رواه عنهم ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 452)، قال أبو عبيد في مجاز القرآن (1/ 202)، في "ينعه" إذا فُتِحَت ياؤُه: هو جمع يانع كصَحْب وصاحب، ويرى بعض أهل الكوفة أنه مصدر من قولهم: ينع الثمر فهو يينعُ ينعًا، ويقال: أينعت الثمرة وينعت إذا احمرَّت، ومنه حديث الملاعنة: "إن ولدته أحمر مثل الينعة". أخرجه أحمد في مسنده (5/ 335). (¬3) في نصب {الْجِنَّ} أربعة أوجه أعرابية: أظهرها: أنه مفعول أول و {شُرَكَاءَ} مفعول ثانٍ مقدم ويكون الجعل بمعنى التصيير. والوجه الثاني: أن {شُرَكَاءَ} مفعول أول، و {لِلَّهِ} متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ، و {الْجِنَّ} بدل من {شُرَكَاءَ} أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب. والوجه الثالث: أن يكون {شُرَكَاءَ} هو المفعول الأول، و {الْجِنَّ} هو المفعول الثاني، قاله الحوفي. الوجه الرابع: ذكره أبو البقاء وهو: أن يكون {شُرَكَاءَ الْجِنَّ} مفعولين، و {لِلَّهِ} متعلق بمحذوف على أنه حال من {شُرَكَاءَ} واستبعده السمين الحلبي، وقال: إنه لا يصح من حيث المعنى. [الإملاء (1/ 225)، معاني القرآن للفراء (1/ 348)، وللزجاج (2/ 305)، الدر المصون (5/ 84)]. (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 455)، وابن أبي حاتم (7720)]. (¬5) في "أ" "ب": (مجالسة). (¬6) (تحتاج إلى) ليست في "أ"، و (إلى) ليست في "ي".

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} المدرك المنيل الحاصل مقدور مقهور محصور مقصور مهجوم عليه، تعالى الله عن الاتصاف بهذه المعاني، والموجود المعلوم المعقول المشاهد حق ثابت، تعالى عن نفي هذه الصفات علوًا كبيرًا، و (البصر) الإحساس باليقين أو العقل بالقلب، و (أولو الأبصار) ذوو العقول والآراء، و {اللَّطِيفُ} نافذ العلم دقيق العمل، وقيل: {اللَّطِيفُ} الذي ليس يكشف. {قَدْ جَاءَكُمْ} (قل): مضمر في أول الآية، و (الحفيظ) في معنى الرقيب والوكيل. {وَلَا تَسُبُّوا} قالت قريش للنبي -عليه السلام- وللمؤمنين: لتمسكن عن ذكر آلهتنا أو لنهجون آلهتكم، فنهى الله تعالى عن سب آلهتهم (¬1)، وتعبّد المؤمنين بترك سب (¬2) الكفر، ولو شاء الله لأخرسهم وختم على أفواههم، والسبّ هو الشتم والوقيعة، و (العدو) من الاعتداء كقوله: {بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس: 90]. {أَفْئِدَتَهُمْ} جمع فؤاد وهو أول الأعضاء الرئيسية وهو مركز الحرارة الغريزة، ولحم فئيد: مشوي، والمفئيد السفود {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} أي: جزاء لكفرهم (¬3) بالنبي -عليه السلام- أول مرة عند إنشقاق القمر والتحدي بالقرآن والرجوع من بيت المقدس، ويحتمل أن الوعيد عقباوي والتشبيه وقع لحالة الدنيا. وفي قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا} الآية دالة أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهؤلاء الجاهلين القدرية. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا} عطف على {كَذَلِكَ زَيَّنَّا} [الأنعام: 108] قال ¬

_ (¬1) ابن جرير (9/ 480)، وابن أبي حاتم (7760). (¬2) في الأصل و"ي": (تسبب). (¬3) في الأصل: (كفرهم).

النبي -عليه السلام- لأبي ذر: "هل تعوّذت بالله من شياطين الإنس" (¬1)، وقال مالك بن دينار (¬2): شياطين الإنس أشد عليَّ (¬3) من شياطين الجن لأنه يذهب بالتعوذ وهذا لا يذهب (¬4) (¬5)، {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الكلام الباطل الحلو (¬6) والشيء المزخرف المموّه المزين، {غُرُورًا} نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. {وَلِتَصْغَى} معطوف على مقدر، والصَّغْو والصِّغو الميل، يقال: صغى يصغي ويصغو وصغى، و (الاقتراف) الاكتساب الدني. (قل) مضمر أفغير (¬7)، وهذا جواب لهم حين أرادوا أن يتحاكموا إلى بعض الطواغيت. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مؤمنو أهل الكتاب الذين يعرفون ويجحدون. {وَإِنْ تُطِعْ} مثل قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120] {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1]، {يَخْرُصُونَ} يكذبون، فلان يتخرص، أي: يكذب (¬8) وكأنه قول تخمين ومنه خرص التمر، وقيل: الخراصون من مكان أي على الاستفهام. {فَكُلُوا} ذهب قريش مذهب الفلاسفة وبعض النصارى والمجوس في استحلال الميتة وما كان مذهبهم من قبل قالوا: ما قتل الله خير وأطيب ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 178، 179)، والنسائي (8/ 275)، عن أبي ذر، وسنده ضعيف جدًا، وروي عن أبي أمامة عند أحمد (5/ 295) وسنده ضعيف كذلك. (¬2) في الأصل: (دينا) وهو خطأ. (¬3) (عليَّ) ليست في "أ". (¬4) (بالتعوذ وهذا لا يذهب) ليست في "أ". (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره (7/ 68). (¬6) في "أ": (الخلود). (¬7) (أفغير) ليست في "ب". (¬8) في "ي": (تخرص أي تكذب)، وفي "أ": سقطت (أي بتكذيب).

مما قتلتم بسكاكينكم، ولم يعلموا (¬1) أن إزهاق الروح من فعل الله تعالى وليست مزيّة الذبيحة على الميتة من أجل القطع بالسكين ولكن لأجل أن الذبح بإذن الله وعلى اسم الله الآية، فأنزل الله الآية لئلا يخطر ببال بعض المؤمنين شيء من هذا. {وَمَا لَكُمْ} أي: وما يمنعكم عن استحلال ما أحل الله لكم بعد ما بين لكم الحرام في غير حال الضرورة وبين حال الضرورة أيضًا، ورفع (¬2) الشبه كلها ولم يبق للاحتياط والتعذر موضع ما. {لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الميتة وما تعمد على ذبحه ترك اسم الله أو ذبح من ليس بأهل للتسمية، وأراد مجادلة من كره التذكية (¬3) واستباح الميتة. {نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} حمزة وأصحابه ومن مثله (¬4)، {فِي الظُّلُمَاتِ} أبو جهل وأصحابه، روي أنَّ أبا جهل رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) بالفرث وهو يصلي وذلك قبل إسلام حمزة، فسمع حمزة ذلك فغضب لابن أخيه تعصبًا وأقبل على أبي جهل يضربه بقوسه وأبو جهل يتضرع ويعتذر بأنه سفَّه (¬6) أحلامهم وعاب (¬7) آلهتهم، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ¬

_ (¬1) في "أ": (ليعملوا). (¬2) في الأصل: (وارتفع). (¬3) المثبت من "أ"، وفي بقية النسخ (الذكية). (¬4) في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعَام: 122] هو عمر بن الخطاب، وقوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعَام: 122] هو أبو جهل بن هشام؛ رواه الضحاك. وقيل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} هو عمار بن ياسر، وقوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} هو أبو جهل بن هشام، روي ذلك عن عكرمة، أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (9/ 534) ولم أجد من ذكر أنه حمزة -رضي الله عنه -. (¬5) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ" "ى". (¬6) في الأصل: (يسقه). (¬7) في الأصل: (وغاب) بالغين، وهو خطأ.

ورسوله (¬1)، و (الإحياء) إحياء في الرحم، و (النور) نور الإيمان، وقيل: الإحياء بروح (¬2) القرآن أو الإيمان (¬3) والنور نور أحدهما، {مَثَلُهُ} أي: هو، وقيل: إن صفته في الظلمات لا يوصف إلا بها. {وَكَذَلِكَ} عطف على {كَذَلِكَ} وقيل: استئناف والتشبيه بما وقع الإخبار عنه، {جَعَلْنَا} قدَّرنا، {أَكَابِرَ} جمع أكبر كأفاضل، وقيل: جمع كبير كبعير وأباعر، الآية ردّ على القدرية. {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ} قيل: إن الوليد بن المغيرة كان يتعرض للنبوة ويترشح لها ويطمع فيها ويقول: لو كانت حقًا لكنت أحق بها، وكذلك أمية بن أبي الصلت كان يتوقعها فلما حرمها أصرّ على كفره ومات عليه، ونزلت الآية فيهما (¬4) وفي أمثالهما كانوا يأنفون عن الاتباع ويريدون أن يحظوا بوحي سماوي من غير وساطة بشر، {صَغَارٌ} مذلة عند الله في حكم الله. {يَشْرَحْ} الشرح التفسح ومنه شرح اللحم، و (الضيق) (¬5) ضد الوسع، {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} أي: يتعسر عليه الإيمان كما يتعسر عليه الصعود {فِي السَّمَاءِ} ويحتمل أن قلبه يرتفع إلى السماء عن موضعه من التضايق كقوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. {دَارُ السَّلَامِ} دار الله أضيف إليه تشريفًا (¬6) لها وتنويهًا بذكرها كما قيل (¬7) بيت الله وعبد الله وناقة الله، وقيل: دار السلامة من الآفات ويحتمل ¬

_ (¬1) انظر: زاد المسير (3/ 116) وعزاه لابن عباس. (¬2) في "أ": (نور). (¬3) في الأصل: (والإيمان) بالواو. (¬4) المشهور أنه عن أبي جهل ولم أجده عن أمية، وأشار القرطبي (7/ 80) للوليد بن المغيرة. (¬5) من قوله: (مذلة عند) إلى هنا: ليست في "أ". (¬6) في "أ": (نشر) وهو خطأ. (¬7) في "أ" "ي": (قال).

أنها دار التحية بالسلام فالله تعالى يحيِّيهم، {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] وتحيِّيهم الملائكة بالسلام ويحيِّي بعضهم بعضًا بالسلام. {يَا مَعْشَرَ} نقول: يا معشر، والمعشر الجماعة والخطاب للشياطين، {اسْتَكْثَرْتُمْ} أكثرتم الأتباع والقرناء، {اسْتَمْتَعَ} انتفع واستكان، وهذا عذر منهم وحجة للإشراك، يريدون أنهم استمتعوا بهم كما يستمتع (¬1) بعضنا بأهل الذمة وأسارى الكفار، وكما استمتع سليمان -عليه السلام- بهم بإذن الله و {خَالِدِينَ} حال للضمير في قوله: {مَثْوَاكُمْ} والمستثنى مدة الحساب في الموقف أو حالة خروجهم من النار مع الشرر، أو للاستهزاء بهم على ما سبق ذلك. {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي} الآية ردّ على القدرية. ظاهر قوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ} يدل على أن الجن كانت فيهم الأنبياء وهكذا عن كعب وغيره مما صنفوا من أخبار الجن قبل خلق آدم -عليه السلام- سَمّوا قريبًا من نيف وأربعين نبيًا أولهم دنخش ومنهم صاعوق بنياعق وغيره، وقيل: إنما قال لأن التكليف لجميعهم (¬2) كأنهم جنس واحد، وقيل: هذا من باب قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما. {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} شهادة الأيدي والأرجل. {ذَلِكَ} في موضع نصب تقديره فعل ذلك، وقيل: رفع بالابتداء (¬3)، {بِظُلْمٍ} ظلم أهل القرية أي لم يهلكهم بظلمهم وهم غافلون ولكن نبههم أولًا ونهاهم وأنذرهم، وقيل: أراد به ظلم منفي عن الله تعالى، وإنما صح ¬

_ (¬1) في الأصل: (استمتتع). (¬2) في "أ": (جميعهم). (¬3) هذان وجهان، والوجه الثالث في إعرابها أنه خبر محذوف المبتدأ، والتقدير: الأمر ذلك - قاله السمين الحلبي. [الدر المصون (5/ 155)].

ذلك من حيث وعد الله تعالى أن لا يهلك أمة حتى يبعث في أمها رسولًا، فلو أخلف الله (¬1) الوعد لكان (¬2) ظالمًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} تهديد بالإهلاك دون الوفاة (¬3) المعهودة. {اعْمَلُوا} توبيخ وتهديد. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} كانوا يسيبون (¬4) بعض أموالهم للضيفان ويقولون: هذا لله، ويسيبون (¬5) للسدنة وعمارة بيت الأصنام ويقولون: هذا للأصنام وهذا كفر منهم، ثم أرادوا كفرًا أن نقصوا النصيب المسمى لله تعالى الذي هو الضيفان لجبر نصيب الأصنام عند الحوائج، وكانوا يفعلون هذا بتأويل فاسد، يقولون: الله غني وشركاؤنا فقراء، ولم يعلموا أن الغني لا يوجب بخس النصيب ولا يجوزه، فذمهم الله تعالى على فعلهم ورأيهم وليس كذلك تقديمنا ديون الناس على الزكوات والكفارات؛ لأن قضاء ديون الناس واجب بإيجاب الله تعالى كالزكوات والكفارات لأنه قضاء (¬6) وقد تأكدت لتعين المستحق. {لِيُرْدُوهُمْ} أي: ليهلكوهم، والردى: الهلاك، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16]. المراد بالأنعام والحرث ما سبق ذكره. {حِجْرٌ} حرام ممنوع، قال الله تعالى: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53]، {حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} ما وضعوه من حكم السائبة والوصيلة والحام، والذين {لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} هي التي جعلوها حتى كأنهم كانوا يتحرجون ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (فلو أخلف الوعد)، والمثبت من الأصل. (¬2) في "أ": (كان). (¬3) في "أ": (الوفا). (¬4) في الأصل: (ليبيون). (¬5) في الأصل: (ليبيون). (¬6) (لأنه قضاء) من الأصل فقط.

عن ذكر الله تعالى عند إيرادها الماء وعند حلبها وسوقها، وكانوا لا يحجون عليها كراهة التلبية عليها بأن في التلبية اسم الله تعالى، {سَيَجْزِيهِمْ} سوف يجزيهم على وصفهم الباطل. {قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} كل العرب (¬1) كان يستحل وأد البنات إلا بني كنانة فالتحريم هو التحريم على وجه الافتراء، وأما التحريم على قضية العقل فذلك (¬2) خارج عن الذم. {مَعْرُوشَاتٍ} ما يعرش من النخيل والآس والعنب والعَرعر وما يشبهها (¬3) و {مُخْتَلِفًا} حال مقدر (¬4) على معنى سوف، والضمير عائد إلى أحدهما من النخل (¬5) والزرع، {كُلُوا} إباحة ويجوز أن يكون على الوجوب ووقته عند سدّ الرمق، و (الحصد): القطع والاستئصال و (الحق): العشر الواجب فيما تخرجه الأرض فإن الزكاة نزلت بمكة. قال طاوس: {حَقَّهُ} زكاته (¬6)، وقال محمد بن كعب: ما قلَّ منه أو كثر (¬7)، وقال جابر بن زيد: هو الزكاة المفروضة (¬8)، قال (¬9): ولولا ذلك لما قال: {وَلَا ¬

_ (¬1) في "أ": (كالعرب). (¬2) في "أ": (ذلك). (¬3) أي: جعل لكم بساتين من العنب وغيرها. {مَعْرُوشَاتٍ} أي: ممسوكات بما عملتم لها من الأعمدة. {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} أي: متروكات على وجه الأرض. [الطبري (9/ 593)، تفسير القاسمي (4/ 518)]. (¬4) وقيل: حال مقارنة وذلك على حذف مضاف، أي: وثمر النخل وحَبَّ الزرع، و {أُكُلُهُ} مرفوع بـ {مُخْتَلِفًا} [الأنعَام: 141] لأنه اسم فاعل وشروط الإعمال موجودة. [الدر المصون (5/ 188)]. (¬5) من قوله: (والآس والعنب) إلى هنا: ليست في "أ". (¬6) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 596)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص332)، وابن زنجويه في الأموال (1380). (¬7) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 607)، وذكره النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص424)، وانظر: البحر المحيط (4/ 237). (¬8) انظر: زاد المسير (3/ 135)، والقرطبي (7/ 99، 100). (¬9) في "أ": (قالوا).

{تُسْرِفُوا} وعن ابن عباس (¬1) أنه العشر ونصف العشر وهكذا عن ابن الحنفية (¬2). وقال إبراهيم النخعي: في كل شيء أخرجت الأرض الصدقة (¬3) والذين روى عنهم النسخ مطلقًا معارض بما ذكرنا، ومن روى عنهم أنه منسوخ بالزكاة فغير مأخوذ به لأنه لا تنافي بين العشر وبين حق آخر كان، ثم قد (¬4) تواترت الروايات عن النبي -عليه السلام-: "أنه أوجب العشر فيما سقت السماء والأنهار ونصف العشر فيما يسقى بعلًا (¬5) وبالسواقي" من غير تفصيل وتخصيص وهو قضية ظاهر الآية وقضية القياس لأنه لا يتعلق بالحول فلا يتعلق بالنصاب، وروى ابن مسعود مرفوعًا: "لا يجتمع عشر وخراج في أرض واحدة" (¬6)، {حَمُولَةً} ما يحتمل على ظهره (¬7)، {وَفَرْشًا} صغار الإبل ما لا يحمل عليه من السوائم. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} اسم عدد الشفع الرابع والمراد بالثمانية الأزواج الذكور (¬8) والإناث جميعًا، واسم الزوج يطلق على الواحد و {الضَّأْنِ} جنس الكبش والنعجة، و {الْمَعْزِ} جنس التيس والعنز وواحد الضأن ضانية وواحد المعز ماعز، والجدال وقع على سبيل المفاقهة، وذلك لأن الشيء ¬

_ (¬1) سعيد بن منصور (928)، وابن أبي شيبة (3/ 185، 186)، وابن أبي حاتم (7952)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (420)، والبيهقي في سننه (4/ 132)، وقول ابن عباس بقصد نسخها العشر ونصف العشر. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 598)، وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج (ص121). (¬3) الذي رواه الطبري عن إبراهيم النخعي في هذه الآية، قال: هي منسوخة نسختها العشر ونصف العشر. [الطبري (9/ 609)]. (¬4) (قد) ليست في الأصل. (¬5) رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر مرفوعًا: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر". (¬6) رواه ابن عدي في الكامل (7/ 254) وقال البيهقي: حديث باطل وصله ورفعه، يحيى بن عنبسة متهم بالوضع، ويروى هذا عن إبراهيم من قوله وهو مذهب أبي حنيفة. (¬7) الحمولة: ما يحمل على ظهره من كبار الإبل، والفرش صغار الإبل التي لا يحمل عليها. وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه عنه الطبري في تفسيره (9/ 619) وأخرجه أيضًا عن ابن مسعود ومجاهد. (¬8) في الأصل: (الذكاة).

لا يحكم بتحريمه إلا لمعنيين، إما لمعنى لا يسد باب القياس ويطرد في جميع المعلومات أو أكثرها، وإما للتوقيف بالوحي، وتحريم هؤلاء الكفار لم تكن على شيء من هذين الأصلين لأن علة الذكورة وعلة (¬1) الأنوثة منكسر ولا يطرد في الجميع، وكذلك علة اشتمال (¬2) الأرحام وهو التحافها واحتواؤها وعلة كون الولد بطنًا سابعًا أو عاشرًا أو علة كون الولد توأمين كانت سقيمة لسد باب القياس ولكونها مما لا يتوصل إليه إلا بالتوقيف فبطلت المعاني كلها ووقع الإفحام واتضح الالتزام. {الْإِبِلِ} اسم جنس يتناول الجمل والناقة، وفائدة تكرار النظم الأول صحة السؤال واستئناف الالتزام، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} مطالبة بالتوقيف الذي يكون بالوحي وفائدة المطالبة هو الإفحام فلم يجسروا على دعوى الوصية لخوفهم المطالبة بالبرهان فأفحموا عن الجواب وانقطعوا في الحال. {لَا أَجِدُ} إخبار عن الحال دون الاستقبال و (الميتة) اسم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، ووصف الدم بالمسفوح يفيد إباحة غيره كالكبد والطحال وما يتعلق باللحم والمخ، وذكر الخنزير بعد ذكر الميتة لئلا يظن ظان أنه يطهر بالذكاة بخلاف سائر السباع، ثم بين المعنى وقال: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أي: نجس مكروه مستقذر تعافه النفوس غالبًا وأن يكون {فِسْقًا} وسائر المحرمات فغير محرم بالكتاب ولكنه مسكوت عنه. {ظُفُرٍ} اسم عام، قال ابن عباس: أنه كل ذي حافر ما ليس بمنفرج الأصابع كالبعير والإوزة والبط (¬3)، وعن القتبي (¬4) أنه كل ذي حافر، وقيل: ¬

_ (¬1) (الذكورة وعلة) ليست في الأصل. (¬2) في "ب": (اجتماع). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8033)، ونقله عنه السيوطي في الدر المنثور (6/ 244)، وانظر: زاد المسير (3/ 141). (¬4) ذكره عن ابن قتيبة ابن الجوزي (3/ 141).

كل ذي برثن، {شُحُومَهُمَا} جمع شحم وهو ما يذوب دهنًا، {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ما اختلط باللحم من البياض وقيل: الإلية، و {الْحَوَايَا} المباعر والمصارين، وهي معطوفة على المستثنى، وقيل: على المستثنى منه (¬1)، {مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} ما على العظم من دسم. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} يعني اليهود، وهم كانوا يأتون مكة تجارًا ويأتونها قاصدين رؤية النبي -عليه السلام-، وقيل: كذبته قريش وكذب الرحمة هو التنبيه على الإمهال لئلا يغترّوا بسلامة الحال، وكذلك ذكر اليأس بعد الرحمة. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} لما علموا أن النبي -عليه السلام- يثبت القدر خيره وشره من الله وينفي وجود الشيء من غير مشيئة الله، توهموا أن كل ما شاء الله رضيه (¬2) كما ظنت القدرية (¬3) فاحتجوا بالمشيئة وحسبوها عذرًا فبين أن لو أثبتوا المشيئة لأثبتوها على أنفسهم لا لأنفسهم، كذلك تشبيه بقوله {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} [يونس: 41]. {الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} التي بلغت كل مبلغ في الصحة والبيان. ¬

_ (¬1) ذهب الكسائي إلى أن {الْحَوَايَا} [الأنعَام: 146] في موضع رفع عطفًا على {ظُهُورُهُمَا} [الأنعَام: 146]، والوجه الثاني: أنها في محل نصب نسقًا على {شُحُومَهُمَا} أي: حرمنا الحوايا وشحومهما، والوجه الثالث: أن {الْحَوَايَا} في محل نصب عطفًا على المستثنى وهو {مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} نقل هذا الوجه أبو البقاء العكبري. أما من حيث المعنى فالحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحَوِيَّة وهو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار. [الطبري (9/ 643)، الإملاء (1/ 264)، الدر المصون (5/ 205)]. (¬2) في الأصل: (رضي به). (¬3) القدرية ثلاث فرق كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية. الفرقة الأولى: نفاة القدر وهم (القدرية المجوسية)، والفرقة الثانية: المعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعَام: 148] وهم "القدرية المشركية"، والفرقة الثالثة: المخاصمون به للرب سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم "القدرية الإبليسية" وشيخهم إبليس وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} الأعرَاف: 16] ولم يعترف بالذنب ... " اهـ. نقله عنه تلميذه ابن القيم في طريق الهجرتين (ص151) في كلام مطوَّل.

{هَلُمَّ} تعال وأقبل (¬1)، وإذا قلت: هلم كذا فمعناه هاته يجري مجرى الحروف، {شُهَدَاءَكُمُ} أي: يأتوا بشهداء عدول من غير أنفسهم فإنهم مدعون، فلو قامت دعواهم مقام الشاهد لكان الشيء المشكوك فيه حجة لنفسه وهذا لا يكون إلا بالإعجاز، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. {إِمْلَاقٍ} إعدام وإعسار، و {الْفَوَاحِشَ} جميع المعاصي، وقيل: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} نكاح المحرمات والزنا، {وَمَا بَطَنَ} اتخاذ الأخدان، وقيل: {مَا ظَهَرَ} فعل الجوارح، {وَمَا بَطَنَ} فعل القلب، {إِلَّا بِالْحَقِّ} القصاص، قتله الولي وكذلك المرجوم. {إِلَّا بِالَّتِي} بالجهر التي هي أحوط، والخصلة التي هي أحسن {أَشُدَّهُ} جمع شد (¬2) وأشد الرجال ما بين خمس عشرة إلى ثمان عشرة سنة حتى أربعين سنة و {الْكَيْلَ} اسم لوعاء مقدر يقدر به الحبوب، ورفع الجناح فيما يتعذر حفظه من الحبات والقراريط في الكيل والوزن، {وَإِذَا قُلْتُمْ} أي: شهدتم، (عهد الله) شرائع الإسلام، وقيل: اليمين المعقودة باسمه. ¬

_ (¬1) "هَلُمَّ" اسم فعل أمر بمعنى أحضروا، وزعم سيبويه أنها "ها" ضمت إليها "لُمَّ" وجعلتا كالكلمة الواحدة، وفيها لغتان: لغة أهل الحجاز حيث تستعمل بصيغة واحدة سواء أسندت لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث، وأما لغة تميم فتلحقها الضمائر كما تلحق سائر الأفعال فتقول: هلما وهلموا وهلمي. ولغة أهل الحجاز أكثر استعمالًا ومنه قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزَاب: 18]. [معاني القرآن للزجاج (2/ 303)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 590)، الدر المصون (5/ 211)]. (¬2) أي: أنَّ الأَشُدَّ جمع شَدٍّ، كما الأَضُرُّ جمعُ ضَرٍّ، وكما الأَشُرُّ جمع شَرٍّ، والشَّدُّ: القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسِنِّه كما يطلق شَدُّ النهار على ارتفاعه وامتداده كقول عنترة: عهدي به شَدَّ النهارِ كأنَّما ... خُضِبَ اللَّبانُ ورأسُهُ بالعِظْلِمِ [تفسير الطبري (9/ 663)، ديوان عنترة (ص127)].

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} قال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي لم تنسخ في شريعة (¬1) وهي أم الكتاب لأنها إمام التوراة والإنجيل والقرآن، من أخذ بها أوصلته إلى الجنة، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "خط رسول الله خطًا" وقال: "وخط بجنبه الخطوط" (¬2) ... الخبر وهو التمسك بالكتاب والسنة وطريق الفقهاء. {ثُمَّ آتَيْنَا} يعني: أنزل هذه الآيات على موسى -عليه السلام- أولًا ثم آتاه الكتاب، أو التراخي في الإخبار كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، {عَلَى الَّذِي} على من أحسن معناه تتميمًا على المحسن دينه أو ثوابه أو النعمة عليه. {مُبَارَكٌ} نعت الكتاب. {أَنْ تَقُولُوا} متصل، {أَنْزَلْنَاهُ} أي: لأن تقولوا، وهذا خطاب لقريش وأمثالهم، {عَلَى طَائِفَتَيْنِ} اليهود والنصارى. {أَهْدَى مِنْهُمْ} من الطائفتين. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} دليل أن إتيان الرب صفة له لا يجوز حملها على إتيان الأمر إذ الشيء لا يعطف على نفسه (¬3)، {آيَاتِ} الآيات الملجئة كخروج دابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وفتح سدّ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 667) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: هن الآيات المحكمات قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ...} [الأنعَام: 151] الآية، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8057)، والحاكم (2/ 288)، وسعيد بن منصور في سننه (493 - تفسير). (¬2) أحمد (7/ 207، 436)، والنسائي في الكبرى (11174)، وابن أبي حاتم في التفسير (8102)، والبزار (1718)، والحاكم (2/ 318)، وسنده حسن كما قال العلامة الألباني رحمه الله في كتابه "ظلال الجنة" (1/ 13). (¬3) هذا مما يستغرب فيه على المؤلف الذي يتبنى فيه مذهب الأشاعرة كما في آيات الصفات التي أَوَّلَهَا، وهنا نراه يخرج عن مذهب الأشاعرة ويقرر مذهب أهل السنة في إثبات الإتيان وأنه على حقيقته وأنها صفة للرب سبحانه وتعالى. وقد بين المؤلف أنه لا يمكن أن يكون الإتيان إتيان الأمر لأن الشيء لا يعطف على نفسه.

يأجوج ومأجوج، {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا} معطوف على قوله {إِيمَانِهَا} إذ هو فعل في الحقيقة، والمعنى لا ينفع إيمان كافر ولا عمل مؤمن بعد المعاينة. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} يتناول اليهود وأرباب الأهواء والمصلين إلا المتمسكين بالكتاب والسنة، {لَسْتَ مِنْهُمْ} أي: لا يجمعك وإياهم شيء من أسباب الموالاة، ثم أرجأ أمرهم إلى الله على سبيل التهديد. {أَمْثَالِهَا} ثوابها والمماثلة نفع بالحسن وبكونها فرضية. وإنما حسن عطف المحيا والممات على الصلاة والنسك لمعنيين؛ أحدهما: أن الإضافة إضافه ملك فكلها مملوك لله تعالى مخلوق له موجود بمشيئته وإنشائه وتسببه، والثاني: أراد بالمحيا ما يوجد في الحياة من نية صالحة وهمة محمودة، وما يوجد من التأهب للموت والاستعداد له. و (المحيا) يجوز أن يكون مصدرًا كالمركب والمشعر ويجوز أن يكون اسمًا كالملبس والمطعم. {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} في عصره. {خَلَائِفَ} جمع خليفة، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: في المعيشة، وقيل: في العلم والسيرة، وإنما قال: {إِنَّ رَبَّكَ} لأن المخاطب هو رسول الله يدل عليه ما قبله {قُلْ} ثم ذكر الأحكام. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ} خارج عن ذلك الحكم صادر على أصل الخطاب والوصف بسريع العقاب لا يضاد الوصف بالحليم؛ لأن السرعة غير العجلة تدل عليه أن العجلة لا تدع الرجل أن يمهل من القلق والضجر، وأما السرعة فلا تمنعه من الإمهال ولكنه إذا ابتدأ بالأمر لم يبطئه شيء، والله أعلم. ***

سورة الأعراف

سُورَةُ الأَعْرَافِ مكية، وعن ابن عباس وقتادة (¬1) إلا خمس آيات نزلت بالمدينة من قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163]، وهي مائتان وست آيات مدني كوفي وخمس بصري (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المص (1)} قال ابن عباس: أنا الله أعلم وأفصِل (¬3)، ويحتمل أن يكون الصاد إشارة إلى الفصل أي إلى هذا الفصل (¬4). {كِتَابٌ} فإنّ السور (¬5) فصول لا محالة، ويحتمل إشارة إلى الصدق؛ ¬

_ (¬1) قول قتادة رواه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" (6/ 310). وأما عن ابن عباس فلم أجده ولكن ورد عنه أنها نزلت في مكة عند ابن الضريس (33)، والنحاس في ناسخه (445)، والبيهقي في الدلائل (7/ 143، 144). وذكر القرطبي (7/ 160) أنها مكية إلا ثمان آيات وهي من قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} [الأعَراف: 163 - 171]. (¬2) انظر: "البيان في عدِّ آي القرآن" (155). (¬3) ابن جرير (10/ 52)، وابن أبي حاتم (5/ 1437) وليس فيه (ابن عباس) ولفظه: (أنا لله أفعل)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (167)، وابن النجار في "تاريخ بغداد" (17/ 3، 4) ولفظه: (أنا لله أفضل)، وكذا روي عن سعيد بن جبير كما رواه الطبري (10/ 52). (¬4) تقدم الكلام على الحروف المقطعة في سورة البقرة بما يغني عن إعادته. (¬5) في "أ": (السورة).

أي أن الله أعلم أو أصدق أو (¬1) الرسول صادق أو الوحي صدق (¬2) {حَرَجٌ} شك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي (¬3) أي لا تشكن في ظهوره وانتشاره، أو في نفسه وعينه، وقال الفراء والزجاج: المراد بالحرج (¬4) الخوف (¬5)؛ أي لا تخافن من عجزك عن القيام به، فإنّك موفق لتبليغه، أو من ردّهم وإنكارهم فإنك منصور عليهم، والضمير في {مِنْهُ (¬6)} عائد إلى الإنذار على سبيل التقديم والتأخير {وَذِكْرَى} عطف على (كتاب). {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} الفاء بمعنى الواو كقولك: أعطيتني فأحتسب إلى، وقيل: المراد بالإِهلاك خشية الإهلاك، وبمجيء البأس إمضاء الحكم وإتمامه فلذلك عقب، وفي قوله {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} واو مضمرة (¬7) للحال أي: وهم قائلون، والقيلولة: النوم والاستراحة في نصف النهار، يقول (¬8): قلت أقيل قائلة وقيلولة. {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قولهم وكلامهم الذي يكررونه ويتخذونه عادة كما ¬

_ (¬1) في "ب": (و) بدل (أو). (¬2) في "ب": (كذب). (¬3) أما عن ابن عباس فرواه ابن جرير (10/ 54)، وأما عن مجاهد فرواه ابن جرير (10/ 54)، وأما عن قتادة فرواه ابن جرير (10/ 54)، وأما عن السدي فرواه ابن جرير (10/ 54). (¬4) (المراد بالحرج) ليست في "أ". (¬5) الذي ورد عن الفراء أن الحرج بمعنى الشك والضيق كما في معاني القرآن (1/ 370)، وأما الزجاج فقال -كما في معاني القرآن (2/ 315) -: معنى الحرج: الضيق والخوف. (¬6) في الأصل: (منهم) وهو خطأ. (¬7) هكذا قال الفراء كما في "معاني القرآن" (1/ 372)، والتقدير يكون -أو وهم قائلون- فاستثقلوا نسقًا على نسق. وخالف في ذلك الزجاج فقال: لا يحتاج إلى إضمار الواو بل تكون "أو" بمعنى الواو ولا يحتاج إلى إضمار الواو "معاني القرآن" (2/ 317). والجملة كما قال المؤلف في محل نصب نسقًا على الحال. و "أو" هنا للتنويع أي: أتاهم بأسنا تارةً ليلًا كقوم لوط وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. (¬8) في "ب": (يقال).

في قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] وإنما ذكر دعواهم ليعلموا أن عاقبة أمرهم (¬1) الندامة والاعتراف. {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} {فَعَمِيَتْ (¬2) عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66]، وأما المرسلون فيقولون: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب. (الغيبة): الزوال عن مكان، و (الموازاة) و (الوزن) تسوية الحساب ومقابلة الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة كوزن الشَّعر عن قتادة ومجاهد والضحاك والأعمش (¬3)، وفي الحديث: "إن العبد المؤمن يؤتى بتسع وتسعين سجلًا، كل واحد منها مدّ البصر، فيها خطاياه وذنوبه، فتوضع (¬4) في كفّة الميزان، ثم يخرج له بطاقة من تحت العرش بمقدار الأنملة فيها شهادة ألا إله إلا الله فتوضع (¬5) في كفة أخرى، فيقول: يا رب ما تزن هذه البطاقة مع هذه الصحف؟! فطاشت الصحف ورجحت البطاقة"، فيه دليل على أن الموزون هو الدواوين ونسخ الأعمال، هكذا روي عن ابن عمرو (¬6)، من فحوى ظاهر قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] أن الأعمال تعاد وتقلب جواهر للوزن، وقوله -عليه السلام-: "ترى الرجل (¬7) الطويل العظيم الأكول الشروب لا يزن عند الله يوم القيامة بجناح بعوضة" (¬8) يدل على وزن أجسام العاملين، ¬

_ (¬1) في "ي" "أ": (الأمر). (¬2) في "أ": (فيعمي). (¬3) أما عن مجاهد فرواه ابن جرير (10/ 68، 69، 73)، وابن أبي حاتم (8223، 8226، 8228). وأما عن الضحاك والأعمش فلم نجده. (¬4) في الأصل "أ": (ويوضع). (¬5) في الأصل و"ي": (ويوضع). (¬6) هذا الحديث يسمى حديث البطاقة وقد ألف أبو القاسم حمزة الكتاني المتوفى (357 هـ) جزءًا فيه وهو مطبوع، والحديث رواه الترمذي (9639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213)، وعبد بن حميد (339)، وابن حبان (225)، والطبراني في الأوسط (4725)، والحاكم (1937)، والحديث صحيح. (¬7) في "ي" لا يوجد (السلام)، وفي "أ" سقطت كلمة (الرجل). (¬8) البخاري (4729)، ومسلم (2785)، واللفظ لمسلم.

ولا تنافي بين هذه الأقاويل لإمكان الجمع بين أن يحاسب العبد ثم يوزن بدواوينه ثم يوزن أعماله ثم يوزن نفسه كما يبتلى في الدنيا مرة بعد مرة وكذلك في القبر والقيامة {الْحَقُّ} العدل. {فَمَنْ ثَقُلَتْ} بالخير {مَوَازِينُهُ} جمع الميزان، إنما يوزن (¬1) كل جنس من عمله على حدة فيصير الميزان موازين في حقه، وأما لاعتبار طريقة العرب أنهم يجمعون الشيء بأجزائه. {مَعَايِشَ} جمع معيشة وهي ما يعاش به من القوت، والعيش امتداد الحياة. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني خلق الطينة {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ (¬2)} يعني تصوير النفس الجامعة لصور (¬3) الناس وهو نفس آدم -عليه السلام-، وقيل: ثم لترادف الأخبار دون الأشياء (¬4) المخبر عنها، والتصوير إمالة الأشكال. قال الله (¬5): {مَا مَنَعَكَ} حبسك {أَلَّا (¬6) تَسْجُدَ} أي عن أن تسجد، ويحتمل: ما حملك (¬7) على أن لا تسجد {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي لم يسجد، وقيل: لم يكن من جنس الساجدين لأنه أدخل في جملة المخاطبين على (¬8) طريق التتبع (¬9) لكونه دخيلًا ملحقًا. قال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} من وجه الزجر إلى المستنقعات من السواحل والجزائر، وعن مقاتل: من الجنة، وعن مجاهد: من السماء، وعن ¬

_ (¬1) (إنما يوزن) ليست في "أ"، وفي "ي": (أما الوزن). (¬2) في الأصل: (ولقد خلقناكم). (¬3) في الأصل: (جامعة لصورة). (¬4) في الأصل: (الأبناء) وهو خطأ. (¬5) في الأصل: (له). (¬6) (لا) ليس في الأصل "أ". (¬7) في "أ": (حمله). (¬8) في الأصل: (في). (¬9) في الأصل و"ب": (الشبع).

أبي روق (¬1): من صورته لأنه مسخ لافتخاره بنفسه، وليس لأحد أن يتكبر في مواضع الملائكة ولا في سلطان غيره وفعل غيره. {قَالَ أَنْظِرْنِي} أجِّلني وأمهلني، قال على وجه المكايدة (¬2) وإرادة (¬3) لتأخير العقوبة، فأمهله الله تعالى استدراجًا ليزداد إثمًا فيزداد عقوبة (¬4)، وقيل: ظن اللعين أنه إن أمهل إلى ذلك الوقت أمهل عن الإماتة وسلم عن ذوق الموت من حيث إنه يوم حياة لا يوم موت، فألبسه الله تعالى وأبهم الإنطاق، وقيل: أجابه إثابة له على (¬5) عبادته المتقدمة لئلا يبقى له في الآخرة إلا النار. قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} فبإغوائك إياي، والباء للقسم والسبب أو المقارنة (¬6) و (الإغواء) الإضلال عن ابن عباس (¬7) {لَأَقْعُدَنَّ} جواب قسم ومعناه إعراضه عن شرائع الإسلام وسبيل الحق ليوسوس ويصد ويزل ويضل، قال الله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] أي في كل مرصد. {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الدنيا {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} الدين {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} الشهوات (¬8) {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ظنًا منه ¬

_ (¬1) القرطبي (7/ 155). (¬2) في "أ": (الكايدة) دون ميم. (¬3) في الأصل "ب": (وأراد). (¬4) في الأصل (ليزداد مثله فيزداد عقوبة)، وفي "ب" "أ": (ليزدادوا ويزداد عقوبة)، وفي "أ": (ليزداد إثمًا فيزداد عقوبة). (¬5) في "أ": (الإنابة له وهي ..). (¬6) ذهب الزمخشري إلى أن الباء للسببية، وجوز أبو بكر بن الأنباري أن تكون للسببية وللقسم [الكشاف (2/ 69)] وإذا قلنا أنها سببية تكون ظرفًا مستقرًا واقعًا موقع الحال من فاعل "لأقعدن"، والتقدير: لأقعدن لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي. (¬7) ابن جرير (10/ 91)، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (1002). (¬8) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عكس ما ذكره المؤلف فقال ابن عباس: (من بين أيديهم) من الدنيا (ومن خلفهم) من الآخرة (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم (وعن شمائلهم) من قبل سيئاتهم. أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 97)، ووافق ابن عباس على ذلك =

(...) (¬1) التي جعلها الله تعالى من موهومه وخلقه لها وسيرها عليه (¬2). {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} يحتمل على سبيل التكرار (¬3) ويحتمل خروج عن معنى آخر {مَذْءُومًا} معيوبًا {مَدْحُورًا} مطرودًا (¬4) مبعدًا {لَمَنْ (¬5) تَبِعَكَ} والله لمن تبعك وجوابه {لَأَمْلَأَنَّ} (¬6). {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} صوت لهما، ووسوس إليه أي ألقى إليه صوتًا خفيًا، واللام (¬7) في {لِيُبْدِيَ} لام كي (¬8)، واختلفوا في مواراة {سَوْآتِهِمَا} قيل: كانت بالحلي والحلل فطارت عنهما بالمعصية، وعن وهب (¬9) أنها كانت بنور يغشى العيون ويمنع عن الإدراك (¬10) فلما عصيا ذهب النور (¬11)، وذكر ¬

_ = إبراهيم النخعي والحكم والسدي وابن جريج أخرجه عنهم الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم (8244 - 8251 - 8256)، وأما ما ذكره المؤلف فهو مروي عن قتادة أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 98) وذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 3090). (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬2) في "ب": (ويسد لها عليه)، وفي الأصل: (وسيرها له). (¬3) (التكرار) ليست في "أ". (¬4) في الأصل و"ي": (مطردًا). (¬5) من قوله (يحتمل) إلى قوله (لمن) ليست في "ب". (¬6) يجوز أن تكون اللام موطئة لقسم محذوف كما ذكره المؤلف ويجوز أن تكون اللام للابتداء و (مَنْ) موصولة و (تبعك) صلتها وهي في محل رفع بالابتداء و (لأملأن) جواب قسم محذوف وذلك القسم المحذوف وجوابه في محل رفع خبر لهذا المبتدأ. والتقدير: للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم. [الدر المصون (5/ 273)]. (¬7) في "أ": (واللازم). (¬8) وقيل: إنها لام العلة على أصلها إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنظر، وهذا ما رجحه السمين الحلبي في تفسيره، وقيل: اللام للصيرورة والعاقبة وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة. [الدر المصون (5/ 276)]. (¬9) في "ب": (ابن وهب) وهو خطأ لأن الأثر عن وهب بن منبه. (¬10) في "أ": (الاستدراك). (¬11) ابن جرير (10/ 114)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 206).

القتبي أنها كانت بجهلهما {سَوْآتُهُمَا} فلما أكلا من شجرة العلم علما أنهما عريانان فتواريا في الأشجار أن يكونا كراهة أن يكونا عند البصريين ولئلا يكونا عند الكوفيين (¬1). {وَقَاسَمَهُمَا} أقسم وحلف لهما باسم الله تعالى، والنصح ضد الخيانة. {فَدَلَّاهُمَا} قربهما من قوله "فتدلى" عن أبي الهيثم، وقيل: جرأهما من الدال والدالة فصيرت إحدى اللامات ياء، وقيل: دلاهما (¬2) من الجنة إلى الأرض {وَطَفِقَا} أخذا في الفعل {يَخْصِفَانِ} يضمان ويجمعان أطباق، طاق على طاق، ومنه خصف النعل، روي أن الأشجار كلها امتنعت ولم يمكنهما من أخذ الورق إلا شجرة التين (¬3)، وفي الآية دلالة على وجوب (¬4) الفعل بالعقل، قيل: لما خاطب الله تعالى آدم بقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} قال: بلى يا رب، ولكني لم أعلم أن أحدًا يحلف بك كاذبًا (¬5). ¬

_ (¬1) أي في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا} [الأعرَاف: 20] فيقدره البصريون -إلا كراهة أن لا تكونا - ويقدره الكوفيون - إلا أن تكونا - والأظهر قول البصريين لأن إضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف وهو اختيار سيبويه والزمخشري. (¬2) في الأصل و"ي": (لا بما). (¬3) اختلف أهل التفسير في الشجرة فقيل: الكرم: وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس والسدي. الحنطة: وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبي مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى. النخلة: وهو مروي عن أبي مالك. التينة: عن مجاهد عند ابن أبي حاتم (379)، وهو مروي عن قتادة وابن جريج وهو مروي عن ابن أبي حاتم بدون سند. هذه الأقوال ذكرها ابن كثير في "قصص الأنبياء" (19) ثم عقب بعدها: (وهذا الخلاف قريب، وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن) اهـ. وانظر هذه الأقوال في: الطبري وابن أبي حاتم والقرطبي. (¬4) في "ب": (وجود). (¬5) ابن أبي حاتم (8310) عن السدي، وهو مما نُقل عن بني إسرائيل.

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} لما اعترفا بقبح أفعالهما وتعرضا للمغفرة واعتقدا الخسران لم يغفر الله (¬1) لهما وسكتا عن الاحتجاج بالمشيئة، والتقدير استوجبا المغفرة في حكم الله تعالى. {قَالَ فِيهَا} أي في الأرض (¬2) {تَحْيَوْنَ}. {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ} لما ذكر الله تعالى قصة آدم -عليه السلام- كيف بدت سوأته وكيف طفق يخصف عليه من ورق الجنة ذكر فتنة الجسمية على نبيه في ورق (¬3) اللباس ليشكروه على ذلك وليستنوا بسُنّة أبيهم في ستر العورة، وإنما (¬4) قال {أَنْزَلْنَا} لأن تركيب (¬5) النبات والحيوان من الأصول الأربعة فالثلاثة منها منزلة في المشاهدة والحرارة والماء والريح أو المكان التقدير والكتابة في اللوح المحفوظ وذلك في السماوات كانت الأعيان في الأرض نظيره (¬6)، قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] أو لمكان الإلهام بالنسج والاكتساء، والإلهام يجيء مجيء الروح وذلك من فوق أو لتفخيم شأن الإعطاء ولذلك سُميت يد المعطي اليد العليا ويد السائل اليد السفلى، (اللباس) كالمئزر الثخين و (الريش) هو لباس الرفاهية والتجمل، ومنه سمي الحدث الرايش رايشًا وهو من ملوك حمير (¬7) {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الريش لأن الإنسان يتعفف به ليحسب غنيًا، وقيل: ما يستر مواضع الشهوة ¬

_ (¬1) (الله) من "أ" "ي". (¬2) في الأصل (بالأرض). (¬3) في "ب": (رزق). (¬4) في "ب": (وإنما قال إنما أنزلنا ..). (¬5) في "أ": (أنزلنا لتركيب). (¬6) إسناد الإنزال إلى اللباس إِما لأن أنزل بمعنى خلق كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزُّمَر: 6]، وأما ما ذكره المؤلف مما يسميه أهل العلم التدريج وذلك أنه ينزل أسبابه كالماء الذي هو سبب النبات. (¬7) ذكره الزمخشري في "الفائق" (2/ 60) وقال: (الحارث الحميري الرائش لأنه أول من غزر فراش الناس بالغنائم).

سوى السوأة (¬1)، وقيل: ثياب (¬2) التواضع كالصوف والفرو (¬3)، وقيل: الحياء الذي هو من الفطرة (¬4)، وعن ابن عباس: العمل الصالح، وعنه: السمت الحسن (¬5)، وعن قتادة والسدي: الإيمان (¬6)، وعن الكلبي: العفاف والتوحيد، وعن زيد بن علي: الدرع وسائر ما يتقى به في الحرب، وعن عروة بن الزبير: قول الرجل حسبنا الله ونعم الوكيل، والخطاب في قوله {ذَلِكَ} راجع إلى النبي -عليه السلام- بدليل ضمير الجماعة في قوله {لَعَلَّهُمْ}. {يَنْزِعُ عَنْهُمَا} للحال (¬7) ومستقبل بمعنى الماضي وإبليس لم يفعل ولكن أسند الفعل إليه لحصوله بسببه كقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ (¬8)} [إبراهيم: 36] و (النزع) كالسلخ، و (قبيله) حزبه وجماعته، من (¬9) في قوله {مِنْ حَيْثُ} يقتضي كونهم مستترين عنا بشيء ولو لم يتستروا لرأيناهم (¬10)، قال -عليه السلام-: "من احتاج إلى كشف عورته (¬11) فقال: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله كان سترًا بينه وبين الجن" (¬12). {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} قيضناهم قرناء. ¬

_ (¬1) هذا مروي عن ابن زيد عند ابن أبي حاتم (8340). (¬2) في الأصل "أ": (ثواب). (¬3) ذكره القرطبي (7/ 185) بلفظ: (وقيل). (¬4) وهذا مروي عن (معبد الجهني) عند ابن جرير (10/ 120، 121، 125، 126)، وابن أبي حاتم (8339). (¬5) أما العمل الصالح فذكره ابن جرير (10/ 125)، والقرطبي (7/ 184) عن ابن عباس، وأما عن السمت الحسن فذكره ابن جرير (10/ 126)، وكذلك القرطبي (7/ 184). (¬6) ابن جرير (10/ 125، 131) عن قتادة والسدي. (¬7) في "ي" "أ": (أو). (¬8) (من الناس) ليست في "ي" "ب". (¬9) (من) ليست في "ي" "ب". (¬10) في الأصل: (أولم يتستروا واوا لرأيناهم). (¬11) في "أ": (احتاج كشف إلى عورته). (¬12) لعله يقصد الحديث الذي رواه الترمذي (606) وغيره بلفظ: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله".

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} وهو تعريهم عند الطواف (¬1) وقيل: هو عام {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} على وجه الاحتجاج إذا ناظرهم مؤمن وبين لهم قبحها، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} دليل أنها موجودة قبل الشريعة وهو ما جُبل الطبائع على ردها وذمها كالظلم والكذب والغدر والتحنث ونحوها, ولم يوجبها الله تعالى في كتاب ولا لسان نبي ولا ندب إليها ولا أباح. {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} فيه دليل أن القسط موجود قبل الشريعة وإلا لما صح الأمر به، وهو العدلى الذي يتعادلى به العقلاء {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} أي أخلصوا عزائمكم ونياتكم وليَكن كل واحد منكم ذا (¬2) وجه واحد ولا يكون ذا وجهين منافقًا مرائيًا ولا يكون معرضًا {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} في كل متعبد {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} تشبيه العود بالبدء (¬3) من حيث التقليب والتركيب والإحياء والإنطاق، وعن ابن عباس (¬4) أن التشبيه لكونهم حفاة عراة غُرلًا بهمًا، وإنما لم يقل: "يعيدكم" لاعتبار نظم رؤوس الآي عند الكوفيين ولاعتبار سائر الأفعال المسندة إليهم عند الباقين. {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} أي ثبت وظهر وتحقق بقولى، حقت الخيانة على فلان أي ظهرت وإنما قال: {هَدَى} ولم يقل أضل؛ لأن الله متصف بالهداية من جميع الوجوه غير متصف بالإضلال من جميع الوجوه. {خُذُوا زِينَتَكُمْ} أمر بستر العورة عند الطواف والصلاة عن ابن عباس وعطاء ومجاهد (¬5)، ويجوز أن يكون حكم الترجيل والتطيّب ولبس الجدد ¬

_ (¬1) هذا ورد عن ابن عباس عند ابن جرير (10/ 137)، وابن أبي حاتم (8357). (¬2) في الأصل "ب": (إذا). (¬3) في "أ": (بالمبداء). (¬4) قريبًا منه عند ابن أبي حاتم (8368). (¬5) أما عن ابن عباس فآثار كثيرة بهذا المعنى عند ابن جرير (10/ 151، 152)، وابن أبي حاتم (8377، 8378)، وأما عن عطاء فعند عبد بن حميد وأبي الشيخ كما في الدر المنثور (6/ 363)، وأما عن مجاهد فعند ابن جرير وابن أبي حاتم كما في المذكور سالفًا.

والألبسة الحسنة في الجُمَع والأعياد مأخوذًا منها على وجه الاستحباب، وكان المشركون قد سول لهَم الشيطان أن لا يطوفوا في ثياب يبتذلون فيها ويقولوا: لا نطوف (¬1) في ثوب عصينا الله فيه، فالغني منهم قد أعدّ لطوافه ثوبًا والمتوسط كان يكتري والفقير كان يطوف عريانًا، وربما لا يكرون للمرأة الحسناء ثوبًا لتطوف (¬2) عريانة فينظروا إلى عورتها حتى طافت واحدة وقالت: اليوم يبدو (¬3) بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله (¬4) فبيّن الله أنه من تسويل الشيطان، وأنه فاحشة كحكم البحيرة والسائبة، فأمر بستر العورة واستحلال لحوم حرموها واستباحة ألبان حظروا عنها، ونهى عن مجاوزة الحدّ المعتاد في الأكل والشرب واللبس حتى يصير شهرة في الناس. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ما كان الكفار يحرمونه على أنفسهم مما (¬5) سبق ذكره (¬6) وكانت الحمس إذا أحرمت لم يتدسم بلحم ولا سمن ولا أقط فنفى الله تعالى أن يكون ذلك حكمه (¬7). {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} أحكامهم وشرائعهم المبتدعة {وَالْإِثْمَ} ما اعترفوا بأنه منكر، وقيل: هو الخمر. قال الشاعر (¬8): شربت الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك (¬9) الإثم يذهبُ بالعقول ¬

_ (¬1) في "أ" والأصل: (نطرف). (¬2) من قوله (والمتوسط) إلى قوله (ثوبًا) ليست في "أ". وبدلها (ثوبًا فتطوف). (¬3) العبارة في المخطوطات مضطربة وأثبته من المصادر. (¬4) هذا ذكره مسلم في صحيحه (3028) وغيره. (¬5) في "أ" "ي": (ما). (¬6) في سورة "البقرة" مما تقدم ذكره. (¬7) في الأصل: (حكم). (¬8) البيت من الوافر وهو بلا نسبة في لسان العرب (6/ 12) "إثم"، وتهذيب اللغة (15/ 161)، وتاج العروس "إثم"، وفي البحر (2/ 157)، والدر المصون (1/ 479) وغيرهم. (¬9) المثبت من "ب": (كذاك) وفي البقية (كذلك)، والمصادر توافق "ب".

{وَالْبَغْيَ} استطالة بعضهم على بعض (¬1)، ولم يدخل في جملة الفواحش لأنهم لم يكونوا يستبيحونه، ولمْ يدخل في الإثم؛ لأنهم كانوا يفتخرون به، فلا (¬2) يقطعون الحكم بأنه منكر، وقيل: الإثم والفواحش دخلا في الفواحش (¬3) وإنما خصهما لتعظيم شأنهما، وإنما وصف البغي {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لأن ظاهر الجهاد يتصور بغيًا وهو بالحق لمكان الدعوة إلى الإسلام بإذن الله تعالى -عَزَّ وَجَلَّ- {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا {مَا} (¬4) وأي شيء فإن الله {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي أن تكذبوا على الله بأن تجعلوا الفواحش من أحكامه (¬5). {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أجل الموت، وعن مقاتل: أجل العذاب والإهلاك، هي خاصة على هذا القول اتصال الآية بما قبلها من حيث التهديد والإنذار بمجيء الآجل (¬6) ودفعه لكي يبادروه إلى ما فيه الفلاح والنجاة، و"الاستقدام" المتقدم (¬7) إلى الآجل عند دنوه و"الاستئخار" التأخر والتباعد عنه وهو غير ممكن. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} العهد المأخوذ على آدم وبنيه وهو عطف على قوله {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] وفصل ستر العورة وغيره كالعارض في الكلام. {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ما وعدوا من خير أو شر عن ¬

_ (¬1) هكذا قاله الفراء كما في: معانى القرآن (1/ 378). (¬2) في "أ": (ولا). (¬3) في "أ" تكررت (دخلا في الفواحش). (¬4) (ما) ليست في "أ". (¬5) (من أحكامه) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل (بحجة الأجل) وفي "ب": (بمجيء العذاب). (¬7) في الأصل و"أ": (التقديم).

ابن عباس (¬1)، فإن كان المراد به في الدنيا فجرت الغاية في موضعه، وإن كان المراد به في الآخرة فهو عارض، وعن الربيع وابن زيد: نصيبهم العمر والرزق (¬2)، وعن مجاهد: أعمال لم يعملوها بعد لا شك أنهم يعملونه (¬3)؛ أي على قضية العلم والمشيئة والتقدير {جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} الملائكة {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} قيل: عن الدنيا إلى الآخرة، وقيل: عن عرصة القيامة إلى النار. قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي في عدادهم، والأخوة بين الاثنين في الدين أو من حيث اجتماعهما في النار {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} أي تداركوا وتلاحقوا {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} سَنّوا لنا السنن (¬4) وأسّسُوا قاعدة الضلال {عَذَابًا ضِعْفًا} مضاعفًا، قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} عذاب مضاعف، قيل: هم الأولون دون الآخرين {وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬5) ذلك لتجادلوا الآخرين فتكون مجادلتهم نوع مشقة وحزن وعذاب، وقيل: هم الأولون والآخرون لأن لكل أمة استئناف الضلالة وتأويل الفاسدة والرضا بأن تكون بدعتها سنة لمن بعدها. {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} مجادلته منهم عن القول الأول (¬6) {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} ليس لكم عذر تتفضلون به علينا فإنكم دخلتم في الضلالة مختارين كما دخلنا من غير إكراه وإجبار، وكلامهم هذا اتباع لقوله {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} على القول الثاني. ¬

_ (¬1) ابن جرير (10/ 171)، وابن أبي حاتم (8438). (¬2) أما عن الربيع بن أنس فرواه ابن جرير (10/ 174)، وابن أبي حاتم (8450، 8451)، وأما عن ابن زيد فلم نجده. (¬3) الذي ورد عن مجاهد لفظ (ما سبق من الكتاب) عند ابن جرير (10/ 169)، وابن أبي حاتم (8437). (¬4) في الأصل: (السين). (¬5) في الأصل: (وإنما لا تعملوا)، وفي "أ" "ي": (وإنما لا تعلمون). (¬6) (عن القول الأول) ليست في "ب".

{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} لا ترفع أرواحهم إلى عليين ولا أعمالهم إذ ليس لهم كلام طيّب ولا عمل صالح، وقيل: لا يبارك عليهم فإن البركات تنزل من السماء، وقيل: لا يرحمون {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} وهو من الإبل كالرجل من الناس {فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ثقبة الإبرة وخرقها، وفي مصحف ابن عباس: {الْجَمَلُ} بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة (¬1)، وفي مصحف ابن مسعود {في سم المخيط} (¬2)؛ وهو كالإزار والمئزر، وولوج الجمل في سم الخياط غير متصور إلا بتقليب أحدهما وتعسر التركيب وحينئذ لا يبقى الاسم وهي غاية الإياس كقول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القلب كاللّبن الحليب (¬3) {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} جمع غاشية. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وفائدة العارض بين المبتدأ والخبر هو الأمن من التكليف بما فوق الطاقة من الأعمال الصالحات ووقوف الثواب (¬4) عليه. {مِنْ غِلٍّ} تفسير لما في صدورهم، والغل الدخلة والضغن والحقد، والمراد بالهداية ما وعد الله المؤمنين بقوله {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الحديد: 12] وقيل: الوحي الكتاب لأن الإيمان قبل الدعوة لا يوجب الجنة وإن كان في نفسه مسقطًا للعقاب، والمراد بالرسل: الذين يدخلونهم الجنة ¬

_ (¬1) سعيد بن منصور (949 - تفسير)، وأبو عبيد (172)، وابن جرير (10/ 191، 192)، وعزاه في "الدر المنثور" إضافة للمذكور (6/ 391) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في "المصاحف" وأبو الشيخ. (¬2) انظر: "زاد المسير" (3/ 198)، الألوسي "روح المعاني" (8/ 119). (¬3) هذا البيت ذكره جمع دون نسبة لأحد، ذكره الفقهاء والمفسرون كما في المغني (8/ 509)، والفرج بعد الشدة للتنوخي (1/ 110)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 289)، والألوسي في روح المعاني (9/ 5)، والماوردي في تفسيره (2/ 28)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/ 320). (¬4) في الأصل "أ": (الثوب).

يومئذ {وَنُودُوا} أي ناداهم الله أو نادتهم الملائكة أو أصحاب الأعراف عند رفعهم أصواتهم بالتحميد (¬1). {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} المراد بالوعد في حق أهل النار الوعيد، وإنما وقعت العبارة عنه بالوعد لازدواج (¬2) الكلام كقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] ويحتمل أن المراد بالوعد في حق الفريقين جميعًا هو البعث بعد الموت، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38] وفائدة السؤال التقريع والتنكيل {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أعلم معلم وهو جبريل عن ابن عباس (¬3) {أَنْ} أي بأن {لَعْنَةُ اللَّهِ} ثم وصف الظالمين في الحياة الدنيا. {وَبَيْنَهُمَا} أي بين الجنة والنار {حِجَابٌ} حاجز وحائل وهو السّور الذي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وهو العذاب، وأعراف الرمال أشرفها، واحد الأعراف عُرف ومنه عرف الديك {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} الذين (¬4) استوت حسناتهم وسيئاتهم عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة (¬5)، وسئل -عليه السلام- عنهم فقال: "هم الذين قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم" (¬6) ¬

_ (¬1) لم يبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الذي يناديهم ولذا جاء في صحيح مسلم (4/ 2182) عن أبي هريرة مرفوعًا قال -عليه السلام-: "ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا" فذلك قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. (¬2) في "ب": (لأن ازدواج). (¬3) ذكر الألوسي في "روح المعاني " (8/ 123) عن ابن عباس أنه صاحب الصور (يعني إسرافيل). وقيل: مالك خازن النار، وقيل: ملك من الملائكة (أي جبرائيل). (¬4) في "ب" "ي": (الداين). (¬5) أما عن ابن عباس فرواه ابن أبي حاتم (8501). وأما عن ابن مسعود فرواه ابن جرير (10/ 213، 214). وأما عن حذيفة فعزاه إليه النحاس في "معاني القرآن" (3/ 39). (¬6) هذا الحديث رواه سعيد بن منصور (954 - تفسير)، وابن جرير (10/ 218)، وابن أبي حاتم (8498)، وابن الأنباري في "الأضداد" (369)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (252)، وعن عبد الرحمن المزني، وهو حديث ضعيف فيه أبو معشر نجيح ضعيف. =

وعن مجاهد: الذين رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر (¬1)، وروي عن ابن عباس: ولد الزنا (¬2)، وقيل: أطفال المشركين (¬3)، والضمير في قوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أصحاب الأعراف، وقال علي (¬4) - رضي الله عنه -: نحن الأعراف يعني بني هاشم نعرف كلًّا بسيماهم، كان الضمير على {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} ويجوز إطلاق أصحاب الجنة قبل الدخول فيها. {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أبصار أهل الأعراف وأصحاب الجنة على قضية تأويل علي {تِلْقَاءَ} الشيء تجاهه {قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا} على قضية الروايات يدلس أن أصحاب الأعراف مرجون لأمر الله تعالى، ويخافون دخول النار، وعلى تأويل علي قال أصحاب الجنة عند المرور على الصراط، قبل دخول الجنة. {رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} مثل أبي جهل والوليد وشيبة وعتبة يقول لهم أصحاب الأعراف على وجه اللوم والتقريع: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} مثل بلال وصهيب وسلمان (¬5) والمقداد وغيرهم كانت قريش تستبعد وتنكر دخولهم الجنة {لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} لا تنالهم رحمة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} قيل لأصحاب الجنة على سبيل الرضا بدخولهم عند دخولهم وهو شبيه بالدعاء، كما تقول للآكل: كل هنيئًا، وللشارب: أسقاك الله، وقيل ¬

_ = ورواه الطبراني في الأوسط (3053)، وفي الصغير (1/ 238، 239) عن أبي سعيد الخدري وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف. وعن مالك الهلالي رواه الحارث بن أبي أسامة كما في "المطالب العالية" (3985)، وابن جرير (10/ 218) وفيه الواقدي. قال ابن كثير: (والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة). (¬1) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 204) ذلك وعزاه لعبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم. (¬2) ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 205). (¬3) ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 206) عن المنجوفي في تفسيره. (¬4) ذكر الألوسي في "روح المعاني" (8/ 123) عن الرافضة قريبًا منه. (¬5) في "أ": (سليمان).

القول: مضمر وتقديره: قيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بشفاعته. وقال ابن عباس: "أصحاب الأعراف قوم ينتهى بهم إلى نهر يقال له الحيوان جانباه قصب الذهب مكلّل بالدرّ فيغتسلون فيه ويخرجون وفي نحورهم شامة فيعودون فيغتسلون فيزدادون بياضًا وحسنًا، فيقال لهم: تمنوا، فيتمنون ما شاؤوا فيقال لهم: لكم سبعون ضعفًا، فهم مساكين أهل الجنة" (¬1) وعلى قضية تأويل عليّ هذا القول قول أصحاب الأعراف لأصحاب الجنة قبل دخول الجنة. {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الأشربة والطعام، وإنما استعمل الإفاضة على الجميع وإن كان فيه ما لا يتصور إفاضته على سبيل الإشباع كقوله: {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246]. وقال الشافعي (¬2): إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا وإنما لم يقولوا لا نفيض لأن فيه شمة بخل، ولكنهم ذكروا وجه المنع وعلته {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} من كلام الله مَسوق على قوله {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في أول الفصل وكانوا أي {وَمَا كَانُوا}. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} أي (¬3) آتيناهم، فصلناه عالمينَ به وبمعانيه ومجازه فصلناه على غير جهل ولا على جهل {هُدًى وَرَحْمَةً} يجوز أن ¬

_ (¬1) هذه الرواية ذكرها هناد في "الزهد" (200)، وابن جرير (10/ 215)، وابن أبي حاتم (8502). وهو مروي عن عبد الله بن الحارث رواه ابن أبي شيبة (13/ 129)، وهناد في "الزهد" (198)، وابن جرير (10/ 216). (¬2) هذا البيت لعل الشافعي ذكره على وجه الاستشهاد وإلا فهو للراعي النميري وهو في ديوانه ص 269، وهو مشهور عنه. انظر: شرح شواهد المغني (2/ 775)، والخصائص لابن جني (2/ 432)، ولسان العرب (2/ 278)، ومغني اللبيب (1/ 357)، وهمع الهوامع (1/ 222)، وشرح شذور الذهب، ص 313، وتذكرة النحاة ص 617، والنهاية لابن الأثير (2/ 583) وغيرهم. (¬3) (أي) من "أ" "ي".

يكون مفعولًا له من فعل المجيء وأن يكون حالًا للضمير في {فَصَّلْنَاهُ} (¬1). {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} المراد بالتأويل مآل ما يشابه من الوعيد وعاقبته وبيانه كقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} [الدخان: 10]. {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} فيه (¬2) معنى الطلب والإرادة ومثله قوله (¬3): {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] ويحتمل أنه استفهام بمعنى النفي كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [البقرة: 210] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ} [فاطر: 3]. {فَيَشْفَعُوا لَنَا} جواب الاستفهام بالفاء {أَوْ نُرَدُّ} أو هل نرد، وإنما صيروا أنفسهم لكونها رهينة بما كسبت. {إِنَّ رَبَّكُمُ} فصل في دلائل الربوبية ترتب على فصل الوعد والوعيد ليكون أنجع (¬4) في القلوب وكذلك هو في أول سورة "البقرة" و {السَّمَاوَاتِ} إنما لم يجمع سماء لأن الهمزة في واحداتها (¬5) غير أصلية وهي واو قلبت همؤة لوقوفها طرفًا بعد ألف زائدة {سِتَّةِ} اسم عدد الثلاث مرتين أصله سدسَة والمراد به الأيام العقباوية كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا يدل عليه ما يروى من خلق آدم -عليه السلام- ودخوله في الجنة وخروجه منها وبكائه على خطيئته وقبول توبته، كل ذلك في آخر يوم الجمعة، وقيل: والجمعة الثانية يوم القيامة. والحكمة في الخلق على المهلة مع كونه مقدورًا في أقل من لحظة وهو التنبيه على حسن الوقار. ¬

_ (¬1) الجمهور على نصب (هدىً ورحمةً) وفيه وجهان كما ذكر المؤلف: الوجه الأول: أنه مفعول من أجله والتقدير: فصلناه لأجل الهداية والرحمة. والوجه الثاني: أنه حال إما من كتاب وجاز ذلك لتخصصه بالوصف وإما من مفعول (فصلناه). (¬2) (فيه) ليست في "أ". (¬3) في "ب": (كقوله). (¬4) في الأصل و"ب": (فيكون الجمع). (¬5) في الأصل و"ب": (وحدتها).

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يدل أن العرش (¬1) لم يكن مستوى عليه في هذه الأيام الستة مع كونه موجودأ من قبل لقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وهذا الكلام يفيد كون العرش آية على الربوبية يوجبُ العلم بمن شاهده من غير استدلال فإن العيون تتجه إليه عند رؤيةِ من تعالى عن الجهات (¬2)، وأن الأسماع تصغي إليه عند استماع كلام من تعالى عن المخارج واللهات، وهو سرير كما شاء الله فوق السموات السبع وهو سقف الفردوس فيما يروى (¬3)، ولقد سأل إسرافيل -عليه السلام- الرفيع عن عرش ربّ العزة قال: سألت اللوح (¬4) عن عرش ربّ العزة قال: سألت القلم عن عرش ربّ العزة قال: إن للعرش ثلثمائة (¬5) وستين ألف قائمة (¬6) كل قائمة من قوائمه مثل الدنيا ستين ألف مرة، تحت كل قائمة ستون (¬7) ألف مدينة في كل مدينة ستون ألف صحراء في كل صحراء ستون ألف عالم مثل الثقلين الإنس والجن ستين (¬8) ألف مرة لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم ولا إبليس، ألهمهم الله أن يستغفروا لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ويحبهم (¬9)، ومصداق هذا الحديث قوله: ¬

_ (¬1) (يدل أن العرش) من "ب" "ي". (¬2) تقدم الكلام عن الجهة في سورة "البقرة"، وأن مذهب أهل السنة والجماعة عدم الخوض في ذلك ابتداءً وعند التنزل مع الخصم يستفهم عن ذلك فإن أريد بالجهة ما يفتقر إليه الخالق ويحتاج إليه فهذا منتفٍ عن الله لأن الله هو الغني ولا يفتقر إلى شيء من خلقه. وان أريد بالجهة عكس ذلك فلا مانع من إثباته إلى الله. انظر تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115]. (¬3) ورد ذلك في حديث رواه البخاري (2637)، وأن العرش يطلق على سرير الملك، هذا لغةً. (¬4) في "ب": (الروح). (¬5) (قال: إن للعرش ثلاثمائة) ليست في "أ". (¬6) في الأصل (قامة). (¬7) (ستون) ليست في الأصل. (¬8) (ستين) ليست في "ب". (¬9) هذا حديث موضوع ذكره ابن النجار كما في "الوافي في الوفيات" وحكم عليه الصفدي بالكذب، وانظر: القتبي في "تذكرة الموضوعات" (42).

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] وقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. {يُغْشِي اللَّيْلَ} يكسو (¬1) ظلمة الليل نور النهار ويسترها به، والنور هو المشبه باللباس لأنه عارض طارئ والظلمة هي (¬2) الأصل {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} صفة النهار على سبيل التشبيه أيضًا كأنه طالب الليل مسرعًا في أثره والطلب لا محالة قبل التغشية فهو الإصباح وهو طلوع الشمس، و (التسخير) تصريف الشيء لا (¬3) على اختياره {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الفعل والقول ليس للخلق بأمر (¬4) ولا الأمر بخلق. {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} الهاء عائدة إلى الأرض، وإصلاحها وضع الميزان فيها وإنزال الكتاب إلى أهلها، و (الخوف) من قضية الهيبة و (الطمع) من قضية حسن الظن بالله، فالله تعالى عزيز لا يوازيه عزيز، كريم لا يضاهيه كريم ليس يعرفه من لا يهابه خائفًا ولا يحسن الظن به راجيًا، كما لا يعرف السرور من لا يرضاه ولا يعرف الحزن من لا يكرهه، وإنما قال {قَرِيبٌ} لاعتبار المعنى وهو الفعل. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} منتشرة في الآفاق فإن كانت فاعلة فإنها تنشر السحاب بإذن الله وبشارتها أداؤها حروف الكلم إلى الاستماع بإذن الله، ويحتمل أنها إيهام ما جرت به العادة في العلم من الحوادث السارة والضارة تتبع الرياح المختلفة {أَقَلَّتْ} استقلت وحملت، و (السحاب) اسم جنس واحدتها سحابة، و (الثقال) جمع الثقيل كالغلاظ جمع الغليظ، وإنما وصف السحاب الثقال على اعتبار الجمع وهو لغة ¬

_ (¬1) في الأصل (يكسر). (¬2) في "ب" "ي": (هو). (¬3) في "أ": (تصريف الشمس على). (¬4) في "ب": (الخلق بالأمر).

تميم ومثله قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] {سُقْنَاهُ} الهاء عائدة إلى السحاب وهو لغة قريش {تَذَكَّرُونَ} بلفظ الواحد أن كل جمع لا فرق بينه وبين واحدته إلا بالهاء {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي بالسحاب وبسببه أو بذلك البلد وفيه {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} كما أخرجنا النبات، قيل: إن الأرض تمطر بها كالمني أربعين صباحًا بعد الهمدة وهي الرقدة أربعين سنة فيما بين النفختين فينبت الموتى بإذن الله تعالى كما نبتوا في الأرحام (¬1) بإذنه تعالى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الأرض السهل المنبت الذي طبيعته كريمة {وَالَّذِي خَبُثَ} هي السبخة ونحوها {لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} لا يخرج نباته إلا عسرًا قليل الخير، وهذا تنبيه على صفة المؤمن الكريم والكافر اللئيم. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ذكر جماعة من أهل العلم بالإنساب والتواريخ أن آدم -عليه السلام- (¬2) لما قارب أجله أوحى الله إليه يأمره باستخلاف شيت -عليه السلام- (2) على ذريته، فقام فيهم خطيبًا بلغته فقال: الحمد لله الذي (¬3) خلقني بيده ونفخ فيّ من روحه وأسجد لي ملائكته وعلّمني أسماءه وأسكنني جنته، فمضت مشيئته في معصيتي له وإخراجي من جوارِه، فله الحمد على إقالته عثرتي ورحمته ضعفي وتوبته عليّ ومغفرته لي ومعونته إياي على محاربتي عدوي إبليس وله المنّ في ذلك والطول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الباقي بعد فنائي وانقراض عمري. عليكم يا بنيَّ بطاعة الله والإنابة إلى أمر الله والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى تنالوا بذلك رضوان الله وتأمنوا به سخطه (¬4) واجتنبوا طاعة النساء فبئس الشركاء هنّ ولا بدَّ منهن. ¬

_ (¬1) هذا يروى عن أبي هريرة وابن عباس كما عند البغوي في تفسيره (1/ 238)، وعزاه القرطبي في تفسيره (17/ 55) لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (لذي) ليست في الأصل "أ". (¬4) في "ب" بدل (سخطه): (غضبه).

ثم أخبرهم بعذاب نازل بعد ألف سنة من وفاته وبعد ألفي سنة، وما يتبين في بعض الروايات وكلاهما ممكن لأن بعد الشيء لا يقتضي الاقتران به يجوز الاتصال والانفصال. وأمرهم (¬1) باحتفاظ جسده إلى أن ينجلي العذاب ثم يدفنوه إلى الأرض المقدسة. وبشر من يتولى حفظ التابوت في (¬2) الأرض المقدسة بطول العمر وإرجائه إلى يوم القيامة. واستخلف عليهم شيت -عليه السلام- وودعهم وفرغ من خطبته ومرض من يومه، وسمّى لشيت مكانًا أرسله إليه لعله يلقى الروح الأمين -عليه السلام- (¬3) فيستهديه شيئًا من ثمار الجنة، فمضى شيت إلى ثمّ فإذا هو بجبريل -عليه السلام- (3) ينعى إليه أباه ويعزيه ويخبر بأنهم نزلوا للصلاة عليه، فرجع معهم وغسل أباه وحنطه وكفنه بتعليم جبريل -عليه السلام- (3). ثم قدم جبريل شيت ليصلي على أبيه وقام جبريل مع الملائكة خلفه. ثم إن شيتًا أودع أباه تابوتًا (¬4) من الساج وتولى الأمر وهو ابن ثلثمائة سنة وتوفي وهو ابن ثمان ماية سنة (¬5) واستخلف على قومه قينين فتولى الأمر بعد أبيه وهو ابن خمسمائة سنة وحاربَ الجنّ وأثخن فيهم القتل وتوفي وهو ابن سبعمائة سنة، فمن وفاة آدم إلى وفاة قينين على هذا الحساب سبعمائة سنة، فكأنه كان قد ولد يوم وفاة آدم (¬6)، والله أعلم أهذه السنون شمسية أم قمرية أم كان الناس يحسبون في ذلك الزمان مدة مسير ¬

_ (¬1) في "ب ": (وأمره). (¬2) في الأصل و"أ": (إلى). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (تابوتًا) كتبت في الأصل خطأ. (¬5) (سنة) ليست في "ي" "أ". (¬6) لم أجد هذه الرواية بعينها ولكن هناك روايات عن وفاة آدم عند ابن كثير في "قصص الأنبياء" (60) عن محمد بن إسحاق. وكذلك هناك رواية عند عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"، وبعضه عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 459)، وكلها أسانيد ضعيفة غير ثابتة. ومعروف في كتب السير والتواريخ أن آدم عهد إلى ابنه شيث وأن شيتًا عهد إلى ابنه أنوش وهذا عهد إلى قينين، وهي من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذّب.

الشمس في البروج الشامية سنة كاملة على حدتها ومسيرها في البروج اليمانية كذلك كحساب طائفة من اليهود، ويحتمل أن حسابهم كان على حساب سائر النجوم السيّارة سوى النيرين (¬1). وهذه تواريخ قد فسدت باختلاف العبارات والعادات، فمن المخبرين من يذكر مدة ما بين ولادة الأول إلى ولادة الثاني ومنهم من يذكر مدة ما بين وفاة ذلك إلى ولادة هذا، ومنهم من يذكر ما بين خروج ذلك إلى خروج هذا، ومنهم من يذكر من وقت فلان إلى وقت فلان، لا يقف على مراده من الوقت. ومنهم من يترجم فيغلط في الترجمة ومنهم من يستدل على الحوادث الماضية بأمارات (¬2) نجومية من اجتماعها واقترابها، فيقتضي بأن تلك الحادثة كانت عند تلك الإمارات ويقطع الحكم ثم يستخرج الحساب على هذه القضية، ومنهم من يتعَمَّد الكذب. فالواجب أن لا يعتمد على شيء من ذلك ما لم يكن ثابتًا بالتواتر والإعجاز. ثم قام بالأمر بعد قينين ابنه مهلاييل وقام في الناس خطيبًا بلغته وقال: الحمدُ لله الذي علا في سنائه وتلألأ في نهائه وتعظم في كبريائه ونفذ أمره في أرضه وسمائه، أحمده على ما ساق إلينا من نعمته وأفضل علينا من كرامته، أيها الناس عليكم بطاعة ربكم الذي بيده نواصيكم وإليه منقلبكم ومثواكم، اجتنبوا سخطه وتمسكوا بدينه تنالوا بذلك رحمته وتأمنوا به من عذابه ولا قوة إلا بالله (¬3). وامتلأت أرض الحجاز ويمامة في أيامه من الناس ووقع بينهم ¬

_ (¬1) هما الشمس والقمر. (¬2) في الأصل (من أمارات)، وفي "ب": (لأمارات). (¬3) لم أجد هذه الخطبة، وقد ذكر أهل السير أن مهلاييل ملك الأقاليم السبعة وأنه بني مدينة بابل وقهر إبليس وجنوده وشردهم عن الأرض إلى أطرافها وشعاب جبالها، انظر: قصص الأنبياء لابن كثير (62).

التباغي والتحاسد ففرقهم خمس فرق: أسكن (¬1) أولاد شيت بالعراق وسيّر الفِرَق الأربع (¬2) إلى مهبّ الرياح الأربع وأمّر عليهم زعموا ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا وهم رجال صالحون، فلما درج مهلاييل ودرجوا من بعده، اتخذ الناس تماثيل على صورهم يسكنون إلى رؤيتها. ثم طال الزمان وانتشأت الذرية على ذلك فاعتادت وعبدت التماثيل وبقي الناس فوضى لم يملكوا أحدًا ولم يجمعوا أمرهم. وكان مهلاييل قد ولد له اليارد (¬3) ولليارد لأخنوخ وهو إدريس النبي (¬4) -عليه السلام- (¬5)، ولم يبلغنا كمية بقاء مهلاييل واليارد في الدنيا ولا سمعنا في ولد أخنوخ -عليه السلام-، قالوا وولد أخنوخ متوشالخ على رأس ثلثمائة سنة من عمره فلما بلغ ثلثمائة وخمسًا وستين رفعه الله مكانًا عليًا، وكيفية قصته تأتي في موضعها إن شاء الله. وولد لمتوشالخ لمك (¬6) وللمك نوح -عليه السلام- (5) فأرسله الله إلى قومه وهو ابن مائتين وخمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا بعد الدعوة أو مع ما مضى قبل الدعوة، وعاش ثلاثة قرون فيهم فلم يجبه إلا ثمانون شخصًا من رجل وامرأة، كان الرجل من الكفار يحمل ولده إلى نوح -عليه السلام- (5) فيريه إياه ويقول: يا بني لا يفتننك هذا الشيخ المجنون عن دينك ودين آبائك (¬7)، فلما ضاق ذرعًا دعا على قومه {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فاستجاب الله دعاءه وأمره بغرس الشجر شجر ¬

_ (¬1) المثبت من "ب" فقط وفي غيره (أمسك). (¬2) في "ب": (الرابع). (¬3) ذكر الطبري (1/ 103): (فولد مهلائيل يرد وهو اليارد) وقد جاءت المصادر مرة باسمه (اليارد) ومرة (اليرد). (¬4) (النبي) ليست في "ب". (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) وفي بعض المصادر (لامك). (¬7) ابن عساكر في تاريخه (62/ 243 - 245) من طريق إسحاق بن بشر وهو صاحب كتاب "المبتدأ" ذاهب الحديث كما وصف الذهبي.

الساج، فعلم نوح -عليه السلام- أن في الأمر مهلة فأمر بغرس الأشجار (¬1) عشر سنين وأدركت القطع بعد أربعين سنة (¬2)، ثم أمر الله بقطعها واتخاذ السفينة منها، وألهمه كيفيتها فعمل السفينة على خلقة البط وجعل لها رأسًا كرأس الديك وذنبًا كذنب الطاووس، وصيرها أربعة أطباق: طبقًا له ولأصحابه، وطبقًا للبهائم والوحوش، وطبقًا للسباع، وطبقًا كالسقف في بعض الروايات لئلا يصل المطر إليهم من نحو السماء، وقيرها داخلًا وخارجًا وسدّها بالمسامير، وفرغ من ذلك، فبينا امرأته وابنته تخبز (¬3) إذ فار التنور بالماء وفجرت الأرض عيونًا فبادَرَت إلى أبيها تخبره فنادى نوح في أصحابه فاجتمعوا إليه ودخلوا السفينة، وحشر الله إليهم حيوان الأرض فأخذ من كل جنس زوجين وامتنع الحمار عن الدخول فزجره نوح وقال: ادخل يا شيطان فدخل إبليس معه، فلما أبصره نوح -عليه السلام- قال: من أدخلك؟ قال: أنت وليس لك علي سلطان فإني من المنظرين، ودعا نوح ابنه يام (¬4) فلم يجبه {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43]. واختلف الناس في عوج بن عنق (¬5) قال بعضهم: لم تغمره الماء ولم تدركه دعوة نوح؛ لأنه لم يكن ديّارًا، أي صاحب دار، وقال بعضهم: شذّ عن عموم الدعوة واختصت الدعوة بالباقين، ويحتمل أنه كان من أصحاب السفينة ثم كفر بعد ذلك يهود وسائر الأنبياء، وقيل: إنه من ذرية آدم بن سام ولد بعد الطوفان فكانت أبواب السماء مفتحة {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] والأرض متفجرة بالماء أربعين يومًا. ¬

_ (¬1) في "ب": (الساج). (¬2) في كتب السير والتفاسير يذكر بعضها أنه زرعها مدة عشرين سنة والبعض أربعين سنة، ثم انتظره أربعين سنة. (¬3) المثبت من "ب"، وفي البقية (فبينا امرأته تخبز). (¬4) ويسميه بعض المؤرخين (كنعان). (¬5) قصة عوج بن عنق من حكايات بني إسرائيل وقد كذبها جمع من المفسرين والمؤرخين، وهم ذكروا أنّ عوجًا كان ظالمًا طاغيًا، فكيف يهلك ابن نوح ويبقى عوج، هذا ما ردّ به ابن كثير في قصص الأنبياء (86 - 87) ثم قال: (وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عنق إلا اختلاقًا من بعض زنادقتهم وفجّارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء) اهـ.

ثم قال: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] بعد سبعة وخمسين يومًا، وقيل: بعد مائة وخمسين يومًا، وقيل: بعد ستة أشهر، وقال وهب: وإنما استقرت لعشر خلون من رجب، وقيل: إنه خرج من السفينة لعشر خلون من المحرم، والجودي من جبال (¬1) الجزيرة فابتنى نوح -عليه السلام- (¬2) هناك (¬3) مذبحًا لله تعالى وقرب قربانًا وأثنى الله تعالى على قربانه ربح الراحة وبارك عليه وعلى بنيه. وابتنى نوح هناك قرية الثمانين قالوا: وغرس ما كان حمل في السفينة من الفواكه وافتقد الكرم وكان إبليس قد استرقه فردّه على شرط أن يكون ثلثاه له. وزعموا أن أصحاب السفينة لم يعقبوا إلا ثلاثة منهم سام وحام ويافث بنو نوح -عليه السلام- (¬4)، ومن الناس من أنكر هذا القول وقال: لو كان كذلك لقال الله تعالى في سورة بني إسرائيل ذرية نوحٍ ولما قال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] ويدل على هذا المعنى أيضًا قوله سبحانه وتعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] ويحتمل أن المراد بمن معه بنوه ونساؤهم دون غيرهم، وأرباب الملك كلهم في الأقاليم كلها ما خلا الهنود والمانوية، مقرون معترفون بالطوفان، ودلّتهم الدلائل النجومية على كونه أيضًا قبل إسكندر بألفي سنة وسبعمائة واثنين وتسعين سنة، وقالت النصارى: قبل إسكندر بألفي سنة وتسعمائة وستة وخمسين سنة، وقالت اليهود: قبل إسكندر بألف سنة وسبعمائة واثنتين وتسعين سنة، فتاريخ النصارى أقرب إلى القبول وهو يتقدم على تاريخ المنجمة بمائة وأربع وستين، وكذلك على تاريخ مولد باسديو الهند بتقدم على تاريخ الهند بألف كاملة ومائتي سنة، وإنما اخترنا تاريخ النصارى لأنهم أعرف بإسكندر، ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (الجبال). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (هناك) ليست في "ب". (¬4) (السلام) ليست في "ي".

وأضبط للحساب على مذهب اليونانية وعهدهم بالوحي السماوي أقرب من اليهود، وكتابهم أقل تحريفًا وتبديلًا؛ ولأن الطوفان ينبغي أن يكون متقدمًا على مولد باسديو الهند لا محالة فإن الهند تهندت وتبلبلت الألسن والله أعلم بالحقيقة. قالوا: وعاش نوح -عليه السلام- (¬1) بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ثم استخلفَ سام على ولده وتوفاه الله تعالى إلى (¬2) رضوانه. وندب سام أصحاب السفينة إلى حمل تابوت آدم (¬3) -عليه السلام- (¬4) إلى الأرض المقدسة بعد ما كثر الناس، وعاد إلى الأرض بهجتها وأُنسها، فانتدب الخضر -عليه السلام- وحمله إلى بيت المقدس ودفنهُ هناك، فهو حي إلى اليوم، وهو صاحب موسى عليهما (¬5) السلام، وهو من أولاد قابيل زعموا، وقيل: الخضر صاحب موسى بلبا (¬6) بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام، وقيل: هو من ذرية قوم آمنوا بإبراهيم -عليه السلام- (4)، وهاجروا معه إلى الشام، والله أعلم بالحقيقة. قالوا: وولي الأمر سام بعد أبيه مائتي سنة كان يشتو بأرض جرعة (¬7) ويصيف بالموصل، وقيل ممره على شط دجلة من الجانب الشرقي فسمي بسامراه وهو يدعى اليوم سَامِره وسرّ من رآه، ثم توفي سام واستخلف على ولده وسائر الناس ابنه أرفخشد، قيل: وهو الذي يسميه العجم إيران، فعمر أرض العراق عمارة تامة واختصها لنفسه وبقي ثلاثمائة سنة ثم توفي ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (إلى) ليست في الأصل "أ". (¬3) (آدم) ليست في "أ". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب": (عليه). (¬6) في الأصل و"ي": (بيا). (¬7) هو موضع قرب الكوفة فيه سهول ورمل، وإليه يضاف يوم الجرعة المذكور في كتاب مسلم، وهو يوم خرج فيه أهل الكوفة إلى سعيد بن العاص [معجم البلدان (2/ 127)].

واستخلف ابنه شالخ (¬1)، فولي شالخ الإمرة بحسن السيرة والعدل مائتي سنة، ثم توفي واستخلف ابن أخيه جم بن نوجهان بن أرفخشد، قالوا: وفي أيامه تبلبلت الألسن، هذه (¬2) قصة نوحٍ بفاتحتها وخاتمتها على الإجمال والإيجاز، وقيل: إن الطوفان كان مختصًا بأرض العراق والجزيرة والحجاز، والمراد بالأرض في قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26] هذه البلاد دون غيرها من البلدان (¬3). {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} أي لم يعرض في هذا المعنى كما يقال ما بي داء، وما بي آفة، ونصحته ونصحت له (¬4)، بمعنى أعلم من الله من أمرهِ وحكمهِ. {أَوَعَجِبْتُمْ} ألف استفهام دخلت على واو العطف، والتقدير: أكفرتم وعجبتم، والعجب استبعاد وجه جواز الشيء وإمكانه على سبيل اعتبار العادة، وإنما توجه عليهم الإنكار لمعنيين: يخطيء آدم وشيت وإدريس -عليهم السلام- من قبل، ولأن إجراء العادة على سننها غير واجب على الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) في كل النسخ (سالح) والمثبت من "أ". (¬2) في "ب": (قالوا: هذه) وفي الأصل "أ": (الألسن قصة). (¬3) ظاهر الآية أن نوحًا طلب إهلاك من على الأرض جميعًا، وليس من عادة الأنبياء أن يدعوا على قومهم بالهلاك بل يصبروا عليهم، والجواب على ذلك هو أن نوحًا لم يدع على قومه إلا بعد أن تحدوه وشى منهم. أما تحديهم له ففي قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32]، وقوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 9، 10]. وأما يأسه منهم ففي قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وأما الذرية فقال الله عنهم: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] وليس بعد صبر الألف سنة إلا خمسين عامًا من صبر، بعد كل ذلك توجه إلى الله بالدعاء عليهم. وأما قول الله تعالى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] عندما دعا على قومه فهذا في علم الله أنه سيؤمن من قومه ممن دعا عليهم من المشركين ولذا آمن وأسلم من كفار قريش وبعض أعيانهم عدد ليس بالقليل. (¬4) في الأصل "أ": (آية).

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا} إن كان عوج من المكذبين فهذا عموم بمعنى الخصوص وإلا فهو عام (¬1) و"عم" على وزن فعل من عمي يعمى نقول هو (¬2) عمٍ وهما عميان وهم عمون. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ذكر جماعة من أهل العلم بأن (¬3) الأنساب والتواريخ أن جم بن نوجهان علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا فتنافرت القلوب وتبلبلت الألسن فخرج أولاد يافث إلى مهب الصبا والشمال وتفرقوا في تلك الديار وملكهم وزعموا فراسياب لن ياسر بن بوذاب بن الترك بن يافث حتى استولى عليه وعليهم غانم بن غلوان أخو (¬4) الضحاك بن علوان بن عمليق بن عاد (¬5) بأمر عمهما شديد بن عمليق بن عاد. ولما زال سلطان عاد عن ديار المشرق قام بملك أولاد يافث زعموا فراسياب بن ياسر بن بوذاب بن الترك بن يافث فكرَّ بجنوده إلى العراق واستولى عليها سنتين، وقيل منوشهر بن كنعان بن نمرود وكنعان هو المسمى أبزج ونمرود هو المسمى فريدون، وامتد ملك فراسياب على العراق إلى أن خرج عليه تراب بن بوذ كاب بن منوشهر مفترضًا أيام الشتاء وتفرق عسكره من أولاد يافث خلف أموالهم المواشي فانحاز فراسياب من العراق إلى ديار الهياطلة ثم التقت الفتيان بعد ذلك في أرض خراسان وأصاب فراسياب منهم غريب فلم يحظ فؤاده وانصرف أولاد يافث إلى ديارهم ومات تراب فجأة بعد ذلك بشهر. وأما أولاد حام إذ تبلبلت الألسن فقد خرجوا إلى مهب الديور والجنوب فتفرقوا في تلك الديار واستولى (¬6) على المغاربة منهم الوليد بن ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (علم). (¬2) في الأصل و"أ": (هما). (¬3) (بأن) ليست في "ب". (¬4) في الأصل و"أ": (ابن). (¬5) في الأصل و"أ": (بن عاد بن). (¬6) في الأصل و"أ": (ويستوى).

الريان بن عاد بأمر ابن عمه شديد بن عمليق بن عاد، واستولى على المشارق منهم غانم بن علوان الذي كان قد استولى على أولاد يافث وقيل كان فور ملك الهند الذي قتله إسكندر من ذريته. وخرج من بابل من ولاية جم أولاد آدم بن سام بعد خروج أولاد يافث وحام ومر سبعة إخوة عاد وثمود وصنجار وطسم وجديس وجاسم ووبار فكان عاد يمشي أمام ذريته (برغر) (¬1) فسار حتى نزل بأرض اليمن وثمود يمشي أمام قومه (برغر) (1) فسار حتى نزل بالبحر بين الحجاز والشام، وكان طسم يمشي أمام قومه (برغر) (1) فسار حتى نزل ببلاد عمان والبحرين، ونزل جديس بأرض اليمامة ووجه بعض ولده إلى هجر (¬2) ونزل صنجار بتهامة والحجاز ونزل جاسم مع صنجار وتفرق ولده (¬3) فيما بين الحرم إلى سفوان، وسار وبار إلى ما وراء رمل عالج فنزل هناك ومسخت أولاده فهؤلاء (¬4) العمالقة كلهم يسمون الجبابرة العادية ينسبون إلى العم الأكبر. ولما خرج هؤلاء (¬5) تحركت قلوب الباقين فخرج من بابل في يوم بابل (¬6) في يوم واحد خراسان بن عسادة بن سام وفارس بن الأسور بن سام بن نوح والروم بن اليفر بن سام ورامين بن نارح بن سام وهيكل بن عالم بن سام وساروا إلى أن نزلوا ديارهم، فلما مات عاد باليمن استخلف عمليقًا ثم مات عمليق وقام بالأمر سديد بن عمليق، فحشد (¬7) الجنود وملك الملوك وأرسل ابني أخيه ضحاكًا وغانمًا ابني علوان بن عمليق إلى بني سام ويافث كل واحد في عشرة آلاف من الجبابرة فقتل الضحاك جم ¬

_ (¬1) في كل النسخ بياض والمثبت من "أ". (¬2) في "أ" والأصل: (أصحابه ولك إلى يعجز). (¬3) في النسخ (ولك) والمثبت من "ب". (¬4) في الأصل و"أ": (فماوه). (¬5) (هؤلاء) ليست في "ب". (¬6) (في يوم بابل) ليست في "أ". (¬7) في "ب" "ي": (فجند).

الملك وأخذ شيئًا من بطنه واسترطه وأرسل شديد ابن عمه الوليد بن الريان بن عاد إلى بني حام على ما سبق وقعد هو على سرير الملك باليمن فكان ملك الملوك. ولما مات هو خلفه شداد بن شديد من تحت يد هؤلاء الملوك الثلاثة فقهروا العباد وخربوا البلاد وامتد سلطانهم ألف سنة يجبى خراج الأرض كله إلى شداد باليمن وأمر شداد مائة قهرمان تحت يد كل واحد منهم ألف من الأعوان ليبنوا له جنة في بعض أقضية اليمن إلى الشام أطيبها طيبة ونسيمًا، فبنوا مدينة عظيمة من الذهب مفصصة بالدر والياقوت وبنى عرف أساطينها المها والجزع والفيروزج وأجرى فيها من المياه العذبة وجعل الأنهار مطلية بالذهب والفضة وجعل نزالها المسك (¬1) والجاري وصاغ من الذهب استبحارًا على حافات الأنهار، وعلق في أغصانها المنصوص كأنها مثمرة بها، قيل: من حين ابتدى له النبأ إلى ثمانمئة وخمسمائة سنة فبعث الله إليه هود بن خالد بن الخلود بن عيص بن عمليق ابن عاد يدعوه إلى العبادة والتوحيد فاستكبر عن الإيمان وخرج من حضرموت متوجهًا إلى جنة لينزلها في ثلاثين ألف رجل (¬2) من أهل بيته وعشيرته الأقربين واثني عشر ألف رجل من العبد والخيول، فلما بقي بينه وبين جنته مسيرة يوم أرسل الله عليه وعلى من معه وعلى قهارمته وأعوانه لهذه الجنة صيحة من السماء فخروا جميعًا هامدين، وغيب تلك الجنة عن أعين الناس حتى دخلها عبد الله ابن قلابة في زمن معاوية كان قد خرج مع أصحابه في طلب الإبل وضل الطريق وانفرد عن أصحابه في بعض الأقضية فإذا هو بتلك المدينة فدخلها وأخذ فيها حاجته (¬3) وخرج متوجهًا إلى معاوية ليخبره فأخفاه معاوية واستحضر كعبًا وسأله عن حال مدينة (¬4) على وجه الأرض من صفتها (¬5) كذا وكذا، فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (المبك). (¬2) من (والتوحيد) إلى قوله (ألف رجل) ليس في "ب". (¬3) في الأصل و"أ": (حاجة). (¬4) في الأصل و"أ": (المدينة). (¬5) في الأصل و"أ": (من صفته).

جنة شداد وسيدخلها رجل من العرب صفته كذا وكذا، فالتفت فإذا هو بعبد الله بن قلابة فقال: هو هذا فدخلها أو سيدخلها، فعجب معاوية من ذلك ووجه مع الرجل سرية ليدلهم على تلك المدينة فلم يهتدوا وحيل (¬1) بينهم وبينها (¬2). وكان من قصة الضحاك في العراق أن سام الناس سوء العذاب وأراد منهم الكفر والشرك فهرب منه لام بن عابر (¬3) أخو قحطان حتى انتهوا إلى باب المعادن بأرض الروم فاستوطنه وبنى قبّة من رصاص وجعل فيه قبر نفسه وأوصى بنيه أن يدفنوه وسدوا الباب بالرصاص، ففعلوالأولما أهلك الله شداد بن شديد حُبس المطر وقحط الناس في الشرق والغرب وتضعضع أمر الجبابرة العادية وخرج أولاد يافث على غانم بن علوان وخرج أولاد أرفخشد على الضحاك بن علوان وزال سلطان عاد عن أقطار الأرض فلم يبقوا ظاهرين إلا في ديار اليمن على جهد وضرّ لهلاك مواشيهم وزروعهم ومع ذلك هم متحيزون مستكبرون عن الإيمان بهود -عليه السلام- (¬4) إلا أنهم يعظمون الحرم، فوفدوا (¬5) إلى الحرم وفودًا للاستشفاء أحدهم مريد بن سعد بن عفير والثاني قيل ابن عمر وقيل ابن عمرو والثالث لقمان بن هزال وقيل لقمان بن عاد والرابع لقيم بن هزال والخامس جلهمة بن فلان، فمروا على معاوية بن بكر وهو من عاد أيضًا كان قد التجأ إلى الحرم واعتزل قومه فأضافهم شهرًا ثم خرجوا إلى بيت الله، فأما مريد بن سعد كان مؤمنًا يكتم إيمانه فشكا قومه ودعا عليهم بالهلاك، وأما لقمان فخص دعوته وخلا بعض الشعاب ¬

_ (¬1) المثبت من "ي" وفي البقية (وأحيل). (¬2) قصة عبد الله بن قلابة ذكرها ابن كثير في تفسيره (4/ 651) عن الثعلبي ثم قال: فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، وقال: هي مختلقة. وحكم الحافظ ابن حجر على هذا الخبر بالوضع. (¬3) في "ب": (عامر). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل و"أ": (فودوا).

ووقف سائر الوفود قبالة موضع البيت فبدت لهم ثلاث سحائب (¬1) بيضاء وحمراء وسوداء ونودوا تخيروا واحدة منهن واختاروا السوداء فسيقت نحو اليمن فلما رآها القوم تباشروا بالغيث فخرج منها ريح صرصر، فلما أحسوا بالريح تنادوا وصاحوا وكان لهم رئيس يسمى خلجان فذهب مع سبعين رجلًا من أشراف قومه مستقبل الريح وهبت عليهم مثل شرار النار (¬2) فكانت (¬3) تصيب هودًا والذين معه بردًا وسلامًا والريح تقلع الصخور العظام من رؤوس الجبال فتطير بها في الهواء ثم ترضخهم بها فتذوب أجسادهم وعظامهم. وكان ابتداء الريح يوم الأربعاء فلم يبق إلى الأربعاء (¬4) الآخر غير الخلّجان فأقبل إليه هود -عليه السلام- أخذ بعضادتي الفج ورأسه مع قلة الحبل وقال: أيها الغاثي المتمرد والجبار ارجع عن غيّك فإنما هو يومك، قال: فهل ربك محيي أصحابي إن آمنت؟ قال: لا يحييهم ولكن يبارك في الباقين، قال: أفيقيدني؟ قال: إن الله لا يقيد أهل معصيته من أهل طاعته، قال الخلجان: فلنا أسوة بمن هلك ولا أحب أن أظهر استكانة لربك. وعن ابن سلام أن الرمل بالأحقاف كانت صخورًا فصارت بتلك الريح رملأوتلا قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 42] قال ابن عباس: أرسل الله عليهم من الريح مقدار خاتم ولو أرسل أكثر لأهلك الأرض كلها (¬5)، والريح ريح دبور وخلت ديار اليمن عن الأهل إلى أن سيّر نمرود إليها قحطان بن عابر أخا لام وفالغ ابنا عابر ¬

_ (¬1) المثبت من الأصل، وفي البقية (صحائب) بالصاد. (¬2) في "أ": (الناس). (¬3) في "ي" "أ": (وكانت) بالواو. (¬4) في "ب": (الأربع). (¬5) ورد مرفوعًا من حديث رواه الإمام الترمذي (3273، 3274)، والنسائي في الكبرى (8607)، وابن ماجه (2816)، وأحمد (25/ 304 - 306) وسنده صحيح.

فتزوج امرأة من العماليق فولدت له يعرب وجرهم وغيرهما، فعاد أخوال ولد قحطان أخوال ولد إسماعيل -عليه السلام- (¬1)، وتحول هود -عليه السلام- (1) إلى حضرموت بعد هلاك قومه ثم هاجر إلى مكة وتوفي فيها -عليه السلام- (1) بالأحقاف من شجر قبر يقال هو قبر هود -عليه السلام- (1). وبقي في الأرض من عاد بقايا إلى أن حاربهم يوشع بن نون بالشام وخيرهم في الحزم وكان فرعون منهم من أولاد الوليد بن الريان. {نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي أهل لأن تأمنوني ولا تتهموني، وقيل: أمين عند الله في دينه، وقيل: أمين عندكم قبل الدعوة. (الآلاء) النعماء واحدها إلى وإلى (¬2). وقوله {قَالُوا أَجِئْتَنَا} يدل على أن الدعوة (¬3) كانت مؤخرة إلى أن مات الآباء على الكفر وانتساب الذرية عليه. {قَدْ وَقَعَ} وجب {أَسْمَاءٍ} مسميات التي لحقوها ونصبوها آلهة وأربابًا من عند أنفسهم، وفي الآية دلالة أن الاسم الحقيقي ذو معنى وإلا لما تبرأ الله تعالى من تسميتها بالأسماء والأعلام والحروف المصطلحة الجارية مجرى الألقاب. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} عن ابن عباس (¬4): أن يهلك ثمود، كان في ملك نمرود بن كنعان بن جم بعد ما ظهر إبراهيم وذلك بعد مهلك عاد بعد خمسمائة (¬5) عام، وقصتهم فيما يروى أنهم حذوا حذو عاد في التمرد ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ب". (¬2) الآلاء النِّعَم واحدتها إِليٌ، وأَلْيٌ وأَلْو، وأَلىّ وإِلىّ، وفي الحديث: "مجامرهم الألوَّة ... "، ومنه قول النابغة: هم الملوك وأبناءُ الملوكِ لهم ... فَضْلٌ على الناس في الآلاءِ والنِّعَمِ [تهذيب اللغة (15/ 430)]. (¬3) من قوله (الآلاء) إلى قوله (الدعوة) ليست في "ب". (¬4) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 445) لابن المنذر. (¬5) في الأصل "أ": (حماية).

والطغيان والإشراك بالله فبعث الله تعالى إليهم صالحًا وهو ابن أربعين سنة فكان يدعوهم إلى دين الله يقف عليهم في مجالسهم (¬1) ويهجم عليهم في أعيادهم ويذكرهم آلاء الله ونعماءه إلى أن شمط فلم يقبلوا منه وشكوه إلى رئيس عشيرته ليسلم لهم اغتياله أو يهاجره وينابذه ويكون معهم في معاداته فلم يفعل، وأنهم خرجوا ذات يوم إلى (¬2) عيد لهم على سفح جبل لهم قالوا لصالح -عليه السلام- (¬3): إن أحببت (¬4) أن نؤمن بك فأخرج لنا من هذه الصخرة الصماء (¬5) ناقة كرماء ذات عرف وناصية، فاستحيا صالح أن يسأل الله تعالى ما يتمنونه حتى أجابه عزمة من الله تعالى وأذن له في السؤال فسأل واستجيب له وتزجرت الصخرة كما تزجر الناقة وتمخضت كما تمخض وخرجت (¬6) منها ناقة من أحسن ما يكون أملاها النفس فأقبلت نحوهم حتى إذا أذنت منهم بركت ووضعت سقبًا مثلها ثم نهضت إلى الراعي وتبعها سقبها. فلما رأوا ذلك آمنوا بصالح -عليه السلام- يومهم وفي اليوم الثاني أصبحوا كافرين لما عظم عليهم من ترك عادتهم، وقالوا: لا نترك آلهتنا لهذه الناقة، فقال لهم صالح -عليه السلام-: أما إذ نكصتم على أعقابكم فإياكم أن تمسوها بسوء فيأخذكم بعذاب أليم، وقسّم الشرب بينهما قالوا: لك يا صالح ذلك علينا، ومكثت الناقة ما شاء الله تستوعب الماء يوم شربها ثم ترجع وضرعها يسيل لبنًا وهم يستقبلونها بالمحالب والأواني فيأخذون حاجتهم من لبنها إلى أن تعشق عذار ومصرع صدوق وعنيزة (¬7) فأتياهما ذات يوم فقدمتا إليهما طعامًا ¬

_ (¬1) في "ب": (منازلهم). (¬2) في "ب": (على). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في الأصل و"أ": (أحييت). (¬5) في "ب": (الصحراء). (¬6) في "ب" وخرج. (¬7) ذكر الحافظ ابن كثير أن امرأين من ثمود اسم إحداهما صدوق ابنة المحيا كانت ذات حسب ومال دعت ابن عم لها يقال له: مصرع وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، واسم الأخرى عنيزة بنت غنيم عرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة له أي بناتها شاء، فانتدب هذان الشابان لعقرها [البداية والنهاية (1/ 135)].

كثيرًا وخمرًا عتيقًا فطلبتا الماء ليمزجا الخمر به فأتتاهما بلبن الناقة وقالتا: لا ماء لنا اليوم فإنه لشرب الناقة، قالا: فما لنا إن عقرناها لتسبغ لكم الشرب، قالتا: أنفسنا فتسطا (¬1) لذلك فسوَّل لهما الشيطان والنفس ذلك وشربا من ذلك الخمر حتى سكرا فخرجا إلى الناقة واتبعهما سبعة من السفهاء فاستقبلوها وهي تصدر عن الماء، فبدا أقدار وضرب عرقوبها بسيف وثنى مصرع فضرب عرقوبها الآخر ثم لم يزالوا يرمونها حتى وجبت وصاحت برغاءٍ شديد نحو سقبها فرجع السقب إلى صخرة مرتفعة ورغى إلى السماء فأقبلوا نحوه يرمونه بسهم حتى سقط، وتسامعت ثمود لذلك فخرج منهم قيام بأيديهم السكاكين واقتسموا لحومهما. وبلغ ذلك صالح -عليه السلام- فأقبل نحوها باكيًا حزينًا حيران يقول: يا قوم عقرتم عن (¬2) ناقة الله التي أخرجها لكم آية وحجة عليكم فتوقعوا العذاب فقد أضلكم، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: تتلون وجوهكم ثلاثة أيام أظنها (¬3) يومًا دبار وهو الأربعاء ويوم مونس وهو الخميس والعروبة وهي الجمعة ثم يُصبحكم العذاب يوم شياد وهو السبت، فكان كما قال. وهاجر صالح إلى مكة وقبره بها في المسجد الحرام بين زمزم والمقام على ما يروى، ولم ينزل ديار ثمود أحد إلى اليوم فهي موحشة وبئرها معطلة وفي بيوتهم المنقورة في الجبال عظام كعظام الفيلة والجمال إذا أرادت العرب أن تجتاز تلك الديار رفعت الزاد والماء وسدت أفواه الإبل لئلا ترتعي من حشيش ذلك الوادي. {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} "ذه" إشارة إلى المؤنث وهي في الأصل ذي، فأبدلت الياء هاء ثم زيدت بالإشباع الهاء عند الحركة، (الناقة) الأنثى من الإبل. {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} وكانت قد استولت على الناس كلهم فلما ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (المشا). (¬2) (عن) ليست في "ي" "ب". (¬3) في الأصل و "أ": (ظنها).

درجوا انفردت ثمود في تلك النواحي بالعدد والشوكة، و (السهل) ضد الحزن من الأرض و (القصر) كالحصن النحت أخذ وجه الحجر والخشبة ونحوهما، وهذا تنبيه على تسوية سقوفها وجدرانها إن شاء الله أو لأنها كانت على وجه الأرض كالبيوت المبنيّة ولم تكن الأرض كالأخاديد. (عقروا) قتلوا البعير {وَعَتَوْا} تردوا وطغوا. {الرَّجْفَةُ} الحركة الشديدة وهي الزلزلة في أرضهم والرعدة في أبدانهم عند الصيحة، و (الجثوم) للناس والطير كالبروك للبعير والربوض للغنم. {لَا تُحِبُّونَ} خطاب لجنس الكفرة ماضيهم وتاليهم أخبر عن عاداتهم. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أ} وأرسلنا لوطًا لأن هذه الأقاصيص كلها منسوقة (¬1) على قوله {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} وقوم لوط -عليه السلام- هم سدوم وأدوما وعمورا وصعودا وصابورا يرجعون في النسب إلى بعض أولاد حام أو من وقع في تلك الديار من العمالقة إن شاء الله، وهم أجهل خلق الله وأخبث الناس كانوا كالأنعام بل هم أضل ولهم أحكام وسير عجيبة لا تطرد على قضية وحي إلهي ولا عقل منطقي ولا دعاء صالح ولا شهوة (¬2) طبيعية، منها ما زعموا أن غريبًا دخل مدينتهم فرماه أحدهم ببندقة فشجه ثم تعلق يطالبه بدرهم، قال الغريب: رميتني فشججتني ثم تطالبني بدرهم؟ قال: نعم، هذا حكم الملك، وشهد له رجال منهم فقال الغريب: حتى أرى الملك فجره إليه فاحتال الغريب ليحصل ثلاث بنادق قبل أن أدخل على الملك، فلما أدخل عليه رماه بهن وشجه فلم يجد بدًا من أن يعطيه ثلاثة دراهم إمضاء لحكمه، فأخذ الغريب الدراهم الثلاث (¬3) ودفع منها واحدًا إلى خصمه، وأضمر الملك له حقدًا وحاول عليه سبيلًا ليقتله فاستضافه (¬4) على أجناس اللحمان، فلما جلس الغريب على المائدة وبدأ بالسمك ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (منصوقة). (¬2) في الأصل و"أ": (شهوى). (¬3) في "ب" "ي": (الثلاثة). (¬4) في الأصل و"أ": (فستضافه).

فارتفعت الأصوات بوجوب القتل عليه وأن له قبل القتل حاجة مقضية، فقال الغريب: حاجتي أيها الملك أن تنادي في البلدان: من شهد على غريب يأكل السمك كانت عقوبته كذا وكذا، فنودي بذلك. ثم عقد الملك مجلس القضاء واستحضر هذا الرجل ليقتله واستشهد الناس عليه فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله (¬1). ومن خصالهم المذمومة الملاعبة والمراودة برمي البنادق والتضارط في الأندية وإبداء السوأة والتفل بالبزاق في الوجوه واللواطة، وسبب ذلك أنهم كانوا أبخل الناس على ثمارهم وكانت ثمارهم كثيرة وقحط ما حولهم من البلدان. فكانت الغرباء يأتون ديارهم ويصيبون من ثمارهم وذلك يشق عليهم فيستقبلونهم بالشتم والضرب والمحتاجون لا ينزجرون، فتصور إبليس لشقي منهم في صورة صبي وضيء مشتهى وتسور حائط بستانه ليأخذ شيئًا من ثمارهم (¬2) فقصده ليضربه فعرض عليه إبليس (¬3) نفسه ووسوس إليه حتى أوقعه، ثم دلّ الملعون أصحابه عليه واستفاض الفاحشة فيهم وتعودوا ذلك (¬4). {مَا سَبَقَكُمْ} ذلك يدلّ أنها لم تكن قبلهم و (قبل) يدل على مبالغتهم فيها ولا يدل على ابتداعهم إياها (¬5) ولم يبين الله فيها أحدًا {مِنْ أَحَدٍ مِنَ} للتفسير والتأكيد النفي (¬6) {مِنَ الْعَالَمِينَ} لتبيين الجنس وإنما لم يقل من الناس لتعظيم الأمر باللفظ الأعم. ¬

_ (¬1) قريبًا منه عن ابن عساكر (50/ 312، 313) من طريق إسحاق بن بشر وهو ضعيف لا يعتد به. (¬2) في "ب" "ي": (ثماره). (¬3) (إبليس) ليست في "ب". (¬4) قريبًا منه عن ابن عساكر (50/ 313) من طريق إسحاق بن بشر. (¬5) في "ب": (ابتداعهم فيها). (¬6) "مِنْ" الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض. [الدر المصون (5/ 371)].

{لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} يدل على تعليق الحكم بالجنس فإنه لا تفيد في هذا الموضع إباحة ولا رخصة ولا شبه والشهوة داعية النفس وأراد لما فيها من اللذة {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أي من دون أن تأتوا النساء، أراد صرف الشهوة عن وجهها والاقتصار عليها {بَلْ أَنْتُمْ} استفهام (¬1) إنكم ما صرفتم شهوتكم إلى الرجال دون النساء على سبيل الإلجاء والاضطرار بل أنتم محرفون فيه باختياركم وقدرتكم وقيل: جواب كلامهم نحن نريد بذلك حفظ الأموال وحفظ العيال فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} في هذه الفعلة وفي سائر الخصال. {أَخْرِجُوهُمْ} لوطًا وابنته زعورا وربثا وقيل: زبّة وعروبة، وقيل: لوط وابنته والملائكة المرسلين، وقيل: كانوا ثلاثة عشر نفسًا مع لوط وابنته والرابع عشر امرأته ولذلك قالوا لإبراهيم لا تهلك قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا يتطهرون يتجنبون عن القاذورات، وكان ذلك عيبًا عندهم كالختان عند الهنود (¬2) والاستنجاء عند المشركين والاتزار في الحمام عند أصحاب داود الأصفهاني. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} وروي أن الملائكة لما نزلوا جاء على هيئة الضيفان فمضت امرأته إلى قومها تخبرهم بحاجتها إلى الطعام فتسارعوا إليه، وفزع لوط -عليه السلام- فبشره جبريل بأنهم مرسلون لإهلاكهم، فقال مستعجلًا: وما يمنعكم إذا قالوا {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] وأخرج جبريل -عليه السلام- ريشة من جناحيه فاختطف أبصارهم فرجعوا عميًا يقولون: جاءنا لوط بسحره، ولما حسن عليهم الليل مشى لوط -عليه السلام- إلى رجل منهم كان يذب عنه ويحسن جواره فنذره بالهلاك ودعاه ليخرج معه فلم يلتفت إلى قوله وأصرّ ¬

_ (¬1) الذي يظهر أن "بل" هنا للإضراب الانتقالي وهو الانتقال من قصة إلى قصة، وقيل: الإضراب عن شيء محذوف قدره أبو البقاء العكبري - ما عدلتم بل أنتم - وقال الكرماني: "بل" رد لجواب زعموا أن يكون لهم عذرًا والتقدير: لا عذر لكم بل [الإملاء (1/ 279)]. (¬2) في الأصل و"أ": (اليهود) وهو خطأ فإن اليهود يختنون.

على كفره. وخرج (¬1) لوط وقت الصبح مع أهله وخرجت معه امرأته، فلما سمعت الهزة التفتت فمسخها الله حجرًا {مِنَ الْغَابِرِينَ} من الباقين في العذاب، وهاجر لوط إلى حضرة إبراهيم -عليه السلام- (¬2) فآواه وشاطره بماله ولم يزل معه إلى أن توفاه الله تعالى. {وَأَمْطَرْنَا} أراد الرجم بالحجارة من سجيل، قيل: أن اقتلع جبريل تلك القريات، وقيل: بعد ما اقتلعها وقلبها وجعل عاليها سافلها وكأن تلك الحجارة كانت من تربة تلك الأرض نصحت في الهواء حرارة الشمس أو بما شاء الله، وكان جبريل -عليه السلام- (2) رفعهما فيما يروى إلى غاية سمعت ملائكة السماء نبح كلابهم وصياح ديكهم من غير أن ينصب (¬3) لهم كوز (¬4) أو تزلزل بهم مكان ثم قلبها من ثم وتبعتهم (¬5) الحجارة إلى أن (¬6) رسخوا في الأرض واستولت على تلك الناحية عيون فتنة من ماء أسود، وكل من كان منهم في سفر (¬7) أصابه حجر (¬8) فقتله {فَانْظُرْ} أي تفكر واعتبر (المجرم) الذي يأتي الجريمة وهي الجريرة والجناية. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} قيل: اسم شعيب بالعربية يثرون وبالعبرية شعيب، وهو ابن شمعون بن عيف ابن ثابت بن إبراهيم (¬9) وأمّه من أولاد لوط، وقيل: هو ابن ميكيل وأم ميليك ابنة لوط، وقيل (¬10): إن مدين بن ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (فخرج). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب": (أنصب). (¬4) في الأصل و"ب" "أ": (عوذًا) بالذال. (¬5) في الأصل "أ": (وتبعهم). (¬6) في الأصل "أ": (إذ). (¬7) في الأصل "أ": (بأسفر). (¬8) في الأصل "أ": (سخر). (¬9) في كل المصادر (مدين بن إبراهيم) بعد (ثابت) أو (ثابت) أو (نويب). ولم أجد اسم (شمعون) في نسب شعيب في المصادر. (¬10) قاله الطبري في تفسيره (10/ 310)، وفي تاريخه (1/ 309).

إبراهيم -عليه السلام- (¬1) كان قد تزوج [وبنا بنت لوط وهو وذريته من ذرية لوط وعن محمد بن إسحاق أنه شعيب بن] (¬2) يثرون والله أعلم أرسله الله إلى مدين وهم بنو مديان بن إبراهيم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقيل: التقدير إلى أهل مدين فإن مدين اسم البلدة (¬3) مشتق اسمها من اسم مديان كما سميت (¬4) مصر مصرًا باسم مصر بن قيط بن كنعان بن حام، قيل: أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة سمى الله تعالى بلدهم أيكة لالتفاف شجرها وإحداق الغياض بها، يدل عليه دعوته القوم في الموضعين جميعًا إلى إيفاء الكيل والوزن. وقيل: أصحاب مدين غير أصحاب الأيكة لكن كانت إحدى البلدتين قريبة من الأخرى وكان قد تواطأ أهلها على بخس الكيل والوزن، ألا ترى وصف الله تعالى بأخوة أصحاب مدين لأنه كان من قبيلتهم ولم يصفه بأخوة أصحاب الأيكة لأنه لم يكن من قبيلتهم. وقال القتبي: إن شعيبًا لم يكن من ولد إبراهيم -عليه السلام-، ولكنه من نسل رهط آمنوا بإبراهيم وهاجروا معه إلى الشام والله أعلم، وأجمعوا أنه كان عربيًا ولم يذكروا إلى من يرجع، وكان مكفوفًا وكان أفصح الناس في زمانه وأبينهم لما يريد، وكان النبي -عليه السلام- يسمي شعيبًا -عليه السلام- خطيب الأنبياء. {جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} أي ما ثبت في العقول من دلائل التوحيد وحسن الاتصاف وقبح الخيانة أو ما وصَل إليهم من سبيل التواتر من أخبار عاد ونمرود والمؤتفكات أو ما أكرم الله به شعيبًا من الفصاحة المعجزة والأخبار من المشاهدات مع كونه أعمى، والعصا التي كانت ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل و"أ". (¬3) قاله الفراء وأنشد: رهبانُ مدينَ والذين عهدتهم ... يبكون من حذرِ العذابِ قعودا لو يسمعون كما سمعتُ كلامها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا ولا بد من حذف المضاف كما قال المؤلف، والتقدير: وإلى أهل مدين، ولذا أعاد الضمير في قوله "أخاهم" على الأهل. (¬4) (سميت) ليست في الأصل "أ".

لموسى -عليه السلام- (¬1) وكان شعيب قد أعطاها إياه أو شيء لم يبلغنا خبره {الْكَيْلَ} تقدير الشيء بالظروف {وَالْمِيزَانَ} ما يقدر به ثقلًا أشياءهم وأموالهم وحقوقهم {خَيْرٌ لَكُمْ} من الخيانة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إنصافكم الناس خير لكم بعد أن تؤمنوا، ويحتمل أنهم يدعون الإيمان ببعض الأنبياء كادعاء أهل الكتاب. وكانوا يعترضون لمن قصد شعيبًا -عليه السلام- ويخوفونه بالقتل والأذى إن آمن به فنهاهم عن ذلك وقال {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} الآية، وعن السدي أنهم كانوا يقطعون الطريق (¬2) {وَتَصُدُّونَ} معطوف على {تُوعِدُونَ} {فَكَثَّرَكُمْ} بالعدد، وتعليق الصبر بإيمان البعض دون البعض يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أنكم إن اختلفتم في أمري فانتظروا حكم الله ولا يحملنكم ذلك على الاقتتال. والثاني: أن المؤمنين لما استضعفوا ورأوا بسطة الكفار كادوا يرتدون على أدبارهم فقال (¬3) إن كنتم آمنتم وكفر غيركم فاشطروا حكم الله في العاجلة. والثالث: أن المؤمنين منهم شكوا إليه فعزّاهم وأمرهم بالصبر إلى أن يأتي الفرج من عند الله. وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} و {خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] و {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] و {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] كله على سبيل المجاز واعتبار التسمية واللفظ دون المعنى تعالى الله أن يجانس شيئًا (¬4) من خلقه علوًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 314)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8716). (¬3) في "ب": (وقال). (¬4) (شيئًا) ليست في "ب".

{لَتَعُودُنَّ} يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أن شعيبًا وقومه كانوا على ملة واحدة من الإيمان والتوحيد، فلما أبدعوا بدعًا نبأ الله شعيبًا وأحدث له ما شاء من أمره، وأمره بدعوة قومه كما أمر عيسى بدعوة اليهود، فلذلك دعوا شعيبًا إلى العود. والثاني: أن ملتهم كانت كفرًا ولم يكن شعيب في ملتهم قط ولكن أدخلوه في حكم سائر المخاطبين من قومه المؤمنين على سبيل المجاز. والثالث: أنهم ادعوا الكفر عليه وموافقته إياهم من قبل ظنًا منهم أو وقاحة وبهتانًا كما قالت قريش صبأ محمد أي: كان على ديننا. فقال شعيب -عليه السلام-: أتكلفوننا العود {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} ينبئهم على أن العودة لا تصح مع الإكراه. {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} يحتمل ثلاثة معانٍ: أحدها: أن الإيمان والتوحيد كان ملتهم ولكن الله تعالى نسخ الأمر بالتخفيف فقال شعيب: لو عدت إلى الأمر بعد ما عما الله لكنت مفتريًا على الله. والثاني: أجاب عن قومه المؤمنين وأدخل نفسه فيهم على المجاز. والثالث: عني نجاة قبل الابتلاء كقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] وذلك قبل أن تمسهم النار {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي: حالة نسخ الشرائع أو حالة التقية في الأصل {بِالْحَقِّ} أي بحكمك الحق حذف الاسم وأقيم الصلة مقامه. {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} لمؤمنيهم قيل: أهلك الله أصحاب مدين بالرجفة وأصحاب الأيكة بالظلمة، وقيل: البلدة واحدة، جمع الله عليهم بين حرارة الظلمة وبين الرجفة كما جمع على ثمود بين الرجفة والصيحة.

{الَّذِينَ كَذَّبُوا} وخبره {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} (¬1) ويحتمل أن {الَّذِينَ} بدل عن الضمير في (أصبحوا)، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي لم ينزلوا أو لم يقيموا أو لم يعيشوا أو لم يكونوا فيها (¬2). {فَتَوَلَّى} أعرض عن دعوتهم عند معاينتهم البأس أو عند هلاكهم، وخاطبهم بهذا الخطاب فأسمعهم تعالى ذلك كما أسمع ثمود كلام صالح بعد هلاكهم، وأصحاب القليب كلام نبينا -عليه السلام- (¬3)، وهذا دليل على جواز عذاب القبر {فَكَيْفَ آسَى} أحزن (¬4) على سبيل النفي والإنكار. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} لما ذكر الله تعالى بعض الأنبياء على التفصيل ذكرهم على سبيل الإجمال ليعمّهم بالإخبار عنهم وليزيد وعظًا وعبرة، والآية مختصة بالذين كذبوا الأنبياء والحال تدل عليه {لَعَلَّهُمْ [يَضَّرَّعُونَ} أي جعلنا البأساء والضراء من دواعي التضرع والإذعان في الظاهر المعقول دون المعلوم] (¬5) والمقدور. ¬

_ (¬1) قاله الزمخشري وقال: في هذا الابتداء معنى الاختصاص - يعني الحصر - وقيل أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملة من قوله {كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] في محل رفع خبر له وهو وخبره خبر الأول وتكون {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] إما اعتراض وإما حال من فاعل "كذبوا". [الكشاف (2/ 97)]. (¬2) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة في قوله {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92]: كأن لم يعيشوا فيها. أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 326)، وابن أبي حاتم (2053). (¬3) أصحاب القليب هم صناديد كفار قريش عندما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا منهم فقذفوا في قليب بدر، وعندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغادر المكان وقف على شفة البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:، يا فلان بن فلان وبا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعدَ ربكم حقًا؟! فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ما تكلم من أجسادٍ لا أرواح لها؟! فقال رسول الله - رضي الله عنه -: "والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه [(7/ 300)، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل - الفتح]. (¬4) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 327). (¬5) ما بين [...] من "ب" "ي".

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ (¬1)} فائدة التبديل شيئان؛ أحدهما: فتنة الامتحان بالحالتين لئلا يبقى لهم عذر. والثاني: فتنة اللبس والخذلان ليظن الجاهل المخذول أن صُروف الدهر وتقلب الأيام عادة ولا يتضمن معنى الدعوة والإنذار {حَتَّى عَفَوْا} أي إلى أن كثروا (¬2) ونموا. {بَرَكَاتٍ} أبواب البركات، والبركة النماء والسعة وكثرة الخير، وأبوابها مصادرها التي تتولد منها كالأمطار النافعة والرياح لوقتها. {أَفَأَمِنَ} الفاء لتعقيب أمنهم الإنذار والاستفهام على سبيل اللوم والتقريع. {أَوَأَمِنَ} قيل على الاستفهام وقيل على التخيير، من أمن مكر الله كان معتقدًا لعجز في صفاته تعالى ودخول فعله تحت الحظر والإباحة أو نفي سبيله على عباده من حيث ذنبهم وتقصيرهم، وكل هذه الثلاثة كفر ولذلك توجه الإنكار على من أمن مكر الله تعالى. الذين {يَرِثُونَ الْأَرْضَ} هم الموجودون وقت الإنكار والإنذار {وَنَطْبَعُ} كلام مستأنف، وقيل: معطوف على قوله {أَصَبْنَاهُمْ} كقوله {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] فنذر الذين لا يسمعون الشيء النافع إن شاء الله وإنما قال {لَا يَسْمَعُونَ} ولم يقل لا يفقهون للمبالغة في النفي، فإن الإنسان ربما يسمع ولا يفقه وإما أن يفقه ولا يسمعه، ويحتمل أن المراد به نفي الاستماع. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} في الحالة الثاثية بما عدّوه كذبًا في الحالة الأولى لترجح اختيارهم الفعل الكفر على الإسلام في قلوبهم وآرائهم بخذلان الله تعالى {بِمَا كَذَّبُوا} بالسبب وليست بالتي يتعدى الإيمان بها ¬

_ (¬1) (الحسنة) زيادة من "ب". (¬2) وهذا تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وإبراهيم والسدي والضحاك، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (10/ 330) وكذلك كل شيء كثر فإنه يقال فيه: قد عفا، ومنه قول الشاعر: ولكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منها ... بأَسْوُقِ عافياتِ الشَّحْمِ كومِ

فتقديره إذًا: فما كانوا ليصيروا مؤمنين بسبب تكذيبهم له (¬1) وأمره (¬2)، والآية مختصة بالمصرّين على الكفر دون الذين تداركهم الله برحمته. {مِنْ عَهْدٍ} من محافظة عهد، وقال ابن مسعود: من إيمان. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} لما شدّد فرعون علي بني إسرائيل الأمر وكاد يفنيهم لذبحه المواليد أبى الله أن ينشأ موسى إلا (¬3) في حجره فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وكان فرعون قد تبنّاه فلما شب موسى -عليه السلام- حمله حُب إقامة القسط وإدحاض الجور وموالاة العشيرة على أن وكز القبطي فقضى عليه. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} إلى قوله {لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] لمداومته على الجدال وملازمته الخصومة، فلما أن {أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص: 19] قال الغوي: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19] وشنّع عليه لجهله وحمقه، واستفاض الخبر في المدينة فجاء خربيل النجار وكان من قوم فرعون إلا أنه قدرت له السعادة {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] فخرج منها خائفًا يترقب، ولما توجه تلقاء مدين {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] فأكرمه الله بصحبة شعيب -عليه السلام- وبمصاهرته، وكان شعيب قد عمر بمدين مع المؤمنين من قومه إلى ذلك الزمان بعد هلاك الكافرين من قومه، وكانت هذه القصة (¬4) قبل هلاك الكافرين والله أعلم. ثم رجع من عند شعيب بعد عشر سنين وقيل بعد ثنتي عشرة سنة مع أهله واتفقت له في الطريق أسباب النبوة بإذن الله تعالى ونودي من الشجرة {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا ¬

_ (¬1) وهكذا قدره الأخفش حكاه عنه أبو جعفر النحاس في إعرابه (2/ 627). (¬2) في "ب": (تكذيبهم أمره)، وفي "ي": (تكذيبهم له أوامره). (¬3) (إلا) ليست في "ب". (¬4) (وكانت هذه القصة) ليست في "أ".

{يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه:14 - 16] وشاهد من عصاه ويمينه ما شاهد وأرسله إلى فرعون وغفرت له خطيئته في قتل القبطي الكافر قبل إباحته، وألهم وأمر أن يستشفع في الرسالة فاستشفع وأجيب إلى ذلك وشفع بهارون -عليه السلام- (¬1) وهارون بمصر، فرد موسى أهله إلى شعيب وتجرّد للرسالة متوكلًا على الله مطمئنًا على وعده {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] فلما انتهى إلى مصر وجد أباه قد توفي ووجد أمه في الأحياء وكذلك أخاه وأخته، فنزل كهيئة الضيف فقدموا إليه طبيخًا من خلّ وعدس بلحم ثم تفرس فيه هارون على المائدة فعرفه وتباشروا به، وبشر موسى أخاه بالرسالة فقال: سمعًا وطاعة، وأصبحا على باب فرعون من ساعتهما فأذن لهما بالدخول، وقيل: بقيا على بابه سنتين حتى انتهى أمرهما إليه واستحضرهما وكان من قصتهما معه ما سنذكره. {بِآيَاتِنَا} اليد والعصا وانحلال اللسان وغير ذلك، وكانت العقدة وقعت في لسانه من جهة وإنما أخذ بلحية فرعون وهو رضيع فهمّ فرعون بقتله متخوفًا أنه عدوه الذي سيهلكه، فتشفعت امرأته وقالت: طفل لا يميز فامتحنه فرعون بطبقين طبق من ياقوت وطبق من جمرة (¬2) فكاد موسى يلتقط ياقوتة لما جبله الله عليه من حسن الاختيار، ولو فعل ذلك لعلم فرعون علمه، فلبس الله الأمر على فرعون فقرب يد موسى إلى جمرة والتقطها ووضعها في فيه على عادة الصبيان فانزوى طرف لسانه إلى أن أحلَّه الله إكرامًا له وآية على صدق دعواه {فَظَلَمُوا بِهَا} أي كفروا وكذبوا وذهبوا بها غير المذهب فقالوا: هي سحر. {حَقِيقٌ} واجب، وقيل: جريء {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي خلّ سبيلهم وأمسك عن قتلهم واستعبادهم. {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} إنما قال هذا إنكارًا للدعوة {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ولم يرد بهذا السؤال استرشادًا واستبانة. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (جمر).

{ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} الحيّة اسم جنس ما ينساب على بطنه، والله شبّه الحية المنقلبة من عصا موسى بالثعبان في عظم خبثها والجان في سرعة انسيابها، وقيل: إن عصاه انقلبت مرة ليلة البعث عند الشجرة ومرة عند فرعون في داره ومرة يوم الزينة بين يديه في عرصَاته على أعين الناس في مقابلة السحرة، فاختلفت الأوصاف لاختلاف الأحوال. {وَنَزَعَ يَدَهُ} كان لون موسى إلى السمرة ما هو وكان عليه مدرعة صوف فضربه فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها إليهم بيضاء دريّة يغلب ضوؤها ضوء الشمس {لِلنَّاظِرِينَ} أي فحيث مضى لأجل الناظرين. {قَالَ الْمَلَأُ} أشراف قومه وخاصته الذين كانوا سفراء بينه وبين العامة سمعوا هذه المقامة ثم خرجوا من عنده وقالوا للعامة تبليغًا عن فرعون، فالله تعالى ذكر مقالتهم ههنا ومقالته لهم في سورة "الشعراء". قال الملأ للعامة تبليغًا عن فرعون {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)} استأمرهم لاستمالتهم ولاجتماع الكلمة لئلا ينكر عليه بعضهم فعله فيقع بينهم التجادل بالتجادل ويتمكن بنو إسرائيل من قهرهم وإعجازهم. {أَرْجِهْ} الإرجاء التأخير والإمهال، وإنما أشاروا عليه بذلك إما للتثبت والاستبانة وإما للهُدنة وخوف المعاجلة وإما لصرف الله إياهم عن هذا الجواب الجاد كي يتم مقدوره في السحرة وفيهم. {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} قيل: إن فرعون كان عنده رجلان مجوسيان ساحران من أهل نينوى، وكان قد دفع (¬1) إليهما رجالًا من قومه يعلمانهم السحر فمهر في ذلك منهم سبعون رجلًا وبلغوا النهاية، وكان فرعون قد شحت بهم مدائنه (¬2) حوالي مصر ورتبهم فيها وأجرى عليهم الجرايات ¬

_ (¬1) في الأصل "أ": (وقع). (¬2) في "ب": (مدينة).

وليزينوا أمره إلى العامة بالتمويهات، فحضروا عنده لما استحضرهم واستشرطوه لئن غلبوه ليعطيهم الأموال وإنما استشرطوه بمشهد الناس لما علموا من خبثه أنه لا يعرف لهم حقوقهم من غير ضمان، وعن عكرمة أنهم كانوا ثلاثة وسبعين، وعن ابن إسحاق أنهم كانوا خمسة عشر ألف رجل، قال نعم وأجابهم إلى سؤالهم ووعد لهم التقريب (¬1) ورفعه الإقرار لشدة الاضطرار وخوف الفضيحة. {إِمَّا} للشك والتخيير ولم يعقب كلامًا مستقلًا بنفسه بخلاف "أو"، واعلم أن {إِمَّا} ربما وُصلت بالفعلين بـ "أن" كهاهنا وقوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] وربما وصلت بالفعلين بغير "أن" كقوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] فإن وصلت بـ "أن" حل الفعلان محل المصدر وكان فيهما معنى الأمر على سبيل التخيير، وإن وصلت بغير أن كانا خبرين (¬2) والواجب من الخبرين أحدهما لا بعينهِ وفائدة الآخر الإيهام واللبس، والتقدير ههنا: إما إلقاء منك وإما تسليم لنا لنُلقي، وإنما خيروا موسى لجرأتهم ولاستواء (¬3) الأمرين عندهم ولقصدهم قطع عذر موسى -عليه السلام- من كل وجه. {قَالَ أَلْقُوا} سلم لهم الابتداء ليتمكنوا من سحرهم على طمأنينة وجراءة عقل فيكون إبطاله بعد إتمامه أدل على الحق وأوقع في القلوب، ولو ابتدأ موسى لما تمكنوا من سحرهم دهشًا وحيرة {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أرهبوهم واستدعوا رهبتهم، وإنما وصف سحرهم بالعظم لأنهم حرّكوا الحِبال والعصيّ في الرمضاء بالحيل، شبهوا الجماد بالحيوان لفعل أنفسهم في مقابلة الإعجاز من غير استعانةٍ بالأرواح الخبيثة من الشياطين مستبدين فكان يصغر بجنبه كل سحر. ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (التقريب). (¬2) انظر تفصيل ذلك في: تفسير الطبري (10/ 355)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 389)، والدر المصون (5/ 415). (¬3) في "أ ": (ولاستهزاء).

{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي: فألقاها فإذا هي تلقف، وإنما قيل على لفظ الاستقبال لأنها تلقفت شيئًا بعد شيء (¬1)، قال الكلبي: عظمت عصا موسى حتى كادت تسد الأفق وفتحت فاها سبعين ذراعًا وأقبلت على فرعون فطوقت رقبته بذنبها ثم فتحت فاها لتبتلعه فاستعاذ فرعون بموسى فصاح موسى وأخذها فإذا هي عصا كما كانت، وعن السدي أنّ (¬2) فرعون هرب منها وأحدث، وقيل: ابتلعت الصخور العظام وكانت نار تخرج من فيها (¬3). {فَوَقَعَ} أي وجب ولزم وثبت مشاهدة وعيانًا. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} أي ألجئوا من غير اختيارهم (¬4) وذلك لعلمهم أن ما أتى به موسى -عليه السلام- شيء إلهي ليس من حيلة الجن والإنس بانفراد ولا مشاركة، فإن تقليب الأعيان والإيجاد والإفناء من فعل الله تعالى وإنما علموا ذلك لتناهيهم في علمهم، ولو كان مبتدئًا لتوهموا أنه أسحر منهم ولهذا يحمد التناهي في كل علم ولو كان باطلًا، ومن سنة الله تعالى أن يجعل آيات أنبيائه أشياء تلتبس بالغالب من دعاوي أهل العصر لتكون الحجة اللازمة، فبعث موسى -عليه السلام- في عصر التمويهات وعيسى -عليه السلام- في زمن الطبّ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5) في عصر الفصاحة والكهانة. {قَالُوا آمَنَّا} يحتمل إلجاء كالسجود ويحتمل اختيارًا. {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} لما رجعت العصا كهيئتها رجع إلى فرعون ¬

_ (¬1) في "ب": (موسى). (¬2) (أن) من "ب". (¬3) وكل هذه الروايات هي إسرائيليات وفيها مبالغات غير مقبولة ولا شك أن ما كان بأمر الله فإنه ممكن وأعظم من ذلك لكن ظاهر الآية أنها ابتلعت ما يأفكون به من سحرهم وهي الحبال والعصي فلم تبق منه شيئًا، وهذا تفسير ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم وهو ما تدل عليه الآية. (¬4) في الأصل (أجسادهم). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -).

قدرته (¬1) وعاد إلى عادته الخبيثة من الكفر والطغيان وأنكر على السحرة إيمانهم بغير إذنه، يري العالم أنهم (¬2) حيث لم ينظروا إذنه (¬3) ويريهم أنهم كانوا قد واطؤوا موسى -عليه السلام- في السرّ من قبل وأن دعوتهم واحدة، وهدّد السحرة بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ثم أتبعه التصريح بالوعيد، فقال: لأقطعن أيديكم لعلهم يخافونه، وإنما اجترأ على السحرة لما شاهد من عجزهم، أو لأنه علم أنهم لا يسحرونه بعد إيمانهم، أو لأنه كان يعلم من قبل أنهم مموّهون. {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)} في مجادلتهم فرعون دلالة على أن قدرتهم رجعت إليهم فآمنوا اختيارًا بعد ما سجدوا اضطرارًا، وإنما علموا أنهم صائرون إلى الله تعالى لما ألقى الله في قلوبهم من الإلهام. {وَقَالَ الْمَلَأُ} الأشراف {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لما شاهدوا الآيات ورأوا إيمان السحرة وسمعوا مقالة خربيل النجار خافوا الانتشار من رعاياهم فأنكروا على فرعون تركه موسى وقومه مطلقين سالمين فقالوا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ... وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} أي ويخلعك نصب عطفًا على التفسير وفي مصحف أُبي {وقد تركوك وآلهتك} (¬4) أصنامك التي نصبتها ليتقرب الأقاصي بها إليها يدل عليه قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وقرأ ابن عباس {وإلاهتك} (¬5) يعني عبادتك، فقال فرعون: {سَنُقَتِّلُ} سنستمر فيهم على عادتنا قتل البنين وترك البنات، ولم يتجاسر على أكثر (¬6) من ذلك لما يتخوف من تحريك الساكن في تغيير العادة {قَاهِرُونَ} متسلطون عليهم. ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (نذرته). (¬2) في الأصل و"أ": (بياض). (¬3) في الأصل و"أ": (إذن). (¬4) ذكره الفراء في معاني القرآن (1/ 391)، والكرماني في شواذ القراءات ص 192، وذكر أنها قراءة ابن مسعود أيضًا. (¬5) أبو عبيد (172)، وابن جرير (1/ 122) (10/ 368، 369)، وابن أبي حاتم (8819، 8820)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 502) للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في "المصاحف" وأبو الشيخ. (¬6) في الأصل "أ": (أكفر).

{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} على الائتمار بأوامره واصبروا على أذى فرعون وقومه {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا} تنبيه منه إياهم على التسليم والرضا بالقدر {وَالْعَاقِبَةُ} عاقبة الخير دون الشر {لِلْمُتَّقِينَ} بشارة وحث على التقوى. {قَالُوا أُوذِينَا} عن وهب أن فرعون صنّف بني إسرائيل أصنافًا، فأما ذوو (¬1) القوة منهم فيحملون إليه السواري من الجبال وهم يتولون قلعها ونحتها ونقلها، وأما من دونهم في القوة فينقلون إليه الحجارة والتراب للبناء، وأما الضعفة منهم فيضربون اللبن ويطبخون الآجر، ومن لم يستطع من ذلك شيئًا كانت على رأسه ضريبة يؤديها كل يوم قبل أن تغرب الشمس فإن غربت قبل أن يؤديها غلّت (¬2) يداه إلى عنقه شهرًا، فضجروا لذلك وضاقوا به ذرعًا وشكوا إلى موسى فصرح لهم البشارة بإذن الله تعالى (¬3) ليطمئنوا إليها {فِي الْأَرْضِ} أرض مصر، وقيل: الأرض المقدسة لأن بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ما هربوا من فرعون وليس بسديد. {بِالسِّنِينَ} القحوط، قال -عليه السلام-: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" (¬4). {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} التطير التشاؤم بالمقدر الموهوم من الشيء (¬5) ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (ذو) بواو واحدة. (¬2) في الأصل: (شلت). (¬3) (تعالى) ليست في "ي" "ب". (¬4) البخاري (1006)، ومسلم (675) وغيرهما. (¬5) الطيرة من الشرك المنافي للتوحيد لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، أي أن بني إسرائيل إذا أصابتهم السيئة من النبلاء أو القحط تطيروا بموسى ومن معه وقالوا: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم، ولذا رد الله عليهم بقوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] فما أصابهم هو بسبب كفرهم وتكذيبهم، وقد أخبر -عليه السلام- أن الطيرة من الشرك فروى ابن مسعود مرفوعًا: الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا, ولكن الله يذهبه بالتوكل" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. انظر تفصيل ذلك في: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص 348.

{طَائِرُهُمْ} حظهم المقدر من خير أو شر، وكأنه سمي الطائر لسرعة وجوده ومجيئه كما يقال: طارت الكلمة والصبح المستطير. {مَهْمَا} حرف شرط ولا بد من أن يكون كله أو بعضه اسمًا موصولًا، وهي حرف على صيغة تلك، وقيل: أصلها ماما (¬1) الأولى للشرط والثانية للتأكيد دخلت على الأولى، وقيل: حرفان، مه للزجر وما للشرط (¬2). {الطُّوفَانَ} جمع واحدتها طوفانة كالرمان والحصبان، وقيل: مصدر كالرجحان والخسران، وقال ابن عباس: الطوفان أمر من الله تعالى طاف بهم ثم قرأ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} (¬3) [القلم: 19]، وقال عطاء ومجاهد: أنه الموت الذريع (¬4)، وقال وهب: هو الطاعون بلغة اليمن (¬5)، وعن ¬

_ (¬1) في "ب": (أصله)، وفي "ي": (ما) واحدة. (¬2) أولًا: من حيث الإعراب، فجمهور النحاة على أنها اسم شرط يجزم فعلين كـ"إنْ" إلا أنها اسم لا حرف بدليل عود الضمير عليها ولا يعود الضمير على حرف كقوله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} [الأعراف: 132]. ثانيًا: من حيث التركيب، اختلف النحويون هل هي بسيطة أو مركبة؟ فقيل: هي مركبة من ماما فكررت "ما" الشرطية توكيدًا فاستثقل توالي لفظين فأبدلت ألف "ما" الأولى هاء، وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي وأتباعه من أهل البصرة: زيدت "ما" على "ما" الشرطية كما تزاد على "إِنْ" في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} [البقرة: 38] فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل. والاحتمال الذي ذكره المؤلف وهو أنها مركبة من مَهْ التي هي اسم فعل بمعنى الزجر و"ما" الشرطية هو قول الكسائي، وقيل: هي مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية بدليل قول الشاعر: أماويَّ مَهْ مَنْ يستمعْ في صديقه ... أقاويل هذا الناس ماويَّ يَنْدَمِ فأبدلت نون "مَنْ" ألفًا. وذكر مكي هي مركبة مِنْ مَنْ وما، فأبدلت نون مَنْ هاءً وذلك لمؤاخاة "مَنْ" "ما" في أشياء. [معاني القرآن للزجاج (2/ 408)، شرح الجمل لابن عصفور (2/ 195)، الدر المصون (5/ 431)، الكتاب (1/ 433)، المشكل (1/ 327)]. (¬3) ابن جرير (10/ 381)، وابن أبي حاتم (8858). (¬4) أما عن عطاء فرواه ابن جرير (10/ 380). وأما عن مجاهد فعند ابن جرير أيضًا (10/ 379) وروي مرفوعًا عن عائشة بسند ضعيف، وقيل: بل موضوع. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 458). (¬5) ذكره عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 248).

أبي قلابة: الجدري (¬1)، وعن الكلبي (¬2): المطر الدائم من السماء من سبت إلى سبت لم يروا فيه شمسًا ولا قمرًا ولم يقدر أحد أن يخرج إلى ضيعته فكادت مصر تكون بحرًا واحدًا فاستغاثوا إلى موسى -عليه السلام- ووعدوا له تسريح بني إسرائيل، فدعا الله ليصرف ذلك عنهم فصرف وأنبت الأرض في أثره من الزروع والثمار والعنب ما لم يروه قط، فقالوا: كان المطر خيرًا لنا ولم نشعر به، فرجعوا إلى تعذيب بني إسرائيل، فابتلاهم الله بالجراد وهو الذي ركبتاه من فوق الظهر يحل أكله من غير ذبح، فصار عليهم كالسحاب فأكل عامة زروعهم وثمارهم فاستغاثوا إلى موسى -عليه السلام- ووعدوا له تخلية بني إسرائيل فصرف الله الجراد عنهم بالريح فرجعوا إلى إيذاء بني إسرائيل وقهرهم، فأرسل عليهم (القمل) قال الكلبي وإحدى الروايتين عن ابن عباس: الدَّبى (¬3)، وهي صغار الجراد لا أجنحة لها، فغشيت وجه الأرض وأكلت ما أفضلت الجراد فلم تترك في مصر عُودة خضرة ولا حبّة فاستغاثوا إلى موسى -عليه السلام- (¬4) فأهلكها الله بالحرّ (¬5)، وعن ابن عباس وابن جبير: القمل دويبة (¬6) تأكل الحنطة والحبوب (¬7) تخرج منها، قال الأمهر (¬8): كأنها السوس (¬9)، وعن عطاء أنها دابة لها سن تأكل شعور النساء (¬10)، وقيل: ¬

_ (¬1) لم نجده. (¬2) ورد ذلك عن ابن عباس وغيره، أخرجه ابن أبي حاتم (8857)، وأخرجه أبو الشيخ كما قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 508). (¬3) ابن جرير (10/ 83)، وابن أبي حاتم (8869، 8870). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب" "ي": (بالجر) بالجيم. (¬6) (دويبة) ليست في الأصل، وفي "أ": (دويبة لا). (¬7) أما عن ابن عباس فأخرجه الطبري (10/ 83) بلفظ: القُمَّل الدَّبَى، وأما عن سعيد فرواه ابن جرير (10/ 383). (¬8) في "ب": (الأمير). (¬9) عزاه البغوي لسعيد بن المسيب (1/ 369)، وعزاه ابن الجوزي (3/ 249) لابن عباس. (¬10) زاد المسير (3/ 249).

هي الحكة، وقال الأحمر: واحدة القمل قملة (¬1)، وقال الفراء: لا واحد لها. ثم عادوا إلى عادتهم الخبيثة فابتلاهم الله بالضفادع خرجت إليهم من البحر وزاحمتهم في مجالسهم ومضاجعهم، كان الرجل يستيقظ فيجد على سريره ذراعًا من الضفادع بعضها فوق بعض، و (الضفدع) الذي صوته النقيق، فشكوا إلى موسى فأمات الله الضفادع وقال لموسى -عليه السلام- (¬2): خلينا بني إسرائيل فاذهب بهم حيث شئت مجردين ولا تذهب بأموالهم ومواثيقهم، قال موسى -عليه السلام-: أمرني الله أن أخرج بهم وبأموالهم ولا أخلف لهم بقرة ولا حمارًا (¬3) ولا فضة ولا ذهبًا، قالوا: والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، فابتلاهم الله بإحالة مياههم دمًا فكانت عيونهم وأنهارهم دمًا وأنهار بني إسرائيل صافية عذبة، فاستقوا من أنهار بني إسرائيل فصار الماء في أوانيهم دمًا، فركب فرعون إلى أنهارهم وأمر أناسًا من قومه ليخوضوا في أنهار بني إسرائيل ويكرعوا في الماء فإذا الماء تنقلب في أفواههم دمًا، فكلف أناسًا من بني إسرائيل ليسقوا أناسًا من قومه بأفواههم، فكان الماء إذا خرج من فم الإسرائيلي إلى فم القبطي صار دمًا. ومات الأبكار من كل شيء فعجز فرعون وحلف بأيمانه لموسى (¬4): {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فدعا موسى فصرف الله ذلك عنهم فلم يزد فرعون إلا تمردًا وعنادًا، وكانت المهلة بين كل عذابين شهرين شهرين، وقيل: شهرًا واحدًا وقيل أسبوعًا، {عَهِدَ} العهد الشريطة. {كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ} أي على سبيل التمثيل والإرجاء على سبيل العفو، و (النكث) هو نقص العهد. ¬

_ (¬1) القُمَّل هو غير القَمْل الذي يكون في شعر الرأس بسبب تعفن الجلد لوسخه ودسومته، بل هو نوع من الحمنان وهي من الحشرات التي تمتص دم الإنسان. [التحرير والتنوير (9/ 69)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب": (حارًا). (¬4) (لموسى) ليست في الأصل و"أ".

{الْيَمِّ} البحر، وقيل: اسم البحر إساف (¬1) خاصة، ولما تم معلوم الله تعالى من فرعون وقومه في مجادلة موسى -عليه السلام- أوحى إلى موسى {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)} [الدخان: 23] وكان الميعاد ساحل البحر، وتأهب موسى للخروج وكان لا يتفق له ذلك، فشاور قومه فذكروا وصية من جهة يوسف -عليه السلام- وهو أن يخرجوا بتابوته إذا خرجوا، فطلبوا من يدلهم فلم يجدوا إلا عجوزًا قبطية دلتهم عليه على شريطة أن يخرج بها موسى -عليه السلام- مع نفسه ويدخل الجنة معها، فضمن موسى -عليه السلام- لها ذلك فدلتهم على صخرة مضمرة في قعر الوادي فاستخرجوه. ثم استعاروا من حليّ قوم فرعون يستدرجونهم بها وخرجوا ليلة الأحد التاسع من المحرم وكانت علامتهم لطخ الأبواب بدماء الذبائح، من انتهى إلى باب أخيه ورأى تلك العلامة تيقن بخروجه ولم ينتظره، فلما اجتمعوا بالبرية اعترضهم موسى -عليه السلام- فكانوا ستمائة ألف وعشرين ألف فارس مقاتل سوى الرجالة والنساء والمشائخ والصبيان، وجعل موسى هارون -عليه السلام- (¬2) على مقدمتهم وأمره بأن يقودهم إلى البحر فإنه ميعاد جبريل -عليه السلام- (2) وكان هو في ساقتهم يسوق سبطًا سبطًا. وانتبه قوم فرعون وقت السحر فلم يحسّوا بأصوات بني إسرائيل فقصدوهم فوجدوهم قد خرجوا فأخبروا فرعون بذلك، فأراد فرعون أن يتغافل عنهم قالوا: كيف وقد استعاروا أموالنا وحلينا وذهبوا بها؟! فحملهم ذلك على أن خرجوا في أثر بني إسرائيل غداة يوم الأحد، وقيل: غداة يوم الاثنين والزمان زمان الصيف، وكان هامان على مقدمتهم في ألف ألف فارس فلحقوهم وقت الهاجرة {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 61 - 63] قيل: وكان موسى مأمورًا بأن يخاطب البحر ويكنّيه بأبي خالد، قالوا: وكان جبريل على روكه تلقاه فرعون على ¬

_ (¬1) المراد به بحر القُلزُم، المسمى في التوراة "بحر سوف" وهو البحر الأحمر [التحرير والتنوير (9/ 75)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي".

حصان فتقدم جبريل بين يدي فرعون والروكة كأنها تستودق (¬1) فَصَال عليها الحصان ولم يستطع فرعون أن يمسكه حتى اقتحم البحر ولم يلتطم (¬2) فظن العسكر أن البحر إنما انفلق بأمر فرعون فاتبعوه كلهم، فلما خرجت بنو إسرائيل ودخل فرعون مع قومه كلهم في البحر أتم الله مقدوره فيه. {مَشَارِقَ الْأَرْضِ} أرض فرعون {بَارَكْنَا فِيهَا} (¬3) أي بالخصب، وقيل الأرض المقدسة، وقيل: كلتاهما (¬4) و (الكلمة الحسنى) العِدَة الجميلة (¬5) وإنما قال {عَلَى} لأنها نعمة. {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا، وفائدة إهلاك قصورهم وعروشهم هو آثارهم ليعتبر به غيرهم لقوله {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا (¬6)} [النمل: 52] أو لأنها كانت لا تصلح للمسلمين فهدموها ونقضوها وبنوا أبنية إسلامية، وكان نبينا -عليه السلام- (¬7) يأمر بهدم الأطام (¬8) بالمدينة (¬9). ¬

_ (¬1) الروكة: قال ابن الأعرابيِ هو صوت الصدى. وقوله: (تستودق) من الودق وهو المطر، ومنه قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43]. [عمدة القاري (19/ 105)، تاج العروس (27/ 180)]. (¬2) في الأصل و"أ": (يلتضم). (¬3) (باركنا فيها) ليست في "ب". (¬4) في الأصل و"أ": (كفاهما). (¬5) الكلمة الحسنى في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [الأعراف: 137] هي التي بيَّنها وفصَّلها الله في سورة "القصص"، الآيتان: 5 - 6، في قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: 5، 6]. وهذا اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 406)، وابن كثير (2/ 306)، والشنقيطي في تفسيره أضواء البيان (2/ 331)، ولذا صح عن مجاهد أن الكلمة الحسنى: "هي ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض ما ورثهم منها" أخرجه الطبري (10/ 406). (¬6) (بما ظلموا) ليست في "ب". (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) في الأصل (الإلهام)، وفي "أ": (الإلحام). (¬9) لم نجد لهذا الحديث أصلًا فيما بين أيدينا من المصادر بل كانت الآطام موجودة حتى بعد وفاة النبي -عليه السلام- لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حيث قال: "حين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس وكنت منهم، فبينا أنا جالس في ظل أطم من الآطام مر علي عمر - رضي الله عنه - ... ". وذكر الحديث بطوله أخرجه أحمد =

{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ} أي وقفوا واطلعوا وانتهوا إليهم وهم قوم من العمالقة من عشيرة فرعون وقيل: من قبط وهم قوم فرعون ورعيته، وقيل: هم قوم من بني لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ بن شحب بن يعرب بن قحطان كانوا نزولًا على ساحل البحر يعبدون الأصنام، فلما عاينت بنو إسرائيل وكانوا قد عاينوا قوم فرعون نصب آلهة يتقربون بها إلى فرعون توهموا جوازه في أهل التوحيد تقربًا إلى الله ولم يعلموا أنه شرك، فحملتهم محاكاة على أن قالوا لموسى -عليه السلام- {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وهذه القصة قبل إيراث الأرض. {مُتَبَّرٌ} مهلك (¬1)، والتبار الهلاك {مَا كَانُوا} أي ما هم يعملون. وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} إنكار منه عليهم وتذكيرهم نعم الله. {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} قيل أن موسى -عليه السلام- كان وعد قومه أن يرجع إليهم بعد ثلاثين ولم يعلم أن الله تعالى يزيده في الميقات عشرة، فلما لم يرجع إليهم على رأس ثلاثين، قيل: أنه كان أخبرهم بأنه قد زيد في ميقاته الثلاثين عشرة لكنهم عدوا عشرين يومًا وعشرين ليلة أربعين. وفائدة قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} نفي إيهام أن يكون التتمة بالعشرة، ومن جملة الثلاثين، وكان بين الميقات وبين غرق فرعون عشرة أشهر لأنه غرق (¬2) يوم عاشوراء وكان الميقات شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة و (الميقات) مفعال من الوقت. قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال بعض أهل الزيغ: سأل عن ¬

_ = في مسنده (1/ 6)، وآطام المدينة هي أبنيتها المرتفعة كالحصون، وتجمع أيضًا على أطوم والواحدة أطمة مثل أكَمَة، وفي حديث بلال أنه كان يؤذن على أُطْمٍ من آطام المدينة. [النهاية لابن الأثير (1/ 54)، لسان العرب (1/ 160) أطم]. (¬1) وهذا قول السدي أخرجه عنه الطبري في تفسيره (10/ 412)، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: متبر: خسران. أخرجه الطبري أيضًا (10/ 412). (¬2) (غرق) ليست في "ب".

قومه حيث قالوا: أرنا الله جهرة وهذه أفسد؛ لأنه قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ولم يقل أرنا ننظر ولا أرهم ينظرون وإنما قال {تُبْتُ إِلَيْكَ} ولما ابتلي بالصعق. وقال بعضهم: سأل رؤية الآيات وهذا باطل لمخالفته ظاهر الآيات وفحواها، ومشاهدته الآيات، والقول الصحيح أن موسى -عليه السلام- كان عارفًا به متيقنًا بأنه جل جلاله يُرى ولكن خفي عليه أمر نفسه أنها لا تحتمل معاينة صانعها في التركيب الدنيوي فاستزلته سكرة الاشتياق عن محافظة آداب (¬1) العبودية حتى جاوز (¬2) حد تقليب الوجه والتعريض إلى النطق والتصريح فابتلي بـ {لَنْ تَرَانِي} وشغل بالنظر إلى الجبل على شريطة أن التركيب الدنيوي من الجبل إن احتمل المعاينة احتملها موسى -عليه السلام- (¬3) وأنى للجبل ذلك، ثم رفع عن الجبل شيء من حجاب الآنية المتكونة فأشرق بنور الآنية المتكونة وتلاشى لجلالة بمرأى من موسى -عليه السلام- وهو المقصود فصار الروح من موسى مختطفًا مغلوبًا كالسراج في الشمس. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ} بإذن الله سبح لله، وتاب إليه عن سؤال ما لا ينال بالسؤال وكان أول المؤمنين يتقطع الجبال لتجلي ذي الجلال، يروى أن الجبل تقطع قطعًا فصارت قطعة منهن هباء منثورًا وطارت أربع قطع في الهواء فوضعن بمكة، وطارت أربع فوقعن بالمدينة، وروي أن المياه كلها عذبت تلك الساعة وظهرت المعادن والكنوز وزال الشوك عن الشجر وخمدت النيران وسقطت الأصنام، ويروى أن ملائكة السماء نزلوا من السماء بإذن الله تعالى وكانوا يقولون له: أطلبت رؤية ربّ العزة يا ابن النساء الحيّض؟! وأرسل الله على الجبل الضباب والصواعق والظلمات فأرعدت فرائص موسى وهم يقولون: اصبر لما سألت (¬4) فإنما رأيت قليلًا ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (أواب). (¬2) في الأصل: (يجاوز). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (طلبت).

من كثير، ثم كان التجلي بعد هذه المقدمات (¬1) (¬2). والمراد بـ (الصعق) الموت عند قتادة (¬3) والغشي عند غيره (¬4)، وقيل: ورجع موسى متبرقعًا ببرقع ومكث كذلك أربعين صباحًا لئلا يخطف نور وجهه بالأبصار. {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} أي على أهل عصرك {وَبِكَلَامِي} ما أسمعه من كلامه من غير وساطة سفير. {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} وفي الحديث: "إن الله تعالى كتب التوراة بيده وخلق آدم بيده وخلق جنة الفردوس وغرس شجرة طوبى بيده فقال لسائر المرادات كوني فكانت" (¬5) و {الْأَلْوَاحِ} قال الكلبي: كانت من زبرجدة خضر أو ياقوتة حمراء طولها عشرة أذرع (¬6)، وعن وهب: من ¬

_ (¬1) هذه القصة والأخبار الطويلة من قبيل الإسرائيليات، وروى قريبًا منها مطولًا ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن إسحاق وعلق على ذلك ابن كثير في تفسيره (3/ 469) فقال: وقد ذكر محمَّد بن جرير في تفسيره ههنا أثرًا طويلًا فيه غرائب وعجائب عن محمَّد بن إسحاق وكأنه تلقاه من الإسرائيليات. اهـ، وهو عند البغوي في تفسيره (3/ 276)، والثعلبي في عرائس المجالس ص 179، وما ذكره المؤلف أطول غرائبًا وأكثر عجائبًا. (¬2) في الأصل "أ": (المقات). (¬3) ابن أبي حاتم (8947)، وعزاه في الدر (6/ 563) لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬4) عن ابن عباس كما عند ابن جرير (10/ 427)، وابن أبي حاتم (8937، 8941). (¬5) ذكره السيوطي في الدر (6/ 567) عن ابن عمر بلاغًا عند الطبراني في "السُّنّة"، وورد عن حكيم بن جابر قال: "أُخبرتُ أن الله تبارك وتعالى لم يمس من خلقه بيده شيئًا إلا ثلاثة أشياء؛ غرس الجنة بيده وجعل ترابها الورد والزعفران وجبالها المسك، وخلق آدم بيده، وكتب التوراة لموسى بيده". أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 96)، وعبد بن حميد وابن المنذر كما قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 566). (¬6) ورد ذلك عن ابن جريج قال: "أُخْبِرْتُ أن الألواح من زبرجد" أخرجه أبو الشيخ كما قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 565)، وورد مرفوعًا قال عليه الصلاة والسلام: "الألواح التي أُنزلتْ على موسى كانت من سدر الجنة، كان طول اللوح اثنَيْ عشر ذراعًا" أخرجه ابن أبي حاتم (8958)، وأبو الشيخ وابن مردويه كما قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 565).

صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى -عليه السلام- (¬1) فقطعها بيده وشقفها بأصابعه، وعن الحسن: من خشبة نزلت من السماء. وذكر الزجاج والفراء (¬2) أنها كانت لوحين، ويجوز أن يعبر عن الاثنين بلفظ الجماعة كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] وعن ابن جريج أن الله تعالى كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور (¬3) {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي علمًا وخبرًا من كل شيء إما مجملًا وإما مفسَّرًا {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} من الحلال والحرام والحسن والقبح والمباح والمكره {بِأَحْسَنِهَا} بحسنها لأن الله تعالى قد بين فيه الخير والشر والحسن والقبيح فالأحسن هو الحسن، وقيل: بأحسنها بحسنِهَا لأن الله تعالى قد بين (¬4) أي أحسن قصصها وسيرها وتعبدهم الله بذلك دون ما دونه من الحسَن {دَارَ الْفَاسِقِينَ} منازل آل فرعون (¬5) ووعدهم الله أن يردهم إليها ويريهم إياها، وقيل: ما أراهم الله من منازل قوم لوط وأمثالهم ليعتبروا. {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} تقديره: تكبروا أي كانوا يتكبرون لاقتضاء أن تكون الجريمة مقدمة على الجرائم، ويحتمل أن الآية منزلة على موسى -عليه السلام- (¬6)، والمراد بهؤلاء السامري وقارون والذين قالوا لموسى اجعل لنا إلهًا، ويحتمل أنها مبتدأة الإنزال على نبينا -عليه السلام- (6) والمراد بهؤلاء اليهود. {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا} قيل إن هارون قال لقومه: معكم حلي آل فرعون ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 394)، ومعاني القرآن للزجاج (2/ 375)، ومثله أيضًا قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التّحْريم: 4] وهما قلبان. (¬3) قريبًا منه عن مجاهد عند ابن المنذر كما في الدر (6/ 566). (¬4) من (بحسنها) إلى هنا ليس في "ب" "ي". (¬5) الذي يظهر - والله أعلم - أن "دار الفاسقين" هي مصيرهم ومنازلهم في الآخرة، وهو الذي روي عن مجاهد وقتادة والذي يدل عليه سياق الآية حيث كان قبلها أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة، فأولى الأمور بحكمة الله أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرط في العمل به، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره (10/ 442). (¬6) (السلام) ليست في "ي".

وهي لا تحل لكم فادفنوها في موضع من الأرض، واحتال السامري حتى جعل في تلك الحفرة (¬1) قالب عجل، فلما ألقوا الحلي فيها وواروها بالتراب أوقد السامري عليها النار فصارت عجلًا منه شبه خوار بالطلسم، وقيل إنه كان رأى فرس جبريل -عليه السلام- (¬2) لا يضع حافره على الأرض (¬3) إلا اخضرّ بإذن الله تعالى، فأخذ من موقع حافره كفًا من التراب ويقول: ليكونن لهذا شأن، وذلك بإلهام من الله قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8] فلما أخرج العجل ألقى التراب في فيه فصار الجسد لحمًا ودمًا ذا روح له خوار، وقيل: لم يحصل الخوار من حيلته ولكن الله ابتلاهم به ليمدهم في طغيانهم عقوبة لسوء اختيارهم، وخوار البقرة كرغاء الإبل وثغاء الضأن ويعار الماعز وفي قراءة علي: {له جؤار} بالجيم وهو الصوت (¬4)، قال الله تعالى: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64]. {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي ندموا، هذه لفظة موضوعة للندامة (الأسيف) الممتلئ غضبًا (¬5)، وقيل إن الألواح تكسرت إلا سدسها، (برأس أخيه) بلحيته، وقيل: قبض على ناصيته، وقيل: أخذ برأسه كما يأخذ المصارع، وهذه الفعلة يحتمل أن تكون جائزة من موسى -عليه السلام- لأنه كان متبوعًا وهارون تابعًا وإن كانا نبيين، ويحتمل أن يكون زلّة ولكن الله لم يؤاخذه بها لزوال التمالك ولأنها كانت في ذاته، وفي الآية دلالة أن صبر الخليفة على جنايات قومه والتغافل عنها جائز لابتغاء المصلحة كمنابزته ومضاجرته ¬

_ (¬1) في "ب": (الحمرة). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب" "ي": (موضع). (¬4) قوله تعالى: {لَهُ خُوَارٌ} [الأعرَاف: 148] قراءة علي - رضي الله عنه -: {له جؤار} بالجيم والهمزة ذكرها ابن خانويه في شواذه ص 46، وفي البحر (4/ 392)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/ 460)، وهي قراءة ابن مسعود أيضًا ذكرها الكرماني في شواذ القراءات ص 194، وكلاهما - خوار وجؤار - بمعنى واحد وهو صوت البقرة خاصة وقد يستعار للبعير، والخور الضعف. (¬5) في "ب": (غيظًا).

إياهم، ولذلك يصبر خلفاء نبينا -عليه السلام- (¬1) من آل عباس على قبائح هذه الأمة وافتراق أهوائها. و (الشماتة) سرور العدو بما يسوء عدوه، و (الإشمات) إنالة العدو ذلك. {رَبِّ اغْفِرْ لِي} لأخذه برأس أخيه {وَلِأَخِي} لما ظنّ به من التقصير. وقيل: الاستغفار عبادة وإن لم تكن الزلة معلومة {رَحْمَتِكَ} جنتك. وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الآية دلالة على نسخ الوعيد لأنه تعالى عفا عنهم وجعل القتل توبة لهم (¬2). {عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا} هي ما تاب عنها أصحاب الصوامع وأمثالهم من التهتك والمجون، وقيل: التوبة والإيمان واحد جمع بين اللفظين للتأكيد، وقيل: التوبة ترك اعتقاد الكفر والإيمان ابتداء اعتقاد (¬3) الإسلام وهما شيئان لا محالة {سَكَتَ} سكن ومنه السكنة، والسكوت الكف عن النطق. {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} أي أعيد له ما تكسر في لوحين، وقيل: أخذ الباقي وكانت فيه كفاية لأن الأحكام كانت فيه وإنما ذهب الأخبار والأمثال والمواعظ {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} لأمر وعيده يخافون، وقيل: اختار (¬4) ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أي عندما قال لهم موسى في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} [البَقَرَة: 54] فكان قتل بعضهم بعضًا استجابة منهم لأمر الله فلا ينالهم غضب من ربهم لأن الله تاب عليهم، وهكذا جمع ابن جرير بين الآيتين، وعامة المفسرين على هذا التوجيه. [ابن جرير الطبري (10/ 462)]. (¬3) من قوله: (الكفر) إلى هنا ليست في "ب". (¬4) في "ب" "ي": (اختيار).

موسى -عليه السلام- (¬1) من قومه (¬2) ستين شيخًا لم يجد من الشيوخ المرضيين غيرهم فأمر الله بإذنه أن يختار من كل سبط شابين فاختار فأصبحوا شيوخًا ثم أراد موسى أن يخلف منهم اثنين ويذهب بالسبعين فتشاجروا في ذلك فقال موسى: من قعد منكم كان له أجر من انطلق معي فقعد يوشع بن نون وكالوب وذهب موسى إلى الجبل، فلما انتهى إلى سفحه تركهم هناك وصعد موسى الجبل وكلمه الله تكليمًا وشاهد ما شاهد ثم رجع إليهم كالشمس الطالعة، فقالوا: نحب أن نسمع كلام الله كما سمعته، فأسمعهم الله كلامه (¬3) فقالوا: نحب أن نرى الله جهرة كما رأيته، قال: إني لم أر الله جهرة، ولم تسكن قلوبهم إلى قوله فأخذتهم الرجفة، فقال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} فإنك قادر على ما تشاء ولك السبيل والحجة، ثم قال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} كما قالت الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وقال نبينا -عليه السلام-: "أتعذبهم وأنا فيهم أتعذبهم وهم يستغفرون؟ " وإنما علم موسى -عليه السلام- فعل السفهاء بقوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] ثم أثنى عليه فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} أي ما هي إلا ابتلاؤك ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) اختار: تتعدى بنفسها وتتعدى بحرف الجر ويجوز حذف حرف الجر كما في هذه الآية {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعرَاف: 155]. ومن الحذف قول الشاعر (وينسب للراعي النميري): اخترتُكَ الناسَ إِذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعتلَّ مَنْ كانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ مع أن الحذف مقصور على السماع وحصره النحاة في ألفاظ محددة كاختار وأمر واستغفر. ولذا قال الفراء: التقدير اختار موسى من قومه. وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت "مِنْ" لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم وخير من القوم، فلما جازت الإضافة مكان "مِنْ" ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلًا واخترت منكم رجلًا. ومنه قول الشاعر: فقلت له اخترها قلوصًا سمينة ... ونابًا علينا مثل نابك في الحيا [ديوان الراعي ص 192، الكتاب (1/ 18)، ابنيعيش 5/ 123، معاني القرآن للفراء (1/ 395)، الطبري (10/ 473)]. (¬3) من قوله: (فقالوا) إلى قوله: (كلامه) ليست في "ب".

وامتحانك فإنه لا طير إلا طيرك ولا إله غيرك {تُضِلُّ بِهَا} بالفتنة {مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} أي بها وبغيرها. {وَاكْتُبْ} وأوجب {هُدْنَا إِلَيْكَ} تبنا إليك (¬1)، وقال ابن عرفة (¬2): مكنا إلى أمرك، ومنه الهوادة قيل: من هذا اللفظ اشتقاق لقب اليهود، وقيل: بل اللفظة من لقبهم. {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} أي يسع كل شيء إن شئت {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} بالآلاء والنعماء {فَسَأَكْتُبُهَا} أي الحسنة في الدارين والرحمة أو الآخرة نفسها للمذكورين خالصة يوم القيامة {بِآيَاتِنَا} كلها. {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} يحتمل أنها نزلت على موسى -عليه السلام- ويحتمل أنها نزلت على نبينا -عليه السلام- (¬3) مستأنفة ليقطع دعاوي (¬4) اليهود والنصارى عن الإيمان بالآيات، وإنما وصف بالأمّي لأنه لم يكن يتلو قبله من كتاب ولا يخطّه بيمينه (¬5)، ولأنه كان من أم القرى ولأنه لم يكن من (¬6) نسل أهل الكتاب {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} دليل أن اسم ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وقتادة ومجاهد والسدي رواه عنهم جميعًا الطبري في تفسيره (10/ 480)، وابن أبي شيبة (13/ 540)، وابن أبي حاتم (9041). (¬2) نقله بمعناه عن الحسن بن عرفة الأزهري في تهذيب اللغة (6/ 391 - هاد) وقد تقدم الكلام على معنى هذه الكلمة في سورة "البقرة" عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البَقَرَة: 62]. (¬3) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير أنها نزلت في أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأنها هي المعنية بذلك، ولذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: قال موسى -عليه السلام-: ليتني خلقت من أمة محمَّد، أخرج ذلك كله الطبري في تفسيره (10/ 489) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 131) إلى أبى الشيخ. (¬4) في "ب": (دوي). (¬5) الأصل أن كلمة أُمَّي نسبة إلى الأم لأن الكتابة قبل الإسلام في الجاهلية كانت في الرجال دون النساء حتى نسب من لا يكتب إلى أُمَّه دون أبيه، والمعروف المستفيض من كلام العرب أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. هذا ما ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره (2/ 153). (¬6) في "أ": (ولأنه كان نسْل).

الشيء لا يغاير الأمر وما كلفهم الله من الأحكام الثقيلة والأغلال فألزمهم من الضيق والحرج عقوبة لجرائمهم لقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} أمثال ورقة وبحيرا الراهب {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أمثال عبد الله بن سلام والقسيسين والرهبان والذين اتبعوا {النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} أمثال كعب الأحبار إلى يوم القيامة. {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ} أمة منقرضة (¬1) في سالف الزمان، تقديره: ومن الأمة {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} قال: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] وقيل: الأمة الهادية قوم استقاموا على شرائع التوراة قبل نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85]، وقيل: المراد بها عبد الله بن سلام وأصحابه الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وقيل: المراد بها قوم وقعوا بأرض وراء الصين رآهم نبينا -عليه السلام- (¬2) ليلة المعراج ودعاهم إلى الإسلام وتحويل السبت إلى الجمعة على سنة الإسلام فأجابوه وآمنوا به، وقيل: هؤلاء القوم على شريعة التوراة بعد، وهم معذورون لأنهم لم يروا نبينا -عليه السلام- (2) ولم يسمعوا القرآن ولم يبلغهم خبر الإسلام على سبيل الاستفاضة فإن جهة الوصول إليهم جهة واحدة وهي وادٍ من رمل جارٍ يخسف بمن اجتازه (¬3) إلا يوم السبت، ولا يستنكر أن يكونوا قد غيروا وبدلوا في أيامنا وكانوا كما وصفهم الله تعالى حالة نزول الآية {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي يهدون من يصل إليهم من كفار نواحيهم ويهدون صبيانهم بالقول الحق والأمر الحق {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فيما بينهم. {فَانْبَجَسَتْ} انفجرت. {وَاسْأَلْهُمْ} وفائدة السؤال التقرير عن القرية عما أصاب أهلها إذ ¬

_ (¬1) في "ب": (متفرقة). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب" "ي": (يجتازه).

اعتدوا في أمر السبت {حِيتَانُهُمْ} جمع حوت كغيلان جمع غول، والحوت السمكة، {شُرَّعًا} قال أبو عبيدة معمر: شوارع في الماء بادية، قال الليث حسان: شوارع رافعة رؤوسها {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} لا يفعلون السبت، والسبت (¬1) مصدر، وكذلك يحتمل معنيين: التشبيه بالإتيان أي لا تأتيهم شرعًا والثاني أن يبتدىء كما أخبرناك {نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ} قيل: الأمة السائلة المبالغون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا هذه المقابلة بمسمع من المعتدين لتأكيد الزجر، وقيل: هم المداهنون، وقيل: هم المعتدون أنفسهم سألوا على وجه الاستهزاء. {فَلَمَّا عَتَوْا} الآية كالبدل عن الآية الأولى {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} كالبيان للعذاب البئيس. {تَأَذَّنَ} وأذن بمعنى كتوعّد وأوعد، وعن الزجاج (¬2): معناه تألَّى ربك و (المبعوثون) هم المسلطون عليهم من كافر ومسلم، وفي فحوى الآية بشارة لنا بالاستيلاء على الدجال وأتباعه ودلالة على بقاء بقية من هؤلاء الأرجاس إلى انتهاء الدنيا مقهورين مسخرين. {وَقَطَّعْنَاهُمْ} فرقناهم في أيام بخت نصر وبعده {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} الوصف {يَرْجِعُونَ} يتوبون. ¬

_ (¬1) يجوز أن يكون لفظ سبت مصدر سبت إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} [الأعرَاف: 163] فإنه مضارع سبت فيتطابق المثبت والمنفي، ويجوز أن يكون لفظ "سبتهم" بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف من أيام الأسبوع، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بكونهم يهود، وإضافة الاسم إلى الضمير معروف في كلام العرب ومنه قول أحد الطائيين: عَلاَ زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يَمَانِ (¬2) ذكره الزجاج في معاني القرآن (2/ 387) ومثله تَعَلَّمْ واعْلَمْ بمعنى، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: تَعَلَّمْ أَنَّ شَرَّ الناسِ حيٌّ ... ينادي في شعارهمُ يسار [ديوان زهير، ص 300].

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} نزلت في يهود (¬1) عصر الوحي ومن يجانسهم (¬2)، وقيل: نزلت في الجائرين من فقهاء الأمة وقضاتها، (الخلف) بسُكون اللام (¬3): العقب السوء {وَرِثُوا الْكِتَابَ} أي وجدوه عن آبائهم ومقدميهم {يَأْخُذُونَ} على إظهار ما في الكتاب وكتمانه منافع هذا الزمان {الْأَدْنَى} رشوة {سَيُغْفَرُ} أي يغفر لنا أخذ هذه الرشوة الواحدة وهم مصرّون وفي عزمهم أنه يأتيهم عرض مثله يأخذونه، وهذا القول منهم كفر وافتراء على الله وتأتًّ عليه لأن الله تعالى لم يعد ولم يوجب لمصرًّ على الصغيرة مغفرة فكيف لمصرًّ على الكبيرة {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} قيل: مستأنف والواو لعطف جملة على جملة (¬4) كقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6] أي وجدك يتيمًا وضالًا وعائلًا فآوى وهدى وأغنى. {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} عطف على (الذين) في الآية المتقدمة ويجوز أن ¬

_ (¬1) المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال: الأول: ما ذكره المؤلف أن المراد بهم اليهود وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 165). الثاني: المراد بهم النصارى. والثالث: المراد بهم الخلف من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والقولان الأخيران عن مجاهد. ورجح الطبري أنه لم يبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- من هم لكن سياق الآيات تدل على أنهم اليهود. [(الطبري (10/ 535)]. (¬2) في "ب": (يجالسهم). (¬3) يقال: خَلَفُ صِدْقٍ، وَخَلْفُ سوءٍ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام، وفي الذم بتسكينها، قاله الطبري في تفسيره (10/ 534). (¬4) اختلف المفسرون والنحويون في الجملة المعطوف عليها فذهب الزمخشري إلى أن جملة "درسوا" معطوفة على قوله: "ألم يؤخذ" لأنه تقرير فكأنه قيل: أُخِذَ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا. والوجه الثاني: أنه معطوف على "ورثوا" وتكون جملة "ألم يؤخذ" معترضة بين الجملتين، وهذا الوجه ذهب إليه الطبري في تفسيره وتبعه أبو البقاء. والوجه الثالث: أنه على إضمار "قد" والتقدير: وقد درسوا فيكون منصوبًا على الحال نسقًا على الجملة الشرطية، قاله السمين الحلبي في تفسيره. [الطبري (10/ 540)، الكشاف (2/ 128)، الإملاء (1/ 288)، الدر المصون (5/ 505)].

يكون مبتدأ وخبره نوفيهم أجورهم مضمرًا بدليل المضمر وقيل خبره {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ} على اعتبار أن الذين يمسكون بالكتاب والمصلحين شيء واحد (¬1). {نَتَقْنَا} النتق رفع المظل على ما تحته، في حديث: "على البيت المعمور نتاق الكعبة من فوقها" (¬2)، ومنه نتق السقاء وهو أن يرفعه فينفضه، ومنه المرأة الناتق وهي كثيرة (¬3) الولد لأنها كالمظلة على أولادها، وفي حديث: "عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواهًا وأنتق أرحامًا" (¬4). {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب قال: جمعهم يومئذ جميعًا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجًا في صورهم ثم استنطقهم وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن يقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئًا فإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك إلهنا وربنا (¬5) لا ربّ لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع عليهم أباهم آدم فنظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لو سويت بين عبادك، فقال: إني أحِبُّ أن أُشكر، ورأى فيهم ¬

_ (¬1) ويكون الرابط في هذه الجملة محذوفًا، والتقدير: "المصلحين منهم" وهذا على قواعد جمهور البصريين كما قاله السمين الحلبي، وأما على قواعد الكوفيين فإنهم يجعلون الرابط هو "أل" وهي تقوم مقام الضمير، ويرى أبو البقاء أن الرابط هو العموم في "المصلحين". [الإملاء (1/ 288)، الدر المصون (5/ 509)]. (¬2) ذكره ابن الأثير في غريب الحديث (5/ 12) مادة (نتق). (¬3) المثبت من "ب"، وفي البقية (كبيرة). (¬4) ابن ماجه (1861)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1947)، وتمام في فوائده (696)، والبيهقي (7/ 81)، والحديث ضعفه البوصيري في زوائده، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله. (¬5) في "ب": (مولانا).

الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصّوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة وهو الذي يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] الآية، وهو الذي يقول {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وفي ذلك [قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النّجم: 56] أي أخذ عليه الميثاق مع النذر الأولى، وفي ذلك] (¬1) و {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} وفي ذلك قال: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] فكان في علمه يوم أمروا به من يكذب ومن يصدق به، قال: فكان روح عيسى -عليه السلام- (¬2) من تلك الأرواح التي أخذ الله عليها العهد والميثاق من زمان آدم -عليه السلام- (2) فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت (¬3) من أهلها مكانًا شرقيًا فحملته أي فحملت (¬4) الذي خاطبها وهو روح عيسى -عليه السلام- دخل في فيها (¬5)، وروي في إخراج الذرية من صلب آدم -عليه السلام- أمثال الذر روايات كثيرة عن ابن عباس (¬6)، وإلى هذا القول ذهب أكثر أهل السنة قالوا: أخرج ذلك اليوم أولاد صلبه من صلبه أولاد أولاده من أولاده وأولاد أولادهم من أولادهم وكذلك إلى انقطاع النسل، وكانوا أقل وأصغر وأخفى من الذر لا محالة فإن الذر مركب من أجزاء كثيرة فلا شك أنهم كانوا أصغر وأخفى حين كانوا كمني، إلا أن الله تعالى أتاهم بعد الإخراج ¬

_ (¬1) ما بين [...]، من "ب" "ي". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في الأصل و"أ": (انتهزت). (¬4) (أي فحملت) من "ب" "ي". (¬5) حديث أُبَي بن كعب أخرجه الفريابي في القدر ص 52، وابن جرير في التفسير (10/ 557، 558)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/ 506)، وابن مندة في "الرد على الجهمية" (30، 33)، واللالكائي في "شرح السنة" (991)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (785)، وابن عساكر (7/ 396)، وسنده ضعيف لا يصح، وما بين [...] ليس في الحديث. (¬6) النسائي في الكبرى (11191)، وابن جرير في التفسير (8/ 550)، والحاكم (2/ 544)، والبيهقي في الأسماء والصفات (441) مرفوعًا ورجح أكثر أهل العلم وقفه، وانظر: ابن كثير (3/ 501، 502)، والنسائي.

كما شاء فجعلهم أرواحًا كما قال أُبي، وأمثال الذر كما قال ابن عباس فأسمعهم وبصّرهم وأنطقهم بمشهد أبيهم آدم -عليه السلام-، قال: وفائدة ذلك أحد أشياء أربعة: إما تطييب قلب آدم -عليه السلام- وتسليته بشبه عذر من الناكتين، وإما تذكر الأنبياء والصدّيقين ذلك الميثاق في مدة أعمارهم كالمستيقظ يذكر ما رأى فيذكره بعينه وصورته، أو تذكر غيرهم كالسكران إن (¬1) فعل شيئًا في سكره ثم يتخيله فيتفكر فيه وليس يبعد أن يكون توهم (¬2) الناسخ من جريء هذا الميثاق، وأما ما نذكره من هبة آدم -عليه السلام- (¬3) من داود -عليه السلام- (¬4) سنين من عمره ويجوز ذلك وأما المعنى لم يطلعنا الله عليه. وقيل: المراد بالإخراج إخراج المواليد في كل عصر وقرن، و (الميثاق): الإلهام في قلوب ذوي العقول قبل اختيارهم الكفر أو الكتاب السماوي، والأخبار المتواترة والمأخوذ به ما هو موافق لظاهر الكتاب وعليه الجمهور {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من بني آدم وهو عطف البيان {وَأَشْهَدَهُمْ} أي أشهد بعضهم على بعض {شَهِدْنَا} من كلامهم تقديره لأن لا يقولوا أي لردّ قولهم هذا وللبغي اتجاهه من أي وجه. {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} لما كان أخذ هذا الميثاق مما يذكره الأنبياء والصديقون ويتخيله الشهداء والصالحون ويعترف به العَوام والمقلدون مع ما نبّه الله عليه كافة الناس في القرآن المعجز لم يصح دعوى المنكرين بأنهم كانوا مجيبين من جهة آبائهم الأولين. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} نزلت في بَلْعَام بن باعور (¬5) كان ¬

_ (¬1) (إن) ليست في "ب" "ي". (¬2) في الأصل و"أ": (قودهم). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في هذه الآية قال: نزلت في بلعم بن أَبَر. أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 567)، والنسائي في الكبرى (11193)، وابن أبي حاتم (1616)، والطبراني (9064)، وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت في بَلْعَم بن باعرا رجل من =

في مدينة الجبارين وكان من ذرية لوط -عليه السلام- وكان يعرف اسم الله الأعظم فدعا به علي بني إسرائيل فحُبسوا في التيه أربعين سنة، فدعا موسى -عليه السلام- (¬1) بإذن الله تعالى بإنزاع (¬2) الاسم الأعظم (¬3) عنه. ويروى أنه كان في زمن يوشع -عليه السلام- لما حاصر يوشع هذه المدينة طلب بالق من بلعام أن يدعو عليهم وكان يعرفه أنه مجاب الدعوة فلم يفعل بلعام وقال: هؤلاء أولياء ربي (¬4) لا أدعو عليهم، فرشا بالق امرأته بأموال كثيرة ولولو وحلي فاستزلته امرأته فركب أتانًا له وخرج إلى صومعته ليدعو علي بني إسرائيل فلم تسر تحته (¬5) الأتان، فنزل عنها وتوجه إلى صومعته (¬6) راجلًا، فاستقبله ملك من الملائكة وأخذ عليه الطريق فخر ساجدًا ودعا الله تعالى لتخليته فانكشف عنه الملك. فلما انتهى إلى الصومعة وتهيّأ للدعاء نسَّاه الله ذلك الاسم وصار كافرًا بعزمه على الدعاء لنصرة الكافرين على المؤمنين، فلما نسي الاسم غضب وسخط على ربه ورجع إلى بالق وعلمه حيلة وهي أن يسرح إلى بني إسرائيل جواري حسانًا ليزنوا بهن يخذلهم الله تعالى. وعن مجاهد والمعتمر بن سليمان عن أبيه أن بلعام كان نبيًا (¬7) وهذا محمول على أنه كان نبيًا عند نفسه أو عند الناس ويشبه (¬8) الأنبياء ¬

_ = مدينة الجبارين وكذا روي عن مجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 568)، وانظر تفاصيل القصة عند الطبري (10/ 576). (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (بنزع). (¬3) الأعظم ليست في "ب". (¬4) في الأصل و"أ": (وهي). (¬5) في "أ": (تحت). (¬6) من قوله: (ليدعو) إلى قوله: (صومعته) ليست في "ب". (¬7) أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 574)، وابن أبي حاتم (1618) لكن من ذهب إلى أن بلعم كان نبيًا بعيد جدًا وغير صحيح لأن الله تعالى لا يمكن أن يختار لنبوته من علم أنه يخرج من طاعته بل يتحول إلى الكفر، ولذا خَطَّأَ ابن كثير هذا القول كما في تفسيره (3/ 509). (¬8) في "ب": (أو لشبه).

لاطلاعه (¬1) على شيء من الغيب على سبيل التبع والاتفاق كالشهداء لا على سبيل التخصيص والاجتباء كالأنبياء. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب (¬2) أن الآية نزلت في أميّة بن الصلت كان قد قرأ الكتب ووجد فيها نبيًا يبعث من العرب فطمع أن يكون هو ذلك، وكان مع ذلك ماهرًا خبيثًا يقول بلسانه غير ما يفعله بأركانه، فلما بعث نبينا -عليه السلام- كذّب به حسدًا ولم يؤمن ومات كافرًا، وفيه قال -عليه السلام-: "هو رجل آمن بلسانه وكفر قلبه" (¬3). وقيل: نزل في واهب من صيفيّ (¬4) كان يلبس المسوح وتنسك في الجاهلية ثم عادى نبينا -عليه السلام- وذهب إلى قيصر مستمّدًا فأهلكه الله في الطريق. وقيل: نزلت على وجه المثل في كل يهودي ونصراني (¬5). {فَأَتْبَعَهُ} لحقه، يقال: ما زلت أتبعه حتى اتبعته، وقال الفراء: تبعه وأتبعه بمعنى كلحقه وألحقه (¬6). {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي تشرفناه بالآيات وعصمناه عن صفة الإخلاد إلى ¬

_ (¬1) في الأصل "أ": (لإطاعة). (¬2) أما عن عبد الله بن عمرو رواه النسائي في الكبرى (11192)، وابن جرير (10/ 570)، وابن أبي حاتم (5/ 1616، 1620)، وهو في الطبراني كما في المجمع (7/ 25). وأما عن سعيد بن المسيب فهو عند ابن عساكر (9/ 282). (¬3) رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/ 7)، وابن عساكر (9/ 272)، وعزاه البعض لأبي بكر بن الأنباري في "المصاحف" وسنده متفق على ضعفه. (¬4) ابن أبي حاتم (5/ 1616)، وابن عساكر (9/ 265). فقط أن الآية نزلت في صيفي، أما التفاصيل الأخرى فلم نجدها. (¬5) ابن أبي حاتم (5/ 1618). (¬6) الجمهور على قراءة "أَتْبَعَهُ" رباعيًا، وعلى هذه الحال يكون إما متعديًا لواحد فيكون بمعنى أدركه ولحقه وإما أن يكون متعديًا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ويكون المفعول الثاني محذوفًا والتقدير: أتبعه الشيطان خطواته بمعنى جعله تابعًا لها. [البحر (4/ 423)، الدر المصون (5/ 515)].

الأرض واتباع الهوى، ولكنه لم يشأ عصمته فأخلد إلى الأرض، والإخلاد إلى الأرض هو لزوم المكان والتثبط والبقاء {الْكَلْبِ} سباع و (اللهث) إخراج اللسان إذا أخرج الكلب لسانه من حَرًّ وعطش لم يمسكه بزجر ولا تخلية، كذلك المنسلخ من الآيات لم ينزجر عن كفره بإنذار ولا تخلية والحَمْلُ على الشيء قصده على وجه الطرد وكأنه أخذ من أخذ من حمل السلاح عليه. {سَاءَ} بئسَ و {الْقَوْمُ} مرتفع (¬1) و {مَثَلًا} نصب على التفسير (¬2). {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} لهداية التوفيق للاهتداء و (الإضلال) الخذلان واتصالها بما قبلها من حيث {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}. {ذَرَأْنَا} أي شئنا بذارهم ومصيرهم واللام لام الغرض (¬3) كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الآية، قوله -عليه السلام-: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" (¬4) يدل عليه أن الله تعالى كان عند ذرء الشقي عالمًا بمصيره لا محالة فلو لم يشأ مصيره لما ذرأه، ألا ترى أن الحكيم لا يغشى النساء إذا لم يرد النسل ولم يتمتع بالشهوات إذا لم يرد السمن ¬

_ (¬1) قال الأخفش: مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ نقله النحاس عنه في إعرابه (2/ 652). (¬2) أي أنه تمييز مفسَّر ويكون فاعل "ساءَ" مضمرًا يفسره ما بعده فيكون التقدير: ساء المثل مثلًا. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر والجحدري {ساء مثلُ القوم}. [شواذ القراءات ص 199، البحر (4/ 423)]. (¬3) أي اللام في قوله "لجهنم" يقول إنها لام الغرض ولا أدري ماذا يعني بلام الغرض فلعله يريد بها لام العلة وهو أحد الوجهين في اللام ذكره السمين الحلبي في تفسيره، والوجه الثاني أنها لام العاقبة والصيرورة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذّاريَات: 56] ومنه قول الشاعر: ألا كل مولودٍ فللموت يُوْلَدُ ... ولستُ أرى حَيًّا لِحَيًّ يُخَلَّدُ [البحر (4/ 427)، زاد المسير (2/ 171)، الدر المصون (5/ 521)]. (¬4) الحديث أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 40 - 44، وذكره الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين (6/ 404).

وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] ليس بمناقض لهذه الآية لأن العبادة ليست بمضادة لجهنم ولاحتماله أوجهًا سبعة؛ أحدها: التسخير لقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15] الآية، والثاني: إظهار الخضوع لا القيام بالأوامر، والثالث: العبودية وهي الكينونة لا العبادة، والرابع: حالة الطفولة قد خلقوا على الفطرة، والخامس: الاقتضاء والاستحقاق كقول الوالدة لولدها: ما ولدتك إلا لتكبر فتحسن إلى، والسادس: العموم بمعنى الخصوص فيصرف إلى السعادة، والسابع: كون اللام في قوله {لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] لام العاقبة والمآل وذلك عند معاينة البأس فلو كان يحتمل وجهًا واحدًا لا يصح دعوى التناقض كيف وقد احتمل الأوجه. {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر الكفار وهم ملحدون {الْأَسْمَاءُ} التسميات التي تكلم الله بها و {الْحُسْنَى} تأنيث الأحسن {الَّذِينَ (¬1) يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الذين اشتقوا لأصنامهم أسماء من أسماء الله -عَزَّ وَجَلَّ- كاللات من الله والعزى من العزيز، والذين أنكروا إطلاق تسميتين على مسمى واحد فقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60] ويدخل في جملة هؤلاء الذين قالوا أسماء الله مخلوقة والذين أطلقوا على الله اسم الجسم والذين فرقوا بين الأسماء المشتقة من صفات الذات وبين الأسماء المشتقة من صفات الفعل {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 159] هم أهل السنة والجماعة، وتفسير السنة أن يسلكوا طريق السلف في كراهة الكلام والجدال في الدين والتعسف في تأويل متشابهات كلام رب العالمين وحديث رسوله خاتم النبيين بأن يجتهدوا في الفروع بالبحث عن الناسخ والمنسوخ والظاهر القريب والخفي البعيد وأن يميزوا الصحيح من السقيم والمتواتر من الآحاد والمتعارف المعتاد بين الناس وبين النادر والشاذّ وأن يتحروا الأشبه فالأشبه ويجتنبوا إهمال الحوادث كما يجتنبوا مخالفة الأصول الشرعية. وتفسير الجماعة الالتجاء إلى الكلمة السواء عند اقتتال ¬

_ (¬1) (الذين) ليست في "ب".

المقتتلين، وهذه الآية حجة في صحة الإجماع لأن الله تعالى زكاهم وعدلهم في أحكامهم. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أنكروها سرًا وجهرًا وأنكروها سرًا مع الإقرار بها جهرًا وأنكروا ظاهرها المعروف أو تفسيرها المجمع عليه أو سرها المكتوم لتعسف في التأويل من غير حجة ودليل {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} قال الخليل (¬1): سنطوي عمرهم في اغترار منهم، وقال الضحاك: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة، وقال القتبي: هو أن يدنيهم (¬2) من بأسه قليلًا، واستدراج الشيء تحصيله على المهلة والتدريج. {كَيْدِي} مكري {مَتِينٌ} قوي شديد وثيق {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} قيل: صعد النبي -عليه السلام- ذات ليلة الصفا فلم يزل يدعو قريشًا فَخْذًا فخذًا حتى أصبح فقال أناس منهم: أصبح الرجل مجنونًا فأنزل الله (¬3)، والمراد بالاستفهام أحد شيئين: إما الحث والإغراء وإما التقرير والإثبات، أي تفكروا وعملوا ثم أنكروا وجحدوا {بِصَاحِبِهِمْ} الصاحب الذي بينك وبينه شأن من خلاف ووفاق. {وَمَا} للنفي و {مِنْ} لتأكيد النفي و (الجنة) و (الجنون) لكلّة البصر وكلوله ينظر بنظر القلب إن شاء الله ولذلك عم المخلوقات كلها بقوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى} في محل النصب معطوفًا على قوله {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} ومحل الخفض معطوفًا على قوله {مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ} وفائدة النظر في المخلوقات الاستدلال بها على صانعها {بَعْدَهُ} بعد الحديث أو بعد تمام الأجل. ¬

_ (¬1) نقله ابن الجوزي عن الخليل كما في تفسيره: زاد المسير (2/ 173). (¬2) في "ب": (بدينه). (¬3) روي ذلك عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر القصة بكاملها. أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 602)، وابن أبي حاتم (1624)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 149) إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وهو مروي عن الحسن كما ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 174).

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} لا يتوصل مخلوق إلى علم أوانها (¬1) حقيقة، إن واحدًا من المخلوقين لو توصل إليه من جهة الوحي أو الأمارات المتقدمة وتعينت له الساعة بكمية الأيام والساعات والدقائق نكِّرت بكمية الأعداد والأنفاس والأصوات واللحظات والخطرات، كيف وهي ممكنة في كل لحظة غير واجبة {أَيَّانَ} سؤال عن الوقت تليها الاسم تارة والفعل أخرى وهي مركبة من أي أوان {مُرْسَاهَا} مواضع إرسائها و (الإرساء) الثبوت والقيام {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا} لا يظهرها لوقتها غيره {ثَقُلَتْ} أي عظم واستصعب وقوعها أو علمها على أهل السموات والأرض، وفائدة الكتمان استواء الأولين والآخرين في الإنذار بالساعة وعظم شأن المباغتة والمفاجأة {حَفِيٌّ} مبالغ في البر والسؤال، يقال: استحفى السؤال وأحفى في السؤال، قال الله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد: 37] لا يعلمون أن علمها خاصة {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} فيظنون أنهم يقفون عليها بالبحث عنها. {قُلْ لَا أَمْلِكُ} اتصالها بما قبلها من حيث نفي علم الساعة، عن ابن عباس أن قريشًا قالت لرسول الله: لا يخبرك ربك بالسعر لتشتري الطعام في الرخص بالخصب والجدب لتنتقل من الخصب إلى الجدب قبل أن تجدب الأرض فأنزل الله الآية (¬2)، {مِنَ الْخَيْرِ} من جوائح النفس، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]. {السُّوءُ} ما يسوء النفس من المصائب الدنيوية. ظاهر قوله: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم -عليه السلام- و {زَوْجَهَا} حواء، هكذا ذكر الكلبي (¬3) وغيره قالوا: لما حبلت حواء جاءها إبليس فتصور بصورة مجهولة متسمتًا بالحرث ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (أو ألفًا). (¬2) ذكره ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما -[زاد المسير (2/ 176)]. (¬3) الترمذي (3077)، والطبراني في الكبير (6895)، وابن جرير (10/ 623)، وابن أبي حاتم (5/ 1631)، والحاكم (2/ 545)، والحديث طعن فيه ابن كثير (3/ 529) بثلاث علل ورجّح أنه من قول أهل الكتاب وأن الآية نزلت في بني إسرائيل وليس آدم وحواء - عليهم السلام -.

وأوهمها أنها تلد بهيمة أو تلد من فيها أو منخريها أو تلد ولدًا لا يعيش، فذكرت ذلك لآدم فأشفقا من ذلك ودعوا الله سبحانه وتعالى، وزعم إبليس أنه عبد صالح مجاب الدعوة ومنّاهما أنهما إن سميا الولد باسمه ووهباه منه دعا الله لهما، فشرطا ذلك فولدت حواء غلامًا صالحًا فسمَّياه عبد الحارث كما يقول الصديق للصديق: ولدي هذا عبدك على وجه الإكرام، ولم يعلما مراد إبليس من ذلك ولا عرفاه، فأعظم الله تعالى شأن تلك التسمية وأعظم الإنكار عليها بمكان نبوة آدم -عليه السلام- ورفعة رتبته ولعلمه سبحانه وتعالى بإبليس وبما يريد من تأسيس قاعدة الشرك والإفك وليس يبعد هذه الزلة والأكل من الشجرة في حالةٍ واحدة بغرور واحدٍ لما يروى أن قابيل ولد في الجنة ويدل عليه ضمير الجمع في قوله {اهْبِطُوا} [البقرة: 36] والولادة متصور في الجنة كما يتصور خلق حواء فيها من ضلع آدم، وقيل: قوله {صَالِحًا} يرجع إلى الجنس. {جَعَلَا} يرجع إلى التوأمين فإن حواء كانت تلد في كل بطن توأمين ذكرًا وأنثى فهما اللذان جعلا له شركاء لآدم. {عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقيل: الإشراك فعل الذرية وإنما أسند إلى الأبوين مجازًا، وقيل: النفس الواحدة غير آدم من الآباء فإنهم آحاد إلى نوح -عليه السلام- (¬1) والروح غير حواء من الأمهات لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. وقيل: الخطاب متوجه إلى العرب من أولاد عدنان خاصة وأن المراد بالنفس واحد من آبائهم. {تَغَشَّاهَا} غشيها {حَمْلًا خَفِيفًا} أي النطفة {فَمَرَّتْ بِهِ} أي قامت وقعدت من غير مشقة {أَثْقَلَتْ} صارت ثقيلة بالحمل {صَالِحًا} بشرًا سويًا أو بشرًا يولد من موضع الولادة أو ولدًا يعيش {شُرَكَاءَ} مصدر يراد به الاسم (¬2) ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) إذا كانت "شركاء" بضم الشين وفتح الراء من غير تنوين فهي قراءة الجمهور ومفردها شريك، =

والمراد من الجمع الواحد أي كقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 39]. {مَا} ما يرجع إلى الجماد من الأصنام {وَهُمْ} راجع إلى الذين صور على مثالهم من طواغيت الإنس والجن أو إلى أصنام على ما يعتقدون فيها من الحياة والعقل. {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} الآية غاية في نفي الخير عن هذه المعبودات من حيث أن اتباع الهوى عند الدعاء مقدور لعابديها غير مقدور لها فهي أوضع رتبة من عابديها، والصامت ضدّ الناطق. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} سادتهم المعبودون من جملة الملائكة والأنبياء والطواغيت وأن المماثلة بالعبودية ويحتمل أنهم الأصنام {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي كعباد {فَادْعُوهُمْ} المستجدي بدعاء مستجاب وأنى لهم من جهة معبوديهم فإن استجابة الدعاء قضاء الحاجة أو الجزاء عليه ولا يقدر عليها إلا الله. {يَبْطِشُونَ} البطش الأخذ والمراد بهذه الأشياء نفي الأفعال دون الأعضاء كما تقول لضعيف: ألك بدن يحتمل هذا الثقل ومعدة تحتمل هذا الطعام، وهذه الآية غاية في نفي الخير عنهم أيضًا من حيث أنهم أوضع من عابديهم، فإن كانت الآيات في الأصنام المنحوتة والمنصوبة فبعضها على اعتبار كونها جمادًا أو بعضها على اعتبار اعتقاد المشركين أو على سبيل التشبيه، وإن كانت بعضها في الأصنام وبعضها في الملائكة والأنبياء أو الطواغيت فذلك اعتبار أوهام المخاطبين وعقولهم كأن بعضهم لا يعرف إلا ما يشاهد وبعضهم متوهم وراء المشاهدات أزواجًا وأنفسًا فعمهم بالإنكار بهذه الآيات بعضها في بعض. {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي} فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا القول ¬

_ = فالشرك مصدر ولا بد من حذف مضاف أي: ذوي شرك بمعنى إشراك فهو في الحقيقة اسم مصدر، وأما قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم {شِرْكًا} بكسر الشين وتسكين الراء وتنوين الكاف ويكون التقدير كما قال الأخفش ومكي وأبو البقاء: جَعَلا لغيره شِرْكًا. [الإملاء (1/ 390)، الحجة ص 304، البحر (4/ 440)، الدر المصون (5/ 535)].

{وَتَرَاهُمْ} خطاب للنبي -عليه السلام- (¬1) والضمير عائد إلى الأصنام، وقيل: إلى المخاطبين. {الْعَفْوَ} الصفح والمنازلة وذلك قبل آية السيف أو بعد ما يظهرون من أنفسهم الإيمان أو خاصة في الذراري والنسوان، وعن ابن عباس (¬2): العفو الزكاة والعرف المعروف كله، وقيل: إنه كلمة الإخلاص وكذلك قوله {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} [المرسلات: 1] هم الأنبياء الذين أرسلوا بكلمة لا إله إلا الله. (النزغ) الهمز والوسوسة والأذى والإغراء. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} مبتدأ جملة {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} خبره {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} لمفاجأة الإبصار حالة التذكير والتذكير ذكر الله، و (الإبصار) إبصار الخير والشر على سبيل التمييز بعد إمدادهم. {لَا يُقْصِرُونَ} ولا يكفون بأنفسهم أيضًا عن الغي. {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} كانت قريش إذا سكت رسول الله أيامًا {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} ألفاظًا حسنة فتقولتها يطالبون بالآيات على ظن أنه ربما انقطع فأنزل الله. {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} عن أبي هريرة وابن المسيب أنها نزلت في الصلاة (¬3)، وعن مجاهد أن النبي -عليه السلام- (1) كان يقرأ في الصلاة فسمع ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 641)، وابن أبي حاتم (1638)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 154) إلى ابن المنذر، وهكذا روي أيضًا عن السدي والضحاك. (¬3) أما عن أبي هريرة فرواه ابن جرير (10/ 660)، وابن أبي حاتم (5/ 1645)، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (279). وأما عن سعيد بن المسيب فرواه ابن جرير (10/ 660) والبيهقي في القراءة خلف الإمام، ص 269، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 30).

قراءة فتى من الأنصار فأنزل الله (¬1)، وعن أبي هريرة عنه -عليه السلام- أنه قال: "إنما جعل الإمام إمامًا ليؤتم به ... " (¬2) الخبر، وعن جابر مرفوعًا: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (¬3)، وعن مجاهد أنها نزلت في الخطبة (¬4)، ويجوز أنها نزلت فيهما، والإنصات سكوت في استماع. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي راقب بالقلب دون الجهر في القول إبانه بالتسبيح والتهليل والقراءة في الصلاة {وَالْآصَالِ} جمع أصيل وهو ما بين العصر إلى المغرب (¬5). {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} هم الذين علمهم به علم المشاهدة من غير اجتهادٍ وكسب، وهم الملائكة والأنبياء والصديقون والشهداء، والفائدة عن الأخبار وعن حالهم هو التطميع لمن اقتدى بهم أن يلحقهم في رتبتهم بإذن الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) ابن أبي حاتم (5/ 1646)، والبيهقي (2/ 155). (¬2) أبو داود (604)، والنسائي (920، 921)، وابن ماجه (846)، والحديث صحيح. (¬3) ابن ماجه (850)، والحديث حسنه الشيخ الألباني رحمه الله. (¬4) أخرجه ابن جرير الطبري (66480)، وسعيد بن منصور في سننه (976)، وابن أبي شيبة (2/ 478). (¬5) قاله ابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 669)، ونقله ابن الجوزي عن أبي عبيدة: [زاد المسير (2/ 184)]، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: لعمري لأنْتَ البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأَصَائِلِ

سورة الأنفال

سُوْرَةُ الأَنْفَال مدنية، نزلت بعد سورة "البقرة" (¬1) بالمدينة (¬2)، وعن ابن عباس وقتادة: إلا سبع آيات نزلت بمكة قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] (¬3)، وقيل: نزلت آية واحدة بمكة وهي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64] (¬4) وهي ست وسبعون آية حجازي بصري. ¬

_ (¬1) أجمعت كل التفاسير على مدنيتها، وقوله أنها نزلت بعد سورة "البقرة" هو مستنتج من أنها نزلت في معركة بدر، وقد ورد بأسانيد بعضها صحيح وحسن، ورواه أبو داود (2740)، والترمذي (3079)، والنسائي في الكبرى (11196)، وابن جرير (11/ 15 - 16)، وابن أبي حاتم (5/ 1650). (¬2) في "أ": (بالمدينة)، وفي البقية (بمدينة). (¬3) هذا القول ذكره القرطبي في تفسيره (7/ 316) عن ابن عباس، وحكاه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 316) عن الماوردي. والآيات السبعة ذكر السيوطي في "تفسير الجلالين" (226) أنها الآيات (30 - 36) من قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ} إلى قوله: {يُحْشَرُونَ}. وقد ورد عن ابن عباس عدة روايات أنها نزلت في مكة كما عند ابن جرير (11/ 134، 135)، وابن أبي حاتم (5/ 1686)، وأبو نعيم في الدلائل (154)، والبيهقي في الدلائل (2/ 468)، وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 480). أما عن قتادة فلم يرد نص صريح، ولكن هناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه (9743)، وعزاه في الدر المنثور لعبد بن حميد (7/ 99 - 100). بينما نقل الثعالبي في "الجواهر الحسان" أن مجاهد كان يرى أنّ الآية (30) فقط نزلت في مكة. (¬4) ذكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمر يوم إسلامه كما عند البزار (2495 - كشف)، وهناك رواية أخرى عند الطبراني في الكبير (12470)، وهو مروي عن سعيد بن جبير كما عند ابن أبي حاتم (5/ 1728)، ومروي عن سعيد بن المسيب عند أبي الشيخ كما في الدر المنثور (7/ 192).

بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} نزلت في غزوة بدر (¬1) في شهر رمضان سنة اثنتين، وسبب غزوة بدر أن عيرًا لقريش قدم من الشام فيهم أبو سفيان وعمرو بن العاص، فأراد النبي -عليه السلام- (¬2) أن يخرج إليهم فيغير عليهم وهو يريد العير والله يريد النفير، فكان ما أراد الله. وذلك أن أبا سفيان سمع بخروج النبي -عليه السلام- فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستنجدًا مستنفرًا، وكانت (¬3) عاتكة بنت عبد المطلب (¬4) قد رأت في المنام قبل مقدم ¬

_ (¬1) لا خلاف أن آية الأنفال نزلت في غزوة بدر لكن اختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: الأول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا"، فأما المشيخة، فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان، فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فإنا كنا لكم رداء، فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت سورة الأنفال. روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بسند حسن. أخرجه أبو داود (2737)، والنسائي في التفسير (217)، والبيهقي (6/ 291)، والحاكم (2/ 131) وصححه ووافقه الذهبي. القول الثاني: أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفًا يوم بدر، فقال: يا رسول الله، هبه لي، فقال: "اذهب فاطرحه في القبض". فرجعت، وبي ما لا يعلمه إلا الله، فما جاوزت إلا قريبًا حتى نزلت آية الأنفال فقال رسول الله: "اذهب فخذ سيفك". أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 370)، وسعيد بن منصور (2689)، وأحمد (1/ 180)، وأخرجه مسلم مختصرًا (1748) وغيرهم. والقول الثالث: أن الأنفال كانت خالصةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لأحد منها شيء فسألوه أن يعطيهم منها شيئًا فنزلت هذه الآية. روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وسنده فيه ضعف. أخرجه البيهقي (6/ 293)، والطبري (15679) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في الأصل و"ي": (كان). (¬4) عاتكة بنت عبد المطلب بن هشام، عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت زوج أبي أمية بن المغيرة والد أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو عمر بن عبد البر: اختلف في إسلامها والأكثرون يأبون ذلك، وذكرها العقيلي في الصحابة وكذا ابن حجر في الإصابة، وذكر ابن إسحاق أنه لم يسلم من عمات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا صفية، وذكر ابن فتحون في =

ضمضم أن رجلًا قدم على بعير له فوقف بالأبطح وقال: انفروا يا آل عدوًا إلى مصارعكم في ثلاث، ثم صعد أبا قبيس وصرخ ثلاثًا، ثم أخذ صخرة وأرسلها من رأس الجبل فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفله ارفضت فما بقيت دار من دور قريش إلا دخل فيها (¬1) بعضها. فقصَّت عاتكة رؤياها على أخيها العباس بن عبد المطلب وكانا يكتمان إيمانهما (¬2) فقص العبّاس على الوليد بن عتبة وكان صديقًا له، فذكرها الوليد لأبيه وتحدث بها ففشا الحديث فيما بين الناس، قال العباس: غدوت إلى الكعبة لأطوف بها فإذا أبو جهل في نفر من قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة، ثم التفت إليّ فقال: يا أبا الفضل متى حدثت فيكم هذه النبية؟ أما رضيتم يا بني عبد المطلب أن تنبأت رجالكم حتى تنبأت نساؤكم؟! سنتربص بكم هذه الثلاث فإن كان حقًّا فسيكون وإلا كتبنا عليكم كتابًا إنكم أكذب أهل (¬3) بيت في العرب. فلما كان يوم الثالث جاءهم ضمضم بن عمرو ووقف بعيره بالأبطح وقد حول رحله وشق قميصه وأجدع بعيره يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم أموالكم مع أبي سفيان قد عرض محمَّد وأصحابه، ولما سمع العبّاس هذا شمت بهم وطلب أبَا جهل فوجده في المسجد فتتبعه وناداه: كيف رؤيا عاتكة يا مصفرًّا استه؟! وقال أبو جهْل: دعنا عن هذا ¬

_ = ذيل الاستيعاب والدارقطني في كتاب الإخوة أن لها شعرًا تذكر فيه تصديقها بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرها ابن مندة في الصحابة، وقال ابن سعد: أسلمت عاتكة بمكة وهاجرت إلى المدينة وهي صاحبة الرؤيا المشهورة في قصة بدر، ولم يجزم الذهبي بإسلامها فقال في التجريد: قيل أنها أسلمت. [الإصابة (13/ 35)، البداية والنهاية (3/ 256)، تجريد أسماء الصحابة (2/ 285)]. (¬1) في "أ": (دخلها بعضدها). (¬2) ذكر أهل السير أن عاتكة أسلمت وكتمت إيمانها، أما العباس - رضي الله عنه - فذكروا أنه أسلم قبل الهجرة. انظر "سير أعلام النبلاء" (2/ 78)، وقصة رؤيا عاتكة ذكرها مفصلة ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 256)، وابن حجر في الإصابة (13/ 35). (¬3) (أهل) ليست في "ب".

يا أبا الفضل وتأهب للنفير، ولم يجد العباس من الخروج معهم بدًّا إلى أن كان ما كان على ما سبق في "آل عمران" (¬1). واختلفوا في الأنفال هاهنا قيل: إنها الغنائم كلها (¬2)، وعن الحسن أنها ما كان يهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) بقوله (¬4): "من قتل قتيلًا فله سلبه" (¬5) فتسَارع الشبان وبقي المشايخ تحت الرايات محدقين برسول الله فلما فرغوا من القتال قال (¬6) الشبان: هذه الأموال تنفل لنا رسول الله، وقالت المشايخ: نحن كنا ردءًا لكم (¬7) فأشركونا فيها، وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إن دفعت المال إلى (¬8) من نَفَلهم لم يبق لسائر الناس شيء (¬9)، فانتزع الله الأمر (¬10) من أيديهم ورده إلى رسوله ليستأنف فيه حكمًا على ما يرى فيه من ¬

_ (¬1) لم نجد هذه الرواية بنصها ولكن وردت روايات قريبة منها، من ذلك ما رواه البيهقي في الدلائل مطولًا (3/ 101 - 119). وهي عند الحاكم في المستدرك (3/ 21)، وتقدم أن ابن كثير في البداية والنهاية ذكرها مطولة (3/ 256). (¬2) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري (11/ 19) بل ورد مرفوعًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الناس سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم يوم بدر فنزلت الآية. أخرجه الطبري أيضًا في تفسيره (11/ 20)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 159) إلى ابن مردويه. (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬4) في الأصل و"ي": (لقوله). (¬5) الحديث صحيح أخرجه أبو داود (2718)، والدارمي (2/ 229)، والإمام أحمد (3/ 114)، والحاكم وقال: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين: "من قتل رجلًا فله سلبه" فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم، وصححه العلامة الألباني -رحمه الله- في الإرواء (5/ 51/ 1221). (¬6) في "أ" "ي": (قالت). (¬7) في الأصل: (رداءكم). (¬8) (إلى) ليست في الأصل. (¬9) أما عن الحسن فلم أجده وقد وردت في ذلك روايات متعددة منها عن ابن عباس عند أبي داود (2737 - 2739)، والنسائي في الكبرى (11197)، وابن جرير (11/ 12، 13)، وابن حبان (5093)، والحديث صحيح. (¬10) (الأمر) ليست في "أ".

المصلحة. وعن عطاء عن ابن عباس (¬1): المراد بالأنفال ما شذ عن الغنائم من عبد أو دابة، والآية منسوخة على الأقوال الثلاثة بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية، وقيل: الآية نزلت في الخمس يحكم فيه الإمام باجتهاده، وقيل: هي كل الغنائم قبل الإحراز، والآية غير منسوخة (¬2) على هذين (¬3) القولين، والتنفل في اللغة الزيادة من الخير قال: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل (¬4) والسؤال عن كيفية القسمة وكميتها. وفي مصحف عبد الله وأبي (¬5) {يسألونك الأنفال} أي: يطلبونها منك وقد فهم الأمران (¬6) جميعًا {ذَاتَ بَيْنِكُمْ} حالتهم التي تجمعهم (¬7). ¬

_ (¬1) ورد عن عطاء عند ابن أبي شيبة (12/ 426)، وابن جرير (11/ 7، 9)، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (457، 458). وأما عن ابن عباس فرواه مالك في الموطأ (2/ 455)، وابن أبي شيبة (12/ 427)، وابن جرير (11/ 8، 9)، وابن أبي حاتم (5/ 1651)، والنحاس في ناسخه (456، 457). (¬2) من قوله: (على الأقوال) إلى قوله: (غير منسوخة) ليست في "أ". (¬3) الذين قالوا إنها منسوخة نسخها قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...} [الأنفال: 41] منهم مجاهد وعكرمة والسدي وابن جريج. وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة منهم سعيد بن المسيب. [الطبري (11/ 24)]. (¬4) البيت للبيد بن ربيعة وهو في ديوانه ص 174، وقد ذكره أكثر المفسرين، انظر الطبري (11/ 11)، والقرطبي (7/ 316)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 318)، وابن كثير (2/ 375)، والزمخشري في الكشاف (1/ 444)، وانظر كذلك بعض الكتب العقدية مثل اللالكائي في "شرح أصول السنة" (4/ 705)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 289) في إثبات القدر لبعض أهل الجاهلية. وأوردها كذلك أبو نعيم في الحلية (3/ 369)، وابن عساكر في تاريخه (15/ 154). (¬5) أما قراءة ابن مسعود فقد ذكرها ابن جرير (11/ 19)، وأما قراءة أبي بن كعب فذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 318) وذكر أيضًا قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬6) في "أ": (الأمران أن جميعًا). (¬7) قال الزجاج: معنى "ذات بينكم" حقيقة وصلكم. والبين: الوصل ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعَام: 94] أي وصلكم. [زاد المسير (2/ 188)، معاني القرآن للزجاج (2/ 400)].

27 {وَجِلَتْ} خافت وفزعت وهذه الحكمة هي الأولى، وأما الحكمة الثانية فالاطمئنان (¬1) والاستئناس، قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} على الإيمان المعهود من وجهين: أحدهما الأسباب والأدلة، والثاني الإيمان الحادث بالنازل الحادث. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} رد على الذين يشكون في إيمانهم {حَقًّا} نصب على التأكيد {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الحظ الجميل المحمود - يعني: في الآخرة إن شاء الله. {كَمَا} التشبيه لكون الأنفال لله أي هي لله، كما كان إخراجك من (¬2) بيتك إلى الله وإن كرهه فريق من المؤمنين، وقيل: التشبيه لسؤالهم عن الأنفال واختلافهم فيها، أي: جادلوك فيها كما كرهوا الخروج فجادلوك فيه أوّل مرة، وإنما (¬3) كان السبب في ذلك أن النبي -عليه السلام- (¬4) كان قد خرج إلى العير ووعدهم الله في الطريق أحد شيئين: إما الظفر بأموال العير (¬5) الذي خرج قاصدًا إليها. وإما النصر عند الالتقاء، وكان الظفر بأموال العير أقرب وأسهل على ما قدّروه وأحبهم إليه من لقاء العدو؛ لأنهم لم يكونوا تأهبوا للقتال كل التأهب، فلما سمعوا أن أبا سفيان أخذ طريقًا آخر وأنهم ملاقو العدو لا محالة كرهوا ذلك، وقالوا لرسُول الله: أخرجتنا قاصدين إلى العير ولم تخبرنا بلقاء العدو حتمًا، وخافوا على أنفسهم خوفًا طبيعيًا، وإن كانوا معتقدين بأن (¬6) الله منجز وعده ومسلطهم {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} لا محالة ¬

_ (¬1) (فالاطمئنان) بياض في "أ". (¬2) (من) ليست في "ب" "ي". (¬3) في "أ": (فإنما). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) من قوله: (الذي خرج) إلى قوله: (بأموال العير) ليست في "أ". (¬6) في الأصل: (بإذن).

ليذكروا (¬1) الله تعالى حالتهم (¬2) تلك على وجه الملامة ليتكلفوا مخالفة الطبيعة في المسارعة إلى أمره ورسوله. {فِي الْحَقِّ} (¬3) أي بالأمر الحق أو بالوعد الحق (¬4)، وفي الحق بيان الجهاد من {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} أي بعد ما ظهر أنه أمر الله أو من بعد ما ظهر أنه أمر الله (¬5)، أو من بعد ما ظهر أنه لهم لا عليهم، وإنما كان ظهر ذلك لهم بوعد (¬6) الله، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ} تشبيه لحالة خوفهم، أي: يجتنبون الموهوم كأنهم يحشرون، أي يشاهدون فيه الهلاك والموت لا محالة، وإن عطفت على جملة فعلية (¬7) محله نصب بوقوع الذكر المقدر عليه. قيل: إن النبي -عليه السلام- لما كان ببعض الطريق بعث عدي بن أبي الزغباء عليًا على العير، ونزل جبريل -عليه السلام- (¬8) مخبرًا بنفر قريش ومبشرًا بالاستيلاء على إحدى الطائفتين: إما العير (¬9)، وإما النفير، فأشاروا عليه بالعير فأعاد كلامه، فأشاروا عليه بالعير، وقالوا: إنما أخرجتنا للعير وليست معنا أهبة القتال، فأعاد عليهم كلامه فأشاروا عليه بالعير حتى قام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله انظر أمرك وامض فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلّف عنك رجل من الأنصار، ففرح النبي -عليه السلام- (¬10) حتى عرف السرور في وجهه، وقال المقداد بن الأسود الكندي: إنا لا نقول كما قال ¬

_ (¬1) في الأصل: (لذكروا). (¬2) في "ب": (حالهم). (¬3) الآية في كل النسخ "بالحق" وهو خطأ. (¬4) (الحق) ليست في "أ". (¬5) من قوله: (أو من) إلى قوله: (الله) ليست في "أ"، وفي "ب": (أنه) سقطت. (¬6) (لهم بوعد) ليست في "ب". (¬7) (فعلية) من الأصل فقط. (¬8) في "ب": (-عليه السلام-)، وفي "ي": (السلام) سقطت. (¬9) في "أ": (الغير). (¬10) (السلام) ليست في "ي".

بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] (¬1) ولكنا نقول: امض لأمر ربك (¬2) فإنا بين يديك مقاتلون ما دامت عين منا تطرف (¬3). {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل عن {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}. {الشَّوْكَةِ} البأس والشدة والحدة (¬4)، فذات الشوكة هاهنا النفير و {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} العير (¬5) لتغتنموا من غير قتالٍ، وأراد الله أن يسلطهم على ذات الشوكة ليقطع دابر الكافرين، روي أنهم (¬6) لما ظفروا بالعدو وفرغوا مِن القتال والأنفال طمعوا في العير قالوا: يا رسول الله عليك بالعير، فقال العباس وهو أسير مشدود: لا ينبغي لك يا رسول الله، قال: ولم؟! قال: لأن الله وعَدَك إحدى الطائفتين، وقد أنجز (¬7)، وهذا دليل على إيمان العباس وعقله وفطنته قبل ظهور إسلامه. ¬

_ (¬1) في الأصل (وربك). (¬2) في "أ" الآية: {فَاذْهَبْ ... فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المَائدة: 24]. (¬3) ذكره ابن هشام في سيرته (1/ 615) عن ابن إسحاق ولنا على هذا الرواية هاتان الملاحظتان: 1 - قول سعد بن معاذ ناقشه ابن حجر في فتح الباري (7/ 288) أن سعد بن معاذ لم يشهد بدرًا وأنه قال ذلك في صلح الحديبية. 2 - أن قائل هذا القول هو المقداد بن الأسود، ويؤيده ما ثبت في البخاري أن ابن مسعود قال: "شهدت لمقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه ... ". وهذه القصة رواها ابن جرير بطولها في تفسيره (11/ 41)، وتاريخه (2/ 427). (¬4) ذات الشوكة: أي ذات السلاح ومنه قولهم: فلان شاكي السلاح، قال أبو عبيدة: الشوكة الحد يقال: ما أشد شوكة بني فلان، أي حدهم. وقال الأخفش: إنما أنَّثَ "ذات الشوكة" لأنه يعني به الطائفة. [الطبري (11/ 40)، زاد المسير (2/ 190)]. (¬5) المراد بالنفير: أبو سفيان بن حرب، والعير: المراد بها العير التي أقبلت من مكة متوجهة إلى الشام. (¬6) في "أ": (أنه). (¬7) الترمذي (3080)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 255)، والطبراني (11733)، والبيهقي في الاعتقاد (263)، والحاكم (2/ 357)، وابن عساكر في تاريخه (26/ 291 - 292) والحديث ضعيف السند.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} إحقاق الحق: إثبات في المشاهدة لما ثبت في العقل، وإبطال الباطل: إزهاق في المشاهدة لما زهق في العقل. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} الاستغاثة طلب الغوث وهو عون الملهوف، و (الرادفة) (¬1) أن تتبع الشيء الشيء قال: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] واللام مفخمة و (الترادف) التتابع. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} قيل: إن الله تعالى ألقى عليهم النوم والأمن ليلتئذٍ حتى احتلم بعضهم ثم أصبحوا على غير ماء، فوسوس لهم الشيطان بأنهم لو كانوا على الحق لوجدوا مَاء يتطهرون به لصلاتهم، فأرسل الله عليهم مطرًا حتى اغتسلوا وشربوا (¬2)، وكان الموضع تسوخ فيه الأقدام لكثرة الرمل فاشتد بذلك الوشي (¬3) أيضًا فثبتت عليه أقدامهم، و (الربط على القلب): هو عقدها بالصبر الحائل بينه وبين الجزع والوجل والهلع والفشل {بِهِ} راجع إلى الماء وإلى الربط، و {الْأَقْدَامَ} جمع قدم وهو من الرجل كالكف من اليد. {فَثَبِّتُوا} تثبيت الملائكة المؤمنين إنما كان على سبيل التشجيع دون القتال، وقيل: تثبيتهم إياهم مشاركتهم في القتال تشريفًا لهم، ولو شاء الله لأهلكهم بمَلَك (¬4) واحد منهم {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} ما فوق الأعناق وهو الرأس، وقيل: فوق زيادة وصلة مثل (على) نقول: ضربت الشيء وضربت عليه بمعنى (¬5)، و (العنق): الرقبة، وهو المتوسط بين الرأس والصدر ¬

_ (¬1) في الأصل: (والرواقة). (¬2) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 58) لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس. (¬3) في الأصل: (الشيء). (¬4) في الأصل: (بذلك). (¬5) قوله تعالى: {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفَال: 12] إما أن تكون {فَوْقَ} باقية على ظرفيتها، أي فاضربوا الرؤوس كما ذكر المؤلف، وقال أبو عبيدة: إنها بمعنى (على) أي على الأعناق. وقال الأخفش: إنها زائدة بمعنى: اضربوا الأعناق. [المجاز لأبي عبيدة (1/ 242)، معاني القرآن للأخفش (2/ 319)].

{بَنَانٍ} (¬1) أطراف من الأيدي والأرجل واحدتها بنانة، فإن كان الأمر للمؤمنين فالمراد ضربهم بالسيوف والمقارع، والمراد ببيان هذه المواضع إباحة القتل من كل وجه، وإنْ كان الأمر للملائكة، فالمراد بالضرب: ضربهم بما شاء الله من سلاح أو جناح على سبيل القتل (¬2)، أو (¬3) التسويم والرد والطرد، ذلك إشارة إلى الإمداد والإرداف أو الأمر بالقتل. {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} خطاب متوجه إلى الكفار من جهة الله تعالى أو من جهة الملائكة عند معاينة البأس، تقديره: ذلكم جزاؤكم {فَذُوقُوهُ} أو ذوقوا {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} معطوف على {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. {زَحْفًا} الزحف التقرب إلى الشيء قليلًا قليلًا، وأكثر استعماله فيما له أرجل كثيرة وهو مقدر هاهنا أقيم مقام الاسم، أي: زاحفين. {مُتَحَرِّفًا} مائلًا نصب على الحال (¬4)، وتقديره: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} على أي حال كان {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}، و (التحيز والانحياز): التنحي، وفيه معنى النقيض {إِلَى فِئَةٍ} قال ابن عباس أنها الكتيبة العظمى في المعركة، وعن أبي سعيد الخدري أنهم لو تحيزوا إلى فئة في دار الإسلام لم يكونوا منهزمين (¬5)، قال ابن عمر: خرجت سرية وأنا فيهم ¬

_ (¬1) (بنان) ليست في "أ". (¬2) في الأصل جاءت العبارة مضطربة، والمثبت من بقية النسخ. (¬3) في الأصل: (والتسويم) بدل (أو). (¬4) جَوَّز الزمخشري النصب على الحال وتكون "إلا" لغوًا. وجَوَّزَ أيضًا النصب على الاستثناء فيكون مستثنى من المُوَلَّين، والتقدير: ومن يولهم إلا رجلًا منهم متحرفًا أو متحيزًا. ورجح السمين الحلبي أن تكون استثناء من حال محذوفة، والتقدير: ومن يولهم ملتبسًا بأية حال إلا في حال كذا. [الكشاف (2/ 149)، البحر (4/ 475)، الدر المصون (5/ 585)]. (¬5) رواية ابن عباس وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - ذكرها ابن الجوزي في تفسيره (2/ 195).

ففروا فلما رجعوا إلى المدينة استجبنوا من الناس، فسألوا رسول الله: أنحن الفرارون؟ قال: "بل أنتم العكارون وأنا فئتكم". قال ثعلب: العكارون العطافون (¬1)، ثم يحتمل أن الآية مجملة لا يمكن العمل بظاهرها، وتفسيره {مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] ويحتمل أنها كانت عامة يمكن العمل بظاهرها عند الإتيان على النفس، ثم خصّصها قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ}، ثم نسخت تلك الآية بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفي هذه الأفعال عن فاعلها وإسنادها إلى الله من جهة وقوعها يومئذ معجزة إلهية خارجة عن طوق البشر والرسم الموضوع المعهود. روي أن النبي -عليه السلام- (¬2) أخذ كفًا (¬3) من حصى الوادي يوم بدر ورمى به في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" (¬4)، وروى الزهري عن ابن المسيب أنه -عليه السلام- رمى يوم أحد أُبيَّ بن خلف (¬5)، وعن عبد الرحمن بن جبير أنه -عليه السلام- دعَا بقوس في محاربة اليهود فرمى عليها بسهم إلى الحصين فأصاب كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فقتله (¬6)، {وَلِيُبْلِيَ} معطوف على مضمر تقديره: ليهلكهم {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ}. {ذَلِكُمْ} الذي سمعتم حق أو صدق واعلموا أن الله، ويجوز أن ¬

_ (¬1) قريبًا منه عند البخاري في "الأدب المفرد" (972)، وأحمد (2/ 70، 86، 100، 110)، وسعيد بن منصور في سننه (2539)، وابن سعد (4/ 145)، وابن أبي شيبة (12/ 535، 536)، وأبو داود (2647، 5223)، والترمذي (1716)، وابن ماجه (3704)، وابن أبي حاتم (5/ 1671) والحديث فيه ضعف. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في الأصل: (أخذها). (¬4) الطبري (11/ 84، 85)، وابن أبي حاتم (5/ 1672)، والطبراني في الكبير (3128) وغيرهم، وسنده حسن. (¬5) الطبري (11/ 87)، وابن أبي حاتم (5/ 1673). (¬6) ابن أبي حاتم (5/ 1673).

يكون {ذَلِكُمْ} في محل النصب بإضمار اعلموا الإيمان (¬1). و (التوهين): إحداث الوهْن والضعف. كان المشركون (¬2) عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللَّهم انصر أحب الفئتين إليك، وكان أبو جهل يقول يوم بدر (¬3): "اللَّهمَّ أقطعنا للرحم وأفسدنا للجماعة فأحنه اليوم" فنزلت {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} (¬4). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} اتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر مجادلتهم في الخروج، والواو في قوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} للحال أي لا يتولوا عنه سامعين دعاءه إياكم، وأما (¬5) من لم يسمع فهو معذور (¬6). {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ} نزلت في بني عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا اثنان وكان أكثرهم منافقين (¬7)، وقيل: نزلت في الذين قالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31] (¬8) أخبر أنهم لم يسمعوا سمع الانتفاع والاعتبار. و {شَرَّ الدَّوَابِّ} الناس بدليل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) يجوز أن يكون "ذلكم" مرفوعًا على الابتداء، والتقدير: ذلكم الأمر والخبر محذوف؛ قاله الحوفي، وذهب سيبويه إلى أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلكم. [الكتاب (1/ 463)، الدر المصون (5/ 587)]. (¬2) في "أ" بدل (كان المشركون): (كالمشركين). (¬3) (يوم بدر) ليست في "أ". (¬4) في "ب" "ي": اليوم {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} الآية. وفي "أ": (اليوم فنزلت {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} الآية). (¬5) في الأصل: (ولها). (¬6) في الأصل (موزون). (¬7) أحمد (5/ 431)، والنسائي في الكبرى (11201)، وابن أبي شيبة (14/ 359)، وابن جرير (11/ 91، 93)، وابن أبي حاتم (5/ 1675)، والحاكم (2/ 328)، والبيهقي (3/ 74) والحديث صحيح. (¬8) روي ذلك عن ابن عباس، أخرجه البخاري (4646)، وابن جرير (11/ 101)، وابن أبي حاتم (1677)، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 336).

كَفَرُوا} [الأنفال: 55] جمعهم جمع العقلاء، {الصُّمُّ الْبُكْمُ} الذين لا يسمعون إلى الحق ولا ينطقون بالحق، والمراد بالذين {لَا يَعْقِلُونَ} المخاذيل عن العمل بقضية العقل. {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} يدل على تفاوت طبائع السعداء والأشقياء، وأن السعيد مجبول على خير طبيعي متقدم على الخير الكسبي مظهر عند التوفيق للكسب، ثم يثمر الاستقامة، وأن الشقي غير مجبول عليه فلم (¬1) يستقم وإن وفق للاستماع والاعتبار. {لِمَا يُحْيِيكُمْ} إحياء القلوب للتفكر والاعتبار بروح الإلهام والقرآن وإحياء الشهداء للثواب قبل يوم البعث، و (الحائل) الحاجز وقوله: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي: يملك قلبه فيقلبه كيف يشاء إن شاء جعله مشرقًا بنور الغيب وإن شاء جعله ميتًا محجوبًا. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} عامة ما يعم الفاسق والمداهن؛ عن ابن عباس (¬2). والعصبيّة عن غيره قال ابن الزبير العوام (¬3) {لَا تُصِيبَنَّ} كالصفة للفتنة، وإنما دخلت النون المشددة بإضمار قسم: رأيت رجلًا والله لا يكون له نظير، يقيم القسم وجوابه مقام الصفة. {إِذْ أَنْتُمْ} عدد قليل أو شيء قليل ولو وصف آحاد الجماعة بالقلة ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (فلا)، وفي "أ": غير موجودة. (¬2) الذي روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية أنه قال: أمر الله المؤمنين ألاَّ يُقِرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 115)، وابن أبي حاتم (1682). (¬3) لم نجدها عن ابن الزبير لكن ورد عن أبيه الزبير بن العوام في هذه الآية عن مُطَرَّف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله، ضيعتم الخليفة حتى قُتِل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير: إنا قَرَأْنَا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفَال: 25] ولم نكن نحسب أنَّا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 31 - 47)، والبزار (976)، وابن عساكر (18/ 405) وإسناده جيد.

لقال إذ أنتم قليلون {النَّاسُ} كفار قريش؛ عن عكرمة وقتادة والكلبي (¬1)، وقيل: فارس والروم (¬2)، {فَآوَاكُمْ} أراد تبويئه المدينة مراغمًا ومهاجرًا لهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا} نزلت في (¬3) الغلول، وقيل: في أبي لبابة بن عبد المنذر (¬4) حيث استشاره بنو قريظة في النزول عن الحصن على حكم رسول الله فقال لهم بلسانه: انزلوا وأشار بيده إلى الحَلق، أي إنْ نزلتم (¬5) على حكمه، وإنما حمله على ذلك مال له (¬6) كان عندهم في الحصن فخاف عليه النهب إن فتحوا (¬7) الحصن، قال أبو لبابة: ما برحت ¬

_ (¬1) رواه عن الثلاثة الطبري في تفسيره (11/ 118)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 258)، وابن أبي حاتم (1682). (¬2) روي ذلك عن وهب بن مُنَبَّه. أخرجه عنه الطبري في تفسيره (11/ 119) ورجح الطبري أن المراد بالناس هم كفار قريش. (¬3) اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فذكر المؤلف سببين: الأول: أنها نزلت في الغلول. والثاني: أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر. وهذان السببان ذكرهما المؤلف. والثالث: ما قاله جابر بن عبد الله: أن جبريل -عليه السلام- أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "اخرجوا إليه واكتموا" فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمدًا يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت هذه الآية. الرابع: أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قاله المغيرة بن شعبة. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 122). والخامس: أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وأولى الأقوال كما قال الطبري أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله وخيانة أمانته، وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة أو في غيره، ولا خبر عندنا بأي ذلك كان يجب التسليم له بصحته. [الطبري (11/ 122)، زاد المسير (2/ 202)]. (¬4) في "أ": (أمامة عند ابن المنذر). (¬5) في "ب": (أي أنزلتم). (¬6) في "ب": (ماله). (¬7) في الأصل: (اقتحموا).

قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله، قيل: ولم يأكل أبو لبابة طعامًا ولا شرابًا سبعة أيام وخرّ مغشيًا عليه حتى بين الله توبته (¬1)، فائدة ذكر الأموال والأولاد التنبيه على أنها من دواعي الخيانة. {فُرْقَانًا} مخرجًا في الدنيا والآخرة عن ابن عباس ومجاهد والضحاك (¬2). {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} اجتمعت جبابرة قريش في دار الندوة يدبرون في أمر رسول الله، ودخل معهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ نجدي، ثم قالوا فيما بينهم: "إنّ محمدًا ليس تمر الأيام والشهور إلا يزداد ويعظم شأنه وإنا نخشى أن نقاسي منه أكثر مما قاسينا إلى اليوم، فما الحيلة في تطفئة ناره وتجلية غباره، وقال عمرو بن هشام: أرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيت وتسدوا عليه الباب وتخلوا كوة تطرحون إليه منها قوتًا يعيش به إلى أن يموت، فقال إبليس لعنه الله: بئس الرأي ما رأيت فإن أقاربه يتعصبون (¬3) إذًا ويستنقذونه، قالوا جميعًا: صدق الشيخ النجدي، ثم قال أبو البختري بن هشام: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير وتخرجوه من أرضكم يذهبُ حيث يشاء، قال إبليس (¬4): بئس الرأي ما رأيت، كأني به (¬5) إذًا وقد كثر عليكم (¬6) بعسكر لجب لينتقم منكم، قالوا جميعًا: صدق الشيخ النجدي، ثم قال الفاسق أبو جهل لعنه الله: لكني أرى أن يجتمع من كل بطن ورهط واحد ومعه سيفه، ثم نمشي جميعًا ونضربه ضربة رجل ¬

_ (¬1) ابن جرير (11/ 121، 122)، وابن أبي حاتم (5/ 1684)، سعيد بن منصور (987 - تفسير) وهو مرسل. (¬2) أما عن ابن عباس فهو عند ابن جرير (11/ 129)، وابن أبي حاتم (5/ 1686). وأما عن مجاهد فعند الطبري (11/ 129). وأما عن الضحاك فذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 346). (¬3) في الأصل: (افازته يتعصبون). (¬4) (إبليس) ليست في "ب" "ي". (¬5) (به) ليست في "ب". (¬6) في "ب": (وقد كربكم بعسكر).

واحد، وديناه إلى عشيرته ولا يقدرون على المطالبة بالقود فإنهم لا يقاومُون قريشًا بأجمعهم، قال إبليس: صدق هذا الشاب والرأي ما رآه، وأثنى عليه، فتفرقوا على ذلك وهبط جبريل -عليه السلام- يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويأذن له في الهجرة، فلما كان ليلة الاغتيال وثب عن (¬1) فراشه وخلّف عليًا مكانه وخرج من باب بيته وإذا هم وقوف مجتمعون فصرف الله أبصارهم عنه حتى أخذ التراب وحثى على رؤوسهم، ثم انطلق إلى أبي (¬2) بكر فصحبه أبو بكر في الهجرة (¬3) وكانا قد دبرا في ذلك من قبل فوفقهما الله تعالى لذلك فنزلت الآية (¬4)، يذكر الله نعمته وإن كان هو ذاكرًا ليزداد شكرًا أو ليعتبر به المعتبرون. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} نزلت في المشركين الذين تحداهم رسول الله (¬5) بمثل سورة من القرآن عامة وفي النضر بن الحارث بن كلدة كان يتحيز إلى الروم وفارس ويسمع أقاصيص رستم وإسفنديار فقال (¬6): قد سمعنا القرآن ولو شئنا لقلنا مثله (¬7)، وقد كذب الملعون وادّعى ما لا يقدر عليه وأصحابه، ولو قدروا لقالوا شيئًا مع طول المحاورة (¬8) والمجاورة وكثرة التحدي، فإن ذلك لو قدروا عليه لكان أيسر في ردّ النبي -عليه السلام- وأهون وأوحد وأمكن من القتال وبذل الأموال ومصادفة الرجال، ألا ترى أن طليحة الأسْدي ومسيلمة الكذاب كيف تكلفا وتوخيا المقابلة بما افتضحا به، حتى قال أبو بكر الصدَّيق لطليحة وأصحاب ¬

_ (¬1) في "ب": (على). (¬2) في الأصل: (أبو). (¬3) في الأصل: (المفجرة). (¬4) قريبًا منه عند ابن هشام في السيرة (1/ 480) عن ابن إسحاق، وابن جرير (11/ 134، 135)، وابن أبي حاتم (5/ 1686)، وأبو نعيم في الدلائل (154)، والبيهقي في الدلائل (2/ 468). (¬5) في "ب": (الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) في الأصل: (وقال). (¬7) ابن جرير (11/ 143) عن سعيد بن جبير. (¬8) في "ب": (المجاوزة).

مسيلمة: ويْحَكم هذا الكلام لم يخرج من أل (¬1)، فاعترفوا له بالاغترار والخسران والإدبار. {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} نزلت في النضر بن الحارث أيضًا وأصحابه (¬2)، فلم يمطر بالحجارة ولكن قتل صبرًا يوم بدر فذاق العذاب الأليم (¬3)، قال أبو عبيدة: يقال في العذاب (أمطر) وفي الرحمة (مُطر) (¬4). {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} كأنهم لما دعوا بهذا الدعاء ولم يمطروا ولم ينزل بهم عذاب ازدادوا جرأة واتهام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المؤمنون تعجبوا بتأخير العذاب بعد دعائهم هذا، فبين الله تعالى وجه تأخير العذاب عنهم فإن الله تعالى لم يعذب قومًا قط حتى خرج نبيهم من بينهم كانت هذه سنته في الأمم الخالية {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فهم الذين سبق علم الله فيهم أنهم سيؤمنون ويستغفرون؛ هكذا عن ابن عباس (¬5) في بعض الروايات، وقال قتادة والسدي وابن زيد (¬6): أنه على وجه الترغيب لهم في الإيمان والاستغفار. {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} الآية في إثبات العذاب وتحقيق نزوله بهم عند ارتفاع المعنيين. {وَمَا لَهُمْ} أي: أي شيء لهم من الحجة والعذر أن لا يعذبهم بالاستئصال (¬7) لتلك الحجة أو لذلك العذر، فما خبر عن ¬

_ (¬1) قول الصديق ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/ 326). (¬2) عزاه إليه القرطبي في تفسيره (8/ 285)، وقال: رواه ابن إسحاق ومقاتل، وعزاه ابن الجوزي في زاد المسير (5/ 13) لمقاتل، وذكره ابن جرير (11/ 145) عن عطاء. (¬3) وقيل: نزلت في أبي جهل وهو القائل بهذا؛ قاله أنس بن مالك. أخرجه البخاري في صحيحه (4649)، ومسلم (2796)، والبغوي (997) كلهم من حديث أنس بن مالك. (¬4) نقله عنه ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (334)، والقرطبي (7/ 349). (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 155)، وابن أبي حاتم (1692)، والنحاس في ناسخه ص 464، وذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 350) عن ابن عباس. (¬6) وجدنا رواية السدي فقط رواها ابن أبي حاتم (5/ 1692، 1693). (¬7) في الأصل: (والعذر لا يعذبهم الله أن لا يعذبهما بالاستيصال).

موجب العذاب فقال: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أي يصدون المؤمنين عن الحج والعمرة غصبًا من غير أن يكون إليهم ولاية المسجد الحرام عند الله تعالى وفي حكمه، ثم أخبر الله عن أولياء المسجد الحرام فقال: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}. {مُكَاءً} صفيرًا {وَتَصْدِيَةً} تصفيقًا وتوليد الصدى، والصّدى (¬1): هو الصّوت المنعكس، كانت قريش تصفّر وتصفق وتعتقد أنها صلاة ودعاء وذلك من وسواس الشيطان لهم (¬2) ليصدهم عن التسبيح والتهليل، قال حسّان: إذا قام الملائكة اتبعتم ... صلاتكم التصفير والمكاء (¬3) فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وأخبر بقبح فعلهم وسوء رأيهم {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} خطاب لهم بلغهم (¬4) يوم بدر. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ} نزلت في المطعمين يوم بدر؛ عن الضحاك (¬5)، وفي أبي سفيان حين استأجر ألفي رجل من الأحابيش (¬6) من كنانة واستجاش من سائر العرب يوم أحد؛ عن قتادة (¬7) ومجاهد وغيرهما. ¬

_ (¬1) في الأصل: (والصد). (¬2) (لهم) ليست في الأصل و"أ". (¬3) ذكره نافع بن الأزرق في مسائله عن ابن عباس (63)، وبيت حسان بن ثابت مذكور في لسان العرب (13/ 164 - مكا) صلاتهم التصدي والمكاءُ بهذا اللفظ. (¬4) في الأصل: (بلغتهم). (¬5) المشهور عن الضحاك أنها نزلت في أهل بدر كما عند ابن جرير (11/ 174) وغيره. أما المطعمين وهم اثنا عشر رجلًا منهم أبو جهل وعتبة وشيبة وغيرهم كما عند البغوي (1/ 355) عن الكلبي ومقاتل، ويروى كذلك عن ابن عباس كما في زاد المسير (3/ 355). (¬6) هم أحياء انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشًا، وقيل: حالفوا قريشًا تحت جبل يسمى حبيشًا، انظر: النهاية لابن الأثير (1/ 330). (¬7) عزاه بصورة عامة لقتادة ومجاهد ابن كثير في تفسيره، ولكن رواية الأحابيش معروفة عن سعيد بن جبير كما عند ابن جرير (11/ 170)، وابن أبي حاتم (5/ 1697)، وابن عساكر (23/ 438)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 184) إلى ابن سعد وعبد بن حميد وأبي الشيخ.

{لِيَمِيزَ اللَّهُ} لام المفعول الثاني لـ "يحشرون" (¬1) {إِلَى جَهَنَّمَ} لهذا {الْخَبِيثَ} جنس الكفار {مِنَ الطَّيِّبِ} جنسُ المؤمنين {أُولَئِكَ} إشارة إلى الخبيث {فَيَرْكُمَهُ} يضع بعضه على بعض ومنه السحاب المركوم. {إِنْ يَنْتَهُوا} الانتهاء عن العداوة ولا يصح ذلك إلا بالإِسلام {سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} يوم بدر (¬2) ويهددهم بمثله. {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} كفر إن أجرينا على مشركي العرب ومحاربة الكفار (¬3) وإن أجرينا على العُموم؛ لأن القتال ممتد إلى أن يستسلم أهل الشرق والغرب أجمعون أو تنتهي أيام الدنيا {الدِّينُ} التدين كله للتأكيد {لِلَّهِ} لوجه الله خالصًا. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإسلام والاستسلام {أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} يواليكم وينصركم عليهم. {وَاعْلَمُوا} أي اعتقدوا وهو تكليف وليس بمجرد إعلام ولذلك علقه بشرط الإيمان {مِنْ شَيْءٍ} تفسير لقوله: (ما غنمتم) كقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 10]. وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يدل على قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}. ¬

_ (¬1) أي أن اللام في "ليميز" متعلقة بيحشرون و"يميز" فيها قراءتان؛ الأولى: التخفيف وهي قراءة الجمهور، والثانية: التشديد وضم الياء وهي قراءة حمزة والكسائي. [السبعة ص 306]. (¬2) روي ذلك عن مجاهد والسدي. أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (11/ 177)، وابن أبي حاتم (1700)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 185) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬3) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال: حتى لا يكون شرك وكذا روي عن الحسن والسدي. أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (11/ 179)، وابن أبي حاتم (1701).

وروى سفيان الثوري عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمَّد بن علي بن أبي طالب عند قوله (¬1): {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة وسهم رسول الله كان ينفق مقدارًا على عياله ويصرف الباقي إلى حوائج المسلمين (¬2)، وقد نقل عنه من طريق الاستفاضة قال: "ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم" (¬3)، ثم سقط سهمُهُ بوفاته؛ لأن خلفاءه جعلوا لأنفسهم رزقًا دارًّا في بيت المال فاستغنوا عن هذا السّهم، ولو رأى الإمام أن يفرز هذا السهم ويجعله في بيت المال عدة للمسلمين لكان في سعة إن شاء الله، وليس في الآية ما يدل على أن ذوي القربى سوى القائمين؛ لأن الخطاب متوجه إليهم كما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وفي قوله: {قُلْ (¬4) مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]. وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] لكن الدلالة قد قامت على أنهم فقراء بني هاشم كان -عليه السلام- يعطيهم من الخمس مقدار الحاجة يقول لهم: "أليس في خمس الفيء ما يغنيكم عن غسالة أيدي الناس؟ "، ثم عندنا (¬5) استحقاقه بالفقراء بعد موت النبي -عليه السلام-، وعند الشافعي بمجرد القرابة واستحقاق اليتامى بالفقر بالإجماع (¬6) والمساكين عام في الهاشميين وغيرهم وكذلك ابن السبيل، وفائدة تخصيص ذوي القربى التنبيه على أنهم في هذا المال (¬7) ¬

_ (¬1) (عند قوله) ليست في "ب". (¬2) عبد الرزاق في مصنفه (9482)، وابن جرير (11/ 187)، وابن أبي حاتم (5/ 1702)، وابن أبي شيبة (12/ 431)، وهو اختيار ابن جرير على أنه افتتاح كلام. (¬3) ابن أبي حاتم (5/ 1703)، والحديث عند أبي داود (2694)، والنسائي (6/ 62)، وأحمد (2/ 184) والحديث حسن. (¬4) (قل) ليست في الأصل. (¬5) هذا دليل آخر على حنفية المؤلف. (¬6) في الأصل: (بإجماع). (¬7) في الأصل: (المجال)، وفي "أ": (المثال).

بخلاف ما هم في الزكوات (¬1) والصدقات أو تشريفهم على غيرهم (¬2) كما في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] وقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وتخصيص اليتامى أن لا يوكلوا إلى (¬3) أقاربهم الأغنياء لحق الحضانة أو التنبيه على تفقد المحتاجين. {إِذْ أَنْتُمْ} بدل عن قوله {يَوْمَ الْتَقَى} وذلك يدل على قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} (العدوة) جانب الوادي، قال النابغة: في عدوتين أقام القوم بينهما ... والقوم بين محروم ومختوم (¬4) {الدُّنْيَا} تأنيث الأدنى و {الْقُصْوَى} تأنيث الأقصى أي الأبعد {وَالرَّكْبُ} العير في {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} بالساحل ويحتمل أن الركب جماعة من ركبان إحدى الطائفتين اللتين التقتا (¬5) {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} لكراهتهم لقاء العدو ومجادلتهم في ذلك أو لرفع التقادير والتدابير على ما نشاهده ونجريه {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا} ليمضي وليتم شأنًا كان مقدورًا محققًا مثبتًا في اللوح {لِيَهْلِكَ} ليموت من مات بعد استبانة ويعيش من عاش بعد استبانة، وذلك تتمة وعد الله تعالى بهلاك قريش في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] وقال -عليه السلام-: "والله لقد جئتكم ¬

_ (¬1) في الأصل: (الزكاة). (¬2) في الأصل: (أو تشريفًا على قولهم). (¬3) (إلى) ليست في "أ". (¬4) في "أ": (فالقوم بين بحروم ومحتوم) وهو خطأ. (¬5) الأظهر من كلام المفسرين ومنهم ابن جرير أن (العدوة الدنيا) شفير الوادي الأدنى إلى المدينة وهم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه. و (هم بالعدوة القصوى) المشركون من كفار قريش على شفير الوادي الأقصى إلى مكة. و (الركب أسفل منكم) وهم أبو سفيان وأصحابه مقبلون من الشام تجارًا لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر النبي عليه الصَّلاة والسلام بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه حتى التقى على ماء بدر فاقتتلوا فغلبهم أصحاب رسول الله فأسروهم؛ هكذا قاله مجاهد وقتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 204)، وابن أبي حاتم (1707).

بالذبح" (¬1) وقيل: ليكفر من كفر بعد اتضاح قيام الحجة عليه ويؤمن من آمن بعد اتضاح قيام الحجة له، فإن الحجة وإن كانت قائمة فلا شك أنها ازدادت يوم بدر بما ظهرت يومئذ وشاهد كثير من الطائفتين الملائكة يومئذ. {إِذْ يُرِيكَهُمُ} بدل مما تقدم في محل النصب (¬2)، والظاهر أنه -عليه السلام- رأى رؤيا في المنام (¬3) وعلم الرؤيا علم على طريق المثل والإشارة والانعكاس فلذلك يجوز التفاوت فيه ومعناه قلة شوكتهم أو قلة بقائهم في الدنيا. وقال الحسن البصري: رآهم النبي -عليه السلام- (¬4) قليلًا في اليقظة (¬5) والمراد بالمنام العين، {سَلَّمَ} أي رزق السلامة. {فَاثْبُتُوا} أراد به المصابرة وترك الانهزام أو الوقوف والتكبير عند أول وهلة (¬6)، أما الوقوف فلاجتماع الرأي والتكبير والاستنصار (¬7) وتوهين الكفار. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 218)، وابن حبان (6567)، والبزار (2497)، والحديث حسن. (¬2) أي أن "إِذْ" في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ} [الأنفَال: 43] بدل من "إذ" التي قبلها في قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} ويجوز أن يكون الناصب لـ {إِذْ يُرِيكَهُمُ} هو فعل مضمر تقديره: اذكر. (¬3) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 259)، وابن جرير (11/ 209)، وابن أبي حاتم (5/ 1709) عن مجاهد، ورواه مرفوعًا ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 626 - 627). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وبدله في "ب": (صلى الله عليه وسلام). (¬5) قول الحسن هذا ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 393)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/ 214)، وقال الحافظ ابن كثير معلقًا على قول الحسن أنه رآهم في اليقظة قال: وهذا القول غريب. وقد صرح بالمنام هاهنا فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه. اهـ. ولذا فالرؤية رُؤية منام كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وغيرهما. وليس المراد بالرؤية رؤية العين خلافًا لما ذهب إليه المؤلف الجرجاني -رحمه الله-. (¬6) وفي هذا المعنى يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: سَلَّم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. ورجح الطبري قول ابن عباس. [الطبري (11/ 210)]. (¬7) في الأصل: (فللأشعار).

{وَلَا تَنَازَعُوا} في القتال وهو أن يخالفوا الإمام عند الفتنة فيتقدموا ويتأخروا بغير إذنه، وأن تتراحموا، أو يتجادلوا فيتخاذلوا {رِيحُكُمْ} ريح النصر قال -عليه السلام- (¬1): "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" (¬2) وقيل: الريح (¬3) تزايد الأنفاس في الصدر عند الغضب بطول الاهتمام واحتباسُها قليلًا في الصدْرِ (¬4)، وذلك يزيد في قوة الأعضاء، فإذا تنازعوا استوفوها في جهة التنازع ولم يبق للمطاعنة والمسابقة منها شيء. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} قيل: إن قريشًا لما بلغهم سلامة العير قال بعضهم ارجعوا فقد كفيتم، وقال أبو جهل وأمثاله: بل (¬5) ننتهي إلى بدر فنطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف على رؤوسنا القينات لنفتخر به إلى آخر الأبد (¬6)، فقلب الله عليهم أحوالهم وأطعم لحومهم (¬7) السباع والنسور والديدان، وسقاهم مكان كؤوس الخمور كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، وأبدلهم من الفخر الخزي والعار وعذاب النار إلى أبد الآباد، ونهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء؛ لأن البطر هو الطغيان يحمل النفس على تمني المحال والقصد لما لا ينال حتى تقتحم الخسران والوبال، ورياء الناس يحمل النفس على ترك ما يعنيها من الأصلح والأوفق والأوجب والاشتغال بما لا يعنيها. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} قيل: أراد سراقة بن مالك بن جُعْشُم كانت قريش حين خرجت تخاف من كنانة وبني بكر وكان سراقة شاعرًا مكينًا في ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) البخاري (988)، ومسلم (900). (¬3) في الأصل: (الذبح). (¬4) (واحتباسها قليلًا في الصدر) ليست في "أ". (¬5) (بل) ليست في الأصل. (¬6) هذا ورد عن عدد من الصحابة والتابعين، وانظر: الدر المنثور (7/ 143 - 144). (¬7) في "أ": (لحوض)، وفي "ي": (لحمهم).

الكنانة (¬1) فعرض لهم في الطريق وقال: إني جار لك من (¬2) كنانة وإنهم سيتبعونكم وينصرونكم {فَلَمَّا تَرَاءَتِ} الجمعان (¬3) شاهد سراقة وتولى مدبرًا وكان قد شاهد مثله حين عرض للنبي -عليه السلام- (¬4) وأبي بكر الصدِّيق حين خرجا من مكة وهاجرا إلى المدينة، فقال له الحارث بن هشام: أفرارًا من غير قتال؟ فقال (¬5): {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} (¬6) وأكثر المفسرين على أن الشيطان هو إبليس لعنه الله تراءى لهم في صورة سراقة بن مالك أرسل إلى (¬7) قريش أنكم تقولون خذلنا سراقة وانهزم عن الناس وإني والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، والجار والمجاور في الحقيقة إلا أنه صار اسمًا للخفير والمجير لأن الجيران كانوا يخفرون ويجيرون {نَكَصَ} رجع وانقلب و (العقب) مؤخر القدم. {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} المعتقدون خلاف الإسلام {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك وتردد من جملة المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين ويقولون: أغتر هؤلاء بدينهم فيظنون أنه حق سينصرون به {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ} كلام مستأنف وجواب لو محذوف (¬8). و {الْمَلَائِكَةُ} أعوان ملك الموت و (الضرب) على الوجوه لزجر المتقدم وعلى الأدبار لطرد المتأخر كأنهم يسوقونهم سوق (¬9) الخيل ¬

_ (¬1) في الأصل: (الكفاية). (¬2) (من) ليست في "ب". (¬3) في الأصل: (الجماعة). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل: (قال). (¬6) أقرب ما وجدنا إلى هذه الرواية ما ذكره الواقدي في مغازيه (1/ 70، 71)، والطبراني في الكبير (4550). (¬7) في الأصل: (لما). (¬8) أي جواب "لو" في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ...} محذوف للدلالة عليه تقديره: لرأيتَ أمرًا عظيمًا. (¬9) في الجميع: (يسرقونهم سرق) والمثبت من "ب".

ويمنعونهم عن الانتشار، ويحتمل أن الضرب على الوجوه للتعذيب لا بمعنى آخر، والضرب على الأبدان للسوق (¬1) والحشر (¬2). {ذَلِكَ} إشارة إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أو إلى تعقب المؤاخذة وترك المعاجلة. {لَمْ يَكُ} لم يكن، وإنما اختص الكون بالإخبار لاقتضائه الآنية العامة، وإنما سقطت النون لأنها تشبه حروف المدّ واللين في خفائها (¬3) فجاز سقوطها بالجزم، والمراد بـ (النعمة) سوى نعمة التوفيق والشكر، وقيل: نعمة التوفيق داخلة فيه لأن الله لا يخذل ولا يمنع التوفيق إلا مع سوء الاختيار، لا يتقدم هذا على ذلك ولا ذاك على هذا {مَا بِأَنْفُسِهِمْ} على أنفسهم من الشكر، فتغيير الشكر تبديله بالكفر، وقيل: ما بأنفسهم عند أنفسهم من النعمة، وتغييرهم إياها تسبيبهم لزوالها، والتغيير تبديل الكيفية في الحقيقة إلا أنه يستعمل في تبديل الأعيان مجازًا، كما يقال انقلب الترح فرحًا، والبكاء ضحكًا. وإنما كرر التشبيه بدأب آل فرعون الحث على الاعتبار، وإنما عيّن فرعون وأهله بالغرق لأنه أشد استفاضة من أخبار عاد وثمود والذين من قبلهم. {فَهُمْ} الفاء لتعقيب امتناعهم في الحالة الثانية كفرهم في الحالة الأولى. ¬

_ (¬1) في الأصل: (الأدبا)، وفي الجميع: (الأبدان للشوق) وكلاهما خطأ. (¬2) أي أن الملائكة حين تقبض أرواح الكفار فتنزعها عن أجسادهم تضرب الوجوه منهم والأدبار - وهي الأستاه - ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار، وكان ذلك يوم بدر، ولذا ورد في مراسيل الحسن قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشِّراكِ! قال: ما ذاك؟ قال: "ضرب الملائكة". [أخرجه الطبري في تفسيره مرسلًا عن الحسن (11/ 230)]. (¬3) في "أ": (إخفائها).

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} نزلت في بني قريظة نقضوا العهد مرة بعد أخرى (¬1) و (الذين) بدل عن الذين في الآية الأولى وهو إبدال البعض من الكل (¬2) (شرد بهم) التشريد التفريق والتنكيل. {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} الخوف العلم أو غلبة الظن {خِيَانَةً} مكر المعاهدين {فَانْبِذْ} العهد إليهم جهرًا {عَلَى سَوَاءٍ} حال كقوله: {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] تقديره كائنًا أو كائنين على سواء في العداوة. {لَا يُعْجِزُونَ} للإعجاز معنيان أحدهما أن تفعل فعلًا يعجز عنه غيرك، والثاني أن تفسير إلى حال يعجز غيرك عن الاستيلاء عليك. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} به (¬3) {مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} عام في كل ما يتقوى به على الأعداء من سلاح وكراع، وعن عقبة بن عامر قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} "الرمي (¬4) لهو المؤمن في الخلاء (¬5) وقوته عند اللقاء" (¬6)، قال: ومات عقبة فأوصى بتسعين قوسًا كل قوس قرنها وسهامها في سبيل الله (¬7)، قال: قرنها سيف، فقال: قرن الرجل إذا تقلد سيفه وتنكب قوسه، وعن عقبة قال: إن الله ¬

_ (¬1) روي ذلك عن مجاهد قال: هم قريظة مالؤوا على محمَّد يوم الخندق أعداءه. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 235)، وابن أبي حاتم (1719)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 191) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬2) هذا أحد الأوجه في إعراب {الَّذِينَ عَاهَدْتَ} [الأنفَال: 56] والوجه الثاني: الرفع على الابتداء، والخبر قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} [الأنفَال: 57] ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط كما هو ظاهر كلام ابن عطية. [المحرر (8/ 92)]. (¬3) (به) ليست في "ب". (¬4) (الرمي) ليست في الأصل و"ب". (¬5) (الخلاء) بدلها بياض في الأصل و"ب". (¬6) المعروف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الآية، وقال: "ألا إن القوة الرمي" أخرجه مسلم (1917). وهناك رواية أخرى يقول: "إن كل لهو لهى به المؤمن باطل إلا في ثلاث: رمية الصيد بقوسه .. ". (¬7) الذي ذكر في ترجمة عقبة أنه ترك ثمانين قوسًا، وفي رواية بضع وستون أو بضع وسبعون، وانظر تاريخ ابن عساكر (40/ 502).

تعالى ليدخل الجنة بالسهم الواحد ثلاثة: صانعه الذي يحتسب بصنعه الخير، والرامي به والمهدي به، قال: وقال -عليه السلام-: "ارموا واركبوا وإن ترموا خيرًا من أن تركبوا وكل شيء يلهُو به الرجل باطلًا إلا رمي الرجل بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق" (¬1) وعن عروة البارقي قال: قال -عليه السلام-: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" (¬2) الأجر والمغنم. والمراد بـ (عدو الله (¬3) وعدوهم) قوم واحد وهم الكفار كما في قوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقيل: {عَدُوَّ اللَّهِ} الكفار، و (عدوّنا) أهل البغي من المؤمنين {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} الجن، عن ابن عباس (¬4)، وقيل: سوى بني قريظة (¬5) والمعروفين من الأعداء. {لِلسَّلْمِ} (¬6) إلى السلم {فَاجْنَحْ لَهَا} ضمير المسالمة أو الفعلة أو الخصلة، والآية غير منسوخة وقيام الدلالة على امتناع مشركي العرب لا يدل على أن الآية منسوخة في حق غيرهم. {أَيَّدَكَ} قواك {بِنَصْرِهِ} ما قدر الله من التأييد بغير سبب {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ما قدره من التأييد بسببهم. ¬

_ (¬1) الترمذي (1637)، وأبو داود (2513)، وابن ماجه (2811)، والطبراني في الكبير (17/ 341) (941)، وابن أبي شيبة (4/ 229) (5/ 303) والحديث فيه ضعف. (¬2) البخاري (2849)، ومسلم (1871). (¬3) (الله) ليست في "ب". (¬4) يروى مرفوعًا عند ابن سعد (7/ 433)، والحارث بن أبي أسامة (650 - زوائده)، وابن أبي حاتم (5/ 1723)، والطبراني (17/ 189) (506). وقال ابن كثير: هو حديث منكر ولا يصح إسناده ومتنه. ويروى موقوفًا على سليمان بن موسى. أما عن ابن عباس فعزاه صاحب الدر (7/ 186) لأبي الشيخ وابن مردويه. (¬5) هذا مروي عن مجاهد عند ابن جرير (11/ 248)، وابن أبي حاتم (5/ 1723). (¬6) وهناك قول ثالث في هذه الآية: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفَال:60] أنهم أهل فارس، قاله السدي. والقول الرابع: أنهم المنافقون، قاله ابن زيد. والقول الخامس: أنهم اليهود قاله مقاتل. روى ذلك الطبري في تفسيره (11/ 248) ورجح عدم التحديد في الآية والأصل العموم. [انظر: زاد المسير (2/ 222)].

{وَأَلَّفَ} والتأليف الجمع بين شيئين بتوفيق الطبيعة دون القهر، والمراد به ما ألف الله به قلوب أوليائه من معرفته والموالاة في ذاته (¬1) من غير رحم ولا عصبة ولا جوار ولا صحبة ولا اصطلاح (¬2) زمان فهم كنفس واحدة تجسدت من جوهر طيب، ثم نطقت بروح الوحي معصومة من الفتن والبغضاء وأمراض الأهواء، وقيل: أراد التأليف بين الأوس والخزرج من بعد ما كانت بينهم عداوة قديمة (¬3). {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} في محل الخفضِ عطفًا على الضمير في {حَسْبُكَ} وقيل: الكاف في {حَسْبُكَ} في محل النصب، وقيل: إنه في محل الرفع عطفًا على اسم الله وتأويله حسبك (¬4) تأييد الله بلا سبب وتأييد {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). ثم تعبّد الله المؤمنين بمصابرة عشرة أمثالهم ووعد لهم النصر عليها، ثم نسخ هذا بالمصابرة بمثليهم (¬6)، ولم يبلغنا أنهم عملوا بهذا المنسوخ وغلبُوا على هذه الشريطة قبل نسخ الوجوب، وأما بعد نسخ الوجوب (¬7) فقد بلغنا ذلك وأعظم منه. ¬

_ (¬1) في "أ": (ذات). (¬2) في الأصل: (ولا عصبة والأجوار وصحبة والاسطلاح) وهوخطأ. (¬3) قاله ابن إسحاق والطبري وابن الجوزي وغيرهم. [تفسير الطبري (11/ 256)، زاد المسير (2/ 222)]. (¬4) من قوله: (وقيل الكاف) إلى قوله: (وتأويله حسبك) ليست في "ب". (¬5) ما ذكره المؤلف أن "من اتبعك" في محل الخفض عطفًا على الضمير الكاف هو رأي الكوفيين كما نقله عنهم صاحب الإنصاف (2/ 463)، ولذا قدره الشعبي وابن زيد: حسب من اتبعك. وهناك قول آخر وهو ما ذهب إليه الزمخشري وهو أن الواو بمعنى مع وما بعده منصوب فهو كقولهم: "حسبك وزيداٌ درهمٌ" ولا تَجُرَّ لأن عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع ومنه قول الشاعر: ... فحسبك والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ ويكون التقدير في الآية: كفاكَ وكفى تُبَّاعَكَ المؤمنين اللهُ ناصرًا. [الكشاف (2/ 167)، الدر المصون (5/ 632)]. (¬6) في الجميع: (لمثيلهم) والمثبت من "ب". (¬7) (وأما بعد نسخ الوجوب) ليست في "أ".

{حَرِّضِ} التحريض: الحث والإغراء، والعِشْر ظما من إظماء الإبل وهو لابتداء الماء تسعة أيام معشرون ظما؛ وإنما لم يقتصر على عدد واحد لئلا يتوهم أن الحكم أو الوعد مختص بالقليل دون الكثير أو الكثير دون القليل وليشترك (¬1) فيه الحاذق والجاهل. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} إخبار عن ما مضى من شأن الأنبياء نزل على سبيل الإنكار والعتاب، أي ما جاز لنبي قط أن يكون له أسرى يفتدون منه {حَتَّى يُثْخِنَ} إلى أن يثخن القتل في أعدائه، ويحتمل إلى أن يتمكن في الأرض التقتيل، وقد كان النبي (¬2) -عليه السلام- (¬3) مَنّ على أساريه وأنعم عليهم بقبول الفداء قبل أن يثخن في أعدائه القتل، وكان ذلك بمشاورة بعض الصحابة فعاتبه الله على ذلك وأخبر عن غرض أصحابه في قبول الفداء. {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أن لا يعذب أهل بدر، عن مجاهد والحسن وقتادة (¬4)، وقيل: أن يرزق الإسلام بعض الأسارى، وقيل: أن لا يؤاخذ الناس بالأوامر الشرعية السماعية قبل السماع، وقيل: أن تكون الغنائم حلالًا لأمة محمَّد -عليه السلام- (¬5)، وذلك أن الكتاب السابق ما تقدم على هذه الحادثة من الآيات النازلة من قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم:3، 4]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [لحشر: 7]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46] فالنبي -عليه السلام- غير مخطئ مراد الله وما فيه المصلحة وما سيأذن له فيه ويجعله له (¬6) ¬

_ (¬1) في "أ": (لتشترك). (¬2) (النبي) ليست في "أ". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) وجدت هذا المعنى عن سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم (5/ 1735، 1736). وقد ورد عن مجاهد عند ابن أبي حاتم كذلك (5/ 1735). وأما عن الحسن فعند البغوي (1/ 377)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 381)، (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" بدلًا من (عليه السلام): (صلى الله عليه وسلم). (¬6) (له) ليست في الأصل.

شريعة، ولكنه عجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليه (¬1) وحيُه وكان أصحابه غير مخطئين في طاعته ولكنهم لم ينتظروا الوحي وعجلوا بالإشارة عليه، ويحتمل أن الكتاب السابق قضاء الله وحكمه أن يغفر لنبيّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر (الغنم): الاستفادة وإصابة الخير، والخير المعلوم: الإيمان، والخير الموعود: الثواب، وهو على سبيل التفضيل على المأخوذ، وقال العباس عمّ النبي -عليه السلام- (¬2): أبدلني الله مكان عشرين أوقية من الذهب (¬3) عشرين عبدًا كلهم يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها (¬4) جميع أموال بكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي (¬5) -عَزَّ وَجَلَّ- هذا الذي أخلفه في نفسه (¬6)، وأما الذي أخلف على ولده فلا يحصيه إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬7). {وَإِنْ يُرِيدُوا} نزلت في الذين عاهدوا النبي -عليه السلام- (¬8) أن لا يعودوا حربًا عليه إن أطلقهم وردهم إلى (¬9) نياتهم {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (¬10) وسلطك عليهم. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} كان -عليه السلام- (8) آخى بين المهاجرين والأنصار على ¬

_ (¬1) في "أ": (يضي إليك). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (الذهب) ليست في "ب". (¬4) في الأصل (سابقًا) بدل من (لي بها). (¬5) هذه الرواية بهذا اللفظ ذكرها البغوي في تفسيره (1/ 378)، والزمخشري في الكشاف (1/ 468). (¬6) في "ب" نفسك. (¬7) أي أعطاهم دولة بني العباس وإليهم تنسب الدولة العباسية التي استمرت خمسمائة وأربعًا وعشرين سنة. (¬8) (السلام) ليست في "ي". (¬9) وهم العباس وأصحابه كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] يعني العباس وأصحابه في قولهم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا. أخرجه الطبري عنه (11/ 287). (¬10) في الأصل: (مأنهم فاسكن مكنك) وهو خطأ.

أن يرث بعضهم بعضًا، وقطع الموالاة بينهم وبين القاعدين من الهجرة للمقيمين في دار الحرب إلا (¬1) على سبيل النصرة في الدين على غير المعاهدين بقضيته هذه الآية، وفائدته ترغيبهم في الهجرة وزجرهم (¬2) عن الإقامة في دار الحرب ثم نسخت بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] (¬3)، ويحتمل أن تكون هذه الآية في الذين ليس لهم ذوو الأرحام من المؤمنين فلا تكون منسوخة. وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} الآية دليل أن الكفر كله واحد {تَفْعَلُوهُ} يعني النصر الواجب المأمور به وحكم الموالاة وقطعها عليهم الله تعالى حكم المقيمين في دار الحرب بتخصيص المهاجرين وحكم الممتنعين عن النصرة بتخصيص الأنصار ترغيبهم بذلك في الهجرة والنصرة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} ألحق الله (¬4) المهاجرين الآخرين بالمهماجرين الأولين من المهاجرين الآخرين العباس وابنا أخيه عقيل بن عبد المطلب ونوفل بن الحرث، وقد روي عنه -عليه السلام- (¬5) أنه قال للعباس: "ختم الله بك الهجرة، كما ختم فيَّ النبوة" (¬6) فقوله: "لا هجرة بعد الفتح" (¬7) على فتح بدر على هذه الرواية، ويحتمل أن هجرة بني هاشم ختمت بفتح بدر وهجرة سائر الناس ختمت بفتح مكة، وكما ألحق المهاجرين الآخرين بالأولين جعل أولي الأرحام بالميراث والموالاة من أصحاب العقود والمؤاخاة بعد ارتفاع الهجرة والمندوب إليها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (إلا) ليست في "أ". (¬2) في "أ": (وزجره). (¬3) روي ذلك عن مجاهد أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 292)، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 229). (¬4) (الله) ليست في الأصل. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) الطبراني في الكبير (5828)، وأبو يعلى (2646)، وابن عدي في الكامل (1/ 301)، وابن حبان (1/ 128)، وابن عساكر في تاريخه (26/ 297) والحديث ضعيف جدًا فيه أبو مصعب إسماعيل بن قيس متروك. (¬7) البخاري (1737)، ومسلم (1353).

سورة التوبة

سُوْرَةُ التَّوْبَةِ (¬1) مدنية كلها (¬2)، وعن مجاهد أنها آخر ما نزلت (¬3)، وعن عطاء عن ابن عباس: سور (¬4) القرآن ماية وثلاثة عشر (¬5)، فكأنه عدّ الأنفال [والتوبة سورة واحدة، وقال ابن عباس: قلت لعثمان: مالك م عمدتم إلى الأنفال] (¬6)، وهي (¬7) من (¬8) المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر. ¬

_ (¬1) ولها تسعة أسماء؛ أشهرها: سورة التوبة وسورة براءة، والثالث: سورة العذاب قاله حذيفة، والرابع: سورة المقشقشة قاله ابن عمر، والخامس: سورة البحوث؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود، والسادس: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين قاله ابن عباس، والسابع: المبعثرة؛ لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق، والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة، والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج. [زاد المسير (2/ 230)، القرطبي (8/ 40)]. (¬2) في "ب": (كلها مدنبة). (¬3) الذي ورد أن آخر آية في التوبة هي آخر ما نزل، وانظر: الدر المنثور (7/ 609 - 616)، وقيل: آخر آيتين كما ذكر ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 230)، وهي قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ....} [التوبة: 128]. (¬4) في الأصل: (سورة). (¬5) عزاه السيوطي في الدر (7/ 617) لابن مردويه. (¬6) ما بين [...] سقط من الأصل. (¬7) في "أ": (وهو). (¬8) (من) ليست في "ب".

قال: لأن سورة التوبة آخر القرآن نزولًا، وقصتها تشبه بقصة سورة الأنفال، فقبض رسول الله -عليه السلام- (¬1) ولم يبين لنا حكمها فقرنَّا بينهما، ولم نكتب بسم الله الرحمن الرحيم (¬2). وكذلك روى القاضي أبو عاصم عن أبي بن كعب. وهي ماية وثلاثون آية في غير عدد الكوفة (¬3). {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّه} إن الله كان قد أنزل على نبيه -عليه السلام- في أول ما أنزل بالمدينة قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، فكانت ذمم (¬4) النبي -عليه السلام- (¬5) منعقدة على هذه الشريطة، فلما فتح الله مكة وانسلخ شهر رمضان ودخل أشهر الحج الأكبر (¬6) وكثر من القبائل مكرها وغدرها ونكثها أمر الله تعالى نبيه أن ينبذ إليهم عهودهم ويعلمهم ذلك ليكونوا على سواء، وأمرهم أن يردّوا العهود الزائدة على أربعة أشهر إلى أربعة أشهر، ويرفع العهود الناقصة إلى أربعة أشهر أوّلها غرّة شوال، وقيل: أولها يوم الحج الأكبر وذلك اليوم العاشر من ذي القعدة كان الموسم انتقل إلى ذلك الوقت بنسيء الكفار، وآخرها انسلاخ الأشهر الأربعة المحرمة بالذمة والعهد، وقيل: انسلاخ الأشهر الحرم انسلاخ رجب، كان قد بقي من مدة بني ضمرة وهم من كنانة تسعة أشهر ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ب"، وبدلها في "ب" "أ": (صلى الله عليه وسلم). (¬2) أبو داود (786، 787)، والترمذي (3086)، والنسائي في الكبرى (8007)، وابن أبي شيبة (14/ 120) وابن حبان (43)، والحاكم (1/ 222، 330)، والبيهقي (7/ 152)، والنحاس في ناسخه (477، 478)، وابن أبي داود في المصاحف (31)، وفي سنده ضعف. (¬3) الكوفيون يقولون هي (129) آية، وانظر: "البيان في عد آي القرآن" لأبي عمرو الداني. (¬4) في "أ": (فكان ذم). (¬5) في "ي" لا توجد (السلام) وبدلها في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬6) (الأكبر) ليست في الأصل.

أوّلها غرّة ذي القعدة فأمر الله نبيه أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم، وقيل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] في قوم (¬1) لم يكن لهم ذمة فأجلهم رسول الله بخمسين يومًا أوّلها يوم الحج الأكبر، وليس هذا بسديد؛ لأن من الحج الأكبر إلى انسلاخ المحرم ثمانين يومًا على التخمين، وكان -عليه السلام- قد بعث أبا بكر إمامًا للناس في الحج فنزل جبريل (¬2) -عليه السلام- (¬3) وأمر النبي -عليه السلام- (¬4) أن يبعث رجلًا من أهل بيته - ثلاث عشرة آية من أول هذه السورة - إلى الموقف والمنحر ليقرأ على الناس فبعث عليًا فقرأها عليهم، قالوا: برئنا منك ومن ابن عمك وبرئتما منا إلا مِنَ الضرب والطعن، ثم ندموا وأقاموا على العهد المذكور إلى أن دخلوا في الإسلام أفواجًا. {بَرَاءَةٌ} خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه براءة، قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} وقيل: براءة مبتدأ، {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} خبره (¬5) وكذلك {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} خبره وإنما أسندت المعاهدة إلى المؤمنين؛ لأن أمر رسول الله -عليه السلام- (4) وأمر المؤمنين واحد. {فَسِيحُوا} تمهيل، والسياحة: هو الضرب في الأرض. ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (قوله) وهو خطأ. (¬2) (جبريل) ليست في "أ"، وفي "ب": (ونزل جبريل) بالواو. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ي" لا توجد (السلام) وبدلها (صلى الله عليه السلام). (¬5) الجمهور على رفع {بَرَاءَةٌ} فقيل كما ذكره المؤلف أنها خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هذه براءة، ويكون {مِنَ اللَّهِ} متعلقاَ بنفس {بَرَاءَةٌ} لأنها مصدر. والقول الثاني: إن {بَرَاءَةٌ} مرفوعة بالابتداء والخبر قوله: {إِلَى الَّذِينَ} وجاز الابتداء بالنكرة لأنها تخصصت بالوصف بالجار بعدها، وأما على قراءة النصب {بَرَاءَةٌ} فتكون منصوبة على الإغراء، والتقدير: التزموا "براءة" كما قال ابن عطية وهذه القراءة قراءة عيسى بن عمر. [مختصر شواذ ابن خالويه (ص 51)، البحر (5/ 4)، المحرر (8/ 125)، الدر المصون (6/ 5)].

{وَأَذَنٌ} إعلام الحج الأكبر من الحجة المعروفة ذات الوقوف، والحجة الصُّغْرَى هي العمرة، وقيل: الأكبر صفة اليوم، وهو يوم عرفة، فإن الوقوف فيه، وقيل: هو يوم النحر لاشتماله على الرمي والنحر والحلق وطواف الزيارة، ثم غلب هذا الحج على حجة أبي بكر سنة تسع، وحجة النبي -عليه السلام-، وسميت بحجة الوداع. {الْمُتَّقِينَ} (¬1) المؤمنين الذين يتمون ويتقون نقضه من غير سبب موجب للنقض. {انْسَلَخَ} انكشف فالأشهر ملابسة إيانا فإذا مضت فكأنها انسلخت عنّا، والمراد بـ (القعود) الاعتراض لقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] {مَرْصَدٍ} الطريق الذي لا بدّ منه، {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} يعني لترك الاعتراض، والتخلية أن يجعل الشيء فارغًا خاليًا لما أمر الله برفع ذمم مشركي العرب أن يضع بين المسلمين وبينهم أسباب الرسالة لئلا ينقطع السبيل فيتعذر التبليغ. {اسْتَجَارَكَ} أي: طلب منك الجوار والإجارة {مَأْمَنَهُ} دار الحرب. {كَيْفَ} للتعجب وأسباب التعجب بعدها، والاستثناء عارض وأسبابه فهؤلاء المستثنون من تقدم ذكرهم، وقيل: قوم من بني بكر من كنانة، وقيل: هم بنو خزيمة، ولما طال العارض بين التعجب وأسبابه أعاد التعجب وقريب منه قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] إلى أن قال: {وَلَمَّا (¬2) جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ (¬3)} [النساء: 155] إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ} [النساء: 160] وقوله: {فَلَوْلَا إِذَا ¬

_ (¬1) في الأصل: (المبين). (¬2) (فلما) من "ي" "ب". (¬3) (ميثاقهم) من الأصل.

بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: 83] إلى قوله: {مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] {إلًا} (الإلّ) القرابة قال حسان: لعمرك أن إِلّك من قريش ... كألِّ السَّقب من رألِ النَّعَام (¬1) الإل العهد والذمة قال: كأنه لم يكن بيني وبينكم ... إلٌّ ولا خُلةٌ تُرعى ولا ذمم (¬2) والإلّ: اسم الله وربوبيته، قال أبو بكر الصديق: ويْحكم إن هذا لم يخرج من إل (¬3). {ثَمَنًا قَلِيلًا} الرياسة والعصبية والخمر والزنا والقمار. {لَا يَرْقُبُونَ} الخبر الأول خبر عن نياتهم معلق بشرط القدرة، وهذا الخبر خبر عما هم يفعلون في الحال، وقيل: الخبران واحد والتكرار للتأكيد. {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل أعانوا حلفاءهم من بني وائل من بكر، على خزاعة حلفاء نبينا -عليه السلام- (¬4)، فقدم على رسول الله عمرو بن سالم وبُديل بن ورقاء المدينة مستنجدين، وكان بديل يرتجز (¬5) (¬6): لاهمَّ إني ناشدٌ محمدا ... حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا ¬

_ (¬1) البيت في ديوان حسان (105)، وكذا ذكره ابن الأنباري في "الوقف والابتداء" كما في "الدر المنثور" (7/ 250). والسَّقب هو ولد الناقة الذكر، وأما الرئل فولد النعام. وينسب هذا القول إلى ابن عباس الفراء وأبي عبيدة والضحاك والسري ومقاتل على أن الإل القرابة نقله عنهما السمين الحلبي (6/ 18). (¬2) البيت لطريح بن إسماعيل الثقفي كما في الأغاني (4/ 305). (¬3) مرّ الكلام عليه في سورة الأنفال. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) روي ذلك عن ابن عباس بدون ذكر تفاصيل الأشخاص، وفَصَّل قتادة في تفاصيلهم أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (11/ 363، 365). (¬6) في الأصل (عمرو بن سالم وبديل بن ورقا يرتجز).

كنت لنا ولدًا وكنت والدا ... ثمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا أبيض مثل البدر يسمو صعدا ... إنَّ قريشًا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وقعدوا بكرًا رصدا (¬1) (¬2) فقال رسول الله: "لا نصرني الله إن لم أنصركم" ثم أمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة، وكان أبو سفيان يومئذٍ عند هرقل بالشام فكتبت قريش إليه بالخبر، فلما قرأ الكتاب استأذن هرقل في الرجوع وقال: إن محمدًا كان عاهدنا شيئًا وهو يريد النكث، قال هرقل: ولم ذلك؟ قال: لأنا أعنا حلفاءنا على حلفائه، قال: هو معذور فإنكم إذا قاتلتم حلفاءه فقد قاتلتموه (¬3). وانصرف أبو سفيان من الشام يريد الإصلاح حتى دخل المدينة على فاطمة بنت النبي -عليه السلام- وطلب منها الإجارة فلم تفعل، وطلب من الحسن والحسين (¬4) فلم يفعلا، ثم خرج إلى أبي بكر فردَّه وإلى عمر فردَّه وقال: والله لنضربن استك أبا سفيان، فقال: ما أسفهك يا ابن الخطاب، ثم خرج إلى علي - رضي الله عنه - طلب منه الإجارة فقال (¬5) علي: يا أبا سفيان، أتظن برسول الله أنه يريد (¬6) أمرك، اخرج إلى الناس واضرب إحدى يديك على الأخرى فقل (¬7): آجرت بين الناس، فقال (¬8) أبو سفيان: أهو كما ¬

_ (¬1) لم نجد فيما بين أيدينا من المصادر أن المرتجز بديل بل المرتجز هو عمرو بن سالم، إلا ما ذكر في الإصابة (1/ 274) في ترجمة بديل بن كلثوم بن سالم الخزاعي من رواية البارودي أنه هو قائل الشعر، ورد ابن حجر الرواية بأن سندها منقطع والشعر لعمرو بن سالم الخزاعي. (¬2) الشعر في بعض أبياته اختلاف عن بعض المصادر، وقوله: (أبيض مثل البدر) لم أجده وإنما: (أبيض مثل الشمس) كما في بعض المصادر وجاء البيت كعجز وليس كصدر. (¬3) المثبت من "ب"، وفي البقية: (قابلتم حلفاء قد قابلتموه). (¬4) هو طلب من فاطمة ومن ابنها الحسن أن يجير بالناس والحسن صغير عمره قرابة (3) سنين. (¬5) في الأصل: (وقال). (¬6) في "ب": (يرد). (¬7) في "ب" "ي": (وقل). (¬8) في "ب": (وقال).

يقول؟ قال علي: سترى (¬1) ما يكون، فخرج أبو سفيان فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال: آجرت بين الناس ورجع إلى مكة، وقال: آجرت بين الناس، قالوا: كيف؟ فأخبرهم بالقصة، قالوا: لم تفعل شيئًا، وإنما استهزأ بك علي، ثم سار رسول الله في جيوشه إلى مكة ولم يلق أحدًا مقبلًا ولا مدبرًا إلا حبسه لئلا يخبر أهل مكة بسيره إليهم، فخرج أبو سفيان متجسسًا أخبارهم فلقيه العباس في جوف الليل وأجاره وأردفه خلفه على بغلة رسول الله -عليه السلام- (¬2) حتى أدخله عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأحسّ به عمر فسابقه إلى النبي -عليه السلام-، فسبقه وحال بينه وبين أبي سفيان ثم ردَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. فلما كان ببعض الطريق أمر عباسًا ليتبعه فيحبسه على الطريق ليمر به كتائب العسكر، فلما لحقه العباس خافه أبو سفيان على نفسه وقال: أغدرًا يا بني هاشم؟ قال: كلا ولكن أبصر كتائبنا (¬3)، وكان كلما مرّ عليه كتيبة، قال: أفى هؤلاء محمَّد؟ وكان عباس يقول: لا، هؤلاء بنو فلان وهؤلاء بنو فلان حتى مر رسول الله (¬4) كالبدر المنير تحت المغفر في ثلاثة آلاف فارس من الأنصار متكفرين بالسلاح. وأسلم أبو سفيان، فقال عباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الصيت فاجعل له شيئًا يفتخر به، قال رسول الله -عليه السلام-: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وانصرف أبو سفيان إلى مكة ونادى: من دخل داري فهو آمن، فقامت إليه امرأته هند وأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا هذا الخبيث، فضربوه ضربًا شديدًا. وكان خالد بن الوليد على الميمنة فاستقبله جمع من المشركين ¬

_ (¬1) في "أ": (سترى سترى). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "أ" "ب ": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "أ": (كاهنًا) وهو خطأ. (¬4) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -).

وعليهم حماس بن قيس ومقيس بن ضبابة وعكرمة بن أبي جهل فقاتلهم خالد حتى هزمهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاه عن ذلك فلمَّا علم بذلك قال: "عسى أن يكون خيرًا". وروى ابن (¬1) إسحاق أنهم قتلوا من المسلمين كرز بن جابر وحبيش بن خالد (¬2) وأصيب من مزينة سلمة بن الميلاء، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر ثم أنفروا، وقوله -عليه السلام- (¬3): "إني أعوذ من صنيع خالد" لم يكن في هذا اليوم وإنما كان من قبله، في جذيمة يوم بالغميصاء (¬4)، وجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار حواليه يوم فتح مكة ثم أمرهم بأن يحضروا أوباش قريش، قال أبو هريرة: وما كنا إلا قادرين على قتل من نشاء أن نقتله، فجاء أبو سفيان، وقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد هذا اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أغلق بابه على نفسه فهو آمن" (¬5). واستثنى أربعة من المشركين وأمر بقتلهم (¬6). وأجارت أم هانئ رجلين من مخزوم فأراد أخوها علي بن أبي طالب أن يقتلهما فجاءت إلى رسول الله تشكوه والنبي -عليه السلام- (¬7) يصلَّي صلاة الضحى وذلك قبل أن يدخل مكة، فقال: "أجرنا من أجرت" (¬8). ¬

_ (¬1) في "ب": (أبو). (¬2) رواية قتل هذين الصحابيين في البخاري (4030). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) هذه الحادثة قبل فتح مكة عندما أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالدًا إلى بني جذيمة وعندما أمر خالد بقتل الأسرى، والحادثة رواها الإمام أحمد (2/ 150)، والنسائي في الكبرى (8596)، وابن حبان (5961). (¬5) مسلم (1780). (¬6) هم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وذكرهم في كتب السنن والآثار. (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) أجارت أم هانئ عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام بن المغيرم وهما من مخزوم. وقصتهم في البخاري (350)، ومسلم (336).

وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا هريرة، اهتف بالأنصار"، فنادى: يا معشر الأنصار، أجيبوا رسول الله (¬1)، فجاؤوا كأنما كانوا على ميعاد ثم قال: "اسلكوا هذا الطريق ولا يشرفن أحد عليكم إلا آلمتموه"، أي: قتلتموه، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل المسجد. وما قتل ذلك اليوم إلا أربعة، ودخل صناديد قريش الكعبة يظنون أن السيف لا يرفع عنهم فأخذ رسول الله بعضادتي الباب، وقال: "ما تظنون؟ "، فقال: نقول: أخ وابن عم حليم رحيم، فقال رسول الله -عليه السلام- (¬2): "إني أقول كما قال يوسف -عليه السلام-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] " الآية فخرجوا من الكعبة كأنما نشروا من القبر ودخلوا في الإسلام (¬3). قالت عائشة: ما من بلدة إلا فتحت بالسيف إلا المدينة فإنها فتحت بـ "لا إله إلا الله" (¬4). وقوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [الفتح: 22] في شأن أسد وغطفان، وقيل: في الحديبية وذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] كان المشركون بعثوا أربعين رجلًا وقتل اثنا عشر لاغتيال أصحاب (¬5) رسول الله عام الحديبية فأظهرهم (¬6) الله عليهم فأخذوهم وجاؤوا بهم إلى النبي -عليه السلام- (¬7) فأطلقهم. قد دلَّ كتاب الله وتواترت الروايات وأجمع أصحاب السير أن مكة فتحت عنوة، ثم منَّ عليهم النبي -عليه السلام- (7) وأطلقهم ولم يقسم أموالهم فسمُّوا طلقاء، فمن قال: فتحت صلحًا فقد خالف الكتاب والسنة وخرق الإجماع (¬8). ¬

_ (¬1) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ذكره الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 325). (¬4) لم نجد هذا الأثر عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) (أصحاب) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل: (فأظهر الله). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) ممن ذهب إلى أن مكة لم تفتح عنوة الشافعي فقط، وهذا دليل جديد على أن مؤلف التفسير حنفي المذهب.

{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ} الشفاء إزاحة الأذى من مرض أو غضب أو حزن، وكان شفاء المؤمنين حين صعد بلال على سطح الكعبة ورفع صوت الأذان، قال خالد بن أسيد (¬1): الحمد لله الذي لم يبق أسيد إلى هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: إن كنت لأبغض أن ينهق عليها بلال بن أبي رباح، وقال سهيل بن عمرو: دعوه إن لها ربًا (¬2) إن شاء أن ينصرها نصرها، وقالت جويرية بنت أبي جهل حين سمعت اسم رسول الله في الأذان: والله لقد رفع ذكرك، ولما سمعت قوله: قد قامت الصلاة، قالت: أما القيام فسأقوم ولكني لا أحب قاتل أخي أبدًا، والمؤمنون يسمعون منهم أحاديثهم هذه ويضحكون عليهم. {وَلِيجَةً} هو الذي يلج عليك وتلج عليه على كل حال ولا يكتم عنه سره (¬3) (¬4). {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} نزلت في الرد على المشركين حين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقي الحجيج، وقيل: إنما نزلت هذه السورة في آخر ما نزلت في المدينة في أيام فتح مكة وتوفي [رسول] (¬5) الله قبل أن يبين موضعها، فالظاهر أن المفتخرين: أبو سفيان والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل ابن عمرو (¬6) وخالد بن أسيد. ¬

_ (¬1) قول خالد عند ابن أبي شيبة (36900) وأبوه قتل في معركة بدر، ورأيت رواية للواقدي ذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 232) ذكر فيها قريبًا من هذا وليس فيه ذكر للحارث بن هشام. (¬2) في الأصل (عمير ودعره بن أيا ربا). (¬3) قال أبو جعفر النحاس والفراء وابن قتيبة: الوليجة -كما في الآية- بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة. [معاني القرآن للفراء (1/ 426)، إعراب القرآن للنحاس (83)، زاد المسير (2/ 242)]. (¬4) في "أ": (مرة). (¬5) في جميع المخطوطات (وتوفى الله) وهو خطأ فظيع وشنيع وأن السقط واقع لا محالة. (¬6) (بن عمرو) ليس في "أ".

{مَا كَانَ} أي: لم يكن معتدًا به ولم يصح ولم يقع موقعه فعلهم ذلك، و (العمارة) ضد التخريب، (شهادتهم) على أنفسهم بالكفر: جهرهم به وإن لم يعدوه كفرًا وإنما صحّ العمارة من آمن بالله. {أَجَعَلْتُم} فضيلة سقاية الحاج كفضيلة، {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} قال الحسن البصري: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوها فإن لكم فيها أجرًا" (¬1) فلولا أن الآيات نزلت في فتح مكة ولكن رسول الله ولى السقاية عمه عباسًا وأولاده بعد الفتح وقال: "انزحوا ولولا أن يزاحمكم الناس لنزحت معكم" (¬2)، وأذن في البيتوتة بمكة لأجل السقاية ليالي مني (¬3)، فصار عباس جامعًا بين السقاية وبين الهجرة والجهاد، ونال بكلتي الفضيلتين ثم نال فضيلة الاستسقاء على منبر رسول الله في أيام عمر (¬4) مع ما خصّه الله تعالى من عمومة نبيه -عليه السلام- وولاية مواليه وذريته وأبوَّة خلفائه من غير منازع ولا مدافع فللَّه الحمد (¬5). {أَعْظَمُ دَرَجَةً} شرفًا أو ثواب الدنيا ليصح التفضيل على الكفار، وإن حُمل على درجات الآخرة، كان التفضيل على سبيل التوسع (¬6) والمجاز. {نَعِيمٌ} رفع لقوله {لَهُمْ} فيحسن الوقف على {وَرِضْوَانٍ} ويجوز أن يكون متعلقًا بـ {وَجَنَّاتٍ} فيوقف على {لَهُمْ} (¬7). ¬

_ (¬1) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 272 - 273) لأبي الشيخ. (¬2) البخاري (1635). (¬3) استئذان العباس مروي في الصحيحين. (¬4) استسقاء عمر بالعباس في البخاري (964). (¬5) يقصد خلافة بني العباس. (¬6) في "أ": (التوسيع). (¬7) يجوز في {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} [التوبة: 21] أن تكون صفة لـ {وَجَنَّاتٍ} وأن تكون صفة لـ {بِرَحْمَةٍ} [البقرة:218] وجوز ذلك مكي والسمين الحلبي، وجوز مكي أن تعود الصفة على البشرى المفهومة من قوله: {يُبَشِرُهُم}، ويجوز أن يكون (نعيم) =

{اسْتَحَبُّوا} اختاروا وارتضوا. {وَعَشِيرَتُكُمْ} قرابتكم (¬1)، {كَسَادَهَا} أراد ضد الرَّواج {بِأَمْرِهِ} بفتح مكة عن مجاهد (¬2)، ويحتمل أنها نزلت بعد فتح مكة، والأمر الموعود فتح تبوك أو تخريب مسجد ضرار أو صدّ المشركين عن المسجد الحرام أو الموت الذي لا بدّ منه. {لَقَدْ نَصَرَكُمُ} لما فرغ رسول الله من فتح مكة وكسر الأصنام ورجع إليه خالد وسائر السرايا قصد إلى حنين، وحنين وادٍ بين مكة والطائف، فقصد إلى حنين يغزو العرب كانوا تجمعوا لقتاله ثلاثين ألفًا من هوازن وثقيف وهلال وجشم يقودهم مالك بن عوف النضري، وكان حمل مع نفسه دريد بن الصمة الجشمي براية، وكان دريد معروفًا بالبأس والنجدة وأصالة الرأي، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة وذهب بصره، وحمله مالك مع نفسه، وكلّف الناس على حمل البيوت والأثقال إلى المعركة، فلما نزلوا ببعض المنازل سمع دريد جلبة وأصواتًا مختلفة فسأل مالك عنها، فقال: هذه أصوات الصبيان والنساء يختلف الناس على حمل بيوتهم إلى المعركة ليقاتلوا فيها ويحموها عن النهب والسلب، قال دريد: بئس الرأي ما رأيت يا مالك، فإن هؤلاء يزيدون المقاتلين شغلًا وخوفًا وفشلًا وجبنًا، فلم يلتفت مالك إلى قول دريد، حتى إذا كان يوم اللقاء جاء بأجفان سيوف الناس إلى دريد وهو في الخيمة، وقال دريد: ما هذه؟ قال: هذه أجفان السيوف أخذتها لأكسرها إذا اشتد الأمر، قال دريد: ولماذا تكسرها؟ قال: ليعلموا أنه لا سبيل إلى غمدها وإلى الانهزام، فضحك دريد وقال: يا مالك، إنك راعي الغنم فشأنك به ودع ¬

_ = فاعلًا بالجار قبله وهو أولى لأنه يصير من قبيل الوصف بالمفرد كما يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله. [المشكل (1/ 360)، الدر المصون (6/ 33)]. (¬1) (قرابتكم) ليست في "أ" "ب". (¬2) ابن أبي حاتم (6/ 1772).

أمر القتال، أترى هؤلاء القوم لئن انهزموا ليمنعنهم كسر أجفان سيوفهم فيصيرون على القتل لمكانها؟! وإن النبي -عليه السلام- (¬1) لما خرج من مكة استعار من صفوان بن أمية دروعًا، وكان صفوان مؤجلًا إلى أربعة أشهر ليسلم ولم يسلم بعدُ فخرج مع النبي -عليه السلام- (¬2) لمكان دروعه، وكان النبي -عليه السلام- (2) في عشرة آلاف فارس وأمر أبا سفيان فخرج في ألفي فارس من طلقاء مكة فكانوا اثني عشر ألفًا، فلما اقتربوا إلى العدو وصعد عباس (¬3) على بعض التلول واطلع على عسكر المسلمين وأعجبته الكثرة ونادى: يا رسول الله، لن نغلب اليوم عن قلة، فقال رسول الله: "مَهْ يا عم وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم"، فلم يمض عليهم ساعة حتى التقت الفئتان وكان رسول الله (¬4) يومئذٍ راكبًا بغلته الشهباء. وكان العباس أخذ بلجامها وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بفرزها (¬5) وعلي يقاتل بين يدي رسول الله، فأمر مالك بن عوف جموعه أن يحملوا على المسلمين حملة واحدة، لم يقم أحد من المسلمين وانكشفوا عن رسول الله (¬6) وكان كما قال الله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إنما ابتلوه (¬7) لكلمة عباس وإعجابه بالكثرة وكما قال عباس: أعجب بالكثرة وكان كثير من الناس أعجبوا بها فلم يبق مع رسول الله إلا عباس وعلي والفضل بن عباس وسفيان بن حارث بن ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي" وبدلها في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) لم نجد مَنْ عزاه للعباس وإنما عزوه لمجهول، وبعض الروايات عزته لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) بفرزها: الفرز: ركاب الرجل، لسان العرب: (فرز)، وقد تطلق على النصيب كما في الحديث: "من أخذ شفعًا فهو له ومن أخذ فرزًا فهو له" [العين (7/ 362)]. (¬6) (عن رسول الله) ليست في "أ". (¬7) في "ب": (ابتلوا).

عبد المطلب وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيدة وأسامة بن زيد ورجل آخر، وفي ذلك يقول ابن عباس (¬1): نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد ذر من قد ذر منهم فاقشعوا وثامننا لاقى الحمام بسيفه ... بما مسه في الله لايتوجع وفرح أبو سفيان بن حرب ومن معه من طلقاء مكة فشمتوا بالمسلمين، وقال أبو سفيان (¬2): اليوم بطل السَّحر، فقال له صفوان بن أمية وهو كافر: فضّ الله فاك؛ لأن يربنا رجل من قريش خير من أن يربنا رجل من هوازن (¬3)، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه عباسًا لينادي بالأنصار وكان جهوري الصوت، فقال: يا أصحاب بيعة العقبة، ويا أصحاب بيعة الشجرة، ويا أصحاب سورة البقرة، فعرفوا صوته، ورجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته وسلَّ سيفه وباشر الحرب بنفسه وكان يقول (¬5): "أنا النبي لاكذب ... أنا ابن عبد المطلب" (¬6) {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} عليه وعليهم، {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وهزم الكفار بعد أن قتلوا منهم مقتلة عظيمة، حتى إن الرجل الواحد من ¬

_ (¬1) البيت للعباس وليس لابن عباس وورد في جميع النسخ المخطوطة لابن عباس. وقد ورد الشعر في مصادر كثيرة وفي بعضها (تسعة) (وعاشرنا) ولعل سبب الاختلاف هو عدد من ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) القائل في جميع المصادر هو كلدة بن حنبل أو جبلة بن حنبل أخو صفوان لأمه، أما أبو سفيان فقال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. (¬3) هذه الحادثة رواها من طريق ابن إسحاق الطبري في تاريخه (2/ 168)، وابن حبان (4774)، وأبو يعلى (1863)، وسندها حسن. (¬4) من قوله (الشجرة) إلى هنا ليست في "أ". (¬5) (يقول) ليست في النسخ المخطوطة ولا بدّ منها. (¬6) الحادثة أصلها عند مسلم (1775)، وابن سعد (8/ 14)، وعبد الرزاق في مصنفه (9741)، والنسائي في الكبرى (8647)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1773)، والحاكم (3/ 327).

المسلمين قد تولى قتل ثلاثين وأربعين وخمسين نفسًا من الكفار، والتجأ مالك بن عوف إلى الطائف مذعورًا مدحورًا في نفر يسير من الأشقياء، وغنم المسلمون أموالهم ونساءهم وذراريهم، وبلغ عدد النبي ستة آلاف رأس، وعثر رجل من الأنصار على دريد بن الصمّة يريد قتله، قال دريد: ومن أنت؟ فتعرف له الرجل. قال دريد: أما إني قد أنعمت (¬1) على أمهاتك وفككت (¬2) من الرق ثلاثًا (¬3) من جداتك قبل أن خلقت وسماهن له، فضرب الرجل بسيفه ضربة في عنقه فلم يخدشه خدشة فكأنما ضرب على صمدة (¬4)، فقال دريد: بئس شيء سلحتك أمك، خذ سيفك من وراء المحمل واضربني به ولا تضرب على العظم ولا على الجلد المنزي ولكن اتبع اللحم، ففعل الرجل كما علمه دريد فاجتز رأسه (¬5). وأعطى رسول الله أبا سفيان وأصحابه من الغنيمة هذه (¬6) أموالًا كثيرة يؤلف قلوبهم بذكر الله، واستوحش الأنصار بذلك ثم رضوا بحكم الله ورسوله، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أما ترضون أن يرجع الناس إلى ديارهم بالأموال وترجعون إلى دياركم بنبي الله؟ " فاستهلوا بالرضا والحمد لله (¬7). {مَوَاطِنَ} جمع موطن وهو موضع القرار والسكون والرحب السعة وقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} أي: ضاقت برحبها ومع رحبها، وذلك من شدة الخوف وانسداد سبيل الهزيمة بالدهش واستقبال العدو من كل وجه. ¬

_ (¬1) في "أ": (منعت). (¬2) في "أ": (وملكت). (¬3) في "أ": (تتثا). (¬4) في "أ": (صمة). (¬5) قتل دريد بن الصمة عند ابن هشام في السيرة (5/ 122)، وابن حبان في الثقات (1/ 346)، وابن كثير في البداية (4/ 337) والذي قتله ربيعة بن رفيع السلمي. (¬6) (هذه) ليست في الأصل. (¬7) البخاري (3567)، ومسلم (1059).

وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ} يحتمل أنها عامة ويحتمل أنها في الذين أتوا رسول الله مستسلمين يفدون الأسارى فمنَّ عليهم رسول الله -عليه السلام- (¬1). {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الحال تدل على أنهم مشركو العرب لأنهم كانوا يقربون المسجد الحرام ويختلفون إليه بالحج والعمرة دون سائر الناس، وإن (¬2) اعتبرنا بالغالب من إطلاق الكتاب والسنة دلَّ ذلك أيضًا وهم عبدة الأوثان دون سائر الكفار؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]، وقال -عليه السلام-: "من أسلم من أهل الكتاب كان أجره مرتين وله ما لنا وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين كان له ما لنا وعليه ما علينا" (¬3)، وإن اعتبرنا الشأن والنزول دل ذلك أيضًا، قال أبو هريرة: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله فنادى بأربع: "أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريانًا، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر" (¬4) وهكذا روى مقسم عن ابن عباس في حديث طويل، ودلته الدلائل أن عرفة حرمة قربان المشركين كالمسجد الحرام وعرفة ليست من الحرم فهي كسائر مساجد الإسلام، ودلَّ كتاب الله أن المستجير مستثنى من جملة المشركين، ويجوز له أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الحرام حتى يسمع كلام الله ثم يعود إلى مأمنه. أبو الزبير عن جابر في هذه الآية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الجزية (¬5)، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال: قال المؤمنون: كنا نصيب متاجر ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "أ": (وإنما). (¬3) أحمد (5/ 259)، والطبراني في الكبير (7786)، والحديث صحيح. (¬4) أصل الحديث في البخاري (362)، ومسلم (1347)، والحديث بهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3091)، والنسائي (5/ 234)، وأحمد (2/ 299). (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 271، 272)، وابن جرير (11/ 404)، وابن أبي حاتم (6/ 1775).

المشركين فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضًا لهم (¬1)، قال الطحاوي: العوض هي الجزية المذكورة بعد هذه، وقال الفراء: العوض هو خصب تبالة وحرش أسلموا وحملوا طعامهم إلى مكة (¬2)، (النجس) شيء مستقذر وإذا قرنت به الرجس كسر النون قيل رجس نجس، {عَيْلَةً} فقرًا، ووجه تعليق الموعود بالمشيئة تصور موت كثير منهم قبل إنجاز الوعد وتصور فقر كثير منهم مع وجود الشرط وهو خوف العيلة بسائر أسباب الفقر وكل ذلك بتقدير الله. {قَاتِلُوا الَّذِينَ} عامة في قتال أهل الكفر، وتقديرها: والذين لا يحرمون والذين لا يدينون، وقد خرج عن عمومها النساء والذرية والمشايخ غير ذوي الرأي والعميان والزمنى (¬3) والأساقفة والرهبان الذين وقع الأمن من جهتهم، قال علي: كان رسول الله (¬4) إذا بعث جيشًا من المسلمين قال: "انطلقوا بسم الله في سبيل الله" إلى أن قال: "ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً ولا شيخًا كبيرًا" (¬5). وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: "اغزوا بسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" (¬6)، وكذا أبو بكر الصديق إلى يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة حين بعثهم إلى الشام (¬7)، ويحتمل أن الآية خاصة في المقاتلين دون من وقع الأمن من ¬

_ (¬1) ابن أبي حاتم (6/ 1777). (¬2) قول الفراء مروي قريب منه عن عكرمة كما عند القرطبي (8/ 95). (¬3) (والزمنى) بياض في "أ". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) عبد الرزاق في مصنفه (9430)، وابن أبي شيبة (6/ 483)، وسعيد بن منصور (2476)، وتمام في فوائده (200)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 233). (¬6) أحمد (1/ 300)، والطبراني في الكبير (11562)، وفي الأوسط (4162)، وأبو يعلى (2549)، والحديث حسن. (¬7) ورد ذلك في وصية أبي بكر لجيش أسامة كما في الطبري في تاريخه (2/ 246)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 50).

جهتهم، وإلى هذا أشار -عليه السلام- حين رأى امرأة مقتولة (¬1). و {الْجِزْيَةَ} اسم المقضي عن الرقاب والظاهر أن يكف عن قتالهم حتى يعطوا الجزية نقدًا، إلا أن (¬2) الدلالة قامت على وجوب الكف بالالتزام على شرط اليسار، {عَن يَدٍ} عن نعمةٍ منكم عليهم وذمة منكم لهم، وقيل: عن قهر. وقيل: عن نقد كقوله في حديث الربا: "يدًا بيد" (¬3). ومقدار الجزية ما روي عن عمر أنه بعث حذيفة بن (¬4) اليمان وعثمان بن حنيف إلى السواد حتى وضعا عليهم الجزية، فصنفا الناس ثلاثة أصناف ووضعا على الأغنياء ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى الأوساط المحتملين أربعة وعشرين، وعلى الفقراء المكتسبين اثني عشر درهمًا، ولم يوجبا على النساء والصبيان والفقراء الذين لا يقدرون على الكسب شيئًا (¬5)، ودلت الآية على سقوط الجزية بالموت والإِسلام لفوات القتال، وفي الآية جواز أخذ الجزية عن أهل الكتاب وليس فيها نفي جوازه عن غيرهم. وقد صح عنه -عليه السلام- (¬6) جواز أخذها عن عبدة (¬7) الأوثان من العجم (¬8) وعن مجوس هجَر وهم عبدة النيران (¬9). ¬

_ (¬1) البخاري (2851)، ومسلم (1744). (¬2) في الأصل: (الآن). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: المساقاة، باب الصرف (5/ 266)، والنسائي (7/ 274)، والإمام أحمد (2/ 109). (¬4) (بن) ليست في الأصل. (¬5) فعل عمر ذلك ذكره مالك في الموطأ (333)، وابن أبي شيبة (2/ 430) (6/ 429) وغيرهم، أما حادثة بعث حذيفة فلم أجدها، وأما عثمان بن حنيف فذكره ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 246). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في "أ": (عهده). (¬8) يقصد ما قاله المغيرة بن شعبة لرستم قبيل معركة القادسية عندما خيره بين الإسلام أو الجزية، وانظر ابن أبي حاتم (6/ 1780). (¬9) ابن أبي شيبة (12/ 243).

{عُزَيْرٌ} بن سُوْيا (¬1) من أولاد فنحس بن عازور بن هارون بن عمران، وكان عزير يوم سبى بخت نصر بني إسرائيل ابن ست سنين معه أمه، ثم ماتت أمه وكفله دانيال -عليه السلام-، وعلمه الكتابة قصدًا من التوراة، وهما دعوا كيرش الملك ملك فارس إلى توحيد الله ودينه وعمارة بيت المقدس وردّ خزائنه وأهله إليه، ثم توفي دانيال وهو ابن مائة وثلاثين سنة فخلفه عُزير وهو ابن ثلاث وتسعين سنة فصار قاضي القضاة وحكم الحكماء، وقد ذهب أكثر التوراة عن اليهود ولم يبق منها نسخة إلا نسخة الصابئين باليمن ونسخة مدفونة ببيت المقدس بحث عنها المسيح -عليه السلام- فكتبها لهم عزير بإذن الله تعالى وإلهامه بخمسة أقلام، وكان يستمد بقلم من تلك الأقلام فيكتب به ما شاء الله فإذا انقطع المداد كسر القلم ورمى به وأخذ قلمًا آخر، فانتهت التوراة بانتهاء هذه الأقلام الخمسة، وكان ذلك آية من آيات الله تعالى معجزة لعزير -عليه السلام-، فلما فرغ من الكتابة مرض من يومه فختم على التوراة وسلمها إلى رجل صالح يسمى زكريا وأوصى إليه إملاء التوراة إلى بني إسرائيل، وتوفي عزير وتوفي بعده بيومين هذا الرجل الصالح وصارت التوراة عند ينجايل بن نبيا وكان رجلًا خمِّيرًا شرّيبًا، فرفع الختم وحرف الكلم عن مواضعه ثم ردّ الختم كما كان حتى رفع الختم ثانيًا بمشهد من بني إسرائيل وأملاها عليهم بالتبديل والتحريف ولبسَ الأمر عليهم. قال ابن عباس: كان عزير يصلي، فبينا هو كذلك إذ نزل نور ودخل جوفه وعاد إليه ما ذهب من التوراة، فأذن في قومه: قد ردّ الله علي التوراة، فجعل يعلمهم فقابلوا ما أخذوا عنه بما وجدوه في التابوت فوجدوه مثله فقالوا: ما أوتي عزير هذه إلا أنه ابن الله (¬2)، وعن الكلبي: أنه مات مائة سنة ثم أحياه الله تعالى فجاء إلى بني إسرائيل بالتوراة فلم يصدقوه حتى أخبرهم عن أبيه عن جده أن نسخة من التوراة مدفونة في ¬

_ (¬1) في المخطوطات (سويا) ولم نجد فيما بين أيدينا من المصادر فلعلها (سورخا) كما في "قصص الأنبياء" لابن كثير (500)، وابن عساكر (40/ 324). (¬2) هذه القصة لم نجد ذكرها بهذا السياق.

موضع كذا وكذا، فانطلقوا إليه وبحثوا عنها فلم يجدوه غادر منها حرفًا، فعند ذلك وقعت لهم الشبهة وقالوا: إنه ابن الله (¬1)، وإنما أسند هذه المقالة إلى جماعة من اليهود على طريق المجاز (¬2) كما تقول الروافض علي إله، وقالت الخوارج: تعذب الأطفال، وإنما قالت الإسماعيلية (¬3) من الروافض والأزارقة من الخوارج فقط. {يُضَاهِئُونَ} يشابهون ويماثلون الذين كفروا من قبل، هم الذين ادعوا حلول الباري سبحانه في أجسام ترابية منهم جمّ الملك والذين عبدوه، ونمرود وفرعون والهنود وبنو المليح (¬4) الذين زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} وهو تركهم كتاب الله بتاويلاتهم وإعراضهم عن القرآن وسائر الآيات المعجزة الإلهية إلى اعتقادهم الباطل في المسيح -عليه السلام- (¬5). (إطفاء نور الله) بمسهم إبطال القرآن والإيمان بتأويلاتهم وأكاذيبهم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي: ولا يريد الله لنوره إلا إتمامه وإن كره الكافرون ذلك، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

_ (¬1) قريبًا من هذه القصة ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 43) عن إسحاق بن بشر. (¬2) لو قال كما قال القرطبي (8/ 107): (هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص؛ لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك)، فليس هناك ثمة مجاز بل خاص وعام. ولشيخ الإسلام ابن تيمية توجيه أحسن من هذا فقد سئل عن هذه الآية فقال: (الحمد لله المراد باليهود جنس اليهود كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] لم يقل: جميع الناس ولا قالوا: إن جميع الناس قد جمعوا لكم، بل المراد به الجنس، وهذا ما قال الطائفة الفلانية تفعل كذا وأهل الفلاني يفعلون كذا، وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك فيشتركون في إثم القول، والله أعلم) اهـ. انظر: مجموع الفتاوى (15/ 47). (¬3) يقصد بعض الإسماعيلية والنصيرية. (¬4) ذكر بنو المليح القرطبي في تفسيره (15/ 118)، وكذا تفسير أبي السعود (6/ 63) وروح المعاني (15/ 195) وهناك أقوال أنهم خزاعة وكنانة وجهينة وبنو سلمة بنو عبد الدار. (¬5) (السلام) ليست في "ي".

{بِالْهُدَى} الأصل وبـ (دين الحق) الفرع إن شاء الله، ويحتمل بـ (الهدى) الفرقان وبـ (دين الحق) الإسلام، وقيل: هما واحد، واختلاف اللفظين، {لِيُظْهِرَهُ} لينصر (¬1) أهله على أهل الأديان كلها وليجعله أبين وأوضح من سائر الأديان، وقد كان بحمد الله. وإنما أخبر عن حال الأحبار والرهبان ليبين أنهم ليسوا معصومين كالأنبياء، ويجوز تصديقهم وتقليدهم (¬2) من غير مطالبة بالدليل والأكل والأخذ والإمساك ولذلك ابتدأ وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} وهم المرادون بهذه الصفة المشروطة، و (الكنز) (¬3) كل مال مدّخر لا ينفق، والاكتناز الاجتماع، والهاء في {يُنْفِقُونَهَا} عائدة إلى الأموال والكنوز، وقيل: إلى الذهب، وقيل: إلى الفضة وحدها (¬4) على ما قدمنا، وجواب الشرط {فَبَشِّرْهُمْ}. {يَومَ} نصب على الظرف والعامل العذاب لا البشارة، {يُحْمَى} يولد الحرارة، ويحتمل أن يحيى الذهب على الفضة في نار جهنم، ويحتمل يحيى شيء من الحطب والفحم على كنوزهم في نار جهنم حتى يصير نارًا، و (الكي) إمساس البشرة شيئًا حاميًا لينًا وثوبه يحترق، و (الجبهة) ما فوق الأنف، وكيها أقبح وأبلغ في العلامة، وكي الجنوب ¬

_ (¬1) في الأصل: (ليصغر). (¬2) في "ب": (كالأنبياء فيجوز تقليدهم وتكذيبهم وتصديقهم). (¬3) في "أ": (وأكثر). (¬4) ذكر الزجاج القولين المشهورين في توجيه هذه الآية: الأول: أن الضمير يرجع إلى الكنوز والأموال. والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة ومنه قول عمرو بن امرئ القيس: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلفُ التقدير: نحن بما عندنا راضون. وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112]، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]. [معاني القرآن للزجاج (1/ 434)، زاد المسير (2/ 255)].

والظهور يمنع راحة الاضطجاع. {هَذَا} أي: يقال لهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} (¬1). {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} اتصالها بما قبلها من حيث الإنكار على الأحبار (¬2) والرهبان وذكر صدهم عن سبيل الله، فمن جملة صدهم عن سبيل الله (¬3)، أنهم وجدوا الزمان المشتمل على المشهور الاثني عشر قاصرًا عن الاشتمال على الفصول الأربعة، نقلوا عن مواضعها بعد ما كانت معلقة بالقمر، أما اليهود فجعلوا السنة المجبورة ثلاثة عشر شهرًا وكرروا السنة التاسعة عشر جامعة لكسوره (¬4) المجتمعة من الشرعيات، وسمّوا الشهر الزائد آذار فكان لهم في السنة المجبورة آذاران (¬5) (¬6)، أما السريانيون فجعلوها تشرين الأول زائدًا بيوم والكانون الأول زائدًا والكانون الآخر زائدًا وجعلوا شباط ثمانية وعشرين في ثلاث سنين وتسعًا وعشرين يومًا في السنة الرابعة (¬7)، فاستدركوا بهذا الحساب أوقات زرعهم وتجارتهم وضربهم في الأرض، وأبطلوا مناسكهم وأعيادهم ومواسم دينهم فضلُّوا وأضلُّوا بتركهم مصالح معاشهم فأنكر الله ذلك عليهم وأخبر أن الشهور في كتاب الله {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}، {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ودور الأفلاك وسير الشمس والقمر والنجوم في بروجها، فتبين أنّ الشهور معلقة بالقمر لا محالة، وإلى هذا ذهبت العانانية (¬8) من اليهود فاتخذوا رؤوس شهورهم ¬

_ (¬1) في الأصل: (كفرتم). (¬2) (على الأخبار) ليست في "أ". (¬3) (فمن جملة صدّهم عن سبيل) ليست في "أ". (¬4) في الأصل "ب": (لكسور). (¬5) في الأصل: (إذاء وإن كان). (¬6) هذه أسماء المشهور الشمسية التي لا تزال مستعملة في بعض البلاد العربية كالعراق والأردن وغيرها. (¬7) وتسمى اليوم السنة الكبيسة. (¬8) هذه الفرقة اليهودية ذكرها ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والنحل (2/ 6)، والأحكام (5/ 150).

بالأَهلَّة وعدّوا ثلاثين إذا لم يروا الهلال واتخذوا المغاربة من اليهود رؤوس شهورهم من ليلة القدر. {مِنْهَا} من جملة المشهور الاثني عشر، {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} محرمة وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد، وتحريمها تحريم القتال فيها على وجه الابتداء، وكان هذا الحكم فيها بين العرب وفي ابتداء الإسلام وهو اليوم منسوخ، ولا يعرف له ناسخ (¬1)، وقيل: تحريمها تشريفها وتعظيمها ليكون الثواب فيهنّ أعظم وكذلك العقاب، {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} في هذه الأشهر الأربعة، ويجوز تخصيص النهي مع كونه عامًا كقوله في الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] الآية. وفائدة تعظيم الذنب في الزمان والمكان كفائدة تفضيل (¬2) العمل فيهما، كما أنه يجوز أن يكون حالًا للمأمورين ثم يسقط الفرض عن القاعدين بكفاية المجاهدين، ويجوز أن يكون حالًا للمشركين ثم تخصيص هذا العموم في آية الجزية. {لِيُوَاطِئُوا} ليوافقوا ويماثلوا، وأصله أن تطأ سيرة غيرك، والهمز وترك الهمز لغتان. محمَّد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان الناسىء رجلًا من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة بن عوف (¬3)، وكان يكون على الناس بالموسم (¬4) فإذا همَّ الناس بالصدور وفرغوا عن حجهم قام فخطب الناس، وقال: يا أيها الناس، أنا الذي ¬

_ (¬1) بل ناسخهُ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] الآية. وانظر: ابن جرير (2/ 395)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (124). (¬2) في الأصل: (تفضيله). (¬3) ورد عند القرطبي (8/ 125)، والبغوي (1/ 45)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 435) أنه نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، ثم كان بعده جنادة بن عوف، أما نعيم عن ثعلبة بن عوف فلم أجده. وليس في روايات الكلبي ذكر لجده عوف، وإنما جنادة بن عوف فلعله اختلط على المؤلف الاسم الأول مع الثاني. (¬4) في الأصل: (على الموسم).

لا أعاب ولا أجاب ولا مَردّ لما قضيت، فيقول (¬1) المشركون: لبيك (¬2) ربنا، ثم يسألونه أن ينسيهم شهرًا يغيرون فيه، فإن قال: إن صفر العام حرام حلّوا الأوتار ونزحوا الأزجة (¬3) والقطب وإن قال: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة والقطب، وخرجوا فأغاروا على الناس، قال محمَّد: فقلت للكلبي: إذا كانوا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا (¬4) فكيف كان الناس لا يأخذون حذرهم في نوبة الحلال، قال: إنما يفعلون ذلك في السنين وهم أغرّ ما كانوا، فكان التحريم والتحليل في هذين الشهرين المحرم وصفر، وإنما فعل ذلك بهم لأنهم كانوا يصيبون على ظهور الدواب من الغارة، وكانت معيشتهم منها فشق عليهم توالي الأشهر الحرم. محمَّد بن إسحاق عن الكلبي قال: أول من أنسأ الشهر من مصر مالك بن كنانة، وذلك أنه نكح إلى معاوية بن ثور الكندي وكانت النساة (¬5) في كندة وهم ملوك ربيعة ومُضَر فورثها مالك بن كنانة منهم، ثم نسأ ثعلبة بن مالك بن الحرث، ثم نسأ بعده سدير بن القَلَمَّس، ثم كانت النسأة في بني فُقَيْم من بني ثعلبة، وكان آخر من نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد ابن فُقَيم (¬6) قال: وكانوا يسمون المحرم صفر الأول فيقول (¬7) صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (فنقول له). (¬2) في الأصل: (إليك). (¬3) في الأصل: (الإزاحة). (¬4) (عامًا) من الأصل. (¬5) في الأصل: (النساء). (¬6) رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 452)، قال: النسيءُ: أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادى: ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول حلال فيحله الناس، فيحرم صفر عامًا، ويحرم المحرم عامًا فذلك قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] وأخرجه أيضًا عن ابن عباس ابن أبي حاتم (1793). (¬7) في الأصل و"أ": (فيقولون).

وشعبان وشهر رمضان وذو القعدة وذو الحجة فكان الناسىء ينسىء سنة ويترك سنة، وليحلوا (¬1) الحرام ويحرموا الحلال فإذا قال: نسأت من هذه السنة صفرًا طرحوه ولم يعتدوا به وقالوا: الصفر وشهر ربيع الأول صفران ولشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى شهرا ربيع ولجمادى الآخر (¬2) ورجب جماديان على هذا الترتيب، ثم يمسك عن الإنساء في السنة الثانية ويقول: يا أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم وعظموا شعائركم وقد أحللت دماء المحلين طي وخثعم في الأشهر الحرم وإنما يحل دماء هاتين القبيلتين لاستحلالهما الأشهر الحرم ومخالفتهما سائر العرب في اعتقاد تحريم هذه الأشهر، ثم ينسأ في السنة الثانية صفر الأول عنده وهو الصفر الثاني في الحساب المستقيم فيقول لشهري ربيع صفران ولجمادين شهرا ربيع ولرجب وشعبان جماديان على هذا الترتيب حتى يستدير الحج في كل أربع (¬3) وعشرين سنة إلى الشهر الذي ابتدأ منه، وكان الحج سنة الفتح وهي سنة ثمان قد انتهى إلى ذي القعدة فلم يأمر رسول الله (¬4) عتاب بن أسيد، وحج أبو بكر سنة تسع وحج رسول الله سنة عشر فوقف بعرفة، وقال: "يا أيها الناس إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض (¬5) فلا شهر ينسى ولا عدة تحظى صوان الحج في ذي الحجة". وعن مجاهد (¬6) وغيره قال: كانوا يحجون في كل شهر عامين فإذا مضت ¬

_ (¬1) في الأصل: ويحلوا. (¬2) في الأصل: (الأخرى). (¬3) في الأصل و"أ": (أربعة). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع (67 - 105 - 1741 - 3197 - 4406 - 4662)، ومسلم في صحيحه (1679)، وأبو داود (1948)، وأحمد (5/ 39) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (¬6) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 454)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 275)، وابن أبي حاتم (1795).

الثلاث عشرة سنة استقبلوا العدة وكانت حجة (¬1) أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة وكذلك كانوا حجوا في ثمان ثم استقبل النبي -عليه السلام- (¬2) ذي الحجة فذلك قوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} نزلت في شأن غزوة تبوك (¬3) استنفرهم رسول الله حالة العسرة والجدب والزمان زمان قيظ والشدة بعيدة والعدو الروم، فتثاقل المؤمنون وتكاسل المنافقون وتخوفوا مثل يوم مؤتة الذي قتل فيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلاصة المؤمنين واثقًا بالله متوكلًا عليه حتى انتهى إلى تبوك فلم يجد من يقابله، وخرج إليه رئيس البلدة مستسلمًا والتزم الجزية، وكذلك التزم الجزية أهل خربا وأدرح، وأرسل رسول الله (¬4) خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فصادف صاحبها متصيدًا مع نفر يسير وهو أكيدر بن عبد الملك الكندي من أبناء الملوك، فأخذه وجاء به إلى رسول الله (4) فمنَّ عليه وأطلقه بعد أن التزم الجزية، ثم رجع (¬5) رسول الله على رغم المنافقين إلى المدينة سالمًا غانمًا مظفرًا بفضل الله ورحمته {مِنَ الْآخِرَةِ} أي: بدلًا منها وعوضًا {فِي الْآخِرَةِ} في قياس الآخرة ومقابلتها، وكان -عليه السلام- (¬6) قد استخلف على المدينة في هذه الغزوة علي بن أبي طالب. عن مصعب بن سعد عن أبيه أن النبي -عليه السلام- (6) قد خلف عليًا في غزوة تبوك وقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى -عليه السلام- غير أنه لا نبي بعدي" أخرجه مسلم والبخاري وأبو عيسى (¬7). ¬

_ (¬1) في "ب": (عدة). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 460)، وابن أبي حاتم (1796)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 237) إلى ابن المنذر وأبي الشيخ، كلهم عن مجاهد. (¬4) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬5) (رجع) من "ي" "ب". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) البخاري (3503)، ومسلم (2404)، والترمذي (3731).

{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ (¬1)} قال ابن عباس: نزلت في حي من أحياء العرب قعدوا عن الخروج مع رسول الله فأمسك الله عنهم المطر وابتلاهم بالجدب فذلك العذاب الأليم (¬2)، والمراد بالأبدال: اليمن، وقيل: أبناء فارس وسائر الغزاة إلى اليوم، روي أن عليًا خطب يومًا فأتاه الأشعث وهو يخطب على المنبر فقال: غلبتنا عليك هذه الحمراء، يعني: الموالي، فقال علي: من يعذرني من هذه الضياطرة يتخلف أحدهم يتقلب على حشاياه، إن طردتهم إني إذًا لمن الظالمين، والله لقد سمعت رسول الله -عليه السلام- (¬3) يقول: "لينصرنكم على الدين كما ضربتموهم عليه بدًا" (¬4). عن ابن شهاب قال: قدمت على عبد الملك بن مروان، قال: من أين قدمت يا زهري، قلت: مكة، قال: من خلفت يسود أهلها، قال: قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: أمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبما سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية؛ قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبما سادهم؟ قلت: بما ساد عطاء، قال: إنه لينبغي، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن حبيب، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ومن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: عبد نوبيٌّ أعتقته امرأة من هذيل، قال: فمن أهل الجزيرة، قلت: ابن مهران، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ويلك من يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، ¬

_ (¬1) (يعذبكم) ليست في "ب". (¬2) أبو داود (2506)، وابن جرير (11/ 461)، وابن أبي حاتم (6/ 1797)، والحاكم (2/ 118)، والبيهقي (9/ 48)، وسنده ضعيف. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ذكره الشافعي في الأم (7/ 259)، وكذا ذكره ابن منظور في "لسان العرب" (4/ 208).

قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري فرَّجت علي، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال الزهري: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه من حفظه ساد ومن ضيعه سقط (¬1). {إِلَّا ننَصُرُوُه} نزلت في تذكرهم نصرة الله نبيه -عليه السلام- وصاحبه أبا بكر الصديق حين خرجا من مكة و {الْغَار} الشق الكبير في الجبل، {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} في الموالاة والحفظ، {سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} يحتمل في النبي -عليه السلام- (¬2) ويحتمل في أبي بكر ويحتمل فيهما، لكن كنى عن أحدهما على سبيل الاقتصار كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وتأييده بالجنود يومئذ بإنزال الملائكة ليصرف عنهما، وقيل: أراد تأييده يوم بدر ويوم حنين، وأراد بالكلمة الدين والدعوة. فخرج إلى طلبها سراقة بن مالك بن جعشم القصة، وقصة (¬3) مرض النبي -عليه السلام- وقال: "مروا أبا بكر ليصلي بالناس" إلى أن بايعوا أبا بكر. عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله ثم (¬4) قال: لما كان اليوم (¬5) الذي قبض فيه أبو بكر الصديق فسجوه بثوب ارتجت المدينة بالبكاء وأبلس الناس كيوم قبض فيه النبي -عليه السلام- وجاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه مسرعًا مسترجعًا باكيًا وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة من أمة محمَّد -عليه السلام- حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر - رضي الله عنه - مسجّى فقال: رحمك الله أبا بكر (¬6) كنت إلف رسول الله (¬7) وأنسه ومستراحه وثقته ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال (20/ 81). (¬2) (يحتمل في النبي - صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬3) (قصة) من "ي" "ب". (¬4) (صاحب رسول الله ثم) ليست في "ب"، وفي "أ": (صاحب رسول الله قال). (¬5) في "ب": (في اليوم). (¬6) في "ب": (يا أبا بكر). (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

وموضع سرّه، كنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم إيمانًا وأشدهم يقينًا وأخوفهم قلبًا وأعظمهم غناءً في دين الله وأحوطهم على رسول الله (¬1)، وأحدبهم على الإسلام وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهمٍ سوابق وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة من رسول الله، وأشبههم به هديًا وخلقًا وسمتًا ورحمةً وفضلًا وأشرفهم منزلةً وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرًا، صدقت رسوله (¬2) حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقًا فقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] جاء بالصدق: بمحمد، وصدّق به (¬3): أبو بكر، واسيته حين بخلوا وكنت معه (¬4) عند المكاره حين عنه (¬5) قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وصاحبه في الغار، والمُنَزَّل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله وأمته، فأحسنت الخلافة حين ارتدَّ الناس فقمت في دين الله قيامًا ما لم يقم به خليفة نبي قط، فنهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله (¬6) إذ هموا (¬7). كنت خليفته حقًا لم تنازع ولم تصدع بزعم المنافقين وكذب الكافرين وكره الحاسدين وصغر الفاسقين وغيظ الباغين، فقصت بالأمر حين فشلوا ونطقت حين تتعتعوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا واتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتًا وأعلاهم قوتًا وأقلهم كلامًا وأصوبهم منطقًا وأطولهم صمتًا وأبلغهم قولًا وأكبرهم رأيًا وأشجعهم قلبًا وأشدهم يقينًا وأحسنهم عملًا ¬

_ (¬1) في "أ": (وأحوطهم على رسوله واجد على رسوله وأحد بهم). (¬2) في "ب": (رسول الله). (¬3) في "أ": (جاءنا بالصدق محمَّد وصدّق) ساقطة، وفي "ب" "ي": (وجاء). (¬4) (حين بخلوا وكنت معه) ليست في "ب". (¬5) في الأصل (عند). (¬6) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬7) في "أ" والأصل (إذنتموا).

وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين (نصيرًا) (¬1) أولًا حين تفرق عنه الناس وآخرًا حين فشلوا، كنت للمؤمنين أبًا رحيمًا حين صاروا عليك عيالًا فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ورعيت ما أهملوا وحفظت ما أضاعوا وأدركت بعلمك ماجهلوا، تشمرت (¬2) إذ خنعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا فأدركت أوتار ما طلبوا وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابًا صبًا وللمؤمنين رحمة وأنسًا وللمؤمنين غيثًا وخصبًا، فطرت والله بغنائها وفزت بحبائها وذهبت بفضائلها وأدركت سوابقها، لم تفلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم يزغ قلبك ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزلزله القواصف، كنت كما قال رسول الله -عليه السلام-: "ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله، جليلًا في الأرض كبيرًا عند المومنين"، لم يكن لأحد فيك ولا لقائل فيك مغمز ولا لأحد فيك مطمع ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل (¬3) عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك سواء أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم، فأقلعت وقت نهج السبيل وسهل العسير وأطفيت النيران واعتدل الدين فقوي الإيمان وظهر (¬4) أمر الله ولو كره الكافرون فخليت عنهم فأبصروا، فسبقت والله سبقًا بعيدًا وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا وفزت بالخير فوزًا مبينًا فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك في السماء وهدّت مصيبتك في الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قضاءه وأسلمنا لأمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وصونًا وكهفًا وحرزًا وللمؤمنين فئة وحصنًا وغيثًا وأنسًا وعلى المنافقين ¬

_ (¬1) (نصيرًا) ليست في الأصل و"أ". (¬2) في "أ": (اشمرت). (¬3) (عندك هوادة الضعيف ذليل) ليست في "أ". (¬4) في "أ": (وأظهر).

غلظة وكظمًا وغيظًا فألحقك الله نبينا ونبيك - صلى الله عليه وسلم - ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: وسكت الناس حتى انقضى كلامه ثم بكى وبكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله (¬1). {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} خفافًا (¬2): أهل يسار، و (ثقالًا): المعسرين، عن ابن عباس (¬3)، وقال مقاتل وطاووس عن ابن عباس: نشاطًا وغير نشاط (¬4)، وقال ابن زيد: الثقال: أصحاب (¬5) الضيعة، والخفاف (¬6): غيرهم، وقيل: العُزاب والمتأهلون (¬7)، وعن عطية العوفي (¬8): الركبان والمشاة (¬9)، وعن مرة الهمداني: الأصحاء (¬10) والمرضى (¬11)، وعن الحسن البصري: الشبان والشيوخ (¬12)، وعن الحسن أيضًا: المتفرغون والمشاغيل (¬13). ¬

_ (¬1) البزار (928)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/ 57)، وابن عساكر (30/ 430، 438) (32/ 396)، ومدار الرواية على عمر بن إبراهيم الهاشمي وهو كذاب، والكذب واضح على الرواية. (¬2) (خفافًا) ليست في "أ". (¬3) ذكره عن ابن عباس في زاد المسير (3/ 442). (¬4) أما عن ابن عباس فعند البغوي (1/ 53)، وأما عن مقاتل ففي زاد المسير (3/ 442)، وأما عن طاوس فلم أجده. (¬5) في الأصل: (أهل). (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 442)، والبغوي (1/ 53). (¬7) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 443) عن يمان بن رئاب، والبغوي (1/ 53). (¬8) في الأصل: (العوافي). (¬9) عزاه ابن الجوزي (3/ 442) وقال: عن عطاء عن ابن عباس، وعزاه البغوي (1/ 53) لعطية. (¬10) في "أ": (الأصحاب). (¬11) عزاه له ابن الجوزي (3/ 443)، والبغوي (1/ 53). (¬12) عزاه له ابن الجوزي (3/ 443). (¬13) عزاه للحسن ابن الجوزي (3/ 442) وهو عند ابن أبي شيبة (4/ 209).

وعن الزهري أن سعيد بن المسيب خرج إلى العدو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل: ليس عليك حرج فإن عليك صاحب ضرر فقال: استنفر الخفيف والثقيل هان لم يمكني الحرب فكثرت السّواد وحفظت المتاع، وهذه الآية منسوخة بقوله (¬1): {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] عند بعض الناس وغير منسوخة عند الأكثرين. {لَوْ كَانَ} ما تدعوهم، {عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا} مقتصدًا دون البعيد فوق القريب، {الشُّقَّةُ} الناحية، عن ابن عرفة جمعه شقق (¬2)، قال الفراء {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} يعلمهم كاذبين، العلم واقع على ذواتهم وأخبارهم جملة يدل عليه كسرة الهمزة من قوله: {إِنَّهُمْ} ودخول اللام في الخبر، ولو كان العلم واقعًا على مجرد فعلهم لكانت مفتوحة ولما دخلت اللام في الخبر، روي أن الحجاج بنيوسف أخطأ في "العاديات" فقرأ: أنَّ ربَّهم بفتح الهمزة، فلما علم أنه أخطأ استدرك بإسقاط اللام فقال: (يومئذ خبير). {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} وإنما قدّم العفو لتلطيف العتاب كقولك: رحمك الله لم فعلت، وعافاك الله لم فعلت. كان النبي -عليه السلام- (¬3) أذن في التخلف للمعتذرين إليه على الفور من غير تثبت وتمييز بين الصادقين والكاذبين معتبرًا بالظاهر من أحوالهم وكان ذلك له جائزًا لقوله: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] إلا أنه سلك سبيل الرخصة وترك الاحتياط فأنكر الله ذلك عليه وبين له أنه لو فعل غير ذلك لكان أحسن وأحوط. الاستئذان المنفي عن المؤمنين استئذانهم لئلا يجاهدوا وكراهة أن يجاهدوا، والاستئذان المختص بالمؤمنين في سورة "النور" توقفهم للإذن وتركهم الانسلال والانتشار للحوائج من غير إذن الرسول -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) البغوي (1/ 53). (¬2) قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الشقة: السفر، وقال الزجاج: الشقة: الغاية التي تقصد، وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، ويجوز ضم الشين وكسرها. [إعراب القرآن للنحاس (3/ 51)، مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 260)، زاد المسير (2/ 263)]. (¬3) (السلام) ليست في "ي".

وفي قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ} دليل على أن الإيمان لا يصح من غير معرفة الله سبحانه لأن للريب مدخلًا وللشبهة موضعًا في الإيمان ما لم يتصل (¬1) بمعرفة الله تعالى، وإنما كره انبعاثهم لأن انبعاثهم لو وجد لكان معصية ولم يكن طاعة لقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} فهذه الكراهة ككراهة الصلاة بغير طهارة، كره فعلها من غير (¬2) وجه وتركها من وجه. (التثبط) التعويق، وقيل: التثقيل، وفلان ثبط أي: ثقل، والقول لهم: {اقْعُدُوا} هو إذن النبي -عليه السلام- (¬3) ويحتمل قول بعضهم لبعض، ويحتمل أنه أمر تكوين وتقدير من الله تعالى للقاعدين النساء والصبيان وأصحاب الأعذار، (إيضاع الإبل) حملها على الإسراع في السير، والمراد به إسراع المنافقين في المشي بالنميمة من المؤمنين وبالأراجيف المكروهة، وفي قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} دليل أن بعض المنافقين أو بعض من كان يخالطهم ويعاشرهم كان قد خرج للنبي -عليه السلام- (3) (ابتغاؤهم الفتنة) من قبل رجوع ابن أُبي بن سلول يوم أُحُد بثلث الناس وإرجافهم في المدينة بالأراجيف المكروهة وإغراؤهم بين المؤمنين. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} نزلت في جد بن قيس قال له النبي -عليه السلام- (3): "هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ "، فقال: ائذن لي يا رسول الله ولا تفتني؛ أي: لا تؤثمني فإني رجل كلف بالنساء مستهتر بهن، فإذا رأيت بنات الأصفر لم أصبر عنهن (¬4)، وبنو الأصفر هم الروم ينسبون إلى حبشي ملكهم واستولد نساءهم. {أَخَذْنَا أَمْرَنَا} شأننا من الحزم والاحتياط. ¬

_ (¬1) من قوله: (دليل) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) (غير) ليست في "أ" "ي". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ابن هشام في السيرة (2/ 516) عن ابن إسحاق، والطبراني في الكبير (12654)، وابن أبي حاتم (6/ 1809)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 512)، والبيهقي في الدلائل (5/ 213، 214) عن ابن عباس مرفوعًا. وسبب ضعفه أن فيه بشر بن عمارة وهو ضعيف والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وضعفه الهيثمي في المجمع (7/ 30)، وسبب النزول غير ثابت ضعيف.

{مَا كَتَبَ اللَّهُ} هو أن يرزقهم إحدى الحسنيين إما بالنصرة والغنيمة وإما التمحيص والشهادة في كل جهاد لا محالة (¬1). {بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} من عند الله ما يرسل عليهم في الدنيا من الشدائد ليجعلهم نكالًا ثم يسوقهم إلى عذاب النار وإما يصيبهم الله بأيدينا) الحدُّ والتعزير في الجنايات والحبس في التهم والقتل على ظهور الكفر منهم (¬2)، {فَتَرَبَّصُوا} تهديد. {قُلْ أَنْفِقُوا} ابن عباس: نزلت في جدّ بن قيس حيث قال: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] هذا مالي خذ منه ما شئت فإني أعينك به (¬3)، وقوله: {قُلْ أَنْفِقُوا} في معنى الشرط (¬4) كقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وقال أبو الدرداء وجدت (أخبرُ تَقْلِه) (¬5)، وفي المثل: (عش رجبًا (¬6) تر عجبًا) (¬7). ويجوز أنه إنما لا تقبل نفقاتهم، {طَوْعًا} لأن النفقة لا تكون قربة ¬

_ (¬1) وهذا قول الزجاج، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما قضى علينا. [زاد المسير (266/ 2)]. (¬2) وهذا معنى قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: {بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة: 52] بالموت، {أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] قال: القتل. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 497). (¬3) ابن جرير (11/ 499). (¬4) قاله أبو جعفر النحاس وأنه أمر معناه الشرط والمجازاة، والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم، ومثله قول الشاعر وينسب إلى كثير عزة: أسِيئِي بنَا أو أحسني لامَلُومَةٌ ... لدينا ولامَقْليَّةٌ إِنْ تَقلَّتِ [إعراب القرَآن للنحاس (3/ 24)، ديوان كثير عزة (ص 101)]. (¬5) هذا حديث ضعيف غير ثابت، وانظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (2/ 723)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (259)، والسلسلة الضعيفة للألباني (2110) ومعناه: (أي: كلما خبرت الناس ووثقت بهم هجرتهم وتركتهم وقليتهم) وقد جرى هذا اللفظ مجرى الأمثال. (¬6) في الأصل و "أ": (عجبًا). (¬7) انظر: "مجمع الأمثال" (1/ 57) (2/ 16)، وشرح كتاب الأمثال (464).

إلا مع بقاء التكليف وقد زال عنهم تكليف الإنفاق في الغزو مع رسول الله -عليه السلام- (¬1)، ويحتمل أنهم لو كانوا ينفقون لكانوا يريدون بذلك غير وجه الله (¬2). {وَمَا مَنَعَهُمْ} يجوز أن يكون المنع فعل الله والمستثنى في محل الخفض بإضمار حرف التعليل (¬3) أي: وما منعهم (¬4) الله عن مساواة غيرهم في قبول الصدقات، {إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} ويجوز أن يكون المنع فعل شيء مجهول والمستثنى في محل الرفع، أي: ما منعهم شيء عن مساواة غيرهم في قبول الصدقات إلا كفرهم (¬5)، {وَلَا يَأْتُونَ}، {وَلَا يُنْفِقُونَ} يحتمل بمعنى الماضي ويحتمل على ظاهره. تعذيبهم بأموالهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تشديد خوفهم على فوتها وتعظيم فوتها على قلوبهم فيمسكونها ويكتمونها ويتباغون عليها ويتحاسدون فيها ولا يزالون في اهتمام وعناء، وإنما يجمعون لوارث يبغضهم ويبغضونه، و (تعذيبهم بأولادهم) ما يصابون فيهم ويرون منهم من المكروه ما لا يرون من الأعداء. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (صلَّى الله عليه وسلم). (¬2) بيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- العلة والسبب في عدم تقبله منهم نفقاتهم على أي حال في الطوع أو الكره وذلك بسبب فسقهم وكفرهم ونفاقهم، وبيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه العلة في الآية التي بعدها، وقيل: إن الآية نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج معه لغزو الروم: هذا مالي أعينك به. أخرجه الطبري (11/ 499) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) الذي جوز الخفض في "أَنْ" الأولى والثانية هو سيبويه نقله عن النحاس في إعرابه، وذهب أبو إسحاق الزجاج أن "أن" الأولى والثانية في موضع نصب على قراءة الكوفيين: {أَنْ يُقْبَلَ} بالياء لأن النفقات والإنفاق واحد. [إعراب القرآن للنحاس (3/ 25)]. (¬4) في "ب": (منعه). (¬5) وهذا اختيار أبي جعفر النحاس كما في إعرابه حيث اختار أن تكون "أَنْ" الأولى في موضع نصب و"أَنْ" الثانية في موضع رفع، وقدره بقوله: وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم. [إعراب القرآن (3/ 25)].

وقال ابن عباس: في الآية تقديم وتأخير، فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة (¬1) الدنيا (¬2)، {وَتَزْهَقَ} تتلاشى وتبطل. {يَفْرَقُونَ} الفرق: الخوف والخشية وفيه دليل أن من تحقق خوفه من غير الله لم يكن مؤمنًا، وفي الحديث: "لا يجتمع البخل والجبن في قلب مؤمن ولا يجتمع الشجاعة والسخاوة في قلب منافق" (¬3). {مَلْجَأً} مفرًا وملاذًا، {أَوْ مَغَارَاتٍ} كل ما يغور الإنسان فيه وهو أن يستتر، يقال: غارت الشمس، أي: غابت، ومنه الغور (¬4) والغار (¬5)، {أَوْ مُدَّخَلًا} أصله مدْتخلًا على وزن مفتعل (¬6)، وفي قراءة ابن مسعود ¬

_ (¬1) ورد عن قتادة عند ابن أبي حاتم (6/ 1813)، وعند الطبري (11/ 500)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (3/ 249) إلى ابن المنذر وأبي الشيخ ولم نجده عن ابن عباس. (¬2) (الدنيا) ليست في "أ" "ي". (¬3) الحديث ورد عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "لا يجتمع الكفر والإيمان في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعًا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعًا" أخرجه الإمام أحمد في المسند وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد (1/ 122). (¬4) في "أ": (الغوراء) وسقطت (والغار). (¬5) إذا كانت بفتح الميم "مَغَارات" فهي من غار يغير، وإذا كانت بالضم "مُغارات" فهي من أغار يغير، قاله النحاس، ونقله عن الأخفش، وقراءة الضم هي قراءة سعيد بن جبير وابن أبي عبلة، والمغارة هي الغار والنقب الذي يكون في الجبل ويجوز أن يكون معناه السرب في الأرض. [إعراب القرآن للنحاس (3/ 25)، الدر المصون (6/ 68)، زاد المسير (2/ 268)]. (¬6) أي أدغمت الد الذي تاء الافتعال؛ لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد، وهذه الكلمة فيها خمس قراءات: الأولى: قراءة الجمهور: {مُدَّخَلًا} [التوبة: 57]، والثانية: قراءة قتادة وعيسى والأعمش بضم الميم وتشديد الدال والخاء مع فتحهما {مدَّخَّلا}، والثالثة: قراءة أبي وابن مسعود {مُتَدَخَّلًا}، والرابعة: قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء {مَدْخَلا}، والخامسة: نقلها الزجاج بضم الميم وسكون الدال وفتح الخاء {مُدْخَلا}. [زاد المسير (2/ 268)، إعراب القرآن للنحاس (3/ 26)، مختصر ابن خالويه (ص 53)، البحر (5/ 55)].

{متدخلًا}، {يحمَحُونَ} يميلون؛ عن ابن عرفة، ويسرعون؛ عن الأزهري (¬1). {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} كان المنافقون ينسبون (¬2) رسول الله (¬3) في قسم الصدقات إلى الميل والعناية ووضعها في غير موضعها فإن أعطاهم أمسكوا عن العيب وإن لم يعطهم سخطوا فأنزل الله الآية (¬4)، و (اللمز): العيب. وجواب قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} مضمر وتقديره: لكان خيرًا لهم (¬5)، وفضل الله الغنائم والصدقات وسائر أبواب الرزق، ندب إلى مثله قول علي - رضي الله عنه - (¬6): رضيت بما قسم الله لي ... وفوضت أمري إلى خالقي لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي ¬

_ (¬1) الجموح: النفور بإسراع، قال الزجاج: يسرعون إسراعًا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا قيل: فرص جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام. ومنه الحديث الذي رواه البخاري، كتاب: الطلاق (9/ 388) - الفتح-: "فلما أذلقته الحجارة جمز". ومنه قول امرئ القيس: جموحًا مروحًا وإحضارها ... كمعمعة السَّعْفِ المُوْقَد [لسان العرب (3/ 190) (جمح)، ديوان امرئ القيس (ص 187)، البحر (5/ 35)، الدر المصون (6/ 70)، زاد المسير (2/ 268)]. (¬2) المثبت من "أ" وفي البقية (والغلاف). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) الظاهر في سبب نزول الآية ما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ قسمًا إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعْدِلْ يا رسول الله، فقال: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ " الحديث. [أخرجه البخاري (6933)، ومسلم (1064)، والنسائي في الكبرى (1220)، والإمام أحمد (18/ 94 - 11536) وغيرهم]. (¬5) وقيل: الجواب هو"وقالوا" والواو مزيدة وهذا مذهب الكوفيين. [الدر المصون (7216)]. (¬6) ورد البيت الثاني عند الغزالي في الإحياء (3/ 383)، والألوسي في تفسيره "روح المعاني" (14/ 205).

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} اتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر الصدقات فبين الله أنّ أهل الصدقات هؤلاء دون المنافقين الذين يلمزون رسول الله في الصدقات، وفيه دلالة أن حق الأخذ إلى الإمام بدليل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ويجوز أن يكون مستحق الأخذ غير مستحق العين كما في الجزية وأموال اليتيم الفقراء المحتاجين، {وَالْمَسَاكِينِ} أهل الترحم والرأفة وهم أسوأ حالًا من الفقراء عندنا، {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الذين يلون جمع الصدقات وأخذها بإذن الإمام لهم عمالة في الصدقات وهي مكروهة للهاشميين، {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} أبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان ثم حسن إسلامه، وحكيم بن حزام ثم حسن إسلامه، والحارث بن هشام ثم حسن إسلامه، وسهيل بن عمرو ثم حسن إسلامه، وحكيم خويطب بن عبد العزى ثم حسن إسلامه، وصفوان بن أمية والعلاء بن حارثة الثقفي وعيينة بن حِصْن والأقرع بن حابس ومالك بن عوف النضري والعباس بن مرداس السلمي ثم حسن إسلامه، وقيس بن مخرمة ثم حسن إسلامه، وجبير بن مطعم ثم حسن إسلامه. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفع إليهم شيئًا من الصدقات ليقطع به شرورهم عن المسلمين فكان يعود نفع ذلك إلى الفقراء والمساكين. ثم انقطع ذلك فلم يعطهم عمر وعثمان وعلي شيئًا، وسأل بعضهم عمر فقال: إنا لا نعطي على الإسلام شيئًا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (¬1)، وإنما قال ذلك بعد عزّ الإسلام وضعف الشرك ووقع الأمن من جهة هؤلاء، ولكن أبا بكر الصديق دفع إلى عدي بن حاتم من صدقة قومه ثلاثين بعيرًا ولا نعلم أنه من سهم المؤلفة قلوبهم ليؤلف قلوب أقربائه أم من سهم العاملين لأنه كان حقها أم من سهم ابن السبيل لأنه أمره بأن يلحق بخالد بن الوليد فلحق (¬2) به في زُهاء ألف فارس (¬3). ¬

_ (¬1) الطبري (11/ 522) وذلك عندما جاء عيينة بن حصن وكان من المؤلفة قلوبهم فقال له عمر: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. (¬2) في "ب": (يلحق). (¬3) الشافعي في الأم (2/ 99، 109)، وابن قدامة في المغني (7/ 319)، وانظر: تفسير البغوي (1/ 61).

{وَفِي الرِّقَابِ} المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدون به الكتابة ويدخل فيهم من أعتق شقصه واستسعى في الباقي، وقال -عليه السلام-: "من أعان مكاتبًا في رقبته أو غازيًا في عسرته أو مجاهدًا في سبيل الله أظله الله يوم لا ظل إلا ظله" (¬1) (¬2)، {وَالْغَارِمِينَ} الذين عليهم الدين ولا يجدون القضاء، و (الغرم): اللزوم والضمان، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الجهاد يدفع إلى فقراء المجاهدين. {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر المنقطع عن ماله، والإِسلام شرط في هؤلاء لقوله -عليه السلام- (¬3): "وأردها في فقرائكم" (¬4) سعيد بن جبير عن علي عن ابن عباس: إذا آتى الرجل الصدقة صنفًا من هذه الأصناف الثمانية أجزأه، وروي مثل ذلك عن عمر وسعيد بن أبي وقاص وحذيفة (¬5)، وتابعهم عليه سعيد بن جبير وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز وأبو العالية. {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} كان المنافقون يطفئون الدين ويتكلمون بالكفر ويعيبون رسول الله (¬6) ويقولون: إن بلغهُ قولنا اعتذرنا إليه وحلفنا عنده فسيقبل عذرنا فإنما هو أذن سامعة، وإنما يوصف بهذا من كان سريع الاستماع سريع التصديق من غير تحقيق، والمتكلم بهذه الكلمة جلاس بن سويد (¬7)، ¬

_ (¬1) "الجهاد" لابن أبي عاصم (93)، والبيهقي في السنن (10/ 320). (¬2) من قوله: (المكاتبون الذين) إلى هنا ليست في "ب". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) لعله يثير إلى حديث معاذ بن جبل حين بعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن قال له: "وأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة توخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". أخرجه الترمذي (623)، وأبو داود (3039)، والإمام أحمد (5/ 230)، والنسائي (5/ 25) وغيرهم. (¬5) ذكره ابن أبي شيبة (2/ 405)، والبيهقي (7/ 7، 8) عن حذيفة، وذكر البيهقي كذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي. (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) هذا أحد أسباب النزول وهو أن الجلاس بن سويد وعبيد بن هلال وخذام بن خالد وآخرين كانوا يؤذون رسول الله ... روي ذلك عن ابن عباس ["زاد المسير" (2/ 272)].

فبين الله أنه أذن خير وصلاح ورحمة يؤمن بما يخبره الله ويشهد للمؤمنين بالصدق، وليس أذن شر وفساد ليصدق المنافقين في أعذارهم الكاذبة (¬1). {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} نزلت في جماعة من المنافقين كانوا قعدوا فيهم غلام من الأنصار، وقيل: زيد بن أرقم، وقيل: عامر بن قيس، فقال بعض المنافقين: إن كان ما يقوله محمَّد حقًا فإنّا شرٌّ من حمار، وقال له المؤمن: والله إن ما يقوله محمَّد لحق وإنكم لشر من حمير، فخاصمهم وخاصموه ثم رافعهم إلى رسول الله (¬2) وأخبره بمقالتهم وأنكروا وحلفوا فاستحى المؤمن من ذلك، وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تفرق الصادق من الكاذب فأنزل (¬3)، قيل: واعترف الجلاس فاستغفر له (¬4) النبي -عليه السلام- (¬5) فخلص وحسُن إسلامه (¬6). و (إرضاء الله) لفظ مجاز (¬7) وحقيقته إتيان ما يرضاه الله من الفعل والتغيير حاصل في مبتغى الرضا دون الله. {يُرْضُوهُ} عائد إلى الله، وقيل: إلى رسوله (¬8)، وهذا لكراهة الجمع ¬

_ (¬1) قريبًا من هذا ذكره عن السدي ابن أبي حاتم (6/ 1826). (¬2) في "ب ": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) ذكره ابن أبي حاتم (6/ 1828)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 460) عن السدي. وذكر فقط عامر بن قيس. (¬4) في "أ": "لهم". (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) الجلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري كان من المنافقين ثم تاب وحسنت توبته وإسلامه، وهو ممن تخلف في غزوة تبوك حتى نزل فيهم قرآن، وهو معدود في الصحابة الكرام -رحمه الله -. [الإصابة (1/ 599)، أسد الغابة (769)، الاستيعاب (354)]. (¬7) لأن المؤلف أشعري فهو يؤول كل صفة لله باستثناء الصفات الثمانية التي يثبتها الأشاعرة. (¬8) الأظهر أنه عائد عليهما جميعًا، أي أن الضمير عائد على الله وعلى رسوله لأن رضاء الله ورسوله شيء واحد من أطاع الرسول فقد أطاع الله. وقيل: إن الضمير عائد على المئنى بلفظ الواحد بتأويل المذكور، ومنه قول رؤبة بن العجاج: فيها خطوط من سوادٍ وبَلَقْ ... كأنهُ في الجلد تَوْليْعُ البَهَقْ أي كان ذاك المذكور. =

بين اسم الله واسم من دونه في كتابة واحدة، ولهذا قال -عليه السلام- لمن قال (¬1): ومن يعصهما فقد غوى: "بئس الخطيب أنت" (¬2). {يُحَادِدِ} يشاقق ويجانب. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} نزلت في جدّ بن قيس ووديعة بن خذام والجهير بن خمير (¬3) كانوا يسيرون فيما بين العسكر بين يدي رسول الله (¬4) في غزوة تبوك يتحدثون ويتضاحكون وكان كلامهم: يطمع هذا الرجل أن يستولي على قصور الشام وحصونها؟! فنزل، وقال -عليه السلام- لعمار بن ياسر: "أدركهم قبل أن يحترقوا واسألهم عمّا هم فيه فسيقولون لك: إنا كنا نخوض في حديث العسكر ونلعب" فأدركهم عمار فسألهم فقالوا: إنا كنا نخوض في حديث العسكر ونلعب، فقال: احترقتم حرقَكم الله، فجاؤوا إلى النبي -عليه السلام- معتذرين، وقال الجهير بن خمير: أنا ما تكلمت بشيء ولكن كنت أضحك معهما فمناه رسول الله الجميل (¬5) ووعد له التوبة (¬6)، وقيل أنهم ¬

_ = وذهب المبرد إلى أن هناك تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله فكان الحذف من الثاني، وذهب سيبويه إلى أنه حذف خبر الأول وأبقى خبر الثاني وهو أقرب من قول المبرد لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ وخبره، وفيه أيضًا الإخبار بالشيء عن الأقرب إليه، ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلف أي نحن راضون. ولا بأس في الجمع بين الله ورسوله بواو العطف في مثل هذا الموطن. [المحرر (8/ 221)، الكتاب (1/ 38)، الدر المصون (6/ 75)]. (¬1) (لمن قال) ليست في "ب". (¬2) مسلم (870). (¬3) لعل ما ذكره المؤلف من اسم الرجلين خطأ في نقله والصواب كما عند الطبري وابن كثير وما ذكره ابن إسحاق أن اسمهما وديعة بن ثابت ومخشن بن حمير، والآية نزلت في غزوة تبوك. [تفسير الطبري (11/ 543)، تفسير ابن كثير (2/ 454)]. (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) في "ب": (الجهل). (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 463).

كانوا أربعة نفر والذي لم يكن يتكلم هو المختبي، وقيل: المخشي بن خمير وكيفية حذرهم عن نزول السورة أنهم يظنون أن هذه السورة من جهة النبي -عليه السلام- يتقولها من جهة نفسه فيهم وفي أمثالهم فكانوا يكتمون عنه كفرهم لئلا ينزل من جهته الرفيعة شيء في شأنهم الوضيع (¬1)، ويحتمل أنه خبر بمعنى الأمر، أي: فليحذر المنافقون. {طَائِفَةً} اسم يقع على الواحد والجماعة، {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} هو الذي لم يكن يتكلم واعترف بذنبه، وقال: استغفر لي يا رسول الله، والطائفة المحتوم على عذابها سائر الركب. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} قال قتادة: كانوا يسمون هذه السورة الفاضحة (¬2) لأنها فضحت المنافقين لم تزل تنزل فيها: ومنهم ومنهم حتى لم تترك منافقًا إلا نبهت عليه، وعن قتادة أيضًا: كنا نسمي هذه السورة المثيرة (¬3) لأنها أثارت مثالب المنافقين ومخازيهم. وعن الحسن كانوا يسمونها الحفارة (¬4) لأنها حفرت فاستخرجت ما في قلوب المنافقين. وعن عطاء أن سبعين رجلًا من المنافقين أنزل الله أسماءهم ثم نسخ تلك الأسماء (¬5) رحمة منه على خلقه، فإن أولادهم وعشائرهم كانوا مسلمين. وقيل: لما رجع رسول الله (¬6) من غزوة تبوك عرض له في الطريق اثنا عشر نفسًا من المنافقين في ليلة ظلماء متنكرين يريدون الفتك برسول الله، ووإن عمار بن ياسر يقول راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذيفة ¬

_ (¬1) زاد المسير (3/ 463). (¬2) عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/ 225) لأبي الشيخ من طريق ابن عباس، وذكره أبو عبيد في فضائل القرآن (130). (¬3) أورده السيوطي في الدر الممئور (7/ 226) وعزاه لابن المنذر ولمحمد بن إسحاق. (¬4) ذكره القرطبي عن الحسن (8/ 180). (¬5) القرطبي عن ابن عباس (8/ 18). (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

يسوقها (¬1)، فقال -عليه السلام- (¬2) لحذيفة: "اضرب وجوه رواحلهم " فضربها حتى نحاهم وطردهم خائبين، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عرفت من القوم؟ "، قال: لم (¬3) أعرف أحدًا غير أني عرفت جمل فلان، فسماهم له رسول الله (¬4) حتى عدَّهم أحاد أحاد قال: وفيهم نزلت قوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] فقال حذيفة: لا نبعث إليهم يا رسول الله من يقتلهم؟ قال -عليه السلام-: "أكره أن تقول العرب: لما ظفر محمَّد بالعدو أقبل على أصحابه يقتلهم، ولكن الله تعالى يكفيناهم بالدُّبيلة"، قيل: يا رسول الله، وما الدُّبيلة؟ قال: "شهاب من جهنم يرسل على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه" (¬5)، وعن المقبري عن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- (¬6) سمى لحذيفة المنافقين، وقال: "إياك أن تخبر بأحد منهم حتى آذن لك في ذلك"، وتوفي رسول الله (4) قبل أن يأذن له، فمكث بذلك حذيفة حتى سأله عمر في خلافته فقال: أنشدك الله هل أنا فيمن سمى لك رسول الله؟ فقال: لا والله، ووالله لا أبرىء أحدًا بعدك (¬7)، وإنما سأل عمر لأجل الطاعنين والمتهمين إياه بالجور والميل ولم يكن آمنًا من التخلق ببعض أخلاقهم، فإنما قال حذيفة: والله لا أبرىء لالتزام وصية النبي -عليه السلام- (6) أن لا يخبر به أو خوفه لإعجاب من يبريه أو سمّاهم على النعت دون التعيين، وقيل ما يجد عاريًا عن تلك النعوت جملة. {نَسُوا اللَّهَ} تركوا ذكره ومراقبته، {فَنَسِيَهُمْ}: خذلهم ولم يذكرهم بالرحمة والخير (¬8). ¬

_ (¬1) في "ب": (يقول بها). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (لم) ليست في "أ". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) البيهقي في الدلائل (5/ 260، 261). (¬6) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬7) أحمد (6/ 312)، ومن طريقه ابن عساكر (44/ 307)، وسند الأثر صحيح. (¬8) هذا قول الزجاج هذا الذي يتعين في حق الله تعالى أن يكون النسيان بمعنى الترك =

{وَعَدَ اللَّهُ} أوعد (¬1) الله. {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} التشبيه للوعيد عند الزجاج (¬2)، ولأفعالهم عند الفراء (¬3)، ويحتمل اللعن والعذاب المقيم، ويحتمل لكون بعضهم من بعض، ويحتمل النسيان والفسوق، و (الاستمتاع بالخلاق) هو الاستمتاع بالرزق على غير الوجه المباح المأذون في الشريعة؛ كاستخراج الخمر من العنب، ولبس الديباج والذهب، وإمساك النرد والشطرنج للعب، واتخاذ المعازف واتخاذ القينات وإخصاء الغلمان ونحوها، {كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كخوضهم الذي خاضوا (¬4). {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} استفهام على سبيل التقرير والإثبات وحث على اعتبار ¬

_ = وعليه عامة المفسرين كالطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم؛ ولأن حقيقة النسيان التي هي الذهول عن الشيء وعدم تذكره صفة نقص يتنزه عنها المخلوق فضلًا عن الخالق، وقد استعمل الله النسيان بمعنى الترك في موضع آخر من كتابه، فقال: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34]. [تفسير الطبري (11/ 549)، ابن كثير (2/ 455)، زاد المسير (2/ 276)]. (¬1) الأصل أن وعد غير أوعد، فالأولى تستعمل في الخير، والثانية تستعمل في الشر، وتقدم الكلام على هذا ومنه قول الشاعر: وإني إذا ما أوعدته أو وعدته ... لمُخْلِف ميعادي ومنجز موعدي أما في هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ ...} [التوبة: 68]، فوعد هنا بمعنى أوعد كما قال المؤلف. (¬2) انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 510). (¬3) انظر: معاني القرآن للفراء (1/ 446). (¬4) أي أن "الذي" تفع مصدريه وهذا مذهب الفراء ويونس، والتقدير: وخضتم خوضاَ كخوضهم، ومنه قول الشاعر: فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ ... في المرسلين ونَصْرًا كالذي نُصِروا أي: كنصرهم. وهناك أوجه أخرى منها: أن "الذي" صفة لمفرد مُفْهِمٍ للجمع، والتقدير: وخضتمِ خوضًا كخوض الفريق الذي خاضوا، وقيل: الكاف كالتي قبلها وحذفت النون تخفيفًا أو وقع المفرد موقع الجمع. [معاني القرآن للفراء (1/ 446)، الدر المصون (6/ 84)].

الآيات، {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قريات لوط سميت بهذا لانقلابها ظهرًا على بطن (¬1)،وقيل: لإفك أهلها (¬2). {سَيَرْحَمُهُمُ} أي: سينيلهم ما أراد لهم من الخير في سابق علمه ومشيئته. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} جمع بين صفة المنافقين (¬3) وما وعد لهم في معادهم وصفة المؤمنين وما وعد لهم في معادِهم على سبيل الإطباق للجمع بين الوعد والوعيد والبشارة والإنذار، {عَدْنٍ} خلود وإقامة، تقول: عدنت بأرض كذا وكذا أَعدن وأُعدن عدُونًا وعدنًا ومنه المعدن، وسأل ابن عباس كعبًا عن العدن، فقال: هي الكروم والأعناب بالعبرانية (¬4)، وعن عطاء: أنه نهر جناته على حافتيه (¬5). وعن الأعمش: وسط الجنة (¬6)، وعن الكلبي: أعلى درجة في الجنة (¬7)، {وَرِضْوَانٌ}: رفع بالابتداء وخبره {أَكْبَرُ}، ثم وهو يحتمل معنيين؛ أحدهما: الجنة من عنده ووعده خير من النار والعذاب المقيم، والثاني: إرضاؤه عنهم أكبر من وعده (¬8) لهم؛ لأن الرضا يوجب أمن العافية ودوام العافية والجنة لا توجب ذلك، فإن آدم وحواء أُخْرِجَا منها على سبيل التأديب والتعذيب، وأخرج منها الطاووس والحية على سبيل ¬

_ (¬1) روي ذلك عن قتادة أخرجه الطبري في تفسيره، وهي جمع مؤتفكة كما قال الزجاج: ائتفكت بهم الأرض، أي: انقلبت، والمادة تدل على التحول والتصرف، ومنه قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} [الذاريات: 9]، أي: يصرف. [الطبري (11/ 555)، زاد المسير (2/ 277)]. (¬2) في الأصل "أ": (أهلكها). (¬3) (المنافقين) من "ب" "ي". (¬4) الطبري (11/ 560)، وفيه بالسريانية بدل العبرانية. (¬5) الطبري (11/ 560). (¬6) ورد في تفسير (عدن وسط الجنة) عند القرطبي دون نسبة لأحد، وعزاه الشوكاني في فتح القدير (9/ 264) للقشيري. (¬7) البغوي (1/ 73)، والقرطبي (8/ 186). (¬8) في الأصل (وعد).

المسخ (¬1)، وأخرج إبليس على سبيل الطرد واللعن وكان من الصاغرين، وفي الحديث: "إن الله تعالى يقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد بيضت وجوهنا ويسرت لنا الحساب وأنقذتنا من النار وأجزتنا على الصراط وأدخلتنا الجنة؟! فيقول الله سبحانه وتعالى: إن لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما ذلك يا ربنا؟ فيقول الله تعالى: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدًا" (¬2). و (مجاهدة المنافقين) هو التعنيف في الملامة والإنذار والتعزير والحبس ما لم يظهروا أمرهم فإذا أظهر أمرهم فالسيف، ومن علم منهم أنه يتوب بلسانه تقية لم تقبل توبته، و (الغلظة) ضد الرقة ولا تصلح المجاهدة بغير غلظة كما لا تصلح المسالمة بغير رفق. {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} هو قول الجلاس بن سويد (¬3): إن كان ما يقوله محمَّد حقًا فنحن شر (¬4) من حمير، وقيل: قولهم: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون: 8] لنقعدن على رأس ابن أُبي تاجًا (¬5)، وقيل: قولهم: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وكلمة الكفر: كل كلمة تخالف مقتضى الإسلام، وفي الآية دلالة أن الإيمان والإسلام واحد. {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قصدهم الفتك، {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} في إغناء الله إياهم بالغنائم الإسلامية تحت الراية النبوية حتى صاروا أهل كنوز وصهيل بعد أن كانوا أهل زرع ونخيل، {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} بيُمن رسوله قابلوه بالعيب والطعن والمكر وبطروا وكفروا ¬

_ (¬1) لم أجد نصًا في مسخ الطاووس والحية وإنما وجدنا ابن جماعة في كتابه "إيضاح الدليل" (ص 154) يذكر أنهما مما تغيرت صورته بعد الإهباط بخلاف آدم فإنه بقي كما هو. (¬2) البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬3) مرّ الكلام عليه. (¬4) (شر) ليست في "أ". (¬5) ابن أبي حاتم (6/ 1845).

نعمة الله فذكر الله حالهم ذلك، وسئل الحسين بن الفضل (¬1) عن قولهم: اتق شر من أحسنت إليه هل يوجد في القرآن، فقال: نعم وذلك قوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}. {فَإِنْ يَتُوبُوا} تطميع لهم في التوبة، قيل: لما سمع الجلاس هذه الآية قام وتاب إلى الله ورسوله فاستغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، قال: "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"، قال: ثم رجع إليه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، فقال: "ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لو سألت أن تسيل علي الجبال ذهبًا لسالت"، ثم رجع وقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الله مالًا، والله لئن آتاني الله مالًا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم ارزق ثعلبة مالًا"، فاتخذ غنمًا فنمت حتى ضاقت بها أزقة المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلوات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يخرج (¬2) إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليها مراعي المدينة فتنحى بها وكان يشهد الجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يخرج إليها، ثم نمت فاشتغل بها وترك الجمع والجماعات وجعل يتلقى الركبان، فقال: وما وراءكم من الخبر وما كان من أمر الناس؟ فأنزل الله على رسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] قال: واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقات رجلين رجلًا من الأنصار ورجلًا من بني سليم وكتب لهما الصدقة وأسبابهما وأمرهما أن يصدّقا الناس وأن يمرا بثعلبة فيأخذا من صدقات (¬3) ماله، ففعلا حتى دُفعا إلى ثعلبة، فقال: صدّقا الناس فإذا فرغتما فمرّا ¬

_ (¬1) هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي النيسابوري، إمام لغوي محدث، توفي سنة 282 هـ بعد أن عمّر أكثر من مائة سنة. وقوله هذا ذكره القرطبي في تفسيره (8/ 188)، والسيوطي في "الإتقان" (2/ 346). (¬2) في "ب" "ي": (خرج). (¬3) في "ب" "ي": (الصدقة).

بي، ففعلا فقال ثعلبة: ما أرى هذه إلا أخية الجزية، انطلقا حتى ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فركب رجل من الأنصار ابن عم ثعلبة راحلة حتى أتى ثعلبة، فقال: ويحك ثعلبة، هلكت فأنزل الله فيك من القرآن كذا، فأقبل ثعلبة وقد وضع على رأسه التراب وهو يبكي ويقول: يا رسول الله، فلم يقبل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) صدقته حتى قبض رسول الله (¬3) - صلى الله عليه وسلم - (2)، ثم أتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر قد عرفت موضعي من قومي ومكانتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فاقبل صدقتي، فأبى أن يقبل منه، ثم أتى عمر فأبى أن يقبل منه، ثم أتى عثمان فأبى أن يقبل منه. ثم مات ثعلبة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وترك قتل ثعلبة مع ظهور نفاقه (¬4)، وقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61] إما لكراهة تنفير قلوب ووقوع الفتنة فيما بينهم كما روينا في حديث حذيفة حيث أرادوا الفتك به، وإما لأنه لم يصرح باسم ثعلبة ولم يعينه وهو لم يعد تصريح كفر بل كان يعتذر ويتضرع. وينبغي للمسلم الرضا بالقسمة وترك الاختيار والتسليم لله والوفاء بالعهود، فإن ثعلبة لو رضي باليسير من الرزق وترك مطالبة رسول الله (¬5) بما يتمناه، لما شُغِل عن الجمع والجماعات، ولو سلم الله أمره ولم يسم الزكاة أخيّة الجزية لما أعقبه الله في قلبه نفاقًا، ولو وفي بعهده لما افتضح في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ" "ب". (¬3) في "ي" "أ": (الله رسول). (¬4) ابن أبي حاتم (6/ 1847)، والطبراني في الكبير (5/ 225) (8/ 260)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1375)، والبيهقي في الدلائل (5/ 289)، وابن عساكر في تاريخه (12/ 9)، والحديث استنكره ابن حجر والألباني وغيرهما، ونكارته سندًا ومتنًا لأن ثعلبة شهد بدرًا ولا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية، وقال البيهقي في الدلائل (5/ 289): هذا حديث مشهور عند أهل التفسير وأسانيده ضعاف. (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

وفي الآية دلالة أن النذر فيما قبل المُلك يصح بالإضافة، وأن النذر بالقرب يُلزم الإنسان ويجب الوفاء به، إما بإتيان الملفوظ به بعينه وإما إتيان المعبر عنه بالألفاظ المعدولة عن ظاهرها مثل قوله: عليَّ أن أذبح ولدي أو علي أن أصرف بثوبي حطيم الكعبة أو ثوبي في رياح الكعبة، أو قال الشيخ الكبير: لله عليَّ أن أصوم أو لله عليَّ أن أتصدق بمالي، ولا نذر في المباح والمعصية وكفارته كفارة يمين، وقوله: عليَّ عهد الله، وبريت من عهد الله يمين. في الآية دلالة أن دفع صدقة الأموال الظاهرة إلى الإمام ولولا اشتهار ذلك بين الصحابة لكان ثعلبة يدفعها إلى الفقراء ويريح نفسه من مذلة الردّ، وفيه دلالة أنه كان يعرض على النبي -عليه السلام- (¬1) والخلفاء من بعده رياء وسمعة وقصدًا لإزالة العار لا لوجه الله تعالى؛ لأنَّ النفاق الكائن في القلب يضاد ابتغاء مرضاة الله. {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} قول ثعلبة: هذه أخيّة الجزية. {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} قيل: إن عبد الرحمن بن عوف كان عنده ثمانية آلاف دينار فأمسك أربعة آلاف فجاء إلى (¬2) رسول الله بأربعة آلاف وقال: أقرضتها ربي عزوجل وأمسكت مثلها لنفسي وعيالي، فقال -عليه السلام-: "بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت"، وكان عند أبي عقيل الأنصاري صاعان من تمر فجاء إلى رسول الله (¬3) بصاع وأمسك لنفسه صاعًا، فقال المنافقون: أما عبد الرحمن فأنفق على وجه الرياء، وأما عقيل فأنفق طمعًا في الزيادة والله غني عن صدقته، فأنزل (¬4)، {إِلَّا جُهْدَهُمْ} إلا مقدار وسعهم وطاقتهم. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "أ": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (إلي) من "ب" "ي". (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البزار (2216 - كشف)، وابن جرير (11/ 592)، وابن أبي حاتم (6/ 1851) وسنده حسن.

و {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما مات ابن أبي ابن سلول دعي إليه رسول الله (¬1) ليصلي عليه، فلما قام رسول الله وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي عليه؟ وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله (1) وقال: "أخّر عني يا عمر"، فلما أكثرت، قال: "إني خيّرت فاخترت، ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها"، قال: فصلَّى عليه (¬2) (¬3)، وكذلك روى نافع عن ابن عمر والشعبي عن جابر بن عبد الله (¬4)، والتخيير قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وصلاته عليه محمول على الاستغفار والدعاء دون صلاة الجنازة، لما روي عن نافع عن ابن عمر أن النبي -عليه السلام- (¬5) أعطاه قميصه فكفن فيه ثم حضره ليصلِّي عليه فجذبه عمر وقال: أتصلي عليه (¬6) وقد نهاك الله؟ فقال: "أنا بين خيرتين"، فقول قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] (¬7)، وقول عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله تعالى؟ تأويل منه لقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، وقوله -عليه السلام- (¬8): "أنا بين خيرتين" ردّ منه على عمر تأويله، والدليل على أن قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} نزل في هذه الحادثة بعد قول عمر قبل صلاة رسول الله (¬9) ما روى أبو الزبير عن جابر أن ابن أبي ابن سلول لما هلك جاء ابنه إلى رسول الله (9) وقال: يا رسول الله، إنك لم تشهده، ولم يزل يعتريه حتى ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) البخاري (1366، 4671). (¬3) في الأصل و"أ": (عليهما)، وفي "ب" "ي": (عليها)، والجميع خطأ. (¬4) لم نجده عن الشعبي عن جابر بن عبد الله بل هو عن الشعبي مرسلًا أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 599)، وابن سعد (3/ 541). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (عليه) ليست في "أ". (¬7) البخاري (1269)، ومسلم (2400)، وابن ماجه (1523)، والترمذي (3098) وغيرهم. (¬8) (السلام) ليست في "ي". (¬9) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

أتاه وقد أدخل حفرته، وقال: يا رسول الله، أفلا قبل أن يدخلوه حفرته، فاستخرج فتفل عليه رسول الله من قرنه (¬1) إلى قدمه وألبسه قميصه (¬2)، دلّ أنه لم يصلِّ عليه صلاة الجنازة، ولكنه كان مخيَّرًا بين الاستغفار وتركه لإشماله عشائرهم وأولادهم، والمقصود من لفظة السبعين هي المبالغة دون العدد (¬3)؛ لأنها مأخوذة من السبع التي هي نهاية كثير من الأعداد؛ منها عدد آيات فاتحة الكتاب، وأجزاء القرآن والسور الطوال والمثاني، وعدد التائبين مع رسول الله (¬4) يوم حنين، وعدد السماوات والأرض والأنجم السيارة والأقاليم والأبحر، والأيام والألوان وأعضاء السجود، وطبقات النار، وليالي عاد، وسني يوسف -عليه السلام- (¬5) والسنبلات والبقرات، وأشواط الطواف وأشواط السعي، وأركان الصلاة وهي: الافتتاح والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والخروج، وأجناس أموال الزكاة، وهي: الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والخيل وما أخرجت الأرض، وأجناس الحيوان: كالطائر والقافز والماشي والزاحف والعائم والمنساب والمحتلج، والجهات المستقيمة مع الحيثية. ومما أخذ من السبع للمبالغة قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وقوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (قرن). (¬2) هذه رواية أحمد (3/ 371) عن أبي الزبير عن جابر، ورواه مسلم (2773) عن عمرو أنه سمع جابر. (¬3) ومثله ما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة: 53] وهو أمر بمعنى الخبر -كما قال الزمخشري- ومثله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب ومنه قول كثير عزة: أَسِيْئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ ... لدينا ولا مقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّت وقوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، هو أن حصر العدد بالسبعين أسلوب تكثيري تستعمله العرب في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين. [زاد المسير (2/ 284)، الكشاف (2/ 195)، ديوان كثير عزة (1/ 53)]. (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (السلام) ليست في "ي".

وقول النبي -عليه السلام- "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" (¬1)، وفي الحديث أنه صب على رأسه الماء من سِباع في شهر رمضان (¬2)، يريد به الجماع، وسمي السبع سبعًا لأن قوته مضاعفة، وفي الحديث: "إن المنافق يأكل في سبعة أمعاء" (¬3)، وفي الحديث: "إن صاحب اليمين يقول لصاحب الشمال أمسك فيمسك سبع ساعات من النهار" (¬4)، فإن تاب لم يكتب عليه، وفي الحديث: "سألت الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقلت: ربّ زدني، فقال: مع كل ألف سبعون ألفًا، فقلت: رب زدني، فقال: لك هذا فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله" (¬5)، وفي الحديث أن سائلًا قال: كم أعفو عن الخادم في اليوم؟ فقال: "سبعين مرة" (¬6)، وفي الحديث؛ "أن الكافر يهوي في النار سبعين خريفًا" (¬7). وقيل: خصت السبعة بالمبالغة لأن كميتها مشتملة على ثلاثة من أوتار العدد وثلاثة من الأشفاع. {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ} قيل: كان رسول الله -عليه السلام- (¬8) برز ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2912) وحسنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي من حديث ابن مسعود مرفوعًا وصله في الصحيحين. (¬2) النهاية لابن الأثير (2/ 842). (¬3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (الأطعمة 12)، والترمذي (الأطعمة 20)، وأ حمد (2/ 21) وغيرهم. (¬4) هناد في الزهد (920)، والطبراني في مسند الشاميين (526، 1228)، والبيهقي في الشعب (7049 - 7051) والحديث حكم عليه الشيخ الألباني -رحمه الله- بالوضع في السلسلة الضعيفة (2237). (¬5) أصل الحديث في الصحيحين ورواية الزيادة رواهاهناد في الزهد (178) وعلي بن الجعد في مسنده (2849)، والزيادة صحيحة. (¬6) أبو داود (5164)، والترمذي (1949)، وأحمد (20/ 90)، وعبد بن حميد (821)، والطبراني في الأوسط (1765)، والبيهقي (8/ 10) والحديث صحيح. (¬7) أحمد (2/ 355) والحديث سنده صحيح. (¬8) (السلام) ليس في "ي"، وبدله في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -).

بعسكره إلى ثنية الوداع حين خرج إلى غزوة تبوك وترك ابن أبي بن سلول أسفل من الثنية مع المنافقين، فلما ارتحل رسول الله تخلّف ابن أُبي مع بضع وثمانين رجلًا فأنزل الله الآية، و (المقعد) القعود مصدر كالمطعم والمشرب والملبس، {خِلَافَ} مخالفة مفعول له (¬1)، {فِي الْحَرِّ} في أوان الحر (¬2) وهو القيظ، والحر ضدّ البرد، وقوله: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} كالشرط لحصول الخير في علمهم، وتقديره: أعلمهم أن {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} قريب منه {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] (¬3). {فَلْيَضْحَكُوا}، {وَلْيَبْكُوا} أمر كينونة وإلجاء لا أمر شرع وتعبد بدلالة ذكر الجزاء، وضحك الشيء غاية ظهور جماله عند وجود مراده أو مسرته أو شهوته أو حاجته الطبيعية، يقال: ضحك الفجر إذا طلع، وضحك ¬

_ (¬1) قوله: "خِلافَ" فيه ثلاثة أوجه إعرابية: الأول: ما ذكره المؤلف من أنه مفعول لأجله والعامل فيه إما "فرح" وإما "مقعد" بمعنى - فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه، وإلى هذا ذهب الطبري والزجاج. والوجه الثاني: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، والتقدير: تخلفوا خلاف رسول الله. والوجه الثالث: أنه منصوب على الظرفية والتقدير: بعد رسول الله، ومنه قول الشاعر وينسب للحارث بن خالد المخزومي: عَقَبَ الربيعُ خلافَهُمْ فكأنما ... بَسَطَ الشواطبُ بَيْنَهُنَّ حصيرا وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون "خَلْفَ" بفتح الخاء وسكون اللام. [تفسير الطبري (11/ 604)، معاني القرآن للزجاج (2/ 513)، المجاز لأبي عبيدة (1/ 264)، الشواذ (ص 54)، الدر المصون (6/ 90)]. (¬2) في الأصل و"أ": (الحب). (¬3) يريد المؤلف أن الفقه بمعنى العلم وهذا صحيح، ولذا قال ابن فارس: الفقه العلم بالشيء ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، ولذا قال ابن الجوزي في قوله: {يَفْقَهُونَ}: معناه يعلمون. [زاد المسير (2/ 285)].

السحاب إذا برق، وضحك الشيب إذا تبيّن، وضحكت الشمس إذا ازداد ضوؤها، وضحكت الأرض إذا اكتست بالأنوار، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس: 39،38] والبكاء ضدّ الضحك، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} [النجم: 43]، وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ} [الدخان: 29]. {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} نزلت في غزوة تبوك قبل رجوع رسول الله (¬1) إلى المدينة، فإنما قال: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} لمعنيين؛ أحدهما: الزجر والمعاقبة، والثاني: أنه لم يخرج بعد ذلك إلى غزوة حتى قبضه الله تعالى، وقوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] مختلف فيه، قيل: دعاهم إلى الخروج مع علي بن أبي طالب في غزوة طي، فخرج علي بهم وأغار على طي وسبق ابنة حاتم الطائي أخت عدي فمنَّ عليها وأطلقها فتبعت أخاها وأخبرته بالقصة ولم تزل (¬2) به حتى حملته على (¬3) أن وقد على النبي -عليه السلام- (¬4)، فلما رآه قام بين يديه إكرامًا له ولم يكن يقوم بين يدي أحد من المشركين، ثم خرج إليه من المسجد وأخذ بيده فذهب إلى الحجرة، فلما كان ببعض الطريق استقبلته امرأة ترفع إليها حاجتها، فجلس لها رسول الله حتى سمع قصتها وقضى حاجتها ثم قام وانطلق مع عدي إلى البيت، فاستدل عدي بتواضعه على أنه نبي وليس بملك جبار. ثم عرض عليه النبي -عليه السلام- (4) الإسلام فأسلم (¬5). وقيل: دعاهم إلى الخروج مع أسامة بن زيد إلى اليمن فتوفي قبل خروجه وسرحه أبو بكر مع القوم بعد ما تردَّدوا في أمرهم وترفعوا أن ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب": (فلم تزل)، وفي "أ": (فلم يزل). (¬3) في "أ": (حتى). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ابن سعد في الطبقات (1/ 322)، وابن عساكر في تاريخه (69/ 193) وليس فيه أسباب النزول في هذه الآية.

يكونوا تحت راية أسامة وسرح مع عمر بن الخطاب وخرج لمشايعته راجلًا. وقيل: دعا أبو بكر إلى قتال طليحة بن خويلد الأسدي ومسيلمة الكذاب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وهذا أصح لأنه لو كان دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) لقال: سأدعوكم أول مرة، أي: أول مرة لما بعدها. وقيل: أراد بأول مرة كراهتهم الخروج في غزوة بدر. وقيل: أراد تخلفهم عن الحديبية قبل غزوة خيبر وفتح الطائف وهذا أقرب. {الْخَالِفِينَ} المتخلفين، قال موسى -عليه السلام- (¬3) لأخيه هارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، وقال الله تعالى: {مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60]. {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} نزلت في شأن ابن أبي بن سلول (¬4) روي أنه لما مرض مرضه الذي مات فيه دعا رسول الله -عليه السلام- (¬5) فحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أما نهبتكم عن موالاة اليهود؟ "، قال: لم يوالهم سعد بن معاذ فمه (¬6)، ثم قال: إنما دعوتك لتستغفر لي ولم أدعك لتؤنبني، ثم سأله أن يعطيه قميصه الذي يلي جسده ليكفن فيه فأعطاه قميصه، فقيل: يا رسول الله أتعطي قميصك منافقًا؟ قال: "إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئًا، وإني أؤمل أن بدخل في الإسلام بهذا السبب خلق كثير"، فكان كما قال، أخلص وأحسن الإسلام يومئذٍ ألف من الخزرج (¬7). {أَبَدًا} نصب على ¬

_ (¬1) ذكره البغوي (1/ 302)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (7/ 432). (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في الأصل (أبي بن سلول) وهو خطأ. (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) (فمه) ليست في "أ". (¬7) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 479) لأبي الشيخ.

الظرف، و (القبر): الشق في الأرض يدفن فيه الميت، والنهي عن القيام على القبور لأنه فعل الأولياء والأحباب وأصحاب المصيبة والتفجع. {وَلَا تُعْجِبْكَ} خطابه والمراد به كل واحد من (¬1) أمته، {أَنْ آمِنُوا} برحمة وبيان للسورة. و {الْخَوَالِفِ} النساء (¬2) الفواسد، يقال: نبيذ خالف؛ أي: فاسد. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} أصحاب الأعذار الصحيحة, عن مجاهد، وأصحاب الأعذار الكاذبة، عن قتادة. وقد جاء الفريقان ليأذن لهم في القعود، ولا تنافي بين القولين، {الْأَعْرَابِ} أصحاب المواشي الذين ينزلون البوادي، مجاهد عن ابن عمر، وعكرمة عن ابن عباس (¬3) قال: أشار على نمرود بإحراق إبراهيم رجل من الأعراب فقيل لابن عباس: ولهم أعراب، قال: نعم، والأكراد أعراب فارس، والمراد بالأعراب ههنا الذين ينزلون حوالي المدينة من أسد وغطفان وغيرهما، بما {كَذَبُوا اللهَ} أي: أظهروا لله ورسوله غير ما يعلمه الله من ضمائرهم، فلما تواترت الآيات في المتخلفين تخوف منها أصحاب الأعذار الصادقين فأنزل الله فيهم. ¬

_ (¬1) (من) ليست في الأصل. (¬2) هذا هو تفسير ابن عباس والضحاك وقتادة والحسن ومجاهد وغيرهم، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (11/ 617، 618)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1859)، وهذه الصفة -الخوالف- جمع خالفة من صفة النساء وهي صفة ذم في حق الرجال، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: وما أدري وسوفَ إخالُ أدري ... أقوم آل حصنٍ أم نساءُ فإن تكن النساءُ مُخَبَّآتٍ ... فَحُقٌ لكل محصنةٍ هداءُ وقول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيول [البحر (5/ 83)، ديوان زهير (ص 74)، ديوان عمر بن أبي ربيعة (338)]. (¬3) الذي ورد عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة. ذكره ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (2/ 290)] وهو لا يختلف من حيث المعنى عما ذكره المؤلف. وأما قصة النمرود فلم نجدها عن ابن عباس ولا عن غيره.

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}، {إِذَا نَصَحُوا} أخلصوا العمل عن الغش، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} الناصحين، {مِنْ سَبِيلٍ} في لومهم على تخلفهم. {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في سبعة نفر من الأنصار وسابعهم عبد الله بن معقل الأنصاري (¬1) كانوا فقراء، وقيل: نزلت في أبي موسى الأشعري، وقيل: في ابن أم مكتوم (¬2)، وأصحابه، {قُلْتَ} أي: قلت لهم وهو صفة {الَّذِينَ} (¬3)، و {إِذَا مَا أَتَوْكَ} ظرف لهم وتقديره: ولا على الذين قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه إذا ما أتوك لتحملهم، {تَوَلَّوْا} فتولوا، وإنما حسن إسقاط الفاء لحسن الوقوف على ما قبله، {حَزَنًا} أي: من حزن أو حزنوا حزنًا، وقيل: تقديره حازنين (¬4)، {أَلَّا يَجِدُوا} بيان لسبب الحزن، ونصب يجدوا بـ (أن) (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل وفي كثير من المصادر، والصحيح (عبد الله بن مُغفَّل) وقد ورد في رواية ذكرها ابن سعد (2/ 165)، ويعقوب بن سفيان في تاريخه (6/ 256)، وابن أبي حاتم (6/ 1862) وهؤلاء السبعة ويسمون بالبكائين هم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وعبد الرحمن بن كعب وعمرو بن الحمام وعبد الله بن المغفل المزني وهرمي بن عبد الله والعرباض بن سارية. (¬2) لم نجد من ذكر أبا موسى الأشعري وعبد الله بن أم مكتوم في هؤلاء. (¬3) ذكر السمين الحلبي في تفسيره بأن يكون معطوفًا على الشرط، فيكون في محل جر بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير- وقلت-، وهناك وجه آخر وهو أن يكون جوابًا لـ (1) الشرطية، وإذا وجوابها في موضع الصلة وهناك وجه ثالث وهو أن يكون في موضع نصب على الحال من كاف: {أَتَوْكَ} وإليه ذهب الزمخشري. [الكشاف (2/ 208)، الدر المصون (6/ 99)]. (¬4) يجوز في "حزنًا" ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه مفعول من أجله والعامل فيه "تفيض" وإليه ذهب ابن عطية. والوجه الثاني: أنه في محل نصب على الحال، أي: تولوا حزينين. والوجه الثالث: أنه مصدر ناصبه مقدر من لفظه، أي: يحزنون حزنًا، وإليه ذهب أبو البقاء العكبري. [البحر (5/ 86)، الإملاء (2/ 20)، الدر المصون (6/ 101)]. (¬5) ذكر القرطبي في تفسيره (8/ 208)، والسمين الحلبي (6/ 19) ما يلي: (قال الجرجاني: التقدير، أي: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] وقلت: {لَا أَجِدُ} فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الجملة في موضع نصب على الحال: {حَزَنًا} مصدر: {أَلَّا يَجِدُوا} نصب بأن). اهـ. =

{لَنْ نُؤْمِنَ} لن نصدقكم في أعذاركم، {نَبَّأَنَا} خبرنا بأشياء، {مِنْ أَخْبَارِكُمْ}، {وَسَيَرَى الله} في المستقبل من التوبة والإضرار، {فَيُنَبِّئُكُمْ} بعد ما عميت عليكم الأنباء. والمراد بـ (الإعراض): الإعراض عن مباحثتهم ومجادلتهم وإنما أمروا بالإعراض لتسكين الفتنة التي يبغونها بخلابتهم في الجدال. {يَحْلِفُونَ لَكُمْ} نزلت في جد بن قيس بن (¬1) قشير، والظاهر أنها في شأن الأعراب (¬2). {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} أغلظ أكبادهم وقساوة قلوبهم وهم الفداؤون الذين نعتهم رسول الله (¬3) بالجفاء والقسوة و (أشد نفاقًا) لمكرهم وحيلهم في الحروب والمهادنات، {وَأَجْدَرُ} وأحرى وأحق, {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ} لبعدهم عن حضرة (¬4) رسول الله (3) وكونهم بمعزل عن ¬

_ = والجرجاني الذي يكثر من ذكره والنقل عنه هو أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، ومن كتابه: "نظم القرآن" المفقود، والذي نقل البغوي عنه في نفس الكتاب "نظم القرآن". والألوسي في "روح المعاني" ومكي بن طالب القيسي لأنه لخص "نظم القرآن" وابن الجوزي في "زاد المسير" (9/ 164) ويجوز كما قال الفراء، معاني القرآن (1/ 448)، وهو قول البصريين: "أن لا يجدون" يجعل "لا" بمعنى ليس. (¬1) (بن) ليست في المخطوطات وأضفتها وهو الجد بن قيس بن صخر تقدمت ترجمته وهو معدود في الصحابة [الإصابة (1113)، وأسد الغابة (1/ 521)] ولم أجد من قال: إن الآية نزلت في هؤلاء إلا أن أبا السعود في تفسيره قال: إن الآية التي بعدها: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} [التوبة: 97] نزلت فيهم. انظر: تفسير أبي السعود (4/ 95). (¬2) قيل: إنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين حين حلف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أتخلف عنك، وحلف عبد الله بن أبي سرح لعمر بن الخطاب وجعلوا يترضون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ذكر ذلك مقاتل كما نقله عنه ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 290)، وكذا ذكر القرطبي في تفسيره (8/ 147). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) الحضرة لفظة صوفية تستعمل في خاصة الأولياء مع أن الجرجاني -رحمه الله- لم يعرف عنه هذا التوجه، فالله أعلم.

الجمع والجماعات ومجالس العلم والوعظ واشتغالهم عن القراءة والتفقه في دين الله بمصالح معاشهم، وقد جعل الله النهب والفتك والنخوة والعزة في أهل البوادي حيث كانوا، فهم بمنزلة السباع، وجعل الرفق والسخرة والانقياد والذلة في الحواضر حيث كانوا (¬1)، فهم بمنزلة البهائم، وجعل الحكم (¬2) والعلم والسلطنة وتصريف الأمور (¬3) في البدويين الذين نزلوا المدن والأمصار وتركوا التبدي فهم بمنزلة الناس من سائر الحيوان، هذا هو الغالب. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ} نزلت في أسد وغطفان (¬4)، {يَتَّخِذُ} أي: يعد ويعتقد، {مَغْرَمًا} غرمًا، وهو أن يلزم الإنسان من غير أن يعود إليه منه نفع، {وَمِنَ الْأَعْرَابِ} نزلت في مزينة وجهينة وغفار وأسلم (¬5). {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ} أي: الرتبات المضيئة التي يكون صاحبها مراقبًا مشاهدًا، و (صلوات الرسول) (¬6) دعواته الصالحة، والضمير في {إِنَّهَا} عائد إلى الصدقات، وقيل: إلى الصلوات، وقيل: إليهما جميعًا، {في رَحْمَتِهِ} في قضية رحمته وهي النعمة والجنة. {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} عن الشعبي أنّ (¬7) السابقين الأولين {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الذين بايعوا (¬8) رسول الله (¬9) بيعة الرضوان (¬10) بالحديبية ¬

_ (¬1) (حيث كانوا) من "ي" "ب". (¬2) في "ب": (الحكمة). (¬3) (الأمور) من "ي" "ب". (¬4) لم نجد من ذكر سبب النزول هذا. (¬5) ذكر البغوي عن الكلبي (86) عن أسلم وغفار وجهينة، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 489) عن ابن عباس. وذكره ابن جرير (11/ 635، 636)، وابن أبي حاتم (6/ 1867) عن مزينة. (¬6) (الرسول) ليست في "أ". (¬7) (أنّ) من "ي" "ب". (¬8) في الجميع (تابعوا) والمثبت من "ب". (¬9) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬10) في "ب": (بيعة الحديبية).

تحت الشجرة (¬1)، ويحتمل أن {مِنَ} لتبيين الجنس كما في قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية، والدليل لزوم اسم التابعين قومًا أدركوا الصحابة وأخذوا العلم منهم (¬2) ورووا الحديث عنهم، فلو كان (من) للتبعيض لكان اسم المبايعين لازمًا لسائر المهاجرين والأنصار. وفي قوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ} دلالة أن النبي -عليه السلام- (¬3) ما كان يعلمهم بأعيانهم علمًا مقطوعًا به لكن لغلبة الظن ولهذا قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمَّد: 30]، {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} في الدنيا مرة وفي القبر مرة عن أبي (¬4) مطيع عن أبي حنيفة (¬5) -رحمه الله- من قال: لا أعرف عذاب القبر فهو من الطبقة الخبيثة الجهمية الهالكة لأنه أنكر قوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}، وقوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47]، فإن قال: أؤمن بالآية، ولا أؤمن بتأويلها (¬6) وتفسيرها، فهو كافر لأن من القرآن ما تأويله تنزيله. {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} قال الكلبي: نزلت في ثلاثة: أبي لبابة وأوس بن ثعلبة ووديعة بن خزام (¬7)، وعن الضحاك وقتادة: أنهم سبعة (¬8)، وعن زيد بن أسلم: كانوا ثمانية (¬9)، وعن ابن عباس: كانوا عشرة فشدَّ منهم سبعة أنفسهم على السواري، قيل: وحلف أبو لبابة أن لا يحل نفسه حتى ¬

_ (¬1) أخرجه عنه الطبري في تفسيره (11/ 637)، وابن أبي حاتم (1768). (¬2) في الأصل "أ": (عنهم). (¬3) (السلام) من "ب" فقط. (¬4) (عن أبي) من "ب"، وفي البقية (مرة أبو مطيع). (¬5) نقله عن أبي حنيفة الدكتور محمَّد بن عبد الرحمن الخميس في كتابه "الشرح الميسر" (137). (¬6) في "أ": (ولا أومن بالآية ولا أمعن بتأويلها). (¬7) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 494) من طريق العوفي عن ابن عباس. (¬8) ذكر ابن الجوزي عن قتادة (3/ 494) أما عن الضحاك فلم أجده. (¬9) ذكر ابن الجوزي عن زيد بن أسلم (3/ 494).

يحلَّه رسول الله، فبلغ ذلك رسول الله (¬1) فحلف أن لا يحله حتى يأمر الله بأمره فيه (¬2)، قيل: وكان أول أمر أبي لبابة أنه خاصم يتيمًا إلى رسول الله (1) في عذق (¬3) فقضى له به ثم تشفع إليه ليعطيه اليتيم فأبى فقال: "أعطه إياه ولك مثله في الجنة"، فأبى، فانطلق إليه أبو الدحداح واشتراه منه بحديقة له ثم أتى رسول الله (1) [فقال]: أرأيت إن أعطيته اليتيم ألي مثله في الجنة؟ قال: "نعم"، فأعطى اليتيم فكان -عليه السلام- (¬4) يقول: "كم من عذق (¬5) مدلي في الجنة لأبي الدحداح". ثم إن أبا لبابة أدركه شؤم هذه المعصية فخان رسول الله (¬6) حين استنزل بني قريظة وأشار إلى حلقه يخوفهم بالذبح، ثم تخلف عن غزوة تبوك، ثم ألقى الله في قلبه التوبة والندم فشد نفسه بالسارية فبقي كذلك سبعة أيام حتى غشي عليه فأنزل الله فيه وفي أصحابه الآية (¬7)، {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} كقولك: خلطت الماء واللبن، ولو قلت: خلطت الماء باللبن لجاز أيضًا (¬8). {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لما أنزل الله توبة هؤلاء جاؤوا بأموالهم إلى رسول الله (6) وقالوا: هذه خلَّفتنا عنك فتصدق بها، فتوقف في ذلك رسول الله (6) فأنزل الله (¬9)، روي أنه أخذ ثلث أموالهم وترك الباقي عليهم ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) ابن جرير (11/ 651، 652، 659، 662، 663، 667، 669)، وابن أبي حاتم (6/ 1872، 1874. 1875، 1876، 1878)، والبيهقي في الدلائل (5/ 271). (¬3) في الأصل و"أ": (عدن). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في الأصل و"ي": (عدن). (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) عبد الرزاق في مصنفه (9746)، والبيهقي في السنن (6/ 158)، وفي سنده انقطاع وإرسال. (¬8) جَوَّز بعض نحويِّي البصرة الوجهين وهو معروف في لسان العرب كما تقول: استوى الماءُ والخشبة، أي: بالخشبة؛ وخلطت الماء واللبن، أي: باللبن. ويجوز تقديم أحدهما على الآخر وهو اختيار ابن جرير الطبري وأبي البقاء العكبري. [الإملاء (2/ 21)، تفسير الطبري (11/ 650)]. (¬9) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 659)، وابن أبي حاتم (1874) عن ابن عباس -رضي الله عنهما -.

و {تُطَهِّرُهُمْ} خطاب للنبي -عليه السلام- (¬1) وهو في تقدير الحال، {سَكَنٌ} سكينة وطمأنينة، و {هُوَ يَقْبَلُ}، و {هُوَ التَّوَّابُ} لتأكيد الوصف والأخذ وهو القبول والإثابة. {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الرسول لتشريفهم أو لتعليق الأحكام الشرعية بهم بعد وفاة رسول الله (¬2). {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} نزلت في الثلاثة الذين خلفوا كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (¬3) وكل المؤمنون بهذه الصفة إلا المبشرين بالجنة. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} نزلت في سبعة عشر نفسًا من بني عمرو بن عوف بنوا قريبًا من مسجد قباء مسجدًا لأجل أبي عامر الفاسق (¬4) وكانوا (¬5) يسمونه الراهب، وكان بالشام، فبنوا هذا المسجد لأجله ينتظرون قدومه عليهم في ذلك المسجد، وكان يؤمهم مُجَمَّع بن جارية كالنائب عن أبي عامر الفاسق وكان منافقًا قارئًا للقرآن، فطلبوا من رسول الله (2) قبل خروجه إلى غزوة تبوك أن يحضرهم فيصلِّي بهم في مسجدهم يبتغون بذلك (¬6) عذرًا لأنفسهم، فقال -عليه السلام- (¬7): "حتى أنصرف من هذه الغزوة" فأنزل الله في منصرفه (¬8)، {ضِرَارًا} مضارّة وهو نصب ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) ابن أبي حاتم (6/ 1878)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 522) لابن المنذر ولأبي الشيخ، وأخرجه الطبري (11/ 670) عن مجاهد وقتادة والضحاك. (¬4) (الفاسق) ليست في الأصل. (¬5) (وكانوا) ليست في الأصل و"أ". (¬6) في الأصل و"أ": (ذلك). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) هذه رواية مقاتل كما في زاد المسير (3/ 499) والأشهر ما ذكره الغوي (93) أنهم (اثنا عشر رجلًا). وقصة أسباب نزولها مشهورة في كل كتب التفسير؛ عند الطبري (11/ 675)، وابن أبي حاتم (6/ 1878، 1881)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -. =

على أنه مفعول له (¬1)، ومن {حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ} هو أبو عامر الفاسق (¬2) كان قد ترهب ولبس المسوح بالمدينة قبل مقدم رسول الله، فلما هاجر إليها رسول الله أتاه أبو عامر الفاسق، وقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال -عليه السلام- (¬3): "هذا دين إبراهيم" قال أبو عامر: فأنا على دين إبراهيم، فقال -عليه السلام- (3): "هذا دين إبراهيم أنا عليه" قال أبو عامر: بل أدخلت فيه ما ليس منه، قال رسول الله: "بل جئت بالحنيفية بيضاء نقية"، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا طريدًا وحيدًا، لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، وانضوى إلى الكفار فقاتلوا يوم أحد وبعد ذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن ويئس الملعون (¬4) عن مشركي العرب خرج إلى الشام ليستنصر قيصر، وكان يأمر المنافقين ببناء هذا المسجد ويخبرهم بأنه سيأتيهم بجنود لا قبل لهم بها: لا حد بها فلم يمكنه الله سبحانه وتعالى من ذلك وأماته بالشام طريدًا وحيدًا، وابن أبي عامر الفاسق إنما هو حنظلة غسيل الملائكة (¬5)، {إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا (¬6)، {إِلَّا الْحُسْنَى} إلا استمالة أبي عامر ليرجع ويسلم فكذبهم الله تعالى. ¬

_ = وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق (2/ 529 - 530)، والبيهقي في الدلائل (5/ 262، 263). (¬1) هذا أحد الأوجه في إعراب "ضرارًا" أي: مُضَارَّةَ لإخوانهم. والوجه الثاني: أنه مفعول ثانٍ لـ "اتخذ" قاله أبو البقاء العكبري، والوجه الثالث: أنه مصدر في موضع الحال من فاعل "اتخذوا" أي: اتخذوه مُضَارِّين لإخوانهم. [الإملاء (2/ 22)، الدر المصون (6/ 120)]. (¬2) ذكره ابن أبي حاتم (6/ 1879) وأما قصة أبو عامر الراهب فذكرها البغوي (93)، والقرطبي (7/ 280). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (الملعون) ليس في "ب". (¬5) أي: أن حنظلة بن أبي عامر أسلم فأصبحِ من خيار الصحابة واستشهد في غزوة أحد، ولما نودي بالجهاد في غزوة أُحد خرج مسرعًا وهو جنب فقتل في غزوة أحد فقال -عليه السلام-: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"، وانظر: الإصابة (2/ 298)، رقم الترجمة (1139). (¬6) أي: أن "إِنْ" نافية ولذلك وقع بعدها "إلا" وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا} جواب لقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ}.

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} قال مقاتل: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية مالك بن الدُّخْشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيًا قاتل حمزة إلى هذا المسجد الظالم أهله، فهدموه وأحرقوه، وأمر ان يتخذ ذلك الموضع كناسة يلقى فيها الجيف (¬1)، وفيه دليل لمحمد (¬2) على أن المسجد إذا خرب وتعطل رجع إلى المالك، قال أبو يوسف: هم لم يكونوا بنوه على نية المسجد حقيقة. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} مسجد رسول الله -عليه السلام-، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي -عليه السلام- (¬3) قال: "هو مسجدي هذا" (¬4) يدل عليه (¬5) ما روى أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أنه لما أنزلت: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}، قال النبي -عليه السلام- (¬6): "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم هذا"، قال: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي (¬7) بالماء، قال: "هو ذلك فعليكموه" (¬8)، وقيل: إنه مسجد قباء. روي عن عبد الله بن الحارث أن أهل قباء أتوا النبي -عليه السلام- (¬9) فذكروا له الاستنجاء بالماء، فقال: "إن الله أثنى عليكم فدوموا" (¬10)، {رِجَالٌ ¬

_ (¬1) ذكره البغوي (93)، والقرطبي (8/ 231). (¬2) يقصد محمَّد بن حسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) مسلم (1398). (¬5) في الأصل: (على). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في الأصل و"أ": (ونستحمي). (¬8) الحديث رواه ابن ماجه (355)، وابن أبي حاتم (6/ 1882)، وابن الجارود في المنتقى (40)، والدارقطني في سننه (1/ 62)، والحاكم (1/ 155)، وابن عساكر (38/ 229، 230)، عن أبي أيوب وجابر وأنس، والحديث صحيح. (¬9) السلام) ليس في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬10) الحديث مشهور عن عويم بن ساعدة -وكان من أهل بدر- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =

{يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، وعن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- (¬1) قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} الآية، قال: "كانوا يستنجون بالماء" فنزلت هذه الآية فيهم (¬2). والأصح أن المسجد مسجد رسول الله (¬3) وأن الرجال المتطهرين عامة الأنصار من أهل المسجدين جميعًا فدلَّ عليه ما روي أنه حمَّ الأنصار فعادهم رسول الله (3) وقال: "أبشروا فإنها كفارة طهور"، قالوا: يا رسول الله، ادع الله أن يديمها علينا أيامًا حتى تكون كفارة لنا فأنزل الله تعالى يثني عليهم، {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} بالحمى عن معاصيهم (¬4). والتأسيس موضع الأساس، والأساس قاعدة البناء، من {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ} هو رسول الله مع أصحابه المهاجرين والأنصار، ومن {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} هو أبو عامر الفاسق مع أصحابه المنافقين. والأول: هو التأسيس على حالة التقوى أو نية التقوى، والثاني: على وجه المثل، و (الجرف) هو التجويف الذي جرفت السيول والأودية حشوه {هَارٍ} هائر، قدمت لام الفعل وأخرت عينه على سبيل القلب (¬5) كقولك: ¬

_ = لأهل قباء: "إني أسمع الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ... " الحديث أخرجه الطبري (11/ 690)، والطبراني في الأوسط (5885)، والإمام أحمد في مسنده (15485)، والحاكم (1/ 5511) وغيرهم. (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أبو داود (44)، والترمذي (3100)، وابن ماجه (357)، والحديث صحيح. (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) أورده الإمام أحمد (3/ 316)، وأبو يعلى (2319)، وابن حبان (2935) عن جابر بلفظ: استأذنت الحمى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من هذه؟ " قالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا منها ما يعلم الله فأتوه فشكوا ذلك إليه فقال: "ما شئتم، إن شئتم دعوت الله فكشفها عنكم وإن شئتم أن تكون لكم طهورًا"، قالوا: أو تفعله؟ قال: "نعم"، قالوا: فدعها. والحديث سنده جيد وفي متنه غرابة، وقد رواه الطبراني في الكبير (6113). (¬5) ما ذكره المؤلف هو أحد الأوجه في "هار" ويريد المؤلف أنه مقلوب بتقديم لامه على عينه وذلك أن أصله: هاور أو هاير بالواو والياء لأنه سمع فيه الحرفان. هار يهير وهار يهور وتهيَّر البناء وتهوَّر البناء. =

هو شاكي السلاح وشائك، وقد تحذف الهاء من هائر حذفًا حقيقيًا من غير قلب، في حديث خزيمة وذكر السنة، قال: تركت المخ رارًا والمطي هارًا (¬1)، والهور والانهيار: الميل، ومنه التهور والهوارة، في الحديث: "من أطاع ربه فلا هوارة عليه" (¬2)، وروي: "من انقى الله وُقي الهوارة" (¬3). {بَنَوْا رِيبَةً} أي: سبب ريبة، {تَقَطَّعَ} تفسخ، فمن حمل الكلام على الغاية والتوقيت قال: ترتفع الريبة عند تقطع القلوب لأن الارتياب في فعل الأحياء دون من هلك وتلاشى، ومن حمل على المبالغة والتأكيد قال: يجوز بقاء الريبة مع تقطع القلوب لجواز بقاء الحياة والعقل (¬4) فيهما بتبقية الله تعالى كحياة الشهيد (¬5)، وحياة الذين يُسألون في القبور، وهذا أشبه. ويمكن الجمع بين القولين بأن يحمل أَحَدهما في طائفة من المنافقين والأخرى في طائفة أخرى منهم. {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر الرجال الذين ¬

_ = والوجه الثاني: أنه حذفت عينه اعتباطًا، أي: لغير موجب. والوجه الثالث: أنه لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله هور أو هَيرَ فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفًا وهذا أقرب الأوجه لأنه جار على الأصل خلافًا للقلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل. [البحر (5/ 100)، الدر المصون (6/ 125)]. (¬1) حديث خزيمة بن ثابت رواه الطبراني في الأوسط (7731)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 373، 375) وقد جاء محرفًا في الطبراني الأوسط بلفظ (المخ رزامًا والمطي هامًا) والتحريف من الأصل وليس في المطبوع لأنه هكذا ورد في "مجمع الزوائد" (8/ 242) ومعنى رارًا: أي: ذائبًا، والهار: هو صوت الكلب دون نباحه من قلّه صبره، والتعبير كله عن الشدة والبؤس. (¬2) ذكره مسندًا الحربي في "غريب الحديث" (2/ 685)، وذكره ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 504)، وابن الأثير (5/ 657)، والزمخشري في الفائق (4/ 121). (¬3) ذكره مسندًا الحربي في "غريب الحديث" (2/ 683)، وذكره ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 685)، وابن الأثير (5/ 657)، والزمخشري في الفائق (4/ 121). (¬4) في الأصل و "أ": (والفعل). (¬5) في الأصل: (الشاهد).

يحبون أن يتطهروا، عن عبد الله بن رواحة قال يوم البيعة: اشترط يا رسول الله لربك ولنفسك، قال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهاليكم"، قال: فإن فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "الجنة"، قال: ربح البيع لا نفيل ولا نستقيل، فأنزل الله بها هذه الآية (¬1)، واشترى الله من عباده ما يملكه عليهم إنما على سبيل التفضيل واللطف وهو كالاستقراض منهم وإيجاب الأجر لهم، أبو هريرة يحدث عن النبي -عليه السلام-: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة" (¬2). {التَّائِبُونَ} أي: هم التائبون، وقيل: رفع على المدح (¬3)، {السَّائِحُونَ} السياحة هي رحلة الشتاء والصيف في الجهاد والحج وطلب العلم وزيارة المشايخ في بيوتهم وقبورهم (¬4). قال -عليه السلام- (¬5): "سياحة أمتي الجهاد" (¬6)، وقال -عليه السلام-: "الصوم ¬

_ (¬1) ابن جرير (12/ 6، 7) وفيه انقطاع، وله شاهد عند ابن أبي حاتم (6/ 1886) عن جابر بن عبد الله. (¬2) البخاري (2955)، ومسلم (1876) وغيرهما. (¬3) يريد المؤلف أن تكون: {التَّائِبُونَ} خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم التائبون. ويجوز أن تكون {التَّائِبُونَ} مبتدأ وخبره، {الْعَابِدُونَ} وما بعده أوصاف أو أخبار متعددة، وقيل: إن {التَّائِبُونَ} بدل من الضمير المتصل في {يُقَاتِلُونَ}. [الكشاف (2/ 216)، المحرر (8/ 285)]. (¬4) زيارة المشايخ في قبورهم للدعاء لهم وتذكر الموت واليوم الآخر، أما زيارة قبورهم للتوسل بهم أو دعائهم أو سؤالهم أو الاستعانة بهم في كشف التفسير أو جلب النفع، فهذا كله من المحاذير الشركية الممنوعة شرعًا. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) أبو داود (2486)، والطبراني في الكبير (7708، 7760) وفي مسند الشاميين (1522)، وعنه ابن عساكر (53/ 289)، والبيهقي في السنن (9/ 161)، وفي الشعب (4226)، والحاكم (2/ 83) والحديث حسن.

سياحة أمتي" (¬1) , لأنه يلقى من الشدة ما يلقاه السائح في الأرض. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بأن هذه صفتهم عند الله ورسوله مع ما يتعاطونه من الذنوب سرًا وجهرًا. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} اتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر محافظة حدود الله؛ عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضر أبا طالب الوفاة جاء رسول الله (¬2) فوجد أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية عنده فقال النبي -عليه السلام- (¬3) لأبي طالب: "يا (¬4) عم قل: لا إله إلا الله كلمة نجاح أشهد لك بها عند الله"، وقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي -عليه السلام- (3) يعرضها عليه ويعاودانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي (¬5) -عليه السلام- (¬6): "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنه"، فأنزل الله الآية، فأنزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآية (¬7). وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (¬8) خرج يومًا وخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلًا، ثم ارتفع نحيب رسول الله (8) بالبكاء، فبكينا لبكائه -عليه السلام-، ثم إن النبي -عليه السلام- (¬9) أقبل إلينا فتلقاه عمر، فقال: ما الذي ¬

_ (¬1) ورد بلفظ: "السائحون الصائمون" أورده ابن عدي في الكامل (2/ 220)، والدارقطني في العلل (8/ 206) وهو حديث ضعيف، وقد ورد موقوفًا على الصحابة والتابعين. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب" "ي": (أي عم). (¬5) (النبي) ليست في "ب". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) البخاري (1294)، ومسلم (24) وغيرهما. (¬8) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬9) (السلام) ليست في "ي".

أبكاك يا رسول الله؟ فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ رسول الله بيد عمر ثم أقبل إلينا (¬1) فقال: "أفزعكم بكاي؟ " فقال: نعم يا رسول الله، فقال: "إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي"، وأنزل عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} معه (¬2) {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، "فأخذني ما يأخذ الولد للوالدين من الرقة" (¬3)، قال الأمير (¬4): ويمكن الجمع بين الروايتين: كان يستغفر لأبي طالب سنين حتى زار قبر أمه يومئذٍ فأنزل الله الآية فانتهى عن الاستغفار لهما، قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار للأموات، ولم ينههم عن الاستغفار للأحياء حتى يموتوا. ثم أنزل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآية استغفر له ما كان حيًا فلما مات أمسك عن الاستغفار له (¬5)، (الأوّاه) كثير التأوه خوفًا من الله عَزَّ وَجَلَّ، عن الأزهري، وقال أبو عبيدة (¬6): الأوّاه: المتأوه شفقًا وفرقًا ويقينًا ولزومًا للطاعة، ويحتمل أنه كان يتأوه على هلاك قومه وكفرهم بالله ويتحلّم عنهم ولا يخاشنهم [ولا يزيد على التأوه لأنه لم يكن مأمورًا بالقتال. ¬

_ (¬1) من قوله: (فتلقاه عمر) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ليست في "ي"، و (معه) سقطت من "أ". (¬3) ابن أبي حاتم (6/ 1893، 1894)، والحاكم (2/ 336)، والبيهقي في الدلائل (1/ 189، 190) وفيه ضعف يسير. (¬4) لا أدري من الذي يعنيه المؤلف بالأمير، وهذا أول ذكر له من بداية التفسير مما يدل على أنه لم تجر عادة المؤلف ذكر الأمير، ولا يعرف أحد من مشايخ المؤلف من هو ملقب بالأمير، فالله أعلم. (¬5) ابن جرير (12/ 23، 24)، وابن أبي حاتم (6/ 1893). (¬6) أما قول الأزهري فذكره في تهذيب اللغة (6/ 481)، وأما قول المؤلف: قال أبو عبيدة فالصواب - والله أعلم - أبو عبيد وليس أبو عبيدة. فقد ذكر الأزهري في تهذيب اللغة - أبو عبيد - نفس التفسير الذي نقله المؤلف عن أبي عبيدة. انظر أيضًا نفس المصدر السابق وأنشد بيت المثقب العبدي: إذا قمتُ أرحَلُهَا بِلَيْلِ ... تَأَوَّهُ آهةَ الرَّجُلِ الحزينِ

{لِيُضِلَّ}، الإضلال ههنا لتخطئته وتضليله] (¬1) وتضليله ومؤاخذته إياهم بما لا علم لهم به ثم اختلفوا، فقيل: نزلت الآية في مؤاخذة الله إياهم للعمل بالأحكام المنسوخة قبل العلم بالنسخ كالصلاة إلى بيت المقدس وشرب الخمر، وقيل: نزلت في مؤاخذة الله إياهم (¬2) بالاستغفار للمشركين قبل بيانه (¬3) أنه لا يجوز، وإنما وصف بالعلم لأن هذا الحكم المذكور من قضيّة علمه وحكمته، وإنما وصف نفسه بأن له ملك السموات والأرض لتبيين جواز تصرفاته في مملكته من النسخ والإضلال والمغفرة والعذاب وغير ذلك. {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ} وهو قوله: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] والتوبة على المهاجرين والأنصار عفوه عنهم زلاتهم من التخلف وغير ذلك، {في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وقت الضيق والشدة. كان الأمر قد بلغ إلى أن نحو بعضهم ناقته فعصر أكراشها وشرب عصارتها (¬4). وعن مقاتل أن التمرة كانت فيهم بين الاثنين والثلاثة يلوك هذا ثم يعطي هذا، وعن الحسن أنهم كانوا يعتقبون على رواحلهم وزادهم شيء من دويق الشعير وإهالة منتنة (¬5)، وعن عمر قال: أصابنا عطش شديد فدعى النبي -عليه السلام- فأمطر الله السماء فعشنا بذلك (¬6)، {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} لشدة الابتلاء وقلة الصبر وكثرة الوسواس. {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ (¬7) الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي: خلفهم الله بتقديره أو الشيطان ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في الأصل. (¬2) من قوله: (بالأحكام المنسوخة) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) (بيانه) ليست في "ب". (¬4) هذا ورد عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب عند ابن أبي حاتم (6/ 1898)، والبيهقي في الدلائل (5/ 227). (¬5) قريبًا منه عند البغوي (104) عن الحسن. (¬6) قول عمر مطولًا عند ابن جرير (12/ 52، 53)، وابن خزيمة (101)، وابن حبان (1383)، والحاكم (1/ 159)، وأبو نعيم (452)، والبيهقي (5/ 231)، والحديث صحيح. (¬7) (الثلاثة) ليست في "ب".

بغروره أو أموالهم وأهلوهم بفتنتها، ويحتمل تخليف رسول الله إياهم عن مجلسه وحضرته ومهاجرته إياهم بخمسين صباحًا، {بِمَا رَحُبَتْ} أي: برحبها وسعتها، {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: صدورهم وقلوبهم، وضيق النفس أن تمتلىء بالحزن والهم حتى تختنق فلا تسع شيئًا، {وَظَنُّوا} أيقنوا، وإنما استثنى الملجأ إليه للتنبيه على رحمته ورأفته بعد ابتلائه ومحنته، وفي الآية دلالة أن توبة الله عليه توبة العبد. عن كعب بن مالك، قال: لم أتخلف عن رسول الله في (¬1) غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرًا، ولم يعاتب النبي -عليه السلام- أحدًا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى، ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي -عليه السلام- (¬2) بعد في غزاة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها رسول الله -عليه السلام- (2)، وأذَّن النبي -عليه السلام- (2) الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قلَّ ما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها وكان يقول: "الحرب خدعة" (¬3). فأراد النبي -عليه السلام- (2) غزوة تبوك أن يتأهب أهبتهم وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحاذ، وأنا في ذلك أصعر إلى الظلال وطيب الثمار، فلم أزل كذلك حتى قام النبي -عليه السلام- غاديًا بالغداة وذلك يوم الخميس فأصبح غاديًا، قلت: أنطلق إلى السوق وأشتري جهازي ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق بالغد فعسر عليَّ بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غدًا إن شاء الله فألحق بهم، فَعسر عليَّ بعض شأني أيضًا، فلم أزل كذلك حتى التبس فيَّ الذنب تخلفت عن رسول الله (¬4)، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة ¬

_ (¬1) (في) ليست في "ب". (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البخاري (2864)، ومسلم (1739). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

فيحزنني أن لا أرى رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، وكان ليس تخلف أن ذلك سيخفى وكان الناس كثيرًا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلف عن النبي -عليه السلام- (¬1) بضعة وثمانين رجلًا، ولم يذكرني -عليه السلام- حتى بلغ تبوك قال: "ما فعل كعب بن مالك؟ " فقال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ: بئس ما قال، والله يا نبي الله لا نعلم إلا خيرًا، قال: فبينا هم كذلك إذا هم برجل يزول به السّراب فقال النبي -عليه السلام- (¬2): "كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة. فلما قضى النبي -عليه السلام- (2) في غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة النبي -عليه السلام- (2) وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، حتى إذا أقبل (¬3) النبي -عليه السلام- (2) مصبحكم بالغداة زاح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلا بالصدق، ودخل النبي -عليه السلام- ضحى وصلَّى في المسجد ركعتين، وكان إذا جاء من سفر فعل ذلك؛ دخل المسجد فصلَّى ركعتين ثم جلس، فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. فدخلت المسجد فإذا رسول الله (¬4) جالس، فلما رآني تبسَّم (¬5) تبسُّم المغضب فجلست بين يديه فقال: "ألم تكن ابتعت ظهرك؟ "، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "فما خلفك؟ "، قلت: والله لو بين يدي أحد من الناس غيرك جلست لخرجت من سخطه عليَّ بغير عذر، لقد أوتيت جدلًا ولكن قد علمت يا نبي الله أني إن أخبرك اليوم بقول تجد عليَّ فيه وهو حق فإني أرجو فيه عقبى الله، وإن حدثتك اليوم حديثًا ترضى عني فيه وهو كذب أوشك الله أن يطلعك عليَّ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذًا مني حين ¬

_ (¬1) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب" "ي": (قيل). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (تبسم) ليست في "أ".

تخلفت عنك، فقال: "أما هذا فقد صدقكم الحديث، قم حتى يقضي الله فيك"، فقمت فثار على أثري ناس من قومي يؤنبوني، فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبًا قبل هذا، فهلا اعتذرت إلى النبي -عليه السلام- (¬1) بعذر يرضى عنك فيه وكان استغفار النبي -عليه السلام- سيأتي من وراء ذنبك ولم يقف نفسك موقفًا لا تدري ماذا يقضي الله لك فيه، فلم يزالوا يؤنبوني حتى هممت (¬2) أن أرجع فأكذب نفسي، فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم هلال بن أمية ومرارة بن ربيعة ذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرًا لي (¬3) فيهما أسوة حسنة، فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبدًا ولا أكذّب نفسي. قال: ونهى النبي -عليه السلام- الناس عن كلامنا أيها الثلاثة، قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلِّمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج وأطوف بالسوق وإلى المسجد وأدخل فآتي النبي -عليه السلام- (¬4) فأسلم عليه فأقول: هل حرك شفتيه بالسلام؟ فإذا قمت أصلِّي إلى سارية فأقبلت قبل صلاتي نظر إليَّ بمؤخر عينه فإذا نظرت إليه أعرض عني. واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ولا يطلعان رؤوسهما. قال: فبينا أنا أطوف بالسوق وإذا رجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان فإذا فيها: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ولست بدار مضيعة ولا هوان فالحق بنا نواسك، فقلت: هو أيضًا من البلاء والشر، فسجرت لها التنور فأحرقتها. فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول رسول الله (¬5) قد أتاني فقال: اعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل و"أ": (همت). (¬3) المثبت من "ب"، وفي الجميع (إلى). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

لا, ولكن لا تقربها، فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إن هلال بن أمية شيخ ضعيف هل تأذن لي أخدمه؟ قال: "نعم، ولكن لا يقربنك"، فقالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء، ما زال يبكي الليل والنهار مذ كان من أمره ما كان. قال كعب: فلما طال عليَّ البلاء اقتحمت على أبي قتادة حائطه وهو ابن عمي فسلَّمت عليه فلم يرد علي، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت حتى قلتها ثلاثًا، فقال أبو قتادة في الثالثة: الله ورسوله أعلم، فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجًا. حتى إذا مضت خمسون ليلة من حيث نهى النبي -عليه السلام- (¬1) عن كلامنا صلَّيت على ظهر بيت لنا الفجر، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا، إذ سمعت نداء من ذروة سلع: أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدًا وعلمت أن الله قد جاءنا بالفرج، ثم جاء رجل يركض على فرس يبشرني، فكان الصوت أسرع من فرسه فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين، قال: وكانت توبتي نزلت ثلث الليل على النبي (¬2) -عليه السلام- (¬3) فقالت أم سلمة: يا رسول الله ألا نبشر كعب بن مالك؟ قال: "إذًا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليل"، وكانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن بأمري، فانطلقت إلى رسول الله (¬4) فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سرّ بالأمر استنار، فجئت وجلست بين يديه فقال: "أبشر يا كعب بخير يوم أتى عليك مُذْ ولدتك أمك"، فقلت: يا رسول الله، أمن عند الله أم من عندك؟ قال: "بل من عند الله"، ثم قرأ عليه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} حتى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وفيها أنزل أيضًا: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فقلت: يا نبي الله إن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا، ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي،، وفي "بإ: (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬2) (على النبي) ليست في "أ". (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله (¬1) وإلى رسوله، فقال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال كعب: فما أنعم الله عليَّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله (1) حيث صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا، وإني لأرجو (¬2) أن لا يكون الله أبلى أحدًا من الصدق مثل الذي أبلاني ما تعمدت (¬3) للكذب بعد وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، قال الزهري: هذا ما انتهى إلينا من حديث كعب بن مالك (¬4). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال أبو بكر الصديق: إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان (¬5). سئل النبي -عليه السلام-: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: "نعم"، فقيل: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: "نعم"، فقيل: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: "لا" (¬6). {وَلَا يَرْغَبُوا} ولا أن يرغبوا، ويحتمل أنه مجزوم على النهي، و (رغبتهم بأنفسهم عن نفسه) إيثارهم أنفسهم على نفسه، {ظَمَأٌ} عطش، {وَلَا نَصَبٌ} تعب، {وَلَا مَخْمَصَةٌ} مجاعة، و (الوطء) موضع القدم وكذلك الموطىء ويجوز أن يكون مصدرًا، {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} صفة للموطىء، أي: يغيظ الكفار وطؤهم إياه، و (النيل): الإصابة، والضمير في (به) عائد إلى كل واحد من الأشياء المذكورة. (قطع الوادي): سلوكه، والوادي ما بين العدوتين، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} قال الكلبي: لما أنزل الله عيوب المنافقين ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب" (أرجو). (¬3) في الأصل و"أ": (تعهدت). (¬4) القصة في البخاري (4156)، ومسلم (2769)، ولكن أضاف إليها المؤلف من روايات أخر. (¬5) أحمد (1/ 5) وسنده صحيح. (¬6) مالك في الموطأ (1795)، والبيهقي في الشعب (4812).

المتخلفين، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن سريّة بعد هذا، فكانوا يخرجون السرايا ويتركون رسول الله (¬1) بالمدينة فأنزل، قال الكلبي: وفيه وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد قدموا على رسول الله (1) بالنساء والذراري فنزلوا في سكك (¬2) المدينة وأفسدوا الطريق على الناس فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬3) يأمرهم بأن يفد من كل قبيلة وفد على النبي -عليه السلام- ولا يفدوا بأجمعهم. وعن مجاهد أن رسول الله (1) كان أرسل بعض أصحابه إلى قبائل العرب دعاة يدعونهم إلى الإسلام ويعلمونهم الشريعة، فلما سمعوا ما نزل في المتخلفين عن رسول الله (1) خافوا أن يكونوا من المتخلفين فالتحقوا بالنبي -عليه السلام- (¬4) فأنزل الله الآية (¬5)، و (المتفقه في الدين) المنذر قومه إذا رجع هذا النافر إن كان مع النبي (¬6) بالمدينة، والله أعلم بالمراد. وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} يجوز أن يكون خبرًا حقيقيًا فإنهم لم ينفروا كافة قط منذ زمان رسول الله -عليه السلام- (¬7) إلى زماننا هذا، ويجوز أن يكون خبرًا بمعنى النهي (¬8)، وفي الآية دلالة أن خبر الواحد يوجب العمل والحذر وإن لم يوجب العلم لأن الطائفة اسم الواحد فصاعدًا. {يَلُونَكُمْ} يجاورونكم، وفيها دلالة على كراهة أن يترك أهل كل ثغر جهتهم ويسير إلى جهة أخرى إلا بعد الكفاية والاستغناء، قال -عليه السلام-: "عصابتان من أمتي أحرزهما الله تعالى من النار: عصابة تغزو الهند وعصابة ¬

_ (¬1) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ي": (سكن). (¬3) البغوي (1/ 111). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ابن جرير (12/ 76، 77)، وابن أبي حاتم (6/ 1910، 1913). (¬6) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) وذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو جعفر النحاس إلى أنه خبر بمعنى الأمر. [معاني القرآن للزجاج (2/ 475)، إعراب القرآن للنحاس (3/ 46)].

تكون مع عيسى -عليه السلام- (¬1) عند نزوله من السماء" (¬2). أبو هريرة قال: وعدنا رسول الله -عليه السلام- غزوة الهند فإن أدركها أنفق فيها نفسي ومالي فإن قتلت كنت من أفضل الشهداء، وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر (¬3)، وكتب عثمان بن عفان من المدينة إلى عبد الله بن عامر بن كريز يأمره بأن يوجه إلى ثغر الهند من يعلم علمه وينصرف إليه بخبره فوجّه حكيم بن حزام بن جبلة العبدي فلما رجع أنفذه إلى عثمان فسأله عن حال البلاد فقال: يا أمير المؤمنين، ماؤها وشل وتمرها دقل ولصُّها بطل، إن قل الجيش ضاعوا وإن كثروا بها جاعوا (¬4). {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} اتصالها بما قبلها من حيث ذكر الذين يلوننا، {مِنَ الْكُفَّارِ} والمنافقون من جملتهم لأنهم أقرب الكفار إلينا جوارًا، كانوا يتساءلون {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السورة، {إِيمَانًا} على وجه الإنكار وفي قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ردّ من الله عليهم إنكارهم وبيان بأن المؤمنين ازدادوا بهذه السورة إيمانًا. وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قريبة من قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] فتنهم، {فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} إظهار لعامتهم. وعن مجاهد: أنها القحط والشدة (¬5)، وعن الحسن وقتادة: أنها الدعوة إلى الجهاد (¬6). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) النسائي (6/ 42)، وأحمد (5/ 278)، والبخاري في تاريخه (6/ 72)، والجهاد لابن أبي عاصم (288)، والطبراني في الأوسط (6741)، وفي مسند الشاميين (1851)، وابن عدي في الكامل (2/ 161)، والبيهقي في السنن (9/ 176)، والحديث حسن. (¬3) النسائي (6/ 42)، وأحمد (2/ 2228، 369) والفتن في المروذي (1237)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (537)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" (291)، وسعيد بن منصور في سننه (2374)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 317)، والحاكم (3/ 588)، والبيهقي (9/ 176). (¬4) ذكره الحموي في "معجم البلدان" (5/ 179، 180)، كما ورد هذا الوصف حول (كرمان) لعمر بن الخطاب وللحجاج، كما ورد في وصف بلاد السند وفي صفة سجستان. (¬5) ابن جرير (12/ 91، 92)، وابن أبي حاتم (6/ 1915) بلفظ (بالسنة والجوع). (¬6) أما عن الحسن فرواه ابن أبي حاتم (6/ 1915)، وأما عن قتادة فعند ابن جرير (12/ 92)، وابن أبي حاتم (6/ 1916).

{نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} كان المنافقون إذا رأوا رسول الله قد غشي عليه ليوحى إليه نظر بعضهم إلى بعض يتفقدون المسلمين المخلصين هل يجدونهم ناظرين إليهم متبعين أحوالهم فإن وجدوهم كذلك سكنوا ونكسوا رؤوسهم وقعدوا كارهين، وإن لم يجدوهم كذلك تفرعنوا بعقولهم وانصرفوا خوف الفضيحة فأنزل الله الآية فيهم (¬1)، وقوله: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يجوز أن يكون على وجه الإخبار ويجوز أن يكون على وجه الدعاء. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} عن أبي بن كعب، قال: آخر آية نزلت على رسول الله (¬2)، {لَقَدْ جَاءَكُمْ} الآية، {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من العرب (¬3)، قال الزجاج (¬4): معناه أنه بشر مثلكم وفي الشواذ {أَنْفُسِكُمْ} (¬5) من النفاسة وهي الكرم والرفعة والقدر، {عَنِتُّمْ} أثمتم (¬6) تقول: عزّ عليَّ ما نزل بك، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} على إيمانكم ورشدكم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] في الحديث: "أن النبي (¬7) لم ينتصر من مظلمة ظلمها قط ما لم تنتهك ¬

_ (¬1) ابن جرير (12، 95/ 96)، وابن أبي حاتم (6/ 1916). (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) ابن سعد (1/ 21)، وابن عساكر (2/ 382، 383). (¬4) ذكره الزجاج في معاني القرآن (2/ 477). (¬5) انظر: شواذ القراءات للكرماني (ص 223) وشواذ ابن خالويه (ص 56) عزاها ابن الجوزي في "زاد المسير" لابن عباس وأبي العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو. (¬6) الأصل في معنى العنت هو المشقة والشدة، وما ذكره المؤلف هو رواية أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: شديد عليه ما آثمكم، والرواية الثانية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: شديد عليه ما شق عليكم رواها الضحاك عنه، ذكر ذلك ابن الجوزي في تفسيره، وذكر الطبري في تفسيره رواية ثالثة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {مَا عَنِتُّمْ} ما ضللتم، ورجحها الطبري، وقال: هي أولى القولين في ذلك بالصواب. [الطبري (12/ 98)، زاد المسير (2/ 313)]. (¬7) في "ب": (الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم).

محارم الله سبحانه وتعالى فإذا انتهك شيء من محارم الله كان من أشد الناس غضبًا" (¬1)، وعنه -عليه السلام- (¬2): "ما خُيِّرت (¬3) بين أمرين إلا اخترت (¬4) أيسرهما ما لم يكن مأثمًا" (¬5)، وقال -عليه السلام- (2): "ارحموا الضعيفين: النساء والذراري" (¬6)، وقال -عليه السلام-: "استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان" (¬7)، وقال يوم وفاته: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" (¬8)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) قريبًا من هذا اللفظ عند الحميدي (258) وقد ورد بألفاظ أخر عند النسائي في الكبرى (9164)، وأحمد (6/ 31، 281)، والطبراني في الأوسط (4266، 5428، 7651)، وفي الصغير (814)، وأبو يعلى (814)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 366) (8/ 127)، والبيهقي في السنن (7/ 45) والحديث صحيح، وأصله في الصحيحين في الحديث القادم. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (خيرت) من "ب"، وفي البقية: (خير). (¬4) (اخترت) من "ب"، وفي البقية: (اختار). (¬5) البخاري (3367)، ومسلم (2327). (¬6) الطبراني في الكبير (168) وهو مرسل. (¬7) الترمذي (1163)، والنسائي في الكبرى (9169)، وابن ماجه (1851)، وابن أبي الدنيا في العيال (474) والحديث حسن. (¬8) ابن ماجه (1625)، وأحمد (3/ 117) (6/ 290، 311، 315، 321)، والنسائي في الكبرى (7094، 7095) وغيرها، وعبد بن حميد في مسنده (1214، 1542)، والطبراني في الكبير (23/ 306، 379)، وأبو يعلى (2933، 2990، 6936، 6979)، والبيهقي في الشعب (8552)، والحديث صحيح.

درجُ الدُر في تَفْسِيرِ الآي وَالسُّور تأليف عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى (471هـ) تحقيق وَليدْ بْن أحَمد بن صَالِح الُحسَيْن ... إيَاد عَبْد اللَطيفْ القَيْسي مِنْ سُوَرة يُونسْ إِلى سُوَرة الأَحْزَابْ المجلَّد الثَّالث

سورة يونس

سُورَةُ يُونسَ مكية كلها (¬1)، وعن ابن عباس إلا ثلاث آيات: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94] الآيات (¬2)، وقيل: الآية نزلت (¬3) في يهود المدينة وهي قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40] (¬4)، وهي ماية وتسع (¬5) آيات إلا عند أهل الشام (¬6). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر} أنا الله أرى (¬7)، وقيل: قسم أقسم بآياته ولطفه وربوبيته (¬8)، وقيل: إشارة إلى رأفة الله تعالى ورحمته وبره وبريته أو إشارة إلى القرآن والذكر. ¬

_ (¬1) انظر: "البيان في عدِّ آي القرآن" لأبي عمرو الداني (163)، وهو المروي عن ابن عباس عند النحاس في ناسخه (529)، وهو المروي عن عبد الله بن الزبير كما عند ابن مردويه. انظر: الدر المنثور (7/ 625). وذكر القرطبي في تفسيره ذلك عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. (¬2) ذكره عن ابن عباس القرطبي في تفسيره (8/ 278) وكذا ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 3). (¬3) من قوله: (وقيل: الآية) إلى هنا ليست في "أ". (¬4) نقله عن الكلبي القرطبي في تفسيره (8/ 278). (¬5) في جميع المخطوطات (سبع) وهو خطأ. (¬6) انظر: "البيان في عدَّ آي القرآن" (163)، و"روح المعاني" للألوسي (11/ 59)، وفي الشامي (110) آية. (¬7) هذا مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك، انظر: "الدر المنثور" (7/ 626). (¬8) هذا مروي عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة كما في زاد المسير (4/ 4).

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وقيل: خبر لمبتدأ مضمر (¬1) الحكم المشتمل على الحكم والدلالات في الخبر أن القرآن شافع مشفع وماحل مصدق. {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} استفهام تعجب وإنكار الشيء المستبعد جوازه على قضية العادة والطبيعة، والناس (¬2) قريش وأمثالهم، {أَنْ أَوْحَيْنَا} في محل الرفع على أنه اسم كان {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} هو خيرة (¬3) الله مِنْ خَلْقِهِ خاتم النبيين أبو القاسم محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب، {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} ترجمة للوحي بأن {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} منزلة رفيعة (¬4)، عن القتبي: ما قدموه من عمل صالح (¬5)، عن أبي سعيد الخدري: محمَّد شفيع صدق لهم يوم القيامة (¬6)، وعن زيد بن أسلم: أنه محمَّد -عليه السلام- (¬7) لقوله -عليه السلام-: "أنا فرطكم على الحوض" (¬8)، {قَالَ الْكَافِرُونَ} حكايته لقولهم الذي قالوه عند تعجبهم بالوحي النازل على محمَّد. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} قال ابن سابط (¬9): يدبر أمر الرسالة أربعة أملاك: ¬

_ (¬1) قاله النحاس في إعرابه (3/ 49) والتقدير: تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم، وعلى الإعراب الثاني يكون التقدير: هذه تلك آيات الكتاب الحكيم. هكذا قدره النحاس. (¬2) من قوله: (إنكار الشيء) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) الأظهر أن الخبر هو"عجبًا" و"للناس" متعلق بمحذوف على أنه حال من "عجبًا" لأنه في الأصل صفة له، و"إلى رجل" جار ومجرور متعلقان بـ "أوحينا"، ويكون التقدير: أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم عجبًا لهم، و"منهم" تكون صفة لـ"رجل". [المغني (ص 570)، المحرر (9/ 5)، الدر المصون (6/ 144)]. (¬4) قاله الزجاج في معاني القرآن (3/ 6). (¬5) رواه الطبري عن ابن عباس، وكذا روي عن مجاهد [الطبري (12/ 108)] وهو الذي رجحه الطبري. (¬6) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 629) لابن مردويه. (¬7) ابن جرير (12/ 111) وأخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره كما في التغليق (4/ 222). (¬8) البخاري (6205)، ومسلم (2289). (¬9) لم نجد من ترجم لابن سابط هذا ولا أدري هل هو شيخ المؤلف أم هو متقدم عليه مع أن هذا أول ذكر له منذ بداية التفسير، فالله أعلم.

جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل -عليهم السلام-، فأما جبريل فعلى الرياح والجنود، وأما ميكائيل فعلى المطر والنبات، وأما ملك الموت فعلى الأنفس، وأما إسرافيل فينزل عليهم بما يؤمرون (¬1)، وهذا على المجاز (¬2)، وهو في تفسير قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]، فأما حقيقة التدبير فهي لله (¬3) تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يكفي كل شيء ولا يكفيه شيء، ويغني عن كل شيء ولايغني منه شيء. {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي: وعدًا حقًا، {بِالْقِسْطِ} أي: بأعمالهم التي أقسطوا فيها، وقيل: إن الله يجزيهم بالقسط ولا يبخسهم شيئًا، {حَمِيمٍ} ماء ساخن، ومنه الحمام والمستحم، وحميم جهنم يشوي الوجوه بئس الشراب. {ضِيَاءً} مصدر كالبناء، والضياء أغلب من النور؛ لأنه يتعدى إلى غير ذاته أبدًا، والنور قد يتعدى وقد لا يتعدى. روي أن كعبًا لقي عبد الله بن عمرو بن العاص والناس حوله يستفتونه قال: هلك أخي عبد الله عند هذا يكون الفتن (¬4)، اذهب إليه، فقل له: لا تكذبنَّ على الله، فإن غضب فدعه وإن لم يغضب فاسأله, فأتاه فقال: إن كعبًا يقول لك: لا تكذبن علي الله، قال: نصح لي أخي، من كذب على الله سوّد الله وجهه يوم القيامة، قال: إنه يسألك عن الشمس والقمر أهما في السماوات السبع أم في السماء الدنيا أم في الهوي دون الفلك؟ قال: بل هما في السماوات السبع ووجههما إلى العرش وأقفيتهما إلى الأرض، قال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 16]، وقيل: الشمس في السماء الرابعة والقمر في السماء الدنيا، وقيل: الشمس في ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/ 17) في تفسيره قوله تعالى في سورة النازعات: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]. (¬2) يقصد أن هذا ليس حقيقيًا، بل مرد الأفعال إلى الله، وهذا تكلف لا معنى له فلكل فعل ولا ينفذ فعل المخلوق إلا بعد مشيئة الخالق: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فللعبد مشيئة وفعل ولكنها موقوفة بإذن الله -عزوجل-. (¬3) في الأصل: (النذير فهو الله). (¬4) المثبت من الأصل وفي البقية (الغبن).

الفلك الرابع، والقمر في الفلك الأدنى. والأفلاك غير السماوات، وقيل: السماء والهواء واحد، {إِلَّا بِالْحَقِّ} إلا بأمره الحق بقضية حكمه من غير لهو ولا عبث. {لَآيَاتٍ} دلائل وحدانية الله تعالى ودلائل انقضاء الدنيا والمال. {لَا يَرْجُونَ} أبو عبيدة: لا يخافون (¬1)، {لِقَاءَنَا} الحساب والعرض، وقيل: لقاء الله، هم الذين أيسوا عن لقائه لجهلهم به، {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الذين آثروا شهواتها على السعي للآخرة، وقنعوا بالحياة الدنيا لأنها مبلغهم من العلم فليست لهم همة الآخرة. روي أن النبي -عليه السلام- (¬2) بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان هو صالَحَ أهل البحرين وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال [من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه فوافقت صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صلَّى]، (¬3) صلاة الفجر وانصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم وقال: "أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، فقال: "أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتلهيكم كما ألهتهم" (¬4)، وروي: "فتهلككم كما أهلكتهم" (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ذكره ابن الجوزي في تفسيره ومنه قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13] وقول أبي ذؤيب الهذلي: إذا لسَعَتْه النَّحْل لم يَرْجُ لِسْعَهَا ... وخالفها في بيتِ نُوبٍ عَوَامِلِ [زاد المسير (2/ 318)، الطبري (12/ 121)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ما بين [...] من "أ" "ب". (¬4) البخاري (6061). (¬5) هذه الرواية عند البخاري (3791)، ومسلم (5961). (¬6) قوله: (وروي فتهلككم كما أهلكتهم) ليس في "أ".

{وَاطْمَأَنُّوا} أخلدوا إليها لجهلهم بالآخرة ولكراهة ما قدمت أيديهم، هم الذين يحجبهم المحسوس عن المعقول. {يَهْدِيهِمْ} إلى الفلاح، {بِإِيمَانِهِمْ} بنور إيمانهم وبسبب (¬1) إيمانهم، {في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} في العقبى. {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أول (¬2) دعواهم دليل على تعجبهم بكل ما يشاهدونه لحسنه وبهجته، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} دليل على إعجابهم بما يشاهدونه لما يعود إليهم من نفع أو لذة، {تَحِيَّتُهُمْ} دليل على أمنهم وطهارة صدورهم من الغل واستراحتهم من الذلة. {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله} نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وأمثاله حيث قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء (¬3)، وقيل: في شأن من يدعو على نفسه وولده ودابته وعبده في غضبه (¬4)، وقيل: في شأن المستعجل بشر يتوهمه خيرًا، {اسْتِعْجَالَهُمْ} كأستعجالهم، {فَنَذَرُ} عطف مستقبل على ما مرّ في جواب (لو) كما سبق (¬5). {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ} نزل في هشام بن المغيرة (¬6)، وقيل: عامة فيمن لزم هوى النفس والطبيعة واستهان بالعقل والشريعة، وفيها تنبيه على ¬

_ (¬1) في "ب": (لسبب). (¬2) (دعواهم فيها أول) ليست في "ب". (¬3) ذكره القرطبي (8/ 285) وابن الجوزي، في تفسيره (2/ 319). (¬4) ورد هذا عن مجاهد عند ابن جرير (12/ 130)، وابن أبي حاتم (6/ 1932). (¬5) أي أنها معطوفة على جواب "لو" وهو قوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] وقيل: إنها معطوفة على جملة مقدرة والتقدير: ولكن نمهلهم فنذر، قاله أبو البقاء العكبري، وقيل: إنها جملة مستأنفة والتقدير: فنحن نَذَرُ الذين - قاله الحوفي. [الإملاء (2/ 25)، الدر المصون (6/ 159)]. (¬6) عزاه لابن عباس ومقاتل ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 12).

قبح هذه الخصلة، {لِجَنْبِهِ} أي: مضطجعًا على جنبه وهو حال مسّ الضر أو الدعاء (¬1)، {مَرَّ} ذهب عن باب الدعاء معرضًا إلى شهواته، وقال الفراء: معناه استمر على طريقته (¬2)، {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] لننظر إلى المشاهدة من كيفية أعمالكم التي قدرناها من سابق علمنا وعلمناها (¬3) من سابق مشيئتنا. وفائدة النظر إيجاب الجزاء، وعن عرباض بن سارية الأسلمي، قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل من أصحابه: إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا يا رسول الله؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله وبالسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا"، أي: الذي عليكم "فإنه من يعش منكم ير اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، ومن أدركته منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" (¬4). {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} الكلبي وهم خمسة نفر الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب والحارث بن عيطلة، فقتل الله كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه (¬5) وفيهم قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95]، {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} له معنيان: أحدهما محاولتهم سبيلًا على رسول الله (¬6) بإتيانه بما يقترحونه، والثاني: طمعهم أن لا يكون في الثاني (¬7) سب آلهتهم والنهي عن عبادتهم وأن يكون محللًا لما يحبونه ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (مس الضراء والد عامر) وهو خطأ. (¬2) ذكره الفراء في معاني القرآن (1/ 459) بلفظ: استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء. (¬3) (وعلمناها) من "ب" "ي". (¬4) أبو داود (4607)، الترمذي (2676)، ابن ماجه (42، 43)، وأحمد (4/ 126)، والدارمي (95)، وابن حبان (5)، وغيرهم والحديث صحيح. (¬5) هؤلاء الخمسة ذكرهم المفسرون عند قوله تعالى في سورة الحجر آية (95): {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95] منهم ابن جرير الطبري في تفسيره عن عروة بن الزبير (14/ 146). (¬6) في "ب" رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬7) في "ب": (في الها) وهو خطأ.

محرمًا لما يكرهونه على قضية شهواتهم (¬1)، وقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} الآية منسوخة (¬2) بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. وفي قوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ (¬3) مَا تَلَوْتُهُ} دلالة أن القرآن لم يكن مقدورًا لرسول الله (¬4) وأنه لم يمكنه أن يأتي بمثله عمدًا من قبله لأنه قد بلغ أشده وآنس منه الرشد ولم يكن يتعاطى من القرآن شيئًا حتى اكتهل ثم انتصب قارئًا من غير كتابة ولا تعلم. {فَمَنْ أَظْلَمُ} اتصالها بما قبلها من حيث مطالبتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتري على الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم ذوات معبوديهم. {أَتُنَبِّئُونَ} أتخبرون الله بلا شيء، وقيل: أتنبهون الله على شيء جهله ولم يعلمه وبما لا يعلمه الله، {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} صفات معبوديهم. {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} هي كلمة التمهيل والتأجيل إلى حين؛ إنما الغيب على ما كتمه الله عن خلقه من الآيات الملجئة متى يكون وأنى يكون. {وَإِذَا} ظرف والعامل فيه {إِذَا} الثانية (¬5) مع صلتها، {لَهُمْ مَكْرٌ} (¬6) ¬

_ (¬1) أي: أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة وآية الرحمة بالعذاب كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أو أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور, لأنهم لا يؤمنون به، وكرهوا عيب آلهتهم، فطلبوا ما يخلو من ذلك كلما قاله الزجاج. [زاد المسير (2/ 320)، معاني القرآن للزجاج (3/ 11)]. (¬2) قال السيوطي في الإكليل (ص 147): استدل بهذه الآية من منع نسخ القرآن بالسنة. (¬3) قوله: (لو شاء الله) ليس في "ب". (¬4) في "أ": الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) "إذا" الأولى هي قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ} [يونس: 21] و"إذا" الثانية في نفس الآية قوله: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} فالأولى: شرطية، والثانية: جوابها وهي "إذا" الفجائية، والعامل في "إذا" الفجائية الاستقرار المقدر في "لهم"، لكن ذهب أبو البقاء العكبري إلى أن "إذا" الثانية زمانية. [الإملاء (2612)]. (¬6) في "أ": (مكروا).

إضافة الشرط المتقدم والخير القادم إلى آلهتهم وإلى النجوم والأيام، و {اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} بالطبع على قلوبهم وباستدراجهم وبإهلاك الأولين وإتباع الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين. {حَتَّى} غاية للتسيير المتقدم، {فِي الْفُلْكِ} جماعة بدلالة (¬1) قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ}، {جَاءَتْهَا} عائد إلى {الْفُلْكِ} وقيل: إلى الريح الطيبة اختصاص العصوف بالريح يغني عن علامة التأنيث. قال الفراء (¬2): نقول ريح عاصف وعاصفة (¬3) على لغتين، وأعصفت أيضًا الموج فورة الشيء الكثير بكل مكان من أمكنة الموج. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: ظنوا أنهم هالكون، يقال: فلان محاط به، أي: هالك سدت عليه سبيل النجاة، {دَعَوُا اللَّهَ} أي: فدعوا الله {مِنْ هَذِهِ} أي: الريح العاصفة أو المحنة أو النكبة أو الحالة. {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنما وقع تمثيل الحياة الدنيا بالنبات الحصيد بعد الاكتهال لسرعة زوالها عند الكمال، والمراد من التمثيل التزهيد والتنبيه، {قَادِرُونَ عَلَيْهَا} على الانتفاع بها، {أَتَاهَا أَمْرُنَا} قضاؤنا وحكمنا بهلاكها ويبسها وجدبها، {حَصِيدًا} مستأصلًا. {دَارِ السَّلَامِ} دار السلامة من الآفات، فالسلام والسلامة بمعنى كاللذاذ واللذاذة، وقيل: السلام اسم الله تعالى. عن مالك بنيزيد الأشجعي قال: الإسلام ثلثمائة وخمسة عشر سهمًا، فإذا كان يوم القيامة أقبل في صورة حسنة يجر ثوبه حتى ينتهي ¬

_ (¬1) في "أ": (بدليل). (¬2) ذكره الفراء في معاني القرآن (1/ 460) وبالألف - أعصف هي لغة بني أسد ومنه قول الشاعر: حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة ... فيها قطار ورعد صوته زَجِلُ (¬3) في "أ": (ريح عاصف)، وفي الأصل: (ريح عاصفة وعاصفة).

إلى الله تعالى فيقول: يا رب، أنت السلام وأنا الإسلام، منك بدأت وإليك أعود، اللهم من جاء متمسكًا بسهم من سهامي فأدخله الجنة (¬1). {الْحُسْنَى} الجنة (¬2)، و (الزيادة) النظر إلى الله تعالى، تواترت الأخبار (¬3)، {وَلَا يَرْهَقُ} ولا يلحق ولا يصيب ومنه المراهق {قَتَرٌ} غبار العرصات ودخان الدركات، {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ} لهم جزاء سيئة. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أي: واذكروا يوم نحشرهم، {مَكَانَكُمْ} أي: قفوا والزموا مكانكم، وذلك قوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 24] قريبًا ¬

_ (¬1) هذا الأثر معروف عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره مختصرًا وبغير اللفظ الذي ذكره المؤلف ولفظه: قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، وما ابتلى الله بهذا الدين أحدًا فأقامه إلا إبراهيم، قال الله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] فكتب الله له براءة من النار. [تفسير الطبري (2/ 499)، تاريخ الطبري (1/ 280)] ". (¬2) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن "الحسنى" هي قولهم: لا إله إلا الله، وقال ابنِ الأنباري: الحسنى كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها, لأن العرب توقعها على الخَلَّة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرف من جهتها، ويدل على ذلك قول امرئ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأَسْمَحَتْ ... هَصَرْت بغصنٍ ذي شماريخ مَيَّالِ فَصِرْنَا إلى الحسنى وَرقَّ كلامُنَا ... وَرُضْت فَذَلَّت صَعبةً أيِّ إذلالِ وقول ابن الأنباري لا شك أنه أوسع وأشمل من قصر المؤلف له على الجنة، وربما نقول في الحسنى أنه كل عمل حسن مؤد إلى الجنة، وهناك خمسة أقوال في معنى "الحسنى" ذكرها المفسرون وفصل ابن الجوزي في تفسيره هذه الأقوال وأشملها ما ذكرنا، والله أعلم. [زاد المسير (2/ 326)]. (¬3) هذا من إنصاف المؤلف وهذا معتقد أهل السنة أن تفسير (الزيادة) بالنظر إلى الله -عزوجل- يوم القيامة، وهو ما رواه مسلم في صحيحه (181)، والترمذي (3105)، والنسائي (254) وغيرهم من حديث صهيب مرفوعًا، قال -عليه السلام-: "الزيادة النظر إلى وجه الله -عزوجل-" وبهذا القول قال أبو بكر الصديق وأبو موسى الأشعري وحذيفة وابن عباس - رضي الله عنهما - وغيرهم، وهناك سنة أقوال في معنى الزيادة.

{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} بعد وقفهم مسؤولين، قال الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 25] لو تميز المؤمنون من الكافرين. {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} قول الأصنام المصورة، وقيل: قول الملائكة [وعزير وعيسى -عليهم السلام- كما قال عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] الآية قول الملائكة]، (¬1) {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا} [سبأ: 41] ويحتمل أن الأرواح الخبيثة من طواغيت الإنس والجن تبرأ من عابديها وتستشهد الله كاذبة كما يحلفون به كاذبين. {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} أعيدوا إلى جزائه. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} اتصالها بما قبلها من حيث سبق ذكر الإشراك، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} سخط الله بطاعته أو تتقون الإشراك بالله بتوحيده (¬2). {فَذَلِكُمُ} إشارة إلى الله الرازق من السماء والأرض المالك للسمع والبصر المدبر للأمر، {رَبُّكُمُ} سيدكم وخالقكم، {الْحَقُّ} الشيء الواجب كونه ووجوده الباطل نفيه وجحوده، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} إنكار عليهم على قضية انقسام الكلام فإنه حق وباطل، فإذا استحق الحق نفى للغير الباطل، واتباع الباطل: الضلال. {كَذَلِكَ} أي: كما أنه ليسى بعد الحق إلا الضلال أو كما يصرفون أو كما فسقوا وكما نخبرك {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ترجمة الكلمة. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} للإعادة معنيان: الإماتة كقوله (¬3)، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] والنشأة للمعاد. {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} يعني أوهامهم التي توهموها، وفي الآية رد على القائلين بحدوث صفات الذات والفعل وبالجهة والهيئة فإنها أوهام كلها. ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليس في الأصل. (¬2) في الأصل و"أ": (بتوحيد). (¬3) في الأصل: (كقولك) وهو خطأ.

{أَنْ يُفْتَرَى} في محل نصب خبر {كَانَ} (¬1)، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ} كقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40]، {بَيْنَ يَدَيْهِ} الكتب المتقدمة (¬2)، {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أحكامه، (الكتاب): هو التوراة والإنجيل واللوح المحفوظ أو ما كتب الله علينا. {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إخبار عن خاتمتهم ومآلهم دون أحوالهم. {فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} والمراد منها التهديد، وقيل: المتاركة، وهي منسوخة بآية السيف (¬3). {مَنْ يَسْتَمِعُونَ} إن كان الاستماع للانتفاع فالصم قوم آخرون وإن كان الاستماع للاستهزاء فالصم هم المستمعون، والمراد به صميم القلب لأنه قال: {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} واذكر (¬4) يوم نحشرهم. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك مرجعهم فحشرهم للحساب والعذاب فدمر عليهم يوم بدر ومحقهم في سائر المشاهد واستأصلهم يوم فتح مكة، {ثُمَّ اللَّهُ} لترادف الأخبار دون المعاني المخبر عنها. ¬

_ (¬1) يمكن أن يكون التقدير: وما كان هذا القرآن افتراء، وقيل: أنَّ "أَنْ" هذه هي المضمرة بعد لام الجحود، والتقدير: وما كان هذا القرآن ليفترى - أي: لأن يفترى. فلما حذفت لام الجحود ظهرت "أن" وعلى هذا يكون خبر "كان" محذوفًا و"أن" و"ما" دخلت عليه متعلقة بذلك الخبر. [الدر المصون (6/ 201)]. (¬2) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره ابن الجوزي في تفسيره، وقيل: {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من البعث والنشور ذكره الزجاج، وقيل: هو الذي بين يدي القرآن لمشاهدتهم النبي وعرفوه قبل سماعهم القرآن. ذكره ابن الأنباري. [زاد المسير (2/ 331)]. (¬3) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره ابن الجوزي في تفسيره وقال -أي: ابن الجوزي-: وليس هذا بصحيح لأنه لا تنافي بين الآيتين. (¬4) في الأصل: (واذكروا).

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} الآية في مثل قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقيل: قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود: 117] وفيها دلالة أن الجماعة وإن عظمت لم ينطبق عليها اسم الأمة حقيقة ما لم يقروا برسول الله، فإذا جاء رسولهم بينت (¬1) أحكامهم وشرائعهم وميز بين الخبيث والطيب والهالك والناجي، وقيل: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة شهيدًا عليهم (¬2) وحوسبوا على أعمالهم ووفوا ثوابها وعقابها، {بِالْقِسْطِ} ذكر للتنبيه على قيام الحجة ووجوب الجزاء. {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} سؤال على وجه الاستعجال بالبوار. {الْوَعْدُ} الوعيد. {قُلْ لَا أَمْلِكُ} لا أقدر على خير نفسي ونفعها فكيف أقدر على تعجيل الوعد الموعود، ثم بين وجه تأخر العذاب بوجوب الهلاك معلق بإتيان الرسل، وإتيانه معلق بتتمة الأجل. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ} وزانها قولك لغريم: أرأيت (¬3) أن أزنك هذه الدنانير إيش تطالبه، أي: ليس لك عندي سوى هذه الدنانير شيء، فكذلك ليس للكفار عند الله إلا البوار وإدخال النار {ثُمَّ} معناه نقول أو قيل أو يقال للمجرمين إذا آمنوا عند معاينة البأس. {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ}، {ثُمَّ قِيلَ} بعد ذلك {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} على وجه الاستهزاء، {أَحَقٌّ هُوَ} أكائن هذا الوعيد، {إى} نعم (¬4)، {وَرَبِّي} قسم وجوابه، {إِنَّهُ لَحَقٌّ} وقيل: القسم متصل بقوله: {إِى} ويكون قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} كلامًا مبتدأ. ¬

_ (¬1) في "أ": (ثبتت). (¬2) (عليهم) من "ب" "ي". (¬3) في "أ ": (أرأيتك). (¬4) هي حرف جواب بمعنى نعم ولكنها تختص بالقسم؛ قاله الزمخشري، وقال أيضًا: سمعتهم يقولون في التصديق -إيْوَ-. [الكشاف (2/ 241)].

{وَلَوْ أَنَّ} جوابه مضمر (¬1)، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} عند أول لحظة ثم الحسرة من بعد كما يحلفون ويجحدون ثم يعتزمون ويتلاعنون (¬2). اتصال {أَلَا إِنَّ اللَّهَ} بما قبلها، {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ} فأخبر أنه لله عزوجل فكذلك ما في السماوات. {وَشِفَاءٌ} برء وزوال علة. {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} الإسلام والقرآن هو آي الكتاب، {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من المال. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} فيه ضمير تقديره: أرأيتم هذا الرزق الذي جعلتم منه حرامًا وحلالًا أنتم مأذونون فيه إن جعلتم (¬3) ذلك بإذن الله فتقول: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} يوم القيامة نصب بالظن، أي: ما يظنون بالله يومئذٍ بأن يفعل بهم، وإنما ذكر الفضل من حيث ذكر الرزق أو من حيث تقديم الدعوة والإنذار أو من حيث الإرجاء والإمهال. {لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} دليل على أن النعمة الدنياوية عمت البرَّ والفاجر، وأن الشكر (¬4) واجب عليهم في النفع والدفع جميعًا في شأن أمر وبال. {مِنهُ} أي: من الله، وقيل: من القرآن، وقيل: إلى العمل. {يَعْزُبُ} يبعد (¬5). {الَّذِينَ آمَنُوا} اعترفوا بقضية المعرفة، {يَتَّقُونَ} بقضيف الاعتراف. ¬

_ (¬1) لم أجد من قال أن جواب "لو" مضمر بل جواب "لو" هو جملة "لافتدت به" وعليه عامة المفسرين. (¬2) في "ب": (ويتلا عبون). (¬3) في الأصل: (أو جعلتم). (¬4) في "أ": (الشر) وهو خطأ. (¬5) أصله من عزوب الرجل عن أهله إذا غاب عنهم، وقال الراغب: العازب: المتباعد في طلب الكلأ، والعازب أيضًا: البعيد الذهاب في المرعى، ومنه حديث أم معبد: "والشاءُ عازبٌ حيال" ذكره الهروي وابن الأثير. [المفردات للراغب (333)، النهاية في غريب الحديث (2273)].

{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} "هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له" رواها (¬1) أبو الدرداء وعبادة بن الصامت عنه -عليه السلام- (¬2). وعن أبي قتادة الأنصاري: سمعت رسول الله (¬3) يقول: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فهذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصُق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره" (¬4)، وفي الصحاح عن ابن سيرين (¬5) عن أبي هريرة: "إذا اقترب الزمان لم تكذب رؤيا الرجل المسلم وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا الرجل المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاث: الرؤيا الصالحة من الله تعالى ورؤيا من تخزين الشيطان ورؤيا من شيء يحدث الإنسان به نفسه فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدث وليقم فليصلِّ" (¬6). {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} ادعاؤهم العزة لأنفسهم، ثم ردّ عليهم {هُوَ السَّمِيعُ} لادعائهم العزة لأنفسهم، {الْعَلِيمُ} بضمائرهم. {وَمَا يَتَّبِعُ} يحتمل وجوهًا أربعة: العطف وتقديره: وما يتبعه الذين، والجحد، أي: وما يتبعك أو وما يتبع الحق، والاستفهام على وجه الإنكار، أي: أيّ شيء يتبع، والمصدر، أي: اتباع الذين {إِنْ يَتَّبِعُونَ} إن هؤلاء يريدون اتباع {الظَّنَّ} في ذلك إشارة إلى البيان والقرآن أو إلى الجعل. ¬

_ (¬1) في الأصل: (يرى). (¬2) مسلم (479) عن ابن عباس. أما عن أبي الدرداء فرواه الترمذي (2273، 3106)، وأحمد (6/ 445، 446، 447، 452)، والطيالسي (976)، والحاكم (976). وأما عن عبادة بن الصامت فرواه الترمذي (2275)، وابن ماجه (898)، وأحمد (5/ 315، 321، 325)، والدارمي (2136)، والطيالسي (583)، والحاكم (3302، 8179). (¬3) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (3118)، ومسلم (2261) وغيرهما. (¬5) في "أ": (سيره). (¬6) البخاري (6614)، ومسلم (2263) وغيرهما.

{مَتَاعٌ} أي: لهم متاع أو متاعهم متاع (¬1). {إِذْ} في محل النصب بالذكر تقديره: واذكر لهم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} اجعلوا الآراء المختلفة جامعًا، {غُمَّةً} سترة، أي: لا يكونن عليكم أمركم مستترًا ملتبسًا، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أتموا أمركم، وكل هذا تحدِّ من نوح -عليه السلام- (¬2) توكلًا على الله وإظهارًا لآياته. {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} جواب التولي المشروط لمعنى خفي فكأنه يقول: فإن تولَّيتم فلم تقولوا عليّ أجرًا ولم تنقصوني شيئًا ولم يعظم علىَّ توليتكم. {إِلَى قَوْمِهِمْ} المراد بهم الهالكون دون المفلحين (¬3) وإنما خصهم لتمحض الوعيد، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي: لم يكن الملتزمون بطريقة الماضين بمؤمنين بالذي كذبت به أئمتهم من قبل، وقيل: فما كانوا ليؤمنوا به في المستقبل من اْعمارهم بسبب تكذيبهم أول مرة فإنه ران على قلوبهم. {أَتَقُولُونَ} أن هذا سحر مبين، {لِلْحَقِّ} إذ جاءكم، وقوله: {أَسِحْرٌ} من كلام موسى -عليه السلام- على وجه الإنكار. {لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا، {الْكِبْرِيَاءُ} العظمة والملك. {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ} أربعون أهل بيت من القبط ولدهم نساء بني إسرائيل كانوا يسمون الذرية (¬4) {لَعَالٍ} خبر عما مضى. {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} إنما أمرهم لئلا يخافوا دون الله فيفسد إيمانهم. ¬

_ (¬1) أي: يجوز في "متاع" أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف وقدره المؤلف -متاعهم متاع- والوجه الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف وقد قدره المؤلف: لهم متاع. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "أ": (المخلفين). (¬4) روى الطبري في تفسيره (12/ 245) عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول: الذرية: القليل.

{لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} كون المسلم فتنة للكافرين (¬1) أن تسوء عاقبته العاجلة ويشمت الكافر به ويقيس عليه عاقبته الآجلة، وأن يرتد المسلم فيزيد الكافر إصرارًا. {تَبَوَّءَا} تتخذ المنازل وأصله البواء وهو اللزوم (¬2). {بُيُوتًا} مساجد، الكلبي وغيره (¬3): كانت مساجد بني إسرائيل ظاهرة فأمر فرعون بهدمها عند منابذة (¬4) موسى -عليه السلام- إياه، فأمر الله اتخاذ المساجد في بيوتهم وأن يجعلوها مستقبلة للكعبة قبلة إبراهيم وإسماعيل (¬5)، {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} مستقبلة القبلة (¬6)، وقيل: اجعلوها قبلة لكم يصلون إليها، وقيل: اجعلوا بعضها مقابل بعض (¬7)، وقيل: المراد به المصلى. وقيل: المسجد وإنما لم يؤمروا بالزكاة لأن أكثرهم كانوا مماليك لآل فرعون أو كانوا فقراء. {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} لما دعا انقلبت أعيان أموالهم حتى صار ¬

_ (¬1) في "ب" (للكافر). (¬2) يقال: تَبَوَّأَ فلانٌ منزلًا: إذا نزله، وَبَوَّأتُهُ: أنزلته، واستشهد الزجاج بقول الشاعر، وينسب لإبراهيم بن هرمة: وَبُوِّئتْ في صَمِيْمِ مَعْشرِهَا ... فَتَمَّ في قوْمِهَا مُبَوَّؤُهَا [مجاز القرآن (1/ 218)، اللسان (بوأ)]. (¬3) روي ذلك أيضًا عن مجاهد والضحاك أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 87). (¬4) في الأصل و"أ": (مثابرة). (¬5) هذا ورد عن ابن عباس كما عند ابن جرير (12/ 251)، وابن أبي حاتم (6/ 1976). وأما اتخاذ الكعبة قبلة فهو مروي عن أبي سنان كما عند أبي الشيخ، انظر: "الدر المنثور" (7/ 695) (¬6) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وقتادة والضحاك. أخرجه الطبري في تفسيره (¬7) روي ذلك عن سعيد بن جبير أخرجه الطبري في تفسيره وذكر ابن الجوزي في تفسيره أنه مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. [الطبري (12/ 260)، زاد المسير (2/ 345)].

سُكَّرهم حجارة (¬1)، {فَلَا يُؤْمِنُوا} عطف على {لِيُضِلُّوا} وقيل: نصب على جواب الأمر بالفاء، وقيل: جزم على الدعاء (¬2). {أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} كان موسى يدعو وهارون (¬3) يؤمِّن (¬4). {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ابن عباس، عنه -عليه السلام- (¬5) أنه ذكر أن جبريل -عليه السلام- (5) يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يرحمه (¬6)، كان جبريل يعاجل فرعون ليتم فيه دعوة موسى -عليه السلام- (¬7)، فمن كان يعاجل رحمة الله كفر لأنه يتقرب إلى الله بإظهار موالاة نبيه ومعاداة عدوه. {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} إن جبريل -عليه السلام- فرح حين سمع وتيقن أن فعله وقع مرضيًا لله. ¬

_ (¬1) روي ذلك عن قتادة والربيع بن أنس والقُرظي وأبي صالح والضحاك وابن زيد. أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 266،265)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1979). (¬2) أي أن النصب من وجهين أحدهما: ما ذكره المؤلف أنه معطوف على {لِيُضِلُّوا} [يُونس: 88] والثاني: أنه منصوب على جواب الدعاء في قوله: {اطْمِسْ} [يُونس: 88] والجزم على أنَّ "لا" للدعاء. والنصب في الوجه الأول هو قول الأخفش، والثاني من أوجه النصب هو قول الزمخشري، والجزم قول الكسائي والفراء، وأنشدا قول الأعشى: فلا يَنْبَسِطْ من بين عينك ما انْزَوَى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغِمُ [معاني القرآن للأخفش (2/ 348)، الكشاف (2/ 250)، ديوان الأعشى (ص 79)، المحرر الوجيز (9/ 85)، الدر المصون (6/ 260)]. (¬3) في الأصل: (ندعوا هارون). (¬4) هذا مروي عن ابن عباس عند أبي الشيخ كما في الدر المنثور (7/ 697). وهو مروي عن عكرمة كما في تفسير عبد الرزاق (1/ 297) وابن جرير (12/ 270 - 272). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) الترمذي (3107)، وأحمد (5/ 30)، وابن جرير (12/ 277)، وابن أبي حاتم (6/ 1982)، والطبراني في الكبير (12932)، والطيالسى (2740)، وابن حبان (6215) وغيرهم والحديث صحيح. (¬7) (-عليه السلام-) من"أ"، وفي "ى": (عليه)

{بِبَدَنِكَ} بجسدك، فقيل: الآية استفهام على سبيل الإنكار تقديرها {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} فتكون قدوة وحجة، لمن خلقك {لِمَنْ خَلْفَكَ} وقيل: إنها على سبيل الخبر ومعناها: اليوم نلقي بدنك بعد إزهاق الروح على فجوة من الأرض لتكون عبرة ونكالًا لمن خلفك (¬1). {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} ما أورثهم من ديار آل فرعون، وقيل: المراد به التيه حيث ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وقيل: ديار العمالقة حيث افتتحها يوشع -عليه السلام- أو البيت المقدس حين ابتناه داود وسليمان -عليهما السلام-. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} خطاب للنبى -عليه السلام- والمراد به أمته كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقيل: هذا شرط لم يوجد والمراد به التأكيد، كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] (¬2) الآية، وقيل: لم يشك ولم يسأل كقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33]، وقيل: معناه: إن كنت في شك مما أنزلنا إليك هل هو موجب لك أمن العاقبة والختم على السعادة فأسأل الأنبياء إذا لقيتهم ليلة المعراج كقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] الآية، وإن كانت الآية مكية فتكون (مما) بمعنى ممن (¬3) أنزل وهو جبريل -عليه السلام- (¬4) في الصورة التي ظهر فيها لرسول الله في ابتداء الوحي حتى سألت خديجة له ورقة بن نوفل، وقيل: لما جرى على لسانه في سورة "النجم" أنه شيء ابتلي به وحده وخاف مثله في المستقبل فأخبر الله في سورة "الحج" أنه ما أرسل من قبله {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] الآية. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي عن يونس وأبي عبيدة، وقوله: نجوة من الأرض - أي: ارتفاع من الأرض-. [زاد المسير (2/ 348)]. (¬2) في"أ" كرره مرتين. (¬3) في الأصل: (من). (¬4) (السلام) ليست في"ي".

{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ} أنث لإضافة كل إلى مؤنث كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق:19] {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} الإيمان النافع الذي يكون عند إحساس العذاب قبل عين اليقين، كما كان من قوم يونس -عليه السلام- لما غلب على ظنهم أنه العذاب سينزل بهم ندموا وتضرعوا وأنابوا إلى الله ولم ينتظروا عين اليقين لم ينفعهم، انتصب {قَوْمَ يُونُسَ} لأنه مستثنى منقطع (¬1)؛ لأنهم لم يكونوا من عداد الأمم الهالكة، وعن ابن عباس: أن يونس بن متى كان يسكن فلسطين (¬2) هو وقومه فغزاهم ملك من الملوك يقال له: يغلث بالعساكر من أهل نينوى وهي التي تسمى نصيبين، فغز ابني إسرائيل فسبى منهم تسعة أسباط ونصفًا وبقي سبطان ونصف، وكانوا من وراء الأردن وهم من سبط يهودا ونصف سبط من سبط ميثا فسبوهم جميعًا غير هذين السبطين ونصف سبط فرجعوا بهم إلى أرضهم. وقد كان أوحى الله تعالى إلى بني إسرائيل إذا أمركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني فإذا دعوتموني أستجب لكم، فلما أسروا نسوا أن يدعوا الله زمانًا من الدهر حتى إذا ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم وأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء (¬3) بني إسرائيل يسمى شعيا فقال: ائت حزقيا وهو الملك يومئذٍ، فقل له: ابعث إلى بني إسرائيل نبيًا قويًا أمينًا - وكان في ملكه خمسة من الأنبياء - فقد ذهبت أيام عقوبتهم وتراءت أيام عافيتهم وإني ملقٍ في قلوب ملوكهم وأشرافهم أن يرسلوهم معهم، فجاء شعيا إلى حزقيا حتى أبلغه ¬

_ (¬1) من قال أنه نصب على أنه استثناء منقطع هو سيبويه والكسائي والأخفش والفراء، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب لانقطاعه، وإنما كان منقطعًا لأن ما بعد "إلا" لا يندرج تحت لفظ "قرية"، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء متصل فهو استثناء من القرى لأن المراد أهاليها. [الكتاب (1/ 366)، معاني القرآن للأخفش (1/ 479)، الكشاف (2/ 254)، الدر المصون (6/ 269)]. (¬2) (فلسطين) ليست في "أ". (¬3) (أنبياء) ليست في "ب".

ذلك، فقال له حزقيا: أنت الذي أمرت بذلك فأبعث، فقال له: إن الله تعالى أوحى أن آمرك بأن تبعث فابعث، فقال له حزقيا: فيمن تشير علي، قال: ابعث يونس بن متى فإنه قوي أمين. قال: فأرسل حزقيا الملك إلى يونس فأتاه، فقال له: إن شعيا النبي -عليه السلام- (¬1) أتاني فقال: إن الله أوحى إليّ أن ائت حزقيا فَمُرْه يبعث نبيًا إلى بني إسرائيل فإنه قد ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم وإني ملقٍ في قلوب ملوكهم وأشرافهم أن يرسلوهم معه فأنت نبي قوي أمين، فانطلق إلى بني إسرائيل [فقالوا له] آلله أمرك (¬2) بهذا؟ قال: لا، قال: فسماني لك، قال: لا، ولكن أمرت أن أبعث نبيًا قويًا أمينًا فأنت نبي قوي أمين، قال: إن في بني إسرائيل قويًا أمينًا غيري فابعث غيري، فقال حزقيا: بحق الملك إلا ذهبت، فلما عزم الملك على يونس انطلق فلم يجد بدًا ورجع يونس ليتزود وخرج مغاضبًا لحزقيا حتى أتى بحر الروم فوجد قومًا قد شحنوا سفينتهم فقال لهم: احملوني معكم، فعرفوه فحملوه، فلما كانوا في البحر اضطربت السفينة وكادت تغرق فقال ملاّحوها: يا هؤلاء إن فيكم رجلًا عاصيًا لأن السفينة لا تفعل هذا من غير الريح إلا وفيها رجل عاصٍ، فقال البحار: إنا قد جربنا مثل هذا وكنا نقترع بالسهام فمن خرج سهمه ألقيناه في البحر فإنه لأن يغرق واحد خير من أن يغرق جميع أهل السفينة، قال: فاقترعوا بسهامهم فخرج سهم يونس -عليه السلام- فقال البحار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله، ثم اقترعوا الثانية فخرج سهمه -عليه السلام- (¬3) فقال: يا هؤلاء أنا والله العاصي، فقال: فتلفف في كسائه ثم قام على رأس السفينة، قال: وإن السمكة التي أمرت به أن تجعله في جوفها لتساير السفينة من حيث ركب، فرمى يونس بنفسه فابتلعته السمكة فصار في بطنها وهو يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فذلك ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ما بين القوسين ليس في أي نسخة من نسخ المخطوط وأثبتناه ليستقيم السياق. (¬3) (السلام) ليست في "ي".

قوله: سبحانه وتعالى، {فَسَاهَمَ} يقول: فقارع أهل السفينة، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي: من المقروعين الذين ليست لهم حجة. ذهبت به السمكة إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم دخلت به البطايخ ثم دخلت به دجلة فصعدت به وكان يسد جنباه شاطئ دجلة، حتى رمته بنصيبين بالعراء على ظهر الأرض بعد أربعين ليلة مكث في بطنها وهو كهيئة الفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا لحم، فأنبت عليه شجرة من يقطين قال: وسأل رجل ابن عباس زعموا أن اليقطين هو القرع، قال: فقال ابن عباس - رضي الله عنه -:ما الذي جعل القرع أحق من البطيخ وغيره؟! كل شيء ينبت بسطًا فهو يقطين، فكان يستظل في ظل ذلك اليقطين ويأكل من ثمرها حتى تشدد (¬1)، فبينما هو كذلك إذ سلط الله عليه الأرضة فأكلتها فخرت من أصلها، فحزن يونس -عليه السلام- لذلك حزنًا شديدًا فقال: يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت مني (¬2)، فقيل له: يا يونس، أتحزن (¬3) على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على ماية ألفٍ أو يزيدون لم تذهب إليهم وقد نزلت أيام عافيتهم؟! وتوجه يونس -عليه السلام- نحوهم حتى دخل أرضهم، ومنهم غير بعيد، فأتى بني إسرائيل، فقال: إني بعثت إليكم، قالوا: إنك لمصدق عندنا ولكنا عبيد أسارى فائت أمراءنا فاذكر لهم ذلك فإن خلّونا خرجنا معك، فأتى يونس -عليه السلام- ملوكهم وأشرافهم وقال: إن الله أرسلني إليكم لتبعثوا معي بني إسرائيل، قالوا: ما نعرف ما نقول، ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولكنا أتيناكم في دياركم وقراركم فسبيناكم فلو كان كما تقول لمنعكم الله، فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه (¬4)، فأوحى (¬5) إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا من ليلتكم هذه صبحكم العذاب، فأبلغهم ذلك فأبوا ¬

_ (¬1) (حتى تشدد) ليست في "أ". (¬2) في "أ": (عني). (¬3) في الأصل: (الحزن). (¬4) في الأصل: (فأبوا عليه)، وفي "ب": (فأبوا). (¬5) في "ب": (فأوحى الله إليه).

فتزود زادًا وخرج من عندهم، فلما فقدوه ندموا على صنيعهم وقالوا: أي شيء صنعنا، ثم انطلقوا يطلبونه فلم يجدوه فأتوا علماءهم وذكروا لهم أمره وأمرهم، فقالت العلماء: انظروا في المدينة فإن كان بها فليس مما قال لكم شيء لأنه لم يكن يجلس فيها والعذاب ينزل بها، وإن كان قد خرج فهو كما قال والعذاب مصبحكم، قال: فطلبوه، فقيل لهم: قد رأيناه خرج بالعشي منطلقًا، فسأل بنى إسرائيل عنه، فقالوا: ما قال لنا شيئًا إلا كما قال لكم، فلما أمسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم، وعزلوا الوالدة عن ولدها والوالد عن ولده، وعزلوا النساء والصبيان، وكذلك الأولاد من الأمهات من البقر والغنم، قاموا ينتظرون الصبح، فلما انشق الصبح نظروا إلى العذاب ينزل من السماء وهو شيء أحمر فشقوا جيوبهم ووضع الحوامل وما في بطونها وصاحت الصبيان، وثغت الأغنام وخارت البقر وجعل العذاب ينزل عليهم حتى غشيهم ووجدوا حرَّه في أكتافهم ثم وقع عنهم. فبعثوا إلى يونس بن متى (¬1) -عليه السلام- (¬2) فأتاهم فآمنوا به وصدّقوه وبعثوا معه بني إسرائيل (¬3) فذلك قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} نقول: رفعنا عنهم العذاب تقديرًا لهم {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} يقول: وأجلناهم إلى الموت، عرف الله الصدق منهم فرفع العذاب عنهم ولم يقبله من غيرهم، وعن محمَّد بن المنكدر أنه بلغه أن الحوت لما التقم يونس -عليه السلام- أوحى الله إلى الحوت أن لا تخدش له لحمًا ولا تكسرله عظمًا. (جميعًا) نصب على التأكيد بعد التأكيد، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي: لست تكرههم (¬4) ليؤمنوا. ¬

_ (¬1) (بن متى) ليست في "أ". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ذكر هذه القصة مطولة ابن الجوزي في تفسيره (2/ 351). (¬4) في الأصل: (أكرههم).

{قُلِ انْظُرُوا} أي: تفكروا (¬1) (ما) للاستفهام، {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} استفهام على سبيل الإنكار، {فَانْتَظِرُوا} أمر تهديد، {كَذَلِكَ} أي: كما أخبرناك ينجي المؤمنين وعدنا وعدًا {حَقًّا عَلَيْنَا}. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} كانت قريش في شك في دينه -عليه السلام- يسمونه الصابي مرة وابن أبي كبيشة أخرى ويرجون أنه سيرجع إلى دينهم فأنزل: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} فاعلموا أنه ما أشرحه وأبيّنه وأذكره لكم {وَأَنْ أَقِمْ} وأمرت أن أقيم، فإن ترجمة للأمر {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} أي: يمسك بضر، الباء لتعدية الفعل، {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} يدل أن حقيقة الرحمة هي إرادة الخير دون النعمة {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أراد بالحكم آية السيف أو يوم الفتح. ¬

_ (¬1) (أي تفكروا) ليست في الأصل

سورة هود -عليه السلام-

سُوَرُة هُودٍ -عَليهِ السَّلام- مكية، وعن المعدل عن ابن عباس إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود:114] الآية (¬1)، وهي مائة واثنتان وعشرون آية عند أهل المدينة والشام (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: يا رسول الله قد شِبتَ! قال: قال رسول الله: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" (¬3). ¬

_ (¬1) كل المفسرين نقلوا مكيتها، أما استثناء هذه الآية فنقله القرطبي (9/ 5) عن ابن عباس وقتادة، وابن الجوزي في زاد المسير (4/ 73) عن ابن عباس فقط. وهذه الآية المستثناة أسباب نزولها في المدينة والله أعلم. (¬2) قال أبو عمرو الداني في "البيان في عدِّ آي القرآن" (165): (هي مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير والمكي والبصري، واثنتان في المدني الأول والشامي، وثلاث في الكوفي). (¬3) الطبراني في الكبير (10091)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (9)، والمروزي في "مسند أبي بكر" (30 - 32)، وابن سعد في الطبقات (1/ 436)، وابن عساكر (4/ 173،172) والحديث غير ثابت وعلله أكثر الأئمة، وانظر علل الدارقطني (1/ 193 - 211)، والنكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/ 774 - 776)، وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (955)

وعن أبي جُحيفة قال: قالوا: يا رسول الله نراك قد شبت! قال: "شيبتني هود أخواتها" (¬1). وأعلم أنّ المعنى المشيب لرسُول الله إما سر من أسرار الله تعالى في القرآن العظيم (¬2) لم يطلع عليه إلا نبيه، وإما أحد الأشياء الأربعة: أحدها: أنّ بعض السور اختصت بالاسترقاء، وبعضها بالثقل، وبعضها بالتعوذ، وبعضها بتلقين الموتى، وهذه السورة بالترهيب والنكت اللطيفة، كما بلغنا أنّ بعض أهل الإلحاد (¬3) تصور له أنه يحاكي القرآن بهذيان، فلما انتهى إلى قوله: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} انشقت مرارته. والثاني: أن هذه السور كلهنَّ مكيات فلعلهن (¬4) نزلنَ أيام النفير إلى الشعب (¬5) وأيام وفاة خديجة وأبي طالب، فقوله: "شيبتني هود وأخواتها" مِن كثرة ما لقي (¬6) من مكروه المشركين. والثالث: أن نزول الوحي عليه قد كان سهلًا، وقد (¬7) كان ثقيلًا، روي أن النبي -عليه السلام-: "كان إذا نزل عليه الوحي يترَبد (¬8) وجهه ويجد بردًا ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الكبير (22/ 123) (318)، وأبو يعلى (880)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 350)، وابن عساكر (4/ 173) وسنده ضعيف، وفي المخطوطات أبو حذيفة وهو خطأ. (¬2) (العظيم) من "أ" فقط. (¬3) نقل القاضي عياض في "الشفا" (208) شيئًا من ذلك عن ابن المقفع. وانظر أيضًا "روح المعاني" للألوسي (12/ 63). (¬4) في "ب": (فكأنهن). (¬5) (الشعب) ليست في "أ" "ي". (¬6) (ما لقي) ليست في "ب ". (¬7) في "أ": (كان سلا وكان). (¬8) أي تغير إلى الغبرة وهي لون قريب من السواد كما في لسان العرب مادة (ربد)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 455).

في ثناياه" (¬1)، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "رأيت الوحي ينزل على النبي -عليه السلام- (¬2) وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت (¬3)، وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه من ثقل الوحي وأنه لينحدر منه مثل الجمان" (¬4) فيحتمل أن جبريل -عليه السلام- أنزل عليه سورة هود وأخواتها على هذه الطريقة الشديدة فلذلك شيبته. والرابع: هو تكرار المعنى المزعج، ففي سورة هود تكرار لفظة بعد أي هلك، وفي سورة الواقعة تكرار أنتم أو نحن، وفي سورة "المرسلات" تكرار لفظة {وَيْلٌ}، وفي سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} تكرار لفظة "وكان" "وكانت"، وفي سورة "التكوير" تكرار لفظة "إذا" على سبيل الوعيد (¬5). قوله: {أُحْكِمَتْ} بمعنى الخصوص وهو إحكام التلاوة وتهذيبها مما يلقي الشيطان في الأمنية. {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ} عنده بلا وساطة أو التفصيل هو تفسير رسول الله مجملات الآي {أَلَّا تَعْبُدُوا} مضمرًا آتيناكه (¬6) لتقوم بالوعظ أن لا يعبدوا، وإنما قدم الاستغفار على التوبة لأن الإنسان يستفتح الشر ويعرض عنه مستغفرًا، ثم يستفتح الخير ويقبل عليه مستوفيًا، والمراد بالاستغفار (¬7) كسب سبب المغفرة وهو إصلاح العقيدة، وبالتوبة سبب الاستقامة بإصلاح العزيمة. {وَيُؤْتِ} الله تعالى {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} خصلة فاضلة فضيلتها من الثواب. ¬

_ (¬1) ذكره بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات (8/ 379) وله شواهد كثيرة دون ذكر البرد في الثنايا. (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" (صلى الله عليه وسلم) (¬3) في الأصل: (نزلت) وهو خطأ. (¬4) ابن سعد في الطبقات (1/ 197) وفيه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي أروى الدوسى. (¬5) هذه المعاني الأربعة التي ذكرها من مفردات هذا التفسير لم نجدها في كتاب غيره. (¬6) المثبت من "ب"، وفي البقية: (أتينا له). (¬7) في الأصل مكررة (الاستغفار).

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} عن (¬1) ابن عباس نزلت في الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي (¬2)، وقال أبو بكر محمَّد بن عزيز السجستاني (¬3) أن قومًا من المشركين كانوا قد قالوا فيما بينهم: أرأيتم لو أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمَّد -عليه السلام- (¬4) كيف يعلم بنا؟ فأنبأ الله -عَزَّوَجَلَّ- عمّا كتموه فقال: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} (¬5) الآية. سئل ابن عباس عن قوله -عَزَّوَجَلَّ-: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}: على أي شيء (¬6) كان الماء؟ قال: كان (¬7) على متن (¬8) الريح. {أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} مدة معلومة (¬9)، قال الله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. ¬

_ (¬1) (عن) من "ب ". (¬2) ذكر ذلك القرطبي (9/ 8)، وابن الجوزي في زاد المسير (4/ 76) عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وهو من رواية الكلبي المتهم بوضع الحديث، وذكره البغوي في تفسيره (2/ 373) بدون إسناد. (¬3) هو أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني العزيزي، له مؤلف "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن" في مجلد كما في هدية العارفين (1/ 464) توفي سنة 330هـ. وهو من تلامذة ابن الأنباري، وكان فاضلًا عاش في بغداد وألف كتابه هذا في أربعين سنة ولم يؤلف غيره. وكتابه مفقود وقد اختصره شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم المصري الشافعي وسماه "التبيان في تفسير غريب القرآن" وهو مطبوع في دار الصحابة بطنطا سنة 1992 بتحقيق الدكتور فتحي أنور الدابولي. (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" (صلى الله عليه وسلم). (¬5) انظر التبيان في تفسير غريب القرآن (ص 233)، ولعل ابن الأنباري استنبطه من الآية ولم يروه عن أحد، وأقرب الأقوال فى سبب النزول- والله أعلم- ما رواه البخاري في صحيحه (4681)، والطبري في تفسيره (12/ 321) كلاهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. (¬6) المثبت من "ب"، وفي البقية (أيش). (¬7) (كان) ليست في "ب" "ي". (¬8) عبد الرزاق في مصنفه (9089) وفي تفسيره (1/ 302)، وابن جرير (12/ 333)، وابن أبي حاتم (6/ 2005)، والحاكم (2/ 341)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (802). (¬9) أي أجل محدود هكذا روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقتادة ومجاهد وغيرهم. أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 337).

(اليؤوس) القنوط أي {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}. {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ليسدي الفعل إلى ما لا فعلَ له في الحقيقة غير معترف باللهِ الذي صرف عنه السيئات وأبدى له منها نعمة {لَفَرِحٌ فَخُورٌ} لأشر بطر في حال الرفاهية. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} إن كان المراد بالإنسان عبد الله بن أبي أمية المخزومي أو رجل معين مثله (¬1)، والاستثناء منقطع. وإن كان المراد به الجنس فالاستثناء متصل في محل النصب لأنه مستثنى من مثبت (¬2). {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} أي تكاد تترك إبلاغ {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} على سبيل الفور {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي وتكاد تضيق صدرًا بهذا البعض على سبيل الضعف وقلّة الاحتمال دون الكراهة وسوء الاختيار، وإنما قال: {وَضَائِقٌ} ولم يقل وضيّق للتوفيق بينه وبين قوله: {تَارِكٌ} ولنفي إيهام تحقيق الوصف في الحال أن يقولوا مخافة أو كراهة أن (¬3) يقولوا. {افْتَرَاهُ} الضمير عائد إلى القرآن والتحدي {بِعَشْرِ سُوَرٍ} وقيل: التحدي بسورة وبحديث لأن الآية مكية، ونزول سورة "هود" متقدم على نزول سورة "الطور" {مِثْلِهِ} بدل من عشر سور (¬4) {مُفْتَرَيَاتٍ} يجوز أن ¬

_ (¬1) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 80) لعبد الله بن أبي أمية، وقال: هو في تفسير الواحدي ولم أجده في الوجيز، وكذا ذكر سبب النزول الوليد بن المغيرة وعزاه لابن عباس. (¬2) قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [هُود:11]، فيه ثلاثة أوجه إعرابية: الوجه الأول: أنه منصوب على الاستثناء المتصل إذ المراد به جنس الإنسان لا واحد بعينه. الوجه الثاني: أنه استثناء منقطع إذ المراد بالإنسان شخص معين. والوجه الثالث: أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [هُود: 11]، وهو منقطع أيضًا. وقال الفراء: هذا الاستثناء من الإنسان لأنه في معنى الناس كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العَصر: 2]، وقال الزجاج: هذا استثناء ليس من الأول والمعنى لكن الذين صبروا. [زاد المسير (2/ 360)، الدر المصون (6/ 293)]. (¬3) في "ب": (أو). (¬4) ويجوز أن تكون "مثله " نعتًا لـ "سُوَر" كما يجوز أن تكون "مفتريات " صفة لـ "سور" و"مثل " وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] ومن المطابقة قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 23،22] وقوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]

يكون حالًا للسور المأتي بها، ويجوز (¬1) أن يكون تقديره سور مفتريات مثله على زعمكم. {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا} إن كان خطابًا للمأمورين بدعاء من استطاعوا فهو كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [الأعراف:194] وإن كان خطابًا للنبي -عليه السلام- ولأمته فهم تبع له شهداء منه كقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. {يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يؤثرها، والمؤمن المخلص لا يؤثرها على الآخرة ولكن يريدها بالاستدراك الغائب وإصلاح الفاسد وهو المطلع فهو من الآخرة {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} المحمودة لظواهرها لا لوجه الله تعالى كقوله -عليه السلام-: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬2). {مَا صَنَعُوا فِيهَا} في الحياة الدنيا {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لوقوعها باطلًا عند الله في الأحكام العقباوية. {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أى هو (¬3) كمن ليس على بينة من ربه، الذي هو على بينة من ربه روح النبي -عليه السلام- وقلبه وضميره {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} هو منظره يتبع مخبره، قال محمَّد ابن الحنفية: قلت لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه -: إن الناس يزعمون في قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أنك أنت التالي، فقال: وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمَّد -عليه السلام- (¬4)، وقيل: ¬

_ (¬1) في "أ": (والجواز). (¬2) هو حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "إنما الأعمال بالنيات ... " أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 191 - كتاب العتق باب الخطأ والنسيان)، ومسلم في صحيحه (3/ 1515 - كتاب الإمارة) وغيرهما. (¬3) (أي هو) ليست في "ب". (¬4) ابن جرير (12/ 354)، وابن أبي حاتم (6/ 2014)، والطبراني في الأوسط (6828)، وفي مسند الشاميين (2630) وسنده ضعيف جدًا بسبب خليد بن دعلج. ولكن ورد عن الحسين بن علي- رضي الله عنهما -ما يؤيده عند ابن جرير (12/ 355)، وابن أبي حاتم (6/ 2014).

يتلوه يقرأ القرآن {شَاهِدٌ مِنْهُ} مِن ربه وهو جبريل -عليه السلام- (¬1)، ويحتمل أن الشاهد هو نفسه، أو رجل من عشيرته، أو رجل من أمته، ألا ترى أن جعفرًا كان مبلغًا عنه بالحبشة، وأن عليًا كان مبلغًا عنه في الحج الأكبر، وابن عباس كان مبلغًا عنه في تفسير كتاب الله تعالى (¬2). {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} عام في الملل كلها. {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} عن قتادة عن صفوان بن محمد المازني قال: بينما (¬3) أطوف مع ابن عمر بالبيت إذ عارضه فقال: يا ابن عمر كيف سمعت رسول الله يذكر في النجوى؟ قال: "يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول له: أعرف رب أعرف حتى يبلغ فيقول: إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني لأغفرها لك (¬4) اليوم، قال: ثم يعطيه صحيفة حسناته بيمينه، وأما الكافر فينادى به على رؤوس الأشهاد (¬5) {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} الآية. {يُضَاعَفُ لَهُمُ} أي عليهم {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي لشدة عداوتهم بعد اختيارهم العداوة أول مرة فتيسرت عليهم العسرى [قال الزجاج: لا ردّ لظنهم (¬6) وقولهم الباطل. {جَرَمَ} أي كسب لهم فعلهم الخسران، وقال الفراء: لا جرم كله ¬

_ (¬1) رواه مجاهد وعطاء كما عند ابن أبي الشيخ، وهو عن ابن عباس كما عند ابن جرير (12/ 359)، وابن أبي حاتم (9/ 2014) وروي عن مجاهد وعطاء كما عند ابن أبي الشيخ. (¬2) أظهر الأقوال فى "شاهد" هو جبريل -عليه السلام- فهو شاهد من الله تلا التوراة والإنجيل والقرآن، وروي ذلك عن ابن عباس- رضي الله عنهما -ومجاهد والضحاك وإبراهيم وغيرهم. رواه عنهم الطبري في تفسيره (12/ 357)، وابن أبي حاتم (2014). (¬3) في "ي": (بينما أنا أطوف). (¬4) في الأصل و"ب": (لأغفرها إلى). (¬5) البخاري (4685)، ومسلم (2768). (¬6) معاني القرآن للزجاج (3/ 45).

بمنزلة (¬1)] (¬2) لا بدّ ولا محالة، فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقًا. {وَأَخْبَتُوا} اطمأنوا، والخبت الأرض المطمئنة (¬3). {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أحدهما من يكفر به من الأحزاب الذين افتروا علي الله كذبًا، والآخر من هو على بينة من ربه، والشاهد الثاني (¬4) منه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25]. {يَوْمٍ أَلِيمٍ} عذابه، وهو يوم الطوفان أو يوم القيامة. {أَرَاذِلُنَا} جمع أرذل وأرذل جمع رذل (¬5) وهو النذل الخسيس، وإنما استحقروا المؤمنين لقلتهم وفقرهم ولكونهم بمنزلة السفهاء عندهم. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} المعنى أنهم تخوفوا من نوح -عليه السلام- (¬6) ومن اجتماع أصحابه وكثرتهم على أنفسهم الإكراه والقهر، وطالبوه أن يطردهم وينفرهم، فأبى نوح -عليه السلام- (6) أن يطردهم وقال: أرأيتموني وأصحابي ¬

_ (¬1) معاني القرآن للفراء (2/ 8). (¬2) ما بين [...] من النسخ باستثناء الأصل ففيه [العسرى وتعسرت عليهم اليسرى (لا جرم) لا بد]. (¬3) أصله من الخبت وهو المكان المنخفض من الأرض. ومنه قول الشاعر وينسب لبشر بن عوانة: أفاطم لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ ... - وقد قتل الهزبر- أَخَاك بشرا [أمالي الشجري (2/ 192)]. (¬4) في الأصل: (التالي). (¬5) قوله: {أَرَاذِلُنَا} [هُود: 27] قيلِ: إنها جمع الجمع فتكون جمع لـ "أَرْذُل" وأَرْذُل جمع لرَذْل فهي مثل كَلْب وأَكْلُب وأَكالب، ويجوز أن تكون جمع لأرْذَال وأَرْذَال جمع لرَذْل أيضًا. وقال آخرون: بل هي جمع فقط فهي جمع لأَرْذُل ونقل هذا عن ابن قتيبة وقال: الأراذل: هم الأشرار. [اللسان (رذل) زاد المسير (2/ 368)]. (¬6) (السلام) ليست في "ي".

نجبركم ونكرهكم على الدين إن كثرنا؟! أي لا نفعل ذلك، فإنه لا إكراه في الدين. {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} لست أطالبكم على الدين واجتماع الأصحاب خراجًا كفعل الملوك (¬1) فتمنعوني (¬2) عن ذلك لما يصيبكم من (¬3) المؤنة {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} بأن تمنعوني عن الدعوة إلى الرشاد بغير حجة تثبت عليكم (¬4). {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} كدعوى الذين يدعون الكيمياء (¬5) {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} كدعوى الكهنة والعارفين {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} كدعوى الأرواح الخبيثة الملابسة من السحرة (¬6)، {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} كدعوى المصدقين للطواغيت طمعًا في برهم وخيرهم. فتبرّأ نوح -عليه السلام- من هذه الدعاوى كلها؛ لأن دعواه كانت نبوته بقوة إلهية، كان نوح -عليه السلام- يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وخلع الأنداد. {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية وعدهم الطوفان. {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} النصيحة مرضية حميدة (¬7) مأمور بها، بخلاف الإغراء والنفع مفتقر إلى وجود النصيحة، وهي لا توجد إلا بإرادتها. ¬

_ (¬1) (كفعل الملوك) ليست في "ب". (¬2) في "أ": (فتمنعوا). (¬3) المثبت من "ب"، وفي البقية: (من من البقية). (¬4) في "أ": (لكم). (¬5) ذمّت الكيمياء قديمًا لأن العلماء آنذاك لهم قدرة إلى تحويل أي معدن أو بعض المعادن إلى الذهب. انظر كتاب المدخل لابن الحاج (3/ 44)، ومعجم البدع (ص 595). (¬6) المثبت من الأصل، وفي البقية: (الشجرة) وهو خطأ. (¬7) بدل (حميدة) فراغ في "أ".

{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} خطاب لنبينا -عليه السلام- وهو عارض في أثناء القصة والمراد به (¬1) تحقيق القصة وتوكيدها وقطع أوهام المستمعين ودعاويهم {مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي من إجرامكم، وهو تهمتهم وتكذيبهم وإنكارهم إلى نوح -عليه السلام- الهاء ضمير الأمر والشأن (¬2) {فَلَا تَبْتَئِسْ} تفتعل من البؤس، والمراد به الحزن والجزع، وكان دعوة نوح -عليه السلام- (¬3) {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26]، الآية بعدما أوحى الله تعالى (¬4) إليه بهذه الآية. {بِأَعْيُنِنَا} أي بنظر خاص منا إلى ما تصنع (¬5) يفيد الكلاءة {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تدع عليهم بعد فإنا قد استجبنا لك أولًا ولا تتشفع (¬6) عند معاينة الأهوال من الرقة وقلّة الاحتمال، أو أنه نهي عما علم الله أنه سيكون وهو ذكر ابنه يام. {سَخِرُوا مِنْهُمْ} استهزؤوا وإنما فعلوا لأنهم رأوه يصنع سفينة لا على ساحل بحر ولا شط (¬7) نهر، (إنا نسخر منكم) نجهلكم ونسفهكم. {مَن} بمعنى الذين في محل النصب (¬8)، وقيل: بمعنى أي في محل الأمر بالابتداء. ¬

_ (¬1) (به) من "ب" "ي". (¬2) في "أ" "ي": (السان). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (تعالى) ليست في"ب". (¬5) وهذا معنى تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: بعين الله. أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 392) أي بمرأى منا. (¬6) العبارة في "ب": (لك أو لا تتشفع لهم). (¬7) في "ي": (ولا على شط). (¬8) يجوز في "مَنْ" أن تكون موصولة أو استفهامية، وعلى كلا التقديرين فـ "تعلمون" إما من باب اليقين فتتعدى لاثنين، وإما من باب العرفان فتتعدى لواحد، فإذا كانت هذه عرفانية و"مَنْ" استفهامية كانت "مَنْ" وما بعدها سادة مسد مفعول واحد، وإن كانت متعدية لاثنين كانت سادة مسد المفعولين، وإذا كانت "تعلمون" متعدية لاثنين و"مَنْ" موصولة كانت في موضع المفعول الأول والثاني محذوف. [الدر المصون (6/ 322]

{حَتَّى} غاية لامتداد حاله وحالهم إلى مجيء الأمر {وَفَارَ} الفور الغليان والخروج على السرعة {التَّنُّورُ} تنور الخابزة (¬1)، وقيل: عين ماء معروفة. عن علي أنه على (¬2) وجه الأرض (¬3) {إِلَّا} استثناء من الأهل، والذي سبق عليه القول من جملة الأهل امرأته ويام. {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [في محل الرفع، الباء في بسم الله، ويحتمل أن قوله بسم الله متصل بما قبله، أي اركبوا بسم الله مجراها ومرساها] (¬4) أي حال إجرائها وإرسائها (¬5)، أي إثباتها والمنع عن جريها، وذكر المغفرة والرحمة لترغيب التائبين الذين ركبوا في السفينة. {فِي مَعْزِلٍ} موضع عزلة من أبيه وإخوته، يقال: أنا بمعزل من كذا. {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ} لا معصوم كقوله: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] (¬6) و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] وتقديره: لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، وقيل: الاستثناء منقطع أي لا عاصم اليوم البتة من أمر الله لكن من رحمه الله. {ابْلَعِي} البلع الاستراط في المتصل يقال: بلعت ريقي وأبلعته ¬

_ (¬1) في "أ": (الخابز). (¬2) (على) من "ي" "ب". (¬3) لعله يقصد ما ورد عن علي-رضي الله عنه-: أنه مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة، ذكره ابن أبي حاتم (6/ 2028) دون سند، وعزاه السيوطي في الدر (8/ 47) لأبي الشيخ وابن المنذر، ومثله لا يصح، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن التنور هو وجه الأرض. والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض. أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 401). (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬5) قوله: "بسم الله" يجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا من فاعل "اركبوا"، ويجوز أن يكون "بسم الله" خبرًا مقدمًا و"مجراها" مبتدأ مؤخرًا، والجملة أيضأ حال مما تقدم وهي على كلا التقديرين حال مقدرة، كذا أعربه أبو البقاء. [الإملاء (2/ 38)، الدر المصون (6/ 325)]. (¬6) في الأصل و"أ": (من شاء).

وابتلعت (¬1) ما في فمي، ولا يقال ابتلعت ما في القصعة والكأس {أَقْلِعِي} أمسكي يقال: أقلع فلان من المعاصي أي تاب وأمسك عنها {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي غاضت الأرض الماء ونشفته الريح والحرارة فنقص، وربما كان الغيض لازمًا {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي مضى، {بُعْدًا} سحقًا وتبًّا وهلاكًا، وهو نصب على التقدير والمشيئة (¬2)؛ أي قدر الله أو شاء الله لهم (¬3) بعدًا. {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} يحتمل أنه كان قد خوطب في الأهل بعموم وظنّ كذلك فلذلك تعرض للوعد، ويحتمل أنه ظنّ أن المستثنى من أهلهِ امرأته وحدها دون ابنه يام، ويحتمل أن ابنه كان يظهر لهم الإيمان والموافقة على سبيل النفاق فخوطب بظاهره {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} يعني من (¬4) النجاة. {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الموعود لهم أو من أهلك الذين أسباب الموالاة متصل بينك وبينهم. {أَنْ أَسْأَلَكَ} من أن أسألك أطلبك. {بِسَلَامٍ مِنَّا} بنجاة لك من عندنا أو بتقدير السلامة لك من عندنا {وَبَرَكَاتٍ} وببركات، والبركة النماء وزيادة الخير {وَعَلَى أُمَمٍ} أهل السعادة من ذريتهم كآل هود وصالح وأمثالهم {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} أهل الشقاوة كسائر عاد وثمود وأمثالهم. {تِلْكَ} القصة أو تلك الأنباء {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} لأنه لا يعلم كيفيتها إلا آحاد الناس وفي كتب مندرسَة لا تقوم الحجة بمثلها {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا ¬

_ (¬1) (وابتلعت) ليست في "أ". (¬2) قوله: "بعدًا" منصوب على المصدر بفعل مقدر. أي: أبعدوا بُعْدًا. فهو مصدر بمعنى الدعاء عليهم، ومنه قول الشاعر: يقولون لا تَبْعَدْ وهم يدفنونه ... ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفَائحُ [الكشاف (2/ 271)]. (¬3) (لهم) من "أ" والأصل. (¬4) (من) من "أ" والأصل.

قَوْمُكَ} لأنهم لم يكونوا سمعوا بها أصلًا، والثاني: أن علمهم لم يقع بها لأن العلم بالخبر لا يقع إلا عند الإعجاز والتواتر ولم يحصل إلا بالقرآن. {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} لما اتهموه أنه يدعي النبوة ليزاحمهم في الدنيا حسم أوهامهم بذلك {عَلَيْهِ} أي على الدعاء والإنذار. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ} إنما وعد در السماء على شريطة التوبة والاستغفار لاحتياجهم إلى ذلك، وقد ذهب وفدهم للاستسقاء على ما قدمنا. {بِبَيِّنَةٍ} معجزة التي توجب العلم ضرورة على سبيل الإلجاء، طالبوه بها جهلًا منهم {عَنْ قَوْلِكَ} بقولك، وضع (عن) مكان الباء كما وضع الباء مكان (عن) في قوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] و {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)} [المعارج: 1] وقيل: معناه {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ} صادرين عن رأيك وقولك. {اعْتَرَاكَ} مسَّك وعرض لك، تقول: عروته واعتريته وعورته واعتورته إذا أتيته بطلب حاجة، ومحله نصب بالاستثناء (¬1) {بِسُوءٍ} بخبل وجنون، وإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن النفع والضرّ من عندها. قال هود -عليه السلام-: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} إني بريء من آلهتكم {وَاشْهَدُوا} أنهم على أني بريء من آلهتكم التي اتخذتموها من دون الله. {فَكِيدُونِي} أنتم وآلهتكم أجمعون ولا تمهلوني، وإنما قال ذلك ليعرفهم عجزهم وعجزها فينبئهم على بطلان دعاويهم. {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} عبارة عن ملك (¬2) الأمر والاستيلاء والقدرة على وجوه التصاريف. ¬

_ (¬1) ذهب أبو البقاء إلى أن جملة "إلا اعتراك" مفسرة لمصدر محذوف التقدير: إن نقول إلا قولًا هو اعتراك. وقال الزمخشري: "اعتراك" مفعول "نقول" و"إلا" لغو أي: استثناء مفرغ. [الإملاء (2/ 41)، الكشاف (2/ 275)]. (¬2) في الأصل و"ي": (سلك) وهو خطأ.

و (الناصية) هي العرف. قال -عليه السلام-: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" (¬1) وأن النبي -عليه السلام- (¬2) حسر عمامته ومسح على ناصيته (¬3) {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي فعله وقوله على قضية علمه وحكمته. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} تتولوا وتعرضوا {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} جواب الشرط، فكأنه قال: إن تعرضوا فلا عليّ فإني قد قضيت ما عليّ {وَيَسْتَخْلِفُ} يجوز أن يكون معطوفًا على جواب الشرط بالفاء، ويجوز أن يكون مستأنفًا. والاستخلاف اتخاذ الخليفة كالاستبداد والاستقصاء، {شَيْئًا} في شيء، وقيل: لا ينقضونه شيئًا. {مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} إن أراد به الريح فهي جسم لأنها تشاهد إذا تلوّنت بالغبار فغلظها تراكم أجزائها وشدة ائتلافها بخلاف الريح الطيبة، وإن أراد به ما حصل من التعذيب فغلظه عظمته وشدته وفخامته. و (تلك) مبتدأ و {عَادٌ} (¬4) خبرها. التقدير: تلك الأمة، وقيل: تلك {عَادٌ} كالبدل عنه والخبر {جَحَدُوا} (¬5) أي أنكروا {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} نوح وهود ومن قبلهما، أو هود والملائكة، أو هود وحده جمع على سبيل التشريف، ويحتمل أن هودًا -عليه السلام- (2) كان معه رسل كما أن هارون مع موسى وبعض الحواريين مع عيسى -عليه السلام- (2)، ومثل هذا لا يثبت إلا بالسماع. (العنيد) العاند والعنود الذي لا يطيع. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [أي واتبعوا لعنة يوم القيامة. وقوله: {أَلَا إِنَّ عَادًا} ¬

_ (¬1) البخارى (3645)، ومسلم (1871) وغيرهما. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) الشافعي على مسنده (45). (¬4) هكذا أعربها النحاس في كتابه "إعراب القرآن" (3/ 97) (¬5) قوله: "جحدوا" هي جملة مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليست حالًا مما قبلها، وهي تتعدى بنفسها ولكنها ضمنت معنى كفركما ضمنت "كفر" معنى "جحد" في قوله تعالى: {كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هُود: 60]. [الدر المصون (6/ 345)].

خبر مستأنف، ويحتمل أن يوم القيامة] (¬1) متصل به وتقديره يوم القيامة {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أي بربهم. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} أي جعلكم عمّارها. ابن عرفة: أطال عمركم فيها (¬2)، ويحتمل من قوله: أعمرته الدار أي جعلتها له مدة عمره، وهي العمرى. {كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا} نتفرس فيك الخير، قيل: هذا قبل (¬3) دعوتك إيانا إلى التوحيد والرشد، وأما اليوم فقد أيسنا من خيرك. {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِير} يجوز أن يكون استفهامًا وأن يكون نهيًا {تَخْسِير} تضليل ونسبته إلى الخسران، وقيل: بخس ونقص ومضرّة من قولهم صديق مخسر عدو مبين. {لَكُمْ آيَةً} نصب على القطع أو الحال وقوله (لكم) متصل بما بعده لا بما قبله (¬4). {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} إخبار عن انتهاء تمتعهم كقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. {مَكْذُوبٍ} مصروف عن جهة الصدق. {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} يجوز أن يكون (منا) متصلًا {بِرَحْمَةٍ} أي برحمة من عندنا ويجوز أن يكون متصلًا بنجينا أي نجيناهم من أمرنا، وإن أراد الأول فالخزي معطوف على مضمر تقديره منه {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ (¬5)} وإن ¬

_ (¬1) ما بين [...] سقطت من الأصل. (¬2) هذا مروي عن مجاهد كما عند ابن جرير (12/ 455). (¬3) (قبل) ليست في الأصل و"أ". (¬4) قوله: "لكم آية" فإن "لكم " في محل نصب على الحال من "آية" لأنه لو تأخر لكان نعتًا لها؛ قاله الزمخشري، وأما "آية" فهي منصوبة على الحال والناصب لها: إما ها التنبيه أو اسم الإشارة لما تضمناه من معنى الفعل أو فعل محذوف. [الكشاف (2/ 279)، البحر (5/ 239)]. (¬5) (يومئذ) ليست في "ي" "ب".

أراد الثاني فهما ظاهران (¬1)، وقيل: الواو في قوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} مقحمة كما في قوله: {جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. {قَالُوا سَلَامًا} نصب بوقوع القول عليه (¬2)، كما تقول: لمن قال لا إله إلَّا الله: قلت صوابًا أو حقًا وصدقًا، {قَالَ سَلَامٌ} رفع على الحكاية تقديره سلام عليكم (¬3) {أَنْ جَاءَ} نصب بنزع الخافض تقديره: {فَمَا لَبِثَ} عن مجيئه وقيل: رفع (¬4) تقديره: فما لبث مجيئه أي ما أبطأ، {حَنِيذٍ} مشوي في الحفائر بالرضف، وقيل: منضج. {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي راَهم ممسكين عن الطعام {نَكِرَهُمْ} استنكرهم وأنكرهم، وقيل: ظن أنهم لصوص لا يتحرمون بطعامه لئلا يدخله في نعتهم، و (الإيجاس) شيء من الإحساس، وما خاف حقيقة ولكنه مكر مكروه لعل الله يوصله إليه من جهتهم. {فَضَحِكَتْ} (¬5) بالسرور من جهتهم حيث {قَالُوا لَا تَخَفْ} وقيل: ¬

_ (¬1) الأظهر في قوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هُود:66] متعلق بمحذوف التقدير: ونجيناهم من خزي يومئذ وهي معطوفة على "نجينا" الأولى مع أن هذا لا يجوز عند البصريين غير الأخفش؛ "لأن زيادة الواو غير ثابتة. [الكشاف (2/ 279)، الدر المصون (6/ 349)]. (¬2) في نصب "سلامًا" وجهان: الأول: أنه مفعول به، والثاني: أنه منصوب على المصدر بفعل محذوف وذلك الفعل في محل نصب بالقول والتقدير: قالوا: سَلَّمنَا سلامًا وهو من باب ما ناب فيه المصدر عن العامل فيه، وهو واجب الإضمار. (¬3) على هذا الوجه يكون "سلامٌ" مبتدأ وخبره محذوف كما قدره المؤلف ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدآ محذوف التقدير: قولي أو أمري سلام. [البحر (5/ 241)]. (¬4) أي رفع على أنه فاعل. (¬5) في معنى "ضحكت" ثلاثة أقوال: الأول: أن الضحك هنا بمعنى التعجب روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. الثاني: أنها بمعنى حاضت قاله مجاهد وعكرمة ورده ابن الأنباري والفراء وأبو عبيدة وأبو عبيد وابن دريد وغيرهم، وقالوا: إنه لم يسمع من ثقة أن ضحكت بمعنى حاضت.=

ضحكت سرورًا بنصرتهم لوطًا -عليه السلام-، وقيل: فيه تقديم وتأخير أي {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} {فَضَحِكَتْ} تعجبًا وفرحًا بالولد، {وَمِنْ وَرَاءِ} خلف {إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وقيل: الوراء اسم لولد الولد فتقديره: ومن جهة إسحاق الوراء، وعن الشعبي الوراء ولد الولد (¬1). {يَا وَيْلَتَى} الدعاء بالويل حقيقة عند شدة الأمر وخوف الهلاك إلا أنه كثر استعمالها فتلفظوا بها عند كل تعجب توسعًا ومجازًا، ويحتمل أنها توهمت أنها تهلك ثم تنشأ ثانيًا للولادة، فلذلك دعت بالويل {بَعْلِي} زوجي، ربّ الدار {شَيْخًا} حال (¬2). {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ} إنما أنكروا عليها التعجب من أمر الله لأنه {حَمِيدٌ} لا يستبعد منه فعل ما يستحق عليه الحمد {مَجِيدٌ} لا نهاية لمجده {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} خبر أو دعاء (¬3). و {أَهْلَ} نصب على النداء، ولأهل معنيان (¬4): أحدهما: من يسكن بيته من عياله كقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 30 - 33]. والثاني: بنو أبيه ومواليه، قال -عليه السلام- (¬5): "سلمان (¬6) منا أهل البيت" (¬7). ¬

_ = والثالث: أنه الضحك المعروف وهو قول أكثر المفسرين حملًا على ظاهر اللفظ المعهود. [تفسير الطبري (12/ 475)، زاد المسير (2/ 386) اللسان (ضحك)]. (¬1) ابن جرير (12/ 480)، وعزاه السيوطي في الدر (8/ 101) وعزاه لابن الأنباري. وقد ورد هذا اللفظ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) (حال) ليست في "ب". (¬3) في الأصل: (خبر أو دعاء، أهل)، وفي "أ": (خبر أو دعاءو). (¬4) (معنيان) ليست في "أ". (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (سلمان) ليست في الأصل. (¬7) انظر: ابن سعد في الطبقات (4/ 83، 317)، والطبري في تفسيره (19/ 35)، =

وإن كان المراد بأهل بيت إبراهيم -عليه السلام- الصنف الأول فلم يشمل (¬1) التسمية على لوط -عليه السلام- (¬2)، وإن كان الثاني فاشتملت (¬3) الروع والفزع والخوف، وفي الحديث: أنهم خرجوا ذات ليلة إلى صوت فإذا رسول الله -عليه السلام- (¬4) يستقبلهم (¬5) على فرس يقول: "لن تراعوا لن تراعوا" (¬6) (¬7). {يُجَادِلُنَا} أي طفق يجادل رسلنا وهو قوله: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر: 57] وقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] وقوله: أتهلكون قرية فيها كذا وكذا مؤمنًا وكل ذلك بإذن الله. {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} يتحلم عن قوم لوط وثناؤه عليهم منيبًا إلى الله في حوائجه وأموره، و (الإنابة): الرجوع. {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} لما سمع هذا تيقن بهلاك قريات، والمراد في الخطاب غير ملفوظ به واستثناء منقطع معناه لكي (¬8) يخبرنا به (¬9) ابتداء لا على سبيل الحكاية. {سِيءَ بِهِمْ} سيء (¬10) بمجيئهم لما يخاف عليهم من فعل قومه ¬

_ = والطبراني في الكبير (6040)، والحاكم (6539، 6541)، وأبو الشيخ في تاريخ أصبهان (3)، والبيهقي في الدلائل (3/ 418) وهو حديث غير ثابت. (¬1) في الأصل و"أ": (تشمل). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "أ": (فاستعلت). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) في "ب": (مستقبلهم). (¬6) (لن تراعوا) مرة واحدة في" أ". (¬7) البخاري (6033)، ومسلم (2307) بلفظ: (لم تراعوا) وقد ورد بلفظ المؤلف. (¬8) في "أ": (لكن). (¬9) في "أ" "ب": (يخبر بأنه). (¬10) (سيء) ليست في "أ".

{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق ذرعه بهم، ذرعه: طاقته (¬1) واستطاعته {عَصِيبٌ} شديد. {يُهْرَعُونَ} يستحثون ويزعجون على سرعة والمستحث المزمع قضاء الله وقدره {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أفعالهم الخبيثة {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} إشارة إلى نسائهم، وإنما دعاهن بنات على سبيل التلطف في الخطاب إذ (¬2) النبي من أمته بمنزلة الأب من أولاده (¬3) ألا ترى أن لوطًا لم يكن له إلا اثنتان (¬4) ويحتمل أنه كان له بنات غيرهما فعرضهن -عليه السلام- (¬5) بالتزويج (¬6). وكان ينعقد النكاح بين الكفار والمسلمين حينئذ (¬7)، ويحتمل أن لوطًا عبَّر عن ابنتيه بالبنات وعرضهما على رئيسين ليمنعا الباقين، و (الضيف) النازل عند الإنسان بزاده. {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} ليس لنا في بناتك من حاجة (¬8) ومراد، ¬

_ (¬1) قال الفراء: الأصل فيه: وضاق ذرعه بهم، فنقل الفعل عن الذَّرْع إلى ضمير لوط، ونصب الذرع بتحويل الفعل عنه كما قال: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] أي: اشتعل شيب الرأس. وكما ذكر المؤلف من حيث المعنى أنها تطلق على الجهد والطاقة ومنه قول زهير بن أبي سلمى: تَعَلَّمَنْ ها لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمًا ... فاقدِرْ بِذَرْعِك وانظر أين تَنْسَلِكُ [زاد المسير (2/ 389)، ديوان زهير بن أبي سلمى (ص 182)]. (¬2) المثبت من "ب"، وفي البقية: (أو النبي). (¬3) يشهد لذلك قوله تعالى في قراءة ابن مسعود "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبِّ لهم"، وهذا مذهب مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج. [تفسير الطبري (12/ 504)]. (¬4) في "أ": (ابنتان). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - أنهن بناته لصلبه ذكره ابن الجوزي في تفسيره. [زاد المسير (2/ 390)]. وكون لوط -عليه السلام- له ابنتان وعبر عنهما بصيغة الجمع، فهذا جائز في لغة العرب ومنه قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]. (¬7) في "ي" "أ": (يومئذ). (¬8) في "أ": (جامعة).

ويحتمل أنهم أرادوا نفي عقد النكاح {لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} كناية عن فعلتهم الخبيثة. {لَوْ أَنَّ لِي} جواب (لو) مضمر (¬1) تقديره شديد يمنعكم عن هؤلاء الضيف، أراد بالركن الشديد: وليًا يعتضد به من جار أو عشيرة. {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} يدل على استعجال لوط -عليه السلام- (¬2). {مَنْضُودٍ} متراكم تراكمت أجزاء السجيل حتى تحجر (¬3). {مُسَوَّمَةً} نصب على الحال (¬4) أو القطع، أي معلمة بخطوط من الألوان. {وَمَا هِيَ} أي العقوبة أو الحجارة {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} قوم لوط ويحتمل أهل مكة (¬5)، فتلك الحجارة لم تكن ببعيد منهم لأنهم كانوا يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد كان وقع بمكة من جنسها عام الفيل، ¬

_ (¬1) يمكن أن نقدر الجواب: لفعلت بكم وصنعت كذا وكذا فهو كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ...} [الرّعد: 31] فقد قدر الزجاج الجواب: لو كان هذا كله لما آمنوا. [زاد المسير (2/ 496)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - معنى" منضود": يتبع بعضه بعضًا. ذكره ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (2/ 294)]. وفي معنى "سجيل" رجح الطبري أنها حجارة من طين ولذلك وصفها الله في موضع آخر من كتابه {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)} [الذاريات:33،34] (¬4) ويجوز أن تكون "مسومة" صفة لـ "حجارة" وحينئذ يلزم تقدم الوصف غير الصريح على الصريح لأن "من سجيل" صفة لحجارة، والتسويم العلامة، فقيل: عُلِّمَ على كل حجر اسم من يرمى به. [الدر المصون (6/ 370)]. (¬5) الأظهر أن الخطاب موجه إلى مشركي قريش أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط وما هذه الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد عنكم، روي ذلك عن مجاهد وقتادة. [تفسير الطبري (12/ 531)].

ويحتمل أنه على سبيل الوعيد لأهل مكة، ومن يعمل عمل قوم لوط، أي لا يبعد أن يمطر عليهم مثلها فإنهم مستحقون لها لولا (¬1) فضل من الله ورحمته، وإنما سقط (¬2) التأنيث من "بعيد" لكون التأنيث غير حقيقى أو لتقدير شيء؛ أي وما هي بشيء بعيد، أي لوقف رؤوس الآي. {أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} بحالة حسنة ونعمة وافرة غير محتاجين إلى الخيانة. {بَقِيَّتُ اللَّهِ} ما يحدثه الله من النماء والبركة من غير بخس وتطفيف، كان شعيب -عليه السلام- (¬3) كثير الصلاة والعبادة والدعاء وكانوا يستحسنون ذلك منه، فلما دعاهم إلى خلع الأنداد وإيثار القسط رأوه قبيحة فقالوا تعجبًا: {أَصَلَاتُكَ} [الحسنة أثمرت وأفادت هذه الدعوة، وفيها اختصار وتقديرها: تأمرك وتحملك على تكليفنا أن نترك، وقيل] (¬4) تقديره: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} وإيانا {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وتنهاك وإيانا (¬5) {أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} {الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} السفيه الجاهل (¬6) كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49] وقيل: هو على ظاهره، أي كنت الحليم الرشيد حتى الآن كقول ثمود لصالح: {كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]. {أَرَأَيْتُمْ} المستفهم مضمر تقديره: أرأيتم إن كنت بهذه لكنت سفيهًا جاهلًا، أو أرأيتم إن كنت بهذه (¬7) الصفة أكنتم تجيبونني وتطيعونني، وفائدته الاستدراج. ¬

_ (¬1) في "ب": (ولولا). (¬2) في "أ" "ي": (أسقط). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل و"أ". (¬5) في " ب": (وإياك). (¬6) أي قالوا ذلك على وجه السخرية والاستهزاء قاله ابن عباس -رضي الله عنهما- وقتادة والفراء ذكره ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (2/ 396)]. وذكر ابن كيسان أنه على حقيقته وقالوا: أنت حليم رشيد فلم تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ (¬7) المثبت من "ب"، وفي البقية: (بهذا).

{يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} كقولك: لا يحملنك مخالفتي على أن تدحرج نفسك من شاهق إلى بئر. {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أتى بالدعوة على سبيل الترغيب بعد الدعوة على سبيل الترهيب لتبليغ الدعوة كل مبلغ، ويلزم الحجة كل اللزوم، {وَدُودٌ} مستجيب، في الحديث أن الله تعالى: "يتحبب إلى عبده بالنعم والعبد يتمقت إليه بالمعاصي" (¬1) لما انقطعوا في المناظرة والجدال أخذوا في الشفاعة عادة الجهال. {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} مكفوفًا {رَهْطُكَ} عشيرتك، والرهط: ما دون العشرة من الأنفس {لَرَجَمْنَاكَ (¬2)} شتمناك وقذفناك، ويحتمل الرجم بالحصى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} لا يعز علينا مكروهك ولكنه يعز علينا مكروه رهطك. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} يكذبهم، تقول: ليس (¬3) لعشيرتي عندكم ذمام أو حرمة (¬4) فإنكم أعرضتم عن حق الله فكيف يرجى منكم رعاية حق العشيرة، والثاني كان يحتج (¬5) عليهم بحفظ ذمام العشيرة، ويقول: إن كنتم تحفظون ذمام العشيرة فلم لا تراعون حق الله ولم تعرضون عنه فإنه أحق وأوجب {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} اتخذتم (¬6) الرهط ملجأ وعده لكم من ورائكم، وقيل: اتخذتم حق الله سببًا (¬7) لا تلتفتون (¬8) ¬

_ (¬1) هذا أثر وليس حديثًا بل هو كما قال ابن القيم أثر إلهي؛ أي هو منقول من الإسرائيليات، وهو في "شفاء العليل" (238)، ومدارج السالكين (1/ 464،194). (¬2) (لرجمناك) ليست في "ب". (¬3) في "ب": (ويقول وليس). (¬4) في البقية: (وحرمة)، والمثبت من "ب". (¬5) في "ب": (محتج). (¬6) المثبت من الأصل، وفي "أ" "ي": (أخذكم)، وفي "ب": (اتخذهم). (¬7) في الأصل و"ب": (شيئًا). (¬8) في "ي" "أ": (يلتفتون).

إليه، قوم شعيب كانوا يخوفونه بأنه يعتريه بعض آلهتهم بسوء وعذاب ويسمونه كاذبًا، فقال على سبيل التهديد: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالتكم التي هي حالة التمكين من الاختيار {إِنِّي عَامِلٌ} عملي على هذه الحالة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ} (¬1) [عند نسخ حالة الاختيار بحالة الإلجاء والاضطرار. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} إياهم أن استخفهم فأطاعوه في عبادته] (¬2) وتعبيد بني إسرائيل {بِرَشِيدٍ} مرشد. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} يقال: قَدُمَ يقدم بضم العين فيهما إذا صار قديمًا أو مقدمًا، وقدِم يقدم بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر إذا تلقي واستقبل، وقدَم يقدم بفتح العين في الماضي، وضمها في الغابر إذا تقدم {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} على سبيل التسبب دون التسليط، وقال ابن عرفة: الورود موافاة المكان قبل دخوله وحقيقة الوصول والبلوغ. (الرفد) اسم للقوام المستفاد، والرفد بدل القوم، فلما كان قيام بؤس آل فرعون وانتظام وبالهم وتتمة المقدور فيهم باللعنة بعد اللعنة وقعت العبارة عنها بالرفد، ويحتمل أنهم أطاعوا فرعون طمعًا في الرفد فبدله الله باللعنة فوقعت العبارة عن البدل. {قَائِمٌ} باقٍ {وَحَصِيدٌ} فانٍ (¬3)، يقال: حصدهم بالسيف، فالباقي مثل مصر وجنة شداد وأخواتهما، والفاني مثل حِجر والمؤتفكات وأخواتها. {تَتْبِيبٍ} تخسير، و (التباب): الخسار. ¬

_ (¬1) في "ب": (من هو كاذب). (¬2) ما بين [...]، من "ب" "ي". (¬3) قال ابن قتيبة: القائم: الظاهر العين، والحصيد: الذي قد أبيد وحصد. وقال الزجاج: القائم: ما بقيت حيطانه، والحصيد: الذي خُسِفَ به وما قد امَّحَى أثره. [معاني القرآن للزجاج (3/ 77)، زاد المسير (2/ 399)].

عن أبي موسى عنه -عليه السلام-: "إن الله تعالى يملي للظالم أو قال يملا حتى إذا أخذه لم (¬1) يُفْلت"، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} (¬2) الآية (¬3). {نُؤَخِّرُهُ} الضمير عائد إلى اليوم الموعود {يَأْتِ} يشبه الترخيم، ويحتمل أن يكون شرطًا لأنّ يومًا يشبه الميم الموصول وقد ينقلب حرف شرط قال: استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل (¬4) والجواب قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ} محروم مكدوم (¬5) {وَسَعِيدٌ} محظوظ مجدود، عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت هذه الآية سألت النبي -عليه السلام- فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: "بلى على شيء فرغ منه وجرت به الأقلام، يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له" (¬6). {زَفِيرٌ} صوت في الصدر {وَشَهِيقٌ} صوت في الحلق، وكلاهما من أصوات المكروبين، ويحتمل أن هذا في نهيق الحمار (¬7)، ويحتمل هذا في ¬

_ (¬1) (لم) ليست في الأصل. (¬2) الآية في "أ" "ب": {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ}. (¬3) البخاري (4686)، ومسلم (2583). (¬4) ذكره الأنصاري في "مغني اللبيب" (131، 916)، والشعر للحارث بن بدر الغداني كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (11/ 395). (¬5) في "ي": (مكدود). (¬6) الترمذي (3111)، وأبو يعلى (5463، 5571)، وابن جرير (12/ 577، 578)، وابن أبي حاتم (6/ 2084) والحديث صحيح. (¬7) روى الطبري عن ابن عباس-رضي الله عنهما- في قوله: {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هُود: 106] قال: صوت شديد وصوت ضعيف. ثم خُصَّ هذا الصوت بصوت الكافر في نار جهنم كصوت نهاق الحمار في أوله، فإذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه قيل له: شهيق، كما قال رؤبة بن العجاج: حشرَجَ في الجوفِ سحيلًا أوشَهَقْ ... حتى يُقالَ: ناهقٌ ومانهق روي ذلك عن قتادة. [تفسير الطبري (12/ 576)].

القبر كقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] وقوله -عليه السلام-: (القبر روضة من ري اض الجنة أو حفرة من حفر النار" (¬1). إن {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} يحتمل كون أنفسهم اللطيفة في النار قبل مجيء القيامة وانفطار السماء وتبدل الأرض وبعثرة ما في القبور والاستثناء حالة الرقدة (¬2) والصعقة، ويحتمل أن المراد بالسماوات سقوف النار ودركاتها والاستثناء حالة العرض والحساب أو حالة عقوبة الاستهزاء، ويحتمل أن المراد ببقاء السماوات والأرض بقاء أجزائهما لا بقاء تأليفهما ولا دلالة على فناء الأجزاء المتلاشية بعد الوجود والاستثناء حالة الدنيا. وقيل: جرى مجرى الأمثال كقولهم: لا آتيك سنا الخيل ومِعْزَى الفِزْرِ (¬3)، وقيل: مقدار دوام السماوات والأرض. {إِلَّا مَا شَاءَ} الله (¬4) {رَبُّكَ} من الزيادة قاله الفراء (¬5)، وقيل: ما شاء ربك من شاء ربك، وهم طائفة من أهل الإيمان جمعوا بين شقوة المعاصي وسعادة الإيمان فهم مستثنون من الأشقياء لانقطاع خلودهم مستثنون من السعداء لتأخر دخولهم، والمراد بكونهم في الجنة برفقة ¬

_ (¬1) هذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة منهم أبو هريرة، كما عند الطبراني في الأوسط (8613)، والحاكم (6176)، وأبو سعيد الخدري كما عند الترمذي (2460)، وابن عمر كما عند البيهقي في "عذاب القبر" (50)، وسهل بن سعد الساعدي كما عند الطبراني في الكبير (5658) والحديث بكل طرقه ضعيف. (¬2) في "أ": (القدوة). (¬3) الجملة الثانية من المثل وهي "لا آتيك مِعْزَى الفِزْرِ" ذكرها الميداني في مجمع الأمثال (3/ 153)، والفِزْرُ: لقب سعد بن زيد مناة بن تميم، وإنما لقب بذلك لأنه وافى الموسم بمعزى فانهبها هناك وقال: من أخذ منها واحدة فهي له ولا يؤخذ منها فِزْر- وهو الاثنان فأكثر- ومعناه لا آتيك حتى تجتمع تلك وهي لا تجتمع أبدًا. (¬4) (الله) من الأصل فقط. (¬5) ذكره الفراء في معانى القرآن (2/ 28) وجوز الفراء أن يجعل "سوى" مكان "إلا" وقدر الآية: خالدين فيها ما كانت السماوات وكانت الأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد.

الشهداء، ويحتمل سائر الوجوه المذكورة {عَطَاءً} أي أعطيناهم عطاءً (¬1) {مَجْذُوذٍ} مقطوع. والفائدة في ذكر موسى -عليه السلام-، وكتابه: هو التنبيه على جواز التمهيل مع وجود الاختلاف كيلا يظن ظان أنه معنى اختص بالقرآن. {وَلَا تَرْكَنُوا} ولا تميلوا {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية كالعارض بين مس النار وابتغاء النصرة. {طَرَفَيِ النَّهَارِ} الفجر والظهر والعصر (¬2)، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ساعاته المترادفة أراد صلاة المغرب والعشاء (¬3) والوتر، وعن موسى بن طلحة عن أبي اليَسْر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرًا فقلت: إن في البيت تمرًا أطيب منه، فدخلت معي في البيت وأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر -رضي الله عنه- فذكرت له ذلك، فقال: استُرْ على نفسك وتُبْ، فأتيت عمر - رضي الله عنه - فذكرت له ذلك، فقال: استر على نفسك وتبْ ولا تخبر أحدًا، ولم أصبر فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال: "أخلفت غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ " حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار، وأطرق رسول الله -عليه السلام- (¬4) طويلًا حتى أوحى الله إليه {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} الآية، قال أبو اليسر: فأتيت رسول الله -عليه السلام- فقرأها عليّ، فقال أصحابي: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟! قال: "بل للناس عامة" (¬5). ¬

_ (¬1) أي أنه منصوب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قبله لأن قوله: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ} [هُود: 108] يقتضي إعطاء وإنعامًا فكأنه قال: أعطاهم عطاءّ. [الدر المصون (6/ 394)]. (¬2) روي ذلك عن مجاهد ومحمد بن كعب القرظي والضحاك، رواه الطبري في تفسيره (12/ 602)،وابن أبي حاتم في تفسيره (2091)،وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: "طرفي النهار": صلاة الغداة وصلاة المغرب. أخرجه الطبري في تفسيره أيضًا (12/ 603). (¬3) روي ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك، رواه عنهم الطبري في تفسيره (12/ 610). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) الترمذي (3115)، والبزار (2300)، وابن جرير (12/ 625،624) والحديث حسن.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع منه تمرًا فأعجبته فقال: إن في البيت تمرًا أجود من هذا فانطلقي حتى أعطيك منه، قال: فانطلقت معه المرأة فلما دخلت المرأة بيته فوثب إليها فلم يترك شيئًا مما يصنع الرجل بالمرأة إلا وقد فعله إلا أنه لم يجامعها وحذف شهوته، فلما حذف شهوته ندم على ما صنع بالمرأة فاغتسل، ثم أتى النبي -عليه السلام- يسأله عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أدري ما أردّ عليك حتى يأتيني فيك شيء من الله" قال: فبينما هم كذلك إذ حضرت العصر فلما فرغ من صلاته نزل جبريل -عليه السلام- بتوبته فقال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} الآية فقرأها رسول الله من القرآن، فقال عمر بن الخطاب: أخاص أو عام؟ قال: "لا، بل عام" (¬1). {أُولُو بَقِيَّةٍ} أُولُو بقاء على أنفسهم لتمسكهم بالدِّين، ويحتمل بقية سنن الصّالحين، أي هذا كان منهم من يتمسك بالبقية من سنن آدم وشيث وإدريس -عليهم السلام- {يَنْهَوْنَ عَنِ} البدع {فِي الْأَرْضِ} {قَلِيلًا} نصب على الاستثناء (¬2)، (الإتراف): الإنعام فوق المقدار والكفاية. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي ما كان ليهلكهم بذنب وأهلها موحدون، وقيل: ما كان ليهلكها وأهلها متمسكون بعدل السيرة، وقيل: ما كان ليهلكها بظلم نادر واهلها غير مستحقين للعقاب، وقيل: ما كان بظالم لو أهلكها وإن كان أهلها مصلحين. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إشارة أن يكونوا أمة واحدة على الإسلام، وقيل: للاختلاف، وقيل: للإمساك عن الاختلاف، وقيل: للاستثناء بالرحمة. {فِي هَذِهِ} إشارة إلى السورة. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الأثير في "أُسد الغابة" (215) في ترجمة عمرو بن غزية وعزاه لابن مندة، وأبو نعيم من طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وانظر: الإصابة لابن حجر (4/ 668)، ورواه الطبري في تفسيره (12/ 626). (¬2) يجوز في "قليلًا" أن يكون استثناءً منقطعًا وذلك أن يحمل التحضيض على حقيقته، والثاني: أن يكون استثناءً متصلًا وذلك بأن يؤؤَّل التحضيض بمعنى النفي فيصح ذلك. [الكشاف (2/ 298)].

سورة يوسف

سُورَةُ يُوسُف مكية (¬1)، وعن ابن عباس إلا أربع آيات؛ ثلاث من أولها والرابع {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وهي مائة وإحدى عشرة آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} الضمير عائد إلى الكتاب {قُرْآنًا} اسم من القراءة أو مصدر {عَرَبِيًّا} بلغة العرب، قال -عليه السلام-: "إن العربية ليست بأب والد ولكن مَنْ تكلم بالعربية فهو عربي" (¬3). {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ما كان غاية في إفادة الصّدق والعجب الباعث على مكارم الأخلاق، الزاجر عن اللوم بنظم سهل منتفع؛ وهو (¬4) القرآن لتضمنه أقاصيص الأنبياء والأولياء وذكر عاقبة المتقين، وقصارى عمل المفسدين، وقيل: قصة يوسف -عليه السلام- لاستمالة على حسن تعبير يعقوب، وحسن موعظة يوسف (¬5)، وحسن ¬

_ (¬1) مكيتها ثابتة وذكر ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، حتى قال ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 178) أن ذلك إجماع. (¬2) وانظر: "البيان في عدّ آي القرآن" (ص 167). (¬3) ابن عساكر (21/ 225، 424، 407) وسنده ضعيف جدًا، وانظر: السلسلة الضعيفة (926)، ولفظ: (... بأب ولا أم). (¬4) في الأصل: (هي). (¬5) (يوسف) في الأصل و"أ".

صبره في حزنه، وحسن تعزيه في مصيبته، وحسن رجائه من الله، وحسن معاشرته فيه حيث لم يهاجرهم ولم ينابذهم، ولاشتماله على حسن صورة يوسف، وحسن رؤياه في صباه، وحسن إمساكه عن زليخا (¬1)، وحسن اختياره السجن، وحسن تعبيره رؤيا الفتيان (¬2)، وحسن صبره في السجن، وحسن تدبيره في ادِّخار الميرة، وحسن كيده في حبس أخيه، وحسن ردِّه على إخوته بضاعتهم، وحسن عفوه عنهم، ولاشتماله على حسن اختيار (¬3) زليخا والنسوة والملك، وحسن توبة إخوة يوسف، وحسن اعترافهم واعتذارهم، وحسن عاقبة الجميع، وحسن ذكر الله إياهم، والقول الأول الأصح (¬4) لقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} عن مصعب بن سعد (¬5) عن أبيه قال: أنزل الله تعالى القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬6) فتلاه عليهم زمانًا فقيل: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى {الر تِلْكَ} الآية فتلا عليهم زمانًا، قيل: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنزل الله {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] الآية، وروي فقيل: لو خوفتنا (¬7) فأنزل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 16] الآية (¬8). {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل الوحي إلا (¬9) عاقلًا عن هذه الأنباء. {يَا أَبَتِ} قال الفراء (¬10): كانت ها وقفة (¬11)، واستجازوا تحريكها ¬

_ (¬1) هذا اسم زوجة العزيز وقد ورد عند أكثر المفسرين هكذا. (¬2) في الأصل: (الفتين). (¬3) في "أ": (اختياره). (¬4) في "ب": (أصح). (¬5) في "ب": (سعيد). (¬6) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" فقط. (¬7) في الأصل: (حرفتنا). (¬8) ابن جرير (13/ 8) وسنده محتمل للتحسين. (¬9) (إلا) ليست في الأصل و"ب". (¬10) (الفراء) من "أ" "ي". (¬11) ذكره الفراء في معاني القرآن (2/ 32) وقال: في قوله: {يَا أَبَتِ} [يُوسُف: 4] لا تقف =

كتحريك هاء (¬1) الندبة (¬2)، ثم قلبوها تاء، فهاء التأنيث، فأدخلوا عليها الإضافة بالكسر، والندبة بالفتح، وقيل: التاء عوض عن ياء المتكلم لأنها لا (¬3) تثبت مع الياء، وإنما جمع جمع العقلاء لاعتبار فعل العقلاء وهو السجود أو لأن تأويل (¬4) أبواه وإخوته. {لَا تَقْصُصْ} لأنه علم غيرتهم ومنافستهم في طريق المشاهدة أو من طريق القياس على أمر أخيه عيصو (¬5)، وذكر الشيطان لأنه كان يعلم أنهم يفهمون التأويل؛ لأن البيت كان بيت النبوة والعلم فيتخوف على يوسف البوائق وعلى إخوته البغي من وسوسة الشيطان. وعن وهب: رأى هذه الرؤيا وهو ابن اثنتي عشرة سنة (¬6) وكان رأى قبل ذلك وهو ابن سبع سنين (¬7) إحدى عشرة (¬8) عصًا طوالًا مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصًا صغيرة تثب على هذا العصي فتغلبها وتفوقها. {وَكَذَلِكَ} إشارة إلى السجود أو لاختصاصه بالرؤيا (¬9)، فإنما بشره بالاجتباء لرؤياه؛ فإنّ الرؤيا من الله والعلم (¬10) من الشيطان، وبشره بعلم ¬

_ = عليها بالهاء وأنت خافضٌ لها في الوصل؛ لأن تلك الخفضة تدل على الإضافة إلى المتكلم. (¬1) في "أ": (واستجازوا تحريكها كتحريكها الندبة). (¬2) ومنه قول النابغة: كِليني لِهَمَّ يا أُمَيْمَةَ ناصبِ ... وليلٍ أُقاسيه بطيء الكواكبِ بفتح التاء في "أميمةَ". (¬3) (لا) ليست في الأصل. (¬4) في "أ": (تأويله). (¬5) هو أخو نبي الله وعم يوسف ذكره أهل التفسير كالقرطبي والبغوي، وبعض شروح الحديث كعمدة القاري للعيني، والعرب تسميه (العيص) وإليه ينسب الروم. (¬6) ذكره ابن الجوزي كأحد الأقوال عن عمر يوسف وقت الرؤيا (4/ 183). (¬7) ذكره ابن الجوزي كأحد الأقوال عن عمر يوسف وقت الرؤيا (4/ 183)، وذكر أيضًا قولًا ثالثًا وهو سبع عشرة سنة. (¬8) (عشرة) من "أ" "ي" .. (¬9) في "ب": (والاختصاص بالرؤيا)، وفي "ي": (أو الاختصاص فساح أمره بالرؤيا). (¬10) في "أ": (الحلم).

التأويل (¬1) لافتتاح أمره بخصلة نبوته وهي الرؤيا، وبشره بإتمام النعمة عليه لأنَّ الله متمم نوره، وعلم بذلك لوقوع أمثلتهم في الرؤيا كواكب (¬2). والكواكب نور يهتدى به إذ قالوا فيما بينهم وإخوة لأمه (¬3) {عُصْبَةٌ} ما بين العشرة إلى الأربعين (¬4)، وضللوا آباءهم في تدابير (¬5) الدنياوي لكون يوسف وأخيه غلامين ضعيفين وكونهم عصبة أقوياء على الحماية والانتصار من العدو، ولم يقصدوا إيذاءهم وإنما قصدوا العقاب. {اقْتُلُوا يُوسُفَ} بغير حق لأنهم لم يكونوا بلغوا رتبة النبوة ولا يوسف بعد، وقتل غير النبي ليس بكفر، والكبائر قبل النبوة ممكنة (¬6)، ويحتمل أنهم قالوا نصيحة لأبيهم وصرف محبته إليهم إذ هو الأصلح فيما بينهم {أَوِ اطْرَحُوهُ} أسقطوه {أَرْضًا} بأرض من غير أرضهم {يَخْلُ لَكُمْ} يفرغ ويحصل لكم {مِنْ بَعْدِهِ} هذا الذنب {صَالِحِينَ} تائبين عن ابن عباس (¬7)، وقال مقاتل: أراد إصلاحهم فيما بينهم (¬8). {قَالَ قَائِلٌ} قتادة وابن إسحاق: روبيل (¬9)، مجاهد: شمعون (¬10)، ¬

_ (¬1) من قوله: (فإنما بشره) إلى هنا ليس في "ب". (¬2) (كواكب) ليست في "ب". (¬3) ذكر ابن الجوزي أن أخا يوسف كان لأمه وأبيه - أي كان شقيقًا - والباقون إخوته لأبيه دون أمه. [زاد المسير (2/ 415)]. (¬4) قال الزجاج: هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضًا في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض. وفي معناها ستة أقوال؛ أظهرها قول ابن عباس- رضي الله عنهما -، وهو ما زاد على العشرة إلى الأربعين، واختاره عامة المفسرين. [معاني القرآن للزجاج (3/ 93)، زاد المسير (2/ 415)]. (¬5) في "أ" "ي": (تدبير). (¬6) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (2178). (¬7) ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 184). (¬8) ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 184). (¬9) الطبري (13/ 20)، وابن أبي حاتم (7/ 2106). (¬10) الطبري (13/ 21)، وابن أبي حاتم (7/ 2106).

وقيل: يهودا {الْجُبِّ} الرَّكية لم تطو فإذا طويت فهي بئر (¬1)، و (الالتقاط) دفع المنبوذ {السَّيَّارَةِ} مارة الطريق وهي (¬2) العير {فَاعِلِينَ} حائلين بين يوسف وأبيه لا محالة فحولوا (¬3) كذلك. {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا} كان يعقوب يتخوف على يوسف بين (¬4) إخوته لما كان يعلم من غيرتهم ومنافستهم، وكان لا يرسله معهم للحس (¬5) ولا التماشي ويحبسه عند نفسه فلذلك قالوا {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} على اعتقادهم أن إخراجه من بين أظهرهم خير له ولهم. أرادوا بقولهم {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حفظه وحبسه في البئر إلى (¬6) أن يلتقطه بعض السيارة. فقال (¬7) حزنني وأحزنني، وإنما خاف أكل (¬8) الذئب لأنه كان رأى في المنام أن الذئب قد اختطفه، وقيل لأن الذئاب كانت كثيرة عائدة في أرض كنعان، وإنما أظهر هذه العلة دون تخوفه من كيدهم للرفق وحسن العشرة. لما قالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} سكن إلى قولهم وأحب أن يرسله معهم لعل الله يؤلّف بينهم، ولئلا يزيدهم حقدًا (¬9) بردِّهم خائبين {وَأَوْحَيْنَا} واو مفخمة كما في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] ¬

_ (¬1) أصل الجب هو القطع، وسميت البئر بذلك لأنها قطعت قطعًا ولذا تكون شديدة الظلمة، وبذلك فسر ابن عباس - رضي الله عنهما - "غيابة الجب" ظلماته. [زاد المسير (2/ 416)]. (¬2) في "ب": (وفي). (¬3) في الأصل: (فحالوا). (¬4) في "أ": (من). (¬5) في الأصل: (للخير) وفي "ي": (الحش). (¬6) في "ب": (إلا). (¬7) في الأصل و"أ": (يقال). (¬8) في الأصل: (لكل). (¬9) (حقدا) ليست في الأصل.

قيل: إيحاء جبريل، وقيل: الإلهام إليه وإلى يوسف {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} وهو قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 89]. {يَبْكُونَ} يكلفون البكاء كعادة الجاني إذا تبارأ من البكاء. {نَسْتَبِقُ} نسابق (¬1) بالرمي والتعادي، ويحتمل أنهم لم يقصدوا الكذب بخبرهم من الاستباق وتركه لأنه ممكن، وعنوا بالذئب ما كان رآه أبوهم في المنام وتأويله السارق أو الغاصب مثلًا أو مجازًا، وإنما قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} لشدة خوفهم كما يقال: كاد المريب يقول خذني. {عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي الدم المكذوب، كانوا قد لطخوا القميص بدم جدي (¬2) يوهمون أنه دم يوسف، وإنما اعتذروا بهذا لما يرجون من تصديق أبيهم وتسليمه لهم هذا العذر بعد خوفه عليه من قبل هذا المعنى، وإنما علم الخلاف بوحي أو إلهام أو صدق فراسته أو اعتبار القميص غير ممزق {سَوَّلَتْ} زيّنت {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فعلى صبر جميل (¬3) وهو ما عري من الشكوى والعويل {عَلَى مَا تَصِفُونَ} على استبانة ما تصفون. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} الرفقة كانوا من خزاعة يريدون مصر {وَارِدَهُمْ} مالك بن ذعر الخزاعي (¬4)، {فَأَدْلَى} فأرسل إلى أسفل البئر {وَأَسَرُّوهُ} ¬

_ (¬1) (نسابق) ليست في الأصل. (¬2) صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه دم سخلة شاة، وكذا روي عن مجاهد. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لو أكله الذئب لخرق قميصه. [الطبري (13/ 36)]. (¬3) يجوز في "صبر جميل" أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف التقدير: أمري صبر جميل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: صبر جميل أمثل بي. وقدره الطبري: صبري صبر جميل، والصبر الجميل قيل: هو الذي ليس فيه جزع، وروى الطبري مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فصبر جميل صبر لا شكوى فيه". [الطبري (13/ 40)، الدر المصون (6/ 458)]. (¬4) ابن جرير (13/ 62) من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 216) كذلك لأبي الشيخ، واسمه ورد في جميع التفاسير.

يحتمل إخوة يوسف ويحتمل السيارة (¬1) {بِضَاعَةً} قطعة من المال يتجر بها، وهي منصوبة على الحال (¬2). {وَشَرَوْهُ} يحتمل البيع من إخوة يوسف ويحتمل الاشتراء من السيارة. ذكر في التواريخ (¬3) أن إخوة يوسف لما رجعوا من الغد إلى البئر لم يجدوا يوسف فيها فافتقدوه فوجدوه في هذه الرفقة فأوهموا أنه عبد آبق باعوه منهم بعشرين درهمًا (¬4)، وقيل: باثنين وعشرين (¬5) {بَخْسٍ} باخس أو مبخوس {دَرَاهِمَ} مضروب من الفضة للمعاملة، (الزهد في الشيء): الرغبة عنه. {الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} هو عزيز مصر اسمه قُطيفَرع، وقيل: قُطْفير (¬6) اشتراه من مالك بن ذعر دخل به السوق وعرضه للبيع، فبلغ ثمنه في العرض مقدارًا من المسك وحرير وذهب وفضة، فاشتراه العزيز بذلك لامرأته زليخا، وقيل راعيل (¬7) وإنما وكله إليها لتربّيه تربية الأم ولدها {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} اجعلي منزلته حميدة حسنة لئلا يفسد بتربية السوء فيتطرق إليه خيانة العبيد {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} تفرس لما فيه من مخايل (¬8) الكرم (¬9) ¬

_ (¬1) القول الأول - أنهم إخوة يوسف - قال به ابن عباس -رضي الله عنه -، والقول الثاني قال به مجاهد، ورجح الطبري القول الثاني. [الطبري (13/ 49)]. (¬2) ويجوز أن تكون "بضاعة" مفعولًا ثانيًا على أن يُضَمَّن "وَأَسَرُّوهُ" معنى صَيَّروه. (¬3) بل ورد كذلك في الطبري (13/ 50 - 51)، وابن أبي حاتم (7/ 2114) عن السدي. (¬4) هذا الرقم ورد في رواية السدي عند الطبري، وابن أبي حاتم (7/ 2116)، وهو مروي عند ابن أبي حاتم (7/ 2116) عن مجاهد. (¬5) هذا الرقم ورد عند ابن أبي حاتم (7/ 2115) عن عكرمة. (¬6) أما قطفير فقد وجدناه في جميع التفاسير أما قطفيرع فلم نجده، ووجدناه بلفظ أطفير. [الطبري (13/ 61)، زاد المسير (2/ 424)]. (¬7) محمد بن إسحاق سماها (راعيل بنت رعائيل)، وأما زليخا فسماها الجبائي كما في تفسير أبي الشيخ، انظر الدر المنثور (8/ 215)، ومقاتل كما في زاد المسير (4/ 198)، وقيل: إن اسمها راعيل وأن لقبها (زليخا) كما في تفسير أبي السعود (4/ 262). (¬8) (من مخايل) ليست في "ب". (¬9) (الكرم) ليست في الأصل.

وشمائل الأحرار، كفراسة ابنة شعيب في موسى -عليه السلام-، وفراسة خديجة في نبينا -عليه السلام- (¬1) {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لأنه كان غنيًا لا وارث له، عنّينًا (¬2) لا يولد له. {وَكَذَلِكَ} أي وكما (¬3) نخبرك {وَلِنُعَلِّمَهُ} معطوف على ضمير أي ليتمكن ولنعلمه {عَلَى أَمْرِهِ} قيل: أمر الله، وقيل: أمر يوسف. وقيل: إن يوسف إذ وقع بمصر كان عمره سبع عشرة سنة، فلما بلغ ثماني عشرة سنة (¬4). {بَلَغَ أَشُدَّهُ} وآتاه (¬5) الحكم والحلم وذلك حين رأى برهان ربه. {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} ثم بقي بعد ذلك على حالته ست سنين ثم ابتلاه الله بالسجن سبع سنين (¬6) واتاح له الفرج على رأس ثلاثين سنه من عمره. وقيل: بلوغ أشده بلوغه ثلاثين سنة، والمراد بـ"الحكم" ما حكم بين الناس، وبـ "العلم" ادخار الميرة وغيره. {وَرَاوَدَتْهُ} طالبته عن نفسه (عن) للتعدية، كما يقال: سأل عن كذا {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} لئلا يدخل عليهما (¬7) داخل {مَعَاذَ اللَّهِ} أي ألتزم ¬

_ (¬1) وردت رواية عن ابن مسعود في ذلك ولكن فيها أبو بكر باستخلافه عمر بدل خديجة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رواها سعيد بن منصور في تفسيره (1113)، وابن سعد (3/ 273)، وابن أبي شيبة (14/ 574)، وابن جرير (13/ 64)، وابن أبي حاتم (7/ 2118)، والطبراني (8830،8829)، والحاكم (2/ 345). (¬2) في "أ" "ي": (عندنا). (¬3) في "ب" "أ": (فكما). (¬4) الثاني هذا ذكره ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (7/ 2119)، أما الأول فلم أجده. وذكر المفسرون أرقامًا أخرى. (¬5) المثبت من "ب"، وفي البقية: (وأتيه). (¬6) هذا ورد عن عكرمة عند ابن جرير (13/ 151). (¬7) في "أ": (عليهم).

معاذ الله، وأعوذ بالله من هذا الفعل القبيح {إِنَّهُ رَبِّي} أي (¬1) الله تعالي (¬2) {الظَّالِمُونَ} الزانون (¬3). وتقديم جواب {لَوْلَا} علقه كتقديم الجزاء على الشرط، وجواب (لو) هاهنا همّ يوسف، تقديرها {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} و {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لهمَّ بها {بُرْهَانَ رَبِّهِ} قيل: صورة يعقوب عاضًا على إصبعه يقول: مثلك قبل المواقعة كذا وبعد المواقعة (¬4) كذا (¬5). مقاتل: سمع صوتًا: إياك ومواقعتها فإنك إن واقعتها صرت كالطير الواحد، وقيل: سمع صوتًا: أتَهُمُّ بعمل السفهاء وأنت مكتوبٌ في الأنبياء (¬6)، وقيل: رأى مكتوبًا في السقف {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (¬7) [الإسراء: 32] {كَذَلِكَ} أي عصمناه عن الفاحشة كذلك. {وَاسْتَبَقَا} تبادرا إلى {الْبَابَ} أما يوسف فللإعراض عن الفاحشة، وأما المرأة فللولوع بيوسف {وَقَدَّتْ} شقت {مِنْ دُبُرٍ} من خلف لأنها لحقته وتعلقت به لئلا يخرج من الباب {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} زوجها {قَالَتْ مَا} ¬

_ (¬1) المثبت من "أ"، وفي البقية: (أكرم الله تعالى). (¬2) الأظهر في قوله تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي} [يُوسُف: 23] المراد به سيده، وهو زوج امرأة العزيز التي راودته عن نفسه فهو الذي أحسن مثواه. وهكذا روي عن مجاهد والسدي. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 78)، وما ذكره المؤلف "إنه ربي" أي الله عزوجل، قاله ابن الجوزي في تفسيره (2/ 427). (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي في تفسيره وقال: هم الزناة لأن امرأة العزيز دعته إلى الزنا. [زاد المسير (2/ 427)]. (¬4) (كذا وبعد المواقعة) ليست في "أ". (¬5) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة، رواه عنهم الطبري في تفسيره (13/ 90 - 95) دون قوله: "مثلك قبل المواقعة كذا وبعد المواقعة كذا". (¬6) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والصوت الذي ناداه هوصوت جبريل -عليه السلام -. [زاد المسير (2/ 431)]. (¬7) رواه الطبري في تفسيره عن محمَّد بن كعب القرظي. [الطبري (13/ 98)].

جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} قالت لخوفها من ان يفضحها يوسف عند زوجها، وإنما أشارت بالسجن لصرفه عن بيعه وقتله، وقيل: لانعكاس المحبة لأن الشيء إذا تناسى (¬1) انعكس. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا (¬2)} مقاتل والضحاك: رجل كبير ابن عمها (¬3)، وقيل: رجل حكيم من قرابتها (¬4)، وقيل: ابن خالها وهو صبي في المهد (¬5)، وشهادته على طريق الاستدلال كشهادة خزيمة بن ثابت {مِنْ قُبُلٍ} قدام، واستدل بدلالة الحال، رجع الزوج إلى شهادته فتبين له أن الجناية (¬6) من قِبَلها. {يُوسُفُ} يا يوسف تغافل عن هذا الحديث فلا تذكره لأحد {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} دليل أن الزنا والبهتان كانا محظورين عندهم، وإنما لم يجاوز إنكاره وغيرته لأن عنته (¬7) كانت ذهبت بحميته. {وَقَالَ نِسْوَةٌ} اللائمات كن خمسًا؛ امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب (¬8)، أفشين حديثهما في البلد على ما جرت به عادة النساء {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي أصاب يوسف شغاف قلبها من حب، كما يقال كبده ورأسه إذا أصاب ذلك. والشغاف غلاف القلب، وقيل: حبة القلب، وهي (¬9) علقة سوداء في ¬

_ (¬1) في "ب""ي": (تناهى). (¬2) (من أهلها) ليست في "ي" "أ". (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 211) ولم يعزه لأحد. (¬4) ورد عن زيد بن أسلم عند ابن أبي حاتم (7/ 2129)، وقريبًا منه عن قتادة كما عند ابن جرير (13/ 109، 112)، وابن أبي حاتم (7/ 2129). (¬5) ذكره ابن جرير (13/ 106) عن سعيد بن جبير، وعن ابن عباس كما عند ابن جرير (13/ 107)، وابن أبي حاتم (7/ 2128)، وعن الضحاك عند ابن جرير (13/ 106). (¬6) في الأصل: (له الخيانة). (¬7) كون زوجها عنينًا ورد في روايات كثيرة. (¬8) ذكرهن القرطبي في تفسيره (9/ 151)، وذكره ابن الجوزي (4) وعزاه لمقاتل. (¬9) في الأصل: (وقيل).

صميمه، وإنما ضللنها (¬1) في رأيها لإيثارها عبدًا مملوكًا مقدورًا عليه موجودًا عنده على عزيز مصر. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دعتهن للضيافة {وَأَعْتَدَتْ} أحضرت وحصّلت {مُتَّكَأً} معتمدًا عليه، قيل: الطعام، وقيل: متكأً، قيل: هو الأترج، وقيل: الزماورد {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} دليل على طعام أو فاكهة يحتاج فيه إلى السكين، والسكين: الشفرة {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أمرتْه (¬2) لأنه كان لا يجد من الخدمة والائتمار بأمرها بُدًّا {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه من أن يكون {بَشَرًا} نصب (¬3) (بشرًا) لنزع الخافضة (¬4) {كَرِيمٌ} في حسن الصورة وصفاء الخلقة، وإنما عرضت المحبوب على صواحباتها لكون المحبوب مصونًا مأمونًا، أو لرجاء العون والإعانة. {فَاسْتَعْصَمَ} استمسك بالرشد والعصمة {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} وعيد منها، وذلك في حال امتزاج المحبة بحظوظ النفس قبل صفائها، فلما صفت المحبة قالت: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} الفعل منه مسندًا إلى الجملة متركبة من جواب (¬5) وقسم، وتقديره: ثم بدا لهم أن والله {لَيَسْجُنُنَّهُ} وهذا كقوله: نويت لأذهبن إلى فلان، وإنما بدا لهم ذلك لأنهم رأوا محبة يوسف وحبه، وتبرئة المرأة أسهل من تبرئة الغلام، وفضيحة المرأة وتشويش البيت، فاقدموا على تنحية البريء الصادق وتخلية الجانية الخائنة لمصلحة الحال بعد مشاهدة الآيات على الكيفية. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ضللها). (¬2) (أمرته) ليست في "ب". (¬3) روي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه وجمع من النحويين أن "بشرًا" منصوب لأنه خبر "ما" التي تعمل عمل ليس وهي لغة أهل الحجاز. [الدر المصون (6/ 488)، زاد المسير (2/ 436)]. (¬4) في "ب" "أ": (الخافض). (¬5) في "ب" ي ": (جو انب).

{وَدَخَلَ مَعَهُ} حصل معه داخل {السِّجْنَ} كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214] قال وهب: كانا عبدين لفرعون أحدهما خبازه والآخر ساقيه (¬1)، وكان سبب وقوعهما في السجن أن جماعة من أهل مصر خرجوا على فرعون وأرادوا المكر به، فرشوا إلى هذين، فضمنوا لهما مالًا ليسمّا فرعون فأجاباهم إلى ذلك. ثم ندم الساقي، وقبل الخباز الرشوة فسمّ طعام فرعون، فلما حضروا منه قال الساقي: أيها الملك لا تأكل فإن الطعام مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم، فقال فرعون للساقي: اشرب أنت هذا الشراب فشرب ولم يضره، وقال للخباز: كل هذا الطعام فأبى أن يأكله، فجرب الطعام على حيوان فنفذ السمّ فيه. فأمرهما الملك إلى السجن، فكانا في السجن سنة (¬2) فأتياه وقصّا عليه الرؤيا، قيل: إن الساقي قال: إني أرى وأنا في بستان فإذا أنا بأصل حَبَلة (¬3) عليها ثلاث عناقيد عنب فقطعتها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيها وسقيتُه (¬4) الملك فشربه، فقال يوسف: نِعْمَ ما رأيت، أما العناقيد الثلاث فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك اليوم الرابع وتعود إلى ما كنت عليه (¬5)، فقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فى أعلاها الأطعمة وإذا سباع الطير تقع عليها فتأكل منها، قال يوسف: أما السلال الثلاث فثلاثة أيام تبقى في السجن، ثم يخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك فقال: إني لم أر شيئًا وإنما كنت ألعب، فقال يوسف: إن رأيتما رؤياكما أو لم ترياها (¬6) فقد {وَقُضِيَ الْأَمْرُ ¬

_ (¬1) روي ذلك عن قتادة والسدي. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 152)، وابن أبي حاتم (7/ 2142). (¬2) قريبًا منه عن السدي عند الطبري (13/ 152)، وابن أبي حاتم (7/ 2142). وعن محمد بن إسحاق كما عند ابن جرير (13/ 151، 152)، وابن أبي حاتم (7/ 2142). (¬3) هي شجرة العنب كما في اللسان مادة (حبل). (¬4) في "أ": (وسقيت). (¬5) ابن جرير عن عكرمة (13/ 155). (¬6) في "ب": (تراها).

{الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (¬1) و (العصر) استخراج المائع من الشيء بالغمز، وإنما سمي العنب خمرًا لأنه يؤول إليها {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لعلم التعبير. وقول يوسف {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} الآية ليس بجواب عن سؤالهما ولكنه دعوة نبوته (¬2) وإظهار المعجزة، فإن ذلك عند وجود الفرصة كان أوجب عليه وأهمّ عنده من تعبير الرؤيا، فلذلك ابتدأ به. {بِتَأْوِيلِهِ} الضمير عائد إلى ما رأياه وسألا، وقيل: إلى الطعام، فإن أخذنا بالقول الأول ففائدته سرعة الجواب وذلك لا يكون إلا بوحي إلهي، فإن المستنبط يحتاج إلى تأمل واستخراج، وإن أخذنا بالقول الثاني فهو كقول عيسى -عليه السلام-: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ (¬3)} [آل عمران: 49] في محل الرفع لإسناد الإتيان إليه أو للابتداء وخبره ثم أخبر أن المعجزة النبوية مختصة بأولياء الله لا يؤتيها الكاذبين لئلا يلتبس النبي بالمتنبىء وقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} وتكرارهم للتأكيد. {مِنْ شَيْءٍ} أي شيئًا؛ فـ (من) صلة مؤكدة للنفي {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} دليل أن أسباب التوحيد مبتدأ من الله، وأن نعمة الدعوة عامة على الموقعين للإجابة، والمخذولين عنها بعد التمكين. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} سؤال على سبيل الإلجاء ومزية المدين الواجد، ظاهره يقال: لا يصلح سيفان في غمد وروحان في جسد. {إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} إن كان المراد عبادة المسميات أو عبادة ذوات الأسماء لم يتوجه الذم فإن الموحد يعبد شيئًا مسمى ونفى ذات اسم وهو محمود (¬4)، وإن كان المراد عبادة مسمّيات بغير أسمائها لم ¬

_ (¬1) قريبًا منه عند ابن جرير (13/ 167، 168)، وابن أبي حاتم (7/ 2148) عن ابن مسعود. (¬2) في الأصل: (نبوة). (¬3) (في بيوتكم) ليست في "ب". (¬4) في الأصل: (اسم وهو اسم محمود).

يتوجه أيضًا، فإن تغير الاسم غير تغير الصفة، فثبت أن المراد بعبادة الأسماء عبادة ألفاظ لا معاني لها لأنهم توهموا أرواحًا (¬1) قادرة (¬2) مدبرة وأنفسًا إلهية، فوضعوا الأسماء وزعموا أنها تحل (¬3) ما استحيوه في المشاهدة من جسد أو حجر أو شجر، وما توهموه معدوم، وما يشاهدونه يكون قبله فلا يبقي المعدوم إلا ألفاظًا مهملة لتدعوها بها، أي العبادة أو الأسماء أو الموهومات المسماة، {سُلْطَانٍ} بحجة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} دليل أن الله منفرد بمشيئة التكوين والإبقاء والإفناء لينفرد باستحقاق العبادة. {فَيَسْقِي رَبَّهُ} سيده {خَمْرًا} وصاحبه {ظَنَّ} تيقن (¬4) وعلم، وقيل: أراد غلبة أحد النقيضين من الموهوم؛ لأن يوسف لم يتيقن وإنما قال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} بأن الأمور معلقة بالأسباب، وطلب الخير مباح بالاكتساب كقوله لأعرابي: "اعقل ناقتك وتوكل" {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} أي الغلام الناجي {ذِكْرَ رَبِّهِ} عند ربه {بِضْعَ} ما بين الثلاث إلى التسع وأراد سبع سنين، وقيل: لبث سبعًا بعد خمس سنين. {إِنِّي أَرَى} وإنما لم يذكر النوم لدلالة الحال، وقال إبراهيم: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات: 102] لئلا يلتبس الرأي بالرأي الذي هو العزم {سِمَانٍ} جمع سمين كغلاظ وغليظ، وهو ضد المهزول، و (العجاف): المهازيل {سُنْبُلَاتٍ} جمع سنبلة والسنابل جمع تكسير. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} خبر مبتدأ محذوف كقوله: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] و (الضغث) حزمة أو باقة من بقل أو حشيش أو حطب، وإنما ¬

_ (¬1) (أرواحًا) سقطت من الأصل. (¬2) في "ب": (أرواحًا مدبرة). (¬3) في "أ" "ي": (تحلها). (¬4) إطلاق الظن بمعنى اليقين وارد في كلام العرب ومنه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ...} [الكهف: 53].

وصفوا بها لاختلاطها في الظاهر المعقول، و (الأحلام) جمع حلم (¬1). وأسباب الفكرة الرؤية في اليقظة وما رآه الملك كان رؤيا لا حلمًا فجعلوه (¬2) من الأحلام لقصور علمهم. {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد أجل معدود، وخطاب الغلام إن توجه للملك فهو على سبيل التعظيم كقوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] وإن توجه للملأ فهو ظاهر. سألوا وقالوا: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} سموه لتوحيده أو لتأويله. {دَأَبًا} لزومًا للزراعة واستمرارًا للعبادة جمع بين التعبير والنصيحة لأنه أراد مصالح العباد والبلاد. {يَأْكُلْنَ} أسند الأكل إلى السنين على طريق المجاز كقولك: ليل نائم وسيوف قائمة {قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} ادخاره لأجله لأجلهن {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} على سبيل التدريج تحرزون. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} إنما توصل إلى هذا العلم؛ لأن العجاف والسنبلات اليابسات كن عددًا محصورًا فعلم أن حكم ما وراءهن بخلافهن، وهذه السنون كانت معجزة إلهية ليوسف -عليه السلام- بسببها يخلص عن إفك النسوة وكيدهن، وبها تمكن من فرعون وقومه، وبها تسلط على إخوته فعفا عنهم، وبها وجد أبويه فرفعهما على العرش، ودعا نبينا -عليه السلام- على قريش سنين كسني يوسف (¬3) فابتلاهم الله بها. ¬

_ (¬1) أي: قال الملأ الذين سألهم ملك مصر عن تعبير رؤياه: رؤياك هذه "أضغاث أحلام" يعنون أنها أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها، فهي أحلام مختلطة. ولذا يطلق الحلم على ما لم يصدق من الرؤيا. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "الحلم من الشيطان". (¬2) في "أ": (فجعلوا). (¬3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع منها: (كتاب الأذان - 128، والاستسقاء (2)، والجهاد (98)، والأنبياء (19)، كما أخرجه مسلم في صحيحه في عدة مواضع منها: المساجد (294)، وأبو داود في سنة الوتر (10)، وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.

{مَا بَالُ} وما شأن، سؤال عن حال وأمر تقديره: ما بالهن إذ قطعن أيديهن. {إِذْ رَاوَدْتُنَّ} أسند إليهن قبل اعترافهن لأنهن كن قد تعاون وتظاهرن (¬1) في المراودة، ولذلك اختار السجن، وكان الأمر قد فشا في البلد واستفاض ولكن لا يعلمون هل مال إليهن يوسف أم لا؟ وهل أطاع بعضهن أم لا؟ فكان السؤال لاستبانة هذا المستتر فبرأنه و {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} و {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر وتبين الحق أي (¬2) حقيقة الأمر. {ذَلِكَ} أي توقفي في السجن ومطالبتي بالسؤال إنما كان {لِيَعْلَمَ} الملك {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بتحريف (¬3) الغيب الذي أوحاه الله إليّ في تأويل رؤياه كما لم أخن العزيز، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته في ظهر الغيب (¬4)، وقيل: إنه من كلام المرأة، أي أعترف (¬5) بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه بظهر الغيب في الافتراء عليه، إلا أنه يشكل بقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} بفتح الهمزة فإنه معطوف على المعلوم الأول وذلك لا يكون إلا من يوسف. ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (ويظاهرن). (¬2) (أي) من الأصل و"أ". (¬3) في "ب" كتبت كلمة غريبة. (¬4) يجوز أن يكون القائل هو يوسف وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك، وجائز أن تحكى عن شحص شيئًا ثم تصله بالحكاية عن آخر، ونظير هذا قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعرَاف: 110] هذا قول الملأ ثم قال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] قول فرعون. ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] هذا قول بلقيس، ثم قال {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] هو من قول الله تعالى. ومنه أيضًا: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] هذا قول الكفار، ثم قال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] هو من قول الملائكة. لذا فإن قوله: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يُوسُف: 51] هو من قول امرأة العزيز، ثم قال تعالى بعده: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يُوسُف: 52] وهو من قول يوسف. (¬5) في "ب" "ي": (اعتراف).

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أراد التنبيه على توفيق الله وعصمته ونفي الزنا والعجب {إِلَّا مَا رَحِمَ} استثناء منقطع (¬1)، أي لكن من رحم ربي فهو المعصوم، وقيل: استثناء متصل تقديره إلا رحمة من ربي، وقيل: هو كلام المرأة برأت يوسف ولم تبرىء نفسها. {أَسْتَخْلِصْهُ} أجعله من خواصي كي لا يشغل إلا بمصالح أمري، فلما دخل عليه يوسف كلمه بلسان أهل مصر فجعل الملك يكلمه بألسنة أخرى وجعل يوسف يجيبهُ بتلك الألسنة حتى تكلما سبعين لغة، ثم إن يوسف دعا له بالعبرية وأثنى عليه بالعربية فلم يعرفها الملك وانقطع عن الجواب، واستحسن جميع ذلك من يوسف فقال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} المكين اسم من المكان والتمكين قيل: دعاه إلى توحيد الله فأجابه الملك في هذا اليوم طائعًا راغبًا فقوله: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} إيمان واعتراف منه له، وقيل: جعله مكينًا أمينًا هذا اليوم في أمور الدنيا والإِسلام تأخر عن ذلك اليوم إلى سنتين، وقيل: تأخر إسلامه إلى سني القحط. {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} خطب هذا العمل بإذن الله تعالى ليتم القضاء المعدود فيه وفي إخوته في (¬2) أهل مصر أجمعين. جاء في التواريخ أن الملك ولاه حفظ خزائن الارتفاعات يومئذ، ومات العزيز بعد ذلك فولاه جميع ما كان يتولاه العزيز، وزوَّجه امرأته فوجدها بكرًا لم تفض، ثم تأمل في حسن تدبيره وكيفية ادِّخاره الميرة وإنفاقها وبيعها من الناس، زاد في رتبته وسلم إليه الخاتم والسرير والتاج، فقال يوسف -عليه السلام-: أما ¬

_ (¬1) قال ابن عطية: هذا قول الجمهور، وجوَّز أبو البقاء العكبري أن تكون "ما" في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمان العام المقدر وهذا لا يجيزه الجمهور. وقيل: هو مستثنى من الضمير المستكن في "أَمَّارة" كأنه قيل: إن النفس لأمارة بالسوء إلا نفسًا رحمها ربي فيكون أراد بالنفس الجنس، فهو مثل قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] وإلى هذا نحا الزمخشري. [الكشاف (2/ 327)، الإملاء (2/ 54)، المحرر (9/ 321)]. (¬2) في "أ" "ي": (وفي).

الخاتم فأستعمله لإصلاح مملكتك، وأما السرير فأجلس عليه لنظام أمرك، وأما التاج فليس من لباسي في الدنيا، قال الملك: إن لم تلبس التاج لم ألبسه إجلالًا لك واستنانًا بسنتك واقتداءً بك، فإنما أنا تابع لك، وبقيا بعد ذلك كذلك، أما يوسف فكالملك وأما الملك فكالطفل المولى عليه حتى اشترى بالميرة المدخرة صنوف أموال أهل مصر العين والحلي والمواشي والعقار (¬1) والرقيق، ثم استرق (¬2) بها أولادهم ورقابهم وهم شاكرون له معترفون برفقه ورحمته وحسن تدبيره، ثم قال للملك (¬3): كيف ترى ما صنع الله بي من لطفه وما خولني من نعمته، قال الملك: الرأي رأيك والأمر أمرك وأنا لك كبعض أهل مصر. فعند ذلك أعتقهم يوسف لوجه الله تعالى ورد إليهم أموالهم وردّ الخاتم والسرير إلى الملك بشرط الثبات على الملة الحنيفية وحسن الجوار مع أهل بيته، قالوا: فوفى له (¬4) الملك إلى أن توفي هذا الملك وقام مقامه قابوس بن مصعب (¬5) فهو الذي نكث العهد وارتد عن الرشد. {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} عام في المؤمنين وغيرهم، والدليل استفادة (¬6) الكافر المحسن في سيرته بقاء (¬7) الملك وحسن الثناء عليه، ولذلك خص المؤمنين في الآية الثانية بأجر الآخرة وهو ما أعدَّ الله للمؤمنين (¬8) في الآخرة فذلك خير. {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} لما عزت الميرة بأرض كنعان وسمعوا بأن رجلًا يمير الناس قصدوه مع كل واحد منهم بعيره، فدخلوا عليه على زيّهم ¬

_ (¬1) في "أ": (العقارب). (¬2) في "أ": (استتر). (¬3) في الأصل: (الملك). (¬4) (له) ليست في الأصل. (¬5) ذكره أبو السعود في تفسيره (4/ 262)، والزمخشري في الكشاف (1/ 577). (¬6) في الأصل: (إسعاده) وهو خطأ. (¬7) في "أ": (بقاء ملك الملك). (¬8) من قوله: (في الآية الثانية) إلى هنا ليست في "أ".

المعهود، {فَعَرَفَهُمْ} وهم لم يعرفوه لأنهم شاهدوه على غير زيّه المعهود، {وَهُمْ لَهُ} إياه {مُنْكِرُونَ}. {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} والتجهيز أن تصحب الغائب حاجته والجهاز اسم منه، {بِأَخٍ لَكُمْ} بنيامين (¬1)، فيه دليل أن يوسف -عليه السلام- بدأ بذكره ولو بدأوه لقال بالأخ لكم أو بأخيكم، روي أنه قال لإخوته: من أنتم؟ قالوا: نحن أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقال: ولدكم ثلاثة من الأنبياء ما تشبهون أن تكونوا كذلك، وأوعز إلى الوكيل بإكرامهم وحُسْن قِراهم، فلما دخلوا عليه ثانيًا من الغد فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: أخبرناك بالأمس، قال: أنتم باللصوص أشبه، وتجمعهم ونظر إليهم شزرًا، فقالوا فيما بينهم: هذا العزيز يكرمنا ويحسن قرانا إذا غبنا عنه ويتجهمنا وينظر إلينا شزرًا إذا حضرناه! فلا يكونن سامعًا بما صنعنا بأخينا فإنه قاصمة الظهر والبلاء الفادح والأمر الفاضح. ودخلوا عليه بعد ذلك والصاع بين يديه، فقال للحاجب: انقره نقرة، فنقر الحاجب فطنَّ طنينًا، قال لإخوته: أتدرون ما يقول هذا الصالح؟ قالوا: لا، قال: يقول: إنكم خائنون سارقون خنتم أباكم وبعتم أخاكم وأحلتم الذنب على الذئب، ثم أمر الحاجب فنقر الصاع نقرة أخرى قال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: يقول: طرحتم أخاكم في البئر وبعتموه بثمن يسير، فتعجبوا وألجموا (¬2) عن الجواب وخرجوا من عنده، ثم أمر الوكيل بتجهيزهم ودس بضاعتهم في أحمالهم وهم لا يعلمون، وقال لهم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} ووعدهم على ذلك إيفاء المكيل (¬3) وحسن القرى. {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ} هذا وعيد من يوسف -عليه السلام-، وإنما ¬

_ (¬1) بنيامين هو أخو يوسف لأبيه وأمه روي ذلك عن قتادة، أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 225)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2163). (¬2) في "ب" "ي": (وأفحموا). (¬3) في "أ": (الكتاب).

عطف المجزوم على المرفوع حكمًا لحسن دخول الفاء الموجبة للرفع على هذا المجزوم. {فِي رِحَالِهِمْ} جمع رحل وهو ما ترحل به الدابة من بيت أو أثاث أو طعام {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} (¬1) يميزونها من سائر ما في رحالهم إذا فتحوا فلا يتعذر عليهم الرجوع لإعواز البضاعة. {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} في المستقبل لقوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ} الآية. {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ (¬2) قَبْلُ} ذكرهم حديث يوسف -عليه السلام- ليعلم أن جريمتهم الأولى جرّت تهمتهم في سائر الأمور، فيندموا عليها ولا يقدموا على مثلها. {مَا نَبْغِي} بمعنى الاستفهام، أي أيش نطلب بعد هذا، وقيل: التمسوا بضاعة للرحيل فلم يقدروا عليها، ثم فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم الأولى ردّت إليهم، فقالوا: يا أبانا وجدنا الذي كنا نبغيه، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} نجلب إليهم الميرة، يقال: مار فلان أهله (¬3)، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} لأن يوسف -عليه السلام- ما كان يكيل رجلًا واحدًا إلا حمل بعير واحد، وذلك إشارة إلى ما حملوه فيكون اليسير القليل، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ازدادوه فيكون اليسير سهل المأخذ. {مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} من الحلف بالله، وفيه دلالة على صحة الكفالة بالنفس {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ} يحيط {بِكُمْ} أمر من الله تعالى فيعذركم {وَكِيلٌ} ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (يعرفون). (¬2) (من) من "ب" "ي". (¬3) قال ابن قتيبة: يقال: مار أهله يميرهم ميرًا وهو مائر لأهله: إذا حمل إليهم أقواتهم من كير بلده، ومنه قول الشاعر: بعثتك مائرًا فمكثتَ حولًا ... متى يأتي غِيَاثُكَ من تُغِيثُ [تفسير الطبري (13/ 233)، زاد المسير (2/ 455)].

المتوكل عليه على حفظ ميثاقنا، أو الشهادة على هذا الميثاق موكولة (¬1) إليه لا يشهد عليه أحد سواه. {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} تخوفًا من العين، وقال جبريل -عليه السلام- لنبينا -عليه السلام-: "يا محمَّد صدّق بالعين فإن العين حق" (¬2). ما كان أبوهم يغني عنهم من قضاء الله وقدره شيئًا بتحذيره إياهم العين {إِلَّا حَاجَةً} لكن تحذيره {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أمضاها وأظهرها، والحاجة قضية النفس جمعه حوائج، وقيل: أصله حائجة {لِمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه وللذي علمناه من الأنبياء. {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} قيل: إن يوسف أقعدهم على مائدته وأخذ كل اثنين قصعة وجلس بنيامين وحيدًا، فسأله يوسف عن حاله فقال: إني مصاب بأخي من أمي فبقيت فردًا، فرقَّ عليه يوسف -عليه السلام- وضمَّه إلى نفسه على المائدة وقال: أنا وحيد مثلك، ثم تعرف إليه وقال: لا تبتئس ولا تكتئب بصنيعهم إليّ فإن الله قد عصمني ونصرني، فاستبشر (¬3) بنيامين بقول أخيه وسكن إليه ولم يظهر ذلك على سائر إخوته لاستيحاشه. {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} روي أن بنيامين لما عرف يوسف ووجده بعد اليأس اشتد عليه فراقه وأحبَّ المقام معه فطلب من يوسف أن يمسكه، فقال له يوسف: قد علمت ما فيه أبونا من الحزن والغم ولا يمكنني حبسك إلا بأن أتهمك بما لا يحل، قال: لا أبالي بما اتهمتني به ولست براجع معهم، ففكر (¬4) يوسف في ذلك فألهمه الله تعالى هذه الحيلة ¬

_ (¬1) في "ب": (من له). (¬2) ابن عساكر في تاريخه (24/ 461) وسنده ضعيف. لكن ورد في البخاري (10/ 166)، ومسلم (7/ 13) وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "العين حق". (¬3) في الأصل: (فاستنثر). (¬4) في "ب": (فذكر).

ليتم قضاؤه في ابتلاء آل يعقوب، و (السقاية): مكيال الملك عن مجاهد (¬1)، وعن أبي عبيدة: مكيال كان يسمى سقاية، ابن عباس والحسن والضحاك (¬2): الصّاع والسقاية شيء واحد، ويحتمل أنها كانت مكيالًا يكيلون به الخمر كالدورق فاتخذها يوسف -عليه السلام- مكيالًا للطعام، {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} الإبل والحمير التي يحمل عليها كقولك: يا خيل الله اركبي، {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قول المؤذن لم يكن أمره يوسف إلا بتعريف الصاع فقط، ويحتمل على أنه على سبيل الاستفهام، ويحتمل أنه وصفهم بالسرق لاستراقهم يوسف من أبيه. {قَالُوا} يعني إخوة يوسف، {وَأَقْبَلُوا} على أصحاب يوسف تقديره: قالوا وقد أقبلوا {مَاذَا تَفْقِدُونَ} يطلبون الغائب. {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وعد بالجُعْل {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} صريح بالكفالة والتزام للضمان وإليه يعود قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)} [القلم: 40] قال -عليه السلام-: "المنحة (¬3) مردودة والدين مقضي والزعيم غارم" (¬4) والكفالة لا تصح إلا بقبول (¬5) المكفول له؛ لأنه عقد ضمان كالبيع، أو عقد تبرّع كالهبة. {تَاللَّهِ} يمين، قال الفراء: لا تدخل التاء على غيره من الأسماء؛ لأنه لما كثر دورها على ألسنتهم بالواو جعلوا الواو كأنها من نسج الكلمة، فتارة حذفوها وتارة أبدلوها بالتاء (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 245)، عن مجاهد وعن قتادة أيضًا وابن أبي حاتم في تفسيره عنهما (7/ 2171). (¬2) أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (13/ 245 - 246). (¬3) في الأصل: (المحنة). (¬4) الترمذي (1265)، أحمد (5/ 267، 293)، والطيالسي (1128)، والطبراني في الكبير (7615، 7621)، وسعيد بن منصور (427)، والحديث حسن. (¬5) في "أ": (بقول). (¬6) انظر: معانى القرآن للفراء (2/ 54).

{فَمَا جَزَاؤُهُ} حكمه وحده والهاء عائد إلى الفعل وهو السّرق، إنما سألهم يوسف ليحكموا بشيء فيأخذ بحكمهم ولا يأخذ بحكم أهل مصر. {قَالُوا جَزَاؤُهُ} أي السرقة، وحدُّها هو حبس {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} واسترقاقه {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فما بينا شريعتنا، (الوعاء): الظرف، والمراد به الجوالق، وإنما بدأ بأوعيتهم لئلا يعلموا بأنه حيلة {اسْتَخْرَجَهَا} أي الصاع وهو يذكر ويؤنث. {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} في سلطان الملك (¬1) وطاعته إلا بمشيئة الله، قيل: شاء الله ذلك وأذن له فيها بإلهامه الكيد، ويقال: لم يشأ الله ذلك ولذلك وفقه لسؤال إخوته {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} فأخذ بقولهم وحكمهم دون حكم الملك. {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ} يعنون يوسف، وهب: أنه خبأ طعامًا من المائدة للفقراء وكان صبيًا (¬2)، كعب: رفع عناقًا عن السائمة إلى السائل، قتادة وابن جبير: سرق (¬3) صنمًا كان لأبي أمه في بيت يعقوب فألقاه بين الجيف وغطاه في التراب، مجاهد (¬4): أن عمّته رحمة بنت إسحاق احتضنته بعد موت أمه، فلما شب ألفَتْه ولم تحب أن ينتزعه يعقوب -عليه السلام- منها، فشدت على وسطه من تحت القميص منطقة أبيها، ثم افتقدتها فأوهمت أنها وجدته عند يوسف وأنه كان استرقها، فأمسكته عند نفسها بهذه ¬

_ (¬1) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والضحاك، أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (13/ 264)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2176)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 27) إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ. (¬2) رواه عطاء عن ابن عباس كما في زاد المسير (4/ 263)، ورواه عن عطية كما عند ابن جرير (13/ 273). (¬3) أما عن سعيد بن جبير فذكره ابن جرير (13/ 272، 273)، وابن أبي حاتم (7/ 2177)، وأما عن قتادة فرواه ابن جرير (13/ 273)، وهو مروي عن زيد بن أسلم وابن عباس. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 363).

الحيلة، فلما ذكر إخوة يوسف ذلك الأمر بأقبح صورة، فساء يوسف قولهم: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} منزلة. {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقل: إلا السارق لأنه علم أن بنيامين ليس بسارق، فلذلك عرض قوله: {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} إن أمسكنا غير بنيامين لأن بنيامين (¬1) كان راضيًا بالإمساك وغيره لم يكن راضيًا به. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا} افتعال من اليأس أو من الإياس (¬2)، {خَلَصُوا نَجِيًّا} خرجوا متناجين {أَلَمْ تَعْلَمُوا} تفريطكم فيه من قبل {كَبِيرُهُمْ} كعب: أنه روبيل أكبرهم سنًا (¬3)، وهب: يهودا كان أرجحهم عقلًا (¬4)، {أَبْرَحَ} أزول {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ} في تخليص بنيامين والرجوع معه. {إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} أي بما علمنا من طريق المشاهدة، وهو استخراج الصاع من رحله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} لما لم نشاهده من كيفية (¬5) الدس: أكان كدس البضاعة في رحالنا أول مرة، أو كان خيانة من جهة بنيامين؟. كان يعقوب -عليه السلام- برده عليهم بقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (¬6) صادقًا لأن بنيامين لم يكن سرق في الحقيقة، وفي {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} صادقًا أيضًا؛ لأن هذه الحادثة الثانية كانت من جريرة أنفسهم إياهم أول مرة في شأن يوسف -عليه السلام- {بِهِمْ} بيوسف وبنيامين وكبيرهم. ¬

_ (¬1) (لأن بنيامين) ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (الباس). (¬3) هذا مروي عن قتادة كما عند ابن جرير (13/ 283)، وابن أبي حاتم (7/ 2181). وأما عن كعب فلم نجده. (¬4) عزاه لابن عباس من طريق أبي صالح ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 266). (¬5) في "ب": (لا من كيفية). (¬6) (أنفسكم أمرًا) ليست في "ب" "ي".

{يَا أَسَفَى} تأسف {عَلَى يُوسُفَ} والتأسف التلهف (¬1)؛ لأن المحن توالت بعد غيبته فتأسف على حالة وجوده وحضوره عنده، {تَفْتَأُ} لا تفتؤ، أي لا تزال، وحذف (لا) مع الأيمان جائز (¬2)، {حَرَضًا} والحرض الحزن وفساد الجسم بشيء (¬3). (البث) أشد الحزن (¬4) و {إِنَّمَا} جمع (¬5) للتأكيد، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} من لطفه وصنعه. {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا} كان يعقوب -عليه السلام- غير شاكِّ في يوسف أنه لم يأكله الذئب، ولم يقتله (¬6) إخوته، ولم يقبضه ملك الموت بعلمه بأن الله ¬

_ (¬1) التأسف هو الحزن، فالمعنى: يا حزنًا على يوسف، روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وقتادة والضحاك. أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (13/ 294). (¬2) قوله: "تفتأ" هو جواب القسم في قوله: "تالله" وهو على حذف "لا" ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتًا لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معًا عند البصريين، أو أحدهما عند الكوفيين. وهي ناقصة بمعنى - لا تزال- فترفع الاسم وهو الضمير، وتنصب الخبر وهو الجملة من قوله: "تذكر". وسقوط (لا) منها ومن غيرها معروف في كلام العرب، تقول العرب: والله أقصدك أبدًا: أي لا أقصدك، ومنه قول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرحُ قاعدًا ... ولو قَطَّعوا رأسي لديْكِ وأوصالي [الكشاف (2/ 339)، البحر (5/ 326)، المحرر (9/ 360)، الدر المصون (6/ 546)]. (¬3) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن "الحرض" هو الذاهب عقله، الدنف الجسم الذي بلغ به المرض جهدًا. وقال أبو عبيدة: هو الذي أذابه الحزن -أي أذاب عقله وجسمه- وقال الزجاج: الحرض هو الفاسد في جسمه، وكذا قال الفراء. [تفسير الطبري (13/ 303)، زاد المسير (2/ 464)، معاني القرآن للفراء (2/ 54)، معاني القرآن للزجاج (3/ 126)]. (¬4) قاله ابن قتيبة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "بثي" هَمِّي. تقول: بثثته أي فرقته، ومنه قول ذي الرمة: وقفت على رَبْعٍ لميَّةَ ناقتي ... فما زِلتُ أبكي عنده وأُخاطِبهْ وأسقيه حتى كاد مما أبثهُ ... تُكَلِّمُنِي أحجاره وَمَلاعِبُهْ [تفسير القرطبي (9/ 251)، زاد المسير (2/ 465)]. (¬5) في "ب" "ي": (بشيء) وهو خطأ. (¬6) في الأصل "ب": (يقتله).

سيجتبيه ويعلِّمه من (¬1) تأويل الأحاديث، وبحق رؤياه، ولكنه كان يحزن لفقده، فلذلك أمر بنيه أن يتحسسوا من أمره، وإنما أمر الذين غيّبوه لأنه (¬2) لا يجد غيرهم أو لأنه كان أحس بشيء من ندامتهم، و (التحسس) طلب الإخبار بالحس. ابن عباس: التحسس والتجسس مقاربان إلا (¬3) أن الحاء في الخير والجيم في الشر (¬4). {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} الروح الرحمة (¬5) والراحة والفرج. {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} من متاع البادية، وهو الصوف والسمن والأقط، عن عبد الله بن [الحارث (¬6). والصنوبر والحبة الخضراء عن أبي صالح (¬7). والحِبال، عن ابن] (¬8) زيد (¬9). والمزجاة: القليلة اليسيرة التى تبتلغ (¬10) به ويزجى به العيش ولا يدخر، وقيل: هى التى لا تصلح للنقل من يد إلي يد فهي مصرف إلي الوجوه، ولا تمسك ولا تكنز {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} قيل: المحاباة فى البيع، وقيل: الصدقة الظاهرة لأن الصدقة لم تكن محرمة عل آل نبينا ولو كانت محرمة (¬11) على آل إبراهيم لحرمت على ربيعة ومضر، ولو كانت محرمة على آل يعقوب كانت محرمة على بني إسرائيل اليوم. ¬

_ (¬1) (من) من "ب". (¬2) في "ب": (لأنهم). (¬3) (إلا) ليست في الأصل. (¬4) لم نجده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والمعنيان متباينان من حيث المعنى. (¬5) هكذا روي عن قتادة والضحاك. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 314)، وابن أبي حاتم (7/ 2190)، أما الراحة والفرج فهما من رحمة الله لا تنفك عنها. (¬6) ابن جرير (13/ 319)، وابن أبي حاتم (7/ 2191). (¬7) ابن جرير (13/ 319، 320)، وابن أبي حاتم (7/ 3191). (¬8) ما بين [...]، ليست في الأصل. (¬9) لم أجده عن ابن زيد وإنما وجدت قريبًا منه عن ابن عباس عند عبد الرزاق (1/ 328)، وسعيد بن منصور (1141)، وابن جرير (13/ 318)، وابن أبي حاتم (7/ 2191). (¬10) في "أ": (تتبع). (¬11) من قوله: (إلا على آل) إلى هنا ليست في "أ".

{هَلْ عَلِمْتُمْ} على سبيل العتاب لئلا يعتقدوا أن لا ملام عليهم في الحقيقة أو الندامة والخجل عند العتاب، وإنما ذكر جهلهم ليمهّد لهم عذرًا فلا يخافوا (¬1) كل الخوف كقوله: {يَعْمَلُونَ (¬2) السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] وأراد علمهم بقبح صنيعهم (¬3) فكأنه يقول (¬4): هل تبين؟ هل وضح لكم قبح ما صنعتم بيوسف وأخيه إذ كنتم جاهلين فالعامل (¬5) في (إذْ) صنعهم (¬6)، أما صنيعهم (¬7) بيوسف فظاهر وصنيعهم بأخيه سلبهم أخاه وتركه فردًا وحيدًا، وتركهم إياه عند يوسف متهمًا بالسرقة من غير بينة واعتراف، إذ يمكنهم أن يقولوا أنت أمرت بدس الصاع في رحله (¬8)، كما أمرت بدس بضاعتنا في رحالنا أول مرة. {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} زاد الجواب لئلا يفرد نفسه بالثناء عليها فيتداخله العجب فيردّه من حيز الشكر إلى حيز الفقر. {آثَرَكَ} اختارك {لَخَاطِئِينَ} آثمين من الخطأ (¬9)، والخطيئة: الإثم وتعمد الخطأ. {لَا تَثْرِيبَ} لا تقريع وتقرير الذنوب. {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي} قيل: كان القميص من كسوة الجنة كساه الله ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (يخافون). (¬2) (يعملون) ليست في "أ" "ب". (¬3) في "ب": (قبح صنيعكم)، وفي "ي": (قبح صنيعهم). (¬4) في "ب": (قال). (¬5) في الأصل و"أ": (قالوا بل). (¬6) في "ب": (صنيعهم). (¬7) في "ب": (صنيعهم). (¬8) في "ب": (رحل). (¬9) هكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ذكره ابن الجوزي في تفسيره. قال ابن الأنباري: اختير "خاطئين" على "مخطئين" وإن كان "أخطأ" على ألسن الناس أكثر من "خطىء يخطأ" لأن معنى خطىء أثم ومعنى أخطأ يخطئ فهو مخطئ ترك الصواب ولم يأثم. [زاد المسير (2/ 469)].

إبراهيم وإبراهيم إسحاق وإسحاق يعقوب، ثم طيه في قصته وعلقها من يوسف -عليه السلام-، وقيل: هذا القميص الذي قدّ مِنْ دبر جعله الله آية له ومعجزة على صدق دعواه {يَأْتِ بَصِيرًا} يعود كما كان لا بياض في مقلته. {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} إنما وجد لرفع الله الابتلاء وكشفه حجب الفراق وتعويضه منها أسباب الوصال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لربكم نفحاتٍ في أيام دهركم فتعرضوا لها فعسى أن تدرككم فلا تشقوا أبدًا" (¬1) {تُفَنِّدُونِ} نسبة إلى الفند وهو الخوف وضعف الرأي، فكأنه يقول: إني لأفندكم علمًا بوجودي ريح يوسف لولا تفنيدكم إياي، وذلك لامتناع (¬2) وقوع العلم لهم بصدق مخبره بعد تفنيدهم إياه. {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} قول أولاد أولاده ضللوه مثل آبائهم من قبل، {الْقَدِيمِ} المقدوم كونه (¬3). {جَاءَ الْبَشِيرُ} هو الذي كان ابتدأ بقوله: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} و {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ}، وقيل: هو الذي كان تخلف بأرض مصر (¬4) وقال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} عجل يوسف الاستغفار عند اعترافهم ورجا (¬5) يعقوب استغفارهم ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 519) عن محمَّد بن مسلمة. قال في "المجمع (10/ 231): وفيه من لم أعرفهم، ومن عرفتهم وثقوا. وضعفه الألباني -رحمه الله- كما في ضعيف الجامع (2/ 1915). (¬2) في الأصل: (امتناع). (¬3) أي خطاك القديم كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، ويعنون به حبه ليوسف وحزنه عليه. [تفسير الطبري (13/ 342)]. وأما قول المؤلف: إن الذين خاطبوه هم أولاد أولاده، فقد روي ذلك عن ابن عباس ذكره ابن الجوزي في تفسيره (2/ 471) وعللوا ذلك بأن بنيه كانوا بمِصْر. (¬4) "البشر" هو البريد الذي أرسله يوسف -عليه السلام- وهو المبشر برسالة يوسف، وهو يهوذا بن يعقوب أخو يوسف لأبيه، هكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وابن جريج والضحاك. رواه عنهم الطبري في تفسيره (13/ 344)، وابن أبي حاتم (7/ 2199). (¬5) في "أ" "ي": (واحار).

{سَوْفَ} (¬1) عند مطالبتهم إياه به، والانتفاع من المصلحة، وهذا مَثَل في وقار المشايخ، (دخلوا عليه) في ناحيته ومعسكره، وكان قد استقبلهم في الطريق واستقبلهم فرعون كذلك إكرامًا ليوسف، والمراد بأبويه أبوه وخالته (¬2) وهي بعض إخوته، ولفظة {ادْخُلُوا} على معنى الخبر كقول الشاعر (¬3): ... لدوا للموت وابنوا للخراب ولذلك دخله الاستثناء، وقيل: الاستثناء للأمن لا للدخول، {آمِنِينَ} نصب على الحال، وذكر الأمن لئلا يظن إخوته أنهم يكونون في مصر كالأسارى والأرقاء. {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ذكر السجن ولم يذكر البئر لأن البئر كانت سجنًا كذلك فالاسم مشتمل عليهما، وقيل: لئلا يخجل إخوته {مِنَ الْبَدْوِ} البادية، {لَطِيفٌ} ملطف (¬4) {لِمَا يَشَاءُ} من الأعمال، وقيل: رقيق العمل لما يشاء (¬5) قوله: {آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} اعتراف بالنعمة وسكن (¬6) للمنعم، وقوله: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} توكل على الله وانقطاع إليه، وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} تقرب إلى الله بسؤال ما ¬

_ (¬1) في الأصل: (لسوف). (¬2) هذا صحيح لأن أهل السير ذكروا أن والدة يوسف توفيت قديمًا، كما قال ابن عباس والجمهور، وممن قال أنها الخالة وهب كما عند ابن أبي حاتم (7/ 2201)، وسفيان بن عيينة كما في الدر المنثور (8/ 339). (¬3) هذا البيت لأبي العتاهية وهو في ديوانه ص 33، وقيل: لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في خزانة الأدب (9/ 529) ولفظ البيت: لِدُوا للموتِ وابنوا للخراب ... فَكُلُّكمُ يَصِيْرُ إلى ذهابِ (¬4) قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعَالى ومعناه: الرفيق بعباده، وقد تجلى لطف الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليوسف في عدة مواطن منها أنه أخرجه من السجن وجاء بأهله من البدو وأنه نزع من قلبه نَزْغ الشيطان وتحريشه على إخوته. [تهذيب اللغة (لطف)، تفسير الطبري (13/ 364)]. (¬5) في الأصل: (رقيق القلب قوله). (¬6) في "ب": (شكر).

أوجبه الله تعالى له حتمًا ليكون الواجب موجودًا على سبيل الاختيار دون الاضطرار {لَدَيْهِمْ} عند إخوة يوسف -عليه السلام-. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} تعزية للنبي -عليه السلام-. {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} المرور على الشيء وبالشيء واحد وهو الطواف، والمراد به مشاهدة هذه الآيات. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} إيمان باللسان، وأهل الملك يوحدون الله بألسنتهم ثم يشركون. {هَذِهِ} إشارة إلى السبيل؛ أي هذه السبيل {سَبِيلِي} وهي الملة الحنيفية {عَلَى بَصِيرَةٍ} بيان ويقين {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} خلفاؤه والأئمة المهديون والعلماء الراسخون والمؤمنون {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} من أن يشاركه شريك أو يزاحمه مليك. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} نزلت (¬1) لنفي تعجبهم من نبوة نبينا -عليه السلام- متوهمين أن النبي -عليه السلام- لا يكون بشرًا أو لا (¬2) يسكن فيما بين العشيرة والأهل، وليس في الآية امتناع ذلك. {وَظَنُّوا} أي المنافقين والكفار بأن الرسل {قَدْ كُذِبُوا} فيما وعدوا أو ظن الرسل بأن أصحابهم كذبوهم في إظهار الموالاة. ... ¬

_ (¬1) ذكر ابن عباس كما عند ابن أبي حاتم (7/ 2210)، أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وعن ابن جريج قال أنهم قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] كما عند ابن جرير (13/ 381). (¬2) في "ب": (ولا يسكن).

سورة الرعد

سُورَةُ الرَّعْدِ مكية (¬1)، وعن قتادة: مدنية (¬2)، وعن الحسن (¬3): مدنية إلا آيتين {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ} [الرعد: 31]، الكلبي: الآية نزلت في عبد الله بن سلام (¬4)، وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد: 43]. وهي أربع وأربعون آية حجازي (¬5). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ قوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} رفع بالابتداء والحق (¬6)، ثم الجملة عطف ¬

_ (¬1) الذي قال بمكيتها: ابن عباس كما في "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس (535)، وسعيد بن جبير كما عند ابن أبي شيبة (3/ 237). وهو منقول كذلك، عن الحسن وعطاء وقتادة كما عند ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 300). وزاد القرطبي (9/ 237) عكرمة وجابر. (¬2) وروى أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس كما في الدر المنثور (8/ 359)، وزاد ابن الجوزي في الزاد (4/ 300) عطاء وجابر بن زيد، وزاد القرطبي (9/ 237) الكلبي ومقاتل. (¬3) هذا مروي عن ابن عباس من طريق أبي صالح كما في زاد المسير (4/ 300). (¬4) لم نجده عن الكلبي. (¬5) كما في "البيان في عدِّ آي القرآن" (169)، وفي الكوفي (43) آية، وفي البصري (45) آية. (¬6) أي أن الحق خبر المبتدأ ويجوز أن يكون الخبر هو "من ربك"، وعلى هذا يكون "الحق" خبرًا لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الحق، ويجوز أن يكون الحق خبرًا ثانيًا، وجَوَّز أبو البقاء والحوفي أن يكون "من ربك الحق" كلاهما خبر واحد، كما جوز أبو البقاء أيضًا أن يكون "الذي" وصلتها صفة لـ"الكتاب". [الإملاء (2/ 60)، الدر المصون (7/ 5)].

على الجملة الأولى، وقيل: خفض بالعطف على الكتاب {الْحَقُّ} خبر مبتدأ محذوف أي ذلك الحق. {بِغَيْرِ عَمَدٍ} جمع عماد كأهَبْ وإهاب على سبيل الخلقة والطبيعة، وقيل: على سبيل القهر والحبس، وقيل: بعمد لا {تَرَوْنَهَا} لأن الفتق بالرياح (¬1) وهي أجسام غير ملونة {لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يوم القيامة، وقيل: وقت الغروب وكذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]. {رَوَاسِيَ} هي (¬2) الجبال الراسية جعلها الله تعالى للأرض كالأوتاد فهي من السهلة بمنزلة العصب والعظم من اللحم ليعتمد الرخو الصلب فلا تنحل، والصعيد والأرض بتناول السهل والجبل {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الذكر والأنثى إن كان المراد بالثمرات ثمرات النفوس (¬3) المتشابهات المتجانسات، وإن كان ثمرات النبات، ووجه التأكيد نفي التوحيد كما في قوله: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51] ويحتمل أن المراد بالزوجين اثنين الرطب واليابس، أو الجيد والرديء، أو المستطاب والمستبشع، أو الريعي والحرفي، أو ما يصلح للناس والدواب. ¬

_ (¬1) إذا قلنا إن الضمير في "ترونها" يرجع إلى العمد فإن المعنى يكون: بعمد لا ترونها. وروي هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وإن قلنا إن الضمير يرجع إلى السماوات فيكون المعنى ترونها بغير عمد، وهو مروي أيضًا عن ابن عباس، وبه قال الحسن وقتادة والجمهور، وهذا القول هو الذي رجحه الطبري والذي يدل عليه ظاهر سياق الآية، ويدل عليه آية الحج {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحَجّ: 65]. [تفسير الطبري (13/ 411)، زاد المسير (2/ 480)]. (¬2) في الأصل: (في) وهو خطأ. (¬3) لما ذكر الله الأنهار ذكر ما ينشأ عنها من الزروع والثمار فقال: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ... زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} كالحلو والحامض والأسود والأبيض والصغير والكبير والبستاني والجبلي من هذه الثمرات من النبات والحيوان ويدخل فيه الزوجين من الذكر والأنثى، فما ذكره المؤلف داخل في عموم الزوجين المنتفعين بهذه الثمرات. [تفسير الطبري (13/ 414)، نظم الدرر في تناسب الآي والسور للبقاعي (10/ 276)، تفسير القاسمي (6/ 260)].

{قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} عرصات متلاصقات (¬1) وفائدتها الامتنان أو التنبيه على لطف الصنعة في المخالفة مع طبائعها مع قرب المجاورة في حق الطوالِع والغوارب والرياح والأمطار، {صِنْوَانٌ} جمع صنو مثلها الثابت من أصلها (¬2)، والفائدة في ذكر الصنوان وغير صنوان الامتنان بالنوعين أو التنبيه على أن الفرع معدوم وموهوم أو مظنون. {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} عجبوا لبعده عن قياس العقل {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إنا لنبعث في خلقة جديدة {أُولَئِكَ} إشارة إلى المستعجبين {الْأَغْلَالُ} جمع غل وهو طوق إصر وصغار، والمراد به الذنوب والذي أُعدَّ لهم من أغلال (¬3) النار في دار القرار. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} بالكفر قبل الإيمان لمن قدر له الإيمان، وقيل: امتياز الخبيث من الطيب، وليس ذلك من سُنّة الله تعالى لأنه قد {خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} والأشباه والنظائر (¬4) {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]؛ لأنَّ الأمم لم يهلكوا إلا بعد امتيازهم من المؤمنين. عن ابن المسيب، قال: لما نزلت {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} الآية قال -عليه السلام-: ¬

_ (¬1) المراد بـ (القطع المتجاورات) هي قطع الأرض مع أنها متجاورات متقاربات يقرب بعضها من بعض، فهي تختلف في أشكالها وألوانها وصفاتها وتضاريسها، وكما قال ابن عباس ومجاهد فمنها السبخة والعذبة والمالح والطيب تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت. [تفسير الطبري (13/ 416)]. (¬2) روي ذلك عن البراء بن عازب أخرجه الطبري وقال: هي النخلة التي إلى جنبها نخلات إلى أصلها "وغير صنوان" النخلة وحدها، أي: مجتمعة ومتفرقة. [الطبري (13/ 421)، ابن أبي حاتم (7/ 2220)]. (¬3) في الأصل و "ب": (الأغلال). (¬4) أي وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم كما قال قتادة، وقال مجاهد: المثلات: الأمثال. [تفسير الطبري (13/ 436)].

"لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدًا عيشٌ، ولولا وعيده وعقابه لاتّكلَ كلُّ أحدٍ (¬1) " (¬2). {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} ملجئة من ربه {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} قال قتادة: إنما أنت منذر وهادٍ (¬3) لكل قوم ولست بملجىء قاهرٍ، وقال مجاهد: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} ولست بملجىء ولا قاهر (¬4). {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} فيما مضى كان {هَادٍ} ومنذر مثلك، وقيل: إنما أنت منذر ولست بقادر على إنزال الآيات وخلق الهداية فيهم، ولكل قوم هادٍ واحد لا ثاني له اتصال ما بعدها بها من حيث تكرار التعريف والتنبيه على التوحيد. {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} ماهية وكيفية {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} كمية وتغيرًا (¬5) {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} دليل أن الكمية متناهية إلى المقدار. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قيل: خمس لا يعلمها إلا الله وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآية. {وَسَارِبٌ} خارج، يقال: ضلَّ سربه أي طريقه. {لَهُ} عائد إلى الرجلين ممن أسر القول أو جهر أو من استخفى بالليل وسرب بالنهار. {مُعَقِّبَاتٌ} جماعات من الملائكة تعقب جماعة جماعة وتعقيب بعضهم بعضًا {يَحْفَظُونَهُ} على الحالة الرضية، وعن الحسن: ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (واحد). (¬2) رواه ابن أبي حاتم (7/ 2224)، وهو مع إرساله في سنده ضعف. (¬3) ابن جرير (13/ 438). (¬4) هناك قول آخر عن مجاهد والمذكور لم أجده. (¬5) قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرّعد: 8] إذا رأت الدم دون التسعة أشهر فوضعت حملها {وَمَا تَزْدَادُ} [الرّعد: 8] وهو ما زاد على التسعة أشهر حتى تضع الولد، وبه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير ومجاهد، أخرجه الطبري عنهم. [تفسير الطبري (13/ 445 - 446)، وابن أبي حاتم (7/ 2228)].

معقبات أمراء وولاة (¬1)، وقيل: كلمات الأمن والعافية (¬2) {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بأمر الله {لَا يُغَيِّرُ (¬3)} ما اقترن بقوم من الثواب العاجل بالعقاب العاجل {حَتَّى يُغَيِّرُوا} بتغيير ما أسلفوه وقدموه، وذلك لسبق رحمته، ولو شاء لابتدأ الشر غير ظالم ولاستلب الخير غير جابر. {خَوْفًا وَطَمَعًا} منصوبات على أنه مفعول لهما (¬4)، فـ (الخوف): خوف المسافرين والنازلين في مجاز السبيل ومهابط (¬5) الصواعق، و (الطمع): طمع أصحاب الزرع (¬6) وأيدي الكلأ، {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} قيل: السحاب شيء متركب من غبار البر (¬7) وبخار البحر فيلبد (¬8) في الجو ومنه طبعه (¬9) إلا أن الحرارة المنعكسة وقيل: الريح بعينها تنكدر وتتلبد في البعاد من الجو لبعدها عن حرارة الشمس، وإنما يكون هذا في النواحي الجنوبية والشمس في البروج الشامية حينئذ والزمان قيظ، ثم إذا جاوزت الشمس نقطة الاعتدال الميزاني الخريفي وانحدرت إلى البروج الجنوبية أثارت بحرارتها ما تكدرت هناك وساقته إلى نحو الشمال. ¬

_ (¬1) هذا ورد عن عكرمة كما عند ابن جرير (13/ 461) وعن الحسن فقال: (الملائكة) كما عند ابن جرير (13/ 456). (¬2) الذي يظهر من سياق الآية أن الذين يحفظونه هم الملائكة، وبه قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، وحفظهم إياه هو من أمر الله وكذا قال مجاهد. [تفسير الطبري (13/ 463)]. (¬3) (لا يغير) من "ب" "ي". (¬4) ويكون ناصبهما محذوف التقدير: يخافون خوفًا ويطمعون طمعًا، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحال، وأما ما ذكره المؤلف فقد ذكره أبو البقاء العكبري ورده الزمخشري، والله أعلم. [الإملاء (2/ 62)، الكشاف (2/ 352)، الدر المصون (7/ 30)]. (¬5) في "أ": (ومها) وهو خطأ. (¬6) في "ب" "ي": (الزروع). (¬7) ثبت علميًا أن لا علاقة للغبار بتكوين الغيوم. (¬8) في الأصل و"أ": (فقليل). (¬9) (طبعه) ليست في الأصل.

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ} وقيل: الرعد اسم مَلك (¬1)، وقيل: صوت ملك (¬2) يزجر السحاب (¬3)، وهي اضطراب الرياح واضطرامها، وقيل: هي زفرات الشياطين في الهواء {الْمِحَالِ} الحوال (¬4) والحيلة (¬5)، والميم عند الأزهري أصلية وعند القتيبي غير أصلية (¬6). {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} العبادة، كان النبي -عليه السلام- يقول: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره" (¬7)، وكان داود -عليه السلام- يقول: "سجد وجهي متعفرًا في التراب لخالقي وحق له" (¬8). {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} أي الداعي كباسط كفيه، وقال الفراء: هو الظمآن المشرف على الماء في البئر يدعوه بيديه وليس معه آلة الاستقاء (¬9). وقال مجاهد: هو الذي يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيديه (¬10)، ويحتمل أنه الذي يعتمد بكفيه على الماء {لِيَبْلُغَ فَاهُ} فلا يتم له المقصود لتعذر الاعتماد، ويحتمل أنه الذي شلّت يده مبسوطة لا تنقبض عند الاغتراف. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بمعنى الطاعة والانقياد. عن الأحنف بن قيس قال: مررت برجل يصلِّي يكثر السجود قلت: يا عبد الله ¬

_ (¬1) ابن جرير (1/ 358) عن ابن عباس. (¬2) (ملك) ليست في الأصل و"أ". (¬3) هذا مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في كتاب "المطر" لابن أبي الدنيا (126)، وابن جرير (1/ 363)، والبيهقي في سننه (3/ 363)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (565). (¬4) (الحوال) ليست في "أ". (¬5) روي ذلك عن قتادة والحسن، أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 484). (¬6) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (5/ 95) ونقل عن القتيي ورد فيه عليه بزعمه أن الميم أصلية. (¬7) مسلم (771). (¬8) ابن أبي شيبة (4376). (¬9) هذا مروي عن علي - رضي الله عنه - كما عند ابن جرير (13/ 488). (¬10) ابن جرير (3/ 488).

على شفع انصرفت أم على وتر؟ فقال: إن (¬1) أك لا أدري فإن الله يدري، ثم حدثني حبيبي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه "ليس عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ورفع بها درجة وحط عنه بها سيئة" قال: قلت: من أنت يا عبد الله؟ قال: أبو ذر صاحب رسول الله، فتقاصرت إلى نفسي (¬2). فائدة قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الإفحام، وفائدة الإتيان بالجواب هو (¬3) الإثبات بعد الزوال أو بمعنى الاستفهام، وهو متصل بما مضى {شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} أي: خالقين مثله (¬4) {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أي التبس عليهم أقسام المخلوقات فأوجب ذلك الالتباس عبادتهم وإشراكهم بالله {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أخبرنا من طريق الوحي أنه خالق الظلمات والنور، والمنافع والمضار، والخير والشر، والحسن والقبيح، والصامت والناطق، وهو خالق أفعال العباد من الطاعة والمعصية، والمباح والمضطر إليه، وما يخطر ببالهم، لا خالق على سبيل الابتداء والإيجاد إلا هو الله (¬5) الواحد القهار. {أَوْدِيَةٌ} جمع وادي، كنادٍ وأندية {بِقَدَرِهَا} (¬6) بمقدارها الذي يسعه ويحتمله السيل، وما (¬7) يسيل من الماء فوق عادته {زَبَدًا رَابِيًا} فالزبد ما يجتمع على وجه الماء من الوسخ والدرن، و (الربوّ) النمو، ونماء الزبد بانتفاخه وطفوه، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} واو الاستئناف، أي: ومن الأشياء التي يذيبونها بالنار ليتخذوا منها حليًا وأمتعة زبد مثل زبد السيل ¬

_ (¬1) (إن) ليست في "ب". (¬2) أحمد (5/ 164)، عبد الرزاق (3561)، ابن أبي شيبة (4630)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 489) والحديث صحيح. (¬3) (هو) ليست في الأصل. (¬4) (مثله) ليست في "أ" "ب". (¬5) (الله) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل: (مقدارها). (¬7) في الأصل: (ما).

{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي المثل الحق والمثل الباطل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي كل واحد من الزبدين يزول على وجه ما تربد (¬1) عليه متلاشيًا فيصفو ما تحته كما تصحو السماء إذا انقشع عنها الغيم. قال أبو عمرو بن العلاء (¬2): أجفان القدر إذا غلت فعلاها الزبد فإذا سكنت لم يبق منه شيء، وقال أبو عبيد الهروي (¬3): جفا الوادي (¬4) وأجفى (¬5) إذا لقي غثاء على جانبيه وأجفان القدر إذا ألقت زبدها فيمكث فيلبث، هذا هو المثل المضروب للحق والباطل، فالماء المنزل مثل القرآن والوحي والإلهام والرؤيا النبوية، والأودية مثل القلوب من هذه العلوم مقدار ما تسعه، والسيل مثل العلم الحاصل من هذه الجهات، وزبده مثل ما يلقي الشيطان في الأمنية أو يوسوس في التأويل، وما يذوب على النار من جواهر الحلي والأمتعة مثل العلم المكتسب بالقرائح وإعمال الفكر في الاعتبار والاجتهاد وزبده هو أحسن النفس الأمارة بالسوء {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] ويهدي الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ويبطل الآراء المدخولة بالرأي المتين الحنيفي ليتم نوره ولو كره الكافرون (¬6). {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} عليهم اللعنة، والسلام مكان على، ويحتمل أن اللام لازدواج الكلام واعتبار قوله: {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ويحتمل أن المراد به حظهم ونصيبهم ونعمتهم، وهذه الأشياء تضاف باللام. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يعطي الفضل {وَيَقْدِرُ} في عطي ما لا يكفي الأقل منه {فِي الْآخِرَةِ} في قياس الآخرة وإضافتها إليها. ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (تريد). (¬2) ذكره القرطبي عنه في تفسيره (9/ 305). (¬3) نقله ابن منظور عنه في لسان العرب (2/ 304) (جفأ). (¬4) في "أ" "ي": (للوادي). (¬5) في الأصل: (والجفاء). (¬6) في "ب": (المشركون).

وجه الجواب في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} الآية وهو أن إنزال الآية الملجئة المسخرة غير واجب عليه فإنه له أن يضل من يشاء بالخذلان واللبس ويوفق للهداية إلى دينه من وفقه الإنابة (¬1) إلى الاعتبار الصالح أول مرة. {الَّذِينَ آمَنُوا} في محل رفع (¬2). {أَلَا بِذِكْرِ} عارض والذين آمنوا بدل من المبتدأ، والخبر قوله: {طُوبَى لَهُمْ}، ويحتمل أن يكون الأول في محل النصب لوقوع الهداية عليه بدلًا عن قوله: {مَنْ أَنَابَ}، واطمئنان القلب بذكر الله أن يسأم ذكر غيره، {طُوبَى}: اسم على وزن فعلى وهو اسم جامع لكل ما يستطاب، فكأنها الحياة الطيبة بروح الاتحاد، وقيل (¬3): هي شجرة (¬4) الخلد أصلها في دار نبينا -عليه السلام- (¬5) ولا دار في الجنة إلا وفيها غصن منها فهي تثمر ما يشاؤون فيها (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: (الإيه). (¬2) يجوز في "الذين آمنوا وتطمئن" أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وهو "الذين آمنوا" وما بينهما اعتراض. والوجه الثاني: أن يكون بدلًا من "مَنْ أَناب". الوجه الثالث: أنه عطف بيان له. والوجه الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر. والوجه الخامس: أنه منصوب بإضمار فعل. [الدر المصون (7/ 46)]. (¬3) ورد في معنى (طوب سنده حسن. (¬4) في "أ" والأصل: (متخيرة). (¬5) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وأبي هريرة، بل ورد مرفوعًا من حديث عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن في الجنة فاكهة؟ قال: "نعم فيها شجرة تدعى طوبى ... " الحديث. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 528)، وابن أبي عاصم في السنة (715)، والطبراني في الكبير (17/ 126)، والبيهقي في البعث والنشور (300)، وأحمد (17642).

{كَذَلِكَ} إشارة إلى قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} أو إلى قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} ويحتمل إلى ما بعده من البيان والكيفية، أي كما تقول ويتبين {يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} الله تعالى، وقيل: هو إنكارهم تسميته وإلحادهم إلى كذاب اليمامة. {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} جوابه متقدم والفعل المشروط مضمر اكتفاءً بدلالة الاسم عليه، تقديره: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} موصوفًا بهذه الصفات (¬1) أنزل عليهم فالقرآن دالٌّ على الإنزال، مجازه أنهم يكفرون بالرحمن ويصرون (¬2) على كفرهم وإن أنزل إليهم قرآن موصوف بهذه الصفات، وكذلك قوله. {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97،96]. وقيل: جواب (لو) محذوف تقديره ولو أن قرآنًا موصوفًا بهذه الصفات قرئ عليهم آمنوا على سبيل الإلجاء لم يك ينفعهم إيمانهم (¬3)، ويحتمل أن الكفار قالوا قبل النزول (¬4) على سبيل الاقتراح: لو أن قرآنًا كذا وكذا أنزل علينا لآمنَّا، أو كان المؤمنون قالوا على سبيل الاستفهام والحرص: لو أن قرآنًا كذا وكذا أنزل إلى (¬5) هؤلاء المشركين لآمنوا {سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} نحيت عن مواضعها ليبرز ما تحت الأرض {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} السير فيها على غير العادة، والتشديد (¬6) للتكثير ¬

_ (¬1) (الصفات) ليست في "أ". (¬2) في الأصل و"أ": (ويصبرون). (¬3) يمكن أن يكون تقدير الجواب في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرّعد: 31] هو: لما آمنوا، أو لكان هذا القرآن، ونقل عن الفراء أن جواب "لو" هي الجملة من قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} [الرّعد: 30] ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض. [معاني القرآن للفراء (2/ 63)، الدر المصون (7/ 51)]. (¬4) في الأصل و"ي": (الزوال). (¬5) في "ب": (على). (¬6) في "أ" "ب": (الشديد).

والتكرار، وقيل: تفجير الينابيع والقنوات والأنهار فيها {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} أفلم يعلم (¬1)، وقال الفراء: أفلم يقنط (¬2) {قَارِعَةٌ} مصيبة (¬3) وداهية مثل يوم بدر وهلاك المستهزئين والقحط {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} بدر الصغرى وافتتاح خيبر وفدك وغزوة المريسيع والحديبية ونحوها (¬4)، {وَعْدُ اللَّهِ} فتح مكة (¬5)، ويحتمل أن المراد بالقوارع إغارة خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص على تخوم أرض العجم، وإغارة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهما على أطراف نواحي الروم، وإغارة سائر الغزاة على سائر أطراف بلاد الترك وحلولها قريبًا من دارهم، وشحن الثغور بترتيب الجيوش فيها ووعد الله أن يتم نوره ويظهر على الدين كله ولو كره المشركون. {أَفَمَنْ هُوَ} حذف جوابه اكتفاءً لأنه يدل على الخبر بصفته، تقديره: أفمن هذه صفته كمن ليست هذه صفته، أو فمن هذه صفته خير وأحق بأن يعبد أم من ليست هذه صفته (¬6) كقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] بالتخفيف ¬

_ (¬1) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 537) وعن قتادة وابن زيد أيضًا. (¬2) المعروف عن الفراء أنه فَسَّر قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} [الرعد: 31] أفلم يعلم بل قال - كما في معاني القرآن- لم نجدها في العربية إلا على ما فسرت، واستشهد بقول لبيد: حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ... غضفًا دواجِن قافلًا أعصامها أي: حتى إذا علموا. [معاني القرآن (2/ 63)]. (¬3) قاله مجاهد رواه الطبري في تفسيره (13/ 542). (¬4) عامة المفسرين في قوله تعالى: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرّعد: 31] أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم بجيشه وأصحابه، وهو قريب مما قاله المؤلف روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ومجاهد، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (13/ 541). (¬5) قاله قتادة ومجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 542 - 543). (¬6) ومثله قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزُّمَر: 22] والمحذوف تقديره: كمن قسا قلبُه، يدل عليه {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 22] وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلًا للمبتدأ.

{قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} هو تولى كل نفس بتمكينه من كسب ما خلق له وتيسيره ومده في ذلك على سبيل التوفيق أو الخذلان {قُلْ سَمُّوهُمْ} يجوز أن يكون على سبيل التهديد كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] والاستفزاز، ويجوز أن يكون على سبيل التحدي بالتعين؛ لأن التعين إنما يكون بالإشارة إلى الذات أو إلى الفعل أو لتحذير الوصف، وكانوا لا يقدرون على شيء من ذلك؛ لأن إشارتهم لو وقعت إلى ذات لوقعت إلى جماد لا يستحق العبادة، ولو وقعت إلى فعل لوقعت إلى أفعال الله تعالى وهم معترفون بذلك، ولو قصدوا تحذيرًا بالوصف لأحالوا كلامهم إلى مجهول، {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أم مكان ألف الاستفهام على سبيل الإنكار، أي أتنبئون الله بما خفي عليهم، وقيل: أم بمعنى بل (¬1)، أي بل تنبئون الله بلا شيء على سبيل الإحالة، {أَمْ بِظَاهِرٍ} بترتيب على (أم) الأولى. {أَشَقُّ} أكثر مشقة وعناء. {مَثَلُ الْجَنَّةِ} صفة الجنة {الَّتِي} وعدها {الْمُتَّقُونَ}. {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} عن ابن عباس أنهم عبد الله بن سلام وأصحابه فرحوا بنزول تسمية الرحمن، وكذلك إشارة {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} والضمير عائد إلى القرآن، وإنما وصف بأنه حكم لتضمنه الأحكام عربيًا بلغة العرب وعبارتهم، ويجوز أن يكون موصوفًا بأنه عربي لمكان الحج والغزو والنحر والحج والقصاص وبيعة الأمانة (¬2) والأذان والخطبة، وهذه الأشياء شعار العرب وهم معينون والناس كالأتباع لهم. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} نزلت في تعجب المشركين من كون رسول الله بشرًا ¬

_ (¬1) "أم" بمعنى بل والهمزة والاستفهام للتوبيخ، والتقدير: "بل أتنبئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض" فجعل الفاعل ضميرًا عائدًا على الله، ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]. [الدر المصون (7/ 57)، البحر (5/ 395)]. (¬2) المثبت من "ب"، وفي البقية: (الإمامة).

مثلهم، وفي تعجبهم من تأخير العذاب والآيات الملجئة، فنفى الله تعالى وجه تعجيبهم، أو خِبر (¬1) بسنته فيما مضى من المرسلين والرسل واتصال قوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} والمحو (¬2) والإثبات عام في الأعيان والأحكام كلها و {الْكِتَابِ} هو ما قضى الله به من الحوادث في الأوهام أنها تكون أو تكاد تكون أو لا تكاد تكون و {أُمُّ الْكِتَابِ} كلمة الله التي لا تبديل لها (¬3) لاختصاصها بحقيقة المراد في علم الله تعالى (¬4). {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي إن أريناك في حياتك بعض ما نتوعد به الكافرين ونعد للمسلمين، أو إن توفيناك قبل وجود ذلك ولم نرك شيئًا منه فأنت مخبر صادق ليس عليك إلا البلاغ، وكأنهم توهموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) لو لم يأت بنفسه بهذه المواعيد لكان كاذبًا فبين أن صدقه (¬6) غير متوقف على شيء. {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} إن كان المراد قريش فنقصان الأرض من أطرافها فتح القرى حول مكة (¬7)، وإن كان الكفار فحيز الكفر إلى أقطار الأرض باتساع دولة الإسلام، وإن كان جميع الناس فتراجع الأعمار إلى القصر وعوفى القوي ضعيفًا وشيبة واستحالة الصلاح إلى الفساد وقلة نماء الحرث والنسل وذهاب الفقهاء والخيار، قال -عليه السلام-: "ما مات مسلم إلا ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (وأخبر). (¬2) في"أ": (والمحق). (¬3) (لها) ليست في "ب". (¬4) ما ذكره المؤلف لا يخرج عما فسره ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والضحاك، وهو جملة الكتاب وأصله وعلمه سبحانه وتعالى، وما فيه من ناسخ ومنسوخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك عنده سبحانه وتعالى في كتاب، وقد سأل ابن عباس - رضي الله عنهما - كعبًا عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خَلْقُهُ عاملون، فقال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا. [تفسير الطبري (13/ 572)]. (¬5) بدل (- صلى الله عليه وسلم -) في "أ": (-عليه السلام-). (¬6) في الأصل: (صدق). (¬7) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 574).

أثلمت (¬1) في الإسلام ثلمة لا يسدها من بعده شيء" (¬2) {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا رادَّ ولا راجع ولا مكرر ولا مستدرك له، ويحتمل لا مؤخر. {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} شهادة الله تعالى لنبينا -عليه السلام- هو فعله الإعجاز له، وشهادة من {عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} إظهار نعته ودلالتهم عليه واعترافهم به منهم عبد الله بن سلام. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: (أسلمت). (¬2) ورد هذا الحديث بلفظ: "موت العالم ثُلْمَةٌ في الإسلام؛ لا تُسَدُّ ما اختلفَ الليل والنهار" أخرجه البزار في مسنده (ص31)، والديلمي (4/ 64) عن جابر بن عبد الله مرفوعًا وفيه محمَّد بن عبد الملك الأنصاري، قال عنه الإمام أحمد: كذاب، وذكره العلامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة (10/ 4668) وقال: موضوع. لكن رواه الدارمي (333) بسند صحيح عن الحسن قال: كانوا يقولون: ... فذكره. وانظر المقاصد الحسنة (79)، وكشف الخفاء (273).

سورة إبراهيم

سُورَةُ إبرَاهِيَم مكية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة إلا اثنتين منها في قتلى (¬2) بدر (¬3) قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 28] الآيتين، وهي أربع وخمسون آية في عَدِّ أهل الحجاز (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} استحباب الشيء اعتقاد محبته وإدخاله في عداد المحبوبات، والمراد به الاختيار والإيثار، ولذلك وقعت التعدية بـ"على". {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بعبارة قوم الرسول عامة مشاهدته ومخاطبته {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} بالإعجاز ما يترجمون عنه على سبيل التواتر {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} أي فبعد البيان وقيام الحجة يخذل الله من يشاء ليصرّ على الضلالة (¬5) {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ليعترف بالحق. {أَنْ أَخْرِجْ} ترجمة للوحي الذي في فحوى الإرسال أو ترجمة ¬

_ (¬1) هذا ذكره ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير كما في "الدر المنثور" (8/ 486). (¬2) في "أ": (قيل) وهو خطأ. (¬3) أما عن ابن عباس فقد ذكره النحاس في ناسخه (537)، وأما عن قتادة فذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 343). (¬4) كما في "البيان في عدّ آي القرآن" (171)، وأما عند الكوفي فـ (52) آية، وفي الشامي (55) آية، و (50) آية في البصري. (¬5) في الأصل و"أ": (الدلالة).

الآيات أو القول (¬1) مضمر، {قَوْمَكَ} أي بني إسرائيل، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الشبهات إلى اليقين، {بِأَيَّامِ اللَّهِ} أيام إنجاء الله إياهم (¬2). {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ومجاوزته بهم البحر وآيات أصابت القرون الماضية بأنواع العذاب على سبيل الانتقام، وفائدة التذكير بهذه الأيام هو التنبيه على استحقاق الشكر والخوف. {وَإِذْ تَأَذَّنَ} واذكروا حالة إيذانه إياكم (¬3)، والتأذن والإيذان واحد، كالتعود والإيعاد. {فَإِنَّ اللَّهَ} قائم مقام الجزاء (¬4) في هذه الحياة فلا يضرونه شيئًا فإنه غير مفتقر إلى إيمانكم وحمدكم. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} حكاية عن موسى، وقيل: خطاب لهذه الأمة {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} الأمم المنقرضة في مشارق الأرض ومغاربها درست آثارهم وانقطعت أخبارهم، {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} عضوا أناملهم غيظًا (¬5)، ويحتمل معنى التعجب على ما جرت به العادة في العامة كصك الوجه (¬6)، ¬

_ (¬1) في "أ": (للقول). (¬2) عامة المفسرين على أن "أيام الله" نِعَم الله عليهم، ورد ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة، وقد ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا، أخرجه الطبري (13/ 598)، وعبد بن حميد (168)، وأحمد بن حنبل في المسند (5/ 122)، والبيهقي في الشعب (8/ 44) وغيرهم ولا يصح رفعه. وقال ابن كثير: وهو بالوقف أشبه. وما ذكره المؤلف من أن "أيام الله" أيام إنجاء الله إياهم من آل فرعون فهذه من النعم. (¬3) إيذانه إياكم أي إعلامه إياكم كما قاله الفراء، ومثله: أوعدني وتوعدني. [معاني القرآن (2/ 69)]. (¬4) في الأصل و "ي": (الجر). (¬5) روي ذلك عن عبد الله بن مسعود أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 605 - 606)، وعبد الرزاق (1/ 341)، والطبراني في الكبير (9119) وغيرهم، وهو الذي رجحه الطبري. (¬6) هي رواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 607)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 72) إلى ابن أبي حاتم.

ويحتمل معنى الأمر بالسكوت على سبيل الإشارة، ويحتمل معنى الامتناع عن الإقرار (¬1) على سبيل التشبيه، أي كأنهم (¬2) أخذوا على أفواههم متناكبين عن الإيمان والإقرار (¬3)، ويحتمل منعهم الرسل عن النطق على سبيل التشبيه، فكأنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل وأسكتوهم، ويحتمل معنى ردهم الشيء القريب. {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي شيئًا أو كثيرًا أو الكل من ذنوبكم (¬4)، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: صرف العذاب العاجل عنهم وتعميرهم إلى الموت المعهود، {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} آية ملجئة التي توجب (¬5) العلم مشاهدة. {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} سلموا للإنصاف في الجدال بما استدركوا الغلط في سائر دعاويهم بإثبات المشيئة لله في تفضيل بعض البشر على بعض بالخصال الحميدة، لإفحامهم في الجدال لعجزهم عن إنكار المشاهدة. {خَافَ مَقَامِي} أي مقامه بين يدي يوم العرض الأكبر، ولقد صدق وعده لرسله، وللخائفين مقامه، والخائفين وعيده أولياء رسول الله والخلفاء والأئمة. {وَاسْتَفْتَحُوا} أي الأنبياء -عليهم السلام- (¬6) كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89]، وقوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]، وقول موسى: {رَبَّنَا ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (الأفراد). (¬2) في "ب": (فكأنهم). (¬3) في الأصل و"أ": (الأفراد). (¬4) قال أبو عبيدة: "من" زائدة كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحَاقَّة: 47] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: جَزَيْتُك ضِعْفَ الحُبِّ لما شكوتِهِ ... وما إن جزاكِ الضِّعْفَ من أَحَدٍ قبلي [زاد المسير (2/ 507)]. (¬5) في الأصل: (بوبت). (¬6) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، رواه الطبري في تفسيره (13/ 616 - 617)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 341)، واستفتاحهم هو استنصارهم على قومهم في دعوتهم إلى الحق.

اطْمِسْ} [يونس: 88]، وقول لوط: {رَبِّ انْصُرْنِي} [المؤمنون: 26]، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس ومقاتل: استفتاح الكفار (¬1) كقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] فأتنا به، {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي هو على شفا حفرة منها (¬2) ومآله إليها {مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} ممتزج من القيح والدم (¬3)، ووصف الماء به لمعنيين: التشبيه أنه ماء أنتن وتكدّر بالإحماء (¬4) والغلي، والعرب تسمي الماء الحار بالشمس صديدًا، أو الثاني اعتبار حقيقة العنصر، فإن اسم الماء يشتمل على جنس المياهات بهذا (¬5) الاعتبار، ألا ترى سمّوا النطفة ماء. {يَتَجَرَّعُهُ} يتكلف الشرب قليلًا قليلًا جُرْعَة جرعَة. {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} يستوجبه المتجرع ولا يكاد يستمرئه للتضاد وعدم الإيجاد، ثم تقبله الطبيعة قهرًا لعجزها (¬6) عن دفعه فيفسد المزاج (¬7) ولا علاج، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي يعرض له أسباب الموت من كل جهة وفي كل عضو وعرق ولا يموت (¬8) لوجود الخلود في النار ذات الوقود، {وَمِنْ وَرَائِهِ} سوى هذا العذاب، {عَذَابٌ غَلِيظٌ}. {مَثَلُ الَّذِينَ} (¬9) أي هذا مثل الذين كفروا على سبيل ترجمة والفصل في الكتاب كقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 507). (¬2) من قوله: (أي هو) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) قاله مجاهد والضحاك. أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 619)، تفسير مجاهد (ص 410)، ومن طريقه البيهقيِ في البعث والنشور (607). (¬4) في "أ": (بالأحجار). (¬5) في الأصل: (بهذه). (¬6) في الأصل: (لمعجزها). (¬7) في "أ": (الحجاز). (¬8) في الأصل: (تموت). (¬9) في الأصل: (مثل الذين كفروا).

وقيل: إنه مبتدأ وقوله: {أَعْمَالُهُمْ} خبره (¬1) بإضمار أن (¬2) أعمالهم الحسنة التي وقعت لا لوجه الله {كَرَمَادٍ} ما (¬3) تفتت بالاحتراق (¬4)، والمراد بالتشبيه حبوط الأعمال، وإنما يوصف اليوم بأنه {عَاصِفٍ} لأن اليوم يوصف بما يحدث فيه على سبيل المجاز، وقال الزاجر (¬5): ... يومين غيمين ويومًا شمسًا (¬6) يقال: يوم حار ويوم بارد، وإنما الحرارة والبرودة الجوهر (¬7) في الحقيقة (¬8) دون الأحوال والأيام (¬9). {جَدِيدٍ} محدث وهو ضد القديم العتيق. {بِعَزِيزٍ} بصعب (¬10) ممتنع. ¬

_ (¬1) ذكر هذا الوجه من الإعراب أبو البقاء العكبري. والوجه الثاني -وهو مذهب سيبويه-: أن يكون "مثل" مبتدأ محذوف الخبر. والوجه الثالث -ورجحه ابن عطية-: أن يكون "مثل" مبتدأ و"أعمالهم" مبتدأ ثانٍ و"كرماد" خبر المبتدأ الثاني. والثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. والوجه الرابع -وهو مذهب الكسائي والفراء-: أن "مثل" مزيدة و"الذين" مبتدأ و"أعمالهم" مبتدأ ثانٍ و"كرماد" خبر. والوجه الخامس -وهو مذهب الزمخشري-: أن تكون "مثل" مبتدأ و"أعمالهم" بدل منه و"كرماد" خبر. [معاني القرآن للفراء (2/ 72)، المحرر (8/ 221)، البحر (5/ 415)، الكتاب (1/ 71)، الكشاف (2/ 371)]. (¬2) في الأصل: (بإضمارهم). (¬3) (ما) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: (بالإحراق). (¬5) في الأصل: (الراجن). (¬6) الرجز ذكره الطبري في تفسيره (13/ 623)، والفراء في معاني القرآن (2/ 73)، وفي خزانة الأدب (5/ 92) ولم ينسبوه إلى قائله، وعجز البيت: ... نجمين بالسعد ونجمًا نحسا (¬7) في الأصل: (الجواهر). (¬8) في الأصل: (الحقيقي). (¬9) في الأصل: (الأيام). (¬10) في "أ": (فصعب).

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} اعترضوا على (¬1) الله للحساب {تَبَعًا} جمع تابع كحرس (¬2) وحارس ورصد وراصد، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا} يحتمل الإنكار على سبيل التعجيز والاستفهام والطلب على سبيل نفاد الجهل واعتقاد الكفر. وجوابهم بأن {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} يحتمل معنيين: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} في الدنيا إلى دين الإسلام {لَهَدَيْنَاكُمْ} إليه وهذا على سبيل الاعتذار، والثاني: لو هدانا الله اليوم إلى محيص (¬3) لهديناكم إليه، ولكنه لم يهدنا فنحن باقون في العذاب. عن أبي بن كعب (¬4)، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] قال: يقومون ثلثمائة عام لا يؤذن لهم فيقعدوا، وأما المؤمنون فيهون عليهم كما يهون المكتوبة. عن خيثمة قال: كنا عند ابن عمر فقلنا: إن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما -، قال: إن الرجل ليعرق حتى يسبح في عرقه يدفعه العرق حتى يلجمه، قال: وما ذلك إلا ما ترى الناس يفعل بهم، قال: فقال ابن عمر: هذا للكفار فما للمؤمنين؟ فقلنا: الله أعلم وما ندري، قال (¬5): فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم أول الحديث ولم يحدثكم آخره، إن للمؤمنين كراسي يجلسون عليها ويظل عليهم الغمام ويكون يوم القيامة عليهم كساعة من نهار أو أحد طرفيه (¬6). {بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم وناصركم، {بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ} بمن أشركتموني به يعني الله، عن الفراء (¬7). وقيل: بإشراككم إياي لم أعتقد في نفسي ما اعتقدتم في، وإنما يقيض الشيطان لهذا القول زيادة في التعيير واللوم والتقريع. ¬

_ (¬1) (على) ليست في "ب". (¬2) في الأصل و"أ": (كحرص). (¬3) في الأصل و"أ": (محيض). (¬4) عن أبي بن كعب لم أجده وإنما هو عن محمَّد بن كعب القرظي عند الطبري (13/ 627) لابن المنذر. (¬5) (قال) ليست في "ب". (¬6) وجدته عن خيثمة عن عبد الله بن عمرو أن ابن مسعود، فذكره مختصرًا أبو نعيم في الحلية (8/ 126)، وله شواهد. (¬7) قاله الفراء في معاني القرآن (2/ 76).

{مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} هذا مثل الإيمان (¬1)، وقيل: المراد بالشجرة الطيبة النخلة (¬2)، وإنما شبه الإنسان من حيث يهلك بقطع رأسها، وإنما يحمل بالإلقاح. وقال -عليه السلام-: "أكرموا عمتكم النخلة" وروي أن النخلة خلقت من فضلة طينة آدم (¬3)، وقيل: إن البعير خلق من تلك الفضلة أيضًا، وروي أنه -عليه السلام- خرج على أصحابه وهم يذكرون الشجرة الطيبة فقال -عليه السلام-: "ذلك المؤمن أصله في الأرض وفرعه في السماء" (¬4). {كُلَّ حِينٍ} ستة أشهر. ¬

_ (¬1) نقله الطبري عن ابن عباس والربيع بن أنس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وهو أصل الإيمان، ورجحه الطبري. [تفسير الطبري (13/ 634 - 635)]. (¬2) روي ذلك عن أنس بن مالك مرفوعًا بلفظ: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقِناعِ بُسْرٍ فقال: "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة". قال: "هي النخلة" أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 638)، والنسائي في الكبرى (11262)، والترمذي (3119) وغيرهم. وقال العلامة الألباني -رحمه اللهُ-: صحيح موقوفًا. [صحيح سنن الترمذي (2494)]. (¬3) الجملتان في حديث أخرجه العقيلي في الضعفاء (430)، وابن عدي (1/ 330)، وابن حبان في الضعفاء (3/ 44)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 123) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم ... " الحديث. والحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 184) وقال: لا يصح، مسرور منكر الحديث. وقال العقيلي: إنه غير محفوظ، وقال ابن عدي: منكر، وقال العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 428/263): موضوع. (¬4) لم نجد شيئًا بهذا اللفظ، والجامع في ذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشجر شجرة لا يَسْقُط ورقها، وانها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ " قال عبد الله: فوقعَ الناسُ في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلةُ، فاستحييتُ ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النخلة" قال عبد الله: فذكرت ذلك لعمر، فقال: لأَنْ تكونَ قلتَ: هي النخلة أحبُّ إليَّ من كذا وكذا. أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب العلم 1/ 133)، ومسلم في صحيحه (صفات المنافقين 2811) وغيرهما.

وقيل: {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} كلمة الكفر {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} (¬1) الحنظلة {اجْتُثَّتْ} اقتلعت وسقطت ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا في السماء، وهي تتلاشى عن قريب، فكذلك كلمة الكفر. عن البراء عنه -عليه السلام- في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال (¬2): في القبر إذا قيل لك من ربُّك وما دينك ومن نبيك (¬3)، وعن عمر في هذه الآية قال: قال -عليه السلام-: "إذا دخل المؤمن قبره أتاه فتّانا القبر فأجلس في قبره وانه ليسمع خفق (¬4) نعالهم إذا ولّوا مدبرين، فيقولان (¬5) له: من ربك ما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمَّد -عليه السلام-، فيقولان: ثبتك الله نم قرير العين"، وهو قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬6). {وَفِي الْآخِرَةِ} في القبر بالتوحيد الثابت للحق {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} الكافرين، وقيل: إذا أدخل (¬7) المنافق أو الكافر (¬8) قبره قالا له: من ربك ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، ¬

_ (¬1) (كلمة الكفر كشجرة خبيثة) ليست في "ب". (¬2) في "ب": (قيل). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 658)، وابن أبي شيبة (3/ 377)، والبيهقي في عذاب القبر (ص 5)، والآجري في الشريعة (867)، والمروزي في زوائد الزهد (1356). وورد مرفوعًا عن البراء بن عازب أيضًا بلفظ قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن والكافر فقال: "إن المؤمن إذا سئل في قبره قال: ربي الله، فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (3871) وغيرهما. (¬4) في الأصل: (خنق). (¬5) في الأصل: (يقولان). (¬6) لم نجده بهذا اللفظ عن عمر بن الخطاب لكن ورد عنه بلفظ قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنت إذا كنت في أربعة أذرع في ذراعين، ورأيت منكرًا ونكيرًا؟ " قلت: يا رسول الله وما منكر ونكير؟ ... الحديث بطوله أخرجه البيهقي (118)، وقال البيهقي: غريب بهذا الإسناد، وقال الذهبي في الميزان (4/ 167): خبر منكر. (¬7) في "أ": (دخل). (¬8) في "ب": (الكافر أو المنافق).

فيقولان: لا دريت، ثم كما ينام المنهوش، ويضرب بمرزبة يسمعها من بين الخافقين إلا الجن والإنس، وهو قوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (¬1) المشركين {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يثبت الله الذين آمنوا على القول الثابت أو يثبت الله قلوب الذين اَمنوا بسبب قولهم الثابت، أو بتمكنهم من القول الثابت. عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بك يا عمر لو جاءك فتَّانا القبر منكر ونكير ملكان أسودان أزرقان يبحتان الأرض ويطاف في شعورهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف" قال: يا رسول الله أمعي عقيلي وأنا على ما أنا عليه اليوم؟ قال: "نعم"، قال: إذًا أكفيهما بإذن الله، فقال -عليه السلام-: "إن عمر موفق" (¬2). وفائدة السؤال في القبر ما علمه الله تعالى كفائدة أخذ الميثاق، وقيل: في حق المؤمن تتمة ابتلائه بتمحيص إقراره وتوفير ثوابه، أو لتجليته على الملائكة أنه غير معرض عن الله ولا ناس إياه ولو عظمت بلواه، وفي حق الكافر تتمة ابتلائه لقطع أعذاره وتوكيد عقابه. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} نزلت في رؤساء بني أمية وبني المغيرة يوم بدر (¬3)، {وَأَحَلُّوا} حملوهم على الحلول وهو النزول و {دَارَ الْبَوَارِ} الهلاك. {جَهَنَّمَ} بدل من دار (¬4) البوار. ¬

_ (¬1) تفاصيل ذلك في حديث البراء بن عازب مرفوعًا حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكافر قال: "فتعاد روحه في جسده"، قال: "فيأتبه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه فينتهرانه، فيقولان له: من ربك ... " الحديث بمثل ما ذكره المؤلف أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 665)، والطيالسي (789)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 56)، والبيهقي في عذاب القبر (ص 27). (¬2) البيهقي في "إثبات عذاب القبر" (117)، وابن أبي داود في "البعث" (7). (¬3) أخرجه البخاري في تاريخه (8/ 373)، والطبري في تفسيره (13/ 669) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفًا. (¬4) وفيه وجه ثان وهو أن تكون "جهنم" عطف بيان لـ"دار البوار"، وعلى هذين الوجهين فالإحلال يقع في الآخرة، وفيه وجه ثالث: أن ينتصب "جهنم" على الاشتغال بفعل مقدر، وعلى هذا فالإحلال يقع في الدنيا. [الدر المصون (7/ 102)].

{لَا بَيْعٌ} كسب الخير {وَلَا خِلَالٌ} شفاعة (¬1). {دَائِبَيْنِ} ملازمين للعادة. {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قيل: بعض مقدار من المسؤول، وقيل: كل المسؤول مبذول للجماعة وإن تفاوت منه آحادها بالتخصيص، (الإحصاء) الطاقة، وقيل: إدراك العدد، {الْإِنْسَانَ} المخذول عن التوفيق الإلهامي الروحاني الموكول إلى الهيمان الإنعامي النفساني. أهل الحجاز يقولون: (جنبني) فلان شره بالتخفيف، وأهل نجد جنّبني وأجنبني بالتشديد والألف. {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ} إن كان المراد بها الأرواح الخبيثة من الشياطين فإسناد الإضلال إليهن كإسناده إلى الناس، وإن كان المراد بها الصور المصورة، فإسناد الفعل إليهن كإسناده إلى الدراهم والدنانير، يُقال: أهلك الناس الدرهم والدينار (¬2)، {فَمَنْ تَبِعَنِي} في الإعراض عن الأصنام والطواغيت {وَمَنْ عَصَانِي} فيما دون الشرك عن مقاتل بن حيان (¬3) {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمشركين ويرحمهم إذا تابوا (¬4)، عن الكلبي: ويحتمل أن إبراهيم -عليه السلام- ذكر المغفرة والرحمة (¬5) تنزيهًا لله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أن يأخذه ومن تبعه (¬6) بذنب من ¬

_ (¬1) قوله: "خلال" مأخوذة من المُخَالَّة، وهو مصدر من قول القائل: خاللت فلانًا فأنا أُخالله مخالةً وخلالًا، ومنه قول امرئ القيس: صرفتُ الهوى عَنْهُنَّ من خشية الرَّدى ... ولستُ بمقليِّ الخِلاَلِ ولا قالِ ومعنى الخلة هي الصداقة والمصاحبة، فمعنى الآية أن يوم القيامة لا يقبل فيه مخالة خليل، فيصفح عَمَّن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالَّته بل هناك العدل والقسط فلا تقبل شفاعة خليل. [الطبري (13/ 680)، ديوان امرئ القيس (ص35)، زاد المسير (4/ 514)]. (¬2) في "أ" "ب": (الدنانير). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 365). (¬4) أورد ابن الجوزي قريبًا منه عن السدي. (¬5) في "ب": (الرحمة والمغفرات). (¬6) في "ب": (معه).

عصاه، ويحتمل أنه يعرض على قضية استخارة العقل قبل التوفيق السماعي مغفرة الكفار كما كان يستغفر لأبيه حتى علم أنه عدو لله فتبرأ منه. {مِنْ ذُرِّيَّتِي} بعضًا من ذريتي {أَفْئِدَةً} واحدها فؤاد {تَهْوِي} تميل وتسرع. {يَقُومُ (¬1) الْحِسَابُ} كما يقال: قام السوق والحرب والصلاة، {تَشْخَصُ} ترتفع عن مواضعها وتحيط الدهش. {مُهْطِعِينَ} مسرعين إلى الداعي وهو حالة سيلانهم (¬2) عند الحشر {هَوَاءٌ} خالية عن الخواطر دهشًا واشتغالًا بالمشاهدات. {وَسَكَنْتُمْ} معطوف على {أَقْسَمْتُمْ}. {الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} من الأمم (¬3) الماضية الذين تسكن ديارهم وتشاهد آثارهم وتسمع أخبارهم {لَكُمُ الْأَمْثَالَ} أمثال القرآن. {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} أراد المعاني المستفخمة العظيمة من (¬4) الشرائع والسنن وقواعد الدين. {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي مخلفًا وعده رسُله، وإنما قدم الوعد على الرسل لأنه أَلْيَق بالأخلاف والكلام يستقل به دون المفعول الثاني. {يَوْمَ} (¬5) نصب لوقوع الانتقام فيه (¬6) {تُبَدَّلُ} يقلب ظهرها بطنها وترفع الجبال عنها وتسطح من المشرق إلى المغرب {وَالسَّمَاوَاتُ} تغير ¬

_ (¬1) في الأصل: (بيوم). (¬2) في الأصل و"ب": (لسيلانهم). (¬3) في الأصل: (الإثم). (¬4) (من) من "ب" "ي". (¬5) اختلف النحاة في نصب "يوم" فقيل: هو منصوب بـ"انتقام"، وقيل: هو منصوب بـ"اذكر"، وقيل: هو بدل من "يوم يأتيهم"، وقيل: هو منصوب بـ"مخلف"، ومنع هذا الوجه أبو البقاء العكبري. [الكشاف (2/ 384)، الإملاء (2/ 71)، الدر المصون (7/ 129)]. (¬6) (فيه) من "أ" "ي".

هيئاتها بخسف الشمس والقمر وتناثر الكواكب والانفطار، وقرأت عائشة هذه الآية فقالت: يا رسول الله أين يكون الناس؟ قال: "على الصراط" (¬1). {الْأَصْفَادِ} جمع صفد وهو الغل والقيد. {قَطِرَانٍ} (¬2) الجيران ما تطلى به الإبل، (السربال) يشتمل على القميص والجنة والدرع (¬3) {لِيَجْزِيَ} بدل عن قوله: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ} [إبراهيم: 42] أو ليوم (¬4) يجزي الله، وقيل: التعليل التفريق في الأصفاد هذه إشارة إلى القرار. {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} نهاية لهم في الوعظ. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 736)، والإمام أحمد في مسنده (6/ 134)، والدارمي (2/ 328)، وأصله في صحيح مسلم (2791). (¬2) (قطران) ليست في الأصل. (¬3) ذكره الطبري في تفسيره (13/ 742). قال الزجاج: وإنما جعل لهم القطران؛ لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود. والقطران كما قال ابن عباس هو النحاس المذاب وهو أحد الأقوال في معنى القطران. [الطبري (13/ 742)، زاد المسير (2/ 521)، معاني القرآن للزجاج (3/ 170)]. (¬4) في الأصل: (كيوم).

سورة الحجر

سُورَةُ الحِجْرِ مكّية (¬1)، وهي تسع وتسعون آية (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {آيَاتُ الْكِتَابِ} مجاهد وقتادة (¬3): التوراة والإنجيل، وقيل: الكتاب والقرآن واحد. {رُبَمَا} حرف جار (¬4) لا يدخل إلّا على الأسماء المنكورة (¬5)، فإن ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، ولا نعلم في ذلك خلافاً. (¬2) لم يذكر المصنف اختلافاً في ذلك، وهو كذلك. وانظر ما ذكره الداني في "البيان في عد آي القرآن" (173). (¬3) أما عن مجاهد، فرواه ابن جرير (14/ 5، 6). وأما عن قتادة، فرواه ابن جرير (14/ 5، 6)، وابن أبي حاتم (7/ 2099؛ 8/ 2748). (¬4) في الأصل: (جر). (¬5) هذا مذهب أبي الحسن، كما في كتابه معاني القرآن (378)، وزعم الكوفيون وابن الطراوة أنّها اسم. وبعض نحويِّي البصرة، قال: أُدْخِلَ مع "ربَّ": "ما" ليتكلم بالفعل بعدها، وان شئت جعلت "ما" بمنزلة شيء؛ فكأنك قلت: ربَّ شىء يَودُّ. لكن بعض الكوفيّين يردّ ذلك بحجّة أن المصدر لا يحتاج إلى عائد. و"الودّ" قد وقع على "لو"، ربما يودّون لو كانوا. ويقول الكسائي والفرّاء: لا تكاد العرب توقع "ربَّ" على مستقبل، وإنما يوقعونها على الماضي من الفعل؛ كقولهم: ربّما فعلت كذا. مع أنه جاء في القرآن مع المستقبل؛ كقوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ} [الحجر: 2]. وقد ذكر المؤلف أن لفظ المستقبل الذي في الآية واجب لا محالة، فكأنه ماضٍ وعلّل لذلك. [معاني القرآن للفراء (2/ 82)، الطبري (14/ 7)].

صرف إلى فعل كفّ عن العمل بـ (ما) الكافة، ولا تدخل إلّا على فعل ماض أو حال، وإنما دخل هاهنا (¬1) على الفعل المستقبل لأنه واجب لا محالة؛ فكأنّه ماض. ألا ترى أن أكثر أحوال القيامة مذكررة في القرآن على لفظ الماضي. عن ابن عبّاس: يأتي على الكافر يومٌ يودّ فيه (¬2) لو كان مسلمًا (¬3). أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم (¬4): سألت عن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} قال: يعذّب الله قومًا ممّن كان يعبده ولا يعبد غيره، وقومًا ممن كان يعبد غيره ثم يجمعهم في النار، فيعيّر الذين كانوا يعبدون غير الله الذين (¬5) كانوا يعبدون الله تعالى، فيقول: عذّبنا لأنا عبدنا غيرك، فما أغنى عبادتكم إياه وقد عذَّبكم معنا، فيأذن الربّ للملائكة والنبيّين فيتشفّعون فلا يبقى في النار أحد ممّن كان يعبده إلَّا أخرجه، حتى يتطاول للشفاعة إبليس -يعني لعبادته (¬6) الأولى- يقول: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية (¬7). {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم {الْأَمَلُ} الطمع. كانت أطماعهم الفاسدة تشغلهم عن التوبة والإنابة فيوعدهم على ذلك، أي (¬8): أصابتهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين. {إِلَّا وَلَهَا} فذكر (¬9) الواو بعد الاستثناء وقد يحذف إذا كان الكلام ¬

_ (¬1) في "ب": (ههنا). (¬2) (فيه) ليست في "ب". (¬3) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (14/ 9)، والبيهقي في البعث والنشور (ص 80)، وعزاه السيوطي في الدرّ المنثور (4/ 92) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ذكره عن حماد عن إبراهيم مختصرًا الحاكم في "الكنى" كما في "الدرّ المنثور" (8/ 590 - 591). (¬5) (الذين) ليست في "ي" "أ". (¬6) في "أ": (إبليس لعبادته الأولى)، وفي "ي": (إبليس لعبادته يعني)، وفي "ب": (إبليس يعني لعبادته يعني الأولى). (¬7) (الآية) من "ب" "ي". (¬8) (أي) ليست في "ب". (¬9) في الأصل و "أ": (يذكر).

مستقبلًا (¬1) بنفسه مَعَ طرح الاستثناء، فأمّا إذا لم يستقل لا يجوز إلا بغير واو؛ كقولك: ما أنت إلا بشرًا (¬2). {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أجل مسمّى. {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ} نزلت في عبد الله بن أبي (¬3) أُمية والنضر بن الحارث وجماعة من قريش (¬4)، قيل: على زعمك. وقيل على سبيل الاستهزاء المجنون المستور قلبه أو دماغه بما يضاد العقل من خيال الجن أو فساد الطبع، وإنما وصفوه بذلك (¬5) لخرقه إجماعهم الفاسد وخلافه عادتهم القبيحة. {لَوْ مَا} بمنزلة (¬6) لولا (¬7) {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} ظاهرين يعرفون بسيماتهم {إِلَّا بِالْحَقِّ} الملجىء الذي يبطل الرأي والاجتهاد {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} إذ (¬8) أنزلناهم على هذا الوجه حقّت على قريش كلمة العذاب، ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (مستقلًا). (¬2) القياس أن لا تتوسّط هذه الواو بينهما، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وإنما توسطت في الآية لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وهذا قول أبي البقاء والزمخشرىّ، ولذا ذهب بعض النحويّين إلى أن هذه الواو مزيدة، واحتجّ بقراءة ابن أبي عبلة "إلا لها"بإسقاط الواو. [الإملاء (2/ 72)، الكشاف (2/ 387)، البحر (5/ 445)]. (¬3) (أبي) ليست في النسخ، بل هي منّا. (¬4) نقله ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 383) عن مقاتل. (¬5) (بذلك) ليست في "ب". (¬6) (بمنزلة) ليست في "ب". (¬7) العرب تضع "لوما" موضع "لولا"، وكذلك العكس. ومن ذلك قول ابن مقيل: لوما الحياءُ ولوما الدين عبتكما ... ببعض مافيكما إذْ عبتما عَوَرِي أي: لولا الحياء. وهما يترددان بين المعنيَيْن: الأول: أنهما حرفا تحضيض. والثاني: أنهما حرفا امتناع؛ لوجود لكن إذا كانتا للتحضيض فلا يليها إلا الفعل، وإذا كانتا للامتناع فلا يليها إلا الأسماء، هذا ما قرّره نحاة البصرة. [الدر المصون (7/ 143)]. (¬8) (إذ) ليست في الأصل و"ب".

وارتفع الإمهال ولم ينفع نفسًا إيمانها (¬1) لم تكن آمنت من قبل، واتّصالها بأن (الذكر) القرآن في قوله: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} هاهنا. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قيل: حفظ الله كتابه عن (¬2) الدروس، وقيل: حفظه عن الجنون والخبال والمجون (¬3) والضلال. {مِنْ قَبْلِكَ} رسلًا. {نَسْلُكُهُ} السلك الإيغال والسلوك الوغول والمسلك شبه السرب (¬4)، والضمير عائد إلى الاستهزاء، والآية ردّ على المعتزلة. {فَظَلُّوا} يقال: ظلّ يفعل إذا كان عامّة نهاره في فعله، وبات يفعل إذا كان عامّة ليله في فعله، وإذا لم يرد تخصيص ليل ولا نهار، قلت: طفق (¬5) يفعل (¬6). {يَعْرُجُونَ} يصعدون. {سُكِّرَتْ} حُبِست بالتخييل عن حقيقة المشاهدة. {فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} بروج السماء: أقسامها وأجزاؤها الاثنا عشر (¬7)، كل جزء بالمساحة على ثلاثين درجة، وهي ستّون دقيقة لا تفاوت بينها، وفي المشاهدة على كواكب من منازل القمر بينها تفاوت، ثم هذه السماء ¬

_ (¬1) في "ب": (إيمانًا). (¬2) في الأصل و"أ": (من). (¬3) في "ب": (المحور)، وهو خطأ. (¬4) في الأصل: (سهمًا يشرب)، وهو خطأ. (¬5) في الأصل و"ي": (صفق). (¬6) ومنه قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33]. قال ابن عباس - رضي الله عنها -: جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف، ولم يحدّد بليل أو نهار، وكلمة طفق مثل كلمة ظلّ، تقول: طفق يفعل كذا، أي ظلّ يفعل كذا؛ قاله ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (طفق). (¬7) أسماء الاثني عشر هي كما قال ابن قتيبة: الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدَّلو، والحوت. وأصل البروج الحصون كما قال ابن قتيبة أيضًا. [زاد المسير (4/ 387)].

محدقة بالنار والريح والأرض إحداق قشر البيضة بما فيها، يدور على قطبين: قطب معلوم شمالي، وقطب موهوم جنوبي عند بعض الناس، وهي معلّقة بالقطب الشمالي من فوق الأرض كهيئة الكلية لا قطب لها من ناحية الجنوب عند بعض، وهي (¬1) مختصّة ببروج غير (¬2) هذه البروج الاثني عشر الفلكية عند بعض، فمن تلك البروج الصراح وهو بيت المعمور وسائر البروج مساجد الملائكة ومقاماتهم ومقامات الأنبياء والصِّدِّيقين والشهداء. {وَزَيَّنَّاهَا} حسّناها بصفاء لونها وبالشمس والقمر والكواكب. {وَحَفِظْنَاهَا} بالكواكب المُنْقَضَّة التي هي رجوم للشياطين، قيل: ألم (¬3) تزل السماء محفوظة محروسة بهذه الكواكب المُنَقَضَّة؟ عن ابن عباس: أنّ رجالًا من الأنصار (¬4) أخبروه (¬5) أنّه بَيْنما هم جلوس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) ليلةً من اللّيالي رمي بنجم فاستنار، فقال لهم (¬7) رسول الله: "ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رُمِي بمثل هذا"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، كنّا نقول: مات الليلة عظيم ووُلد الليلة عظيم، قال -عليه السلام-: "إنه لا يرمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربّنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا سبّح حملة العرش ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم (¬8)، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم، ثم يسال أهل السماء السادسة أهل السماء السابعة، وكذلك حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدّنيا فيحفظه الجني ليقذفه إلى (¬9) صاحبه ¬

_ (¬1) (وهي) من "ب" "ي". (¬2) (غير) ليست في "ب". (¬3) في "ب" "ي": (لم). (¬4) (من الأنصار) ليست في "ب". (¬5) في الأصل: (أخبره). (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬7) (لهم) ليست في "ب". (¬8) من قوله: (ثم سبح) إلى (يلونهم) ليست في "أ". (¬9) في "ب": (على).

ويرمي به، فما جاؤوا به على وجهه فهو الحقّ، ولكنهم يرمون فيه ويزيدون" (¬1). وعن نافع بن جبير ومحمد بن كعب: أمسكت في أيام الفترة، فلما بُعِث نبيّنا عاد الأمر كهيئته (¬2)، وقيل: لم تكن النجوم رميت قطّ حتى بُعِث نبيّنا -عليه السلام- (¬3). {اسْتَرَقَ} افتعال من السرقة {شِهَابٌ} شُعْلَة وقبس {مَدَدْنَاهَا} فرشناها بكليتها على وجه الأرض، وقيل: أراد به ضُرِّسَ أبعاضها إلا مكان التقليب فيها، وهي بكليتها كرة مضرّسة يعلو الماء بعضها ويعلو بعضها الماء لإمكان الحرث والنّسل. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} تدلّ أن الجبال ثابتة ملتصقة بالأرض غير ثابتة متعلقة عنها، فكانت الرّياح إذا اضطربت اضطرابًا عنيفًا بإفراط ضغط من الفلك عند ابتداء دورة، فأثارت هذه الرياح المضطربة الأرض إثارة قريات (¬4) لوط، فتحجّرت أجزاؤها المماسة للنار العلوية بالنفخ، ثم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (91)، وأحمد في مسنده (1882). (¬2) ذكر القرطبي (19/ 14) عن نافع بن جبير وأبيّ بن كعب، كما أورده الشوكاني في "فتح القدير" (5/ 438) عن نافع. (¬3) يدلّ على ذلك - أي على أنها لم ترم حتى بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: "انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب"، أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 210)، ومسلم (1/ 331)، والترمذي (2/ 167) وغيرهم. قال ابن الجوزي: وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. وقال الزجاج: ويدلّ على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن شعراء العرب الذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المُنْقَضَّة، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - استعملت الشعراء ذكرها، فقال ذو الرمَّة: كَأَنَّة كَوْكَبٌ في إثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مسَوَّمٍ في سوادِ الليلِ مُنْقَضِبُ [زاد المسير (4/ 388)، ديوان ذي الرمّة (ص 36)، مجاز القرآن (2/ 95)]. (¬4) جمع المؤلف - قرية- على قريات غير فصيح فيما يظهر وعلى غير القياس، والأفصح أن تجمع على قُرَى مع أنه على غير قياس. قال بعضهم: لأن ما كان على فعلة من المعتل فبابه أن يْجمع على فِعال بالكسر، مثل: ظِبية وظِباء وركوة ورِكاء. [المصباح المنير (2/ 159)].

انحدرت من ثم بإذن الله فوقعت على وجه الأرض. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} مقدور، وقيل: متّزن لكونه مطبوعًا على الفعل والانحدار بخلاف الريح والنار. {وَمَنْ لَسْتُمْ} في محل النصب عطفًا على {مَعَايِشَ} (¬1) هم الذراري والمماليك والسوائم، وقيل: في محل الخفض عطفًا على الضمير في (لكم)، وهم الأطفال والمجانين والبهائم عندنا في علمنا وحكمنا. (الرياح اللواقح) التي تحمل الندى والثرى ليتكون غيومًا في أثنائها بإذن الله. وقيل: الملقحات للغيوم والأشجار. وقيل: هي التي ينتفع بها لما ضمنها الله تعالى من النفع بخلاف العقيم، وهي الدبور، وقيل: اللّواقح ريح واحدة وهي الجنوب وحدها وإنما جمع على الجنس، وقيل: كل ريح أتى بالمطر النافع فهي من جملة اللواقح (¬2). ¬

_ (¬1) قاله الفخر الرازي في تفسيره، ودفع توهم استعمال "مَنْ" للعقلاء من ثلاثة احتمالات: الأول: أن كلمة "من" مختصّة بالعقلاء، فوجب أن يكون المراد من قوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحِجر: 20] العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد، فيكون عطف عقلاء على عقلاء. والوجه الثاني: وهو قول الكلبي: أن المراد بقوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}، الوحش والطير وغيرهما من غير العقلاء، فتكون "مَنْ" مستعملة في غير العقلاء، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] الآية. والوجه الثالث: أن هذا من باب التغليب، وأنها تُستعمل لهذا وهذا، وغُلِّبَ العقلاء على غير العقلاء. [التفسير الكبير للرازي (19/ 172)]. (¬2) قال ابن مسعود - رضي الله عنهما - في هذه الآية: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ومثل هذا المعنى قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الرياح لواقح للشجر وللسحاب، وهو قول الحسن وقتادة والضحّاك. وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها، فحملت، فكذلك الرّياح. [التفسير الكبير للرازي (19/ 174)، زاد المسير (4/ 391)].

{الْمُسْتَقْدِمِينَ} من (¬1) القرون الماضية و {الْمُسْتَأْخِرِينَ} القرون الباقين عن مجاهد (¬2)، وهم المسارعون في الخيرات والمتثاقلون عنها عن الحسن (¬3)، وهم من يسلم ومن لا يسلم عن سفيان بن عيينة (¬4). وروى الكلبي عن ابن عباس: أنّها نزلت بالمدينة في الذين قصدوا بيع دُورهم القاصية عن المسجد، واشتروا دورًا قريبة من المسجد لازدحامهم على الصف الأول (¬5)، فعلى هذا القول مكية إلاّ هذه الآية أو الآية نزلت مرّتين. وعن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: نزلت في الذين كانوا يستأخرون في الصلاة إلى الصف الأخير لينظروا في سجودهم من تحت آباطهم إلى امرأة حسناء كانت تشهد الجماعة مع النساء (¬6)، ورُوِيَ موقوفًا على أبي الجوزاء (¬7). {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} اتّصالها بما جرى من ذكر العالم الأكبر حسن عطف العالم الأصغر والنفس عليها، وقيل: لما جرى ذكر المستقدمين والمستأخرين حسن ذكر ابتداء تخليقهم ليكون أوّل الأمر شاهد الآخرة. ¬

_ (¬1) (من) من الأصل. (¬2) عبد الرزّاق في تفسيره (1/ 348)، وابن جرير (14/ 52). (¬3) البغوي في تفسيره (377)، وابن الجوزي في زاد المسير (4/ 395). (¬4) البغوي في تفسيره (377). (¬5) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 395) لابن عباس من طريق أبي صالح. (¬6) الترمذي (3122)، والنسائي (2/ 118)، وفي الكبرى (11273)، وابن ماجه (1046)، وأحمد (1/ 305)، والطيالسي (2835)، وابن جرير (14/ 53، 54)، وعزاه ابن كثير لتفسير ابن أبي حاتم. ورواه كذلك الطبراني في الكبير (12791)، والحاكم (2/ 353)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 98)، والحديث ضعفه الحافظ ابن كثير بقوله: (غريب جدًا فيه نكارة شديدة). ومن المعاصرين محقّقو المسند. أما الشيخ ناصر، فصححه في الصحيحة (2472). (¬7) أبو الجوزاء أوس بن عبد الله البصري ليس بصحابي، والموقوف لا يكون إلا على الصحابيّ، وسبب النزول هذا رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وتقدَّم ذكر ذلك.

{مِنْ صَلْصَالٍ} لمن شبّه الفخار (¬1) {مَسْنُونٍ} (¬2) متغير، وقيل: مصبوب (¬3)، قيل: خلق الله تعالى قالبًا من سلالة الأرض على صورة الإنسان، وكان مطروحًا على الأرض أربعين سنة، وكان قد صار صلصالًا كالفخار، فمرّ عليه إبليس يومًا فدخل جوفه ثم خرج منه وتفرّس فيه أنّه يكون ضعيفًا يتمكن فيه عدوّه بالغرور لمكان التخويف وكثرة الاحتياج، ثم نفخ الله فيه الروح، فلمّا حصل في رأسه واستحال رأسه (¬4) دماغًا ولحمًا وعظمًا على صورته الأُولى عطس، فحمد الله تعالى بتلقين جبريل -عليه السلام-، فشمَّته الله تعالى بقوله: رحمك ربّك، فلما حصل الروح في صدره ومعدته وانحدر إلى سوأته واستحال كل ذلك لحمًا وعصبًا وعظمًا غلبه الجوع، فقصد النهوض وإن بعضه لطين بعد؛ ففي ذلك يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، فقال: خُلِقت من الشر وخُلِقت من الرحمة، وقيل: العجل الطين، قاله الكلبي وغيره (¬5). و (الجان) أبو الجنّ (¬6) بمنزلة آدم منّا، ولم يذكروا مَنْ أُمّ الجنّ، وعن جعفر بن محمَّد الصادق أنّ الله تعالى بعد خلق الكلمة قدّد قددًا من أنواع الخلق، وذلك قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، فلما خلق الأرض أهبط تلك القدد إلى (¬7) الأرض فقدّة النار يسمون الجان، وقدّة الظلمة ¬

_ (¬1) أظهر الأقوال في الصلصال ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنّه الطين اليابس الذي لم تُصِبْهُ نار، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة، وهكذا قال قتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة. وذهب الكسائي وأبو عبيد ومجاهد: أنه الطين المنتن. [زاد المسير (4/ 397)]. (¬2) في "أ": (مستور). (¬3) قاله أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيد. [زاد المسير (4/ 398)]. (¬4) (واستحال رأسه) ليست في "أ". (¬5) لم نجد من ذكره بهذا اللفظ، ولعله من قبيل الإسرائيليّات. (¬6) رواه أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، زاد الضخاك أنهم ليسوا بشياطين، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. [زاد المسير (4/ 398)]. (¬7) (إلى) ليست في "ب".

يسمون الجن، وأذن لهم الكلمة أن يفجروا في الأرض الأنهار، فطرح إليهم غرسًا فغرسوا [من الحبّ والنوى، فعمروا الأرض دهرًا، وكانت أصحاب الحواشي والجان أصحاب الزروع، ثم تحاسدوا فصاروا أحزابًا] (¬1)، واقتتلوا دهرًا طويلًا. ثمّ إنَّ الله تعالى خلق خلقًا يقال لهم النفر (¬2)، وخلق خلقًا يقال لهم (¬3) الرعب، فألقوا (¬4) الرعب في قلوب الجن والجان وأيّد ملائكته فقال لهم الكروبيون (¬5) بالنصر، وكانت الجنّ والجان تصعد إلى مقاعد السمع فيسترقون السمع فيلقون إلى الكهنة، وزعم بعض أهل النجوم أنّ الله قسم الدهر من البروج الاثني عشر، فخصّ العمل منه اثنا عشر ألف سنة، " وخصّ الثور أحد عشر ألفًا، والجوزاء عشرة آلاف، والسرطان تسعة آلاف، في كل واحدٍ من هذه الحصص لله تعالى عباد خلقهم من العنصر الذي إليه ينسب البروج، وخصّ الأسد ثمانية آلاف (¬6)، وهو برج ناري زعموا، ففي هذه الحصة يخلق الله تعالى الجان من نار جهنَّم، وكان إليهم سلطان الأرض، وخصّ السنبلة سبعة آلاف سنة، وهو برج أرضي زعموا، ففي هذه السنبلة (¬7) خلق الله آدم --عليه السلام--، فانتقل سلطان الأرض إليه، وزالت دولة الجن وتفانى أكثرهم ولم يبق منهم إلَّا شيطان ممسوخ، ويزعم الهند أنّ (¬8) بين الجنّ والإنس نفارًا متصلًا كالنفار بين الماء والدهن غير ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (له النصر). (¬3) في "أ": (فقال له)، وفي "ي": (يقال له). (¬4) في "أ" "ب": (فألقى). (¬5) وهم جزء من الملائكة بل أكثر الملائكة منهم، وهم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أكثر من أهل السماوات والأرض والجن والإنس [تفسير ابن كثير (3/ 317)، تفسير البغوي (4/ 91)]. (¬6) في "ب": (ثمانية آلاف، وفي كل واحد من هذه الحصص لله تعالى عباد خلقهم من العنصر الذي إليه ينسب البرج، وخصّ الأسد ثمانية آلاف وهو). (¬7) في "ب": (السنة). (¬8) في "ب": (أن بين).

منفصل كالنفار بين الماء والنار، وأن التّناسل بين القبيلين ممكن، وأن هذين مع سائر الحيوان من مواليد برهم وبشن، وهما زوجان زوجان ألهمهما الله تعالى أن يتوالدا بمواضعة غير المباضعة، وبرهم أفضلهما وأطولهما عمرًا، وله نهار مشتمل على ألف حنزجول، وكل حنزجول مشتمل على (¬1) أربعة أقسام من الزمان، وكل قسم مشتمل على كذا وكذا ماية ألف سنة، وليله مثل نهاره، ثم تلاشى بإذن الله تعالى، قالوا: فيتوالد على هذه الصفة، فولد الملائكة وأهل الجنّة والجن والشياطين أولًا ثم ولدا سائر المواليد وتوالدت من مواليدهما كذلك، ويشهد لهذا القول مسمّيات العرب الحسن، وزعموا أنّه المتولّد بين الجن والإنس كبلقيس والعملوق بين الجن والآدمي، والسعلاة (¬2) والغيلان بين الملك والإنسة (¬3)، والنساس (¬4) بين الشقّ والإنسان، وقيل: هم يأجوج ومأجوج والدواب بين بعض الحيوان والنبات، ولا يوجب شيئًا من هذه الأقاويل علماؤنا. {السَّمُومِ} الريح الحارة (¬5)، فيه دليل على أنّهم لم يخلقوا من النار الخالصة (¬6)، وقال: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15]، وهي المختلط بغيرها من دخان أو ريح أو دهن، وذكر صاحب السنّة (¬7) أنّ الملائكة مخلوقون ¬

_ (¬1) من قوله (ألف) إلى هنا ليست في "أ". (¬2) في "ب": (السعلان). (¬3) في "أ": (الإنسية). (¬4) في "أ": (النسناس). (¬5) قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - وابن عباس - رضي الله عنهما -، والسموم في اللغة: الريح الحارة وفيها نار. قال ابن السّائب: هي نار لا دخان لها. [زاد المسير (4/ 400)، تفسير القرطبي (10/ 23)]. (¬6) والنار الخالصة هي نار جهنم، فهي تختلف عن نار الدنيا، ولذا قال عليه الصّلاة والسّلام: "ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنّم"، قيل: يا رسول الله، إنْ كانت لكافية، قال: "فضلت عليهنّ بتسعةِ وتسعين جزءًا كلهنّ مثل حرّها"، أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 238)، ومسلم في صحيحه (4/ 2184) عن أبي هريرة - ولذا قال ابن مسعود: نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم. (¬7) لا ندري مَنْ هو صاحب السُّنَّة الذي يعنيه المؤلف، وليس من عادة المؤلف أن يذكره،=

من النور والماء والجنّ من النار والماء، قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، فعقوا فيه دلالة أنّهم كانوا مأمورين بالسجود لآدم -عليه السلام- قبل وجوده على شريطة وجوده، وإن حرّف. ثم في هذه القصة وفي سورة "الأعراف" لترادف الأخبار، أو كرّر عليهم الأمر (¬1) بالسجود. {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} توكيد بعد توكيد. {فَاخْرُجْ مِنْهَا} من صورته الحسنة أو رتبته الرفيعة أو الجنّة أو السماء إلى يوم الدِّين غاية اللعنة على المجازية، يريد به زيادة على الموعود، أي يعاقب بمجرد اللّعنة {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ثمّ يزاد في عاقبة نار جهنّم وما فيها من أنواع العقوبات {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} إضافة إلى الوقت لإبهام أحدهما وكون الآخر منصوصًا عليه؛ كقولك يوم العيد: لأزيننّ لهم الأباطيل والمحظورات في الأرض. {إِلَّا عِبَادَكَ} خصّ الخبيث بهذا الاستثناء أكثرهم الذين قال فيهم: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، هذه (¬2) إشارة إلى دين الإسلام. {بِسَلَامٍ} بتسليم وتحيّة منّا لكم أو بتسليم بعضكم على بعض، وقيل: بسلامة. {سُرُرٍ} جمع سرير. {قَالُوا سَلَامًا} نصب لأنه من جنس القول {وَجِلُونَ} خائفون جمع لوجل. {أَبَشَّرْتُمُونِي} على التعجّب، أتبشروني على حالتي هذه، أتؤملونني غير ¬

_ = ولعلّ هذا أول موضع يمرّ ذكره فيه، وما نقله عنه مخالف لحديث عائشة -رضي الله عنها - في صحيح مسلم مرفوعًا: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخُلِق آدم مما وُصِف لكم"، فلم يذكر الماء. فلا يقبل كلام صاحب السنّة الذي نقل عنه المؤلف؛ لأنّ الله يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] (¬1) في الأصل: (الأمر عليهم). (¬2) في "ب" "ي": (هذا).

كائن على ظن أنّي قد مسّني الخوف أفرح بقولكم (¬1) أم بالحقّ من عند الله، وإنّما سألهم قبل أن يعرفهم. {مِنَ الْقَانِطِينَ} الآيسين. {قَدَّرْنَا} أراد تقدير الله تعالى، فهو قضاؤه الحتم، وإنْ كان تقدير الملائكة فهو تخمين منهم. قال لوط: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} لأنّه (¬2) لم يعرفهم، فظنّ أنهم لصوص. {بِمَا كَانُوا فِيهِ} الهلاك والعذاب (¬3). {وَقَضَيْنَا} أوحينا {ذَلِكَ الْأَمْرَ} الشأن والقضية {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} برحمة للأمر المقضيّ {مُصْبِحِينَ} أي حالة إصباحهم. {فَلَا تَفْضَحُونِ} فلا تخزون. {عَنِ الْعَالَمِينَ} عن إجارتهم وحمايتهم. {لَعَمْرُكَ} [مرفوع على الابتداء تقديره: لعمرك] (¬4) قسمي، والعمر: البقاء، وفي هذا القسم شرف لرسول الله (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (ونقولكم). (¬2) في "ب": (لأنهم). (¬3) (الهلاك والعذاب) ليست في "ب". (¬4) ما بين [...] من "ب" "ي" فقط. (¬5) قال القاضي أبو بكر ابن العربي والقاضي عياض: أجمع المفسّرون على أن هذا قسم من الله بحياة محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول ابن عباس. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمَّد - صلى الله عليه وسلم -, لأنه أكرم البرية عنده. اهـ. أما القسم من المخلوق بحياة المخلوق، بأن يقول: لعمري؛ لأن معناه: وحياتي، فقد حلف بحياة نفسه، فهذا لا يجوز كما قال إبراهيم النخعي وغيره. مع أن هذه اللفظة في أشعار العرب كثيرة، فمنه قول النابغة: لعَمْري وما عمري عليّ بهيِّنٍ ... لقد نطقت بُطْلًا عليَّ الأقارعُ =

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} الهدّة عند انقلاب القريات من نحو السماء وانحدارها إلى الأرض، ويحتمل أن جبريل صاح بهم حينئذ، وقيل: الصيحة: الفزع والهلاك دون الصوت. {مُشْرِقِينَ} حالة الإشراق، وإنما وقعت العبارة بالإشراق والإصباح جميعًا لأنّ رفع القريات كان في وقت الإصباح، وانحدارها في وقت الإشراق. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} المتبصرين (¬1) المستدلّين بالسِّمات والأمارات، قال -عليه السلام-: "اتّقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ: {إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} (¬2). {وَإِنَّهَا} أي المؤتفكات (¬3) {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} طريق واضح بيّن أثره، كان أهل مكّة يمرّون بها في أسفارهم، وإنها الأيكة (¬4) والمؤتفكات، وقيل: مدبرين والأيكة. ¬

_ = وقول طرفة بن العبد: لعَمْرُكَ إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطَّوَل المُرْخَى وثِنْياهُ باليدِ والأبيات في ذلك كثيرة. [القرطبي (10/ 40)، زاد المسير (4/ 408)، التفسير الكبير للرازي (19/ 203)]. (¬1) وهم المتفرّسون، وبه قال مجاهد وابن قتيبة، وهو معنى قول الزجاج حيث قال: هم النُّظَّار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سِمَة الشيء، ولا يخرج ذلك عن معنى قول ابن زيد والفرّاء بأنهم: المتفكّرون. (¬2) أورده ابن جرير (14/ 96) عن ابن عمر وثوبان، وهو عند الترمذي (3127)، والطبراني في الأوسط (7843) عن أبي سعيد الخدري، والحديث ضعيف غير ثابت. (¬3) الضمير في قوله: {وَإِنَّهَا} عائد إلى قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} [الحجر: 67]، وهو عائد إلى قرى قوم لوط. (¬4) قال المفسّرون: "أصحاب الأيكة" هم قوم شعيب، سمّوا بذلك لأنّ الأيك هو الشجر الملتفّ، وكان مكانهم ذا شجر، فكذّبوا شعيبًا فأهلكهم الله بالحرّ، كما في سورة هود آية (87)، وتُجمع على الأيْك. [القرطبي (10/ 45)]. ولذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: الأيك هو شجر المقل. [القرطبي (10/ 45)، التفسير الكبير للرازي (19/ 204)].

{لَبِإِمَامٍ} طريق (¬1)، وإنما قيل ذلك لأنّه يتبع إلى المقصد، قال ابن عمر: مررنا مع النبيّ -عليه السلام- (¬2) على الحجر، فقال لنا: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلاّ أن تكونوا باكين حذرًا أن يُصيبكم مثل ما أصابهم"، ثم زجر فأسرع حتى خلفها (¬3)، وإنما أمرهم بالبكاء ليبالغوا في التفكّر والاعتبار، وإنّما حذَّرهم لأنّهم لو لم (¬4) يعتبروا لكانوا مستخفّين بآيات الله في أرضه، فاستحقّوا العقاب. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (¬5)} اتّصالها من حيث نفي الجور في إهلاك هؤلاء الأُمم الماضية، ومن حيث نفي العبث في التخليق. {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} إن كان متاركة فهو منسوخ بآية السيف، وإن كان ما يضاد الإكراه فهو باقٍ في حق العرب لأنّهم إن قبلوا الجزية صفحنا عنهم، وإن كان المراد به ترك الفحش والشَّتم، فهو باقٍ في حق الكافة. {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} عن النبيّ -عليه السلام- (¬6) أن: "السبع المثاني هي سورة الحمد لله ربّ العالمين" (¬7). {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ابن عباس: نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا (¬8)، ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال ابن قتيبة: قيل للطريق إمام؛ لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. [زاد المسير (4/ 410)]. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البخاري (3380، 3381). (¬4) في الأصل: (لولا). (¬5) في الأصل: (السموات والأرض). (¬6) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) أورده الدارمي (2/ 446) عن أُبيّ بن كعب، أخرجه الترمذي (8/ 91/ 2878) كتاب ثواب القرآن عن أبي هريرة مرفوعًا، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬8) ورد عن ابن عباس عند ابن جرير (14/ 128) بلفظ: نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه.

فحظر علينا النظر (¬1) إليها بعين الرغبة. رُوِيَ عنه -عليه السلام- أنّه مرّت به غنم في أيّام الربيع، فغطّى كمّه على عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: "بهذا أمرني ربّي" (¬2) {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} رجالًا ونساءً، أو ذكورًا وإناثًا، أو سخيًّا وبخيلًا، أو المكتسبين والعاجزين. {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إنْ لم يُؤمنوا {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} تواضع لهم وليّن جانبك لهم. {كَمَا أَنْزَلْنَا} التشبيه عائد إلى قوله: {آتَيْنَاكَ سَبْعًا} مجاهد: أهل الكتاب اقتسموا الكتاب (¬3) فيما بينهم، فحذفوا بعضًا وحرّفوا بعضًا (¬4) واختلقوا في بعض ونقلوا على الوجه بعضًا، أي: آتيناك المذكور. {كَمَا أَنْزَلْنَا} الكتاب {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} من قبل، وقال ابن زيد (¬5): إنّ المقتسمين هم أصحاب الحجر قوم صالح. {تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. وعن ابن عبّاس (¬6): هم الذين اقتسموا وجوه القرآن فيما بينهم، وهم من قريش؛ فزعم بعضهم أنه شعر، وبعضهم أنه سِحر، وبعضهم (¬7) {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} [الأنعام: 25]، وبعضهم أنه {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] (¬8) تقديره: آتيناك المذكور كما أنزلنا العذاب على هؤلاء المقتسمين المستهزئين. {جَعَلُوا الْقُرْآنَ} مجاهد: التوراة والإنجيل والقرآن، وقال ابن زيد: ¬

_ (¬1) في "أ": (عليه النظر). (¬2) ورد قريبًا منه رواه أبو عبيد وابن المنذر عن يحيى بن كثير أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بإبل لحيّ يقال لهم: بنو الملوّح أو بنو المصطلق، قد عبست في أبوالها من السمن، فتقنع بثوبه ومرّ ولم ينظر إليها, لقوله: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88]. (¬3) (الكتاب) ليست في "ب". (¬4) (بعضًا) ليست في الأصل. (¬5) نقله ابن الجوزي عن عبد الرحمن بن زيد (4/ 418). (¬6) ذكره ابن الجوزي في تفسيره عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفيه رواية أخرى عن ابن عباس ذكرها أيضًا ابن الجوزي عنه: أنهم اليهود والنصارى وبه قال الحسن ومجاهد. [زاد المسير (4/ 417)]. (¬7) في "ب": (وبعضهم أنه). (¬8) هذا ورد قريبًا منه عن قتادة عند ابن جرير (14/ 132).

ما أتى به صالح، وهذا القول على إحدى (¬1) روايتي ابن عباس. {عِضِينَ} أجزاء واحدها عضّة أصلها عضوة (¬2). {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: عن لا إله إلاّ الله (¬3)، وإنّما وقعت العبارة عن قول لا إله إلاّ الله بالعمل؛ لأن إظهاره من عمل اللّسان، وإنْ لم يكن القول في الحقيقة عملًا. {فَاصْدَعْ} الصدع: الفرق والفصل. {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} عن عروة بن الزبير: هم خمسة: الأسود بن عبد يغوث، وأبو زمعة الأسود بن المطلب، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، وابن غَيطلة الحارث بن قيس السهمي؛ فجاء جبريل -عليه السلام- إلى رسول الله (¬4) - صلى الله عليه وسلم -وهو يطوف بالبيت، فقام (¬5) إلى جنبه وهم يطوفون، فمرّ به الأسود بن المطلب، فرمى في وجهه بورقة خضراء فغمي، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فقام من الليل فشرب، فحبن بطنه فمات حبنًا، ومرّ به العاص بن وائل فأشار جبريل -عليه السلام- إلى أخمص رجله، فخرج على حمارٍ له يريد الطائف فربض به حماره على شبرقة فدخلت منه شوكة في أخمص رجله منعت عليه فقتلته، ومرّ به الحارث بن قيس وهو ابن العيطلة، فأشار إلى رأسه، فامتحض بها، ومرّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه ¬

_ (¬1) (إحدى) ليست في (الأصل). (¬2) قاله الكسائي وأبو عبيدة، أي اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاءً، أي أجزاءً فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ومنه قول عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه -: "لاَ تَعْضِيَةَ فِي ميراث"، أراد: تفريق ما يوجب تفريقه ضررًا على الورثة كالسيف ونحوه. وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس التي تقدَّم ذكرها. [زاد المسير (4/ 419)]. (¬3) ورد مرفوعًا عن أنس رواه الترمذي (3126)، وأبو يعلى (4058)، وابن جرير (14/ 140) وسنده ضعيف. (¬4) في الأصل: (النبي). (¬5) في "ي" "ب": (وقام).

كان أصابه قبل ذلك، وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يريش نبلًا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدشه في ذلك الموضع، فلم يكُ شيء يومئذ، فلمّا أشار إليه ببعض ذلك الخدش فقتله، وكان قد أوصى بنيه أن يُطالبوا خزاعة بدمه، وقال: والله إنّي لأدري أني لم أُقتل بسهمهم، ولكن أخاف أن يسبوا بعدي، وذكر باقي الحديث (¬1). وعن أبي يزيد المدني قال: جاء جبريل -عليه السلام-، فأخذ بيد النبيّ -عليه السلام-، فأجلسه على طريق المشركين، فمرّوا به قال: فيقول جبريل: مَنْ هذا؟ قال: فلان، ولم يسمّه، قال: كفيناك هذا في عينه، قال: ومرّ به آخر، فقال: مَنْ هذا؟ قال: فلان بن فلان، قال: كفيناك هذا في كليته، وجبريل أعلم بهم منه، قال: منهم من سألت حدقته على نحوه، ومنهم من أخذته في بدنه، فأمّا صاحب اليدين فمرّ برجل يرمي فتعلق سهم بردائه فقطع أكحله، فمات. وعن عكرمة: أخذ جبريل بظهر الأسود بن عبد يغوث فحناه حتى استوقف، فقال -عليه السلام-: "خالي خالي"، فقال جبريل عليه السّلام: دَعْه عنك فقد كفيتك. وذكر الكلبي: أنّهم ماتوا جميعًا في يوم إلا أبا زمعة، فإنه عمِي يومئذ، ثمّ خرج إلى الصَّحراء ذات يوم ومعه غلام فأتاه جبريل -عليه السلام- وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه فقال غلامه: ما أرى أحد يصنع بك شيئًا غير نفسك، حتى مات وهو يقول: قتلني ربّ محمَّد، قال: وأكل الحارث بن قيس السهمي حوتًا مالحًا، ويقال: طريًا، فلم يزل (¬2) ليشرب (¬3) عليه الماء حتى انقدّ فمات، وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. قال: وخرج العاص بن وائل في يوم مطير وابنان له، فنزل شعبًا من الشّعاب، فلما وضع قدمه على ¬

_ (¬1) هذه رواية ذكرها السيوطي عن "دلائل النبوّة" لأبي نعيم. انظر: "الدر المنثور" (8/ 657 - 658)، وسنده تالف لأنه من طريق السديّ الصغير عن الكلبي. (¬2) في "أ": (ينزل). (¬3) في الأصل: (كيقرب).

الأرض قال: لُدغت، قال: فطلبوا فلم يجدوا شيئًا، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. وأصاب الأسود بن عبد يغوث سموم فاسودّ حتى عاد حبشيًّا، فأتى أهله فلم يعرفوه، فأغلقوا دونه الباب حتى مات، وهو يقول: قتلني ربّ محمد لضيق صدري (¬1). عن الحسن: كان عند النبيّ (¬2) رجل فجعل يعرض عليه الإسلام، قال: فقال: والله إني لكاره لما تدعوني إليه، قال: "وأنا والله، لقد (¬3) كنت كارهًا، ولكني أكرهت عليه أنّ الله بعثني بالرسالة، فضقت به ذرعًا ووعدني فيها لأبلغن أو ليعذّبنني"، فقال الحسن: فبلغ والله رسول الله حتى عذره الله، فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات: 54]. {مِنَ السَّاجِدِينَ} كن ساجدًا، وإنما جمع لوقف رؤوس الآي، ويحتمل أن المراد بالساجدين الأنبياء عليهم السلام اللهمّ. {يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الموت (¬4). ... ¬

_ (¬1) أما عن أبي يزيد المدني فلم نجده، ولكن الحادثة مذكورة عند الطبرانيّ في الأوسط (4986)، والبيهقي في الدلائل (2/ 316 - 318)، عن ابن عباس وفي سنده محمَّد بن عبد الحليم، وهو مجهول. وهناك رواية أخرى عن ابن عباس في الدّلائل وسندها ضعيف، كما في الدرّ المنثور (8/ 658 - 657). (¬2) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "ب": (والله وأنا كنت)، وفي "ي": (والله إني لقد). (¬4) قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور. [زاد المسير (4/ 423)].

سورة النحل

سُوْرَةُ النّحْلِ مكية، عن ابن عباس وعطاء وابن المبارك (¬1) وجماعة إلا قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} [النحل: 126]، الآية فأنزلت في منصرف النبي -عليه السلام- من أحد (¬2)، وروى همام ومعمر عن قتادة أنها مدنية (¬3)، وكذا عن أُبي، وعن الحسن أن (¬4) أربعين آية من أولها مكية والباقي مدني (¬5)، وعن ابن عباس وقتادة أن من أول السورة إلى قوله: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، مكي، ومن قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا} [النحل: 95]، إلى قوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، مدني (¬6)، وهي مائة وثمان وعشرون آية (¬7) والله أعلم. {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {أَتَى أَمْرُ اللهِ} ابن عباس قال: لما نزلت (¬8) هذه الآية {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ ¬

_ (¬1) ذكره عن ابن عباس ابن مردويه كما في "الدر المنثور" (5/ 9)، وأما عن عطاء فذكره القرطبي (10/ 61)، وأما عن ابن المبارك فلم أجده. (¬2) النحاس في ناسخه (541) عن ابن عباس. (¬3) لم نجده ولكن نقل أبو عمرو الداني في "البيان" (175) عنه أنها مكية إلى قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا في اللهِ} [النحل: 41] والباقي مدني. (¬4) (أن) ليست في "أ". (¬5) ذُكر ذلك عن قتادة كما سبق، وكذا عن جابر كما في "زاد المسير" (4/ 426) أما عن أُبيّ والحسن فلم أجده. (¬6) ذكره القرطبي في تفسيره (10/ 65). (¬7) انظر "البيان في عَدّ آي القرآن" لأبي عمرو الداني (175). (¬8) في "ب": (أنزلت).

حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] الآية ثم نزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، ثم أميلت (¬1) قالت كفار قريش: يا محمَّد تزعم أنه قد اقترب للناس حسابهم والله ما يرى (¬2) مما تقول شيئًا، قال: فنزل {أَتَى أَمْرُ اللهِ} فوثب رسول الله -عليه السلام- (¬3) لا يشك أن العذاب قد أتاهم حتى قال له جبريل -عليه السلام-: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). {أَنْ أَنْذِرُوا} المشركين (¬5)، فإن إعلامهم بتوحيد (¬6) الله هو الموجب للخوف لما هم فيه من الباطل. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} عن ابن عباس: أن النبي -عليه السلام- ذكر لقريش القرون الماضية وماذا أهلكوا به وقال: ثم يعيدهم الله خلقًا جديدًا بعد الموت يوم القيامة، فأخذ أُبي بن خلف عظمًا باليًا نخرًا يتحات بلى فجعل يفته بيده ويذريه في الرياح ويقول: عجبًا لمحمد يزعم أنه يعيدنا إذا كنا عظامًا ورفاتًا بمنزلة هذا العظم البالي، وإنما يعاد خلقًا جديدًا إلى الدنيا فتنفخ الروح! هذا والله لا يكون أبدًا، فنزل في ذلك: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} بالعظم {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78]، الأول (¬7). {دِفْءٌ} نسل كل دابة، عن ابن عباس (¬8)، وقيل: نتاج الإبل وألبانها (¬9)، وقيل: سخونة أوبارها وأشعارها يستدفئونها. ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (أمهلت). (¬2) في "ب": (نرى). (¬3) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬4) (- صلى الله عليه وسلم -) من "ب". (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 66) وقريبًا منه في "زاد المسير" (4/ 426). (¬6) في "ب": (توحيد)، وفي "ي": (وحيد). (¬7) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير في قصة أُبي بن خلف ولم يسنده إلى ابن عباس. [زاد المسير (2/ 550)]. (¬8) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 353)، وابن جرير (14/ 167)، وروي عن ابن عباس قال: الدفء: الثياب، ابن جرير (14/ 166). (¬9) روي ذلك عن مجاهد أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 167) وهو الذي حكاه ابن فارس =

{جَمَالٌ} حسن المنظر {حِينَ تُرِيحُونَ} تردون الإبل إلى بيوتكم ومنازلكم رواحًا (¬1) {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} بالغداة إلى المرعى. {إِلَى بَلَدٍ} قيل: مكة حرسها الله (¬2)، وفي الحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد رسول الله والمسجد الأقصى" (¬3). والظاهر أنه أي بلد كان. {وَالْبِغَالَ} ما يولد من الحمار والفرس، وفي الآية دليل على كراهية لحم الفرس (¬4) {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} عام، وعن قتادة أنه السوس في النبات (¬5) والدود في الفواكه (¬6). ¬

_ = اللغوي عن الأموي قال: الدفء عند العرب: نتاج الإبل وألبانها، ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 550). (¬1) وهو الموضع الذي تقيم فيه الإبل، وهو الذي يطلق عليه المُرَاح: أي حين تريحون إبلكم فتردونها بين الشرعي ومباركها؛ قاله الفراء والزجاج. [معاني القرآن للفراء (2/ 96)، معاني القرآن للزجاج (3/ 191)]. (¬2) ابن جرير (14/ 169، 170) عن عكرمة وعزاه في "الدر المنثور" (9/ 11) لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو مروي عن عكرمة. (¬3) البخاري (1132)، ومسلم (1397) وغيرهما. (¬4) النصوص الشرعية تدل على جواز أكل لحوم الخيل. من ذلك حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحُمُر، ورخص في لحوم الخيل" أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 559) كتاب الصيد والذبائح، باب لحوم الخيل. ومسلم في صحيحه (1941) كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل. وقالت أسماء -رضي الله عنها -: ذبحنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه. أخرجه البخاري (9/ 553)، ومسلم (1942). وأما دعوى المؤلف أنه مكروه لعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود (3790)، والنسائي (7/ 202)، وأحمد (4/ 89) عن خالد بن الوليد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل قوم الخيل، وهذا الحديث إسناده ضعيف فيه صالح بن يحيى بن المقدام. قال البخاري: فيه نظر. وفي بعض ألفاظ الحديث أن خالدًا شهد خيبر وهو خطأ، فإنه لم يسلم - رضي الله عنه - إلا بعدها على الصحيح. والكلام يطول في حكم أكل لحوم الخيل لكن الذي يترجح لدينا هو الإباحة. وقد رَدَّ الطبري في تفسيره على من استدل في هذه الآية على كراهة لحوم الخيل كما ذهب إليه المؤلف وفصل القول في ذلك. [تفسير الطبري (14/ 175)]. (¬5) في "ب": (الثياب). (¬6) ذكره القرطبي في تفسيره عن قتادة. [القرطبي (10/ 80)].

{وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي إلى الله الهداية {وَمِنْهَا} ومن السبيل {جَائِرٌ} زائغ مائل شجر كله ما ينبت من الأرض. {تُسِيمُونَ} تزرعون (¬1). {وَمَا ذَرَأَ} في محل النصب عطفًا على {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (¬2) وقيل: في محل الخفض عطفًا على قوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} وقيل: في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة، و (الذرء): الخلق (¬3)، و (الألوان) الأجناس مجازًا أو الأصباغ حقيقي (¬4). {طَرِيًّا} جديد (¬5)، وقيل: أراد الطبري والمالح جميعًا، اقتصر على أحد طرفي الكلام كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، {حِلْيَةً} يعني اللؤلؤ والياقوت والمرجان والعنبر {مَوَاخِرَ} فواعل (¬6) يقال: مَخَرَت السفينة إذا شقت الماء بصدرها {وَلِتَبْتَغُوا} الواو مقحمة، وقيل: للعطف على مضمر (¬7)، أي لتتفكروا {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. ¬

_ (¬1) عامة المفسرين على أن "تسيمون" بمعنى: ترعون. منهم ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد. ولم أجد أحدًا من المفسرين من قال أن "تسيمون" بمعنى تزرعون. يقال: أسام فلانٌ إبله يسيمها إسامة إذا أرعاها، وهي إبل سائمة تطلق على الإبل التي تترك في الفلاة للرعي، ومنه قول الأخطل النصراني: مثلِ ابنِ بزعةَ أو كآخَر مثلِهِ ... أَوْلَى لك ابن مسيمةِ الأَجْمَالِ أي يا ابن راعية الأجمال. [الطبري (14/ 183)، معاني القرآن للزجاج (3/ 192)، معاني القرآن للفراء (2/ 98)]. (¬2) قاله الزمخشري وجعل أبو البقاء الناصب. لها فعلًا محذوفًا والمعنى: ما خلق فيها من حيوان وشجر، والتقدير على قول أبي البقاء: أثبت ما ذرأ لكم. [الإملاء (2/ 79)؛ الكشاف (4/ 404)]. (¬3) قاله قتادة أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 184). (¬4) في "ب": (حقيقة). (¬5) اللحم الطبري هي حيتان البحر؛ قاله قتادة، أخرجه عنه الطبري في تفسيره (14/ 186). (¬6) في الأصل كلام غير مفهوم. (¬7) قاله ابن الأنباري وقدره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا. نقله عنه السمين الحلبي في تفسيره. [الدر المصون (7/ 201)].

{أَنْ تَمِيدَ} أي لئلا وكراهة أن تميد تميل وتتحرك {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} وجعلنا فيها أنهارًا سبلًا. {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني أهل البادية المتحرين للقبلة بضوئها وبتيامنها وتياسرها في الليالي، وأصحاب الزروع بطلوعها وغروبها، والمحاسين بطوالعها وغواربها إذ لم يكن معهم آلة يقدرون بهذا ظل الشمس بالنهار. {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} يعني الطواغيت كلها من الجن والإنس والأصنام. {أَمْوَاتٌ} أي الذين تدعونهم من دون الله وهم الشيطان والفراعنة {أَمْوَاتٌ} بقلوبهم ليست لهم حياة الإيمان, ويحتمل أن المدعوين قوم درجوا وانقرضوا من هؤلاء الشياطين والفراعنة، ويحتمل الأصنام على سبيل الحقيقة عند من يجعل الموت والجحود شيئًا واحدًا، وعلى سبيل المجاز عند من يجعل الموت معنى تعقب الموت (¬1) {أَيَّانَ} أوان. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} عن ابن عباس: نزلت في المقتسمين وذلك أن المشركين بعثوا ستة عشر رجلًا إلى عقبات مكة على طريق الناس أيام الحج، على كل عقبة أربعة ليصدوا (¬2) الناس عن رسول الله وقالوا لهم: من أتاكم يسألكم عن محمَّد فليقل بعضكم: هو شاعر، وبعضكم: هو كاهن، وبعضكم: هو مجنون، وبعضكم: هو يتلو علينا أساطير الأولين، وأن لا تروه ولا يراكم خير لكم، فإذا انتهوا إلينا صدقناكم. وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى كل أربعة أربعة من المسلمين ليكذبوهم ويقولوا: "هو يهدي إلى الحق ويأمر بصلة الرحم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير"، فكان الناس يسألونهم: ما ¬

_ (¬1) (الموت) ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (ليصدقوا).

هذا الخير الذي يدعو إِليه؟ فكانوا يقولون: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} فكانوا يسألون ما هذه الحسنة؟ فكانوا يقولون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية (¬1). {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} في التفسير أن نُمرود بن كَنعانَ كان بني صرحًا ببابل يمكر به ويسخر ويهمس (¬2)، عن ابن وهب: كان طولهُ في السماء خمسة آلاف ذراع (¬3)، وعن كعب: كان فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه وخرّ عليهم الباقي من فوقهم (¬4)، ويحتمل أن ذكر البنيان وهدمه على وجه التمثيل والاستعارة كنقض الغزل. {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم الراسخون من جملة المؤمنين يستدلون بهذا الخطاب يوم القيامة أن الكفار المخصوصون بالزجر والإنكار وإدخال النار. {هَلْ يَنْظُرُونَ} استفهام بمعنى اللوم والتقريع. {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ (¬5)} دون أمره وإذنه {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي هكذا احتج بالتقدير عند التذكير ولزوم النكير لرفع التعيير الذين كانوا من قبلهم. وإنما جاز قوله: {فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي} جزاء الشرط المذكور لما فيه من الإعلام، أي فاعلم أن الأمر على هذه الصورة وبعد هذه الفترة، أي ليبعث الموتى وليبين على طريق المشاهدة. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا في اللهِ} عن ابن عباس نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرهم أهل مكة بلال بن رباح المؤذن وعمار بن ¬

_ (¬1) قريبًا منه عن السدي عند ابن أبي حاتم (7/ 2280). (¬2) عن ابن عباس عند ابن جرير (14/ 204). (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره (10/ 97) عن ابن وهب وعن ابن عباس أيضًا، وزاد: وكان عرضه ثلاثة آلاف. (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (10/ 97) عن كعب ومقاتل أيضًا. (¬5) (شيء) من "ب".

ياسر وصهيب بن سنان وخباب بن الأرت وعايش (¬1)، وحين أسروهم وعذبوهم ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فابتاع نفسه بماله وفيه نزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] الآية، وأما سائر أصحابه فنالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا بعد ذلك إلى المدينة {الَّذِينَ صَبَرُوا} أي كانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. {بِالْبَيِّنَاتِ} أي أرسلنا هؤلاء الرسل بالبينات {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يدل أن القرآن ما لا يعلم إلا بالتوقيف النبوي، وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يدل أن فيه ما يعلم بالتفكر والتدبر، فأما ما لا يعلم تأويله إلا الله فذلك جنس ثالث. وقد بين ذلك في أثناء المحكمات على طريق الإجمال دون اليقين، وما يعلم معناه عند ورود الخطاب من غير توقيف ولا تدبر (¬2) ولا تفكر جنس رابع، وهو (¬3) الحجة على جميع العقلاء. {أَنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الْأَرْضَ} خسف سوحها بما فيها ويحتمل تقليب الأعيان وإفساد الأبنية، وكان المراد بالخسف حالة القرار (¬4) والسكون، ولذلك انعطف عليها حالة التقلب (¬5). {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} فالمتقدم حالة الأمن فانعطف حالة الخوف عليها، وإن أراد الحالتين فمعناه يتخوف وهو بأن يلقي الرعب في قلوبهم فلا يزالون يتخوفون من كل شيء لا يطيب لهم. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي عن الكلبي ذكره عن صهيب وبلال وخباب وعمار (10/ 107)، وأما عايش فذكره ابن الجوزي في تفسيره (2/ 560). (¬2) (ولا تدبر) من الأصل فقط. (¬3) في "أ": (وهي). (¬4) في الأصل و"أ": (القرآن) وهو خطأ. (¬5) أظهر الأقوال وأجمعها في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ} [النّحل: 46]، أنه عام في كل ما يتقلبون فيه سواء تقلبهم في أسفارهم أو في نومهم أو في ليلهم ونهارهم. [معاني القرآن للزجاج (3/ 201)، زاد المسير (2/ 562)].

{دَاخِرُونَ} صاغرون، عدي بن أرطأة قال: ألا أحدثكم بحديث (¬1) ما بيني وبين رسول الله إلا رجل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله (¬2) ملائكة في السماء السابعة سجود منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صار ملكًا قائمًا، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (¬3). {مِنْ فَوْقِهِمْ} قيل: من جهته فوقهم فهم يخافون نزول عذاب ربهم من تلك الجهة، وقيل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} الذي {مِنْ فَوْقِهِمْ} بلا كيفية (¬4). {اثْنَيْنِ} للتأكيد لا لتعليق الحكم بعدد (¬5) محصور، يدل عليه ما بعده وهو قوله (¬6): {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. {وَاصِبًا} قال أبو عبيدة: دائمًا (¬7)، وقال ابن عرفة: ثابتًا دائمًا {تَجْأَرُونَ} ترفعون أصواتكم بتلبية واستغاثة، والمراد به حوارهم حالة الاضطرار. ¬

_ (¬1) (بحديث) ليست في "ب". (¬2) (إن لله) ليست في "ب". (¬3) المروزي "تعظيم قدر الصلاة" (260)، وابن عساكر في تاريخه (4/ 58، 61) قال ابن كثير: إن إسناده لا بأس به، لكن الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ضعفه في "السلسلة الضعيفة" (1988). (¬4) الآية صريحة في إثبات العلو والفوقية لله -عَزَّ وَجَلَّ-، بل الأدلة من القرآن في إثباتها كثيرة منها قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أن الأحاديث في إثبات العلو والفوقية لله كثيرة جدًا ليس هذا مقام بسطها. انظر كتاب مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي، وكتاب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص 315). (¬5) في الأصل: (بعد). (¬6) (قوله) ليست في الأصل و"ب". (¬7) روي ذلك أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد، رواه عنهم الطبري في تفسيره (14/ 247 - 248)، ومنه قول أبي الأسود الدُّؤلي: لا أبتغي الحمدَ القليل بقاؤهُ ... يومًا بذمُّ الدهرِ أجمعَ واصِبَا

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} عن ابن عباس أن بني خزاعة وبني كنانة كانوا يزعمون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله (¬1)، تعالى الله (¬2) عما يقولون، {وَلَهُمْ} قيل: الواو للاستئناف، وقيل: للعطف (¬3). {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} لكراهتهم البنات فكانت تجمع همومهم في قلوبهم وتتزايد أنفاسهم في صدورهم فيكظمون بها، والمخنوق يسود وجهه باجتماع الدم المخنوق الكثير في بشرته. {يَتَوَارَى} يختفي بما يواري {أَيُمْسِكُهُ} وترتب (أم) عليها لإثبات إحدى الحالتين حقيقة وضرورة لا بعضها، ومجازة. إما ليفعلن (¬4) كذا وإما ليفعلن كذا (¬5)، {هُونٍ} هوان، والهاء عائدة إلى ما بشر به، و (الدّس): إدخال الشيء في الشيء، كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق فأنزل {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} [التكوير: 8]. {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} نسبة البنات إلى الله تعالى، أو وأد البنات وقيل لسوء وصفهم الباطل والدون (¬6). {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (¬7) وصفة الصدق والحق، قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] الآية. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي (10/ 103) دون نسبة لأحد، وكذا ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 567). (¬2) (الله) من "ب" فقط. (¬3) جَوَّز الفراء والحوفي والزمخشري وأبو البقاء أن تكون الواو عاطفة فتكون "ما" منصوبة المحل عطفًا على "البنات" و"لهم" عطف على "لله" أي: ويجعلون لهم ما يشتهون. [معاني القرآن للفراء (2/ 105)، الكشاف (2/ 414)، الإملاء (2/ 82)]. (¬4) في "ب" "أ": (لتفعلن). (¬5) في "ب": (كذا هو). (¬6) (والدون) ليست في "ب". (¬7) (ولله المثل الأعلى) ليست في "أ".

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} الذين يصفونه بالتعطيل عن الصفات (¬1). {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} صور الجهل عقلًا والأماني براهين ووسوس بالملاذ العاجلة حتى يؤثرها على المصالح الآجلة {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} لانعقاد أسباب الاتحاد (¬2) بينه وبينهم بعد انحدارهم عن التوفيق إلى الخذلان. {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} هو قيام الساعة، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)} [الذاريات: 8,7]، وقال: {النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} [النبأ: 2 , 3] وقيل: هو القرآن، فقيل: إنه سحر وشعر وكهانة يدل عليه قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ثم ترتب عليه بفعل آخر فيه التعرف بصفات الفعل والوجدان لاعتبار أن الجمع والجنس قريبين. {فَرْثٍ} رجيع (¬3) في الكرش والأمعاء ودم في العروق (¬4). {لَبَنًا} هو الحليب الطيب لا يشبه المجاورين الخبيثين في طعم ولا لون ولا رائحة ولا طبيعة مع لطافته وسرعة استحالته، وأنه يجري من الطعام والشراب ويتخذ منه الحلو والحامض والمالح والرقيق والخاثر والمنعقد، ينفع كل واحد لشيء ويستلذ بكل شيء. وقال -عليه السلام-: "إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر" (¬5). ¬

_ (¬1) الذي يكرهونه هو نسبة البنات إليهم وينسبونه إلى الله، فإذا كان ذلك صفة نقص بالنسبة لكم فكيف تنسبون صفة النقص هذه -على حد زعمكم- إلى الله فهذا من تعطيل صفات الكمال إلى الله ووصفه بصفات النقص، وهذا معنى قول المؤلف: يصفونه بالتعطيل عن الصفات أي صفات الكمال. (¬2) في "ب": (الانعقاد). (¬3) في "أ" "ي": (وجع) وهو خطأ. (¬4) كما نقل القرطبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر: 5]. [تفسير القرطبي) (10/ 124)]. (¬5) أحمد (5/ 314)، والنسائي في الكبرى (6863، 6864)، وعبد بن حميد (560)، =

قال ابن عباس: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) على ميمونة فجاءتنا بإناء من لبن فشرب النبي -عليه السلام- وأنا على يمينه وخالد على شماله فقال لي: "الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالدًا" (¬2)، فقلت (¬3): ما كنت لأؤثر على سؤرك أحدًا، ثم قال -عليه السلام-: "من أطعمه الله طعامًا فليقل اللهمَّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه" (¬4). وعن أبي هريرة عنه -عليه السلام-: "نزل عليّ ملكان بأربعة أقداح لبن وعسل وخمر وماء فقالا: إن يشرب الخمر يغو وتغو أمته، وإن يشرب العسل يسفه وتسفه أمته، وإن يشرب الماء يغرق وتغرق أمته، وكنت رجلًا أحب اللبن فأخذت قدح (¬5) اللبن فشربت منه ثلاثة أنفاس، فصعد الملكان وهما يقولان: رشد ورشدت أمته الحمد لله الذي هداه للفطرة لشرب إبراهيم -عليه السلام- (¬6). {سَكَرًا} خمرًا وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد قبل الطبخ، عن ابن مسعود أن رجلًا به صفار أتاه فسأله عن السكر فنهاه (¬7) {وَرِزْقًا حَسَنًا} هو المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب التي من عصير العنب، وقيل: نزلت قبل تحريم الخمر. ¬

_ = والطبراني في الكبير (9163، 9164)، والبزار في مسنده (1450)، وابن حبان (6075)، والحاكم (7425)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (6664) والحديث حسن. (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬2) الترمذي (1978)، وأحمد (1/ 220، 225)، والحميدي في مسنده (482)، والبيهقي في الشعب (5957)، والحديث حسن. (¬3) في "ب": (فقال). (¬4) الترمذي (3455)، وابن ماجه (3322)، وأحمد (1/ 522، 284) والحديث حسن. (¬5) (قدح) من "أ" فقط. (¬6) لم نجده بهذا اللفظ لكن قريبًا منه حديث أنس مرفوعًا في صحيح البخاري (كتاب الأشربة - باب شرب اللبن (10/ 70 - الفتح) وهو حينما أسري به قال: "فأتيت بثلاثة أقداح: قدح فيه لبن، وقدح فيه عسل، وقدح فيه خمر، فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي: أصبت الفطرة أنت وأمتك". (¬7) قريبًا منه عند ابن أبي شيبة (23832).

(وأوحى إليهم) كقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7]. {النَّحْلِ} بين الذباب والزنبور يذكَّر ويؤنث {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} قيل: بعضها كقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، وقيل: الجميع كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] لأنها تجنب شيئًا من الثمرات. {سُبُلَ رَبِّكِ} الوصول إلى اتخاذ العسل دون سبل الشريعة {ذُلُلًا} حال للسبل، وقيل: حال للنحل (¬1)، {مِنْ بُطُونِهَا} وهي الأفواه، وقيل: من بطونها حقيقة، {فِيهِ} في العسل (¬2)، وقيل: في القرآن (¬3) {شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} من كل داء، وقيل: هو خاص، والعسل يعجن بها (¬4) الترياقات والمسهلات الحواريات (¬5)، وقالت عائشة: "كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) الحلو البارد" (¬7)، وقال القتبي: يعني العسل، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬8): "من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء أبدًا" (¬9). ¬

_ (¬1) وجوز السمين الحلبي أن تكون حالًا من فاعل "اسلكي" أي مطيعة منقادة. والموصوف بها إما السبل فيكون المعنى اسلكي السبل مُذَلَّلَةٌ لك فلا يتوعر عليها مكان سلكته وهذا قول مجاهد واختيار الزجاج، وقيل: الموصوف بها النحل ويكون المعنى إنك مذلَّلَة بالتسخير لبني آدم وهذا قول قتادة واختيار ابن قتيبة. [زاد المسير (2/ 570)، معاني القرآن للزجاج (3/ 210)، الدر المصون (7/ 262)]. (¬2) من قوله: (وقيل حال) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) قاله مجاهد في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} قال: في القرآن شفاء أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 289)، وقيل: بل أريد به العسل رواه العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وبه قال ابن مسعود وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية، والله أعلم. [زاد المسير (570)]. (¬4) في "أ": (به). (¬5) الحواريات: النقيات [لسان العرب (4/ 219) "حور"]. (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ، "ي". (¬7) أحمد (6/ 38،40)، والنسائي في الكبرى (6844)، والحميدي في مسنده (257)، وأبو يعلى (4516)، والبيهقي في الشعب (5928) والحديث صحيح. (¬8) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬9) ابن ماجه (3450)، والبيهقي في الشعب (5930) والحديث ضعيف.

{أَرْذَلِ الْعُمُرِ} الهرم {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ} لا يعقل (¬1)، وقيل: العلم الكسبي. {وَاللهُ فَضَّلَ} ابن عباس: نزلت في نصارى نجران (¬2) أنهم استقبحوا إشراك مماليكهم معهم في الأموال فكان إشراكهم عيسى -عليه السلام- (¬3) بالله تعالى أقبح. ابن عباس في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: البنون الصغار والحفدة ما قد أعان والده على عمله (¬4)، وقال ابن مسعود: البنون الأولاد والحفدة الأختان (¬5)، وقيل: الحفدة أولاد الأولاد (¬6)، وقيل: الخدَم (¬7). {رِزْقًا} مصدر نصب بالملك و {شَيْئًا} اسم نصب بالرزق (¬8)، وإنما وحِّد الفعل في أول الآية وجمع في آخرها. الإبهام ما كالذي. {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} قالوا: هي (¬9) منا بمنزلة الوالد من الولد ووصفوه بالكيفية. ¬

_ (¬1) قاله الفراء. [معاني القرآن (2/ 110)]. (¬2) عزاه القرطبي (10/ 126) لابن عباس ومجاهد وقتادة، وعزاه في زاد المسير (4/ 468) لابن عباس من طريق أبي صالح. (¬3) (السلام) ليست في "أ". (¬4) لفظ ابن عباس الذي رواه الطبري في تفسيره (14/ 298) سئل عن قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: من أعانك فقد حفدك، أما سمعت قول الشاعر: حَفَدَ الولائِدُ حولهنَّ وأُسْلِمَتْ ... بأكفهنَّ أَزمَّةُ الأجمال (¬5) ورد في البخاري في تاريخه (6/ 154)، وابن جرير (14/ 296)، والطبراني في الكبير (9088، 9090، 9092، 9093)، والحاكم (2/ 355) وفيه: الحفدة الأختان. (¬6) هذا ورد عن ابن عباس عند ابن جرير (14/ 297). (¬7) هذا ورد عن عكرمة عند ابن جرير (14/ 298). (¬8) هذا مذهب أبي علي الفارسي ذكره في الإيضاح (1/ 155) وقيل: إن "شيئًا" منصوب على المصدر، والتقدير: لا يملك لهم شيئًا من الملك، وقيل: إنه بدل من "رزقًا" واستبعده السمين الحلبي لأن الرزق شيء من الأشياء. (¬9) في الأصل: (قال هو).

{لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} على انفاق شيء، تقديره: من كان عبد كل شيء (¬1) ثقل وعيا واشتقاقه من الكلال وهو العي. {كَلَمْحِ} كلحظ وهو أيسر فعل وأسرعه، فوقع التشبيه به لتعلموا إنما هو آت آت وكأن قد وقع، وقيل: التنبيه على أن الساعة متصلة بأيام الدنيا ليس بينهما زمان. {لَا تَعْلَمُونَ} أراد نفي الفعل والعلم الكسبي. {جَوِّ السَّمَاءِ} الهواء مجملة تفسيرها {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]. {سَكَنًا} موضع سكون وقرار للحاضرة {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} وهي القباب والقشوع من الأديم {ظَعْنِكُمْ} ارتحالكم و {إِقَامَتِكُمْ} لبثكم في المنازل {أَصْوَافِهَا} شعر الغنم {وَأَوْبَارِهَا} شعر الإبل {وَأَشْعَارِهَا} ما لا يتلبد، و (الأثاث) أمتعة البيت حين زمان الخلوقة (¬2) والبلى. {ظِلَالًا} هي ظلال الغيوم والأشجار والأخبية ونحوها. {سَرَابِيلَ} قمص، وهذا مقتصر على أحد طرفي الكلام {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وهو الدروع والجواشن والجباب المحشوة من القز ونحوه. {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ} بأنها منه {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ويسندون اتصالها إلى الأصنام. {وَيَوْمَ} واذكر يوم شهد الأنبياء والأئمة {لَا يُؤْذَنُ} حالة الختم على الأفواه كقوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65] والاستعتاب طلب العتبى وهو الرضا. (إلقاء القول): صرفه. {السَّلَمَ} الاستسلام والخضوع. {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} أي فوق ما هم فيه. ¬

_ (¬1) في "أ": (عبد أكل ثقل)، وكذا في "ي". (¬2) في الأصل و"أ": (الخلوق).

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} شهادة أن لا إله إلَّا الله {وَالْإِحْسَانِ} القيام بالفرائض {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} صلتهم {عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، وقيل: ما وعد الله عليه النار {وَالْبَغْيِ} الاستطالة توكيدها تشديدها وتوثيقها. {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي كامرأة تنقض غزلها، ومن شرط الأمثال التصور دون الوجود، وزعم الكلبي أنها امرأة قرشية حمقاء كانت في قديم الدهر تسمى ريطة (¬1) وتلقب جعراء، كانت تغزل بمغزل مثل غلظ الذراع والصدارة مثل الإصبع وفلكة عظيمة فأبرمته وأمرت جاريتها فنقضته {أَنْكَاثًا} فنهى الله هذه الأمة أن تكون مثلها، والأنكاث جمع نكث (¬2) {دَخَلًا} دَغْلًا ومكرًا وخديعة (¬3) {أَنْ تَكُونَ} أو بأن تكون أو كراهة أن تكون قبيلة أكثر عَددًا أو عِددًا من قبيلة. قال ابن عباس: كان بين كندة وبين مراد (¬4) قتال حتى كلّ الظهر، ثم تواعدوا ستة أشهر حتى يصلح الظهر وتجم الخيل، فلما مضت خمسة أشهر أمر قيس بن معدي كرب قومه بالتوجه إليهم فقالوا: قد بقي من الأجل شهر، فمكث حتى علم أنه بايتهم بعد انقضاء الأجل ثم سار إليهم فإذا هو يوم انقضاء الأجل فقتلوه ¬

_ (¬1) سماها القرطبي (10/ 153) (ريطة بنت عمرو بن كعب)، وانظر كذلك زاد المسير (4/ 485). (¬2) ومعناه: أنقاض، قال ابن قتية: الأنكاث: ما نقض من غزل الشعر وغيره. ومعنى الآية: لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه فتكون كامرأةٍ غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك النسج. ذكر هذا المعنى ابن الجوزي في تفسيره. [زاد المسير (2/ 580)]. (¬3) [قاله ابن الجوزي. زاد المسير (2/ 580)]. (¬4) لم نجد هذا عن ابن عباس، والذي ورد عنه في هذه الآية أنه قال: ناس أكثر من ناس. أخرجه الطبري وابن أبي حاتم، وهو ما ذكره اللغويون في معنى "أربى" ومنه سمي الربا؛ لأن فيه معنى الزيادة، ومنه قول الشاعر وينسب إلى حاتم الطائي: وأسْمَرَ خَطِّيُّ كأنَّ كعوبه ... نوى القَسْبِ قد أَرْبَى ذراعًا على العَشْرِ [تفسير الطبري (14/ 345)، تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2300)، ديوان حاتم (ص 253)].

وهزموا قومه. بين كيفية زلل الأقدام بنقض الأيمان بعد التوثيق والإبرام لأنها نزلت من الفريقين. {مَا عِنْدَكُمْ} هو ما استعرضنا الله تعالى من العاجل {وَمَا عِنْدَ اللهِ} هو ما وعدناه من الآجل {يَنْفَدُ} يفنى (¬1) {بِأَحْسَنِ} الذي لم يختلط به ما يفسده ويحبط أجره وهو الإيمان. قال ابن عباس أن وفدًا من كندة وحضرموت قدموا على رسول الله فأسلموا ولم يهاجروا وأقروا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم إن رجلًا من حضرموت يقال له عبدان بن أشوع قال: يا رسول الله إن امرأ القيس الكندي (¬2) جاورني في أرضي فاقتطع أرضي فذهب بها وغلبني عليها، فأنكر الكندي فأنزل {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ} الآيتان، فقرأهما رسول الله على امرئ القيس فقال: أما ما عندي فينفد، وأما صاحبي فيجزى بأحسن ما كان يعمل، اللهم إنه صادق فيما قال، يا رسول الله لقد اقتطعت أرضه والله ما أدري كم هو ولكنه يأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل في (¬3) امرئ القيس (¬4). {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} {حَيَاةً طَيِّبَةً} في الجنة (¬5)، وقيل: في الدنيا بكسب الحلال (¬6)، وقيل: بالقناعة (¬7)، وقيل: بأن لا تحوج إلى أحد. ¬

_ (¬1) (ينفد: يفنى) ليست في الأصل و"أ". (¬2) (الكندي) ليست في الأصل. (¬3) (في) ليست في "أ". (¬4) هذه القصة عن امرئ القيس بطولها رواها الكلبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروايته عنه ساقطة، فالخبر بنزول هذه الآية لا يصح والله أعلم، والقصة ذكرها ابن الجوزي في زاد المسير (2/ 581)، والقرطبي في تفسيره (10/ 173). (¬5) قاله الحسن وقتادة ومجاهد وابن زيد رواه عنهم الطبري في تفسيره (14/ 353). (¬6) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - والضحاك، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 351)، وابن أبي حاتم (7/ 2301). (¬7) روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن البصري، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 352).

{فَإِذَا قَرَأْتَ} قصدت قراءة القرآن، اتصالها من حيث إن الاستعاذة من الأعمال الصالحة. {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} واستثناء إنما كان له (¬1) عليهم سلطان لتمكينهم إياه من أنفسهم أول مرة. {بَدَّلْنَا آيَةً} ابن عباس (¬2): كان -عليه السلام- إذا نزل عليه آية فيها شدة أخذ الناس بها وعملوا لها ما شاء الله أن يعملوا فيشق ذلك عليهم، فينسخ الله هذه الشدة ويأتيهم بما هو ألين منها وأهون عليهم رحمة من الله لهم، فيقول كفار قريش: والله ما محمَّد إلا يسخر بأصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وغدًا بأمر ويأتيهم بما هو أهون عليهم منه، وإنه ليتكذبه ويأتيهم به من عند نفسه، وما يعلمه إلا عياش غلام حُويطب بن عبد العزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي وكانا قد أسلما، وكان -عليه السلام- يأتيهما ويحدثهما ويكلمهما وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانية فأنزل {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ} الآية يزيد بن رومان: كان بمكة نصراني يقال له جبر، وكان يجلس عند المروة يبيعه له وكان -عليه السلام- يتحدث عنده فتقول قريش: ما يعلِّم محمدًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، وقيل: كان يهوديًا (¬3) فأنزل {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ}. {يَوْمَ} نصب بالغفران والرحمة (¬4) {تُجَادِلُ} تدافع وتذب عن نفسها. عن ابن عباس في قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً ¬

_ (¬1) في "ب": (لهم). (¬2) رواية ابن عباس هذه رواها عنه الكلبي، وهذا إسناد ساقط كما تقدم وذكرها الواحدي في أسباب النزول (ص565) دون عزوٍ لقائل. وابن الجوزي في زاد المسير (2/ 583). (¬3) لم نجده عن يزيد بن رومان، لكن ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 492). (¬4) انتصاب "يوم" بالغفران والرحمة لا يلزم من ذلك تقييد رحمته بالظرف لأنه إذا رحم في هذا اليوم فرحمته في غيره أولى وأحرى، ويجوز أن ينتصب بـ "اذكر" مقدرة؛ قاله السمين الحلبي. [الدر المصون (7/ 293)].

مُطْمَئِنَّةً (¬1)} قال: هي مكة (¬2)، أي هي مثل مكة كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]، وقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} [قريش: 3] الآية وإنما كانت {آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} حين تفرست فيها قريش إلى أن ألحد فيها عمرو بن لحي، ثم ابتلوا بالقحوط مدة بعد مدة وابتلوا بالفجار الأول والفجار الثاني والفيل ويوم بدر ويوم الفتح. (أَنْعُم) جمع (نِعَم) وفي الحديث: نادى منادي رسول الله (¬3) أنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا (¬4)، (إذاقةُ اللباس) كإذاقة العذاب والوبال، وفي الحديث: "لا حتى تذوقي عسيلته وبذوق عسيلتك" (¬5). {الْكَذِبَ} نصب بنصب (¬6) المضمر أي يصف ألسنتكم الوصف (¬7) الكذب (¬8). {قَانِتًا} بدل من الخبر الأول (¬9) ولو كان صفة للخبر الأول. ¬

_ (¬1) (مطمئنة) من "ب". (¬2) ابن جرير (14/ 383) وبه قال مجاهد وقتادة وابن زيد. (¬3) في "ب": (الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) ذكره صاحب الكشاف في تفسيره (670). (¬5) البخاري (2496)، ومسلم (1433). (¬6) في "ب" "ي": (يوسف). (¬7) (الوصف) ليست في "ب". (¬8) أظهر الأقوال -والله أعلم- أن "الكذبَ" منصوب على المفعول به وناصبه "تصف"، ويكون معمول القول الجملة من قوله: "هذا حلال وهذا حرام" وإلى هذا نحا الزجاج والكسائي. والوجه الثاني: أن ينتصب مفعولًا به للقول ويكون قوله: "هذا حلال" بدلًا من "الكذب" لأنه عينه. والوجه الثالث: أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على "ما" إذا قلنا إنها بمعنى الذي. والتقدير: لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء. والوجه الرابع: أن ينتصب بإضمار "أعني" ذكره أبو البقاء واستبعده السمين الحلبي وقال: لا حاجة إليه ولا معنى عليه. [الإملاء (2/ 86)، معاني القرآن للزجاح (3/ 222)، الدر المصون (7/ 297)]. (¬9) جَوَّز أبو جعفر النحاس أن يكون "قانتًا" نعتًا أو خبرًا ثانيًا. [إعراب القرآن (3/ 227)].

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} قال ابن عباس (¬1): أمرهم موسى -عليه السلام- بيوم الجمعة فقال يفرغون إلى الله في كل سبعة أيام يومًا واحدًا، فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئًا من صنيعكم وستة أيام بصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا ينبغي إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم، ثم جاءهم عيسى ابن مريم -عليه السلام- بالجمعة بعده فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون به اليهود، فاتخذوا اليهود بقول الله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} وقيل: الضمير عائد إلى إبراهيم -عليه السلام- (¬2) {اخْتَلَفُوا} أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} الآية منسوخة بآية السيف وليس فيها ما يوجب كونها منسوخة (¬3). {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} عن أبي بن كعب: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم مثل هذا لنربينَّ عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال -عليه السلام-: "كفوا عن القوم إلا أربعة" (¬4). ¬

_ (¬1) عزاه لابن عباس من طريق أبي صالح ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 505). (¬2) لا وجه في عود الضمير إلى إبراهيم -عليه السلام- في قوله: "اختلفوا فيه"، وعامة المفسرين على أن الضمير عائد إلى السبت الذي اختلفت فيه اليهود مع موسى -عليه السلام-. انظر: [تفسير الطبري (14/ 399)، زاد المسير (2/ 592)، معاني القرآن للفراء (2/ 114)، ابن كثير (2/ 730)]. (¬3) ذكر ابن كثير وابن الجوزي والقرطبي وغيرهم أنها منسوخة بآية السيف لكن فصل القرطبي تفصيلًا جيدًا فقال: هي محكمة في جهة العصاة من الموحدين ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. [تفسير القرطبي (10/ 200)، زاد المسير (2/ 593)، تفسير ابن كثير (2/ 731)]. (¬4) الترمذي (3129)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (5/ 135)، والنسائي في الكبرى (11269)، وابن حبان (487)، والطبراني في الكبير (2937)، والحاكم (2/ 358 , 359)، والبيهقي في الدلائل (3/ 289) والحديث حسن.

عن الفراء (¬1): لما مثَّل المشركون بحمزة يوم أحد قال -عليه السلام-: "لأمثلن به سبعين شيخًا من قريش" فأنزل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية (¬2)، ثم أمره بالصبر فقال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} ثم أمره بما يصبر عزيمة (¬3) فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ}. ... ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معاني القرآن (2/ 115). (¬2) رواه الطبراني في الكبير (11051) بلفظ (ثلاثين رجلًا)، والبيهقي في الدلائل (3/ 288) وفيه ضعف، وقال القرطبي [تفسير القرطبي (10/ 201)]: أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. (¬3) في "ب": (عنه).

سورة الإسراء

سُوْرَةُ الإسْرَاءِ سورة بني إسرائيل: مكية، إلا ثماني آيات نزلت بالمدينة (¬1) في وفد ثقيف وهو قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]، إلى الآيات الثاني (¬2)، وعن ابن عباس قوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي} [الإسراء: 80] [نزلت بين مكة والمدينة (¬3)، وعن ابن المبارك قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76]، وقوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي}] (¬4) نزل في اليهود حيث قالوا لرسول الله: ليست هذه الدار بدار الأنبياء (¬5)، وعن الحسن: أن خمس آيات نزلت بالمدينة: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي} [الإسراء: 33]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء: 57]، {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الإسراء: 26] (¬6). ¬

_ (¬1) وقال القرطبي: إلا ثلاث آيات: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76]، نزلت حين جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثقيف وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]. [تفسير القرطبي (10/ 203)]. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 3) عن ابن عباس. (¬3) قريبًا منه عند الترمذي (3139)، وابن جرير (15/ 54)، والطبراني في الكبير (12618)، والحاكم (3/ 3)، والبيهقي (2/ 516، 517) وسبب النزول ضعيف لا يثبت. (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬5) ذكره الشوكاني في "فتح القدير" (3/ 295) دون نسبة لأحد. (¬6) ذكره الآلوسي في "روح المعاني" (15/ 2) عن الحسن.

وهي ماية وعشر آيات في غير عدد أهل الكوفة (¬1)، والله أعلم. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: أُسري برسول الله ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول، وذلك قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا (¬2)، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة باثني عشر أو ثلاثة عشر شهرًا، وإن الذي كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا إنما هو المعراج لسبع عشرة من رمضان على ما ذكره الواقدي (¬3)، وسنذكر المعراج في سورة "النجم" إن شاء الله تعالى، وقيل: إن ليلة الإسراء وليلة المعراج واحد، وعن أم هانئ بنت أبي طالب: أسري بالنبي -عليه السلام- من شِعب أبي طالب (¬4)، وعن ابن عباس: المسجد الحرام، الحرم كله (¬5). وعن أم هانئ قالت: ما أسري رسول الله إلا من بيتي (¬6)، عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها حدثت: أن النبي -عليه السلام- صلَّى في بيتها تلك الليلة العشاء الأخيرة، قالت: فصليت معه ثم قمت وتركته في مصلاه فلم أنتبه حتى نبهني (¬7) لصلاة الغداة ثم قال: "قومي يا أم هانئ أحدثك العجب"، قالت: قلت: كل حديثك عجيب، وصلَّى وصلَّيت معه، قالت (¬8): فلما انصرف، قال: "أتاني جبريل وأنا في مصلاي، فقال: ¬

_ (¬1) حيث إن أهل الكوفة يقولون إنها (111) آية، انظر: أبو عمرو الداني في "البيان في عد آي القرآن" (177)، وانظر: "روح المعاني" (15/ 2). (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (9/ 195) وعزاه لابن مردويه. (¬3) ابن سعد في الطبقات (1/ 213) من طريق الواقدي. (¬4) رواه الترمذي (3131)، وعبد بن حميد (1183)، وابن جرير (14/ 4424)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 228) والحديث صحيح. (¬5) لم نجد هذه الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وينزل قول ابن عباس على من قال: إنه أسري به من بيت أم هانئ. (¬6) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 414). (¬7) في الأصل: (ينتهي). (¬8) (قالت) ليست في "ب".

يا محمَّد، اخرج، فخرجت إلى الباب" ثم ذكر الحديث بطوله (¬1). وعن محمَّد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله: "بينما أنا نائم في الحجر أتاني جبريل -عليه السلام- فغمزني برجله [فقمت فلم أر شيئًا فقعدت فغمزني فقمت فلم أر شيئًا فقعدت فغمزني الثالثة] (¬2) فقمت معه إلى باب المسجد فإذا دابة بيضاء بين الحمار والبغل في فخذيها جناحان تجربهما رجلاها فلمّا دنوت لأركبها شمست فوضع جبريل -عليه السلام- يده على معرفتها، ثم قال: ألا تستحين يا براق بما تصنعين؟ والله ما ركب عليك عبد لله قبل محمَّد أكرم على الله منه، فاستحيت حتى انصبت عرقًا ثم أقرت حتى ركبتها فحملني عليها ثم خرج معي جبريل لا يفوتني ولا أفوته (¬3)، كان منتهى وقع حافرها طرفها" قالوا: وكانت طويلة الظهر طويلة الأذنين، قالوا: قال رسول الله: "فإذا منادٍ ينادي عن يميني أربع: أسألك فلم أعرج عليه، وإذا منادٍ ينادي عن شمالي يقول: يا محمَّد، أربع أسألك فلم أعرج عليه، ثم استقبلتني امرأة عليها من كل ما زين الله به نساء أهل الدنيا قد وليّ من سنها، فقالت: يا محمَّد، على رسلك أسألك فلم أعرج عليها، فكادت تغشاني. فأخبرت جبريل بما رأيت، فقال: الذي على يمينك داعية اليهود لو ربعت حتى يكلمك تهودت أمتك، وأما الذي عن يسارك فداعية النصارى ولو ربعت عليه حتى يكلمك تنصرت أمتك، وأما المرأة التي استقبلتك فهي الدنيا ولو ربعت عليها حتى تكلمك اخترت الدنيا على الآخرة" (¬4). وعن عكرمة قال: قالت أم الفضل: أتى آت (¬5)، فقال: إن محمدًا ليس في بيته فما يراه إلا وقد قيل، قالت: فأيقظت العباس وكان نائمًا، فقال: مالك؟ فقلت: هذا ابن أخيك لا تدري (¬6) أين هو؟ فخرج العباس ¬

_ (¬1) قريبًا منه عند ابن جرير (14/ 414)، وسيرة ابن هشام عن ابن إسحاق (1/ 402). (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬3) إلى هنا أخرجه عن الحسن بن أبي الحسن ابن إسحاق كما عند ابن هشام (1/ 397)، وابن جرير (14/ 416). (¬4) ورد قريبًا منه عند الطبراني في الكبير (7313) بسند فيه ابن لهيعة. (¬5) في "ب": (آت آتي). (¬6) في الأصل "ب": (يدري).

في بني عبد المطلب، وعن أبي رافع قال: لما كانت تلك الليلة فقد رسول الله (¬1)، وتفرقت بنو عبد المطلب ليلتمسوه، فخرج العباس حتى بلغ ذا طوى فجعل يصيح: يا محمَّد، فأجابه رسول الله: "لبيك" فقال: يا ابن أخي عَنَّيتَ قومك منذ الليلة فأين كنت؟ قال: "أتيت من بيت المقدس"، قال: أفي ليلتك؟ قال: "نعم"، قال: فهل أصابك إلا خير؟ فقال -عليه السلام-: "ما أصابني إلا خير"، وذكر القصة بطولها (¬2) (¬3). {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} اتصالها من حيث ذكر المسجد الأقصى الذي هو قبلة بني إسرائيل، ومن حيث قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، قال: رؤية موسى. وآتينا بني إسرائيل عليهم السلام ليلتئذٍ من الآيات: {ذُرِّيَّةَ} لنريه ذرية {مَنْ حَمَلْنَا} وهم الأنبياء الذين أراه الله إياهم ليلته، والثاني: أنه بدل من موسى أو كالصفة له، فإنه كان من ذرية نوح -عليه السلام-، فعلى هذا الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} عائد إلى موسى -عليه السلام-، والثالث: الاتخاذ يقتضي مفعولين فكان (¬4) الذرية من دوني أن لا يتوكلوا علي من نحافتهم في الخلقة والحاجة، والرابع: اسم مضاف فانتصب بحرف النداء (¬5). وعن عمران بن سليم: إنما (¬6) سمي نوح عبدًا شكورًا لأنه كان إذا ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) المثبت من "ب" وفي البقية (بطوله). (¬3) قريبًا منه عند ابن سعد في الطبقات (1/ 213، 214)، وابن عساكر (1/ 174) كما في المختصر. (¬4) في "أ" "ي": (وكان). (¬5) ذكر بعض هذه الأوجه النحاس في إعرابه وزاد عليها النصب بفعل محذوف التقدير: أعني ذريةً، وأجاز أن تكون {ذُرِّيَّةَ} بدلًا من وكيل لأنه بمعنى جمع، والوجه الرابع الذي ذكره المؤلف اختاره الفراء في إعرابه وقال: منصوبة على النداء، ناداهم، يا ذرية من حملنا مع نوح. [معاني القرآن للفراء (2/ 116)، إعراب القرآن للنحاس (3/ 230). (¬6) في "أ": (إنه).

أكل طعامًا، قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، وإذا شرب شرابًا، قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني (¬1) ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه (¬2). {وَقَضَيْنَا} أوحينا وأعلمنا كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي: لتعتُنَّ عتوًا كبيرًا، ومنه قوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 31]، وقوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ} [القصص: 83] {وَعْدًا مَفْعُولًا} وعد أولى المرتين، {فَجَاسُوا} تخللوا فعتوا، و (الوعد المفعول) هو الضمان المأتي. {لَكُمُ الْكَرَّةَ} إليكم المنعة والقوة لتكروا عليهم فتخرجوهم من دياركم، {نَفِيرًا} عشيرة ورهطًا. {فَلَهَا} أي: فعليها، (إذا) ظرف زمان والعامل مضمر فيه تقديره: فإذا وعد الآخرة أنجزناه وحققناه وبعثناهم ليكونوا كذا وكذا، {وَلِيُتَبِّرُوا} وليهلكوا ما علوه إهلاكًا أو ليهلكوكم (¬3) ما داموا عالين إهلاكًا. لم يختلف أهل العلم في الموعود الأول: بخت نصر وأصحابه، ولكنهم اختلفوا في تعريفه ونسبته وعاقبة أمره، واختلفوا في الموعود الثاني: الكلبي (¬4)، أنه كان ملك بابل غزا بيت المقدس وقتل أربعين ألفًا من قراء التوراة وسبق الباقين، فمكثوا في تلك المحنة تسعين سنة حتى ¬

_ (¬1) (حذاني) ليست في "ب". (¬2) هذا ورد في عدة روايات مرفوعة منها ما ذكره ابن جرير (14/ 452، 453)، والحاكم (2/ 360)، والبيهقي في الشعب (4471) وسنده ضعيف، ومنها ما رواه ابن أبي الدنيا في الشكر (127) وسنده ضعيف. (¬3) في الأصل: (ليهلكوا). (¬4) (الكلبي) ليست في "ب".

مات بخت نصر واستولى على بابل ملك من همدان اسمه كورس، وأنه تزوج من بني إسرائيل امرأة (¬1) اسمها مسحت بنت روبيل فهي التي تشفعت إلى زوجها وسعت في إصلاح قومها وفي ردهم إلى أوطانهم، فأجابها زوجها إلى ذلك. وذُكِرَ أن الموعود الثاني ملك من ملوك الروم اسمه أنطياخوس سار فيهم سيرة بخت نصر البابلي. بعد مائتين وعشرين سنة قالوا: ثم رحمهم الله تعالى وأمتهم في ديارهم وبعث فيهم أنبياء حتى عادوا إلى الكفر والطغيان وقتل الأنبياء وكفروا بالمسيح فعاد الله عليهم بالعقوبة ثالثًاَ وسلط أسفيانوس الرومي وابنه ططوس بن أسفيانوس بعد أبيه فخرب بيت المقدس ولم يزل خرابًا إلى أن بناه المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب (¬2). وحكى الشعبي في كتاب "سير الملوك" أن بخت نصر إنما هو بخت برسي، وهذه كلمة نبطية ومعناها كثير البكاء والأنين، واسمه بالفارسية لهواسف بن فنوخي بن كهمشن بن (¬3) كنابية بن كيقباذ. كان كيقيا (¬4) بوس (¬5) بن ليقبا (¬6) طرد أخاه وجفاه وأقصاه وسيره إلى مدينة سوس (¬7) وهو كنابية بن كيقباد فنزلها ولم يزل بها عقبه إلى أن انتشاء بخت برسي وهو لهواسف، وكان قد مرّ به يهودي على عهد سليمان -عليه السلام- وهو صبي بعد يلعب بالتراب ويصور فيه، فوقف عليه اليهودي وكان عالمًا فتأمل فيما يصور فإذا هو يصور بيت المقدس ومسجده وشوارعه وسككه لا يغادر منها شيئًا، فقال اليهودي في نفسه: والله هذا هو الموعود، ثم انتظر ساعة هل يدع الصبي هذه ¬

_ (¬1) (امرأة) من "ب". (¬2) قريبًا منه عند ابن جرير (14/ 457 - 459). (¬3) (بن) ليست في "أ". (¬4) في "ب": (بن كيفيا). (¬5) في "أ": (وكان كيفيابوس). (¬6) في "أ": (كيفيا). (¬7) (سوس) ليست في "أ".

الصورة بحالها أم يفسدها، فلما تمت الصورة مسح الصبي عليها بكفيه فطمسها، فتيقن اليهودي أنه هو الموعود المخرب لبيت المقدس، فاستخبر الصبي هل له (¬1) من يكفله (¬2)، فأخبره بأن له أمًّا وبيتًا، فانتهى اليهودي إلى بيته ونزل عندهم ضيفًا، ثم تشفع إلى الصبي بأمه أن يعطيه الذمة والأمان وبشَّره بأنه سيملك ويكون شأنه كذا وكذا، فتمكن ذلك الحديث في قلب بخت نصر [ودخل ذلك في دماغه ولم يزل ذلك همته إلى أن توفي سليمان ورجع أمر بني إسرائيل إلى رُجيعم بن سليمان وهلك كيكسرى بن سياوش بن كيقابوس ورجع أمر العجم إلى بخت] (¬3). فلما ملك الأمر وانتظمت أحواله جمع المرادنة (¬4) والجنود وذكرهم ما كان من استيلاء سليمان -عليه السلام- وحذرهم من جهة رجيعم مثله وندبهم إلى قتاله وأجابوه، فسار في مائتي ألف فارس حتى أوغل في الشام، ولما سمع ذلك رجيعم وجعل من قلبه من بني إسرائيل في المسجد وخطب لهم خطبته هذه: الحمد لله الذي تفرد بالعظمة وتوحد بالكبرياء وتردى بما اصطنع إلينا من أياديه وأسبغ علينا من نعمه وأنقذنا من الهلكة والكفر، أيها الناس عليكم بتقوى ربكم (¬5) الذي بيده نواصيكم وإليه متقلبكم، حافظوا على صالح سنتكم وجاهدوا في سبيل ربكم، هذا عدوكم قد أظلكم فخافوا عن دينكم وامنعوا بيضتكم وتوكلوا على ربكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. فبطروا عما دعاهم إليه وخذلوه ورفضوه وتفرقوا عنه، فلما رأى رجيعم ذلك منهم هاجرهم ونجا بنفسه إلى فلسطين، وأقبل بخت نصر حتى ¬

_ (¬1) (له) ليست في "أ". (¬2) في الأصل و"أ": (يكلفه). (¬3) ما بين [...] ليست في "ب". (¬4) في "ب" "أ": (المراد به). (¬5) في "ب" "ي": (بتقوى الله ربكم).

ورد بيت المقدس لا يمنع عليه صغير ولا كبير، فوضع في بني إسرائيل السيف وأقام بينهم ميزان الحيف وأذاقهم لباس الخوف وسبق منهم سبيًا كثيرًا، وكان من جملة السبايا دانيال -عليه السلام-، ثم رجع بالغنائم والأسارى إلى بابل. وأتى على هذا زمان، ثم إنه رأى رؤيا هائلة فأخبر بها أهل العلم، فقالوا: هذا علم لا يتوصل إليه إلا نبي يوحى إليه، فبعث إلى السجن واستحضر دانيال -عليه السلام-، فلما دخل عليه دانيال لم يسجد له، قال بخت نصر: لِمَ لم تسجد كسائر العبيد؟ قال: لأن الله تعالى خصني بالنبوة وأمرني أن لا أسجد إلا له، فأيقن بخت نصر أنه نبي وأعجبه كلامه، ثم ذكر له حديث الرؤيا، فقال دانيال -عليه السلام-: رأيت صنمًا عظيمًا رجلاه في (¬1) الأرض ورأسه في السماء، رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه إلى قدميه من فخار، فبينما أنت متأمله وتتعجب منه إذ سقط عليه حجر من السماء فهشمه وجعل الحجر يعظم وينبسط حتى ملأ الأرض فصرت لا يُرى غير الحجر والسماء شيئًا، قال بخت نصر: صدقت وبررت فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فبيتكم أيها العجم، وأما الذهب فملوككم، وأما الفضة فأشرافكم، وأما النحاس فأوساطكم، وأما الحديد فمن دونهم، وأما الفخار فسفلتكم (¬2)، وأما الحجر فنبي آخر الزمان يخرج من تهامة ويهاجر إلى طيبة اسمه محمد وأحمد يطحن الله به الكفر ويفرق به بين الحق والباطل، ويعزّ به الذليل ويقوى به الضعيف ويغنى به الفقير ويؤمن به الخائف، فلا يزال أمره يعظم وأمته تزداد ودينه يعلو ويملأ الأرض ذات العرض ويبقى الملك في قومه إلى يوم القيامة، قال بخت نصر: ومتى يكون ذلك؟ قال: بعدك بألف عام، فلما سمع ذلك بخت نصر منه أطلقه من السجن وأذن له في الدخول عليه ولم يأل في إكرامه والإحسان إليه ¬

_ (¬1) في الأصل: (إلى). (¬2) في الأصل: (فسقتكم).

حتى حسده على ذلك مرازبة بخت نصر، فأنكروا ذلك عليه فاتهموه في ذلك ورموا دانيال -عليه السلام- بالسحر فلم يلتفت بخت نصر إلى شيء من قولهم حتى قالوا: إنه يعبد غير معبودك، فأمر بخت نصر أن يحضر صنمه على رؤوس الناس ودعا له دانيال -عليه السلام-، فقال: إذا رأيتني وقومي نسجد لهذا فاسجد معنا، ثم خرّ بخت نصر ساجدًا مع قومه أجمعين وأبى دانيال -عليه السلام- أن يسجد وقال: قد أعلمتك أيها الملك أول مرة أن الله تعالى (¬1) نهاني أن أسجد لغيره، فغضب عليه لمخالفته وبنى له بنيانًا فألقاه في الجحيم فجعلها الله عليه (¬2) بردًا وسلامًا. فلما رأى ذلك بخت نصر منه دعاه واستصفاه واعتذر إليه وأطلق جميع من كان عنده من بني إسرائيل في السجن فأحسن إليهم. ثم إن الله تعالى ابتلاه ثانية برؤيا هائلة وأنساها إياه فذكر ذلك لدانيال -عليه السلام-، قال دانيال: رأيت شجرة لفاء عظيمة أصلها في الأرض ورأسها في السماء ذات فروع باسقة وأغصان أنيقة، ورأيت عليها كل طير في الأرض معششة مع فراخها حتى امتلأت تلك الشجرة وما ولاها، فبينا أنت تنظر (¬3) إليها وتتعجب من عظمها وكثرة ما اكتنفها من الطير إذ أقبل ملك من السماء ليجتثها من أصلها فنودي من السماء أن اجتث بعضها ودع بعضها فإنها نفاسة، فأبان أغصانها وبقي ساقها على حالها ونفرت ما كان عليها من الطير، قال بخت نصر: صدقت هذه رؤياي ما خرمت منها شيئًا فما تأويلها؟ قال دانيال -عليه السلام-: أما الشجرة فملكك الواسع العظيم، وأما الطير فجنودك، وأما الاجتثاث فذهاب ملكك وإبادة سلطانك، وأن الله تعالى ماسخك سبع سنين على صورة (¬4) كل طائر (¬5) ودابة عقوبة لك على ما كان من هدمك بيت المقدس ونقلك منبر سليمان واستخفافك بالأنبياء ¬

_ (¬1) (تعالى) ليست في "ب" "أ". (¬2) (عليه) ليست في "ب". (¬3) في "أ" "ي": (ينتظر). (¬4) في "ب": (هيئة). (¬5) في "ب": (طير).

والأولياء (¬1) وسفكك دماء المسلمين، غير أنك لا تمسخ في صورة إلا كنت ملك ذلك الجنس فتقهر ذلك الجنس بقوتك كقهرك بني آدم ثم تعود إنسانًا، قال بخت نصر: وهل يقبل ربك توبتي؟ قال: أما دون هذه العقوبة فلا. فقام بخت نصر ودخل دار نسائه، فبينا هو جالس إذ نظر إلى الريش قد نبت عليه، فكان أول ما مسخ عُقابًاَ وآخر ما مسخ بعوضة، ثم عاد إلى مملكته. وكان ابنه كليماوس تخلفه في قومه في هذه الفترة، فلما عاد إنسانًا وعاد إلى مملكته اغتسل ولبس المسوح وسل سيفه وكسر جفنه وخرج إلى جنوده يدعوهم إلى توحيد الله (¬2) ويحذرهم العذاب الأليم، فلما هجم عليه الليل قبض الله روحه وكان ملكه سبعين عامًا، وهو بهراسف بلغة الفرس. وولي الأمر (¬3) بعده كليماوس وأساء السيرة في بني إسرائيل وردهم إلى السجن، فبينا هو ذات يوم في مجلسه مع مرازبته وعظماء قومه إذ نظر إلى كف بدت من الحائط بلا معصم وكتبت له (¬4) ثلاثة أحرف: [لا كفرت، هذا حكم بالكفر، وأنكر عليه خراب الدنيا والتحول إلى العقبى، ويحتمل أنه لم يحكم به ولكن استفهم واستعلمه أهو كافر حيث رآه ينكر البعث والنشور ولا يعترف بأن النعمة من الله إن شاء] (¬5) بالعبرانية ثم غابت فاضطره الخوف إلى دعاء دانيال -عليه السلام- وألطف له (¬6) القول وأراه تلك الكتابة واستفسره، فقرأها عليه دانيال: بسم الله العلي الأعظم عزّ هذا الملك فذل، ووزن فخفّ، وجمع فتفرق. ¬

_ (¬1) في "ب": (بالأنبياء -عليهم السلام- وسفك). (¬2) في "ب": (الله تعالى). (¬3) في الأصل و"أ": (أمره). (¬4) (له) ليست في "ب" "ي". (¬5) ما بين [...] من الأصل فقط. (¬6) في "ب": (به).

وابتلاه الله بعد هذا بملك اليمن يأسر ابن ينعم، قصده من صنعاء اليمن حتى نزل في تخوم أرضه ثم استولى عليها، وكان على دين سليمان -عليه السلام- (¬1)، وأنه غزا ديار بخت نصر منتقمًا لبني إسرائيل، قال الزهري: ثم ابتلاه الله ببعوضة كبعوضة (¬2) نمرود وكانت سبب موته وكان ملكه خمسين سنة، وملك من بعده أخوه يستاسف ثم همن بن إسفنديار بن يستاسف وهو الذي رد بني إسرائيل إلى أوطانهم، والسبب في ذلك أنه تزوج بنت سالمال بن رجيعم بن سليمان -عليه السلام- وكانت تسمى أبراخت، فلما تزوج بها ملك أخاها روبابيل بن سمالمال بن رجيعم وسيَّره إلى أرض الشام. ثم ذكر الشعبي أن الموعود الثاني ملك من ملوك الأهواز كان يسمى بخت نصر أيضًا سلَّطه الله بعد قتل يحيى بن زكريا -عليه السلام- وكان من نسل (¬3) بخت نصر الأول، قال: وكان بين المرتين خمسماية عام. وذكر محمَّد بن جرير الطبري أن بخت نصر كان قائدًا من قواد سنحاريب الملك ملك بابل، وكان قد غزا بيت المقدس مع سنحاريب الملك في عهد حزقيا بن أحاب وهو ملك من ملوك بني إسرائيل، وكان بعد رجيعم بن سليمان بزمان طويل ورجع خائبًا خاسرًا، فلما هلك سنحاريب تحول بخت نصر إلى بهراسف الملك وهو سلح حينئذٍ فذكر له حديث الشام وطلب منه أن يوجهه إلى تلك النواحي وضمن له أن يفتحها له فأجابه بهراسف إلى ذلك وأمدَّه بالأموال والرجال، وكان من أمر بخت نصر ما كان ورجع إلى بابل فاتخذها دار مملكته في طاعة بهراسف ولم يكن بهراسف. ثم إن بهراسف هلك وخلفه ابنه تشتاسف ورفع إليه حديث الشام وما كان من فساد بخت نصر في تلك النواحي، فاستقبح ذلك فكتب إليه يأمره (¬4) بالرجوع إلى بابل وصرفه بكورش وهو قائد من قواده، فلما انتهى ¬

_ (¬1) في "ب": (عليهما). (¬2) (كبعوضة) ليست في "أ". (¬3) (نسل) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: (بأمره).

كورس إلى بابل أحسن السيرة في بني إسرائيل وردَّهم إلى أوطانهم وأمر بعمارة بيت المقدس. وبقي الأمر على ذلك حتى أرسل إليهم بهمن (¬1) إسفنديار بنيستاسف رسولًا يدعوهم إلى تجديد العهد وإظهار الطاعة وأداء الخراج، وقتلوا (¬2) رسوله فغضب، وكان بخت نصر يعيش بعد (¬3) فوجهه إليهم وأمره بإساءة السيرة فيهم، فهو الموعود الأول والثاني (¬4). {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} قال الضحاك: كانت الرحمة الموعودة هو أن يبعث محمدًا -عليه السلام- (¬5)، قال ابن عباس: سجنًا محصورًا فيه (¬6) (¬7) كهيئة الزرب زرب الغنم. {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: إلى الخصلة التي هي أصوب الخصال وهي ملة الإسلام. {وَأَنَّ الَّذِينَ} وبشر الذين {لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا} ويحتمل أنها بشارة المؤمنين أيضًا فإنهم يفرحون بعذاب المخالفين لا محالة. {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} نزلت في النضر بن الحارث (¬8) حيث قال: إن ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (همن). (¬2) في "ب": (فقتلوا). (¬3) (بعد) ليست في "ب". (¬4) هذه القصة الطويلة ذكرها ابن جرير مفصلة عن ابن إسحاق (14/ 459)، وبعضًا منها عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 458). وقال ابن كثير في تفسيره (5/ 44): حديث موضوع لا محالة لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب كيف راج عليه -أي ابن جرير- مع إمامته وجلالة قدره. وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي -رحمه اللهُ- بأنه موضوع مكذوب وكتب ذلك على حاشية الكتاب اهـ. ولا شك أن التفاصيل التي ذكرها ابن إسحاق من قبيل الإسرائيليات. والله أعلم. (¬5) عزاه السيوطي في الدر (9/ 264) لابن أبي حاتم عن الضحاك، وهو في تفسيره (7/ 2319). (¬6) (فيه) ليست في الأصل و"أ". (¬7) ابن جرير (14/ 507، 508)، وابن أبي حاتم في تفشره (7/ 2319). (¬8) قاله مقاتل نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 12).

كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، وقيل: هي عامة (¬1) في كل من يدعو على نفسه أو على ولده وأهله في حالة الضمير والغضب فيجتهد في دعائه بالشر كجهده في دعائه بالخير (¬2)، واتصالها من حيث {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فمن التي هي أقوم هو التنبيه على هذه الخصلة المذمومة وهو الدعاء بالشر، ويدعو بغير واو (¬3) في محل الرفع: {يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] وقوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 18] {وَيَمْحُ الله الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] لاعتبار حالة الوصل بين سائر الهجاء على اعتبار حالة الوقف لاستحباب الجمع بين الطريقتين، وقيل: المراد بالإنسان ها هنا آدم -عليه السلام- و (العجول) المستعجل (¬4). {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (¬5) في أنفسهما وآية الليل والنهار الشمس، والقمر ليلة البدر، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} قال: هو اللطخ الذي هو في القمر، وروي أنه أثر مسحة جبريل، وزعم المنجمون أن جرم القمر كروي ليلي مائي مظلم مصقول وفيه حرارة عرضية بتسخين الشمس إياها (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: (عليه). (¬2) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة ومجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 512) واختاره الزجاج في معانيه (3/ 229). (¬3) قال أبو جعفر النحاس: حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقف عليه لأنه في السواد بغير واو، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها وكذا يدعو ويرجو. [إعراب القرآن (3/ 234)]. (¬4) هذا ورد عن سلمان الفارسي عند ابن أبي شيبة (14/ 110، 111)، وابن جرير (14/ 514)، وابن عساكر (7/ 384)، وكذا ورد عن مجاهد عند ابن أبي شيبة (14/ 115). (¬5) في الأصل: (اثنين). (¬6) قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12]، ذهب علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذا المحو هو اللطخة التي في القمر من الاسوداد، وبه قال مجاهد وقتادة، أخرجه عنهم ابن جرير في تفسيره (14/ 515)، وابن أبي حاتم عن علي - رضي الله عنه - (7/ 2320) وأما ما ذكره المؤلف أنه أثر مسخه جبريل فقد ذكره القرطبي في تفسيره (10/ 227).

{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} ردّ على القدرية لأن إلزام الطائر قبل وجود الفعل [فلا معنى للطائر بعد وجود الفعل] (¬1) وقد سبق القول في التطير والطائر في سورة "الأعراف"، وذكر العنف على سبيل المجاز لأنه موضع ما يلزم الإنسان من قلادة أو طوق أو غل أو نحوه ونحوه (¬2)، {وَنُخْرِجُ} ننزله من العنب، و (المنشور) ضدّ المطوي. {اقْرَأْ} أي: يقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ} لإسلاب الاختيار والاقتدار ونسخها بالاضطرار إلى الإقرار. {وَازِرَةٌ} أي: نفس وازرة وزر نفس أخرى، فلا تحمل حمل نفس أخرى إلا أن تكون (¬3) أكرهتها على مأثم, فإن الفعل في الإكراه يسند إلى المكره العاتي (¬4)، وإلا أن تكون سنَّت سنة سيئة فإن لها مثل وزر من (¬5) عمل إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (¬6) كقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، والمراد بالعذاب المنيع الخسف والمسخ والطوفان والصواعق ونحوها دون عذاب الآخرة. ألا ترى قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ}، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} اتصالها بها (¬7) من حيث أهلكهم الله تعالى من ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في "أ". (¬2) (ونحوه) ليست في "أ" "ي". (¬3) في الأصل و"ب": (تكون). (¬4) في "ب" "ي": (العامي). (¬5) (من) ليست في "ب" والأصل. (¬6) يشير المؤلف إلى حديث جرير بن عبد الله مرفوعًا وفيه: "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة يُعْمَلُ بها من بعده كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة يُعْمَلُ بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا" أخرجه مسلم في صحيحه, كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة (1017)، والنسائي (5/ 75)، كتاب: الزكاة، باب: التحريض على الصدقة. (¬7) (بها) ليست في "أ".

المؤمنين، وهذه الآية مجملة تفسيرها قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)} [النجم: 29]، وقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)} [الأعلى: 16]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النحل: 107] والدليل على جواز طلب الدنيا بعمل الآخرة هو طلب الغنائم بالجهاد والاستسقاء بالدعاء والاستشفاء (¬1)، قال -عليه السلام- "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ للدنيا: يا دنيا مرّي على أوليائي ولا تحلولي لهم فتفتنيهم" (¬2) {مَا نَشَاءُ} -أي: نشاء إتيانه - فإنّ الله تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {لِمَنْ نُرِيدُ} - أي ذلك" (2) هو تخصيص لخصوص الجزاء الموعود، فثبت به جواز تخصيص كل وعد ووعيد في القرآن من بعد عمومه، وكذلك نسخه بعد ثبوته مذمومًا معيبًا. {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا} وإنما شرط في إرادة الآخرة السعي؛ لأن الشرط في العاجلة شرط مجازي غير موجب قصد فيه التنبيه على قبحه وفساده فلم يكن (¬3) لتأكيده معنى، وشرط الآخرة شرط حقيقي موجب قصد فيه تعليق الحكم به على التحقيق فاستجمع (¬4) جميع ما يتعلق (¬5) به، يدل على (¬6) وجود العاجلة ابتداء وابتلاء من غير جزاء وامتناع الآخرة إلا ثوابًا أو عقابًا، وفي الآية دلالة أن غير المؤمن قد سعى للآخرة، وأن الإيمان غير العمل، وأن الآخرة قيمة سعي المؤمن لا قيمة إيمانه لأن جزاء الإيمان أجل وأنفع من الآخرة بأسرها وهو الدخول في جملة الأولياء، يقول الله تعالى: {الله (¬7) وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] , ¬

_ (¬1) (بالدعاء والاستشفاء) ليست في الأصل. (¬2) ذكره القضاعي في مسند الشهاب (1453) وهو حديث موضوع آفته الحسين بن داود، وقد ورد في زهد الإمام أحمد (98) هذا القول عن أبي سنان. (¬3) في "ي" "أ": (تكن). (¬4) في "ب": (فاجتمع). (¬5) في "أ" "ي": (يتصف). (¬6) في "ب" "ي": (عليه). (¬7) (الله) من "أ" "ي".

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمَّد: 11]، وأما قوله -عليه السلام-: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" (¬1) إنما ذلك لترغيب العامة، وقد وعدهم على ذلك عصمة الأموال والدماء غير مرّة. {هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} [الإسراء: 20] بدل من كل (¬2) وهو في محل النصب والمراد به مريدو العاجلة ومريدو الآخرة {مَحْظُورًا} ممنوعًا محبوسًا (¬3)، وقال -عليه السلام-: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يردُّه كره كاره، إن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" (¬4). {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا} فائدة النظر إلى تفاوت الناس في مراتبهم وقوع العلم بأنها أرزاق (¬5)، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} لأنّ خيرها وشرّها موجودان على سبيل الحقيقة دون الابتلاء وعلى سبيل البقاء دون الفناء، ولأنّ شريفها لا يحتاج إلى عمل وضيعها فيشركه في رباعها ومرابيعها, ولا يخاف دس مكر منه إليه فيعود شرفه وبالًا عليه. ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" أخرجه البخاري في صحيحه, كتاب: العلم (1/ 173)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 373) وله عدة ألفاظ، وأما قول المؤلف: إنما ذلك لترغيب العامة - أي: فيما ترتب على الشهادة من دخول الجنة - فنقول: إن الله رتب دخول الجنة على تحقيق الشهادة حقيقة، فمن قام بحق هذه الشهادة من العامة أو الخاصة وقام بموجبها كان حقًا على الله أن يدخله الجنة كما وعد بذلك، فإن وجد نقيضًا لها لم يستحق ذلك الشرط المترتب عليها وإن تلفظ بها. (¬2) اختاره أبو جعفر النحاس كما في إعرابه (3/ 236). (¬3) في "ب": (محبوسًا وقيل: إن ...). (¬4) أبو نعيم في الحلية (5/ 106)، والبيهقي في الشعب (207)، والحديث موضوع غير ثابت. انظر: السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني -رحمه الله- (1482). (¬5) من قوله: (انظر كيف) إلى هنا ليست في "ب".

{لَا تَجْعَلْ} خطاب النبي والمراد به أمّته، {فَتَقْعُدَ} فتبقى، و (الخذلان) ضدّ النصرة. {وَقَضَى رَبُّكَ} نزلت في سعد بن أبي وقاص كان قد أسلم وله أم مشركة تشتمه وتطرده عن بيتها ويعود عليها بالجميل أخرى (¬1)، وكان سعد متقدم الإسلام لم يتقدمه إلا زيد بن حارثة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} نهي عن التأفيف ونص عليه يدل بفحواه (¬2) على ما فوق ذلك أدخل في النهي، كما أن مثقال ذرة ومثقال حبَّة يدلان أن ما فوقهما أدخل في الجزاء والحساب، {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما، {قَوْلًا كَرِيمًا} هو مقالة الرجل الكريم. عن أنس، قال: بعث رسول الله في بعض أمره فقال: أوصني، فقال: "أوصيك أن تبرّ بوالديك" قال: زدني، قال: "أوصيك أن تبر بوالديك"، قال: زدني، قال: "أوصيك أن تبرّ بوالديك (¬3)، فإنهما جنتاك" (¬4). وعن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة مني؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك" (¬5). عن محمَّد بن صدقة [أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام-] (¬6)، فقال: أتيتك لأجاهد معك، وتركت والديّ يبكيان، قال: "فانطلق فأضحكهما كما أبكيتهما" (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في تفسيره (10/ 145). (¬2) في الأصل و"أ": (بدل نفجوة). (¬3) المثبت من الأصل وفي الجميع (والديك). (¬4) عزاه في الدر المنثور (9/ 313) لأحمد في الزهد (ص 66) من قول موسى -عليه السلام- عن وهب بن منبه. (¬5) مسلم (2548) كتاب البر والصلة، باب بر الوالدين. (¬6) ما بين [...] ليس في "ب". (¬7) عن محمَّد بن صدقة: لم نجده وإنما هو حديث مشهور عن عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (2528)، والنسائي (7/ 143)، وابن ماجه (2782)، وأحمد (2/ 160، 194، 198، 204) وهو حديث حسن.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ} أي: تواضع وتذلل لهما من رحمتك عليهما، وهذا أبلغ في الأمر بالتواضع من قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} لأنه هو الذي خلقها فسواها وألهمها فجورها وتقواها، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]. {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} شرط جوابه: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} لأنَّ الأوّاب هو التواب, والتواب هو الصالح. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} حقهم ما يستحقونه ويستأهلونه لحاجتهم إليه من طعام أو كسوة أو ظهر، {وَلَا تُبَذِّرْ} لا تفرقوا المال (¬1) على سبيل الإضاعة والإهلاك كأنه أخذ من البذر. {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} هم الذين كانوا ينفقون أموالهم فيما لا يغنيهم رئاء الناس واتباعًا لهوى النفس وكان يتعذر عليهم القيام بما يغنيهم. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} عن القتال والسؤال {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} أي: انتظار رزق يأتيك لتواسيهم به، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} عدهم (¬2) عدة جميلة. عن مسعر عن زبيد اليامي (¬3) قال: أضاف (¬4) رسول الله ضيفًا فبعث إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا فقال: "اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها أحد غيرك"، قال: فأتي النبي -عليه السلام- بشاة مشوية، أو قال: مصلية، فقال (¬5) -عليه السلام-: "هذا من فضل الله ونحن ننتظر رحمته"، قال زبيد: فعلمت بهذا فقلَّ ما فقدت شيئًا بعده (¬6). ¬

_ (¬1) في "ب": (لا تفرق علي). (¬2) في الأصل: (أعدهم). (¬3) في "ب": (زبيد عن مسعر). (¬4) في "ب": (أتى) بدل (أضاف). (¬5) في الأصل: (وقال). (¬6) الطبراني في الكبير (10379)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 36) (7/ 239) والحديث صحيح، وهو من طريق مسعر عن زبيد عن مرّة عن عبد الله.

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} عن المنهال بن عمرو أن امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله (¬1) تستكسيه درعًا وقالت له: إن قال حتى يأتيني فقل له: إن أمي تستكسيك قميصك، فأتى ابنها رسول الله (¬2) وذكر له ذلك فنزع رسول الله (2) قميصه فدفعه إليه فأنزل (¬3)، وفي الآية نهي عن الإمساك والبخل ونهي عن الإسراف في النفقة. عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا عند رسول الله إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله (2) أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، قال -عليه السلام-: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد لسلف (¬4) الناس! خير صدقة ما كان على ظهر غنى" (¬5). {إِنَّ رَبَّ كَيَبْسُطُ الرِّزْقَ} اتصالها بها من حيث قوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} أو من حيث {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}. {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} كانت العرب تئد البنات خشية العيلة (¬6) فأنزل، {إِمْلَاقٍ (¬7)} كثرة إنفاق (¬8). ¬

_ (¬1) في "ب": (إلى النبي صلى الله عليه وسلم). (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) سبب النزول هذا هو عن عبد الله بن مسعود كما ذكره الواحدي في سبب النزول (ص 194)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 21)، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (9/ 325) عن المنهال بن عمرو ولا مانع أن يكون له طريقان، لكن الحديث ضعيف ففيه سليمان بن سفيان وقيس بن الربيع وهما ضعيفان، وأبو إسحاق السبيعي وقد عنعنه وهو مدلس، وقيس روى عنه بعد الاختلاط. (¬4) في "ب" "ي": (يستلف). (¬5) أبو داود (1673)، الحاكم (1/ 573)، والحديث ضعيف لكن الجملة الأخيرة في الحديث في صحيح البخاري (1/ 361) من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. (¬6) في "أ" "ي": (العيلة عند الإعالة). (¬7) (إملاق) ليست في "أ". (¬8) كثرة الإنفاق قد تؤدي إلى الفقر. ولذا فَسَّر ابن عباس - رضي الله عنهما - "الإملاق" بالفقر، أخرجه عنه الطبري في تفسيره (14/ 578).

{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}: الزنا في اللغة اسم لوطء المرأة في قبلها من غير عقد، وإطلاق النبي -عليه السلام- الزنى على اليدين والرجلين محمول على الإثم دون الحكم لقوله: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم" (¬1). {لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} هو تحكيم الولي في قتل القاتل إن شاء قتله وإن شاء عما عنه، {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} أي: ولي المقتول كان منصورًا حيث جعل له سلطانًا. {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} روي أن رجلًا جاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنّ لي يتيمًا فأضربه؟ قال: "نعم مما تضرب منه ولدك"، قال: أفآكل ماله؟ قال: "نعم، غير متأثل بماله ولا واقٍ مالك بماله" (¬2)، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أي المحافظة به مسؤول عنها يوم القيامة. {بِالْقِسْطَاسِ} بالقَبَّان (¬3). وقال أبو عبيد الهروي: أي ميزان كان (¬4). {وَلَا تَقْفُ} لا تتبع، يقال: قفوته أقفوه وقفيته أقفيه وقفيته أقفوه (¬5) بمعنى، قال الكلبي: هو أن يدعي الإنسان علمًا لا يحسنه ويكذب على سمعه وبصره وفؤاده، وقال مقاتل: يقول الله تعالى (¬6): يا ابن آدم لا ترمني بالشرك ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 84)، وأبو يعلى (6618)، والبيهقي (9/ 123) مرفوعًا بسند ضعيف وموقوفًا عن عمر عند عبد الرزاق (13641)، والبيهقي (8/ 238) عن ابن مسعود. (¬2) ابن حبان (4244)، وابن أبي شيبة (21377)، والطبراني في الصغير (244)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 651) (6/ 296)، وابن عدي في الكامل (4/ 72)، والبيهقي في السنن (6/ 4)، وفي الشعب (21377)، بسندين أحدهما منقطع والآخر فيه ضعف. (¬3) قاله الحسن، نقله عنه الطبري في تفسيره (14/ 591)، والبغوي في تفسيره (5/ 92). (¬4) لم نجده في غريبه ولكن ذكر ابن فارس والزجاج وصاحب اللسان والطبري في تفسيره وغيرهم أنه يأتي بمعنى الميزان ومعناه العدل بالرومية، كما قاله مجاهد، نقله عنه الطبري في تفسيره. [تفسير الطبري (14/ 592)، معاني القرآن للزجاج (3/ 238)، مجمل اللغة لابن فارس (4/ 162) اللسان (قسط)]. (¬5) في "أ" "ب": (أقفومه). (¬6) (تعالى) ليست في "ي".

فإنك لا تعلم لي شريكًا، وقيل: هو أن يستنَّ الرجل بسنَّة لا يعلم أسنة هي أم بدعة (¬1)، {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} خبر للاسم المنتصب بأن. {مَرَحًا} نشاطًا وخيلاء، {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} لن تبغها لشدة وطئك، {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} بأن تنعظم وتشمخ بأنفك وتركب (¬2) رأسك. عن جابر بن عتيك عنه -عليه السلام-: "من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها فالغيرة في الرّيبة، وأما التي يبغضها ففي غير ريبة، وإن (¬3) من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند اللقاء واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي" (¬4) وروي في "الفخر". {فَتُلْقَى} من الإلقاء ويجوز من اللقاء، وعن ابن عباس (¬5) أن هذه الثماني عشر في ألواح موسى-عليه السلام- كتب الله له فيها أنزلها الله تعالى (¬6) على نبينا-عليه السلام- من رأس اثنين وعشرين آية قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] إلى رأس الأربعين قوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 39]، قال: وهي عشر آيات في التوراة، قال: هذه الآيات سبع عشرة آية عند الفداء، فإن لم يقع سهو من جهة الرواة فكأنه عدّ سلطانًا أو بالقسطاس المستقيم آية. {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} نزلت في بني مليح ومن ذهب مذهبهم من ¬

_ (¬1) وكل هذه المعاني والتأويلات متقاربة كما قال الطبري في تفسيره (14/ 595)، وبعض أهل العربية من أهل الكوفة يزعم أن أصله من القيافة وهي تتبع الأثر وعلى هذا يلزم القراءة على هذا النحو: {وَلَا تَقْفُ} بفتح التاء وضم القاف وسكون الفاء. (¬2) في الأصل: (وتركت). (¬3) في الأصل: (فإن). (¬4) أبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، وأحمد (5/ 445، 446)، وابن حبان (295) (4762) والحديث حسن. (¬5) رواه الطبري قريبًا منه (15/ 138، 139) وفيه خمس عشرة آية، وانظر: تفسير النسفي (2/ 287). (¬6) (تعالى) ليست في "ب".

قريش (¬1)، أي: فآثركم بالبنين على نفسه ورضي لنفسه بالبنات إن كان يليق به الولادة واتخاذ الولد على زعمكم، {قَوْلًا عَظِيمًا} لأنهم كذبوا ثم لم يرضوا تكذيبهم حتى جعلوه في غاية القبح والبشاعة. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: صرفنا الآيات، {نُفُورًا} تباعدًا وتوحشًا. {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وجه الرد عليهم أن الشيء لا ينفصل عن جنسه إلا قهرًا فلو كانت في العالم لله أجناس لكانت قاهرة غير مقهورة، ولو كانت كذلك لاتحدت به ولرجع الأمر إلى الوحدانية، والثاني أن مساواة الأدنى داعية إلى مزاحمة الأعلى فيما تفرد به، ومزاحمته تؤدي إلى فسخ المواصفة وتُوجب (¬2) توحيد الأعلى، {عُلُوًّا كَبِيرًا (¬3)} أي: تعاليًا كقوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37]، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} يسبح الكل قريب من فنون الكل وهو الأصوات الدالة على محدثها ومحدث ذواتها، وكل صامت ناطق بالدلالة على صانعه، وعن الحسن: اللبنة تسبِّح فإذا بني بها سبحت مع الأرض (¬4)، وقال النخعي: الطعام يسبح (¬5)، وقال عكرمة لرجل: قميصك هذا يسبح، وقال رجل لأبي هريرة: أسمع لبيتي تقعقعًا قال: ذلك تسبيح الجدر (¬6). ¬

_ (¬1) لم نجد أحدًا من المفسرين قال أنها نزلت في بني مليح، وعامة المفسرين أطلق وقال: إنها نزلت في مشركي العرب الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله فهو توبيخ لهم. (¬2) في الأصل و"أ": (يوجب). (¬3) (كبيرًا) ليست في "أ" "ي". (¬4) أخرجه عن الحسن أبو الشيخ في العظمة (1209)، وذكره السيوطي في الدر المنثور عنه (9/ 362). (¬5) ابن جرير (14/ 606)، وابن أبي الدنيا في الهواتف ص 137، وأبو الشيخ في العظمة (1207). (¬6) أبو الشيخ في العظمة (1213) عن عكرمة قريبًا منه.

{مَسْتُورًا} ساترًا كقوله: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة: 31] ساكب و {يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] ساحرًا، وقيل: معناه حجاب لطيف لا يساهون. عبد الحميد بن جعفر عن أبيه: إن المشركين قالوا لرسول الله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] مستور، فأنزل على زعمهم مكانها مستقيمة، أي: أو جعلنا. ثم رد عليهم بقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} وقال مجاهد (¬1): الحجاب صرف الله أسماعهم عن القرآن عند تلاوة رسول الله (¬2)، وقال كعب الأحبار (¬3): {بِهِ} خاص من القرآن، كان رسول الله (2) إذا قرأ توارى منهم عن ذلك وصرفت أبصارهم عنه، وذكر آيات الحجاب، {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: 57]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} [النحل: 108]، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، {نَحْنُ أَعْلَمُ} منك، {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} باستماعهم كيف هو وعلى أي وجه هو حين يستمعون إليك وحين يتناجون ويستمع بعضهم إلى بعض، {إِذْ يَقُولُ} نزل (¬4) في قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}. {انْظُرْ} أمر على سبيل التعجب، {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} فوصفه إياه بما سبق ذكره واختلافهم في وصفه -عليه السلام-. {وَرُفَاتًا} ما تناثر من كل شيء، وقيل: الرفات الشيء المتكسر جديدًا طريًا (¬5). {قُلْ كُونُوا} على صفة الأمر والمراد منه الشرط، أي: ستعودون وإن كنتم شيئًا شاقًا صلبًا بعيدًا من التركيب الحيواني القابل للموت والحياة، كقولهم: عِشْ رجبًا ترى عجبًا، (الحديد) هو الجوهر المنطبع المختص. ¬

_ (¬1) لم نجده عن مجاهد. (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره عن كعب (10/ 269). (¬4) في "ب": (نزلت). (¬5) قاله الزجاج. [معاني القرآن (3/ 244)].

{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أو (¬1) شيئًا تستعظمونه وترونه أصبر على مر الزمان من الحجارة والحديد. وعن ابن عباس ومجاهد (¬2) أنه الموت يوم بدر لا بدّ لكم من العود وإن كنتم عين الموت، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: المراد به البعث (¬3)، {فَسَيُنْغِضُونَ} فسيحركون (¬4). {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} العامل فيه {عَسَى أَنْ يَكُونَ} أي: يكون العود (¬5) وهو البعث يومئذٍ على ما قال عبد الله بن عمرو، {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: فتقومون من قبوركم مستجيبين للداعي معترفين بأن (¬6) الله هو الإله الواحد المعبود المحمود في صفاته، ويحتمل أن المؤمنين يشكرون الله يومئذٍ ويحمدونه فيتلقف ذلك منهم المشركون لا يهتدون إلى كلام غير ذلك حالة البعث من شدة الهول، {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} لمكان (¬7) شدة الهول ينسون عذاب القبر، ويحتمل لمكان الرقدة التي بين خراب الدنيا وقيام الآخرة ومدتها على ما روي أربعون سنة، ولا يبعد أن يكون المراد يوم بدر ألقى في قلوبهم من همة البروز إلى مصارعهم وباستجابتهم خروجهم ¬

_ (¬1) في الأصل: (أي). (¬2) أما عن ابن عباس فقد رواه ابن جرير (14/ 616)، والحاكم (2/ 362)، وأما عن مجاهد فذكره القرطبي في تفسيره (10/ 274). (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص لكن قال: المراد به الموت، بدل: البعث. [تفسير القرطبي (10/ 274)]. (¬4) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 620). (¬5) مذهب أبي البقاء العكبري أن يكون منصوبا لـ"يكون" وهذا المذهب عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف، وجوز بعضهم أن تكون بدلًا من "قريبًا" إذا أعربنا "قريبًا" ظرف زمان، وأما ما ذكره المؤلف أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم "يكون" أي: عسى أن يكون العود يوم يدعوكم فقد منعه أبو البقاء، وقال: لأنّ الضمير لا يعمل عند البصريين لكن الكوفيين جَوَّزوا ذلك وأنشدوا قول زهير بن أبي سلمى: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ ... وما هو عنها بالحديث المرجم [الإملاء (2/ 93)، الدر المصون (7/ 369)]. (¬6) في "ب": (أن). (¬7) في الأصل: (المكان).

إلى ذلك على نشاط منهم ورضا فرحين غير مكرهين، وبظنهم أنهم لم يلبثوا إلا قليلًا استيقانهم عند ذوق السيف أنهم لم يؤجلوا بعد الوعيد إلا قليلًا. {وَقُلْ لِعِبَادِي} قال ابن عباس: كان أصحاب (¬1) رسول الله بمكة يؤذيهم المشركون بالقول والفعل فشكوا ذلك إلى رسول الله -عليه السلام- فأنزل (¬2): {لِعِبَادِي} المسلمين، {هِيَ أَحْسَنُ} من القول بردّ السلام بلا فحش، {يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} وبين الكفار. {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} قال-عليه السلام-: "سألت ربي مسألة وددت أني لم أسالها إياه قط، قلت: اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا، وسخرت مع داود الجبال يسبِّحن، وأعطيت سليمان كذا وكذا وأعطيت فلان كذا وكذا، فقال لي: ألم أجدك يتيمًا فآويتك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم نشرح لك صدرك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أرفع لك ذكرك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أجدك ضالًا فهديتك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أجدك عائلًا فأغنيتك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أضع عنك وزرك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أوتك ما لم أوت نبيًا قبلك خواتيم سورة البقرة؟ قال: قلت: بلى، قال: ألم أتخذك خليلًا كما اتخذت إبراهيم خليلًا؟ " (¬3)، كان سؤاله على وجه التواضع والاعتراف بفضل الأنبياء ورفعة منازلهم تعرضًا لزيادة رتبته إلا (¬4) أنه نسي إحسان الله واستحقر نعم الله تعالى ففهمه الله تعالى (¬5) على أنه بلغ أجل المراتب ¬

_ (¬1) (أصحاب) ليست في "ب". (¬2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/ 46)، والواحدي في أسباب النزول ص 195، وهو ضعيف. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3445) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وذكره ابن كثير في تفسيره (8/ 452). (¬4) في "أ" "ي": (لا). (¬5) (ففهمه الله تعالى) ليست في "أ".

وأرفعها وأنه لا ينبغي له التعرض لشيء بعدها، وإنما ندم عن هذا السؤال دون سائر الدعوات المأثورة لأنّ تلك الأسئلة صدر بعضها منه على سبيل التعليم لأمته وبعضها على سبيل الاحتياج دون التمني والاقتراح. عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أعطى إبراهيم الصحف الأولى أول ليلة من شهر رمضان، وأعطى موسى -عليه السلام- التوراة لستِّ ليال خلون من رمضان، وأعطى داود -عليه السلام- الزبور لثنتي عشرة ليلة من رمضان، وأعطى محمدًا -عليه السلام- الفرقان لأربع وعشرين من رمضان" (¬1) [وأعطى عيسى-عليه السلام- الإنجيل لثماني عشرة ليلة من رمضان] (¬2) قال: أما إن أراد بشهر رمضان شهر صوم كل نبي في شريعته أو أعطى شيئًا على سبيل الافتتاح فإن ميقات الألواح كان في ذي القعدة وعشر من ذي الحجة. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} قال ابن عباس: إن ناسًا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويريدون أنهم هم (¬3) هم الملائكة فأنزل (¬4)، {قُلِ ادْعُوا} تفريع، {فَلَا يَمْلِكُونَ} جواب شرط مضمر وهي جملة معطوفة على ما مضى والفاء بمعنى الواو. {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} صفة الملائكة عند الكلبي وصفة الجن عند ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث عن واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "أنزلتْ صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان". أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 107)، وعبد الغني المقدسي في فضائل رمضان (1/ 53)، وابن عساكر (2/ 167/ 1) وحسنه العلامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (4/ 1575). وأما ما ذكره المؤلف عن جابر بن عبد الله الأنصاري لم نجد من ذكره ويغني عنه حديث واثلة مرفوعًا. (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬3) (هم) ليست في "أ". (¬4) ذكره القرطبي (14/ 271) ولم يعزه لابن عباس، وقريبًا منه أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بلفظ: "كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزير" (7/ 2335).

الفراء (¬1) ويحتمل صفة الفريقين جميعًا، {الْوَسِيلَةَ} الخصلة التي يتقرب بها العبد إلى سيده تقرب موالاة ومحبة ومودة لا تقرب محاذاة أو أخوة، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} مرتفع بحال مضمر تقديره: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} مستقيمين أو ناظرين أو متسابقين، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وذلك لمسارعتهم في الخيرات (¬2). {نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} أي: مهلكو أهلها بالموت الذي لا بدّ منه، {أَوْ مُعَذِّبُوهَا} معذبو أهلها بالخسف والمسخ ونحوهما، {فِي الْكِتَابِ} اللوح، والفائدة تنبيه أهل مكة لئلا يغتروا لكونهم (¬3) في الحرم آمنين وتنبيه الناس لا يتشبثوا بخراب الدنيا ويزهدوا فيها. {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} قال ابن عباس: سأل (¬4) أهل مكة رسول الله (¬5) -عليه السلام- أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن يُنحِّي الجبال ليزرعوا ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معانيه (2/ 125). (¬2) في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] ستة أوجه إعرابية؛ أربعة منها جعل "أي" استفهامًا: الأوّل: أنها مُعلقة للوسيلة كما قرره الزمخشري. والثاني: أنها معلقة لـ"يدعون" كما قاله أبو البقاء. والثالث: أنها معلقة لـ"ينظرون" مقدرًا كما قاله الحوفي. والرابع: أنها معلقة لـ"نظرهم" كما قدره ابن عطية. وأما الوجهان الآخران حال جعلها موصولة: فالأول منهما: البدل من واو "يدعون" كما قاله أبو البقاء. والثاني: أنها بدل من واو "يبتغون" كما قاله الجمهور، ولا حاجة من أن يكون مرتفعًا بحال مضمرة كما قاله المؤلف. فالأظهر والله أعلم إذا قلنا بالرفع أن يكون مبنيًا على الضم في محلّ رفع بدلًا من فاعل يبتغون، والله أعلم. [الإملاء (2/ 93)، البحر (6/ 52)، الكشاف (2/ 454)، الدر المصون (7/ 372)]. (¬3) في "ب": (لكونهم). (¬4) في "ب": (سألت). (¬5) في "ب": (مكة النبي عليه).

فيها، فقيل: إن شئت أن يستأنى بهم لعلنا نتخير منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم فقال -عليه السلام-: "بل أستأني بهم" (¬1) فأنزل، مقاتل أن عبد الله بن أبي أمية والحارث بن هشام سألا رسول الله (¬2) أن يريهما آية مثل آيات الأنبياء قبله فأنزل (¬3)، واللفظ مجاز (¬4)، وحقيقته: ما منع آياتنا أن تكون مرسلة من عندنا إلا تكذيب الأولين، وفائدة (¬5) اللفظ ابتلاء المخاطبين ليتميز العالمون من غيرهم، {مُبْصِرَةً} جلية كقوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]، {فَظَلَمُوا بِهَا} فكفروا بها وكذبوا بها أو ظلموا أنفسهم بقتلها، {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} أي: لا نرسل الآيات (¬6) إليكم أيها الآخرون إلا على سبيل الإنذار والوعظ، والثاني لا نرسل بالآيات الملجئة إلا للتخويف الذي هو الإكراه. {وَإِذْ قُلْنَا} واذكر إذ قلنا، وفائدة التذكير التشبيه بأنهم في قبضته، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، واتصالها بما قبلها من حيث ذكر الآيات فإن الرؤيا من جملة الآيات، قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها النبي -عليه السلام- ليلة أسري به إلى بيت المقدس (¬7)، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} هي الزقوم نصب بالعطف على الرؤيا (¬8) أي. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 258)، والنسائي في الكبرى (11290)، وابن جرير (14/ 635)، والطبراني في الكبير (12736)، والحاكم (2/ 362) وسنده صحيح. (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) لم نجد من ذكره عن مقاتل، وسبب النزول المشهور في الآية ما تقدم عن ابن عباس. (¬4) حمله على المجاز لأنّ الله لا يمنعه شيء، وانظر: القرطبي (10/ 244)، وإعراب القرآن لمحمود صافي (15/ 74). (¬5) في "ب": (وفائدة الأولين). (¬6) في "ب" "ي": (بالآيات). (¬7) البخاري (3888). (¬8) وجَوَّز الفراء الرفع وهي قراءة شاذة كما قال أبو البقاء العكبري قرأ بها زيد بن علي ورفعها على الابتداء بحيث تتبع الاسم الذي في فتنة من الرؤيا ومثله في الكلام: جعلتك عاملًا وزيدًا وزيدٌ.=

والشجرة كلتيهما، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} لمكان الشبهة والالتباس، وإنما وصفت بالملعونة لكون أهليها وآكليها ملعونين أو لكونها (¬1) مكروهة مستبشعة خبيثة (¬2) تنفر الطباع منها وتلعنها. {طِينًا (¬3)} نصب لنزع الخافض (¬4) أو لأنه مفعول ثانٍ لقوله أي: كونه في الابتداء {طِينًا}، أو للحال، أي: قدرته وصورته في حال كونه طينًا. {أَرَأَيْتَكَ} استفهام بمعنى الإنكار، {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} مبتدأ وخبر في محلّ الرفع بالاستفهام، {لَأَحْتَنِكَنَّ} الاحتناك: الإفساد، وقيل: الاستئصال (¬5) (¬6). {مَوْفُورًا} متروكًا برمته، ومن الدعاء: توفر وتحمد أي: لا زلت موفورًا محمودًا. {وَاسْتَفْزِزْ} واستدع في استخفاف، {بِصَوْتِكَ} فاستمع (¬7) بحاسة الأذن، {وَأَجْلِبْ} استجمع واستحث، {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أما ¬

_ = [الإملاء (2/ 94)، معاني القرآن للفراء (2/ 126)، معجم القراءات للدكتور عبد اللطيف الخطيب (5/ 85)]. (¬1) في الأصل و"ب": (لكونه). (¬2) مستبشعة خبيثة) ليست في "أ". (¬3) في الأصل: (طفيفًا). (¬4) قاله الزجاج كما في معانيه (3/ 248)، وقال الزجاج وتبعه ابن عطية: إن نصبه على التمييز، كما جَوَّزَ الزجاج نفسه أن تكون "طينًا" منصوب على الحال، والتقدير عنده: أنك أنشأته في حال كونه من طين. [معاني القرآن (3/ 248)، الدر المصون (7/ 378)]. (¬5) الاحتناك بمعنى الاستئصال مروي عن ابن قتيبة نقله عنه ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 37)، لكن المروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في معناها قال: لأستولين. رواه الطبري في تفسيره (14/ 655)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2337). (¬6) في "ب" والأصل: (الاستئضار). (¬7) في "أ" "ي": (فاستجمع).

الأموال فالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والربا أو (¬1) الرشوة وسائر الأكساب الخبيثة (¬2)، والأولى هي التي (¬3) زين إلى آبائها قتلها (¬4)، {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] وأولاد الزنا والتي يُهَوِّدُهَا آباؤها أو ينصرها أو يمجسها بعد الفطرة. {إِنَّ عِبَادِى} نصف الآية خطاب لإبليس ونصفها خطاب لنبينا -عليه السلام-. قال: (الكفور) الذي ينزل وحده ويمنع رفده ويجلد عبده. {حَاصِبًا} وهي الريح تقلع الحصباء أو تحصب الناس بالبرد. {قَاصِفًا} وهي الريح التي تكسر الجذع الذي عليه المراوح والشراع. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: الرياح ثمان؛ أربع عذاب، وأربع رحمة. أما الرحمة: فالناشرات والمرسلات والمبشرات والذاريات، وأما العذاب: فالعاصف والقاصف وهما في البحر والصرصر والعقيم وهما في البر (¬5). {تَبِيعًا} بالثأر (¬6). {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} في اللباس يسترهم ويقيهم الحر والبرد والبأس (¬7)، وفي العقل الذي هو دليلهم إلى ما غاب عنهم في الحيل (¬8) ¬

_ (¬1) في "ب": (والرشوة). (¬2) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 662)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (9/ 396) إلى ابن مردويه. (¬3) في الأصل و"ي": (الذي). (¬4) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 664). (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في "المطر والرعد والبرق والريح" (174)، وأبو الشيخ في العظمة (802، 833). (¬6) أي: من يثأر بدمائكم، أي: يطالب بها كما قاله ابن قتيبة. [زاد المسير (3/ 39)]. (¬7) (والبأس) ليست في "ب". (¬8) في الأصل: (الخيل)، وفي "ب": (الجبل).

التي بها يتسلطون على من هو أقوى منهم، {وَفَضَّلْنَاهُمْ} في كونهم مستأهلين لدين الإسلام مدعوين إلى دار السلام بخلاف الشياطين والأنعام. {يَوْمَ} نصب على الظرف (¬1)، {بِإِمَامِهِمْ} تقدمهم وداعيهم إلى الخير والشر يدلّ عليه ظاهر الخطاب وقوله: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقيل: الإمام ما أسلفه كل إنسان في كتابه يدل عليه فحوى الآية، وقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30]، {وَلَا يُظْلَمُونَ} معطوف على {يَوْمَ نَدْعُو}. {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} إنما جاء التفضيل على لفظة أعمى عند الفراء بخلاف التفضيل في الألوان؛ لأنّ المراد به عمى القلب (¬2) وعمى القلب من فعل الإنسان بغفلته يجوز أن يقال: فلان أعمى من فلان في القلب ولا يجوز في العين، وقال بعض النحويين: كل نعت على أفعل والفعل منه ثلاثي عار عن الزيادات الملحقة بالتفصيل فيه على لفظة أفعل جائز، تقول: عمي وزرق (¬3) وعشي فهو أعمى وأزرق وأعشى (¬4) من فلان، وأنكره (¬5) الفراء (¬6) لأن الكثرة في هذه الأفعال غير متصورة والتفضيل يكون (¬7) بعد الكثرة كالمبالغة. {وَإِنْ كَادُوا} بمعنى قد (¬8) كقوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] ¬

_ (¬1) قاله ابن عطية والحوفي والنحاس وجعلوا العامل فيه "فضلناهم" لكن الزجاج قال: إنه منصوب بـ"ثم لا تجدوا"، وذهب أبو القاء العكبري إلى أنه منصوب بما دلّ عليه وهو "لا يظلمون". [الإملاء (2/ 94)، البحر (6/ 62)، معاني القرآن للزجاج (3/ 252)، إعراب القرآن للنحاس (3/ 252)]. (¬2) في "ب": (القلوب). (¬3) في "ب" "ي": (ورزق) بتقديم الراء على الزاي. (¬4) في الأصل: (وأعينى) وفي "ب": (وأعسى) وكلاهما خطأ. (¬5) في "أ": (نكرة). (¬6) ذكره الفراء في معانيه (2/ 127) وفصل القول في ذلك. (¬7) (يكون) ليس في الأصل. (¬8) لم أجد من قال: إنَّ "إنْ" في هذه الآية بمعنى "قد" والمشهور فيها مذهبان: الأوّل: وهو مذهب البصريين: أنها مخففة، واللام فارقة بينها وبين "إنْ" النافية، =

ويجوز بمعنى الجحد واللام بمعنى الاستثناء، {لَيَفْتِنُونَكَ} يصرفونك عن الحق إلى الباطل. وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب رأى رسول الله (¬1) من قومه كفًا عنه فجلس خاليًا يتمنى أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه وقاربهم وقاربوه ودانوا منه، وألقى الشيطان في أمنيته في سورة "النجم" ما ألقى فرضوا بما تكلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقالوا: قد عرفنا أن الله هو يحيي ويميت ويرزق (¬3) ولكن آلهتنا هذه تشفع (¬4) لنا عنده، ولما سجد في آخر السورة سجدوا معه أجمعين (¬5)، ورفع الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص التراب إلى وجوههما يسجدان عليه من ضعفهما وعجزهما، وقال أبو أحيحة: يا محمَّد، إن لك أن تراجع ولقد أصبت حيث ذكرت آلهتنا بخير، فاغتمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلس في بيته حزينًا، فلما أتاه جبريل -عليه السلام- قرأ عليه سورة "والنجم" (¬6) قال: ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال -عليه السلام-: "قلت عليه (¬7) ما لم أقل" فأنزل (¬8). وعن ابن عباس: قدم رسول الله وفد ثقيف (¬9) فأبصرهم المغيرة بن ¬

_ = ولهذا دخلت على فعل ناسخ. والثاني: مذهب الكوفيين أنها بمعنى "ما" النافية واللام بمعنى إلَّا. [مغني اللبيب (ص 306)، الدر المصون (7/ 392)]. (¬1) في "ب": (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬2) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "أ". (¬3) المثبت من "ب" وفي البقية (وبورق). (¬4) في الأصل و"ب": (يشفع). (¬5) في "ب": (أجمعون). (¬6) المثبت من "ب" وفي البقية بدون واو. (¬7) (قلت عليه) ليست في "أ". (¬8) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2340) عن محمَّد بن كعب القرظي وهي المعروفة بقصة الغرانيق. (¬9) في الأصل: (نصف).

شعبة وهو يرعى في نوبته فانصرف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) ليبشره، واستقبله أبو بكر رضي (¬2) الله عنه فأقسم عليه أن لا يسبقه بالبشارة، فرجع المغيرة إلى هؤلاء الوفود يعلمهم التحية إذا دخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1)، فأبوا عليه إلا تحية أهل الجاهلية، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1) وبين القوم وهو (¬3) الذي كتب كتابهم، فلما دخلوا عليه قالوا: يا محمَّد نحن أخوالك (¬4) وأصهارك وجيرانك وخير أهل نجد سِلمًا وأضرهم عليك حربًا، إن سالمنا سالم من بعدنا وإن حاربنا حارب من بعدنا، فقال -عليه السلام- (¬5): "ماذا تريدون؟ " قالوا: نبايعك على ثلاث خصال: أن لا نحني -يعنون في الصلاة- وأن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن يمتعنا بالطاغية سنة -يعنون اللات-، فقال -عليه السلام-: "لا خير في دين لا صلاة فيه ولا ركوع ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم، وأما الطاغية فإني غير ممتعكم بها"، قالوا: يا رسول الله، إنا نحب أن تسمع العرب بأنك أعطيتنا بما لم يعط غيرنا، فإن كرهت وخشيت أن تقول العرب أعطاهم ما لم يعطنا فقل: أمر ربي بذلك. فسكت -عليه السلام- ودعا بوضوء فقال عمر بن الخطّاب: أحرقتم رسول الله أحرق (¬6) الله أكبادكم (¬7) إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬8) لا يدع الأصنام في أرض العرب، إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم، فأنزل الله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} (¬9)، أي: كدت تمتعهم بالطاغية سنة أو كدت تتمنى أن لا ينزل عليك ما ينفرهم عنك. ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) ليست في"أ" "ب". (¬2) (رضي) ليست في "ب". (¬3) في "ب": (بين). (¬4) في الأصل: (أخو الملك). (¬5) في "ب": (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬6) في الأصل: (فأحرق). (¬7) في الأصل: (أكبادهم). (¬8) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "أ". (¬9) بهذا السياق لم نجد هذه الرواية، ولكن هناك روايات قريبة في معناها العام عند البغوي في تفسيره عند كلامه على هذه الآية.

{وَإِذًا} أي (¬1) أن يحقق ركونك إليهم ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، وإنما يضاعف الوعيد لتضاعف النعمة. {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ذكر الواقدي عن جماعة أن قريشًا أهلكوا يوم بدر فلم يلبثوا بعده إلا قليلًا (¬2)، وعن مجاهد أن الآية مكية في قريش (¬3) كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30]. {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} أي: سنتنا فيمن أرسلنا، وانتصاب السنة بإضمار بيّنا وأوضحنا (¬4). {أَقِمِ الصَّلَاةَ} اتصالها بها من حيث وعد النصرة في ضمن قوله: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ} والصلاة من أسباب النصرة، وقيل: اتصالها الإعراض فإنه إذا قام الصلاة أعرض عنهم واستراح من شغلهم. (دلوك الشمس) ميلها، وقيل: غروبها (¬5)، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ظلمته (¬6)، ¬

_ (¬1) (أي) ليست في الأصل و"أ". (¬2) هذا ورد كذلك عند ابن عباس وقتادة عند ابن جرير (15/ 19، 20)، وابن أبي حاتم (7/ 2341). (¬3) المعروف عن مجاهد في هذه الآية أنه قال: لو أَخْرَجَتْ قريشٌ محمدًا لعُذِّبوا بذلك. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 20)، وانظر: تفسير مجاهد (ص440). (¬4) على كلام المؤلف تكون "سنة" منصوبة على أنها مفعول به، وذهب الفراء إلى أنه على إسقاط الخافض، أي: كسنةِ الله، ويجوز أيضًا أن ينتصب على المصدر المؤكد والتقدير: سنَّ الله ذلك سُنَّة. [معاني القرآن للفراء (2/ 129)]. (¬5) قاله الزمخشري: وأشهر الأقوال أنه الزوال وهو نصف النهار إلى أن تغيب، وهو قول أبي عبيدة والزجاج والأزهري. [زاد المسير (3/ 45)، الكشاف (2/ 462)، معاني الفراء (2/ 129)]. (¬6) وهو دخول أول الليل قاله ابن شميل. وأنشد قول الشاعر وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيْتُ الهَمَّ والأَرَقا [ديوان قيس (ص 187)، البحر (6/ 68)].

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الفجر، انتصب على العطف، و (الفجر) الإصباح، {كَانَ مَشْهُودًا} أبو هريرة (¬1) عنه -عليه السلام-: "تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار" (¬2). {فَتَهَجَّدْ} من الهجود نقيض الهجوع {بِهِ} بالقرآن، {نَافِلَةً} صفة لاسم مضمر، واتصالها بها بإضمار جعلناها، وقيل: على الحال (¬3)، قال ابن عباس: ليس لأحد نافلة غير النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4) لأنّ كل إنسان يخاف على نفسه أن لا يقبل فريضة، {مَقَامًا مَحْمُودًا} مقام الشفاعة بين يدي الله تعالى. وعن كعب بن مالك عنه -عليه السلام-: "يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يوذن لي في الشفاعة فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود" (¬5). أبو حنيفة -رحمه الله- عن شداد وعطية العوفي كليهما عن أبي سعيد الخدري في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} الآية، قال: يخرج الله تعالى قومًا من النار من أهل الإيمان والقبلة بشفاعة محمَّد -عليه السلام- فذلك المقام المحمود، فيؤتى بهم لنهر (¬6) يقال له: الحيوان، فيلقون فيه فينبتون فيه كما يخرج النقاوير، ثم يخرجون منه فيدخلون الجنة فيسمون فيها الجهنميون، ثم يطلبون إلى الله أن يذهب ذلك الاسم عنهم فيذهب (¬7). ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (هبيرة). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (10133)، وابن ماجه (670)، والبخاري في القراءة خلف الإمام (251)، والترمذي (3135)، والبيهقي في الشعب (2835) وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعًا. (¬3) انتصابها على الحال هو اختيار أبي البقاء العكبري، وذهب الحوفي إلى أنها منصوبة على المفعول به والناصب لها "تهجد". [الإملاء (2/ 95)]. (¬4) ابن جرير (15/ 40). (¬5) أحمد (3/ 456)، وابن جرير (15/ 48، 51)، وابن حبّان (6479)، والحاكم (2/ 363) والحديث صحيح. (¬6) (نهر) ليست في "ب". (¬7) لم نجد هذه الرواية إذ الحديث مشهور عن أنس وليس بهذا السياق، =

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} عن ابن عباس قال: كان النبي -عليه السلام- بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت (¬1). {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} عن ابن مسعود دخل رسول الله (¬2) مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلثمائة وستون نُصبًا فجعل رسول الله (2) يطعنها بمخصرة في يده- وربما قال: بعود - ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] " (¬3). قال ابن عمر (¬4): ليس في هذا الحديث تاريخ نزول الآية فإن فيه ذكر التلاوة فحسب. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} اتصالها بها من حيث {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ} وهذه في وصف الظالمين. {أَعْرَضَ} عن طاعتنا، {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تباعد بما يقرب فيه حالة اقترابه وهو جانب من جسده، وقيل: تباعد بقوته ورحاله، {يَئُوسًا} من يئس على سبيل المبالغة. {شَاكِلَتِهِ} ما يشاكله ويليق به من الخصال التي خلقها الله ميسرة له، وفي الآية ردّ على القدرية (¬5). {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} قال النضر بن الحارث: يا معشر قريش، والله لقد نزل إليكم أمر ما تقدرون قدره، كان محمَّد فينا حتى بلغ ما ترون ولا أحد أرضى فينا منه، فلما جاءكم ما جاءكم به قلتم: شاعر، والله ما الذي جاءكم بشعر لقد رأينا الشعر وعرفناه فما هو بقرض ولا رجز، وقلتم: ¬

_ = أما عن أبي سعيد الخدري فأقرب شيء ورد في ذلك ما ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (9/ 424، 425) عن ابن مردويه. (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس، والإمام أحمد في مسنده (3/ 417)، والبيهقيُّ في الدلائل (2/ 516)، والترمذي (3139) وغيرهم. (¬2) في "ب": (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬3) البخاريُّ (2478)، ومسلم (1781). (¬4) لم نجده عن ابن عمر. (¬5) في "أ": (القدرة).

سحر، وقد رأينا وسمعنا السحر، فوالله ما هو بسحر، ثم قلتم: كاهن فوالله ما هو بكهانة ولا سجاعة، وقلتم: مجنون وقد رأينا المجانين وعرفنا أصناف الجنون فانظروا في أمركم، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وأُبي بن خلف إلى أحبار يهود من أهل يثرب، وقالوا: هم أهل الكتاب الأوّل والعلم بأمر الرسل وصفاتهم في كتبهم، فسألوهم عن محمَّد وأمره فخرجوا ثلاثتهم حتى أتوا يهود بني قريظة والنضير وماسكة وقينقاع، فسألوهم عن النبي -عليه السلام- (¬1) فوجدوهم قومًا حُسّدًا فقالوا: سلوا الرجل عن ثلاثة أشياء نأمركم بهن، فإن أخبركم عنهن فالرجل مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول، فإنه قد أظل زمان نبي نسمعكم تصفون صفته نجده عندنا كما تصفون فروا رأيكم فيه؛ إذا سألتموه سلوه عن فتية هلكوا في الزمان الأوّل كان أمرهم عجبًا، وسلوه عن طواف قد بلغ المشرق والمغرب قد كان له خبر دنيا وقصص، وسلوه عن الروح فإن أخبركم عنه فإنه كاذب وإن لم يخبركم عن الروح فهو كما قال، وإن عجز عنها فهو متقول. ثم خرجوا حتى انتهوا إلى فدك فقالوا لهم مثل هذا سواء، إلا أنهم قالوا: هذه صفته ونجد مخرجه من بلادكم ونجد مهاجره يثرب (¬2)، فرجع النفر إلى مكة، فلما قدموا على قريش قالوا: قد جئنا نفصل ما بينكم وبين محمَّد، قد أمرنا أهل الكتاب الأوّل والمعرفة وجئناهم جميعًا أهل يثرب وفدك فأمرونا أن نسأله عن أمور فإن أخبرنا عنها فهو كما قال وإن عجز عنها فهو متقول. ممشتْ قريش مع هؤلاء الرسل حتى وقفوا على النبي -عليه السلام- وهو جالس عند الكعبة قد فرغ من صلاته فقالوا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء. وتكلم النفر الذين كانوا قدموا وسألوه عن تلك الخصال الثلاث، فقال: "أخبركم غدًا" ولم يستثنِ، فمكث الوحي عن النبي -عليه السلام- خمس عشر ليلة لا يأتيه جبريل -عليه السلام- ¬

_ (¬1) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬2) في الأصل: (ينزل).

بشيء، فكبُر ذلك عليه وأرجف أهل مكة وقال بعضهم لبعض: الرجل متقول وبطل ما كان يقول، وعدنا أن يخبرنا عما سألناه غدًا واليوم خمس عشرة ليلة ولم يأتنا بشيء، ثم عادوا فسألوه عن حديث أصحاب الكهف فقص عليهم حتى بلغ إلى قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] وحتى بلغ قوله: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 24] ثم جاءه بحديث الطواف وهو ذو القرنين فأخبرهم عن ذلك كله وقصّه عليهم، ثم سألوه عن الروح (¬1)، وقال مقاتل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فانصرفوا وقد أجاب (¬2) هذه الأمور كلها ولا يؤمنون. وعن ابن عباس أن قريشًا اجتمعوا منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو جهل بن هشام، وأمية وأبي ابنا خلف، والأسود بن عبد المطلب وسائر قريش فبعثوا خمسة رهط منهم: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث إلى المدينة يسألون اليهود عن رسول الله -عليه السلام- (¬3) عن أمره وصفته ومبعثه وأنه قد خرج من بين أظهرنا وأصدقوهم نعته، وقالوا لهم: إنه يزعم أنه نبي مرسل واسمه محمَّد وهو فقير يتيم وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما قدموا المدينة أتوا أحبارهم وعلماءهم فوجدوهم إذ قدموا المدينة قد اجتمعوا في عيد لهم فسألوهم عنه (¬4) ووصفوا لهم صفته ونعته وخاتم النبوة (¬5) وقالوا: إنا (¬6) نزعم أنه يتعلم من مسيلمة الكذاب، فقالوا: نحن نجده في التوراة كما وصفتموه فهو نبي وأمره حق فاتبعوه، ولكن سلوه عن ثلاث خصال فإنه يخبركم بخصلتين ¬

_ (¬1) أقرب شيء وجدناه ما رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق (1/ 302)، وابن جرير (15/ 143، 144)، والبيهقي في الدلائل (2/ 270، 271). (¬2) في الأصل: (جاب)، وفي "ب" "ي ": (جات) وكلاهما خطأ والمثبت هو الصواب. (¬3) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬4) (عنه) من "ب" "ي". (¬5) (النبوة) ليست في الأصل. (¬6) (إنا) ليست في الأصل.

ولا يخبركم بالثالثة إن كان نبيا فإنا قد سألنا مسيلمة الكذاب (¬1) عن هؤلاء الخصال فلم يدر ما هو، وقد زعمتم أنه يتعلم من مسيلمة الكذاب، قال: فرجعت الرسل إلى قريش بما ذكرنا في الحديث، فلما وافق قول اليهود قالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48] (¬2). {وَلَئِنْ شِئْنَا} اتصالها بها من حيث إتيان العلم ويحتمل أنها شبه وعيد بعد احتباس على ترك الاستثناء، {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ} أي: لا تجد شيئًا تتوكل عليه واسترداد ما ذهبنا به. {إِلَّا رَحْمَةً} قال الفراء (¬3): هذا كقوله: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68]، ويحتمل أن الاستثناء متصل وأن الرحمة مستثناة من الموجود المنفي وهو أن يتوكل على رحمة الله ويستشفع إلى الله برحمته في استرداد ما ذهب به. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ}، قال الفراء (¬4): (لئن) تلا مرفوع لأنه كاليمين وقد حرم بعض القراء {ظَهِيًرا} معيبًا وفيها (¬5) دلالة على أن ما ألقى الشيطان في سورة "والنجم" وهو قوله: (تلك الغرانيق العلى منهن شفاعة ترتجى) لم يكن بمثل القرآن على ما فيه من الفصاحة والجزالة والجريان على لسان ذي الرسالة والتباسه بالقرآن عند أهل المقالة إلى أن نسخه الله بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم: 21، 22] فاتصل هذا الناسخ بالإنكار السابق وهو قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} [النجم: 19، 20]، اتصالا يتبين فيه صدر الكلام إليه وانفتح عوار إجازة الشيطان لديه واستقامت دعوى الإعجاز من بعد ما كادت تميل. ¬

_ (¬1) (الكذاب) ليست في الأصل. (¬2) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (9/ 480، 481) وعزاه لأبي نعيم في "الدلائل" من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا سند تالف. (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 130). (¬4) ذكره الفراء في معانيه (2/ 130). (¬5) في الأصل و"ب": (وفيه).

{إِلَّا كُفُورًا} كفرًا بالقرآن. {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: اجتمع نفر من قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة (¬1)، وأبو سفيان، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وعبد الله بن أبي (¬2) أمية بن المغيرة، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والأخنس بن شريق، وسهيل بن عمرو، فاجتمعوا في الحجر، قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمَّد فخاصموه وكلموه حتى (¬3) تعذروا في أمره، فبعثوا إليه رسولًا فجاء رسول الله (¬4) وهو يظن أنهم يريدون خيرًا وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ويكبر عليه (¬5) عنتهم، فقالوا: يا محمَّد، إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، والله لا يعلم رجل من العرب أدخل على قومه ما أدخلت عليهم، لقد شتمت الآباء وسبيت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت (¬6) الجماعة، فإن كنت إنما تطلب بهذا الحديث مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى كنت أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فنحن مشرفوك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رئيًا فربما عليه الرئي (¬7)، وكانوا يسمون تابع الجن الرئي (7)، فإن كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب أو تعذر في أمرك، فقال رسول الله (4): "ما أطلب ما تقولون، ما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم (¬8) رسولًا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فأنا أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا ¬

_ (¬1) (ابنا ربيعة) ليست في "أ". (¬2) (أبي) ليست في "ب". (¬3) (حتى) ليست في الأصل. (¬4) في "ب": (الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) في الأصل: (عليهم). (¬6) في الأصل: (فرقت). (¬7) في الأصل: (الرمي) وهو خطأ. (¬8) (إليكم) ليست في الأصل.

والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى" (¬1)، قال أبو جهل واحدة فإن العرب تقول: آخر الدواء الكي، فهذه كلمة آخر ما نكلمك، قال -عليه السلام-: "ما هي؟ "، قال: بلدنا هذا أضيق بلاد الله ساحة وأشد عيشًا فسل لنا ربك الذي بعثك فليُسوّ هذه الجبال التي ضيقت علينا وليجر لنا أنهارًا كأنهار الشام أو غيولًا كغيول اليمن، وليبعثن لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا نسأله عما تقول أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك (¬2)، فقال النبي -عليه السلام-: "ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، ما أنا بفاعل ولا بالذي أسال ربي هذا" قالوا: يا محمَّد، أيعلم (¬3) ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا وترجع علينا ما ترجع؟ قال: "نعم" فقال نبيه ابن الحجاج أخرى: بلغنا أن هذا إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له: الرحمن، ثم قال لجلسائه: تعلمون ذلك؟ قال القوم: نعم، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن فقد أعذرنا إليك يا محمَّد، وإنا والله لا نتركك حتى نهلكك أو تهلكنا، فقال الأخنس بن شريق: نحن نعبد الملائكة فهي بنات الله، وقال عبد الله بن أبي أمية: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)} إلى قوله: {بَشَرًا رَسُولًا}. فلما قام النبي -عليه السلام- تبعه أبو جهل، فقال: يا محمَّد، والله لا نعذر إليك بعد هذا المجلس، وقام معه عبد الله بن أبي أمية، فقال: يا محمَّد، عرض عليك قومك أمرًا فلم تقبله ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها صدقك من كذبك فلم تأتهم بها، وأنا أسألك خصلة واحدة، قال -عليه السلام-: "وما هي؟ "، قال: تنزل علينا كسفًا من السماء فهذه لا تبالي ¬

_ (¬1) (تعالى) من الأصل فقط. (¬2) في "أ": فإن صدق فقال. (¬3) في الأصل: (يعلم).

بها ولا يبالي ربك، ولم نؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنتظر حتى تأتينا ثم تأتي معك بصحيفة منشورة معها أربعة من الملائكة يشهدون أنها كما تقول، وأيم الله (¬1) لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف وانصرف رسول الله إلى بيته حزينًا لما كان يطمع فيه من قومه (¬2). {يَنْبُوعًا} عينًا (¬3) عنوا بقولهم كما زعمت قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} [سبأ: 9] الآية، وهذا ليس بوعيد كائن ولكنه تخويف وتنبيه على القدرة، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)} [الطور: 44] في معنى قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} [الأنعام: 111]. {كِسْفًا} جمع كسفة وهي القطعة وبتسكين السين إن أريد به الواحد فهو الغطاء والغشاوة (¬4)، قال الأزهري: القبيل الجماعة ليسوا من أب واحد وإذا كانوا من أب واحدٍ فهم قبيلة (¬5). {لِرُقِيِّكَ} الرقي والارتقاء العروج، {سُبْحَانَ رَبِّي} أي هو مُنَزَّه عن أن يكون محلًا للاقتراح. {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أهل مكة، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} القرآن، وقيل: الناس ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) قريبًا منه عند ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 295 - 298)، وابن جرير (15/ 87 - 90). (¬3) (عينًا) ليست في "أ". (¬4) بإسكان السين هي قراءة أبي عمرو وأهل الكوفة وابن كثير وحمزة والكسائي في جميع القرآن إلا في "الروم" (آية: 48) ومعناها الغطاء كما قال الزجاج، والمعنى: أسقطها علينا قطعة واحدة مغطاة، وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر ونافع بالفتح جمع كِسْفَة وهي القطعة وهي منصوبة على الحال. [الإملاء (2/ 96)، القرطبي (10/ 330)، البحر (6/ 79)]. (¬5) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (9/ 164) عن أبي عبيد عن أبي زيد.

الذين ينكرون النبوة وينسبون الأنبياء إلى النواميس من المخاريق وهم طائفة من الفلاسفة. {يَمْشُونَ} يتقلبون فيها، {مُطْمَئِنِّينَ} مقيمين غير محتارين، أو مطمئنين على قضية العقل أو على ملة واحدة، {عَلَيْهِمْ} على هؤلاء الملائكة الذين يكونون سكان الأرض وأهلها وإنما لا يجوز الإرسال إلا حبسهم لأجل اللبس والابتلاء، قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام:9]. {عُمْيًا وَبُكْمًا} قال الكلبي والضحاك: عن الحجة (¬1) وهما عن الخير، {خَبَتْ} سكنت. وقيل: طفيت، وقيل: سكن لهبها وهي حية لم تبطل بعد. أبو هريرة عنه -عليه السلام-: "يحشر الناس يوم القيامة، ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة وصنفًا ركبانًا وصنفًا على وجوههم" قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إنهم يتقون بوجوههم كل حَدَب وشوكٍ" (¬2)، وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي -عليه السلام- (¬3): "إنكم محشورون رجالًا وركبانًا وتجرّون على وجوهكم" (¬4). {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} وجه (¬5) الإلزام أنهم كانوا معترفين بأن (¬6) الله خلق السماوات والأرض وبأنه: {قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} من ماء مهين، وبأنه جعل لأعمارهم غاية ينتهي إليها فوجب عليهم الاعتراف بقدرة الله على البعث؛ فإن البعث في الوهم دون ما اعترفوا بالقدرة عليها. ¬

_ (¬1) ورد هذا المعنى عن ابن عباس عند ابن جرير (15/ 93، 94)، وذكره القرطبي عنه وعن الحسن (10/ 333). (¬2) الطيالسي (2689)، والترمذي (3142)، وابن جرير (17/ 450) وسنده ضعيف. (¬3) بدل (عليه السلام) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬4) أحمد (4/ 464) (5/ 3، 5)، والترمذي (2424)، والنسائي في الكبرى (11431)، والحاكم (4/ 564)، وابن أبي شيبة (34407): والحديث حسن. (¬5) في "ب": (على وجه). (¬6) في "أ" "ي": (فإن).

{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} اتصالها من حيث {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]، بخلوا بنعمة الله وإنعامه على بشر مثلهم، {قَتُورًا} بخيلًا، يقال: قتر يقتر وأقتر يقتر. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} اتصالها من حيث اقتراحهم الآيات، أي: آتينا موسى تسع آيات من غير اقتراح. كما أنزلنا على محمَّد القرآن بالحق من غير اقتراح، عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي (¬1) نسأله فقال: لا تقل نبي فإنه إن سمعها تقول نبي كانت له أربعة أعين، فأتيا النبي -عليه السلام- فسألاه عن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فقال النبي -عليه السلام-: "لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا (¬2) ولا تمشوا بين (¬3) بريء إلى السلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة (¬4) ولا تفروا من الزحف، وعليكم اليهود بخاصة أن لا تعتدوا في السبت" فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد إنك نبي، قال: "فما يمنعكما أن تسلما؟ " قالا: إن داود -عليه السلام- دعا الله (¬5) أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف أن يقتلنا اليهود، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬6) (¬7)، لاعتراف اليهوديين به وشهادة ظاهر القرآن له من وجهين: أحدهما: قوله: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} وموسى لم يجيء بني إسرائيل بالطوفان والجراد والقمل ولكنه جاءهم بالأمر والنهي. ¬

_ (¬1) في "ب": (النبي -صلى الله عليه وسلم-). (¬2) (ولا تسحروا) ليست في "ب". (¬3) (بين) ليست في "ب" "ي". (¬4) (ولا تقذفوا محصنة) ليست في "أ". (¬5) (الله) ليست في "ب". (¬6) في "ب": (صحيح حسن). (¬7) الطيالسي (1260)، وأحمد (4/ 239)، والترمذي (2733، 3144)، والنسائي (7/ 111)، وابن ماجه (3705)، وابن جرير (15/ 103، 104)، وابن أبي حاتم (9/ 2851)، والطبراني في الكبير (7396)، والحاكم (1/ 9) والحديث ضعيف.

والثاني: قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، على هذه القاعدة، والقرآن النازل بالحق إنما هو أمر ونهي دون عذاب، ودعوة داود -عليه السلام- صحيحة أيضًا مستجابة؛ لأنّ عيسى ابن مريم صلوات الله عليه لم يقتل ولم يصلب ولم يمت بعد، وأما في سورة "النمل" عند قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]، فمشكل جدًا يحتمل أن المراد تسع مع اليد والعصا ويحتمل سوى اليد والعصا ويحتمل سوى العصا (¬1) وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس (¬2)، وروى عكرمة اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص من الأموال والأنفس والثمرات (¬3) وهو قول الشعبي ومجاهد والكلبي (¬4)، ولا يبعد أن يكون الجراد مع القمل آية واحدة والسنون مع نقص الثمرات آية واحدة، وروى سعيد بن جبير عنه (¬5) في قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، جملة الآيات غير محصورة منها اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر ونتق الجبل على بني إسرائيل وما آتاهم الله في التيه من المطعم والمشرب والملبس. {مَسْحُورًا} ساحرًا بدليل سائر النظائر، وقيل: مسحورًا حقيقة لقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. ¬

_ (¬1) (العصا) ليست في "أ". (¬2) روايات ابن عباس عند عبد الرزاق في تفسيره (1/ 390)، وابن جرير (15/ 98، 99، 102)، وابن أبي حاتم (9/ 2851). (¬3) لم نجده عن عكرمة ولكن أحد طرق ابن عباس السابقة كان من طريق عكرمة. (¬4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 56). (¬5) سعيد بن جبير عنه، أي: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تأويل قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] وقد رفع ابن عباس هذا الحديث كما قاله الطبري في تفسيره وهو حديث طويل جدًا في قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وما واجهه من ابتلاء. والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (11326)، وأبو يعلى (2618)، وابن أبي حاتم (5/ 1567)، وذكره الطبري في تفسيره (16/ 64) كما ذكره ابن كثير في تفسيره (5/ 279) وقال: موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس - رضي الله عنهما - مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره. أهـ.

{هَؤُلَاءِ} إشارة إلى السبع (¬1) اللواتي رواهن صفوان، وقيل: إشارة إلى اليد والعصا وسائر البراهين، {بَصَائِرَ} حال لهؤلاء (¬2)، {مَثْبُورًا} ممنوعًا مصروفًا عن الخير هذا غاية في اللين والحلم والاحتمال. {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} أرض مصر، وقيل: الأرض أردن وفلسطين (¬3) (¬4)، {وَعْدُ الْآخِرَةِ} هو البعث يوم القيامة، وقيل: هو نزول عيسى -عليه السلام-، ويحتمل خروج موسى بهم من مصر إلى قتال الجبابرة، {لَفيفًا} جميعًا (¬5). {وَبِالْحَقِّ} الصدق والصواب {أَنْزَلْنَاهُ} الضمير عائد إلى الهدى في قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الإسراء: 94] وقيل: المراد به الوحي، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} توكيد. {وَقُرْآنًا} الواو للعطف على قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي: أنزلناه مقرونًا أو متركبًا وداعيًا بالحق، {وَقُرْآنًا} ويحتمل أن يكون لعطف الجملة ويصف القرآن بفعل مضمر كما في قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] ومنه قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39]، {عَلَى مُكْثٍ} لُبْثٍ لتنذر، والمراد به نزول القرآن نجومًا متفرقة على سبيل المهلة والتراخي. {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} على سبيل التهديد كقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ¬

_ (¬1) في "أ": (البيع). (¬2) أي: إن صاحب الحال هو -هؤلاء-، إلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها وإن لم يكن مستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعًا له، والثاني: وهو مذهب الجمهور أن ما بعد إلا لا يكون معمولًا لما قبله فيقدر لها عامل تقديره: أنزلها بصائر. [الإملاء (2/ 97)، الدر المصون (7/ 422)]. (¬3) (أردن وفلسطين) ليست في "أ". (¬4) من قال: إنها الأردن وفلسطين هو ابن عباس - رضي الله عنهما -، ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 58). (¬5) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وقتادة والضحاك، ورواه عنهم الطبري في تفسيره (15/ 112)، وانظر: تفسير مجاهد (ص 443).

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} مؤمنو أهل الكتاب (¬1)، وورقة بن نوفل كان قد أدرك الوحي وسمع القرآن ووعد النصرة عند الدعوة فما عاش إلى حين الدعوة، وعن ابن أبي بكر بن حزم: لما هاج اليهودي فوق الأطم يعني بالماء: هذا كوكب أحمد قد طلع وهو كوكب لم يطلع إلا بالنبوة، قيل لأبي قيس من بني عدي بن نجار وكان يترهب ويلبس المسوح: ما يقول هذا اليهودي؟ فقال: انتظاره الذي صنع بي هذا، أنا أنتظره حتى أصدقه فأتبعه، قال ابن حزم: وكان أبو قيس قد صدق بالنبي -عليه السلام- وهو بمكة وكان (¬2) شيخًا كبيرًا فلم يخرج حتى قدم النبي -عليه السلام-، وعن زيد بن أسلم أن أساقفة الحبشة استأذنوا النجاشي فوفدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3) بمكة فكانوا عشرين (¬4) رجلًا فيجدونه عند المقام جالسًا فجلسوا إليه، فكلمه أسقف منهم يقال له: طابور، وقال: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: "نعم"، قال: إلى ما تدعو؟، قال: "أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله"، ثم تلا القرآن فبكوا جميعًا حتى اخضلَّت لحاهم (¬5)، فقال طابور: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشهد أصحابه ما شهد، فلما قاموا اعترضهم أبو جهل وأمية بن خلف، فقالا لهم: حياكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم يطلب مجلسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، وهو عندنا منذ عشر سنين ما استجاب له إلّا غلام سفيه وآخر لا مال له وما (¬6) نعلم ركبًا أحمق منكم، قالوا: سلام عليكم ولا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرًا، فأقاموا عند ¬

_ (¬1) قاله مجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 121). (¬2) في "ب": (بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيخًا). (¬3) (صلى الله عليه وسلم) في الأصل فقط. (¬4) المثبت من "ب"، وفي البقية (عشرين). (¬5) المثبت من "ب"، وفي البقية كلام غير مفهوم. (¬6) في الأصل: (ولا).

النبي -عليه السلام- (¬1) ثلاثًا يغدون معه ويروحون معه حتى علموا قرآنًا كثيرًا ثم خرجوا مسلمين، وفيهم نزلت: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 83]، ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه بإسلامهم وبأنه نبي فأسلم النجاشي وأحسن جوار من كان عنده من أصحاب النبي -عليه السلام- وازداد في دينه رغبة (¬2). {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} يقعون على الأذقان سجودًا واحده ذقن، والمراد بالأذقان الوجوه (¬3)؛ لأنّ الإنسان يعتمد عليه من وجهه، ويحتمل أنه كان من أعضاء السجود ثم نسخ بالجبهة والأنف، {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} ما كان موعوده إلا موجودًا بفعله كائنًا بتكوينه، قال كعب الأحبار: إن العبد لتحط عنه الخطايا ما دام ساجدًا. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} ابن عباس: نزلت الآية ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة فكان إذا صلَّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا شتموا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه -عليه السلام-: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي: بقراءتك فيسمع (¬4) المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬5)، وعن عروة (¬6) قال: قالت خالتي عائشة: يا ابن أختي أتدري فيما أنزلت: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}؟ قلت: لا، قالت: بالدعاء (¬7)، قالت ¬

_ (¬1) في "ب": (النبي -صلى الله عليه وسلم-). (¬2) هذه القصة بطولها رواها ابن عباس - رضي الله عنهما - مع اختلاف في بعض ألفاظها، أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 595)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1184). (¬3) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 120)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 392)، والأذقان في كلام العرب جمع ذَقن وهو مجمع اللَّحْيَيْن. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن عضو من أعضاء الوجه وهو أقرب الأشياء إلى الأرض، وكذا قال ابن الأنباري. [معاني القرآن للزجاج (3/ 264)، زاد المسير (3/ 59)]. (¬4) في الأصل و"أ": (يسمع). (¬5) البخاريُّ (4722)، ومسلم (446). (¬6) في "ب": (عائشة). (¬7) البخاري (4723)، ومسلم (447).

عائشة: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي: بدعائك (¬1) وهي في معنى قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205]. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أمر بالتحميد هاهنا لنزول القرآن عليه وإيمان أهل الكتاب به وانقطاع المشركين في جداله، وقيل: لم يؤمر بالتحميد ولكنه أمر بالإخبار عند الله تعالى أنه محمود في صفاته لم يجانس شيئًا فيتخذه ولدًا ولم يساوه شيء فيكون معه شريكًا ولم يكن ذليلًا فيحتاج من ذله إلى غيره فهو محمود في صفاته. ¬

_ (¬1) ابن جرير (15/ 133).

سورة الكهف

سُورَةُ الكَهْفِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس: الآية نزلت بالمدينة وهي قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف: 28] (¬2)، وعن الحسن: إلا هذه وقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا} [الكهف: 28] (¬3) وقصة ذكر القرنين (¬4)، وهي ماية وخمس آيات في عدد أهل الحجاز (¬5). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أبي الدرداء عنه -عليه السلام-: "من حفظ أول الكهف عصم من فتنة الدجال" (¬6) وروي (¬7) عنه مرفوعًا (¬8) -عليه السلام- (¬9): "من قرأ عشر (¬10) آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال" (¬11). ¬

_ (¬1) هو المروي عن ابن عباس وابن الزبير كما في "الدر المنثور" (9/ 473). وهو اختيار أبي عمرو الداني في كتابه "عد آي القرآن" (179). (¬2) ذكره أبو السعود في تفسيره (5/ 202)، وأسباب نزولها تؤيد ذلك كما سيأتى. (¬3) لم نجده عن الحسن، ولكن أسباب النزول تؤيد ذلك. (¬4) ذكره أبو السعود في تفسيره (5/ 202)، وأسباب نزولها تؤيد ذلك. (¬5) أبو عمرو الداني في "عد آي القرآن" (179) وذكر أنها في العد الشامي (106)، وفي الكوفي (110)، وفي البصري (111). (¬6) مسلم (809). (¬7) (وروي) ليست في "ب". (¬8) (مرفوعًا) من "ب" "ي". (¬9) (-عليه السلام-) ليست في "ب" "ي". (¬10) في "ب" "ي": (ثلاث). (¬11) إن كان (ثلاثة) كما في بعض النسخ فهو يشير إلى رواية أبي الدرداء عند الترمذي (2886) وهي رواية ضعيفة. = =

{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} الكتاب صفة عوج. {قَيِّمًا} مستقيمًا، وفيها تقديم وتأخير تقديرها: أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعله عوجًا، واتصال قوله فيما يقوله: {لِيُنْذِرَ} أحسن اتصال قوله: {عِوَجًا} به. {مَا لَهُمْ بِهِ} بالله {مِنْ عِلْمٍ} حقيقة لأنهم لا يعرفونه ولا يعلمونه وأن تلفظوا بأسمائه، وقيل: عائد إلى اتخاذ الولد، وأراد به نفي الاتخاذ ونفي الولد كقوله: ما أرى في الدار أحدًا نفي المرئي دون الرؤية {كَبُرَتْ} كثرت (¬1) مقالتهم: اتخذ الله ولدًا (فقال لهم) مضمر في هذا الفعل ملتبسة والتاء دالة عليه، ومعناه عظمت كلمة نصب على التفسير. {بَاخِعٌ} قاتل ومهلك {آثَارِهِمْ} خلفهم وهم معرضون عنك، والأثر رسم الشيء بعد مضيه {أَسَفًا} أخر لرؤوس الآي والتقدير: باخع نفسك أسفًا. {زِينَةً} نصب على الحال أو القطع أو المفعول الثاني (¬2) {أَحْسَنُ عَمَلًا} هو الصبر والشكر على موجودها عند عبد الله بن عمرو، وعنه -عليه السلام-: "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم يكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرًا؛ من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا" (¬3) وذكر حديث: ¬

_ = وأما (العشرة) فهو رواية عن عائشة رواها ابن مردويه كما في الدر المنثور (9/ 475). (¬1) في "ي": (كبيرة)، وفي "ب" لا توجد. (¬2) انتصاب "زينة" على الحال هذا إذا جعلت "جعلنا" بمعنى خلقنا، وأما جعلها مفعولًا ثانيًا هذا إذا جعلت "جعل" تصييرية، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول كما يجوز أن تتعلّق بمحذوف صفة "لزينة". [الدر المصون (7/ 443)]. (¬3) الترمذي (2512)، وابن أبي الدنيا في "الشكر" (204)، وفي "القناعة والعفاف" (145)، والطبراني في مسند الشاميين (505، 1387) مختصرًا، وهو ضعيف.

"ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع ... " على ما في الصحيحين (¬1). {جُرُزًا} مكانًا لم يصبه المطر، وقيل: غليظة يابسة لا نبت فيها، وقيل: كأنه أكل نباتها، وأوانه إمّا عند خروج يأجوج ومأجوج، وإما عند انقطاع الحرث والنسل وإما عند البعث {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]، الآية. {أَمْ} بمعنى استفهام (¬2) وإنما لم يكونوا من آيات (¬3) الله عجبًا لجريان سنة الله بالكرامات (¬4)، وأصحاب الكهف فتية من اليونانية، واليونانية جيل من الناس كانوا يسكنون بلاد الروم ويختلطون بهم، والاختلاف بينهم كالاختلاف بين القحطانية والعدنانية، وكانوا معنيين بعلم الفلسفة مختلفين فيها؛ فمنهم موحد ومنهم مشرك، وكان ذو القرنين منهم فلما توفاه الله امتنع ابنه عن المملكة فورث ملكه البطالمة؛ قاسم بطليموس الأول لوغوس وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة، واسم بطليموس الثاني دقيانوس وكان ملكه أربعون سنة وكان مشركًا، فابتدا أمر هؤلاء الفتية في زمانه وكانوا قد هربوا منه. وامتد سلطان البطالمة من بعد دقيانوس إلى نيف وستين ومائة سنة، ثم زال ملكهم وتحول أمر الروم إلى القياصرة من أولاد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم (¬5) وأولهم أغسطوس، وفي عصره كان ميلاد عيسى -عليه السلام-، وانتهت مدة هؤلاء الفتية في الكهف إلى نهايتها والقياصرة يومئذ على النصرانية. و {الْكَهْفِ} الغار {وَالرَّقِيمِ} قرية عند الكهف (¬6)، وقال الفراء: اللوح من رصاص فيه قصتهم وأسماؤهم (¬7). ¬

_ (¬1) حديث هؤلاء في الصحيحين البخاريُّ (3464)، ومسلم (2237). (¬2) هذا عند جمهور النحاة ويجوز أن تكون منقطعة فتقدر بـ"بل" التي للانتقال. (¬3) (آيات) ليست في "ب". (¬4) في الأصل: (بالمكرمات). (¬5) من قوله (ثم زال) إلى هنا ليست في "ب". (¬6) وقيل: هو اسم للكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت: وليس بها إلا الرقيم مُجاورًا ... وصيدَهُمُ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ [البحر (6/ 93)، ديوان أمية (ص 375)]. (¬7) ذكره الفراء في معانيه (2/ 134).

{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: مدينة بالروم ظهر عليها ملك من الملوك كان يقال له دقيانوس على قريتهم وأرضهم وهي تسمى أقسوس، فجعل يدعوهم إلى عبادة الأوثان وجعل يقتلهم، فمن كفر بالله واتبع دينه تركه، فهدى الله شابًا من أهل تلك المدينة إلى دين الإسلام فجعل يدعوهم سرًا حتى تابع على ذلك ستة أغلمة، ففطن بهم الملك، فأرسل إليهم فأخذهم فدفعهم إلى آبائهم يحفظونهم حتى يرسل إليهم من يطلبهم من آبائهم، فأرسل إليهم فهربوا فقالت الآباء: والله لقد خرجوا من عندنا بالأمس فلا ندري أين هم، ومرّوا بغلام راعي ومعه كلب لهم فدعوه إلى أمرهم فأعجبه ذلك فتابعهم عليه ومضى معهم واتبعه كلبه واسم كلبه قطمير (¬1)، حتى أتوا على (¬2) غار كهف فدخلوا فيه، ثم أرسلوا بعضهم إلى السوق يشتري لهم طعامًا من السوق قال: وركب الملك والناس معه في طلبهم يسألون عنه، فسمع رسولهم بذلك فعجل أن يشتري لهم كل الذي أرادوا واشترى بعضًا فأتاهم به وأخبرهم أن الملك والناس في طلبكم، فأكلوا مما أتاهم به ولم يشبعوا {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} يقول مخرجًا، ثم ناموا على جوعهم فضرب الله على آذانهم بالنوم سنين عددًا -ثلثمائة سنة وتسع سنين-. قال: ويسير الملك والناس معه يقفون آثارهم حتى انتهوا إلى باب الكهف فوجدوا آثارهم داخلين ولم يجدوا آثارهم خارجين، فدخلوا الكهف فطلبوهم فعمى الله عليهم أبصارهم فلم يجدوا شيئًا، فقال دقيانوس: سدوا عليهم باب الكهف حتى يموتوا فيه فيكون قبورهم، إذ كانوا فيه نيامًا ثلثمائة وتسع سنين ويقلبون في كل عام مرة مخافة أن تأكل الأرض لحومهم. وعن مجاهد أنهم مكثوا ثلثمائة عام على شق واحد وقلبوا في تسع سنين (¬3). ¬

_ (¬1) ورد في رواية عن ابن عباس عند الطبراني في الأوسط (6113)، وعن الحسن عند ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (9/ 508)، وفي مصادر أخرى (قُطْمُور). (¬2) (على) ليست في "ب" "ي". (¬3) ذكره في "الدر المنثور" (9/ 508) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

قال الكلبي: ثم انصرف الملك والناس حين سدوا عليهم الكهف إلى مدينة أفسوس، وعمد رجلان مسلمان يكتمان إيمانهما من دقيانوس الكافر حين انصرف الجبار، عمدا إلى اللوح من رصاص فكتبا فيه الفتية وأسماء (¬1) آبائهم ومدينتهم وأنهم خرجوا فرارًا من دقيانوس الملك الكافر ممن ظهر عليهم فإنهم مسلمون، ثم ألزقاه في السد من داخل الكهف، وكان دقيانوس أظهر علامات الكفر بالمدينة (¬2) وقد دخل الفتية وهم يرونها، وكانوا كلما غزا ملك تلك المدينة ظهر عليها أظهر (¬3) علاماته، إن كان مسلمًا أظهر علامات المسلمين وإن كان كافرًا أظهر علامات المشركين. ثم إن صاحب الأرض التي كان فيها احتاج إلى أن يبني حظيرة لغنمه (¬4) فهدم ذلك السد فبنى لغنمه (¬5) فكان باب السد مفتوحًا وقد اختلف الناس فقال قائلون: لا تقوم الساعة وليست بشيء، وقال الآخرون: هي كائنة حقًا. ثم استيقظوا بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين على جوعهم الذي ناموا عليه، فنظر مكسملينا وهو سيدهم إلى الشمس قد زال (¬6) عن مكانها الذي (¬7) كانت حين دخلوا فقال: كم لبثتم؛ فقالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم. وأسماؤهم يمليخا ومرطونس ونواس (¬8) وسارينوس وكشفوطط وبطيونوس. ¬

_ (¬1) في "ب": (فكتبا فيه أسماء الفتية وأسماء ...)، وفي "أ": (فكتبا فيه الفتية أسماء ...). (¬2) من قوله (وقد دخل) إلى هنا ليست فى "ب". (¬3) (أظهر) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: (يبني لغنمه). (¬5) في الأصل: (ليبني لغنمه). (¬6) في "ب": (زالت). (¬7) في "ب": (التي). (¬8) (ونواس) ليست في "أ" "ب".

{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} وقال مكسملينا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وهم يرون ملكهم دقيانوس كما هو عليه {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} يقول: أيها أحل ذبيحة لأنّ عامتهم كانوا مجوسًا يوم دخلوا الكهف {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} يقول: طعامًا منه {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الشري {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [يقول: لا يعلمن بكم أحدًا] (¬1) من المجوس. {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} العود في دينهم: الشرك بالمجوسية (¬2) {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} قال: فخرج رسولهم يمليخا فلما انتهى إلى باب السد إذا حجارة مكسورة على بابه، فقال: إن هذا الشيء ما رأيناه، وكان صاحب الكهف هدمه واسمه زندليس بني حظيرة لغنمه فقال: إن هذا ما رأيناه أمس حين دخلناه، فكان أول شيء أنكره (¬3) وأنكر الطريق، قال: فرجع إليهم فأخبرهم بالحجارة فأنكروه وأنكروا الطريق، فقال (¬4) مكسملينا عند ذلك: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ثم مضى يمليخا حتى أتى السوق ولا يعرف أحدًا من أهلها، وإذا ملك من الملوك مسلم يقال له: بسفاد قد غزا تلك المدينة فظهر عليها وكسر علاماتها وأظهر علامات المسلمين، فسأل يمليخا: أي مدينة هذه؟ قالوا: هذه مدينة أفسوس، قال: فأي رستاق هذا؟ قال: فأخبروه، قال: فقال: لقد أصابنا شيء إن هذه لمدينتنا وإن هذا لرستاقنا ما أعرفهما ولا أهاليهما، قال: ثم أتى خبازًا وهو يخبز فقال: يا خباز بعني من طعامك هذا، وأخرج ورقة، فلما رآها الخباز أنكرها وأنكر الرجل، فقال: إني لأنكرك فمن أين لك هذه الدراهم؟ فقال له يمليخا: ولم؟ قال: لأن معك دراهم دقيانوس الملك الكافر وقد ضربت منذ ثلثمائة سنة وتسع سنين، وأنكرك لأنك لا تشبه أهل قريتنا، إما أن تعطيني من هذا الكنز الذي وجدت وإما أن أرافعك (¬5) إلى ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (بالمجوسية). (¬3) من قوله (لغنمه) إلى هنا ليست في "أ". (¬4) في "ب": (قال). (¬5) في الأصل: (لدافعك).

ملكنا المسلم يقال له بسفاد الملك فإنك قد وجدت كنزا وإن هذه الدراهم لدراهم ما نعرفها، فكان كل ملك يحدث بعد آخر يضرب دراهمه كلها على ضربه، فمن وجد معه غير ذلك (¬1) الدراهم علم أنه موجد كنزًا، فلما وجدوا معه تلك الدراهم قالوا إنه كنز (¬2)، فقال لهم يمليخا: إن هذه الدراهم ما خرجت بها من المدينة إلا أمس، فظن الخباز أنه يتجانّ عليه ليرسله فقال: إنك تتجان عليّ لأرسلك والله لا أرسلك (¬3) حتى تعطيني من هذه (¬4) الكنز أو أرافعك (¬5) إلى السلطان، فلما رآه لا يعطيه شيئًا رفعه إلى ملكهم فإذا هو رجل متعبد مجتهد قائم على مسح يجتهد لربّه حيث ردّ الله على أهل تلك المدينة دينهم كما كان وقد جعل قاضيين فقيهين يهيئان أمر الناس ويدبرانه. فرفعه الملك إلى ذينك القاضيين فسألاه فقال يمليخا: أهلي أو بنو عمي أو بعض معارفي، وجعل يبكي فرقًا أن يرفع إلى ملكهم الجبار الذي فرّ منه، فلما أدخل على القاضيين [ولم ير الجبار الذي فر منها] (¬6) سكن فقال له القاضيان: دلّنا على هذا الكنز وإلا عذبناك، فقال: ما هذا بكنز إنما خرجت أنا وأصحاب لي عشية أمس هاربين من الملك دقيانوس، فقالا له: إنك رجل شاب وذلك الملك قد مضى منذ دهر طويل، قال: فقالوا: مجنون، فرفعوه إلى ملكهم فساءله فقال له: من أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت بها معي عشية أمس أنا وأصحاب لي هاربين من دقيانوس وها هم أصحابي فانطلقوا إليهم، قال: وجاع أصحابه جوعًا شديدًا حين أبطأ عليهم فقال الملك: قد عرفت أنك إنما ترمي أنك مجنون لأرسلك وما أنا بالذي أرسلك حتى تخبر من أين هذه الدراهم، أخبرنا بقصتها. فقصَّ عليه أمره وأمر أصحابه فقال أناس من المسلمين قد أخبروا ¬

_ (¬1) في "ب": (تلك). (¬2) في "ب" "ي": (لكنز). (¬3) في الأصل و"أ": (لارسلك). (¬4) في "ب": (هذا). (¬5) في الأصل: (أرفعك). (¬6) ما بين [...] ليس في "ب".

بقصته: إن آباءنا قد أخبرونا أن فتية خرجوا بدينهم، وهم مسلمون فرارًا من دقيانوس، وإنا والله ما ندري لعله صادق فاركب فانظر لعله (¬1) شيء أراد الله أن يظهرك عليه وأن يكون في ولايتك، فركب الملك وركب معه الناس المسلمون والكافرون حتى انتهوا إلى الكهف، فدخل صاحبهم وهم يبكون فأخبرهم بأمره الذي لقي وقال: لقد أتاكم الملك، فعانق بعضهم بعضًا يبكون ولا يشكون أنه الملك الجبار والكافر الأول، فدخل عليهم الملك والناس يسألونهم عن أمرهم، وقصوا عليهم قصتهم (¬2) والذي فروا منه، فنظروا فإذا في (¬3) اللوح الرصاص الذي كتبه المسلمان فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم ودينهم وفرارهم من دقيانوس الملك الكافر فقال الملك: قوم هلكوا في زمان دقيانوس فأحياهم الله في زماني، فحسبوا ذلك فوجدوه ثلثمائة وتسع سنين، فلم يبق مع الملك أحد إلا أسلم إذ رآهم، فبينما هم (¬4) إذ ماتوا فضرب الله على آذانهم بالنوم. ثم تنازع فيه المسلمون الأول أصحاب الملك قبل أن يأتوا الكهف والمسلمون الذين أسلمُوا حين رأوهم فقال المسلمون الآخرون: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} و {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} الملك والمسلمون الأولون معه {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} قال: فبنوا على الكهف مسجدًا، ثم قال الملك المسلم وأصحابه المسلمون الأولون: مكثوا في الكهف ثلثمائة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا، فقال المسلمون الذين مع الملك: الله أعلم بما لبثوا في الكهف فذلك قوله: {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا} أي الفريقين والقبيلين أحفظ لما لبثوا، المراد بالمسلمين النصارى وإنما سماهم ابن عباس مسلمين لأنهم لم يكونوا يقولون في عيسى قول النصارى. ¬

_ (¬1) في "أ" (. . . . لعله صادق فاركب فانظر لعله شيء) وهو تكرار خاطئ. (¬2) في الأصل: (قصته). (¬3) (في) من الأصل. (¬4) العبارة في الأصل و"أ" غير واضحة المعنى.

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} ختمنا عليها بما يمنعها النوم والسمع. وهذا النوم {أَمَدًا} غاية نصب على التفسير {لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}. {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أي هدايتهم؛ أي هداية قومهم الاعتراف بالصانع وهدايتهم توحيد الصانع إذا كانوا على مجلس نحوهم. {شَطَطًا} جورًا. {وَمَا يَعْبُدُونَ} معطوف على الضمير المنصوب المتصل بالاعتزال والاستثناء على سبيل المجاز؛ لأن المشركين كانوا يعبدون الله على سبيل المجاز بما يظهرون من الخضوع، كما يعبدون أوثانهم وإن كانت عبادتهم (¬1) في الحقيقة تقع معصية بمخالفتهم (¬2) الأمر. {تَزَاوَرُ} تمايل (¬3) وتزايل {تَقْرِضُهُمْ} تحدوهم، يقال: حدوته وقرضته (¬4) {ذَاتَ الْيَمِينِ} {فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} فرجة (¬5) من الكهف. {أَيْقَاظًا} جمع يقظ وهو المنتبه {وَهُمْ رُقُودٌ} جمع راقد وهو النائم {ذِرَاعَيْهِ} ذراع اسم يشتمل على الكف إلى المرفق {بِالْوَصِيدِ} فناء البيت (¬6) عند العتبة، وفائدة ذكر الكلمة بقاؤه في تلك المدة على تلك الحالة من جملة الآيات فصار كالحمار والبقرة المذكورين في سورة "البقرة"، أو ذكر الكلب كان موجودًا في قصتهم عند أهل الكتاب كعدة ¬

_ (¬1) في الأصل: (عادتهم). (¬2) في الأصل: (لمخالفتهم). (¬3) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير وقتادة، رواه عنهم الطبري في تفسيره (15/ 185). (¬4) في "ب": (وقرضته حذوته). (¬5) في الأصل و"أ": (فوجد). (¬6) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وسعيد بن جبير ومجاهد، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (15/ 192).

الملائكة تسعة عشر {فِرَارًا} هاربا نصب على التفسير (¬1) {رُعْبًا} نصب على أنه مفعول ثانٍ ألبسهم الله المهابة كيلا يدنوا منهم. {أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} دراهمكم {أَيُّهَا} أي الأطعمة {أَزْكَى} أطهر وأنظف (¬2) {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف في القول والفعل كيلا يفتضح. {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬3) - رضي الله عنهما -: أن حبري أهل نجوان وهما السيد والعاقب قدما بمن معهما على رسول الله (¬4) فكان السيد مار يعقوبنا والعاقب نسطوريا فسألهم نبي الله عن عدد أصحاب الكهف فقال السيد وأصحابه: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب: خمسة سادسهم كلبهم {رَجْمًا} ظنا {بِالْغَيْبِ} ولا علم لهم بذلك (¬5)، فلما رأى الله ذلك منهم قال لنبيه -عليه السلام-: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} قال ابن عباس: أنا من جملة أولئك القليل الذين استثناهم الله منهم، فهم ثمانية: سبعة سوى الكلب (¬6)، والواو في {وَثَامِنُهُمْ} للاستئناف كما في قصة بلقيس {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] {مِرَاءً ظَاهِرًا} جدًا على وجه يشترك فيه الخاص والعام، والنهي عن الاستثناء منهم لقطع الجدال. {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ (¬7)} نهي للنبي -عليه السلام- حين قال: "أخبركم غدًا" ¬

_ (¬1) وفيه وجه آخر وهو أن يكون منصوبا على المصدر من معنى الفعل قبله؛ لأن التولي والفرار من واد واحد، ويجوز أيضًا أن يكون مصدرًا في موضع الحال أي فارًّا وتكون حالًا مؤكدة، كما يجوز أن يكون مفعولًا له. [الدر المصون (7/ 461)]. (¬2) في "أ" "ب": (وألطف). (¬3) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (3/ 74)، لكن قال: رواه الضحاك عن ابن عباس وليس الكلبي كما ذكر المؤلف. (¬4) في "ب": (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬5) في "ب" "ي": (به) بدل (بذلك). (¬6) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 400)، وابن سعد (2/ 366)، وابن جرير (15/ 219، 220). (¬7) (لشيء) من "ب".

الأشياء الثلاثة التي ذكرناها في سورة (¬1) بني إسرائيل، وكان الوحي قد احتبس لذلك (¬2)، وفي الآية ردّ على القدرية وهي متصلة بما يليها واذكر الاستثناء بمشيئة الله إذا نسيت الاستثناء (¬3)، والتوقيت من مجاز الكلام والمراد به الشرط والحال يدلّ عليه أن الذكر والنسيان لا يجتمعان في وقت، وللتقدير فيه: إن نسيت الاستثناء عند القول فاستثنِ عقيب قولك. {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} يدلني إلى ما يكون أقرب إلى الصواب من قولهم. {وَازْدَادُوا تِسْعًا} قيل: ازدادوا تلبثهم تسع ليال، وقيل: تسع سنين، وقيل: لم يلبثوا إلا ثلثمائة سنة ولكن الناس ازدادوا عليها تسعًا في الإحصاء، والمروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: تسع سنين (¬4). {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} صورته صورة الأمر والمراد به التعجب، أي ما أبصره وهو جامد يجري مجرى الحروف. {مُلْتَحَدًا} معدلًا وملجأ (¬5). ¬

_ (¬1) (سورة) من الأصل فقط. (¬2) ابن جرير (15/ 225)، والطبراني في الكبير (11069)، والحاكم (4/ 303). (¬3) في هذا الاستثناء عدة أوجه إعرابية، فقد ذكر أبو البقاء العكبري أن في المستثنى منه ثلاثة أوجه: الوجه الأوّل: هو من النهي، والمعنى لا تقولنَّ: أفعل غدًا، إلا أن يؤذن لك في القول. الوجه الثاني: هو من "فاعل" أي: لا تقولنَّ إني فاعل غدًا حتى تقرن به قول "إن شاءالله". والوجه الثالث: أنه منقطع، وموضع "أن يشاء الله" منصوب على الاستثناء أو الحال، وما ذهب إليه العكبري وافقه عليه الطبري وابن عطية. [البحر (6/ 115)، الإملاء (2/ 101)، الدر المصون (7/ 469)]. (¬4) المروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما نقله ابن الجوزي عنه أنه قال: هو حكايته عما قال الناس في حقهم وليس بمقدار لبثهم، ولو كانوا لبثوا ذلك لما قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وكذا قال قتادة. [زاد المسير (3/ 78)]. (¬5) قاله مجاهد وقتادة وابن زيد رواه عنهم الطبري في تفسيره، وكذا قال الفراء. =

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} نزلت فيمن نزلت آيات الأنعام (¬1) وفيها زيادة إنعام وهي نهي العينين عن أن يجاوزاهم إلى غيرهم من أبناء الدنيا، وفي ذلك دلالة على كونهم شهدوا رسول الله، وقيل: عينيه في الأرض بعد اتصافه ليلة المعراج بقوله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] الآية، ولم يستحقوا هذه الرتبة إلا بعد ما طاشت لدينهم ودنياهم وتلاشت نفوسهم في محياهم {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} رد على القدرية وهي في شأن أبي جهل وأمثاله {فُرُطًا} ضائعًا (¬2) منها، وقال أبو عبيدة (¬3): ندمًا، وقيل: سرفًا. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} المأمور بالقول (¬4) لهم هم الذين آمنوا برسول الله، الإيمان به أن أعرض الفقراء كقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] و (السرادق): الحائط من المدر والوبر (¬5) {يُغَاثُوا} على سبيل المجاز لازدواج الكلام. و (المُهْل) ذائب الرصاص والصفر ¬

_ = وقال الزجاج: معدلًا عن أمره ونهيه. والملتحد: مفتعل من اللحد يقال منه: لَحَدْتُ إلى كذا إذا ملت إليه، ومنه قيل للَّحد: لَحْدٌ لأنه في ناحية من القبر، ومنه الإلحاد في الدين وهو المعاندة بالعدول عنه والترك له. [تفسير الطبري (15/ 235)]. (¬1) الآية لها عدة أوجه في سبب نزولها منها حديث سلمان الفارسي قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيينة بن بدر والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا نبي الله إنك لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ...} [الكهف: 27]، حتى بلغ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29]، يتهددهم بالنار، فقام نبي الله- صلى الله عليه وسلم - يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله فقال: "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجالٍ من أمتي، معكم المَحْيَا، ومعكم الممات" أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 240)، والواحدي في أسباب النزول (ص 224)، وأبو نجم في الحلية (1/ 345)، والبيهقي في الشعب (10494). (¬2) قاله ابن عمرو - رضي الله عنهما - ومجاهد. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 242)، وابن أبي حاتم (7/ 2358). (¬3) نقله ابن الجوزي عنه في تفسيره (3/ 80). (¬4) في "ب": (به القول). (¬5) قاله أبو عبيد الهروي، وقال ابن عباس: هو حائط من نار، وقيل: "السرادق" =

ونحوهما، وقيل: هو دردي (¬1) الزيت (¬2)، وقيل: هو الصديد (¬3) {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} أي ساءت النار مرتفقًا. {مِنْ أَسَاوِرَ} "من" صلة أو تبعيض (¬4) و {مِنْ ذَهَبٍ} "من" للتجنيس، أساور: جمع أسورة، وأسورة: جمع سوار (¬5)، والسوار: القُلْب وهو زينة الذراعين {مِنْ سُنْدُسٍ} رقيق الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} غليظه {الْأَرَائِكِ} جمع أريكة يغلب على السرير في الحجلة، الأزهري (¬6): كل ما اتكأت عليه (¬7). {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} كانا من بني إسرائيل وكانا أخوين اسم أحدهما يهودا واسم الآخر يوفظروس، وكان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا وقد ورثا (¬8) من أبيهما مالًا، فأما المؤمن فأنفق حصته في سبيل الله حتى افتقر، وأما (¬9) الكافر فاشترى بحصته الضياع والكراع والمتاع حتى كَثُر ماله ¬

_ = ما أحاط بشيء كالمضرب والخباء. وقيل: هو الحجرة تكون حول الفسطاط، وقيل: كل بيت من كُرْسُف -أي قطن- فهو سرادق ومنه قول رؤبة: يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ ... سرادق المجدِ عليك مَمْدُودْ [ديوان رؤبة (ص 172)، اللسان (سردق)، الطبري (15/ 246)]. (¬1) في "ب": (وردي)، وفي "ي": (هي دردي). (¬2) دردي الزيت: ما يبقى في أسفله. انظر: اللسان (درد). (¬3) قاله مجاهد. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 249). (¬4) من قال إنها زائدة هو الأخفش واستدل بقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ} [الإنسان: 21]، وذكر المؤلف أنها تكون للتبعيض، وقيل: هي لبيان الجنس. وهذه الأوجه الثلاثة ذكرها أبو البقاء العكبري. وهناك وجه رابع ذكره السمين الحلبي وهو أنها للابتداء، ولم أجد الأخفش أشار إلى زيادتها في كتابه "معاني القرآن" فلعله في موضع آخر، ونقل عنه السمين الحلبي أنها زائدة. [معاني القرآن للأخفش (ص 98 - 209)، الإملاء (2/ 102)]. (¬5) وأسورة جمع سوار، ليست في "ب". (¬6) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (10/ 354). (¬7) ذكره الأزهري في الصحاح (4/ 1572) وقال: سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن في سرير فهو حجلة. (¬8) في الأصل: (وزنا). (¬9) في الأصل: (وما).

وحسنت حاله وافتقر أخوه إلى نفقته فتعرض له، وكان من قصتهم ما نطق به الكتاب {وَحَفَفْنَاهُمَا} أي أحدقنا بهما. (كلا) و {كِلْتَا} اسمان موحدان في اللفظ ومعناهما التثنية (¬1) وألفهما كألف على (¬2) وإلى، ويكون خبره مفردًا والمعنى كل واحدٍ أو كل واحدة منهما كذا وكذا. {يُحَاوِرُهُ} يراجعه في الكلام. (النفر): الخول والولد دون العشيرة وأنهما كانا في العشيرة سواء (¬3). {أَنْ تَبِيدَ} تهلك، قاله حماقة وغفلة أو اعتقادًا في الطوالع، وقيل: هذه إشارة وهذه أشبه بظاهر كلامه وإنكاره قيام الساعة. {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} طمع الخبيث في خير مع كفره بقيام الساعة لاعتقاده بأن الساعة إن كانت حقا فيستشفع شركاءه الذين يدعوهم من دون الله، أو لاعتقاده بأن ابتغاء مرضاة الله في عمارة العالم، وتنمية الأموال دون الإيمان والإحسان. {أَكَفَرْتَ} هذا حكم بالكفر وأنكر عليه لإنكاره خراب الدنيا والتحول إلى العقبى، ويحتمل أنه لم يحكم به ولكن استفهم واستعلمه أهو كافر حيث رآه ينكر البعث والنشور ولا يعترف بأن النعمة من الله إن شاء أسلبها. {هُوَ اللَّهُ (¬4) رَبِّي} ضمير اسم الله تعالى في محل الرفع على سبيل الابتداء، واسم الله كالبدل منه أو كالبيان له (¬5)، وقيل: هو ضمير الأمر والشأن. ¬

_ (¬1) المثبت من "ي"، وفي البقية: (التنبيه). (¬2) في الأصل: (إلى). (¬3) في "أ": (سواه). (¬4) (الله) ليست فيا "أ" "ي". (¬5) (له) ليست في "ب".

{مَا شَاءَ اللَّهُ} مبتدأ، أي: ما شاء الله كان، وقيل: خبر؛ أي هذه ما شاء الله (¬1) {إِنْ تَرَنِ} شرط (¬2) لقوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} لأنّ رؤية المجالس الفقير داعية إلى الشكر والاعتبار {أَنَا} عماد، وقيل: توكيد (¬3) لا محلّ له من الإعراب كالضمير المتصل في قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]. {حُسْبَانًا} ابن عرفة: عذابًا، الأزهري: المرامى الصغار من برد أو حجارة أو نحوها (¬4)، وحسبان القتبي معرفة {صَعِيدًا زَلَقًا} مزلة ملساء لا يثبت فيها قدم، يقال: زلق رأسه إذا حلق. {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} عبارة عن غاية التأسف، كما أن صك الوجه عبارة عن غاية التعجب. {هُنَالِكَ} إشارة إلى الساعة التي أنكر الكافر قيامها، وهذه الإشارة يجوز أن تكون من جهة المؤمن، ويجوز أن تكون من جهة الله تعالى {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} مثيب ومعقب إثابة وإعقابًا (¬5) و (العقب): العاقبة. {هَشِيمًا} ما تكسَّر وتفتق من النبات بالدوس وغيره، و (الهشام): الكسر {تَذْرُوهُ} إجزاؤه في الهواء (¬6) بسرعة وتفريق. ¬

_ (¬1) إذا قلنا إن "ما" موصولة بمعنى "الذي" فإنها تكون مبتدأ وخبرها محذوف كما قدره المؤلف، وإذا قلنا "ما" شرطية فتكون في محلّ نصب مفعولًا مقدمًا وجوبًا بـ"شاء" أي: أيَّ شيءٍ شاء الله والجواب محذوف؛ أي ما شاء الله وإن ووقع. وعلى كلا التقديرين فهذه الجملة في محل نصب مقول القول. [الدر المصون (7/ 495)]. (¬2) (ما شاء الله {إِنْ تَرَنِ} شرط) ليست في "أ". (¬3) توكيد لياء المتكلم في "ترني". (¬4) انظر "روح المعاني" للألوسي (15/ 281). وعذابًا- مروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك- ومن فسرها "مرامي" هو أبو عبيدة وابن قتيبة والنضر بن شميل. (¬5) في الأصل: (وأحقابًا). (¬6) في "ب": (الهوى).

إبراهيم (¬1) في قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قال: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" (¬2). أبو هريرة عنه -عليه السلام-: "لإن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وقال: "هن الباقيات الصالحات" (¬3). ابن عمر: أن النبي -عليه السلام- خرج على قومه فقال: "خذوا جُنتكم" فقالوا: يا رسول الله من عدوّ حضر؟ قال: "بل من النار" قالوا: وما جنتنا من النار؟ قال: "سبحان الله والحمد لله (¬4) ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن يأتين يوم القيامة (¬5) مقدمات ومجنبات ومعقبات وهن الباقيات الصالحات" (¬6) وقيل: الباقيات الصالحات الصلوات الخمس (¬7) {أَمَلًا} طمعًا. {وَيَوْمَ} واو العطف على قوله {وَاضْرِبْ} والتقدير: واذكر يوم كذا {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} وتسييرها قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً (¬8)} [النمل: 88] الآية، والمعنى فيه فسخ نظام الدنيا وتسطيح العرصات وتهويل الأمر وما شاء الله من المعاني اللطيفة الخفية (¬9). عمرو بن دينار: لتسبيحة (¬10) ¬

_ (¬1) الذي ورد عن إبراهيم النخعي في "الباقيات الصالحات" أنهن الصلوات الخمس. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 275)، وهكذا ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 88). (¬2) وردت عدة روايات في تفسير "الباقيات الصالحات" بهذه الكلمات منها ما رواه أحمد (3/ 75) عن أبي سعيد الخدري، والحديث حسن. ومنه ما رواه أحمد (4/ 267) عن النعمان بن بشير وهو حديث صحيح. وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وأبو هريرة وعلي - رضي الله عنهم -. (¬3) أصل الحديث في مسلم (2695) وليس فيه "هن الباقيات" لكنها وردت في رواية أخرى عند النسائي في الكبرى (10684)، وابن جرير (5/ 278). (¬4) في "ب": (والحمد لله وسبحان الله). (¬5) في الأصل: (القيامات). (¬6) الحديث عن أبي هريرة رواه النسائيُّ (10684)، وابن جرير (5/ 278)، والحاكم (1/ 541)، والبيهقي في الشعب (606). (¬7) روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي. أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 275)، وابن أبي حاتم (6/ 2092). (¬8) (جامدة) من "ب". (¬9) في الأصل: (الخفيفة). (¬10) في الأصل: (التسبيحة)، وفي "ي": (للتسبيحة).

بحمد الله في صحيفة مؤمن يوم القيامة خير له من جبال الدنيا ذهبًا (¬1) {فَلَمْ نُغَادِرْ} أي لم نترك ولم نخلف. {صَفًّا} مصدر كالاصطفاف، وقيل: اسم (¬2) وهو ترتيب بعض الأشياء بجنب بعض والتشبيه بحيرتهم واشتغالهم بأنفسهم ووضع الكتاب في أيديهم أو في موازينهم. {مُشْفِقِينَ} خائفين {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} تعجب، والاستثناء منقطع. {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} عائد إلى إبليس وذريته وإلى كل معبود عبد من دون الله {عَضُدًا} معينًا. {مَوْبِقًا} مهلكًا، يقال: أوبقه الله أي أهلكه، والمراد به الوصلة التي كانت (¬3) بين المشركين وآلهتهم في الدنيا أو النار يوم القيامة فيما بينهم يتهافتون {مُّوَاقِعُوهَا} النار، اقتحامها -النار- اسم جنس. {جَدَلًا} فالجدل طبيعة الإنس وإن تفاوتوا في ذلك. وقد وصف الله تعالى الصحابة بذلك فقال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: 6] قال -عليه السلام-: "ثلاث أتخوفهم عليكم: فيض المال فيكم، وزلة عالم، ورجال يجادلون بالقرآن" (¬4). والنجاة من فيض المال الشكر، والنجاة من زلة العالم أن ينتظر فتنة ولا يعمل بزلته، والنجاة من الذين يجادلون بالقرآن أن يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} قولهم {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]، وقوله: {أَوْ ¬

_ (¬1) الزهد لابن المبارك (931)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 272)، والبيهقي في الشعب (692) عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير. (¬2) في "أ": (أهم). (¬3) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬4) لم نجده بهذا اللفظ ولكن ورد مفرقًا منه ما رواه البيهقي في الكبرى (10/ 211) عن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعًا: (اتقوا زلة العالم". وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا تجادلون بالقرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم" رواه الحارثي في مسنده [(زوائد الهيثمي (2/ 740)].

{يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 45]، إلى أن يأتيهم العذاب نظيره {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}. {لِيُدْحِضُوا} ليُزلّوا وليزلقوا، ومكان دحض: أي زلق مزلة. {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي لو لم يحلم عنهم وضيق عليهم الأمر {مَوْئِلًا} منجى، قيل لعلي: هلا احترزت من ظهرك، قال: فإذا أمكنت من ظهرك فلا وألت، وتلك إشارة إلى القريات التي ذكر إهلاكها في القرآن ومن جملتها جنة أحد الرجلين. {مَوْعِدًا} وقتًا (¬1) مؤقتًا لآجالهم عند الله تعالى. عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس فمرَّ بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل (¬2) موسى السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله (¬3) يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ قام إليه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إليه فجعل له الحوت آية، وقيل: إذا فقلت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان يتبع أثر الحوت، فقال فتاه (¬4): {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} قال له موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا} فكان من شأنهما الذي قصَّ الله في كتابه" (¬5). عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس بموسى صاحب الخضر، قال: كذب ¬

_ (¬1) (وقتًا) من "ب" "ي". (¬2) في "أ": (يقال). (¬3) في "ب": (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬4) في الأصل و"أ": (قتادة). (¬5) الطبري (15/ 324).

عدو الله سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله (¬1) يقول: "قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى -عليه السلام-: أي رب، فكيف لي به؟ فقال: احمل حوتًا في مكتلك فحيث تفقد الحوت فهو ثم، فانطلق هو وانطلق معه فتاه يوشع بن نون فجعل موسى حوتا في مكتله، فانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة فرقد موسى وفتاه فاضطرب الحوت في المكتل حتى خرج من المكتل (¬2) فسقط في البحر، فقال: وأمسك عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق فكان للحوت ولموسى وفتاه عجيبًا، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ونسي صاحب موسى أن يخبره، فلما أصبح: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قال: ولم ينصب موسى حتى جاوز المكان الذي أمده به فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} " قال: يقصَّان آثارهما. فقال (¬3) سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها شيئًا إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش، قال: "فقصا آثارهما حتى أتيا الصخرة فرأى رجلًا مسجى عليه بثوب (¬4)، فسلَّم موسى (¬5) فقال: أنَّى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى إنك على علم من الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، فقال موسى -عليه السلام-: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). (¬2) في "أ": (حتى خرج من المكتل) ليست موجودة. (¬3) في "ب": (قال). (¬4) في "ب": (سوف). (¬5) في الأصل: (عليه).

{تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} قال: نعم. فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر فمرَّت بهما سفينة فكلماهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نولٍ، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، قال موسى: قوم حملونا بغير نولٍ فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)}. ثم خرجا من السفينة، فبينا هما يمشيان على الساحل إذا غلام يلعب مع الصبيان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [قال: وهذه أشد من الأولى] (¬1) قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} يقول (¬2): مائل، قال الخضر بيده هكذا {فَأَقَامَهُ} قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا ولم يطعمونا و {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله موسى لوددنا أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهم" (¬3) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4):"الأولى كان من موسى نسيانًا"، قال: "وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "ب" "ي". (¬2) في الأصل و"ي": (هول). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 326)، والبخاري في صحيحه (3278)، ومسلم في صحيحه (170/ 2380) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬4) (صلى الله عليه وسلم) من "ب" والأصل.

فقال له الخضر -عليه السلام-: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر" (¬1). وذكر الكلبي هذا الحديث عن أبي صالح عن ابن عباس موقوفًا عليه، وذكر أن مجمع البحرين بحر فارس والروم (¬2)، وذكر فيه عين الحياة، وذكر أن الخضر -عليه السلام- قال لموسى حين التفت إليه: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ومن أخبرك بأني نبي بني إسرائيل؛ قال له الخضر: أخبر (¬3) بذلك الذي أخبرك بي، فعرف موسى عند ذلك أن الخضر كان أعلم منه. وذكر بعد خرق السفينة: جلس موسى -عليه السلام- يقول في نفسه: ما كنت أصنع أن أتبع هذا الرجل يظلم هؤلاء القوم وينقب سفينتهم كنت في بني إسرائيل أقرا عليهم كتاب الله غدوة وعشية يقبلون مني فتركت ذلك وصحبت هذا الذي يظلم هؤلاء، قال: فلما خرقها وأخرج أهل السفينة متاعهم قال الخضر لموسى: حدثتك نفسك بكذا وكذا، ثم رجعنا إلى تفسير (¬4) الآية و {حُقُبًا} ابن عرفة: دهرًا أو زمانًا طويلًا، الأزهري (¬5) في قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: 23]، جمع حقب وهو ثمانون سنة، صاحب الديوان: الحقبة ولهذه (¬6) الحقب وهي السنون (¬7). {سَرَبًا} مسلكًا الذي يواريه ما يخفيه. ¬

_ (¬1) البخاري (4726)، ومسلم (2380). (¬2) ذكر ذلك عن قتادة كما عند عبد الرزاق في تفسيره (1/ 405). وذكره الفراء في معانيه (2/ 154). (¬3) في "ب": (أخبرني). (¬4) ذكره القرطبي (11/ 16). (¬5) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (4/ 73)، ونقل عن الليث أن الحقبة زمان من الدهر لا وقت له، وتجمع على أحقاب. واختلفوا في تحديدها زمنيا ما بين ثمانين سنة كما قاله الليث وأبو عبيد والكسائي وما بين سنة كما قاله الفراء. (¬6) في "ب": (واحدة). (¬7) ذكره الفراء في معانيه لكن قال: الحُقُب في لغة قيس: سنة. [معانى القرآن (2/ 154)].

{غَدَاءَنَا} طعام الغداة. {الصَّخْرَةِ} الكتلة العظيمة من الحجر {نَسِيتُ الْحُوتَ} أي ذكر أمر الحوت أنه عاد حيًا وتسرب في الماء، وإنما أسند الإنساء إلى الشيطان لكون النسيان (¬1) سبب ذوات المقصد الذي خرجا إليه، و {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل عن الضمير في {أَنْسَانِيهُ}، وتقديره: أن أذكره لك {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} خبر منه لموسى -عليه السلام-. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي النبوة، يقول تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]، وفيه دليل على نبوة الخضر -عليه السلام- واختصاصه بأيام مخصوصة. {أَتَّبِعُكَ} أصحبك. {خُبْرًا} علمًا. {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الاستثناء لمعنيين؛ أحدهما: أنه سنة الأنبياء والأولياء في مواعيدهم، والثاني: وقوع التوهم بأن طاعته عسى أن تكون طاعة لله تعالى وأن تكون معصية فإذا دخل الاستثناء نفى (¬2) الوعد حالة الموافقة وانتفى حالة المضايقة. {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي حيث ابتدأنا منه (¬3) ذكرًا منه. {إِمْرًا} شيئًا عجبًا مكروهًا كالداهية. {بِمَا نَسِيتُ} ابن عباس عن أبي بن كعب: لم ينس موسى ولكنه من معاريض الكلام (¬4). والمراد بالنسيان الثبت فيما تقدم موضع النسيان، ¬

_ (¬1) في "ب": (الإنسان). (¬2) في "أ": (في). (¬3) (منه) من الأصل. (¬4) الذي ورد عن ابن عباس عن أُبيّ بن كعب مرفوعًا في قوله تعالى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73]، قال: "كانت الأولى من موسى نسيانًا". أخرجه البخاري (12/ 3278)، ومسلم (2380) مطولًا. لكن ورد عن أبي بن كعب موقوفًا في قوله: =

والمراد بالنسيان (¬1) المنفي هاهنا حقيقة النسيان {وَلَا تُرْهِقْنِي} لا تعجلني {عُسْرًا} نصبًا لقيامه مقام المصدر. {غُلَامًا فَقَتَلَهُ} ابن عباس عن أبي بن كعب قال: "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا" (¬2) والجمع بين هذا وبين قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" (¬3) أن المراد بكفر الغلام كفر النعمة لا كفران الديانة (¬4) فحيث الطبيعة الراجعة إلى الكفر بعد حين. و (النكر) (¬5) ضد العرف. {أَهْلَ قَرْيَةٍ} أنطاكية {فِيهَا جِدَارًا} بناه بناء على القواعد {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} من مجاز الكلام، أي يكاد الله يسقطه، و (الانقضاض): سقوط في انكسار. قال الخضر: {هَذَا} أي وقت {فِرَاقُ}. {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الكلبي: اسم الملك جلندا (¬6)، وقيل: إن أولاد آمد ميافارقين من أصله وهم الأكراد، وقيل: كان هذا الملك بأنطاكية وكان عربيًا واسمه المنذر بن جلندا الأزدي. {فَخَشِينَا} علمنا {رُحْمًا} عطفًا. قال الكلبي: فولدت أم الغلام لأبيه جارية تزوجها نبي من الأنبياء فولدت له ولدًا هدى به أمة من الأمم (¬7). ¬

_ = {بِمَا نَسِيتُ} قال: لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام، وورد عن ابن عباس موقوفًا أيضًا قال: {بِمَا نَسِيتُ}: بما تركت من عهدك. أخرجه الطبري عنهما في تفسيره (15/ 338 - 339). (¬1) في "ب": (بالإنسان). (¬2) مسلم (2661)، والطبري في تفسيره (15/ 357)، والترمذي (3150) وغيرهم. (¬3) البخاري (1292)، مسلم (2659). (¬4) ما ذكره المؤلف من كفران النعمة يخالف ظاهر الآية بل يخالف ظاهر قراءة أُبَي بن كعب (فكان أبواه مؤمنين وكان كافرا) فالمراد به الكفر الحقيقي -والله أعلم-. (¬5) في "أ": (النكرة). (¬6) ذكره القرطبي كأحد الأقوال بلفظ (الجلندي)، انظر: القرطبي (11/ 33). (¬7) ذكر ابن الجوزي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيًا". [زاد المسير (3/ 103)].

{وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ابن عباس: كان صحف علم ليس بذهب ولا فضة وكان فيه مكتوبًا: عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها (¬1)، وعنه قال: كان لوح من ذهب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله أحمد رسول الله، عجبت لمن يعلم أنه ميت كيف يفرح، وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يرى الدنيا وتصرف أهلها حالًا بعد حال كيف يطمئن إليها (¬2). وعن المسيب عمن حدثه قال: لما فارق الخضر موسى -عليه السلام- أوصاه فقال: انتزع يا موسى عن (¬3) اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعيِّر الخاطئين بخطاياهم وإنك على خطيئتك (¬4) يا ابن عمران. ولفقراء الله تعالى إشارة لطيفة إلى علمهم المختص بهم في مراتب خطاب الخضر -عليه السلام- قالوا: كأنه خاطب موسى -عليه السلام- أول مرة من عند أنية نفسه التي هي الحجاب فقال: أردت {أَنْ أَعِيبَهَا} وذلك لكراهة إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا ييأس المستمع بالمجانسة، وكأنه خاطبه ثانيًا من عند إنية روحه التي هي درجة الإسناد والإيهام والاتخاذ فقال: {فَأَرَدْنَا} وذلك لاستدراج المستمع إلى المقصود، وكأنه خاطبه ثالثًا من عند الآنية التي لا أنية لها وهي عين التوحيد وحقيقة التفريد، ثم كأنه رد إلى موقف الحجاب بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وإنما رده إلى موقف الحجاب للإبقاء عليه حتى يبلغ الكتاب أجله. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} عن عقبة بن عامر قال: كنت أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت من عنده فوجدت ناسًا من أهل الكتاب معهم كتب ¬

_ (¬1) عزاه في الدر (9/ 600) للشيرازي في الألقاب، وقريبًا منه عند البيهقي في "الزهد" (544)، وابن عساكر (16/ 415). (¬2) عزاه في الدر (9/ 601) لابن مردويه عن علي. (¬3) في "أ" "ي": (غريب) بدل (عن) وهو خطأ. (¬4) أحمد في "الزهد" (61).

ومصاحف قالوا: استأذن لنا على محمد رسول الله قال: فدخلت فأخبرته بمكانهم قال: "ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم وإنما أنا عبد لا أعلم شيئًا إلا ما علمني ربي ابغني وضوء" فتوضأ ثم دخل في مصلى بيته فصلى ركعتين فلم ينصرف حتى رأيت البشر في وجهه فقال: "اخرج إليهم فأذن لهم وانظر من كان بالباب من أصحابي فأدخله" فلما دخلوا قال: "إن شئتم أنبأتكم بالذي جئتم له وإن شئتم سألتموني فأخبرتكم" قالوا: بل أخبرنا لأي شيء جئنا وعن أي شيء نسألك قال: "جئتموني تسألونني عن ذي القرنين وكيف كان أول شأنه" فقال: "وسأخبركم ما تجدونه في كتابكم إن شاء الله: إنه غلام من الروم فأتى ساحلًا من سواحل مصر فبنى له مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ من بنائه بعث الله إليه ملكًا فرفعه إلى السماء فقال له: انظر ما ترى؟ قال: [أرى مدينتي قد اختلطت في المدائن، قال: ثم رفعه فقال: انظر ماذا ترى، قال] (¬1): أرى مدينتي وحدها ولا أرى غيرها، قال: هذه الذي ترى الدنيا والمدير بها البحر الأخضر، قيل له: فاذهب فحدِّث العالم وعلم الجاهل قد جعل الله لك سلطانًا، فانطلق حتى أتى مغرب الشمس وأتى مطلعها وأتى السدين وهما جبلان زلقان نزل عنهما كل شيء فبناهما، ثم أتى يأجوج ومأجوج ثم جاوزهما فأتى على قوم فصاروا يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم جاوزهم فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم الذين وجوههم على وجوه الكلاب، ثم جاوزهم فوجد أمة من الحيات الحية الواحدة تلتقم الصخرة العظيمة، ثم جاوزها حتى انتهى إلى البحر المستدير بالدنيا"، فقالوا: نشهد أنا نجده هكذا (¬2). قال: كان قد وقع السؤال عن الروح والكهف وذي القرنين وقد وقع بمكة (¬3) ما قدمت والآيات فيها مكية وهذا سؤالهم بالمدينة ثانيًا، والإسكندر هو ذو القرنين الثاني، قال عمر بن الخطاب: هو ملك من ¬

_ (¬1) مابين [...] من "أ" "ي". (¬2) ابن عبد الحكم في "تاريخ مصر" (38، 39)، وأبو الشيخ في الطبقات (975)، والبيهقي في الدلائل (6/ 295، 296)، وهو حديث منكر. (¬3) في "ب" "ي": (بمكة على ما قدمت).

الملائكة (¬1)، وقيل: متولد بين عبري وهو ملك وبين قهري وهي إنسية، وزعم المجوس أنه ابن داراين مهمن بن إسفنديارين بنت فيلقوس، وزعمت النصارى أنه من صلب فيلقوس لا عرق للمجوس فيه وهذا أصح، وذو القرنين الأول هو فريدون الذي يسمى نمرود، وقيل الضحاك. واختلف في الخضر -عليه السلام- أنه على مقدمة أيهما كان حين وجد ماء الحيوان، وإنما سمي ذو القرنين الأول بذلك لأنه عاش وامتد عمره حتى هلك قرن مع ابنه أبرح وقرن مع ابنه منوشهر، أو لأنه بني حصنين في الدنيا والحصون تسمى قرونًا وصياصي، أو لأنه ملك ابنه قوش على المشرق وابنه سلما على المغرب، فهما من الناس بمنزلة قرني ذوات القرون، أو لحديث الحيتين على منكبي الضحاك، وإنما سمي الثاني بذلك لانتهائه إلى قرني المعمورة وهما (¬2) طرفاها من مطلع الشمس عليها إلى مغربها أو لطول حميتها على رأسها. وذكر الطحاوي في كتاب "مشكل الأخبار" عن أبي الطفيل قال: قام عليّ على المنبر فقال: سلوني قبل أن تسألوني ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام إليه ابن الكوا فقال: ما كان ذو القرنين أملكًا كان أم نبيًا؟ قال: لم يكن ملكًا ولا نبيًا ولكنه كان عبدًا صالحًا أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه وضرب (¬3) على قرنه الإيمان فمات ثم بعثه الله ثم (¬4) ضرب على قرنه الأيسر فمات وفيكم مثله (¬5)، وأراد بالقرن جانب الرأس. {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} السبب: العلم الذي يوصل به إلى الشيء، نهاية المعمورة من نحو الدبور متياسرة إلى الشمال. {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} موضع من البحر المستدير سخن ماؤه من أسن ¬

_ (¬1) لم نجده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) (وهما) ليست في "أ". (¬3) (وضرب) ليست في "أ". (¬4) في "أ" "ي": (الله وضرب). (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره، (15/ 371)، وابن عساكر في تاريخه (17/ 334).

وكثر فيه الحما من حرارة الشمس قبل غروبها في العين الحمئة الحقيقة (¬1)، وقيل: مجاز وتمثيل، وقيل: بالإلهام، وقيل: هتف به هاتف بأمر الله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ} تمكين من الاختيار على الاختبار والابتلاء {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} من جهته {يُسْرًا} قولًا ميسورًا به يسكن بذلك ويذهب به رعبه. {مَطْلِعَ الشَّمْسِ} نهاية المعمورة من نحو الصبا متيامنة إلى الجنوب. {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا} أي هي كما نقصه عليك أو بلغ مطلع الشمس كما بلغ مغربها أو لم يكن لهم من دونها سترًا كما لم يكن لأهل المغرب، قالوا -أي على لسان الترجمان-: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان كطالوت وجالوت وهاروت وماروت. وهؤلاء القوم وهذا الفتح الذي سدَّه ذو القرنين من نحو القطب الظاهر المحسوس الذي يسمى قطب الشمال وبلادهم باردة وفيها جبال شامخة (¬2). {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} دليل على امتناعه عن أحد الجعل {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} بالآلاف من الرجال {رَدْمًا} حرزًا. {زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطع واحدتها زُبْرَة {جَعَلَهُ نَارًا} أي كالنار بالإيقاد عليه {قِطْرًا} نحاسًا مذابًا. {أَنْ يَظْهَرُوهُ} يعلوه {نَقْبًا} ثقبًا وخرقًا. زعم ابن المقنع أن الإسكندر كتب على السدّ: بسم الله الأعز الأكرم ¬

_ (¬1) هذا هو الأصل أن المراد بها الحقيقة وأنها الحارة التي سخن ماؤها من حرارة الشمس، وبه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن، ولذا كانت القراءة الثانية (حامية) وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص وابن عمر وغيرهم. [الحجة في القراءات لابن خالويه (ص230)، العكبري (2/ 859)، الكشف (2/ 73)، معاني الفراء (2/ 158)]. (¬2) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن السدين هما الجبلان العظيمان من قبل أرمينية وأذربيجان. رواه الطبري في تفسيره (15/ 386).

بني هذا السدّ بقوة الله وسيثبت ما شاء الله، فإذا مضى مائة وستون سنة من الألف الأخيرة (¬1) انفتح هذا السد، وذلك عند كثرة الخطايا والذنوب وتقطع الأرحام وقساوة القلوب، فيخرج من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله تعالى فيبلغون مغرب الشمس، فيأكلون جميع ما يصلون إليه حتى يفيضوا إلى الحشيش وورق الشجر، ويشربون جميع المياه حتى لا يدعوا صبوة، فإذا بلغوا أرض كذا هلكوا عن آخرهم بإذن الله وأمره. عن أبي هريرة عنه - عليه السلام - في السد قال: "يحفرونه كل يوم حتى إذا كانوا يحفرونه قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقون غدًا، قال: فيعيده كأشد ما كان حتى إذا بلغ مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم: ارجعوا ستخرقون غدًا إن شاء الله، واستثنى، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفر الناس منهم، فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون: قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلوًّا، قال: فيبعث الله نغفًا في أقفائهم فيهلكون، قال: فوالذي نفس محمَّد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرًا من لحومهم" (¬2). قال كعب: تمكث الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج إلى الرخاء والخصب والدعة عشر سنين، حتى الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة ويحملان العنقود الواحد من العنب فيمكثون على ذلك عشر سنين، قال: ثم يبعث الله تعالى ريحًا طيبة لا تدع مؤمنًا إلا قبضت روحه، ثم يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون كما تتهارج الحمر في المروج فيأتيهم أمر الله والساعة وهم على ذلك. {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أراد الزمان، وقيل: بوصول يوم القيامة فإن صدره من الدنيا وأعجازه من الآخرة. ¬

_ (¬1) في "ب" الآخرة. (¬2) أحمد (2/ 510)، الترمذي (3153)، وابن ماجه (4080)، وابن حبان (6829)، والحاكم (4/ 488)، والحديث صحيح.

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّم} في معنى قوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء: 91]. {فِي غِطَاءٍ} وهو ما يستر الشيء كالغشاوة ونحوها {عَنْ ذِكْرِي} وهو ما نصبه الله تعالى من العلامات للتذكرة، أراد نفي الاستطاعة التي هي موقوفة على التوفيق دون الاستطاعة التي هي موقوفة على صحة البنية. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ} قال الكلبي: الخطاب للمؤمنين، و {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} اليهود والنصارى، وقيل: الخطاب لهم كما في قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} [المائدة: 60] وفائدة الاستفهام استدراج المستمعين. {ضَلَّ} حبط عند الله أو عند المؤمنين وفي الآخرة سعيهم الذي سعوه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكان علي - رضي الله عنه - يتأول هذه في الخوارج. {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أراد نفي السعي المتزن، عن كعب بن عجرة قال: يجاء بالرجل يوم القيامة فيوزن بالحبّة فلا يزنها، ثم يوزن بجناح بعوضة فلا يزنها، ثم تلا هذه الآية (¬1). {ذَلِكَ} إشارة إلى المُنَزَّل فهو مبتدأ وخبره، وقيل: ذلك إشارة إلى ما تقدم أي اعلم ذلك، ويكون جزاؤهم مبتدأ منقطعًا عما تقدم (¬2). {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} الفردوس البستان بلغة الشام، قال الكلبي: الفردوس أدنى الجنان منزلًا، وزاد أبو حاتم أحمد بن حمدان صاحب كتاب الزينة: أن طعام أهل الفردوس رأس الثور الذي عليه الأرض وكبد النون، فذلك ¬

_ (¬1) البخاري (4729)، ومسلم (2785). (¬2) يجوز أن يكون "ذلك" خبرًا لمبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك، فتكون "جزاؤهم" جملة مستقلة. والوجه الثاني: أن يكون "ذلك" مبتدأ أول، و"جزاؤهم" مبتدأ ثانٍ، و"جهنم" خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، والعائد محذوف، التقدير: جزاؤهم به، كذا قال أبو البقاء العكبري. [الإملاء (2/ 109)، الدر المصون (7/ 554)].

مقيل المؤمنين يوم القيامة كما قال: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] أبو أمامة الباهلي: أن الفردوس سرّة الجنة، وعن كعب: أنها التي فيها الأعناب. {حِوَلًا} تحويلًا (¬1) وانتقالًا، ولا وصف لطيب المكان أبلغ من نفي ابتغاء التحول عن نازليه، فإن الإنسان يسأم الحياة فكيف بما دونها. {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} قال الكلبي: نزلت في اليهود حيث أنكروا على رسول الله قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] (¬2) والمداد والمدد مصدران على سعة علمه وقلة علوم العالمين [في جنب علمه] (¬3). {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} قيل: جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- (¬4) فقال: يا رسول إني لأصلي وأصوم وأتصدق وأصنع المعروف وأنا والله أحب أن أذكر بذلك، قال: فسكت النبي - عليه السلام- (4) عنه فنزلت {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية قال: فأرسل النبي - عليه السلام - (4) إلى الرجل فتلاها عليه (¬5)، قال: وكان أصحاب النبي - عليه السلام - (4) يقولون: ما نزلت إلا في الرياء. وعن شهاب بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6): "المؤمن نيته خير من عمله وعمل المنافق خير من نيته وكلٌّ يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملًا إلا سار في قلبه سورتان فإن كانت الأولى لله فلا تهدم الآخرة" (¬7). وعن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري قال: سمعت رسول الله يقول: "إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (تحولًا). (¬2) ذكره القرطبي في تفسيره (11/ 68). (¬3) ما بين [...] ليست في الأصل و"أ". (¬4) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (1/ 414)، والحاكم (4/ 329، 330). (¬6) (وسلم) من "ب" "أ". (¬7) الطبراني في الكبير (5942)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 255)، وأبو الشيخ في الأمثال (52)، والقضاعي في مسند الشهاب (147) وهو حديث ضعيف، وقد ورد موقوفًا وهو الراجح.

أشرك في عمل عمله لله أحد فليطلب ثوابه عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشريك" (¬1). قال البراء بن عازب: بينما رجل يقرأ سورة "الكهف" إذْ رأى دابته تركض، فنظر فإذا مثل الغمامة أو السحابة، فأتى رسول الله فذكر ذلك له فقال - عليه السلام - (¬2): "تلك السكينة نزلت مع القرآن أو نزلت على القرآن" (¬3). وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أوحي إلى من قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3154)، وابن ماجه (4203)، والبيهقي في الشعب (6817) والحديث حسن. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) البخاري (3614)، ومسلم (795). (¬4) البزار (297)، والحاكم (2/ 371) قال ابن كثير: حديث غريب جدًا.

سورة مريم

سُورَةُ مَريَمَ مكية، وهي ثمان (¬1) وتسعون آية في غير عدد أهل مكة (¬2)، والله أعلم بذلك. بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص (1)} ابن عباس: هذه الحروف ثناء أثنى الله بها على نفسه، قال: كاف هاد علي صادق (¬3). وروي عن ابن عباس: كاف من كريم، وها من هاد، ويا من أمين، وعين من عليم، وصاد من صادق (¬4). وعن سعيد بن جبير قال: كاف هاد يمين عالم صادق (¬5)، قال الأمير (¬6): ويحتمل: كفيناك هديناك يمناك علمناك صدقناك أو عصمناك وأصلحناك، ويحتمل أنه يتصل بما بعده، والتقدير: كتابنا هذا ناطق للعالم الصادق. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ثمانون). (¬2) انظر: "البيان في عد آي القرآن" لأبي عمرو الداني (181). (¬3) أقرب ما وجدناه ما ذكره السيوطي في الدر (10/ 9) عن عكرمة ولفظه: يقول: أنا الكبير الهادي علي أمين صادق. وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 3)، وابن جرير (15/ 444 - 450) مفرقًا، والحاكم (2/ 371، 372)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (164). وأما قوله في بداية الأثر: (هذه الحروف ... على نفسه) فلم أجده. (¬5) ذكره ابن الجوزي في تفسيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (3/ 116). (¬6) لم نعرف مَن المقصود بهذا اللقب وقد مر ذكره ص 925.

{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} {نِدَاءً خَفِيًّا} قال - صلى الله عليه وسلم -: "خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي" (¬1). {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} شبه بياض الرأس باشتعال الفتيلة {بِدُعَائِكَ} (¬2) بعبادتك {شَقِيًّا} وإنما قال ذلك لأحد معان أربعة: إما لنفي ما أصابه من وهن العظم وشيب الرأس أن يكون أصابه لمقاساته شدة العبادة واحتماله أعباءها كما في نبينا - صلى الله عليه وسلم - {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه:1, 2]، وإما لنفي الخيبة عن نفسه فإن الخائب هو الشقي فكأنه يقول: لم أكن بسبب عبادتي إياك وإيماني بك خائبًا من لطائف صنعك، وإما لنفي الكفر عن نفسه فكأنه يقول: لم أكن بعبادتك وتوحيدك كافرًا فأنا متوسل إليك (¬3) بذلك إليك، وإما لنفي الحرمان عن نفسه فكأنه يقول: لم أكن في عبادتك محرومًا فإنك وفقتني لها وبشرتها علي لأستأهل إجابة الدعوة منك. {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} أن ينقرضوا فإنهم قد صفوا وقلوا، وأراد بنو الأعمام دون ذوي الأرحام. {يَرِثُنِي} العلم والكتاب؛ فإن الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذ العلم فقد أخذ بحظ وافر، ويحتمل أنه أراد رتبة الحبورة وشرف النبوة وإنهما مختصان بأهل بيت النبي - عليه السلام - (¬4)، ويحتمل أنه أراد النبوة بعينها، أي: اجعله اللهم وارثًا نبوتي (¬5) ¬

_ (¬1) ذكر هذا الحديث القرطبي في تفسيره مسندًا عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا ورجاله ثقات، تفسير القرطبي (11/ 76). (¬2) في الأصل: (عائد). (¬3) (إليك) من الأصل فقط. (¬4) (- عليه السلام -) من الأصل و"ب". (¬5) قوله: {يَرِثُنِي} [مريم: 6] أي: يرث مالي، وقوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] يرث النبوة لأن زكريا كان من ولد يعقوب، وقد ورد في مراسيل الحسن مرفوعًا: "رحم الله أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6] أخرجه الطبراني في تفسيره (15/ 459).

{رَضِيًّا} (¬1) مرضي السيرة في حبورته وشرفه بخلاف الأحبار الذين يرتشون ويحرفون ويبدلون، وبخلاف الأشراف الذين يتعاطون ما يحط من شرفهم، أو اجعله نبيًا ترتضيه الناس فيؤمنوا به. {عَلَيَّ هَيِّنٌ} يسير غير ممتنع. وفي قوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} دلالة على أن حقيقة اسم الشيء غير منطبق على الموهوم في حد اللبس، وأن المعدوم غير كمين، وفيها رد على المعتزلة والدهرية. {سَوِيًّا} تمامًا. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} أي: التوراة والزبور والوحي المختص بيحيى -عليه السلام- (¬2)، والمراد بالحكم حكم التوراة والزبور، ويحتمل حكم انصياع التائبين على يديه بماء الأردن واستغفاره لهم. {وَحَنَانًا} عطفًا ورحمةً ورزقًا وبركةً، تقول العرب: حنانك وحنانيك ربنا. {عَصِيًّا} نعت من العصيان على وزن فعيل. (سلام) مرتفع بالابتداء، أراد التحية والدعاء وذلك من الله تعالى إيجاب، فسلامة الميلاد في إحكام الفطرة، وسلامة الموت في إتمام الفطرة، وسلامة البعث في ختام الفطرة، فمن استحكمت طبيعته بحب (¬3) الإيمان والإحسان وكراهة الفسوق والعصيان ومات ووصيته هذا، وبُعث مبيض الوجه مشروح الجنان، قال: {وَسَلَامٌ (¬4) عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} اعتزلت وجلست بنبذة منهم {مَكَانًا} موضع الكون {شَرْقِيًّا} ما يلي الشمس عند الطلوع، قال ابن ¬

_ (¬1) في الأصل كلمة غير مفهومة. (¬2) السلام ليست في "ي". (¬3) في الأصل و "ي": (تحت) وهو خطأ. (¬4) المثبت من "ب"، وفي البقية: (فالسلام).

عباس (¬1): لما بلغت مريم سنة النساء في الحيض كانت تكون في بيتها في المسجد، قال: فبينما مريم في شرفة لها في ناحية الدار بينها وبين أهلها حجاب، يعني: ستر التطهر وتمتشط، إذ دخل عليها جبريل -عليه السلام- (¬2) فتشبه لها بشرًا سويًا في صورة شاب لم ينتقص (¬3) فدنا منها، وأنكرت مكان الرجل في ذلك المكان. فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} أرادت التذكير والتحذير ألا ترى شرطت التقوى {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مطيعًا لله. قال لها جبريل -عليه السلام-: أنا رسول ربك ليهب لك {غُلَامًا زَكِيًّا}. قالت مريم لجبريل -عليه السلام-: يا سيدي، أنى يكون لي ولد ولم يقربني زوج ولم أك فاجرة؟! قال لها جبريل: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: خلقه عليَّ يسير {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} في ولادته من غير أب {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} كائنًا، فاطمأنت مريم إلى قوله، فدنا منها فدحيها بإصبعه ثم نفخ في جيبها فوصلت تلك النفخة إلى بطنها فحملت بعيسى -عليه السلام-. {فَحَمَلَتْهُ} اختلف في مدة العمل فقيل: يوم واحد، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر، {مَكَانًا قَصِيًّا} هو أقصى دار خالتها، وقيل: موضع مجهول لا يعلم بها زكريا، وقيل: ناصرة دمشق، وقيل: مصر. {فَأَجَاءَهَا} تعدية من المجيء {الْمَخَاضُ} تمخض الولد في بطن أمه وهو تحركه للخروج {جِذْعِ النَّخْلَةِ} ساقها، أراد {جِذْعِ} يابس، وإنما قالت ذلك لكراهتها الطبيعية المشقة والأذى لا لكراهتها الاعتقادية الكرامة والعُلى. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مختصرًا كما في زاد المسير (3/ 123). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (لم ينتقص) ليست في الأصل.

{فَنَادَاهَا} جبريل كان واقفًا أسفل الربوة، وقيل: المنادي عيسى -عليه السلام- (¬1) وهو الأشبه بظاهر (¬2) ويمكن الجمع، فقال: ناداها جبريل من لسان عيسى و (السري): الجدول يسري فيه الماء، وقال الحسن: الولد النجيب (¬3)، يقال: ابن السري إذ أسرى أسيراهما. {وَهُزِّي} (¬4) حركي {بِجِذْعِ} الباء مفخمة كهي في قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] {رُطَبًا} (4) يصير تمرًا بالجفاف {جَنِيًّا} (4) مجتنى. {وَقَرِّي عَيْنًا} أي: طيبي نفسًا، نصب على التفسير لأن (¬5) الفعل في الحقيقة لها (¬6) {لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} صمتًا لأنه إمساك، وقوله: {فَقُولِي (¬7) إِنِّي} إني فالإشارة أوقع نفسك بحيث يسمعونه من غير مخاطبتك إياهم شيئًا، {فَرِيًّا} أمرًا عظيمًا مستعظمًا، وقيل: أمرًا عجبًا، وفي الحديث: "ما رأيت عبقريًا يفري فريه" (¬8). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "أ": بياض. (¬2) من قال: إن المنادي هو جبريل: ابن عباس - رضي الله عنهما - والضحاك وقتادة، بل صرح ابن عباس أنه لم يتكلم عيسى -عليه السلام- حتى أتت به قومها. ومن قال: إن المنادي هو عيسى: مجاهد والحسن ووهب بن منبه وسعيد بن جبير أخرجه عنهم جميعًا الطبري في تفسيره (15/ 504)، ورجح الطبري القول الثاني وقال: إنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبريل، فرده على الذي هو أقرب إليه أولى من رده على الذي هو أبعد. (¬3) ذكره ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (10/ 54) بلفظ: نبيًا، وفي لفظ في تفسير عبد الرزاق (2/ 6) هو عيسى. (¬4) في "أ": (بياض). (¬5) في "ب": (لها). (¬6) قوله: {عَيْنًا} منصوب على التمييز منقول من الفاعل إذ الأصل لتقر عينك، قاله أبو جعفر النحاس والزجاج. [إعراب القرآن (3/ 311)، معاني القرآن للزجاج (3/ 326)]. (¬7) فراغ في "أ". (¬8) هذا حديث في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:"فلم أرَ عبقريًا يفري فريه". =

{يَا أُخْتَ هَارُونَ} (¬1)، قال الكلبي (¬2): أراد بهارون أخوها من أبيها، عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) إلى أهل نجران فقالوا لي: ألستم تقرؤون يا أخت هارون بين موسى وعيسى وما كان، فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى النبي - عليه السلام - (¬4) فأخبرته، فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" (¬5)، {أُمُّكِ بَغِيًّا} ساعية بالفاحشة و (البغاء) المساعاة بها، من كان حالة الوجود دون ما مضى. و (الإشارة): الإيماء وهو النص بالدلالة على مشاهدة أو ما يقوم مقامه {فِي الْمَهْدِ} حالة المهد، وقيل: مهد في صخرة في بيت لحم. {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} (2) أي: الدعاء والصدقة، ويجوز أن يكون المراد بهما العبادتين المشروعتين على شريطة الإمكان. {وَبَرًّا} عطف على قوله: {مُبَارَكًا} (¬6). عن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام - (¬7) قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا خير جار؛ أمِنَّا على ديننا وعبدنا (¬8) الله لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، حتى قدم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص فلم يبق بِطْرِيق ¬

_ = رواه البخاري في صحيحه, كتاب فضائل الصحابة (7/ 41 الفتح) والإمام أحمد في مسنده (2/ 39) و "فريَهُ" بتخفيف الياء، وأنكر الخليل التثقيل وغلّط قائله، والفَري: قطع الجلد للخَرْزِ والإصلاح ومنه قول الشاعر: فلأنْت تفري ماخلقت وبعـ ... ضُ القومِ يخلق ثم لا يفري (¬1) فراغ في "أ". (¬2) نقله عنه القرطبي في تفسيره (11/ 100). (¬3) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "ي" "أ". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) مسلم (2135). (¬6) في "أ": (مشاركًا) وهو خطأ. (¬7) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬8) (وعبدنا) مكررة في "أ".

إلا وأوصلا إليه هدية من جهة قريش وقالا له: إنه قد ضوي (¬1) إلى الملك وبطارقته غلمان سفهاء فارقوا دين الله (¬2) قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، فإذا كلمنا الملك فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما كانوا عليه. فضمنت البطارقة لهما ذلك، ثم إنهما دخلا على النجاشي وقربا إليه هداياه (¬3) فقبلها ثم كلماه، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك سلِّمهم إليهم ليردوهم إلى قومهم، قالت أم سلمة: فغضب النجاشي، فقال: لا هايم الله إذًا لا أسلمهم إليهم ولا أكاد، حتى أدعوهم فإنهم جيراني وأسألهم ما يقول هذان في أمرهم فإن كان كما يقولون: أسلمتهم، وإن كان غير ذلك منعتهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل إلى أصحاب النبي - عليه السلام - (¬4) فدعاهم وقد جمع (¬5) أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فلما جاءهم رسوله يدعوهم احتفظوا، فقال بعضهم لبعض: ما نقول للرجل؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به كائن ما هو كائن، فلما جاؤوه قالوا: ما هذا الدين الذي فارقتم منه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من أهل الملك؟ قالت: وقد كانوا قدَّموا جعفر بن أبي طالب يكلمه، فكان الذي ولي كلامه، فقال: أيها الملك إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونستقسم بالأزلام، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، قال النجاشي: من أيكم هو؟ قال جعفر: هو ابن عمي أخي أبي، ثم دعانا إلى الله لنوحده ونعبده ولا نشرك به شيئًا ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، ¬

_ (¬1) في "ي" "ب": (انضم). (¬2) (الله) ليست في "ب". (¬3) في "ب": (هدايا). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) في "ب": (نشر).

وأمرنا بالصلاة والصدقة (¬1) والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فآمنَّا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، وعبدنا الله وحده لا شريك له وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل الله لنا، فغدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وحالوا (¬2) بيننا وبين ديننا (¬3) خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قال: فاقرأ عليَّ، فقرأ عليه: {كهيعص (1)} قالت: فبكى النجاشي والله حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، قال النجاشي: إن مخرج هذا الأمر لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى بن عمران، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد، فخرجوا من عنده، فقال عمرو بن العاص: والله لآتيه غدًا بما أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال ابن ربيعة- وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن خالفونا، فقال: والله لأخبرنه أنهم يقولون: إن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فاسألهم ما يقولون فيه، قالت: فأرسل إلينا، قالت: ولم ينزل مثلها، قال: فاجتمع القوم، وقال بعضهم لبعض: ماذا نقول في عيسى إن سألنا؟ فقالوا: نقول فيه (¬4) الذي جاءنا به نبينا من عند (¬5) الله كائن ما هو كائن. فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا من عند الله: ¬

_ (¬1) في "ب": (الزكاة) بدل (الصدقة). (¬2) في الأصل و "ب": (جادلوا). (¬3) (وبين ديننا) ليست في "أ". (¬4) في الأصل: (فنقول فيه). (¬5) في "ب": (نبينا - عليه السلام- كائن).

هو رسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، قال: فضرب يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، قال: ما عدا ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال النجاشي: وإن نخرتم والله، ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهبوا فإنهم سيوم - والسيوم الآمنون بلغتهم- من سبكم غرم يقولها ثلاثًا، ثم ذكرت باقي الحديث (¬1). {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} أي: من جهة ما بينهم من غير برهان. {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} في معنى قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قال: "يؤتى الموت كأنه كبش أملح حين يوقف على السور بين الجنة والنار، فيقال (¬3): يا أهل الجنة، فيشرئبون، ويقال: يا أهل النار، فيشرئبون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضجع فيذبح فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحًا، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار الحياة والبقاء لماتوا ترحًا" (¬4). {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} فيه بيان غاية القبح والاستحالة وليس فيه ما يدل على جواز عبادة ما يسمع ويبصر، وقوله: {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} يدل على امتناع جواز عبادة كل من هو دون الله، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} فيه محافظة الأدب من وجهين: أحدهما: التبرؤ من الحول والقوة لوجه الله تعالى. والثاني: ترك التفضل على أبيه من ذات نفسه. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 201) (5/ 290)، والبيهقي في الدلائل (2/ 301) وسنده حسن. (¬2) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "أ" "ي". (¬3) في "أ": (ويقال). (¬4) البخاري (4730)، ومسلم (2849). وليس فيه: (.. فلولا أن الله) ولكن هذه الزيادة عند الترمذي (3156) وهذه الزيادة حقيقة غير ثابتة.

{فَاتَّبِعْنِي} اقتد بي في طلب الحق، أو في الاستدلال أو في ترك عبادة ما ظهر قبح عبادته، {أَهْدِكَ} بعد المتابعة {صِرَاطًا سَوِيًّا} عين الحق والمدلول وهو ما يحسن عبادته. {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} إنما نهاه لأن الشيطان يتصور للمشركين بصورة آلهتهم فيكلمهم فيها فيرجع عبادتهم في الحقيقة إليه. {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ} إنما خاف أن ينزل عليه العذاب ولم يتيقن بذلك الرجاية له الإسلام وإنما لم يقل إنه ولي الشيطان في الحال لإرجائه أمره إلى الله تعالى كيف يختم عليه فإنما الأعمال بالخواتيم. {لَأَرْجُمَنَّكَ} أراد القذف والطرد والإبعاد، وقيل: الرجم بالحجارة، {مَلِيًّا} زمانًا طويلًا ومنه قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف: 183]، وقولهم: الملوان (¬1) وملوه من الدهر، وقيل: {مَلِيًّا} تباعد عني بلغة إبراهيم. {قَالَ سَلَامٌ} أراد به الصفح والمتاركة، وقد سبق جواز استغفار المشركين وكيفيته {حَفِيًّا} بارًا وصولًا (¬2)، وقيل: عالمًا، أي: أن الله تعالى عالم بهمتي فيك. {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إنما تأخر ذكر إسماعيل لكون بني إسرائيل داخلون في هذا الخطاب. {مِنْ رَحْمَتِنَا} (من) قائم مقام الاسم تقديره: شيئًا (¬3) من رحمتنا، أي: نعمتنا {لِسَانَ صِدْقٍ} ثناءً حسنًا من جهة الله تعالى وملائكته وأوليائه وأهل الكتاب أجمعين {عَلِيًّا} رفيعًا شريفًا. ¬

_ (¬1) الملوان هما الليل والنهار [الدر المصون (7/ 606)]، والمراد بالملي {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريَم: 46] أي: زمنًا طويلًا، ومنه قول الشاعر: فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبال لموتهِ ... وبكت عليهِ المرملاتُ مَلِيّا (¬2) وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - {حَفِيًّا} [مريم: 47] لطيفًا. وما ذكره المؤلف: بارًا وصولًا هو في معنى اللطف ومن مقتضياته. [الطبري (15/ 556)]. (¬3) الأظهر في "من" إما أن تكون تعليلية، أي: من أجل رحمتنا. ويجوز أن تكون تبعيضية، أي: بعض رحمتنا. ذكر ذلك الزمخشري [الكشاف (2/ 513)].

{كَانَ مُخْلَصًا} لتخصيص (¬1) الله إياه من القتل والغرق وضلالة فرعون وحنانة القبطي و {رَسُولًا نَبِيًّا} على التقديم والتأخير لاعتبار نظم الآي ومعناه أنه كان نبيًا مرسلًا. {الْأَيْمَنِ} الجانب، {وَقَرَّبْنَاهُ} بالكرامة، عن عطاء بن السائب عن ميسرة، قال: قربه الله وأدناه حتى سمع صرير القلم الذي يكتب له الألواح (¬2)، إنما دخل في جملة المرسلين لقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47]. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} (¬3) قيل: أراد به إسمول بن هلقاثا (¬4) الذي قال لبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ (¬5) بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] لأنه ذكر بعد موسى وهارون، وهذا لا يصح لأنه قد ذكر بعد يحيي وعيسى وإدريس بعد هؤلاء أجمعين لأن الواو للجمع لا للترتيب، وهو إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام- وإنما اختص بصفة صدق الوعد لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102] عند من جعله الذبيح، وعن ابن عباس قال: كان ميعاده الذي واعد فيه صاحبه فانتظر له حتى حال عليه الحول (¬6). {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} هو أبو جد نوح -عليه السلام- واسمه أخنوخ (¬7)، ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (تخصيص). (¬2) هذا عن ابن عباس ومجاهد، ويروى مرفوعًا عند الديلمي في مسند الفردوس (7196) ولا يصح. وانظر: الزهد لهناد (149)، وابن جرير (15/ 559، 560)، والحاكم (2/ 373). (¬3) الذي وجدناه في تفسير القرطبي (11/ 105) إسماعيل بن حزقيل. (¬4) ذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري كما في "الدر المنثور" (10/ 81). (¬5) (قد) من الأصل فقط. (¬6) ذكر هذه بشكل مختصر ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 241)، والقرطبي مطولًا في تفسيره (11/ 118) عن مالك بن صعصعة مرفوعًا. (¬7) قال القرطبي: قيل: اسمه أخنوخ وهو غير صحيح كما زعم ابن السكيت، ومن قال: إن إدريس جد نوح فهو خطأ وكذا من قال: إن نوحًا -عليه السلام- بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ =

وقيل: أنوخ، وسمي إدريس لكثرة ما يدرس كتب الله وسنن الإسلام، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، [ونظر في علم النجوم والحساب] (¬1)، وأول من خاط الثياب ولبسها وكان من قبله يلبسون الجلود، واستجاب له ألف إنسان ممن كان يدعوهم، فلما رفعه الله اختلفوا بعده وأحدثوا الأحداث إلى زمن نوح -عليه السلام-، ورفع وهو ابن ثلثماية وخمس ستين سنة. عن الكلبي عن زيد بن أسلم عن رسول الله: أن إدريس جد أبي نوح، وكان أهل الأرض بعضهم يومئذٍ كافر وبعضهم مؤمن، وكان يصعد لإدريس من العمل مثل ما يصعد لجميع (¬2) بني آدم، فأحبه ملك الموت فاستأذن الله تعالى في خلته فأذن له، فهبط إليه في صورة غير صورته صورة آدمي مثله لكيلا يعرفه، فقال: يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك. فقال له إدريس: إنك لا تطيق ذلك، قال: بلى أرجو أن يقربني الله (¬3) على ذلك. فكان معه يصحبه، فكان إدريس يسبح النهار كله صائمًا فإذا أجنّه (¬4) الليل آتاه رزقه حيث يمشي فيفطر (¬5) عليه، ثم يحيي الليل كله، قال: فساحا النهار كله صائمين حتى إذا أمسيا آتى إدريس رزقه فجلس يفطر فدعا الآخر، فقال: والذي جعلك بشرًا لا أشتهيه، فطعم إدريس، ثم استقبل الليل كله بالصلاة فإدريس تناله الفترة والسآمة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر، فجعل إدريس يتعجب منه. ثم أصبحا صائمين فساحا حتى إذا أجنهما من (¬6) الليل آتى إدريس ¬

_ = وهو إدريس -عليه السلام-، وادريس -عليه السلام- أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها، [القرطبي (11/ 117)]. (¬1) ما بين [...] من "ب" "ي". (¬2) (لجميع) ليست في "ب". (¬3) (الله) ليست في الأصل و"ب". (¬4) في "ب": (أجن). (¬5) في الأصل: (فيفطن). (¬6) (من) ليست في "ب".

رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال: لا والذي جعلك بشرًا لا أشتهيه، فطعم إدريس ثم استقبل الليل كله بالصلاة، فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر فجعل إدريس يتعجب منه. ثم أصبحا يوم الثالث صائمين، فساحا (¬1) فمرا على كرم قد أينع فطاب (¬2)، فقال: يا إدريس لو أخذنا من الكرم فأكلنا، قال له إدريس: ما أرى صاحبه هاهنا لأشتري منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن، قال: فمضيا على مراعي غنم، فقال: يا إدريس، لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها، قال له إدريس: فما أرى صاحبها فاشتري منه وإني لأكره أن آخذ شيئًا بغير ثمن، وإنك معي منذ ثلاثة أيام ما تطعم شيئًا لو كنت لطعمت واني لأدعوك إلى الحلال كل ليلة فتأباه، فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذ فيملح ما بيني وبينك، ألا نبأتني من أنت؟ قال: إنك ستعلم، قال: لتخبرني من أنت. قال: أنا ملك الموت - والملح في كلام العرب هي: الصحبة - قال: ففزع حيث قال: أنا ملك الموت، قال: فإني أسألك (¬3) حاجة، فقال: وما هي؟ قال: تذيقني الموت، قال: ما إليّ من ذلك شيء وليس لك بدّ من أن تذوقه، قال: بلى، فإنه قد بلغني عنه شدة فلعلي أعلم ما شدته فأكون له أشد استعدادًا وأكثر له عملًا وحذرًا. قال: فأوحى الله أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله قال: فقبض نفسه ساعة ثم أرسله، فقال: كيف رأيت؟ قال: لقد بلغني عنه شدة، ولقد كان أشد مما بلغني منه، قال له ملك الموت: ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ولكنك سألتني فأحببت أن أسعفك. قال: فإني أسألك (¬4) حاجة أخرى، قال: ما هي؟ قال: أحب أن ¬

_ (¬1) في الأصل: (صباحًا). (¬2) في "ب": (وطابا). (¬3) في "أ": (أمالك). (¬4) في "أ": (أمالك).

تريني النار، قال: ما إليّ من ذلك شيء ولكني سأطلب فإن قدرت عليه فعلت، فبسط جناحه فحمله عليه حتى صعد به إلى السماء فانتهى إلى باب من أبواب النار فدقَّه، فقيل له: من هذا؟ قال: أنا ملك الموت، قال: مرحبًا بأمين الله هل أمرت فينا بشيء؟ قال: لو أمرت فيكم بشيء لم أناطركم، هذا إدريس استأذنت الله في خلته فأذن لي فسألني أن أريه النار فأحب أن تروها إياه، قال: ففتح منها شيء، قال: فجاءت بأمر عظيم وخرّ إدريس مغشيًا عليه، قال: فحمله ملك الموت فأجلسه في ناحية حتى أفاق وقد ذبل واصفر، فقال له ملك الموت: ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ولكنك سألتني فأحببت أن أسعفك. قال: فإني أسألك حاجة غيرها، قال: ما هي؟ قال: أحب أن تريني الجنة، قال: ما إلى من ذلك شيء ولكني سأطلب فإن قدرت عليه فعلت، فانطلق به إلى خزنة الجنة فدق بابًا من أبوابها فقيل له: من هذا؟ قال: أنا ملك الموت، قالوا: مرحبًا بأمين الله هل أمرت فينا بشيء؟ قال: لو أمرت فيكم بشيء لم أناطركم، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه، قال: ففتح له الباب فدخل فيها فنظر إلى شيء لم ينظر إلى مثله فطاف فيها ساعة، ثم قال له ملك الموت: انطلق بنا فلنخرج، قال: فينطلق إلى شجرة فيتعلق بها ثم يقول: والله لا أخرج حتى يكون الله هو يخرجني، قال له ملك الموت: إنه ليس بحينها ولا زمانها وإنما طلبت إليهم لترى، فأبى. قال: فقيَّض الله له ملكًا من الملائكة، قال له ملك الموت: اجعل هذا الملك بيني وبينك، قال: نعم، قال: ما تقول يا ملك الموت؟ قال: أقول إني استأذنت الله في خلة إدريس فأذن فهبطت فكنت معه حينًا ثم سألني أن أذيقه الموت فأذقته فأصابه من شدته، ثم سألني أن أريه النار فأُري، صابه من شدتها، ثم سألني أن أريه الجنة فطلبت له فأري فدخلها وإنه أبى أن يخرج فأخبرته أنه ليس بحينها ولا زمانها، قال: ما تقول يا إدريس؟ قال: أقول: إن الله تعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وقد ذقته، ويقول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي: النار وقد وردتها، ويقول الله لأهل الجنة: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] فوالله لا أخرج

منها أبدًا حتى يكون الله يخرجني منها، فسمع هاتفًا من فوقه: بأمري دخل وبأمري فعل فخلِّ سبيله فذلك قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} (¬1). وعن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: إن إدريس كان يصعد له من العمل كل يوم مثل ما كان يصعد لجميع الناس، فطلب ملك الموت إلى ربّه فهبط إليه، قال: فلما كلمه إدريس، قال: اصعد بي إلى السماء، فصعد معه فلمّا انتهى إلى السماء السادسة مرّ به ملك فقال الملك لملك الموت: أين تريد؟ قد بعث إلى رجل من بني آدم أن يقبض روحه في السماء السادسة. فالتفت إلى إدريس وقبض روحه في السماء السادسة، ويجوز أن يكون المراد بالمكان العلي الرتبة العلية من النبيين (¬2). {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} وجده شيث {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ابنه الأكبر سام والأنبياء من ذرية سام: هود وصالح وشعيب ولوط وأيوب والله أعلم بغيره من المحمولين (¬3) كيافث وحام وغيرهما {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} إسماعيل وإسحاق ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وروى خالد بن سنان أيضًا: ومن ذرية {إِسْرَائِيلَ} أنبياء بني إسرائيل {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} ومن جملة هؤلاء الخضر إن لم يكن من ذرية سام. ووصف سعيد بن المسيب لقمان الحكيم بالنبوة وكان من ولد حام فإنه كان حبشيًا وهو رومي والروم من ولد يافث. وعن النبي - عليه السلام - (¬4) أنه قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" (¬5) قال الأمير: وظني بجرجيس -عليه السلام- أنه من جملة هؤلاء ولم ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (10/ 86 - 90) مطولًا وعزاه لابن المنذر وذكره (10/ 84) مختصرًا وعزاه لابن أبي حاتم. (¬2) الترمذي (3231)، وأحمد (5/ 9، 10)، والطبراني في الكبير (6871)، وفي "مسند الشاميين" (2645) والحديث ضعيف. (¬3) (من المحمولين) ليست في "ب". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) مسلم (81).

يكن من بني إسرائيل، وزعم القتبي أن الأنبياء كلهم عربيهم وعجميهم من ولد سام بن نوح -عليه السلام- (¬1)، قالوا: وفي قوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يجوز أن تكون للعطف على ذرية آدم أو على ذرية المحمول مع نوح أو على ذرية إبراهيم وإسرائيل، ويجوز للاستئناف جملة، والتقدير: ممن هدينا واجتبينا قوم. عن مجاهد قال: ما أري إبليس أحدًا ساجدًا إلا التطم ودعا بالويل، قال: أمر هذا بالسجود فسجد فله (¬2) الجنة وأمرت فلم أسجد فلي النار. وعن أبي هريرة عنه -عليه السلام- (¬3) قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار" (¬4). {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الخَلْف ضد الخَلَف، يقال: خَلْف سوء وخَلَف صدق، {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} اشتغلوا بما يلهي عنها من لعب ولهو {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} غيّهم الذي أسلفوه وقدموه كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 8] وقيل: الغي اسم وادٍ في جهنم، وقيل: مأخوذ من الغياية وهي الظلمة والسحابة. وعن كعب وأصحابه، قال: صفة المنافقين شاربون للقهوات لعابون بالكعبات ركابون للشهوات تاركون للجماعات راقدون عن العتمات مفرّطون في الغدوات ثم تلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} الآية (¬5). {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} هو القول المفعول، وقيل: أراد الآتي. {إِلَّا سَلَامًا} قيل: استثناء منقطع، وقيل: متصل؛ لأن السلام في دار السّلام من جنس اللغو لأنه كلام غير محتاج إليه بخلاف الحمد والتسبيح ¬

_ (¬1) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "ب". (¬2) في الأصل: (نسجد له)، وفي "ي" "أ": (فسجد له). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) عزاه صاحب الدر (10/ 98) لابن أبي حاتم. (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (3/ 9)، والطبري (15/ 576).

اللذين هما من أهل الإيمان بمنزلة التنفيس من الحيوان (¬1) {بُكْرَةً} أي: ابتداء الحالة الممتدة التي هي لملاقاة الإخوان، {وَعَشِيًّا} الساعة التي هي قبيل الحالة الممتدة التي هي للخلوة مع النسوان، قال قتادة: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه (¬2) ذلك، فأخبرهم أن لهم في الجنة هذه الحالة التي تعجبهم في الدنيا (¬3). {تِلْكَ الْجَنَّةُ} خبر، ويجوز أنها اسم جنس ولي اسم الإشارة والخبر ما بعدها، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هذه الجنة التي ذكرنا {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} و (التقي) ينطبق على كل مؤمن. {وَمَا نَتَنَزَّلُ} عن ابن عباس قال: قال النبي - عليه السلام - (¬4): "ما لك يا جبريل، ما لك لا تزورنا أكثر مما تزورنا" (¬5) فأنزل الله، قال الكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} الآخرة، {وَمَا خَلْفَنَا} الدنيا (¬6). وقال الفراء (¬7): {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآخرة {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة يلقنها جبريل من الله تعالى، وقيل مقدر في ابتدائها {نَسِيًّا} ناسيًا (¬8) فكأن جبريل قال: لم ينسنا الله تعالى ولم ينسك فلو شاء لأذن لنا في النزول إليك أكثر مما نتنزل. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} أي: هو رب السماوات، وقيل: بدل من قوله ¬

_ (¬1) ذكر هذين الوجهين الزمخشري في تفسيره، [الكشاف (2/ 515)]. (¬2) في "أ": (يعجبه). (¬3) ورد هذا في روايات ذكرها السيوطي في "الدر المنثور" (10/ 105، 106) وعزاه لابن مردويه ولابن أبي حاتم. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ابن أبي شيبة (34172). (¬6) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والضحاك، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (15/ 582). (¬7) ذكره الفراء في معانيه (2/ 170). (¬8) (ناسيًا) ليست في "ب".

{رَبُّكَ} (¬1)، {وَاصْطَبِرْ} افتعال من الصبر {سَمِيًّا} مجانسًا، وهذا يدل على أن الاسم الحقيقي معنى دوري. {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} قال خباب: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضى بمالي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - عليه السلام -، فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث، فقال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قال: نعم، قال: إن لي هناك مالًا أقضيكه فنزل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77] الآية، وفي الآية دلالة أن الآية في العاص {أَإِذَا مَا مِتُّ} (ما) صلة كقول امرئ القيس (¬2): إذا ما بكى من خلفها انصرفت له {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} نسيانه. والشيطان مع (الشياطين) (¬3) {جِثِيًّا} جلوسًا على الركب قريب من الجثوم. {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} لنزيلن، وقيل: ليقولن {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} فليخرج ويحتمل أيهم كان أشد ويحتمل أشدهم؛ فالأول تخصيص الوصف بما مضى، والثاني: إخلاص الوصف للحال. {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ} علم الله تعالى الذي تفرد به علم الأعيان، فأما علم الأوصاف فقد رزقنا حيث أخبر أن الكبائر هي الموجبات للنار، فمن كاد ¬

_ (¬1) هذا أحد الأوجه أنه بدل من "ربك"، والوجه الثاني: أنه خبر لمبتدأ محذوف التقدير: هو رب. والوجه الثالث: أنه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده، وهذا على مذهب الأخفش وهو أنه يُجَوِّزُ زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقًا. [إعراب معاني القرآن للأخفش ص 34]. (¬2) البيت لامرىء القيس من معلقته، ورقم البيت في المعلقة (16)، وقد ذكر المؤلف صدر البيت وأما عجزه فهو: بشِقٍّ وتحتي شِقها لم يُحَوَّل والبيت من الطويل. (¬3) في "ب" "ي": (والشياطين مع الشيطان)، وفي "أ": (الشياطين مع الشياطين).

يرتكب الكبائر كاد يصلى النار، ومن كان أقدم على اقتحام الفواحش كان أولى وقودًا، ومن كان أشد إصرارًا فهو حري خلودًا. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ابن عباس عن كعب قال: ترفع جهنم يوم القيامة كأنها متن إهالة وتستوي أقدام الخلائق فينادي منادٍ: أن خذي أصحابك ودعي أصحابي، فتنخسف بهم ولهي أعرف بهم من الوالدة بولدها وتمر أولياء الله تندى ثيابهم (¬1). عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬2): "يرد (¬3) الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحلة ثم كسد الرجل ثم كمشيته" (¬4). وعن عبد الله قال: الأرض نار كلها يوم القيامة والجنة من ورائها يرون كواعبها وأكوابها، والذي نفس عبد الله في يده (¬5) إن الرجل ليفيض عرقًا يوم القيامة حتى يبلغ أنفه ثم يرتفع ثم يسوخ وما مسه الحساب، فقلنا: وبم ذلك يا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس يلقون (¬6). وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: إن للقيامة أحوالًا وأهوالًا وزلازل وشدائد وظلماء، إذا انشقت السماء وتناثرت النجوم وذهب ضوء الشمس والقمر وتقلعت الأشجار وتدكدكت الآكام وغارت العيون ونصبت الموازين ونشرت الدواوين، وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام من حديد كل زمام أخذته سبعون ألف ملك كل (¬7) ملك أعظم ما بين ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 434)، والترمذي (3159)، والحاكم (2/ 375)، والبيهقي في البعث (657)، والحديث حسن الإسناد. (¬2) في "ي": (-عليه السلام-) ليست موجودة، وفي "ب": (صلى الله عليه وسلم) بدل (-عليه السلام-). (¬3) في الأصل: (يرون). (¬4) الطبراني في الكبير (8771). (¬5) في "ب": (بيده). (¬6) مسلم (2495). (¬7) (كل) ليست في الأصل.

المشرق والمغرب يجرونها جرًا، حتى إذا كانت من الموقف مسيرة ماية زفرت زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر جاثيًا لركبتيه ينادي على (¬1) حياله: نفسي نفسي، ثم تزفر أخرى فلا يبقى في عين أحد قطرة من الدموع إلا بدرت، ثم تزفر أخرى فتعلو بياض العيون سوادها وتشخص الأبصار فلا ينطق أحد ولا يطرف ولا يعقل، ثم يضرب الصراط على متن جهنم طوله مسيرة ثلاثة آلاف سنة ألف سنة صعود وألف سنة هبوط وألف سنة (¬2) سهولة بين حائطين من نار عرض كل حائط مسيرة ثلاث ليال على حافته الزبانية معهم الحسك والكلاليب. فقام رجل من الأزد يقال له: جندب بن زهير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي إني لأرجع من عندك إلى منزلي فما تقر عيني في مال ولا ولد حتى أرجع فأنظر إليك، فأنَّى لي بك في غمار القيامة؟! قال: "يا جندب انظرني عند عقر حوضي فإن لم تلقني فانظرني في مقام الشفاعة فإن لم تلقني فانظرني على شفير جهنم، والخلائق يمرون وأنا أنادي يا رب سلِّم سلِّم وجبريل ينادي: يا رب سلم سلم وألف ألف وأربعة ماية ألف نبي من ولد يعقوب ينادون: اللهم بشرف محمَّد سلم، أي جندب ابن زهير فكم من مخدش مرسل وكم من مختطف هاوٍ ومكردس في النار، وخزان الجنة على أبواب الجنة معهم الحلي والحلل والتيجان من ألوان الجواهر ينتظرون أولياء الله" ثم ذكر باقي الحديث (¬3). والجمع بين هذا الحديث وبين قوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] يعني: لا يسمعون بعد دخول الجنة، فأما ما قبله فالأمر على ¬

_ (¬1) (علي) ليست في "ب". (¬2) في الأصل: (سنة) مكررة. (¬3) كثير من ألفاظ هذا الحديث منثور في حديث الصراط الذي رواه أبو سعيد الخدري مرفوعًا، أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 603)، والمروزي في الزهد (1268)، وابن خزيمة في التوحيد (ص 211)، وابن ماجه (4280)، والحاكم (4/ 585).

ما تضمنه الحديث {حَتْمًا مَقْضِيًّا} واجبًا لازمًا (¬1)، وإيجاب الله على نفسه مجاز (¬2)، وحقيقة وجوب وعده وتأكد قضائه وصدق قوله وانبرام (¬3) حكمه على وجه لا يليق بربوبيته غيره، قيل: الورود غير الدخول، كقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23]. وعن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كان (¬4) النبي -عليه السلام - (¬5) في بيت حفصة وقال: "لن يدخل النار إن شاء الله أحدًا شهد بدرًا والحديبية" فقالت: ألا تسمع إلى قول الله (¬6): {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الآية، فقال: "ألا تسمعين {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية (¬7)، وقيل: الورود الدخول وهي في حق الناجين جامدة {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} ناديًا وهو المجلس الذي يشهدُه العشيرة والجيران، ويشبه جدال هؤلاء المشركين بقول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] وقول أحد الرجلين في جنته: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35] سبحان الله ما أجمعهم على وتيرة واحدة حتى كأنهم تواصوا بها وتواطؤوا عليها مع بعد الديار واختلاف الأعصار (¬8). {فَلْيَمْدُدْ} مجاز فواجب على الله أن يمد له في الدنيا، وحقيقته ليظن له المد من قضاء الله وقدره، وهذه قريبة من قوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33] الآية. وفي هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تميلها الرياح (¬9) مرّة ها هنا ¬

_ (¬1) (واجبًا لازمًا) ليست في "ب". (¬2) الأصل في اللفظ أن يجري على الحقيقة فيما يخاطبنا الله به حتى في أوصافه جلَّ وعلا، إلا إذا تضمن الظاهر نقصًا، لكن إلزام الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنفسه لا يتضمن نقصًا بوجه من الوجوه فيجري على الحقيقة، والله أعلم. (¬3) في الأصل: (والتزام). (¬4) في "ب": (كانت). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) في "أ": (قوله) بدل (قول الله). (¬7) لم نجد هذا الحديث فيما بين أيدينا من المصادر. (¬8) في الأصل: (الديار). (¬9) (الرياح) من "ي" فقط.

ومرّة هاهنا، ومثل المنافق كالأرزة المجدبة لا تحركها العواصف حتى يكون انجحافها مرة" (¬1) فالجمع بين هذه وبين قوله (¬2): {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا} [المائدة: 66] الآية، وقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ} [نوح: 10، 11] الآية، وقوله - عليه السلام- (¬3) لقريش وأمثالهم: "أدعوكم إلى كلمة تملكون بها العرب ويدل لكم بها العجم"، هو أن الضلالة قد تكون سببًا لليسر مرة والعسر أخرى وكذلك الهدى ما دامت محنة (¬4) الالتباس قائمة وعزيمة الابتلاء باقية، فلا تناقض بين الأحاديث والآيات. {وَيَزِيدُ اللَّهُ} قال الكلبي (2) وغيره: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} بالمنسوخ {هُدًى} الناسخ. {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قال الفراء (¬5): الاطلاع البلوغ، يقال: اطلعت هذه الأرض، أي: بلغتها. {كَلَّا} إن دخلت على كلام فهي ردّ له بمنزلة بلى، وإن جاءت صدر الكلام فهي بمنزلة لا، وهي ردّ لموهوم ربما ظهر بعده {وَنَمُدُّ لَهُ} نزيده {مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} زيادة، وتلك الزيادة لغلوه في الضلالة. {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} معنى قول الكلبي: إن الله تعالى يحقق قول الكافر: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} بأن يجعل شيئًا من أموال الجنة وولدانها باسمه على شريطة الإيمان ثم يريه في ذلك عند عدم الشريطة فيورثه غيره، ويتركهم يوم القيامة {فَرْدًا} وقيل: إن الله تعالى يرث الكافر في قوله الباطل بعينه بأن يكتبه ويخلده في كتابه فهذا القول الباطل تركته، والله -عَزَّ وَجَلَّ- ورثه إلى أن يحاسبه بها بعدما سها. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي عن الكلبي في تفسيره (11/ 144). (¬2) بعد قوله بياض في "ب". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في الأصل ليست هناك كلمة (محنة). (¬5) لم نجده في معانيه فلعله في موضع آخر من كتبه.

{عَلَيْهِمْ ضِدًّا} مخالفًا مناقضًا. {أَنَّا (¬1) أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} سلطناهم، وقد يعبر بالإرسال عن التسليط قال الله تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين: 33] {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تهزهم نحو المعاصي هزًا. {نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} ساعات الأجل ولحظات المهل لرفع الحيل وقطع الأمل. {يَوْمَ} (¬2) منصوب {سَيَكْفُرُونَ} {وَفْدًا} الذين يفدون عن الملك طمعًا في بره وإحسانًا. {وِرْدًا} وهي الإبل العطالش التي ترد مواردها. {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} المالكون الشفاعة والمتخذون {عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} هم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21] يشفعون لمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، والصلاح هو مجرد الإيمان. {شَيْئًا إِدًّا} داهية. قال علي: رأيت رسول الله - عليه السلام - (¬3) في المنام، فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيت بعدك من الأدد والكدد والأود (¬4) {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} لكلمة الشرك هذه، قال الليث: (الهدّ): الهدم الشديد، وقيل: الهد الخسوف. {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أي: معترفًا بالعبودية، وذلك حين يحضر العرض. ¬

_ (¬1) (أنا) من الأصل. (¬2) (يوم) فراغ في "أ". (¬3) في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬4) أصل هذا الحديث في الصحيحين دون ذكر الآية، أما الآية فقد جاءت في رواية الترمذي (3161) وصححها الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، وهو كذلك عند ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير والدر المنثور (10/ 146).

{وُدًّا} محبة. عن أبي هريرة أن رسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1) قال: "إذا أحبّ الله عبدًا نادى جبريل -عليه السلام- (¬2) إني أحببت فلانًا فأحبه، قال: فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} (¬3) وإذا أبغض عبدًا نادى أني قد أبغضت فلانًا فينادي في السماء ثم ينزل له البغضاء في الأرض" وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "يا علي، قل اللَّهم اجعل لي عندك عهدًا واجعل لي عندك ودًّا واجعل لي في صدور المؤمنين مودة" (¬4)، فنزل جبريل بهذه الآية في علي - رضي الله عنه -، وقال أبو سعيد الخدري: إنا (¬5) كنا معشر الأنصار (¬6) لنعرف المنافقين (¬7) ببغضهم علي بن أبي طالب (¬8). {لُدًّا} جمع اللدّ. عن أبي بن كعب عنه - عليه السلام -: "من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإدريس، وبعدد (¬9) من دعا لله ولدًا لا إله إلا الله وبعدد من لم يدع لله ولدًا" (¬10). ¬

_ (¬1) (صلى الله عليه وسلم) ليست في "أ" "ي". (¬2) (السلام) ليست في "أ" "ي". (¬3) ذكره السيوطي في الدر (10/ 144) وعزاه لابن مردويه، وهو عند الديلمي في مسند الفردوس (1932). (¬4) الترمذي (3717)، والطبراني في الأوسط (2125، 4151). (¬5) المثبث من "ب"، وفي الجميع (إن). (¬6) في "ب": (الإسلام). (¬7) (لنعرف المنافقين) ليست في "ب". (¬8) هذا أثر أبي سعيد المشهور الموضوع الذي وضعه نوح بن أبي مريم في فضائل السور وقد ذكره صاحب الكشاف والبيضاوي وأبو السعود في تفاسيرهم. (¬9) في "ب": (وبعد). (¬10) ذكر هذا الحديث القرطبي في تفسيره مسندًا عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا ورجاله ثقات، تفسير القرطبي (11/ 76).

سورة طه

سُورَةُ طَه مكية (¬1)، عن أبي هريرة عنه -عليه السلام - (¬2): "إن الله تبارك وتعالى قرأ "طه" و"يس" قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل هذا عليها، وطوبى لأجواف تحملُ هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا" (¬3). وهي ماية وأربع وثلاثون آية في أهل الحجاز (¬4). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طه (1)} قال مجاهد: كان النبي -عليه السلام - (¬5) يربط نفسه ويضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} (¬6). وعن ابن عباس قال: هي كلمة بالسريانية يا رجل (¬7)، قال: وكان النبي - عليه السلام - (5) إذا قام من الليل ربط صدره بحبل كيلا ينام فأنزل الله: {مَا ¬

_ (¬1) مكية بالاتفاق كما في "البيان في عَدّ آي القرآن" (183). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) رواه الدارمي (3414)، وابن خزيمة في التوحيد (236)، والطبراني في الأوسط (4876)، والبيهقي في الشعب (2450)، وابن عدي في الكامل (1/ 218)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 66). والحديث منكر غير ثابت، وانظر: السلسلة الضعيفة (1248). (¬4) كما في "البيان في عَدّ آي القرآن" (183)، وفي البصري (132) آية، وفي الشامي (140) آية، وفي الكوفي (135). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) عزاه في "الدر المنثور" (10/ 154) لعبد بن حميد. (¬7) ابن جرير (6/ 16).

{أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} (¬1) وعن ابن عباس قال: لما نزل عليه الوحي بمكة اجتهد في العبادة فاشتدت فجعل يصلِّي الليل كله زمانًا حتى تبين ذلك عليه: نحل جسمه وتغير لونه وتورمت قدماه حتى نزل {طه (1)} يا رجل بلسان لعكّ (¬2). وقيل: إن الحرفين يشيران إلى الطهو الذي هو الإصلاح والإيضاح، والتقدير: أيها الطاهي، وقيل: يشيران إلى الطهارة والهداية، التقدير: أيها الطاهي والهادي، وقيل: يشيران إلى الوطء والتنبيه، التقدير: طأ فراشك أيها الرجل أو طأ الأرض بقدميك أيها الرجل، وقيل: يشيران إلى الطمأنينة والهدوء أي اطمئن واهدأ، وقيل: الطا تسعة والها خمسة من حساب الجمَّل، وهما أربعة عشر، والليلة الرابعة عشرة ليلة البدر فكأنه قيل: أيها البدر، وسئل الرجل البراء بن عازب: أكان وجه رسول الله مثل السيف؟ قال: لا مثل القمر، وقال جابر بن سمرة: رأيته في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء فجعلت انظر إليه وإلى القمر فهو أحسن عندي من القمر (¬3)، وقد وصفه الله بأنه سراج منير فلا يبعد أن يصفه بأنه بدر. {إِلَّا تَذْكِرَةً} نصب بما أنزلنا، أي: ما أنزلنا إلا تذكرة فكأنه بدل من {لِتَشْقَى}، وقيل: استثناء منقطع معناه: لكن أنزلناه تذكرة (¬4). ¬

_ (¬1) ابن عساكر (4/ 143). (¬2) قريبًا منه عند البيهقي في الدلائل (1/ 158، 159). ملاحظة في المخطوطات (عكة) والتصريح من الدلائل. (¬3) النسائي في الكبرى (9640). (¬4) في نصب "إلا تذكرة" عدة أوجه: الوجه الأول: أن تكون مفعولًا من أجله والعامل فيه فعل الإنزال، وذكر الزمخشري أنه جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. والوجه الثاني: أن تكون "تذكرة" بدلًا من محل "لتشقى" وهذا رأي الزجاج وتبعه ابن عطية، واستبعده أبو جعفر النحاس في إعرابه، ورده الفارسي بأن التذكرة ليست بشقاء. =

{الْعُلَى} جمع كدنيا ودني. {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} أو لم تجهر {يَعْلَمُ السِّرَّ} ويعلم إخفاءه وهو ما يخطر ببال (¬1) الإنسان من السر غير أن يعتقده ضميرًا، وهذا من عطف الشيء على جنسه. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ارتفع {اللَّهُ} بضمير مبتدأ (¬2) عن علي قال: قال رسول الله (¬3) - عليه السلام - (¬4): "يقول الله: لا إله إلا الله حِصْنِي فمن دخله أمن عذابي" (¬5). {وَهَلْ أَتَاكَ} فائدة الاستفهام في مثل هذا استدراج المخاطب به إلى التفكير والتذكير ليغتنم المسموع فينجع في قلبه، وقيل: معناه {بِقَبَسٍ} بجذوة وهي النار التي تأخذها في طرف عود، قيل: كانت القصة في زمن كيقياد بن زاب بن توركان بن إيرج بن نمرود فانصرف موسى من عند شعيب، فلما كان ببعض الطريق جاءت عليه ليلة باردة ذات رذاذ وكانت امرأته حاملًا فأخذها الطلق، فاقتدح موسى فما أورى زنده، فأنس نارًا من بعيد فظن أنها قريبة منه فتوجه إليها ليقتبس منها، فلما أتاها أبصرها نارًا في شجرة خضراء كلما أراد أن يقتبس منها ارتفعت إلى أعاليها، ونودي: يا موسى، ففزع من ذلك فزعًا شديدًا وكان من أمره ما نطق به (¬6) القرآن. ¬

_ = والوجه الثالث: أن يكون منصوبًا على الاستثناء المنقطع والتقدير: لكن أنزلناه تذكرةً. والوجه الرابع: أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر، التقدير: تذكر به أنت تذكرة. [الكشاف (2/ 529)، الإملاء (2/ 118)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 331)، الدر المصون (8/ 8)]. (¬1) في الأصل و"أ": (بباله). (¬2) في "أ" بياض. (¬3) المثبت من الأصل فقط. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) الحديث القدسي هذا ذكره في كنز العمال (1/ 235)، والكناني في تنزيه الشريعة (1/ 147) ونسبه للديلمي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، والحديث ضعيف. انظر: جامع الأحاديث القدسية لعصام الدين الصبابطي (1/ 47)]. (¬6) في "أ": (ناطق به).

وذكروا أن الله تعالى قال لموسى ليلته: يا موسى أنت جند من جنودي إلى ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد ربوبيتي وأنكر حقي وشتمني وعبد دوني، فإني أقسم بعزتي وجلالي لولا إلزام الحجة عليه والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار تغضب لغضبه السموات والأرضون والجبال والبحار، إن آذن للسماء اختطفته، وإن آذن للأرض ابتلعته، وإن آذن للبحار غرقته، ولكن هان عليَّ وسقط من عيني ووسعه حلمي فذكِّره إياي وخوِّفه عقابي، وأعلمه أنه لا تقول شيء لغضبي وقيل له بين ذلك: {قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. ولا يهولنَّك ما عنده من رياش الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا يتكلم إلا بإذني، وأعلمه أني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة، وقيل: أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك منذ أربع مائة سنة أنت مبارز فيها بالعداوة وتصد عن عبادته وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض ولم تسقم قط ولم تهرم، ولو شاء لفعل بك ذلك ولكنه ذو أناة وحلم، وجاهده بنفسك وأخيك (¬1) محتسبين صابرين فإني لو شئت أن أؤيدكما بجنود لا قبل لهم بها وسلطان لا قوام لهم به لفعلت، ولكني أزوي ذلك عنهما وكذلك أفعل بأوليائي، وإني لأزوي عنهم نعم الدنيا وملكها ولذاتها كما يزوي الراعي المشفق إبله عن مراتع الهلكة، وأجنبهم نعيمها ورخاءها كما يجنب الراعي المشفق إبله عن مراتع الغرة، وما ذلك من هوانهم علي ولكن ليستوجبوا به نعيم الآخرة. واعلم يا موسى أنه لم يتزين المتزينون عندي بزينة أحب إلى من الزهد في الدنيا, ولم يتقرب المتقربون إلى بشيء أحب إلى من الورع عما حرمت عليهم، ولم يدرك العباد فضل الباكين من خشيتي. أما الزاهدون في الدنيا فإني أمنحهم الجنة، وأما الورعون فإني أرفع ¬

_ (¬1) في "ب": (بأخيك ونفسك).

الحساب عنهم، وأما الباكون من خشيتي (¬1) فهم في الرفيق الأعلى من الجنة لا يشاركون فيها ولا يلحقهم أحد (¬2). {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} والنعل ما يقي كف القدمين من الأذى وكانت نعلاه غير مدبوغتين من جلد حمار ميت (¬3) {طُوًى} فعل وهو معدول من طاوى (¬4) أو مطوي، طوى الله له الأرض بلطفه حتى قطع المسافة البعيدة مطوية أو قدَّره على سرعة السير فقطعها (¬5) في لحظة كأنه طوى الأرض بقدميه طيًا. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} لوقتها الذي يذكرنا الله فيه من بعد نسياننا إياها، وقيل: أراد بالذكر التسبيح والتهليل في الصلاة. {لِتُجْزَى} متعلق بـ (آتية) (¬6). {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي عن الصلاة {فَتَرْدَى} فتهلك، وهو في النصب لأن جواب (¬7) النهي بالفاء (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله (أما الزاهدون) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) قريبًا منه عن وهب بن منبه رواه ابن أبي حاتم (9/ 2843)، وأحمد في الزهد (61 - 66). (¬3) هذا مروي عن علي عن عبد الرزاق في تفسيره (2/ 16)، وعن الحسن كما عند عبد بن حميد. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (10/ 171). (¬4) إذا كان معدولًا عن طاوي فهو ممنوع من الصرف للتأنيث باعتبار البقعة والعلمية والعدل. وجعله قوم ممنوعًا من الصرف للعلمية والعجمة ولذا هي بدون تنوين عند غير الكوفيين وابن عامر. وهي إما بدل من الوادي، أو عطف بيان له، أو مرفوع على إضمار مبتدأ، أو منصوب على إضمار أعني. [البحر (6/ 231)، الدر المصون (8/ 17)]. (¬5) في الأصل و"ب": (قطعها). (¬6) جعلها بعضهم متعلقة بـ "أخفيها"، ويتنزل قول المؤلف فيمن جعلها متعلقة بـ "آتية" وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن "أكاد أخفيها" معترضة بين المتعلق والمتعلق به، أما إذا جعلتها صفة لآتية فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز كما قاله أبو البقاء. [الإملاء (2/ 120)، الدر المصون (8/ 22)]. (¬7) في "ب": (جوابها). (¬8) أي أنه منصوب بـ "أن" مضمرة لأنه واقع في جواب النهي، وجوز بعضهم أن يرتفع على =

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} فائدة تقرير الحالة لتفخيم الإحالة. {أَتَوَكَّأُ} أتكي {وَأَهُشُّ بِهَا} أخبط الشجر ليتناثر ورقها {مَآرِبُ} حوائج، وإنما ذكر منافع العصا ليكون به مؤتمرًا غاية الائتمار أو شاكرًا. {سَنُعِيدُهَا} نقلبها في هذه الساعة عصًا كما كانت، وقيل: نقلبها حية عند فرعون كما كانت في هذه الليلة. {وَاضْمُمْ} واجمع {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} برص وبهق. {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} إنما ابتدأ موسى بهذا السؤال لما كان يعرف من حدته ويعلم أنه لا يتم أمرًا إلا بالحلم والصبر. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} لعلمه أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى سبب العقدة، وقد استجاب الله دعوته وحل من عقدته مقدار ما نفعه قوله من غير كلف وأبقى شيئًا للالتباس على الناس، فلذلك قال فرعون: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] وقيل: بل حل الله تلك العقدة ولم يبق منها أثر وكان فرعون كاذبًا بقوله (¬1) {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}. {وَزِيرًا} ظهيرًا، والتقدير في الآيتين: واجعل لي بعضًا من أهلي هارون أخي وزيرًا. {أَزْرِي} ظهري (¬2). {كَيْ نُسَبِّحَكَ} تعليل لتيسير الأمر ووزارة هارُون جميعًا. {سُؤْلَكَ} مسألتك وحاجتك. ¬

_ = خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنت تردى. والرَّدَى بمعنى الهلاك كما قال المؤلف، ومنه قول دريد بن الصَّمَّة: تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارسًا ... فقلت أَعَبْدُ اللهِ ذلكُمُ الرَّدِي [البحر (6/ 233)، الدر المصون (8/ 23)، الحماسة (1/ 397)]. (¬1) في "أ" "ي": (لقوله). (¬2) في "أ": (ظهيرًا).

{إِذْ أَوْحَيْنَا} ألهمنا {إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} كلامًا حقًا صدقًا عدلًا. {اقْذِفِيهِ} ارميه {الْيَمِّ} البحر الذي يقال له أساف (¬1) وفيه غرق فرعون {عَدُوٌّ لِي} يعني فرعون لعنه الله {وَلِتُصْنَعَ} صنعة الإنسان تربيته، تقول لمن رباك وأحسن إليك: أنا صنيعك وصنيعتك {عَلَى عَيْنِي} بمرأى وحسن نظر مني. {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} وكانت أخت موسى تدخل دار فرعون لخدمة نسائه، فلما ألقاه في اليم بالساحل من دار فرعون بعثتها أمها لتأتيها بالخبر فوجدته في حجر امرأة يطلبون له ظئرًا فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} وذلك بعد أن أسلموه إلى المرضعات فما ارتضع، يقول الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، {وَفَتَنَّاكَ} أي ابتليناك ابتلاء، وذلك حين ورد ماء مدين جائعًا تابعًا وجاءته إحدى ابنتي شعيب واستأجره شعيب (¬2) على الشرائط المذكورة {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} مقدار مقدّر عندنا ووقت موقت لم تخالفه ولم يخالفك. {وَاصْطَنَعْتُكَ} اختصصتك {لِنَفْسِي} أي لمعرفتي (¬3) وروح مناجاتي وخواص أمري. {وَلَا تَنِيَا} ولا تضعفا ولا تفترا. وفائدة الأمر بالقول اللين يعدهما بتوخى رشد فرعون واستمالته، والثاني قطع أعذار فرعون من كل وجه. {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} (¬4) أي يجهل علينا بالبغي والبدار إلى العقوبة. ¬

_ (¬1) ذكر الطبري في تفسيره أن "اليم" هو نهر النيل (16/ 57)، وكذا قال القرطبي (11/ 194)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 158). (¬2) (واستأجره شعيب) ليست في الأصل و"أ". (¬3) في الأصل: (واصطنعتك لنفسي أي لمعرفتي)، وفي "ب" "ي": (واصطنعتك أي اختصصتك لمعرفتي). (¬4) (علينا) من "ي".

{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)} هذا فرار من فرعون إلى ما يتشاغل به عن التوحيد، وهذه سنة المعرضين عن التوحيد إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، فلما علم موسى أن الخبيث متشاغل عن التوحيد أجمل جوابه وردَّه إلى التوحيد الذي فرّ منه {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}. {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أجناسًا من ضروب مختلفة، فكل ضرب متجانس في نفسه مضاد (¬1) لغيره. وقيل: أراد المتشابهات في الطعم المختلفات في الصورة {شَتَّى} فَعْلى (¬2) من شت، وهذا الإشتات، وتشتت الأمر: تفرقه وانفساخ تأليفه. {النُّهَى} جمع نهية وهو العقل ينهى النفس عما لا يليق بها. {تَارَةً} مرة {كُلَّهَا} أي كل ما كان مع موسى {سُوًى} صفة المكان ومعناه التساوي والتعادل. {يَوْمُ الزِّينَةِ} يوم عيد كانوا يتخذونه ويتحلون فيه بزينتهم (¬3) {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} في محل الخفض عطفًا على الزينة. {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} أعرض عن موسى -عليه السلام- (¬4) {ثُمَّ أَتَى} بعد ذلك وهو بروزه للعامة يوم الزينة. {فَيُسْحِتَكُمْ} يهلككم، ونظم الآي على طريقة مستحسنة غاية للبلاغة وآية للفصاحة، وهي رد آخر الكلام على أوله، وإنما قال لتقديم الدعوة والإنذار مرة بعد أخرى. {فَتَنَازَعُوا} قال الضحاك: تنازعوا في سحرهم كيف ينبذونه وكيف ¬

_ (¬1) في الأصل: (مضاف). (¬2) في الأصل: (فعيل). (¬3) في الأصل: (زينتهم). (¬4) (السلام) ليست في "ي".

يظهرونه وتناجوا في ذلك، {الْمُثْلَى} ما بين الأمثل وهو الأحسن {صَفًّا} نصب على الحال أي (¬1) مصطفين (¬2) {مَنِ اسْتَعْلَى} استولى. {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} بظهر الخيال، والخيال: كيفية باطلة تتولد من الرائي والمرئي بعلل مختلفة، والأخيل: طائر يتلون بألوان مختلفة يتشاءم به العرب. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} لأن طبيعة الإنسان مجبولة على قلة احتمال مشاهدة الأشياء الهائلة وإن كان موقنًا ببطلانها، والدليل على ذلك أن الإنسان يستأنس بالصورة المنقوشة في الجدار إن كانت صورة المتصدرين في الغياض والمتماشين (¬3) في الرياض، ويستوحش إن كانت صور القتلى (¬4) والغرقى والحيّات والعقارب. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (¬5) [إنما اتهمه فرعون نفسه وحقًا على أهل مصر، وإنما اجترأ بالتهديد على السحرة دون موسى لأنه أيقن بتمويهات السحرة أمرهم وتأثيرهم فلم يخف من جانبهم، وأما موسى -عليه السلام- (¬6) فكان لا يدرك مدى أمره فلذلك كان يحذره، {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي عليها. {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسم، ويجوز أن يكون معطوفًا على المجرور من غير تكرار (¬7) والجار {مَا أَنْتَ قَاضٍ} في محل نصب، أي قاضٍ قضاك. ¬

_ (¬1) (أي) من "أ" "ي". (¬2) أي أنه حال من فاعل "ائتوا"، وجَوَّزَ السمين الحلبي أن يكون مفعولًا به والتقدير: انتوا قومًا صفًا. [الدر المصون (8/ 69)]. (¬3) في الأصل: (في انقباض والمماشين)، وفي "أ" "ب": (في انقباض والمتماشين). (¬4) في الأصل: (القبطي). (¬5) من هنا يبدأ خط رديء في الأصل لم أستطع قراءته. (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) أي أن الواو في قوله {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يجوز أن تكون عاطفة عُطِفَ فيه الموصول على =

{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ} إنما وصفوا فرعون بالإكراه لأنهم كانوا مستيقنين بأن فرعون لا يخلي من لم يتسارع إلى هواه سالمًا، وقيل: كان يكلف الغلمان أن يتعلموا السحر ويسلط عليهم المعلمين، فكان ابتداء أمرهم على الإكراه، ويحتمل أنهم نفوا عنه الإكراه، وأن تقدير الآية: (إن تغفر لنا خطايانا من السحر ولم تكرهنا عليه) فإن كان كذلك فلم يريدوا بذلك تزكية ولكنهم أرادوا تحقيق الاعتراف بما أوحيت من الاستغفار، وكيف ما كان تقدير الآية وتفسيرها ففيها دلالة على انتهاء أعمالهم لم يكن على سبيل الإكراه. {مُجْرِمًا} بالكفر بدليل الآية التي تليها على سبيل الإطباق، وإنما علموا هذا العلم لما كانوا سمعوه من موسى وهارون عليهم السلام، أو لما كان بقي منهم من يعقوب ويوسف والأسباط عليهم السلام. قوله: {مُؤْمِنًا} مطابق لقوله {مُجْرِمًا}، وفي قوله {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} فائدتان: التمييز بين العمل والإيمان؛ لأنه لو كان العمل إيمانًا لكان تقديره: ومن يأته مؤمنًا قد آمن، والثانية: تنبيه عن المصلحين وعن المؤمنين بالسكوت عنهم، وذلك إشارة إلى خلود أو إلى جزاء مضمر أي ذلك الجزاء من تزكى] (¬1). عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر وأبو بكر بن أبي قحافة والدليل الذي معهما حتى هجموا على رجل من العرب وامرأة لهما عنز ليس لهما غيرها، قال الرجل لامرأته: ألا نذبح هذه العنز لهؤلاء النفر وإني أرى قومًا لهم حق فقام فذبحها، فلما قاموا من قومهم أطعمهم ¬

_ = {مَا جَاءَنَا}، والتقدير: لن نؤثرك على الذي جاءنا ولا على الذي فطرنا. ويجوز أن تكون الواو للقسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، والتقدير: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق. [الدر المصون (8/ 77)]. (¬1) هنا ينتهي الخط الرديء في الأصل.

فقال رسول الله (¬1): "إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فأته لعل الله يرزقك منه خيرًا" فلما سمع الرجل خروجه بيثرب قال: والله لأراه صاحبنا، فاحتمل امرأته فأتاه، فلما صلَّى رسول الله (1) العصر نظر في وجوه الغرباء فمن كان له حاجة قضاها له، فقام إليه الرجل فقال: أتعرفني يا محمَّد؟ قال: "نعم" قال: عدتك، قال: "أحتكم ثمانين ضائبة" فأعطاهن إياه ثم قال: "أما إن عجوز بني إسرائيل كانت أحكم منك (¬2) عتيدة". قال الكلبي: قصة هذه العجوز وهي سارح بنت أشترقفا بنيعقوب إنما كانت راب بن دفن (¬3) عمها يوسف -عليه السلام- (¬4). فلما أراد موسى -عليه السلام- (4) الخروج من مصر توقف بنو إسرائيل وتحيروا في أمرهم وتذكروا وصية يوسف أن يخرجوا بعظامه متى خرجوا فضمن موسى -عليه السلام- لمن يدله على قبره حكمه، فدلته هذه العجوز واحتكمت على موسى -عليه السلام- مرافقته في الجنة، فضمن لها موسى بإذن الله تعالى (¬5). {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} بيّن لهم بضرب العصا {يَبَسًا} يابسًا. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} الآية إن كانت ترتب قصص ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (منك) من الأصل فقط. (¬3) في "ي": (دخر). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) الحديث رواه أبو يعلى (7254)، والحاكم (3523، 4088)، وابن حبان (723)، والخطيب في تاريخه (9/ 362) عن أبي موسى الأشعري، وقد أورده ابن كثير من طريق ابن أبي حاتم وقال: غريب جدًا والأقرب أنه موقوف. بينما صححه الشيخ ناصر في الصحيحة (313). وفي الحديث إشكال وهو إخراج عظام يوسف، والأنبياء تأبى الأرض أن تأكل أجسادهم كما ثبت. وقد أجاب الشيخ ناصر عن الإشكال أن المقصود بالعظام الجسد. والحديث ورد من قول كعب عند أبي نعيم في الحلية (6/ 27). وعن علي بسند ضعيف عند الطبراني في الأوسط (7767).

موسى -عليه السلام- (¬1) على ما قدمناه في سورة "البقرة" عند قوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] فالخطاب هنا متوجه إلى اليهود في عصر نبينا -عليه السلام- أو أراد بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} قضينا وقدرنا تنزيلهما عليكم أو سننزلها عليكم فيما بعد. {فَقَدْ هَوَى} هلك وانحط عن درجة السعادة. {ثُمَّ اهْتَدَى} رسخ في العلم، قال الضحاك {ثُمَّ اهْتَدَى}: استقام (¬2)، وعن سعيد بن جبير أنه السنة والجماعة (¬3). {وَمَا أَعْجَلَكَ} إن كان الخطاب متوجهًا إلى قوم موسى -عليه السلام- (¬4) في عصره فوجه العطف والوصل ظاهر، وإن كان متوجهًا إلى اليهود في عصر نبينا - عليه السلام - (1) فالتقدير: وقلنا يوم الميعاد {وَمَا أَعْجَلَكَ} وفائدة الاشتباه في مثل هذا الابتلاء. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ} أي إلى ميعادك. {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} يعني الفتنة التي أثنى بها موسى على الله حيث قال: إن هي فتنتك {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} دعاؤه إلى الصلاة بخذلان الله تعالى، والسامري لقب واسمه موسى بن ظفر (¬5) وأنه لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان جارًا لهم، وأصله من باجرما وهي قرية بالعراق. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬6) أن السامري كان من جملة صبيان غيبهم الآباء والأمهات مخافة أن يذبحهم فرعون فربتهم الملائكة وكان جبريل هو ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 312). (¬3) عزاه صاحب "الدر المنثور" (10/ 225) لابن أبي حاتم. (¬4) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ". (¬5) ذكره أكثر أهل التفسير بهذا الاسم. (¬6) الذي ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن السامري كان من قوم يعبدون البقر فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. ذكره القرطبي في تفسيره (11/ 233).

الذي تولى تربية السامري فكان يمصُّ إبهام يمينه سمنًا والأخرى عسلًا ولبنًا فمن ثم عرفه حين رآه فقص قصة من أثره. {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} يجوز أن يكون قول عبدة العجل ويجوز أن يكون كلامًا تعقب كلامهم من جهة الله تعالى، أي فكما نخبرك ألقى السامري قبضته {فَنَسِيَ} عن ابن عباس: نسي السامري، والمراد به كفر (¬1). وقال الكلبي: نسي موسى -عليه السلام- (¬2) على زعمهم زعموا أنه ضل طريق الميقات وأخذ طريقًا آخر نجاهم إلهه من غير طريقة (¬3). {أَفَلَا يَرَوْنَ} كلام مبتدأ من جهة الله تعالى، وفي فحواه دلالة أن داعي الله يجاب لا محالة، إما بقضاء الحاجة أو ما هو خير منه. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} وفاندة الفتنة العظيمة تفرد هارون -عليه السلام- بالدعوة وبكونه حجة علي بني إسرائيل وكونهم محجوجين في مقابلته وجره على سبيل إطلاقه ولا يبالي الله تعالى أن يهلك نحلة لتتشبع قملة أو نملة فكيف يفتنه قوم من الأشقياء إلا كرام بني الأنبياء (¬4). قوله {لَا مِسَاسَ} عقوبته الدنياوية (¬5) يحتمل أنها كانت على سبيل الإلجاء، على سبيل الهذيان، ويحتمل أنها كانت على سبيل التكليف والتعبد وقيل: إن ولد السامري بالشام لا يخالطون أحدًا {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ (¬6)} يعني الموت أو القيامة وهو الوعيد العقباوي فيه نوع من الإرجاء لكونه مبهمًا {ظَلْتَ} أي ظللت وهو تخفيف غير قياسي مثاله: ¬

_ (¬1) ذكره دون نسبة لأحد القرطبي (11/ 211) وعزاه في زاد المسير (5/ 315) لابن عباس. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ذكره صاحب "الدر المنثور" (10/ 234) وعزاه لابن عباس. (¬4) في الأصل: (بني إسرائيل). (¬5) في الأصل: (ربه) وهو خطأ. (¬6) (لن تخلفه) ليست في "أ" "ب".

حللت في بني فلان وحلت، وهممت بفلان وهمت (¬1)، وأحسنت فلانًا وحسنت {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بالنار، والنار تحرق الشيء المنطبع بتكرار اتقادها عليه {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} لنُذَرَّيَنَّهُ. {خَالِدِينَ فِيهِ} أي في العذاب أو في وبال وزنهم {حِمْلًا} اسم لما يحمل. {زُرْقًا} اسم أزرق، والأزرق الذي في عينيه خضرة كهيئته قيل: أراد به قبح المنظر، وقيل: حدة النظر، وقيل: العمى، وقيل: شدة العطش، فإن العطشان تزرقّ عيناه من شدة العطش وحرارة الصدر. {إِنْ لَبِثْتُمْ} بالبرزخ {إِلَّا عَشْرًا} يعني عشر دقائق من ساعة (¬2) يذكرونها كدقيقة معاينة الباس ودقيقة قول أحدهم {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون: 99، 100] ودقيقة نزع الروح، وثلاث دقائق لسؤالات منكر ونكير عن الربوبية وعن النبوة وعن الدين، ودقيقة تقريع منكر ونكير، وثلاث دقائق لنفخات الصور فهذه عشر دقائق يذكرونها فيظنون أنها من ساعة واحدة، ويحتمل أنهم يذكرون دقائق أخرى سوى هذه العشر شاءها الله وقضاها، ثم يشكون في قولهم لمكان الهمدة فيقسمون على ساعة كاملة أنهم ما لبثوا غيرها، وقيل: المراد بالعشر عشر ساعات، وقيل: عشر ليال، وقيل: عشر سنين، والعشر بين هذه الأقاويل وبين قوله: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] من حيث إنهم متحيرون مترددون يومئذ لا ثبات على قول، كما أنهم يجحدون مرة ويعترفون أخرى وينطقون مرة ويخرسون أخرى. {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أحسنهم مذهبًا عندهم فيما يظنون، وقيل: إن كان المراد بالعشر ما فوق اليوم فمعناه أقربهم مذهبًا عندهم إلى قوله {الَّذِينَ ¬

_ (¬1) (وهمت) من "أ" "ي". (¬2) قوله تعالى: {إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103] ذكر ابن الجوزي أنها عشر ليال وهذا على طريق التقليل لا على وجه التحديد. [زاد المسير (3/ 175)].

أُوتُوا الْعِلْمَ} [النحل: 27] , وإن كان المراد ما دون اليوم فمعناه أبلغهم مذهبًا في وصف سرعة الانقلاب. {وَيَسْأَلُونَكَ} ابن عباس: رجال من ثقيف (¬1). {فَيَذَرُهَا} يعني الأرض {قَاعًا} ذكر أبو عبيد الهروي أن القاع المكان المستوي في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه ويستوي نباته (¬2)، وجمعه قيعان وقيعة كجيران وجيرة، ومنه قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] {صَفْصَفًا} قريب من القرقر (¬3) والسبب. {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} أراد بنفي العوج: إثبات مساحة الأقطار (¬4) وبنفي الأمت (¬5): إثبات التمدد والانتشار، و (الأمت) في اللغة: التثني فلا مزاد به حتى لا أمت فيها، وقد يكون حزرًا وتقديرًا يقال: بيننا وبين الماء ثلاثة أميال على الأمت لأن التقدير يتعلق باعتبار الآثار من الارتفاع والانحدار. {لَا عِوَجَ لَهُ} أي الله داعي اتباعهم {هَمْسًا} أنفاسًا وصوت وطء ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 176) عن ابن عباس أن رجالًا من ثقيف أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمَّد كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية. (¬2) وهو قول ابن قتيبة أيضًا نقله عن ابن الجوزي ومنه قول ضرار بن الخطاب: لتكونَنَّ بالبطاح قُرَيْشٌ ... فَقْعَةَ القاعِ في أكُفِّ الإِمَاءِ [البحر (6/ 270)، زاد المسير (3/ 176)]. (¬3) قال الفراء: الصفصف الأملس الذي لا نبات فيه. وكذا قال الكلبي والقرطبي وغيرهم، وأنشد سيبويه قول الأعشى: وكَمْ دون بيتكَ من صَفْصَفٍ ... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وأَعْقَادِهَا [معاني القرآن للفراء (2/ 191)، تفسير القرطبي (11/ 246)]. (¬4) قال الطبري: المراد بالعوج الميل وذلك هو المعروف في كلام العرب، والمعنى: ليس فيها أودية وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على استقامة، وأما الأمت: فإنه عند العرب الانثناء والضعف ومنه قول الراجز العجاج: ما في انجذابِ سَيْرِهِ مِن أَمْتِ [الطبري (16/ 166)]. (¬5) في "أ": (الأست).

الأقدام (¬1). قال أبو الهيثم: يعني ما أسررته وأخفيته (¬2) {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} [طه: 103]. {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} خضعت وذلت، ومنه الحديث: "استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان" (¬3) {وَقَدْ خَابَ} أيس. {هَضْمًا} كسرًا وقسرًا، واتصال قوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} بما قبلها من حيث الوعد والوعيد لهم {ذِكْرًا} وعظًا وتذكيرًا. {فَتَعَالَى اللَّهُ} تبرأ عن الظلم والهضم {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} تفسيره قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} [القيامة: 16] كان رسول الله - عليه السلام - (¬4) إذا تلقف من جبريل تلفظ ولم ينتظر فراغه ولم ينصت فنهي عن ذلك وذلك لتوفر حرصه وخوف زيادته ونقصانه (¬5) {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أمر به ليعترف بنقص العبودية ويتعرض لنفحات الربوبية. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} يعني قوله {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]، {فَنَسِيَ} قال ابن عباس: ترك (¬6) {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} قال قتادة (¬7): صبرًا، وعن عطية العوفي: حفظًا (¬8)، وقيل: جدًا. واختلف في آدم -عليه السلام- (¬9) هل ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة والحسن وقتادة، رواه الطبري عنهم في تفسيره (16/ 168). (¬2) القرطبي (12/ 133). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] (4/ 161). ومسلم في صحيحه, باب الوصية بالنساء من كتاب الرضاع (2/ 1090). (¬4) في "ي": (السلام) غير موجودة، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) عزاه صاحب الدر (10/ 245) لابن أبي حاتم عن السدي. (¬6) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 182)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (9/ 309) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) أخرجه الطبري عنه في تفسيره (16/ 182)، والبغوي في الجعديات (1006). (¬8) أخرجه الطبري عنه في تفسيره (16/ 184). (¬9) (السلام) ليست في "ي".

هو من أولي العزم، فمن قال: هو منهم فعلى تأويلين؛ إما أن عزمه المنفي عنه على المعصية أي ألمّ بها غير مستحل ولا مصرّ، وإما أنه إن لم يكن ذا عزم في عهده الأول كان ذا عزم في عهده الثاني وهو قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38]، {فَتَشْقَى} وُحِّد لنظم رؤوس الآي، ولأن الرجل هو المختص بشقوة الرعاية والكسب. وأراد بقوله: {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} نفي اعوزاز الشراب {وَلَا تَضْحَى} نفي زوال الظل. {لَا يَبْلَى} لايفنى. {فَغَوَى} فجهل (¬1). وعن عطاء بن السائب (¬2) قال: من قرأ القرآن فاتبع فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك بأن الله يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}. {ضَنْكًا} (¬3) ضيقًا وشدة، والمراد به عذاب القبر {وَنَحْشُرُهُ} قيل: نبعثه، وقيل: نسوقه إلى النار. {وَقَدْ كُنْتُ} أي في الدنيا، وقيل: في الموقف. {فَنَسِيتَهَا} أعرضت وأهنتها. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} ويحتمل أن الآية الأولى في المرتدين وهذه ¬

_ (¬1) حكاه القرطبي في تفسيره (11/ 257) وقال: معناه جهل موضع رشده أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها. (¬2) لم نجده عن عطاء بن السائب بهذا اللفظ ولكن الذي نقله ابن الجوزي عنه في تفسيره (3/ 180) بلفظ أعرض عن موعظتي عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتبعه. لكن ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قريبًا منه ولفظه: تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ...} [طه: 123] الآية. أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 191). (¬3) قاله مجاهد وقتادة، أخرجه الطبري عنهما في تفسيره (26/ 193).

في أهل الحرب، أو الأولى في المشركين وهذه في أهل الكتاب، ويحتمل أنهما جميعًا في قوم واحد وإنما زيد في الوصف للتقريع ودفع التفضيل في ضنك المعيشة. {كَمْ أَهْلَكْنَا} في محل الرفع بإسناد الهداية إليه. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} معطوف على {كَلِمَةٌ} (¬1) {لَكَانَ} الهلاك أو العذاب {لِزَامًا} غير متأخر. {وَسَبِّحْ} أي صلِّ، وقال مجاهد: المراد به التطوع (¬2). و {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ} بهجتها وزينتها نصب على أنها مفعول لها (¬3) وهي في التقدير نكرة أي زهرة في الحياة أي الحياة الدنيا {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} إن وقع التفضيل على المتاع والزهرة فالمراد (¬4) بالرزق المنفعة التي لا تكون تعرض الزوال على سبيل العارية، وإن وقع على الرزق فالمراد قوله {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أي لا نطلب منك نصيبًا مما ذرأنا من الحرث والأنعام. في الآية ردّ على المشركين في البحيرة والسائبة وغيرهما، والفرق بينهما وبين العشر والزكاة والخمس والأضاحي أن منفعة هذه الأشياء راجعة إلينا لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] من خير {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ ¬

_ (¬1) وفيه وجه آخر جَوَّزَهُ الزمخشري وهو أن يكون مرفوعًا عطفًا على الضمير المستتر، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود. [الكشاف (2/ 558)]. (¬2) الذي روي عن مجاهد أن المراد بهذه الصلاة هي صلاة العشاء نقله ابن الجوزي عنه في تفسيره (3/ 182). (¬3) أي أنه مفعول ثانٍ لأنه ضُمِّنَ متعنا معنى أعطينا و"أزواجًا" مفعول أول. ويجوز أن يكون "زهرة" بدلًا من "أزواجًا"، وَجَوَّزَ بعضهم أن ينتصب على الحال كما جَوَّزَ الزمخشري نصبه على الذم وهو النصب على الاختصاص. وذهب الفراء إلى جواز النصب على التمييز. [الكشاف (2/ 559)، الإملاء (2/ 129)، معانى القرآن للفراء (2/ 196)]. (¬4) في "ب": (والمراد).

لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] وكان اعتقاد المشركين يجعلونه نصيب الله ونصيب شركائهم خلاف هذا بآية ملجئة التي لا ليس فيها من ربه. {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ} بيان يوجب العلم الضروري بأدنى اجتهاد وهو تفسير الكتب المتقدمة وتصديقها وموافقتها في أصول الدين وقصص الماضين وكثير من الفروع {مَا فِي الصُّحُفِ} جمع صحيفة وهي كل رقعة عريضة مكتوبة أو مهيأة للكتابة. {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا} فهذه حجة باطلة رفعها لهم بإرسال الرسل لتأكيد الإلزام. وقوله: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} جواب كلام سابق منهم كقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]. ***

سورة الأنبياء

سُورَةُ الأَنْبِياءِ مكية (¬1)، وهي مائة وإحدى عشرة آية في عدد أهل الكوفة (¬2)، والله أعلم. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ} مضى في أول "النحل". {مُحْدَثٍ} حديث (¬3) {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} وكان استماعهم على سبيل التعنت والإنكار لا التثبت والاعتبار {وَهُمْ} الواو للحال. {لَاهِيَةً} نصب على الحال (¬4) {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في محل الرفع (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: "البيان في عدِّ آي القرآن" (187). (¬2) في "البيان في عدِّ آي القرآن" (187) أن هذا عد البقية أما عدّ أهل الكوفة فهو مائة واثنتي عشرة آية. (¬3) في "أ": (حدث). (¬4) أي أنها حال ثانية فتكون الحالان مترادفتين كما قاله الزمخشري، فقوله: "وهم يلعبون" هي الحال الأولى، و"لاهية قلوبهم" الحال الثانية، وفيه تقديم الحال غير الصريحة على الحال الصريحة. [الكشاف (2/ 562)]. (¬5) محل الرفع في "الذين ظلموا" بأن تكون بدلًا من واو "أَسَرُّوا"، وعزاه ابن عطية لسيبويه. والوجه الثاني للرفع: بأن تكون فاعلا والواو علامة جمع دلت على جمع الفاعل وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة. =

والتقدير فيه كما في قوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] في "المائدة" {هَلْ هَذَا} بيان نجواهم {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} إنكار بعضهم على بعض مخافة أن ينجع الكلام في قلوبهم. في قوله: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ} تنبيه على إدراك سرّهم ونجواهم أن يقولوا ما لا يرضاه في الابتداء للإضراب عن الكلام الأول والإقبال على الثاني وهو من جهة الله، و {بَلْ} الثاني إنما هو حكايته قول الكفار، وإنما قالوا على سبيل استدراك الغلط والتردد في الحكم وقالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} لتوهمهم أن تلك الآيات كانت ملجئة ضرورية، فأخبر الله تعالى أن الجحود في مقابلة تلك الآيات كان محكيًا كالجحود في مقابلة آيات رسل الله. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي} في إنكارهم أن يكون الرسول بشرًا مثلهم. وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا} في قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] وقوله: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]. وفي قوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} الآية تهديد للكافرين وبشارة للمؤمنين، وقد صدق الله لنبينا وعده فنصر (¬1) عبده وهزم الأحزاب وحده وأنجاه مع صاحبه ثاني اثنين إذ هما في الغار وأهلك صناديد قريش. بعد ذلك روي أنه -عليه السلام- (¬2) قبل فتح خيبر وفدك وقبل استقرار أمره ¬

_ = والوجه الثالث للرفع: بأن تكون "الذين" مبتدأ و"أسروا" جملة خبرية قُدِّمَتْ على المبتدأ وُيعْزَى هذا القول للكسائي. والوجه الرابع للرفع: أن تكون "الذين" مرفوعة بفعل مقدر التقدير: يقول الذين، واختاره النحاس. [الكتاب (1/ 236)، البحر (6/ 296)، إعراب القرآن للنحاس (2/ 366)]. (¬1) في "أ" "ي": (فيصير). (¬2) (السلام) ليست في "ي".

انتخب من وجوه العرب الذين أسلموا سبعة نفر؛ منهم حاطب بن أبي بلتعة، وشجاع بن وهب الأسدي، وسليك بن عامر العامريّ، والعلاء بن الحضرمي، وعمرو بن أمية الضمري، ودحية بن خليفة الكلبي، وحذافة السهمي (¬1) وقال لهم: "إني مرسلكم إلى ملوك الأرض فأنتم مني بمنزلة الحواريين من عيسى -عليه السلام- (¬2) " ثم أرسل حاطباً إلى المقوقس ملك القبط، وبعث شجاعاً إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام من (¬3) تحت يد قيصر، وأرسل سليكاً إلى هودة بن خليفة ملك تهامة، وأرسل العلاء إلى المنذر بن امرئ القيس ملك البحرين، وبعث عمرواً إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث دحية إلى قيصر ثم إلى ملك عُمان، وأرسل حذافة إلى كسرى أبرويز الجبار ملك الفرس. وكانت نسخ كتبه -عليه السلام- (¬4) إلى هؤلاء متقاربة، وكان المنافقون يتعجبون منه ويقولون: كيف يكاتب الملوك قاطبة ويستشهر سيوفهم على نفسه ولم يثبت له قدم بعد. فأما المقوقس ملك القبط فأحسن الإجابة وأهدى إليه هدايا فاخرة من الكسوة والجواري والغلمان والمراكب، ويقال: إنه أسعد بالإيمان والإِسلام، وأما ملوك الشام وتهامة والبحرين وعُمان فاستحوذ عليهم الشيطان وزين لهم العصيان، وأما النجاشي فشهد الشهادتين وخطب لرسول الله (¬5) أم حبيبة بنت أبي سفيان بوكالة من جهته -عليه السلام- (4)، وردّ إليه جعفر بن أبي طالب عزيزاً مكرماً مع سائر المهاجرين إليه في الهجرة الأولى فرجعوا شاكرين، وأرسل ابنه في عشرين نقيباً من خواصه فغرقت بهم السفينة في البحر، ثم إنه مات على الشهادة وصلَّى عليه رسول الله. ¬

_ (¬1) (وحذافة السهمي) ليست في الأصل. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (من) ليست في "أ". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب" لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأما قيصر فذكر الزهريّ أنه بلغه كتاب رسول الله من جهة عظيم حنوي وذلك أن دحية دفعه إليه ليوصله إلى قيصر ففتح الكتاب فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمَّد رسول الله إلى عظيم الروم، سلام على من أَتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله الأجر (¬1) مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين وأهل الكتاب" ارتفعت عنده الأصوات وكثر اللغط وقاموا عن مجلسهم، ثم دعا هرقل عظماءهم (¬2) وهم بعد ذلك وقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد أخو الأبد وأن يثبت لكم ملككم، قال: فحاصوا حيصة الحمر (¬3) الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فقال هرقل: عليّ بهم، فرجعوا إليه فألان لهم القول وألطف لهم وقال: إنما اختبرت شدتكم على دينكم فقد رأيت الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه، قيل: لما بلغ رسول الله خبره قال: "ضنّ الخبيث بملكه". أما كسرى فذكر أنه لما بلغه الكتاب أمر أن يُفتح ويُقرأ عليه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من أَتبع الهدى وآمن بالله واليوم الآخر وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أدعوك إلى الله، فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس والسلام". فلما قرئ عليه الكتاب ورم أنفه وامتلأ غيظًا فأطرق على سريره مختنقًا يخنقه منتفخة أوداجه يرصد فتنة في جماليقه ساعة طويلة، ثم رفع رأسه وقال: ليس هذا بأول عبد اجترأ على ربه وسيده، وإنما قال هذه المقالة لاستيلائه على اليمن دار مملكة (¬4) العرب، ولسجود النعمان بن المنذر ملك الحيرة بين يديه، ولاعتقاده أنه ملك الملوك والأقاليم كلها وأنه أخذ مكان الأرض، ¬

_ (¬1) في "ب": (أجرك). (¬2) في الأصل و"أ": (عضماء). (¬3) في "ب": (حمر). (¬4) في "أ" "ي": (مملكته).

فاغترّ بسلطانه وعلوه وأصر على طغيانه واغترَّ، وأمر كاتبه بأن يكتب إلى مرزبان اليمن، والمرزبان بلغتهم الوالي واسمه باذان مهربيداد؛ أن عبدًا لي بالحجاز اسمه محمَّد كتب إليّ يأمرني أن أترك ديني وأتبع دينه، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إليه رجلين جلدين ممن معك ليأتيانا به مربوطًا مشدودًا، فإن أبى فليأتنا في رأسه. وأمران يكتب إلى رسول الله أن اشخص إلينا لننظر في (¬1) أمرك. فرجع حذافة إلى رسول الله (¬2) وأخبره بالقصة، وذكر أنه أمر بالكتاب وكان من أديم أن يمزق ويرقع به دلو البئر فقال -عليه السلام-: "إنما مزق ملكه". ثم إن باذان لما بلغه كتاب صاحبه بعث إلى النبي -عليه السلام- (¬3) شخصين من قواده وكانا رجلين عاقلين اسم أحدهما بابويه واسم الآخر خورخسرة وأمرهما أن يحذراه سطوة ملك الملوك لئلا يشغل بالممانعة (¬4). فأتيا رسول الله وأَدَّيَا الرسالة فأمر -عليه السلام- بإنزال الرسولين وإكرامهما ثم دعاهما بالغد وقال: "إن ربى قتل ربكما الليلة" فسألاه (¬5) شرح القصة فقال: "قد سلط الله عليه ابنْه شيرويه فقتله" وذلك لسبع ساعات مضت من الليل، وقيل: وكانت تلك الليلة (¬6) ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى. قال: فدهشا وسقط في أيديهما ثم قال لهما رسول الله (¬7): "انصرفا إلى باذان فاعلماه هذا وقولا له: إن أسلمت قررنك على ولايتك" وخلع على بابويه بردةً فاخرة وأعطى خورخسرة مِنْطقة أهداها إليه المقوقس، فرجعا إليه وأخبرا باذان بالقصة، وقال بابويه: ما ¬

_ (¬1) (في) ليست في "ب"أ". (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في الأصل: (بالمرافقة). (¬5) في الأصل: (فسألا). (¬6) (الليلة) ليست في "أ". (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

هبت شيئًا من الخلق هيبة هذا الرجل، فلم يثبت باذان إلا قليلًا أن بلغه كتاب شيرويه يخبره بالخبر ويوعز (¬1) إليه أن لا يتعرض لرسول الله إلى أن يأتيه مال (¬2) جديد. وكما كاتب رسول الله هؤلاء الملوك كاتب ملوك الهند والصين. {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال مجاهد: حديثكم (¬3)، وقيل: تذكيركم وذكراكم (¬4)، وقيل: صيرورتكم مذكورين في الغابرين، فإنه لولا القرآن لم يذكروا بخير ولا شر في الأمم في أقطار الأرض وبهذا فسر بشرفكم. {قَصَمْنَا} أهلكنا، و (القصم): أن ينكسر الشيء فيبين، ومنه يقال: انقصمت الثنية. {يَرْكُضُونَ} يعدون ويسيرون هربًا. وليس هذا بوصف قرية واحدة لقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} ولكن ابن عباس ذكر خبرًا موافقًا لهذا الوصف. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إن قرية من قرى اليمن يقال له حَضُورًا أرسل إليهم فكذبوه ثم قتلوه، فسلّط الله بُخْتُنضَر عبدًا من عباده ومعه جنود (¬5) فقيل له (¬6): اغزُ أرضًا يقال لها عربايا (¬7) -يعني العرب الذين ليست لبيوتهم أبواب ولا أغلاق- فلا تدع في أرضهم شيئًا ممن (¬8) له روح من طير وسبع ولا غيره إلا قتلته. فغزاهم بالجنود، ¬

_ (¬1) في الأصل و"ي": (ويوزع). (¬2) في "ب" "ي": (مثال). (¬3) عزاه صاحب "الدر المنثور" (10/ 272) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) في "ب" "ي": (وذكيركم). (¬5) في "ب": (ومع جنوده)، وفي "ي": (ومع جنود). (¬6) (له) ليست في الأصل. (¬7) في "أ!: (كربايا). (¬8) (ممن) ليست في "أ"، وفي "ب": (ومن).

فلما بلغهم مسير بختنصر وأصحابه خرجوا إليه فكتبوا له الكتائب، فقاتلهم قتالًا شديدًا حتى حوّلوه عن منزله، ثم كتب الكتائب فأتوهم من بين أيديهم ومن خلفهم فهزمهم الله، وأتبعهم بختنصر بالجنود ليقتلهم فمروا على دورهم منهزمين وفيها أهلوهم وذراريهم فلم يلووا على شيء من أمرهم، فردتهم الملائكة إلى دورهم فرجعوا إليها، ودخل عليهم بختنصر وأصحابه فجعلوا يقتلونهم وهم يقولون: يا لثارات فلان يا لثارات فلان ولا يسمون النبي الذي قتلوه، فلما رأوا أن الصواب لا يسكت عنهم وهم يقتلونهم عرفوا أن الله هو سلطهم عليهم بقتلهم النبي الذي بعثه إليهم فقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بقتل النبي. يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1): {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ} يعني الكلمة {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} فلم يبق منهم عين تطرف ولا من ذكر وأنثى ولا صغير ولا كبير ولا دابة ولا طير. وذكر شيخنا أن اسم هذا النبي وْيغَمْ وذكر ابن الخُرداد أن اسمه شعيب بن مهدم (¬2) بن أبي مهدم بن حضور، قال: وحضور بأن من حمير قال: فلما قتلوه أوحى الله تعالى إلى نبي اسمه برخيا من سبط يهود ابن يعقوب -عليه السلام- أن أثبت بختنصر فمره أن يغزو العرب الذي لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، فتقتل مقاتلتهم وتستبح أموالهم، فأقبل (¬3) برخي ابن حمران إلى بابل فأخبر بختنصر الخبر، فتوجه لذلك فأنزل من يلق مستأمنًا ... الأبيات، ثم أتاهم بختنصر وهتف بهم هاتف (¬4): سيغلب قوم غالبوا الله جهرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذلك يضل الله من كان قلبه ... مريضًا ومن وإلى النفاق والحسدا ¬

_ (¬1) قريبًا منه عن ابن وهب عند ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (10/ 275). (¬2) ذكر شعيب بن مهدم في "فتح القدير" (5733)، وتاريخ ابن خلدون (2/ 356). وذكر في بعض المصادر (شعيب بن ذي مهدم). (¬3) من قوله (برخيا) إلى هنا ليست في "ب". (¬4) في "أ" "ب" كتب بعد كلمة (هاتف): (شعر).

وهربوا يركضون فحصروا أجمعين، وقوله: {حَصِيدًا} أي شيئًا حصيدًا، والخمود الخمود والانطفاء (¬1). {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} اتصالها من حيث ذكر الوبال ينافي العبث والخبال. {أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال ابن عباس: ولدًا بلغة حضرموت، وقيل: صاحبة (¬2)، {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} يعني الملأ الأعلى وهم الذين لا يستكبرون عن عبادته، وإنما وصفهم بأنهم عنده لائتمارهم (¬3) بأمره واتخاذهم ذكره ودوام مراقبتهم إياه مخلصين له الدين، قاهرين بإذنه الملحدين، بخلاف الأرواح الخبيثة الملابسة للأصنام والطواغيت، يدلُّ عليه قوله: {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4]. ووجه الإنكار على اليهود والنصارى والمجوس ظاهر وعلي بني مليح من حيث إنهم كانوا يسمون الملائكة ويصفون الشياطين فكان قولهم في الحقيقة عائدًا إلى الشياطين دون الملائكة. {فَيَدْمَغُهُ} فيهلكه، والدمغ إصابة الدماغ، ووصف على رسول الله فقال: دامغ جيشات الأباطيل (¬4). {يَسْتَحْسِرُونَ} يسخرون وهو الإعياء والانقطاع. {لَا يَفْتُرُونَ} لا يضعفون ولا يملون. {أَمِ} بمعنى ألف الاستفهام (¬5) {يُنْشِرُونَ} يخلقون، وهذه قريبة من ¬

_ (¬1) الخمود هو خمود النار إذا طُفِئَت كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري عنه في تفسيره (16/ 237). (¬2) ورد عن الحسن وقتادة أن ذلك لغة أهل اليمن، وانظر: الدر المنثور (10/ 276 - 277). (¬3) في "ب": (لا يتماره). (¬4) ذكر ابن كثير هذا الوصف من قول علي بن أبي طالب، وكذا ابن عساكر كما في مختصره (1/ 308). (¬5) هذه "أم" المنقطعة يقدرها بعض النحويين بـ "بل" التي للإضراب الانتقالي، وبالهمزة التي معناها الإنكار.

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] الآية، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} دليل على صحة قياس العكس على وحدانية الله تعالى. وقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} دليل على أنه لا علة لفعل (¬1) الله تعالى وأنه غير داخل (¬2) تحت حكم ولا مفضٍ إلى ظلم أي شيء فعل لعلمه الغيوب وسعة العيوب. {بُرْهَانَكُمْ} أي الوحي المنزل بالإذن واتخاذ الشركاء في نحو قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج: 71]. {هَذَا} يعني القرآن {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} من المؤمنين واليهود والنصارى وعيسى والخضر وإلياس {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الرسل الماضين وأتباعهم الذين قصهم الله تعالى في القرآن. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إخبار عن عامة الرسل على طريق الإجمال. {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} غاية الإخبات والإنصات وترك الافتيات. {لِمَنِ ارْتَضَى} أي من ارتضاه الله أن يشفعوا له هم الذين خلقهم الله، لذلك فإنه يقول -عَزَّ وَجَلَّ- مخبرًا عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] {مِنْ خَشْيَتِهِ} من مهابته (¬3) {مُشْفِقُونَ} خائفون. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ} الآية، فائدة الوعيد تفخيم الأمر وتعظيم الشأن، وقد ذكرنا أن الوعيد إيجاب حكم معلق بشرط موهوم، وعن الضحاك (¬4) وغيره: أن إبليس كان فيهم فارتكب الشرط المشروط فوجب عليه الحد. {كَانَتَا رَتْقًا} يمسك المطر والنبات، و (الرتَق) بفتح التاء: الانغلاق ¬

_ (¬1) في "ب": (لقول). (¬2) (داخل) ليست في "أ" "ب". (¬3) في "ب" "ي": (مهايته). (¬4) عزاه لابن أبي حاتم السيوطي في الدر المنثور (10/ 284).

والانطباق، ومنه المرأة الرتقاء (¬1)، و (الرتْق) بسكون التاء: متعد، ومنه يقال: فاتق راتق، وعن أبي صالح الحنفي أن السموات كن واحدة والأرضين كن واحدة في ابتداء الخلق ثم جعل الله كل واحدة منهم سبعة أطباق (¬2). {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} قال الكلبي: كل شيء حي أنبتته الأرض، وقال الكلبي أيضًا: بقاء النبات وحياته هي من الماء، وقال أبو العالية: المراد بالماء النطفة، والخلق (¬3) قتادة والضحاك، وهو ظاهر الآية (¬4). {فِجَاجًا} جمع فجّ، والفج: الفرجة من جبلين، وتفاجت الناقة: إذا فرجت رجليها للتبول والحلب. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} قال الكلبي والفراء: الفلك موج مكفوف (¬5)، وقال أبو عبيد الهروي: الفلك في اللغة موج البحر إذا جاء وذهب واضطرب (¬6)، وهذا يقتضي أن الفلك ذلك واحد وكل يسبحون فيه، وقيل: الفلك الشيء المسندير ومنه سميت القطعة المستديرة من الأرض فلكًا، وهذا يحتمل ما ذكرنا ويحتمل أن كل واحد في ذلك على حدة وكل يسبحون، وهذا قول المنجمة والفلاسفة، وزعموا أن الأفلاك الدائرة ¬

_ (¬1) الرَّتْقُ في اللغة: الانضمام، ارْتَتَقَ حَلْقُهُ أي انضم، وامرأة رتقاء أي مُنْسَدَّة الفرج فلا يمكن جماعها، والفتق: فصل ذلك المرتتق. ومعنى الآية كما قال ابن عباس: كانتا ملتصقتين ففتقهما الله فرفع السماوات ووضع الأرض وفتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. [الطبري (16/ 256 - 257)، اللسان (رتق)، البحر (6/ 309)]. (¬2) أبو الشيخ في "العظمة" (543)، وعزاه السيوطي كذلك لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) البيهقي في "الأسماء والصفات" (826)، ونقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 189). (¬4) الذي عن قتادة أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 260)، ولفظه: كل شيء حي خلق من الماء. (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره (11/ 251) دون نسبة لأحد، وهو عند الفراء في معانيه (2/ 201). (¬6) غريب الحديث (4/ 97).

بالنجوم سبعة وأنها لطيفة لا تشاهد ولكن يستدل عليها بالكواكب السيارة، ومع كل فلك من هذه الأفلاك سوى فلك الشمس ذلك آخر مائل عن ذلك الشمس هي علة عدم الكسوف في كل شهر، وعلة رجوع الخمسة عن سيرها المستقيم (¬1) تجاه ذلك البروج، وفي ذلك الحق المعصومي "بفصول الفرغاني من مقالة أبي الريحان" (¬2) أما على التحقيق والتحصيل إذا أتيا الحكم بالتفصيل، فإن ما يجري من الكواكب يقطع البروج في المسارب هي النجوم الثاقبات الثابتة والشمس أيضًا معها (¬3) مسامتها هذه، فأما الخمسة السيارة والقمر المدار فإنها تجري على أقطاب من قطبي (¬4) البروج في اقتراب وميلها، أما الشيخص القمر منه فميل واحد من القدر، وما يختص الخمسة المذكورة مختلف ألوانها تعيي من استفرغ فيها جهده إلا أنها من حركات. قال - رضي الله عنه -: وهذا اعتراف منه بالعجز عن إدراك كيفية حركات النجوم كلها في أفلاكها، وفوق هذه (¬5) الأفلاك السبعة فلكان آخران أحدهما فلك البروج والكواكب الثابتة وهو لطيف لا يشاهد ولكن يستدل عليه بالكواكب الثابتة (¬6)، زعموا أن هذه الكواكب الثابتة تزول عن مواضعها وأن هذا الفلك يدور دور هذه السبعة من نحو المغرب إلى المشرق (¬7)، إلا أن سيره بطيء لا يقطع في مائة سنة إلا جزءًا واحدًا من ثلثمائة وستين جزءًا في رأي بطليموس، وقال أصحاب الأرصاد: لا يقطع في ستة وستين سنة إلا جزءًا واحدًا من ثلثمائة وستين جزءًا من أجزاء الفلك الأعظم، والآخر ¬

_ (¬1) في "ب": (الخمسة) بدل (المستقيم). (¬2) يشير إلى كتاب في الفلك ألّفه الفلكي المعروف أبو الريحان محمَّد بن أحمد البيروني الخوارزمي المتوفى بعد سنة 430 هـ وله كتاب "تهذيب فصول الفرغاني". (¬3) في الأصل و"أ": (مها). (¬4) في "أ" "ب": (قطع). (¬5) في الأصل: (وفوق هذا يسبحون الأفلاك). (¬6) (الثابتة) ليست في الأصل. (¬7) في الأصل: (المشرق إلى المغرب).

فلك الأقطاب وهو كالصد للفلك الأعظم المستقيم المحوط المكور لسائر الأفلاك من نحو المشرق إلى المغرب، وهذا الفلك الأعظم لطيف لا يشاهد ولكن يستدل عليه بالمجرة أو تسيير الطوالع والغوارب من نحو المشرق إلى المغرب على أدبارها. ثم اختلفوا فيما بينهم فزعم بعضهم أن الأفلاك السبعة في السموات السبع التي أخبر الله تعالى عنهنّ أنه سواهنَّ سبع سموات، وأن ذلك البروج هو الكرسي، وأن ذلك الأعظم هو العرش، وزعم آخرون أن هذه الأفلاك التسعة بين السماء والأرض، وأن السموات فوق هذه الأفلاك التسعة، وأن هذه الأفلاك التسعة لم تكن حاجزة بيننا وبين السماء [ولا ساترة إياها للطافتها ولكن تسمى سماء كما يسمى السحاب سماء والمطر سماء] (¬1) والسقف سماء. واختلفوا في ماهية هذه الأفلاك فزعم أفلاطون وأصحابه أن السماء متركبة من الطبائع الأربع، وزعم قوم منهم أن السماء نار، وزعم قوم أنها مركب من نار وريح، يعنون كلهم بالسماء الفلك، وزعم أرسطاطاليس وأصحابه أن السماء جرم خامس ليس من الطبائع الأربع فإنها لو كانت نارًا أو ريحًا لعلت، ولو كانت أرضًا أو ماء لهبطت (¬2)، وأجمعوا أنها متناهية محدودة والله أعلم بالحقيقة، {يَسْبَحُونَ} يجرون ويطردون. {كُلُّ نَفْسٍ} أراد مادة التنفيس وهي نسمة كالنسيم، وهي خلاصة الجسد ومركب الروح {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} كقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26] أراد حيوانات السماء والأرض، واختلفوا في حيوانات الجنة والنار قيل: خلقهما الله تعالى للبقاء فلا يتناولهما حكم الفناء، وقيل: لا بد لهم من سبات أو وفاة قبل يوم {آلِهَتَكُمْ} بالذم والعيب والسوء والشتم. {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} وهم يكفرون كفرهم: إنكارهم تسمية الرحمن ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: (هبطت).

وأنه هو الذي يذكر آلهتهم بالسوء، ويحتمل أنها في معنى قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنعام: 81]. {مِنْ عَجَلٍ} من طين إنما غير للتجنيس اللفظي، وقيل: هو مجاز كما يقال: خلق فلان من الرفق والحكمة وفلان من الخرق والطيش، وهذه حروف مؤخرة بما بعدها في التقدير مقدمة في التلاوة {تَأْتِيهِمْ} عائدة إلى الآيات في قوله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي}. {يَكْلَؤُكُمْ} يحفظكم ويحرسكم (¬1) {بَلْ} للإضراب. {يُصْحَبُونَ} يحفظون، من قولك: صحبك الله أي حفظك، وقال المازني: هو من الإصحاب وهو المنع (¬2). {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أراد أحد أشياء ثلاثة (¬3): إما التنبيه على قساوة القلب باعتياد الكفر والإنكار فإن طول العمر على عادة واحدة مما يؤكد العادة، وإما التنبيه على بلوغهم نهاية الأجل فإن الشيء إذا طال بلغ نهايته، وإذا بلغ نهايته انقضى {نَفْحَةٌ} فورة من الخير والشر، ونفح الريح بردها، ونفح العرق إذا نعر، ونفحت: أراد أن الجارية بالمسك وفلان نفاح بالخير. {الْقِسْطَ} صفة الموازين (¬4) {خَرْدَلٍ} حبّ في حجم بزر قطونا في غاية الحرافة يتغرغر به من في دماغه فضل رطوبة. ¬

_ (¬1) قاله الطبري في تفسيره (16/ 278)، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة، ومنه قول ابن هرمة: إنَّ سُلَيْمَى واللهُ يكلؤها ... ضَنَّتْ بشيء ما كان يَرْزَؤُهَا [ديوان ابن هرمة (ص 55)]. (¬2) الإصحاب بمعنى المنع مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 192). (¬3) في الأصل: (أراد حد شيئًا ثلاثمائة). (¬4) يرد إشكال هنا وهو أن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والجمع، فلماذا أفرد النعت هنا والمنعوت جمعًا. فالجواب أنه في الأصل مصدر والمصدر يُوَحَّد مطلقًا كما يجوز في "القسط" أن تكون مفعولًا لأجله وإن كان معرفًا بأل، ومنه قول الشاعر: لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ ... ولو تَوالَتْ زُمَرُ الأعداءِ

والمراد به القلم على ما يتعارفه الناس مؤنسًا ونورًا للمتقين من أنبياء بني إسرائيل ومن سلك منها حظهم، وكان دانيال الحكيم -عليه السلام- (¬1) منهم. عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: ضرّى بختنصر أسدين وألقاهما في جب وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجا، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب فأوحى الله [إلى أرميا -عليه السلام- (1) أن اتخذ طعامًا وشرابًا لدانيال، فقال: يا رب أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق، فأوحى الله] (¬2) إليه أن اتخذ ما أمرنا فإنا سنرسل إليك من يحملك ويحمل ما أعددت، ففعل فأرسل الله إليه من حمله وحمل ما أخذ حتى وقف على رأس الجب فقال دانيال: من هذا؟ قال: أرميا، قال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: وقد ذكرني؟ قال: نعم، قال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، [والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانًا، والحمد لله الذي يجزي (¬3) بالصبر نجاة، والحمد لله الذي يكشف ضرّنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا] (¬4)، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا (¬5). {إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} من قبل موسى وهارون، وقيل: أراد تقديم الرشد على النبوة والرسالة. {التَّمَاثِيلُ} جمع، واحدها تمثيل (¬6) وتمثال، فالأول مصدر والثاني الصنم، ومثاله التمساح. عكرمة عن ابن عباس قال: كان آزر يصنع أصنامًا يبيعها يطبع عليها بطابعه، فكل صنم يوجد ليس عليه طابع آزر روي أنه ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ما بين [...] كرر في "ب" مرتين. (¬3) (يجزي) تكررت مرتين في "أ". (¬4) ما بين [...] سقط من "ب". (¬5) ذكره ابن كثير في "قصص الأنبياء" من طريق ابن أبي الدنيا (495). (¬6) (جمع واحدها تمثيل) ليست في "أ".

خلاف لما أمر به الملك وقبل عليه، فكان آزر يبعث بها فيطاف بها في الأسواق والقرى التي حولهم فيبيعون ويرجعون إليه بالأثمان، ويبعث إبراهيم فينادي بأعلى صوته: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ ويضرب رؤوسها بقراعة معه ويقول: يا لك غرورًا، ثم يأتي بها إلى النهر فينكس رؤوسها فيقول: ألا تشترين؟ ما رأيت كاليوم أمرًا أعجب! يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يدري من عبده أو كفر به، فيقول بعضهم ممن يسمع إبراهيم يقول هذا: أرأيت آزر وهو ثقة الملك على هذه الأصنام كيف يبعث بها مع هذا المجنون يقول ما يقول من إظهار عيبها! فبعضهم يقولون: مجنون، وبعضهم يقولون: ضعيف، وبعضهم يقولون: هو صاحب نمرود، قال: وبلغ نمرود كل ما يقول واسمه وحسب له ميلاده فإذا هو يكون في الشهر الذي عرف والذي (¬1) ذبح عليه الولدان وقد ذبح أكثر من ألف من الولدان، قال: فنظر إبراهيم -عليه السلام-: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 88 - 90] والسقيم عندهم المطعون، وعرف أنهم يهربون من الطاعون خوفًا من العدوى، فخرجوا من عنده هاربين. {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} عن الواقدي عن أشياخه قال: كان آلهتهم العظمى عشرة من نحاس على سرر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد أعينها أحمر لها لهب كلهب النار لكل واحد منها عينان تتوقدان في الظلمة وسائره ملبس بصفائح الذهب مكلل بالياقوت، فلما دخل عليها إبراهيم -عليه السلام- وجد عندها طعامًا كثيرًا قد وضعوه وشرابًا من خمر فأقبل عليهم {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] أي بيمينه التي حلف بها {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، ويقال: بيمينه أي بيده، وجعل يقول: ألا تأكلون؟ ألا تشربون؟ وهراق ذلك الطعام وجعل يكسرها بفأس، ثم عمد إلى أعظم العشرة الأصنام يقال له براح فعلق الفأس عليه وتركه والفأس معلقة عليه، وكان فعل إبراهيم هذا بهم وافق عيدًا لهم يخرجون إليه يقيمون (¬2) فيه ثلاثًا يعكفون، فلما ¬

_ (¬1) في "ب": (... والشهر الذي ذبح). (¬2) (يخرجون إليه يقيمون) تكررت في "ب" مرتين.

رجعوا إلى مدينتهم، وكانوا إذا دخلوا من مغيب أو خرجوا إلى مغيب سفر لم يدخل أحد بيته حتى يسجد لها، وإذا خرجوا لم يخرجوا حتى يسجدوا لها، وإذا نزل بأحدهم أمر ذهب إليها. {جُذَاذًا} قطعًا {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} (¬1) الضمير راجع إلى الأصنام، وقيل: إلى الناس (¬2). {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا} قال: لما رجعوا من عيدهم بدؤوا بها قبل بيوتهم فرأوا ما فعل بها فقال نمرود: من فعل هذا؟ قال رجل من خزان آلهتهم سمع إبراهيم عند خروجهم يقول: لأكيدن أصنامكم: سمعت {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} يقول ذلك، فأخبر الملك، فدعا إبراهيم فقال له: أرأيت إلهك هذا الذي تعبده وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته وعظمته وربوبيته التي تعظم بها على غيره ما هي صفها لي، قال إبراهيم -عليه السلام- (¬3): إن ربي يحيي ويميت، قال نمرود: فأنا أحيي وأميت ثم ذكرنا في الحديث. {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي جهارًا نهارًا {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} على إقراره، وقيل: يشهدون على الإنكار عليه (¬4) ويرتدعون (¬5) عن الإقدام على مثل صنيعه. {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله لسارة: أختي" قال: لهذا ¬

_ (¬1) في الأصل: (كبيرهم). (¬2) الأظهر أن الضمير عائد على الأصنام لأنهم موطن الذكر في هذه الآية، ولذا قال ابن عباس في هذه الآية: إلا عظيمًا لهم عظيم آلهتهم. أخرجه الطبري عنه في تفسيره (16/ 296). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (عليه) ليست في "ب". (¬5) في الأصل: (فيرتدعون).

النوع من الكذب رتبة الصدق، قال -عليه السلام- (¬1): "لا كذب في اثنتين: في إصلاح ذات البين، وفي حديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها" (¬2). {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} صرفوا بالخذلان على أدبارهم فانصرفوا عن تلاومهم إلى جدال إبراهيم -عليه السلام-، والمنكوس: المعكوس. {مَا هَؤُلَاءِ} الحجر كقوله: {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79] {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48]. {قَالُوا حَرِّقُوهُ} عن الواقدي عن شيوخه قالوا: أمر نمرود بإبراهيم إلى السجن أولًا فجلس سبع سنين، وجعل إبراهيم يدعو أهل السجن إلى الله وعبادته حتى فشا أمره وأحبّه قوم على دينه ولم يدخلوا معه، فجاء السجان إلى الملك فقال: إن الملك كان قد غضب على قوم في حبسه خالفوه فكانوا يطلبون رضاه ويأتي الملك، فدخل إبراهيم السجن (¬3) فدعاهم إلى عبادة إلهه، فقد رأيتهم قد ركنوا إلى قوله وأحبوه فأنا أخاف أن يتبعوا دينه ويتركوا دين الملك، ما يرى في السجن صنمًا إلا كسره حتى هانت عليهم موجدة الملك قالوا: ما نبالي (¬4) لو قتلنا على هذا الدين، فبلغ نمرود من ذلك ما شق عليه واغتاظ غيظًا شديدًا. وعن عكرمة عن ابن عباس: قال (¬5) نمرود لإبراهيم -عليه السلام-: يا إبراهيم (¬6) آية قتلة أقتلك وقد صنعت بآلهتنا ما صنعت؟ قال: فقال رجل من الأعراب وهم أكراد الجبل (¬7): حرّقوه بالنار، قال نمرود: أصبت (¬8) ما في نفسي، ما رأيت كلمة أشفى لما أجد من كلمتك. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) مسلم (2371). (¬3) في الأصل: (إبراهيم إلى السجن). (¬4) في "ب": (ما بالنا). (¬5) (قال) كررت في "ب". (¬6) (السلام يا إبراهيم) ليست في "أ"، (السلام) ليست في "ي". (¬7) ذكره الطبري في تاريخه (1/ 146)، وفي تفسيره (16/ 305). (¬8) (أصبت) تكررت إلا في الأصل.

وعن جابر قال: سمعت الهرمزان يحدث في عهد عمر - رضي الله عنه - قال: لما أرادوا أن يحرقوا إبراهيم -عليه السلام- (¬1) جعلوا له حيزًا خمسين في خمسين وطوله ستين (¬2) ذراعًا وعرضه عشرة أذرع وله أساس في الأرض عشرون ذراعًا، ثم نادى منادٍ بعزيمة الملك على أهل مملكته أن يحملوا أجزل الحطب فيلقوه في الحيز (¬3)، فطرحوا فيه جزل الحطب خمس عشرة (¬4) ليلة فلم يبق أحد إلا ألقى الحطب، فلما ساوى الحطب رأس الحيز وجُعل له بابان من حديد باب يدخل فيه وباب يخرج منه لحمل الحطب، فلما بني كذلك والبابان مسدودان أذاب عليهما النحاس وأوقد النار في الحطب حتى غشي اللهب المدينة وأظلم عليهم الدخان فصار كالسحاب، وسمع للنار مثل وقع الحديد على الحديد وارتفع في السماء لهبًا (¬5). فلما أرادوا يلقونه فيها صاحت السماء والأرض وما بينهما إلا الثقلين: ربنا ليس في أرضك هذه الواسعة سهلها وجبلها وبرها وبحرها أحد يعبدك غيره يُحرق بالنار، فأذن لنا في نصره، فقال تبارك وتعالى: إن دعَا أحدًا منكم فأغيثوه فإني قد أذنت لكم في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا وليّه خلوا بيني وبينه (¬6)، وأقبل إبراهيم -عليه السلام- (¬7) على الدعاء يقول: ربّ أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض، قال: فأوحى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى النار أن كوني بردًا وسلامًا، فكانت (¬8) كما قال الله تعالى. فمكث في النار سبعة أيام وبعث الله إليه ملك الظل في صورة إبراهيم ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (ستون). (¬3) في "أ": (الحيرة). (¬4) في "أ": (الحطيب خمسة عشر). (¬5) في "ب": (لهيبا). (¬6) ذكره الطبري في تاريخه (1/ 146). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) (فكانت) ليست في "ب".

فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه، ثم إن عدو الله ركب مركبًا له فمرّ بالنار وقد خبت وقد احترقت الجدر وذاب النحاس والحديد وصار الوقد والبناء رمادًا وأعاصير، وكانت الوطاويط يعني الخطاطيف يومئذ تطفئ عن إبراهيم النار، وكانت الأوزاغ تنتفخ عليه وتلهب عليه، قال أصحاب الملك: ما بقي شيء قد أراحنا الله من عدونا وأهلكه بأسوأ قتلة وشفي الملك منه وشفانا منه، وصارت النار رمادًا، فأنغض نمرود برأسه وقال: إني رأيت في المنام كأنما هذا الحيز وخرج إبراهيم من النار سليمًا (¬1) يحمد لم يُكلم وأنا طلبناه فلم تقدر لها (¬2) عليه، فانظروا فإنه سيخرج منها سليمًا لم يُكْلم، قال أصحابه: أين ذهب الملك إن الحلم ليصدق ويكذب وأظن ذلك بكذب، قال نمرود: فابنوا لي صرحًا على أشرف النار فانظر في قعرها، ففعلوا فأشرف عليها ورأى إبراهيم -عليه السلام- (¬3) جالسًا، ورأى رجلًا مثله على صورته بروح إبراهيم -عليه السلام- (3) فناداه نمرود: يا إبراهيم الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين النار هل يستطيع أن يخرجك؟ قال إبراهيم: نعم، فخرج إبراهيم فاجتمع الناس فقالوا: من الرجل الذي كان معك؟ قال: ملك الظل، وهو الذي أيدني ربي به (¬4) وأوحى الله إلى النار فقال: يا نار كوني بردًا وسلامًا فكانت عليّ كما قال. ثم خرج إبراهيم إلى أمه حتى قعد إلى جنبها وهي في المجمع, فأقبلت سارة بنت هارون وكانت أول من آمن بإبراهيم حتى جلست إلى جنبه إيمانًا به وتعجبًا لما صرف عنه وقالت: يا إبراهيم إني آمنت بالذي جعل النار عليك بردًا وسلامًا، فقال لها إبراهيم: احذري القتل على نفسك، قالت: وكيف أخاف شيئًا وقد آمنت بربّ إبراهيم، إن الذي منع إبراهيم فما تزين لقادر على أن يمنعني، قال: وقال نمرود لأصحابه: قد أخبرتكم بالرؤيا التي رأيت مع ما كنا نجد في النجوم من ذكر إبراهيم ¬

_ (¬1) في "ب": (سليمًا من النار). (¬2) (لها) ليست في "ي" "أ". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "أ": (به ربي).

وخلافة ما نعبُد أنه سيظهر، وكانت حول إبراهيم -عليه السلام- (¬1) حين خرج من النار جماعة من الناس لا يحصى عددهم فهم يأتمرون به ليجددوا له عذابًا آخر، فأرسل الله تعالى ريحًا عاصفًا فنسف رماد تلك النار عن وجه الأرض ثم ذرته في وجوههم فخرجوا هاربين مولِّين، وأرسل نمرود إلى إبراهيم -عليه السلام- (1): إني مقرب (¬2) إلى ربك قربانًا لما رأيت (¬3) من قدرته، ولما صرف عنك مما أردناه بك وصنعنا بك من أشد أصناف العذاب وأهوال القتل فاذبح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم: إذًا لا يقبل منك شيئًا ما كنت على دينك، قال نمرود: يا إبراهيم لا تطيب نفسي بفراق ملكي، ولو أن قومي تركوا ملكي في يدي لاتبعتك ولكن قومي يأبون وأنا أضنّ بملكي، ولك علي أن لا تؤذى ولا تهان، فلم يهجه يومئذ ولم يتعرض له. وعن سفيان بن عيينة قال: لما وضع إبراهيم في المنجنيق جاءه جبريل -عليه السلام- فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا ليست لي حاجة إلا إلى الله تعالى (¬4)، فأوحى الله إلى النار: لئن نلت من إبراهيم أكثر من حلّ وثاقه لأعذبنك عذابًا لا أعذبه أحدًا من خلقي. قال: (البرد) خلاف الحر ويذكر ويراد به العافية والراحة، كقولهم في الدعاء: "اللهم أذقنا برد عفوك" (¬5) قال: لو قال للنار كوني بردًا ولم يقل سلامًا لجمدت وأجمدت إبراهيمٍ -عليه السلام- (¬6)، ولو لم يقل {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لبطلت النار في الدنيا ولم تحرق شيئًا (¬7) بعد ذلك. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (تقرب). (¬3) في "ب": (رأت). (¬4) هذا ورد عن السلف كما عند ابن جرير (16/ 308). (¬5) ورد هذا في دعاء لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما في البداية والنهاية (1/ 332). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) هذا ورد عن ابن عباس وعلي - رضي الله عنهما -، كما عند أحمد في الزهد (79)، وابن جرير (16/ 307). وانظر: الدر المنثور (10/ 309).

{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} خسارتهم بقاؤهم في الضلالة وزوال ملكهم عند إنقضاء آجالهم إلى بدل سوء. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن إبراهيم لما خرج من النار سالمًا قال عمه هارون أبو لوط: إنما لم تحرقه النار لعبادتي إياها فحفظته فيَّ. ابنوا له أتونًا وأهلكوه بالدخان فإنّ الدخان (¬1) لا وفاء له ولا حفاظ، فبنوا أتونًا وأوقدوا فيه نارًا وأدخلوا فيه إبراهيم ولوطًا وسارة، فخرجت عنق من النار وأصابت لحية هارون فاحترقت بها وفتح الله طريقًا لإبراهيم ولوط وسارة فخرجوا سالمين. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} خصه لأن ولادته كانت بعد شيخوخة إبراهيم ويأس سارة فكانت آية من آيات الله تعالى، وخصَّ يعقوب لمكان نبوته وكونه إسرائيل الله {نَافِلَةً} عطية زائدة. {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} نعمتنا (¬2)، وهو مواساة إبراهيم إياه في الدنيا والجنة في العقبى. {وَنُوحًا} نصب بفعل مضمر، أي: ونجينا نوحًا (¬3) {مِنَ الْكَرْبِ} شدة الحزن، وانتصاب داود بفعل مضمر (¬4). و {نَفَشَتْ} انتشرت السائمة وأرتعت بالليل من غير راعٍ، والألف واللام في {الْقَوْمِ} للتعريف لأن القصة معروفة عند أهل الكتاب، أو للتعريض عن الإضافة أي قومهما {لِحُكْمِهِمْ} أي على حكمهم {شَاهِدِينَ} مطلعين، والضمير عائد إلى داود وسليمان وقومهما. ¬

_ (¬1) في "ب": (بالدخان لا وفاء). (¬2) في الأصل: (في نعمتنا). (¬3) ويجوز أن ينصب "نوحًا" عطفًا على "لوطًا" فيكون مشتركًا معه في عامله الذي هو "آتينا" المفسرة بـ "آتيناه" الظاهر، وكذلك داود وسليمان. [الدر المصون (7/ 183)]. (¬4) انتصاب "داود" عطفًا على "نوحًا". والتقدير: آتينا داود وسليمان حكمًا وعلمًا إذ يحكمان ...

وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} دليل على أنهما علمًا باجتهاد الرأي لا بالنص، وللنبي أن يجتهد في حادثة علم أصولها بالوحي، والهاء عائد إلى القصة. وعن ابن عباس قال: إن غنم قوم وقعت في كرم قوم ليلًا حين (¬1) خرج عنها قيده ليلًا (¬2) فأفسدتها فاختصموا [إلى] (¬3) داود ابن إيشا النبي (¬4) -عليه السلام- فَقَوَّمَ داود الغنم والكرم فكانت القيمتان سواء فدفع الغنم إلى صاحب الكرم بما أفسدت ولم يكن حمل الكرم كله، قال: فخرجوا (¬5) من عند داود -عليه السلام- (¬6) فمروا على سليمان فقال: بم قضى بينكم الملك؟ [فأخبروه فقال: نعم ما قضى به وغير هذا كان أوفق بالفريقين جميعًا، فرجع أصحاب الغنم إلى داود -عليه السلام-] (¬7) فأخبروه بما قال سليمان، فأرسل داود إلى سليمان فقال: كيف رأيت قضائي من هؤلاء؟ قال: نِعْمَ ما قضيت، قال: عزمت عليك بحق النبوة وبحق الملك وبحق الوالد على والده إلا ما أخبرتني، فقال سليمان: غير هذا كان أوفق (¬8) بالفريقين جميعًا، قال: ما هو؟ قال: يأخذ أهل الكرم الغنم بما أفسدت كرمهم فينتفعون بألبانها وسمنها وأصوافها ونسلها، ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم حتى تعود كهيئة يوم أفسدت، فقال داود -عليه السلام-: نعم ما قضيت، فقضى داود بينهم بذلك، فقوموا بعد ذلك الكرم وقوموا ما أصاب أهل الكرم من الغنم فوجدوه مثل ثمن الكرم فقضى به داود -عليه السلام- (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) (ليلًا حين) ليست في "ب" وفيه (قوم خرجت). (¬2) (ليلًا) من "ب" فقط. (¬3) (إلى) منا ليستقيم المعنى. (¬4) (النبي) ليست في الأصل. (¬5) في الأصل: (فإن خرجوا). (¬6) (السلام) من "ب". (¬7) ما بين [...] ليست في "ب"، (والسلام) ليست في "ي". (¬8) في [...]: (أو في). (¬9) (السلام) ليست في "ي لأ. (¬10) بهذا السياق لم نجده، ولكن ورد مختصرًا عن ابن عباس عند ابن جرير (16/ 322، 323).

وحكم سليمان -عليه السلام- (¬1) وهو ابن إحدى عشرة سنة. قول سليمان: غير هذا كان أوفق دليل على جواز مشاركة النبي والإمام في الاجتهاد لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقول داود -عليه السلام-: عزمت عليك، دليل على وجوب طلب "الإحسان ما أمكن، ولهذا رجع أبو حنيفة من قول إلى قول، وفي قضائه بقضاء سليمان دليل أنه كان على سبيل الفتوى ولم يبرم قضاه، أو كان من شريعته فسخ الاجتهاد، أو (¬2) أوحى الله إليه أن الحق ما قاله سليمان فصار فسخ اجتهاد بالنص، والحكم في شريعتنا على ما روى أبو هريرة عنه -عليه السلام- (1): "العجماء جبار والمعدن جبار" وفي بعض الروايات: "جرح العجماء جبار" (¬3) فيستعمل الخبرين العام على عمومه والخاص على خصوصه. {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} دليل على حسن حكم داود وإن كان حكم سليمان أحسن منه، وإن أقاويل المجتهدين كلها دين الله تعالى {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} {وَالطَّيْرَ} لمحاولة داود كان خلاف العادة فتميز لأولي الألباب بإذن الله تعالى. {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} ما يلبس كالمركوب ما يركب والسَّحُور ما يتسحر به، يعني الدرع من الحديد. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} كانت ريحه -عليه السلام- (¬4) {تَجْرِي} مدة رخاء ومدة عاصفة علي مقدار المراد مصلحة الحال، وذكروا في قوله {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] كان يقتل بأصطخر فارس ثم يروح إلى كابل ثم يرجع إلى بلاده، قالوا: وكان والي خراسان يومئذ كسرى بن ساوش ابن كيقابوس تزحزح لسليمان عن مملكة العراق وفارس حتى انتهى إلى بلخ، ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (أو) ليست في الأصل. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه, كتاب المساقاة، كتاب الديات (3/ 145)، ومسلم في صحيحه, كتاب الحدود، باب جرح العجماء (3/ 1334). (¬4) (السلام) ليست في "ي".

فنزلها ثم غاب غيبته واستخلف بهراسف، وروي أن سليمان -عليه السلام- (¬1) حج البيت على سريره تحمله الريح. {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ} إلى قعر الماء لاستخراج اللؤلؤ والياقوت ونحوهما {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} من المحاريب والتماثيل والطواحين والحمامات، وقد عملوا السيوف المعجونة السليمانية وبنوا له تدمر بالشام، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي حابسين في طاعته وسلطانه أو عاصمين من عاجل العقوبة والهلاك، ويحتمل أن الضمير عائد إلى داود وسليمان وأوليائهما. وذكر أبو الحسن أحمد بن محمَّد البلخي (¬2): أن أيوب وابن أموص بن رزاح بن عيص ابن إسحاق (¬3) وامرأته رحمة بنت إفراييم بن يوسف (¬4) وكان بالبثنية وهي أرض من ديار الشام بين دمشق ورمكة، فلبث في قومه سبع سنين يدعوهم إلى الله فلم يجبه إلا ثلاثة نفر، وكان كثير المال والولد مباركًا عليه فيهما يملك ألف رأس ثور للحراثة، مع كل رأس ثور أتان تحمل آلات الحراثة، خلف كل أتان جحشان وثلاثة، والفدادون كلهم كانوا عبيدًا له، وكان ملك من الغنم ألف ألف وكانت الرعاة عبيدًا له، وكانت أولاده عشرة من الذكور وسبعة من الإناث، وكان أعبدَ خلق الله وأشكر خلق الله في زمانه فحسده إبليس، واعتقد أن سبب عبادته وشكره هي النعمة الظاهرة فلو انتزعت منه لكفر بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأحب الله أن يبتلي عبده باستلاب النعمة الظاهرة ليحليه في حلية (¬5) البؤس والفقر كما حلاه في حلية الثروة والغنى ليظهر فساد اعتقاد عدوه، فسلطه الله على أمواله وأهله حتى أهلك الحرث والنسل شيئًا بعد شيء، ثم سلطه الله على جسده ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) لم نعثر على ترجمته. (¬3) ذكره الحاكم في مستدركه (2/ 581). (¬4) ذكرها أكثر المفسرين بهذا الاسم. (¬5) (في حلية) ليست في الأصل.

فمسه ونفخ فيه، فمن شؤمه انتفخ جسد أيوب -عليه السلام- وخرج منه الجدري، ثم تدودت قروحه بعد ذلك من داخل وخارج ولم يسلم منه إلا قلبه ولسانه ودماغه. ولبث في ذلك النبلاء سبع سنين، وكل ذلك من جهة إبليس بإذن الله تعالى وتخليته، وأيوب -عليه السلام- في كل ذلك صابر شاكر بإذن الله تعالى ولطفه وحسْن توفيقه، وكان لم يبق معه أحد من أصحابه وحَوْلَهُ إلا امرأته كانت تطوف على أبواب الناس وتسأل فبعضهم ينهرها وبعضهم يتصدّق عليها فتجيء وتنفق عليه، فتراءى لها إبليس لعنه الله في صورة آدمي شاب صبيح مليح وقال لها: أيتها المرأة أنت امرأة من أولاد الأنبياء فما بالك تحت رجل من الأشقياء قد قلاه الله وابتلاه؟ قالت: بل هو نبي الله وصنعته، لست بمؤثرة عليه أحدًا أبدًا، ثم جاءت فذكرت ذلك لأيوب، فقال أيوب: إنما ذلك الشيطان فلا تكلميه ولا تجيبيه بشيء، ثم تراءى لها بعد ذلك وكلمها مثل كلامه (¬1) الأول وأجابته بمثل جوابها الأول، وأخبرت بذلك أيوب فقال: إنما ذلك الشيطان فلا تكلميه ولا تجيبيه بشيء (¬2). ثم تراءى لها بعد ذلك وكلمها وأجابته كذلك وأخبرت بذلك أيوب فقال: أما قلت لك مرة بعد مرة أنه الشيطان لا تكلميه ولا تجيبيه، وحلف بالله تعالى أن يضربها (¬3) مائة جلدة إنْ شفاه الله تعالى (¬4). وعن ابن عباس قال: قال أيوب -عليه السلام- (¬5): كان الركض برجلي أشد علي من النبلاء الذي كنت فيه، فأتاه جبريل -عليه السلام- وقال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (بمثل كلامه). (¬2) (بشيء) ليست في "أ". (¬3) (يضربها) ليست في "أ". (¬4) أخرج هذه القصة الطبري في تفسيره (16/ 354) عن وهب بن منبه، وأشار إليها القرطبي في تفسيره (11/ 354) وهي من قبيل الإسرائيليات. (¬5) (السلام) ليست في "ي".

مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)} [ص: 42] ففعل ففجرت له عين فاغتسل منها فَصَحَّ جسده، ثم قيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)} ففعل ففجرت له عين فشرب فالتأم ما في جوفه وبرئ قدمه (¬1). قوله: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} يقول: برأنا ما به من وجع شديد في جسده {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} فكانت امرأته ولدت له سبع بنين وسبع بنات فنشروا له ما كانوا قد ماتوا في ذلك النبلاء ومثلهم معهم، فـ (ضعفهم معهم) ولدت امرأته سبع بنين وسبع بنات (¬2) {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي عظة للمتقين، وهذه الرجعة ليست بأعجب من رجعة عزير وعاميل (¬3) والسبعين والألوف. وعن أبي حذيفة - رضي الله عنه - قال: رد الله على أيوب أهله وولده من صلبه (¬4) ومثل أمور ولده. و (ذو الكفل) نبي من بني إسرائيل بعثه الله تعالى إلى ملك يقال له كنعان فدعاه إلى الإيمان وكفل له بالجنة وكتب له معه كتاب ذكر حق على الله، وآمن الملك وأوصى بأنْ يدرج ذلك الكتاب معه في طي أكفانه، ففعلوا ودفنوا الملك فرد الكتاب إلى ذي الكفل، وقيل له: إن الله يُقرئك السلام وقد وفي للملك ما كتب في ذمتك. وذكر الكلبي أنَّ إلياس -عليه السلام- (¬5) كان (¬6) في أربعمائة من الأنبياء فقتل الملك منهم ثلثمائة نبي فكفل ذو الكفل في مائة نبي فكفلهم وخبأهم عنده ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 364) عن الحسن مطولًا كما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) من قال إن المراد بقوله "ومثلهم معهم" أنهم النسل هو الحسن البصري، أخرجه عنه الطبري في تفسيره (16/ 367). وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما دعا أيوب استجاب له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، رَدَّ إليه أهله ومثله معهم. أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 366). (¬3) في الأصل و"أ": (وحاميل). (¬4) لم نجده عن أبي حذيفة بهذا اللفظ لكن يغني عنه رواية ابن عباس آنفة الذكر. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (كان) مكررة في "ب".

يطعمهم ويسقيهم حتى خرجوا من عنده، فسمي "ذو الكفل" لكفالته طعامهم وشرابهم حتى أفلتوا. وذكر الحدادي: أن اسم ذي الكفل عايوذا وكان نبيًا عند الحسن ورجلًا صالحًا كفل لنبي عبادته عند قتادة (¬1). وذا النون قال النبي -عليه السلام-: "لما بدا ليونس -عليه السلام- أن يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالكلمات حين نادى وهو في بطن الحوت فقال: اللهم {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأقبلت الدعوة تحت العرش فقال (¬2) الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف معروف من مكان غريب فقال: ما تعرفون ذلك عبدي يونس الذي لم يزل يرفع عملًا متقبلًا ودعوة مجابة قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه مِنَ النبلاء؟! فأمرت الحوت فطرحته بالعراء" (¬3). وعن سعد قال: قال النبي -عليه السلام- (¬4): "من دعا بدعاء يونس استجيب له" قال: يريد: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}. {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} (¬5) عن ابن عباس قال: بعث عيسى -عليه السلام- (4) يحيى بن زكريا -عليه السلام- (4) في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، فكان فيما يعلمونهم أن ينهوهم عن نكاح بنت (¬6) الأخت، وكان لملكهم (¬7) ابنة أخت تعجبه وكان يريد أن يتزوجها وكان لها كل يوم ¬

_ (¬1) الذي روي عن قتادة في قوله: "وذا الكفل" قال: قال أبو موسى الأشعري: لم يكن ذو الكفل نبيًا، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي فكفل بصلاته، فلذلك سمي ذا الكفل. أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 373). (¬2) في "أ": (فقالت). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (ص 12)، وابن جرير في تفسيره (628119، 629)، وابن أبي حاتم كما في "البداية والنهاية" (2/ 22، 23). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) رواه ابن جرير في تفسيره (16/ 386). (¬6) في "ب": (ابنة). (¬7) في الأصل: (يملكهم).

حاجة تقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح ابنة الأخت وقالت لها: إذا دخلت على الملك فقال: لك حاجة؟ فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا [فلما دخلت عليه فسألها حاجتها فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا] (¬1). فقال: سليني سوى هذا، قالت: ما أسألك إلا هذا، فلما أبت عليه دعا بطشت ودعا به فذبحه، فذرت قطرة من دمه على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك منهم حتى يسكن، فقتل عليه منهم سبعين ألفًا. وعن شهر بن حوشب قال: لما قتله رفع رأسه فجعلته في طشت من ذهب فأهدته إلى أمها، فجعل الرأس يتكلم في الطشت أنها لا تحل له ولا يحل لها ثلاث مرات، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرت عيني وأمنت على ملكي، فلبست درعًا من حرير وخمارًا من حرير وملحفة من حرير (¬2) ثم صعدت قصرًا لها، وكانت لها كلاب تضربها بلحوم الناس فجعلت تمشي على قصرها فبعث الله تعالى عليها ريحًا عاصفًا فلفها في ثيابها فألقتها إلى كلابها فجعلن ينهشنها وهي تنظر، وكان آخر ما أكلن منها عينها (¬3). {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} عورتها {فَنَفَخْنَا فِيهَا} قيل: إن جبريل -عليه السلام- (¬4) نفخ في جيبها (¬5)، وقيل: في كمها، وقيل: في ذيلها، وفي "التحريم": {فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] هاهنا راجع إلى العورة وهناك إلى لفظ الفرج، وقيل: التأنيث راجع إلى الولادة والتذكير إلى الولد. ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) (حرير) ليست في الأصل. (¬3) ذكره ابن عساكر في تاريخه (64/ 208)، وشهر بن حوشب ضعيف عند عامة أهل الحديث. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) وهذا الذي رجحه الطبري في تفسيره (16/ 391) وقال معناه: فنفخنا في حبيب درعها من روحنا.

{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً} وهما اثنان لأن كرامة مريم كانت معجزة ولدها كقوله: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61]. والقول مضمر في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني قوم عيسى -عليه السلام-. {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قيل: إن الله تعالى لما رفع عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وزعمت اليهود أنهم قتلوه وصلبوه وشك فيه كثير ممن اتبعه إلا نفر من الحواريين وأربعة من تلامذته والخمسة النفر ويهود ابن يعقوب، فإنهم لم يشكوا أن الله تعالى رفعه، وكان -عليه السلام- (¬1) قد أوصى إلى تلامذته أن يخرجوا دعاة إلى الله تعالى وسمى لكل رجل بلدة وقال: إذا أتى الرجل منكم (¬2) البلدة التي سميت له (¬3) فليقل: إني رسول المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، أدعوكم إلى توحيد الله وعبادته، وأن آية كل رجل منكم أن ينطق الله لسانه بلغة القوم الذين أرسل إليهم، فلما رفعه الله إليه خرج كل رجل إلى البلدة التي سُميت له داعيًا إلى توحيد الله وعبادته، وأقام بقية الحواريين والتلامذة على منهاج عيسى -عليه السلام- وشريعته حتى مات خيارهم من أولئك الرسل وغيرهم من الحواريين والتلامذة ومات أهل الدين والورع منهم، وبقي أتباع الحواريين وتلامذة التلامذة فاختلفوا وتنازعوا الرئاسة فيما بينهم وابتدع كل رجل منهم بدعة ضلال فضلوا وأضلوا. (كفران السعي) تركه بلا ثواب، كما أن كفران النعمة تركها بلا ثناء {أَنَّهُمْ} إلينا (¬4) {لَا يَرْجِعُونَ} كالترجمة للتحريم إذا التحريم في معنى القول كقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (منكم) من "ي" "ب". (¬3) (له) من "ي" "ب". (¬4) (إلينا) من "ب".

والتحريم قد يكون تحريم إلجاء، وقد يكون تحريم ابتلاء، والرجوع قد يكون توبة كقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] وقد يكون موتًا كقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وقد يكون رجعة إلى الدنيا كقوله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]. فإن كان تحريم إلجاء فجائز مع رجوع التوبة كانوا محرومين مخذولين عن التوفيق للتوبة [ومجازة مع رجوع الموت كان حرامًا عليهم في قضائنا وتقديرنا أن يخلدوا ولا يموتوا كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا] (¬1) تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] ومجازه مع الرجوع إلى الدنيا كان (¬2) حرامًا على القوى التي أهلكناها أن لا يرجعوا إلى الدنيا [كان حرامًا على القرى التي أهلكنا أن لا يرجعوا إلى الدنيا] (¬3) أي سيرجعون وهذا باطل لقوله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] الآية، والثاني: أن يكون ترجمة للتحريم، أما التحريم في معنى القول أي تحريمنا عليهم هو أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، وإن كان تحريم ابتلاء مجازه مع تحريم رجوع التوبة. كان حرامًا على القرى التي أهلكناها أن يضروا ولا يتوبوا، ومع رجوع الموت لم يمنعني الكلام إلى الدنيا لم يمنعني الكلام أيضًا. {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} يعني ردمهم. عن زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله (¬4) من نوم مخمرًا وجهه وهو يقول: "لا إله إلا الله -يرددها ثلاث مرات- ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" (¬5) وعقد عشرًا، قالت زينب: قلت: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" (¬6) ويحمل الفتح والظفر بغنائمهم وأموالهم إذا هلكوا كقولنا: فتحنا الهند ¬

_ (¬1) ما بين [...] سقطت في "ب". (¬2) (كان) من "ب" "ي". (¬3) ما بين [...] من "أ". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (مثل هذه) ليست في "ب". (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه" كتاب الفتن (7059)، ومسلم (2880).

والسند وسنفتح قسطنطينية بإذن الله (¬1) {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} مرتفع من الأرض (¬2) {يَنْسِلُونَ} يخرجون. {فَإِذَا هِيَ} كناية عن الأبصار، في محل الرفع بالابتداء، وخبرها {شَاخِصَةٌ} أبصار الذين كفروا بيان لها كقوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]، وقيل: عائدة إلى الحالة والخصلة. {حَصَبُ} ما يرمى، نقول: حصبته (¬3) بكذا، قال قتادة: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} حطب جهنم (¬4)، وقال: هو بالحبشة. {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً} يعني الشياطين والأصنام، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] مخصصة لما قبلها، وقيل: رد على المحتج بعمومها، وقيل: ناقلة للعموم عن المجاز إلى الحقيقة. وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) أتى قريشًا وهم في المسجد مجتمعون وثلثمائة وستون صنمًا مصفوفة في الحجر كل قوم بحيالهم فقال: "إنكم وما تعبدون من دون الله من هذه الأصنام في النار" ثم انصرف عنهم، فشقَّ ذلك عليهم مشقة شديدة وأتاهم عبد الله بن الزِّبَعْري السهمي وكان شاعرًا فقال: ما لي أراكم بحال لم أركم عليها قبل؟ فقالوا: إن محمدًا يزعم أنَّا وما نعبد في النار، فقال: أنا والذي جعلها بيته أن لو كنت هاهنا لخاصمته، قالوا: فهل لك أن نرسل إليه؟ فبعثوا إليه فأتاهم، فقال له عبد الله بن الزِّبَعري: أرأيت يا محمَّد ما قلت لقومك آنفًا خاص أم عام؟ ¬

_ (¬1) (الله) ليست في "ب". (¬2) روي بمعناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: من كل شرف يقبلون. والشرف: المرتفع من الأرض. أخرجه الطبري عنه في تفسيره (16/ 407). (¬3) في الأصل و"أ": (حصبة). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 412)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 30)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 339) إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬5) (وسلم) ليست في "ي".

قال: "بل عام لمن عبد من دون الله فهو وما يعبد في النار"، قال: أرأيت عيسى ابن مريم هذه النصارى تعبده، فعيسى والنصارى في النار، وهذا عزير يعبده اليهود فعزير واليهود في النار، وهذا حي من العرب يقال لهم بنو مُليح يعبدون الملائكة فالملائكة وهي في النار، وما آلهتنا خير من هؤلاء، قال: فسكت ولم يجبهم، قال ابن الزِّبَعْرِي: خصمتك ورب الكعبة. وضج أصحابه وضحكوا فقال الحارث بن قيس: حسبك يا محمَّد أي والذي جعلها بيته، فنزل قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 57، 58] يقول: هم أجدل قوم بالباطل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 58] بالباطل. ونزل في عيسى وعزير والملائكة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} فقالوا: فهلا قلت هذا إذ سألناك ولكنك تذكرت إذ خلوت. {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} الموت لأنهم مستعدون له والدنيا سجنهم، وقال الكلبي: الإطباق على النار بعد خروج المؤمنين منها وذبح الموت بين الجنة والنار في صورة كبش أملح. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} ندرجها {السِّجِلِّ} الصك يطوى، وقيل: السجل أوراق الكاتب، وعن أبي الجوزاء قال: السجل كاتب للنبي -عليه السلام- (¬1). ¬

_ (¬1) ورد عن ابن عباس عند ابن عدي في الكامل (7/ 2662)، وابن عساكر (4/ 332). وورد من طريق أبي الجوزاء عند أبي داود (2935)، والنسائي في الكبرى (11335)، وابن جرير (16/ 424)، والطبراني في الكبير (12790)، والبيهقي في السنن (10/ 126)، وابن عساكر (4/ 332) وسنده ضعيف لا يصح، بل قال ابن كثير: لا يصح، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه. وهو مروي عن ابن عمر عند أبي نعيم في "معرفة الصحابة" (3700)، والخطيب في تاريخه (8/ 175)، وابن عساكر في تاريخه (4/ 332)، وقال ابن كثير أيضًا: هذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر ولا يصح أصلًا.

وذكر أبو عبيد الهروي أنه اسم ملك من الملائكة (¬1). وعن ابن عباس قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) بالموعظة فقال: "أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى عراة غرلًا" ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية، قال: "أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وأنه سيؤتى برجال من أمتي ويؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} إلى قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117] فيقال: هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" (¬3). وعن ابن عباس في قوله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا} الجنة {فِي الزَّبُورِ} زبور داود -عليه السلام- (¬4) (¬5) {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} التسبيح والتهليل والوعظ، ويحتمل أن المراد بالذكر التوراة، وبالزبور كتاب داود، ويحتمل أن المراد بالذكر اللوح المحفوظ والزبور كتاب يعلمه الله. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} كونه رحمة لنا شيء لا يخفى، ولكفار قريش فمن حيث قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ولأهل الذمة فإيجابه حمايتهم والذب عنهم ولأهل العرب وأئمة الضلال فمن حيث تحقيقه عنهم يمحو لنفسهم السيئة لولا هؤلاء (¬6)، ودعوته (¬7) تتضاعف عليهم (¬8) أوزارهم بإضلالهم الناس كافة. ¬

_ (¬1) هذا مروي عن ابن عمركما عند ابن جرير (16/ 423). (¬2) رواه البخاري (4625، 4626، 4740)، ومسلم (2860). (¬3) (وسلم) في "ب". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) رواه الشعبي كما عند ابن جرير (16/ 433، 434). أما ابن عباس فقد ورد عنه تفسيره بالكتب، وفسره بالقرآن. (¬6) (لولا هؤلاء) من الأصل. (¬7) في "ب" "ي": (ودعوته). (¬8) في "ب": (عليه).

{آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أخبرتكم بخبر يقع لكم به علم إن تفكرتم ثم وقع به علمي وعلم من آمن بي {أَقَرِيبٌ} أقرب ما يتصور أو نعبد دونه لعلمه الضمير عائد إلى كتمان الموعود وتأخيره. أراد بقوله: {احْكُمْ بِالْحَقِّ} استنجاز الوعد كقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} [آل عمران: 194] وقوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] عن أبيّ، عنه -عليه السلام- (¬1): "من قرأ سُورَةُ الأنبياء حاسبه الله حسابًا يسيرًا وصافحه وسلَّم عليه كل نبي اسمه فيها" (¬2). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) حديث أُبي هذا الطويل والذي ذكر فيه فضائل سور القرآن كلها وثواب تاليها وبعض المفسرين يقسمون الحديث في فضائل كل سُورَةُ كما فعل أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره وتبعه الواحدي، وكذا فعل أبو بكر بن أبي داود، وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال: إنه حديث محال مصنوع بلا شك. أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 2588)، وقال: هذا الحديث غير محفوظ، وأقره السيوطي في اللآلئ (1/ 227)، وابن عراق في التنزيه (1/ 285)، والشوكاني في الفوائد (ص 296).

سورة الحج

سُورَةُ الحَجِ مكية (¬1)، وعن عطاء: إلا ثلاث آيات نزلن في ثلاثة من المؤمنين: حمزة وعلي وعبيدة، وثلاثة من الكافرين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج: 19] وعن ابن المبارك الآيات قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} [الحج: 77] (¬2) وعن الحسن وهمام وعن قتادة والمعدل أنها مدنية إلا أن بعضها نزل في السفر، وقيل: بين مكة والمدينة (¬3)، وهي ستة وسبعون آية في عدد أهل الحجاز (¬4). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بينما نحن نسير ¬

_ (¬1) لم نجد من قال بمكيتها فحسب دون استثناء، سوى تفسير النسفي (3/ 94). وقد ورد عن ابن عباس وعن عبد الله الزبير وقتادة أنها مدنية كما في الدر المنثور (10/ 409). والتزم ذلك أبو السعود في تفسيره (6/ 91). (¬2) ذكره ابن الجوزي عن عطاء بن السائب، انظر: زاد المسير (5/ 401). وهناك أقوال في الآيات المستثناة. (¬3) نقل القرطبي (12/ 5) عن الغزنوي قوله: وهي من أعاجيب السور نزلت ليلًا ونهارًا سفرًا وحضرًا مكيًا ومدنيًا سلميًا وحربيًا ناسخًا ومنسوخًا محكمًا ومتشابهًا. ونقل ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 402) عن هبة الله بن سلامة قوله: هي من أعاجيب سور القرآن لأن فيها مكي ومدني. (¬4) كما في "البيان في عدّ آي القرآن" (189)، وفي الشامي (74) آية، (75) في عدِّ أهل البصرة، (78) آية في عدّ أهل الكوفة.

مع رسول الله في بعض المسير إذ نزلت عليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} فتفاجَّت ناقة رسول الله -عليه السلام- (¬1) من ثقلها، فنادى بها رسول الله (¬2) ثلاث مرات ثم قال: "يا أيها الناس أتدرون أي يوم ذلك؟ " فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر، ويسكر فيه الكبير من غير شراب، وتضع الحوامل ما في بطونها، وينادي مناد: يا آدم أبعث بعثًا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم: من كل كم كم؟ فيقال: من كل ألف تسعماية وتسعة وتسعين (¬3) إلى النار وواحد إلى الجنة". قال: فشقَّ ذلك على أصحابه مشقة شديدة وحزنوا له، فلما نزلوا راحوا إلى النبي -عليه السلام- (¬4) كأنما على رؤوسهم الطير من هول ما سمعوا في مسيرهم فقالوا: يا رسول الله ما نزل فيما مضى أشد مما نزل عليك في مسيرك هذا، فلما رأى رسول الله مشقة ذلك عليهم قال: "أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، ثم قال: "أيسرُّكم أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم: "إني لأرجو أن تكونوا أكثر من شطر أهل الجنة، إن معكم أمتين لا تكونان مع قوم إلا كثرتاهم يأجوج ومأجوج سوى من أهلك الله قبلهم وسوى من هو مهلك بعدهم"، ثم قال: "بينا أنا بين النائم واليقظان إذ عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي يأتي في الواحد من قومه -وهو ياسين- ورأيت النبي يأتي في الأربعة من قومه، ورأيت النبي يجيء في أقل من ذلك وأكثر، حتى رأيت أمة أعجبتني فقلت: أي رب أمتي هذه؟ فقيل لي: هذه أمة [عيسى ابن مريم، ثم رأيت أمة أعجبني كثرتها فقلت: أي ربي أمتي هذه؟ فقيل لي: هذه] (¬5) أمة موسى، ثم رأيت أمة أعجبتني كثرتها فقلت: أي رب أمتي هذه؟ فقيل ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "ب": (تسع مائة وتسعين وتسعة). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل.

لي: هذه أمة يونس بن متى، ثم قيل لي: انظر، فنظرت قبل مكة فإذا سواد كثير، ثم قيل لي: انظر، فنظرت قبل العراق فإذا هو سواد كثير، ثم قيل لي: انظر، فنظرت تحتي فإذا شيء ينتعش كثرةً فقيل لي: هؤلاء أمتك وسبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب". قال: فقام عكاشة بن محصن الأسدي أحد بني غنم بن دودان فقال: يا رسول ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا له رسول الله، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني الله منهم، قال: "سبقك بها عكاشة". قال جابر بن عبد الله الأنصاري: فظننا أن الأنصاري كان منافقًا فقالوا: لولا ذلك لم يسأله أحد إلا قال: نعم. ثم دخل رسول الله والمسلمون يخوضون في السبعين الألف فقال بعضهم: هؤلاء قوم أدركوا النبي -عليه السلام- (¬1) وآمنوا به وجاهدوا معه، وقال بعضهم: هؤلاء قوم ولدوا في الإسلام وماتوا عليه، وقال بعضهم: هؤلاء قوم آمنوا به ولم يروه، قال: فأكثرنا في ذلك فخرج إلينا رسول الله (¬2) ونحن نخوض في ذلك، قال: "ما قلتم في هؤلاء السبعين الألف؟ " قالوا: يا رسول الله، قال بعضنا كذا وبعضنا كذا؟ فقصوا عليه القصة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3): "بل هم قوم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" (¬4). فيه بيان نزول الآية أنها نزلت يومئذ وهكذا الحسن عن عمران (¬5) بن ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (وسلم) ليست في "أ" "ي". (¬4) سرد المؤلف حديثًا طويلًا لم أجده، والذي وجدته هو عدة أحاديث: - إلى قوله "شطر أهل الجنة" قريبًا عن أبي سعيد الخدري، رواه البخاري (3348)، ومسلم (221). - والثاني حديث عكاشة رواه عمران بن الحصين، رواه مسلم (218). (¬5) في "أ": (عن ابن عمران).

حصين وعن (¬1) علقمة قال: إن الزلزلة قبل الساعة (¬2)، وهو الاضطراب الشديد وأصله من الزلل. {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أراد التحيل والحسبان (¬3) {تَذْهَلُ} تسلى عما لا يتسلى عنه، و (العمل) بالفتح: ما اتصل من الثمار، و (العمل) بالكسر: ما أحمل من الأوزار (¬4). {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} قال ابن عباس أن النضر بن الحارث بن كلدة يقول: ما يأتيكم محمَّد إلا بمثل ما كنت آتيكم به (¬5)، فنزلت. فتقديرها من يجادل في آيات الله وفي كتابه إن كنتم في ريب من جواز البعث وإمكانه لنبين لكم أن البعث جائز ممكن متصور غير مستحيل، وقد وجب لاتصاله بوعد الله، وفي الآية دليل أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري كالمشاهدة. {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مصورة وغير مصورة (¬6)، وقيل: مصورة خلقًا بعد خلق، وغير المخلقة ما لم يكن ترابًا ولا نطفة، وعن عامر الشعبي عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: أي رب أمخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دمًا، وإن قيل: مخلقة، قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ وما الأثر؟ وما الرزق؟ وبأي أرض تموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال للملك: اذهب ¬

_ (¬1) (وعن) ليست في "أ". (¬2) ابن جرير (16/ 446)، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم. (¬3) الضمير في "ترونها" يعود إلى "زلزلة الساعة". (¬4) الذي في الآية "حمل" بفتح الحاء والمعنى كما قال الحسن وابن زيد: أن تلقي الحوامل ما في بطونها لغير تمام للكرب الذي نزل بها. [الطبري في تفسيره (16/ 456)]. (¬5) ذكره السيوطي في الدر (10/ 418) وعزاه لابن أبي حاتم، وليس فيه (ما يأتيكم). (¬6) قاله الحسن البصري نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 223).

إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان. ثم تلا عامر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} إلى قوله: {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، وإن كانت غير مخلقة قذفتها الرحم دمًا وان كانت مخلقة تكست دمًا نسمة (¬1). وعن أبي سعيد الخدري قال: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) أن اليهود يقولون أن العزل هو الموؤودة الصغرى، فقال: "كذبت يهود" وقال: "لو أقضيت لم يكن إلا بقدر" وقال: "لا يكون موؤودة حتى تمر بالتارات السبع" ثم تلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12] (¬3) الآية (¬4) وقدروا واو الاستئناف {طِفْلًا} أي أطفالًا (¬5) {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} اللام لمضمر أي ثم يحاسبكم {لِتَبْلُغُوا} أي ثم يبقيكم لتبلغوا {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} حالة الخوف (¬6) {وَتَرَى الْأَرْضَ} الواو لعطف الجملة وهي تدل على جواز البعث {هَامِدَةً} جامدة خامدة {بَهِيجٍ} اسم من البهجة وهي الطراوة والنضارة (¬7). {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي ثانيًا عطفه، و (الثني) بالفتح: العطف، و (عطفا ¬

_ (¬1) قريبًا منه جاءت روايات عند البخاري (318)، ومسلم (2646) عن ابن مسعود. (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ" "ي". (¬3) ذكره الطبراني في الكبير (4536) عن علي - رضي الله عنه -. (¬4) (الآية) ليست في "ب". (¬5) إنما وَحَّدَ "طفلًا" لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل فيلزم الإفراد والتذكير - قاله المبرد- نقله عنه القرطبي في تفسيره (12/ 12)، والبحر (6/ 346). (¬6) قوله تعالى: {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} الأظهر في معنى الآية ما قاله الطبري (16/ 465): ومنكم من ينسأ في أجله فَيُعَمَّرُ حتى يهرم فيرد إلى أرذل عمره فيعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأول شيئًا. (¬7) أصل الهمود الدروس والدثور دراسة الآثار من النبات والزرع، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس: قالت قُتَيْلَةُ ما لجسمك شاحبًا ... وأرى ثيابك بالياتٍ هُمَّدَا [اللسان (درس) ديوان الأعشى (ص 227)].

الإنسان) جانباه، يقال: ثنى فلان عطفه وثنى جبينه وصعّر ولوى عنقه: إذا تكبَّر. وعن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: نزل في بني الخلاف من بني أسد بن خزيمة والخلاف هو الحارث بن سعد منهم: سوادة بن الحارث، ومرة بن الحارث، وحنة بن الحارث، ومالك بن الحارث من بني سعد بن ثعلبة، أصابتهم سنة شديدة فأجدبوا فيها وقحطوا فاحتملوا بالعيال حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ثم جعلوا يغدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ويروحون، فأغلوا الأسعار وأفسدوا طرق المدينة وجعلوا يمنون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) بإسلامهم فيقولون: أتتك العرب بأنفسها فآمنت ونحن أتيناك بالأنفس والذراري والأثقال فأعطنا، فإن أعطوا من الصدقة وولدت نساؤهم الغلمان وأنجبت خيلهم المهور قالوا: نعم الدّين هذا ما رأينا منذ دخلنا فيه إلا ما نُسرّ به، وإن لم يعطوا من الصدقة ما يرضيهم وولدت نساؤهم الجواري وأزلفت خيولهم وسقمت أجسامهم قالوا: بئس الدين هذا ما رأينا منذ دخلنا فيه ما نُسرّ به فأنزل (¬4). {حَرْفٍ} جهة. وفي الحديث أن اليهود يأتون النساء على حرف واحد (¬5)، ومنه قوله -عليه السلام-: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف" (¬6). {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ} ضر الأصنام أقرب من نفعها لأن الله تعالى خلقها سباباَ للمنافع، و (العشير): الخليط من المعاشرة. ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ" "ي". (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "ب". (¬3) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل فحسب. (¬4) ورد مختصرًا بعض منه عند البخاري (4742). (¬5) أبو داود (2164)، والحاكم (2791) والحديث حسن. (¬6) أبو داود (1477)، والنسائي (2/ 153)، وأحمد (5/ 41) والحديث صحيح.

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ (¬1)} اتصالها من حيث اعتبار فرية داعي الله على داعي الأصنام. قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصره الله يرزقه فليأخذ حَبْلًا يربطه في سماء (¬2) بيته فليختف به فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق (¬3)، وهذا تأويل ممكن لأن النصر قد يكون بمعنى إيصال المنفعة. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (¬4) ثم ليهلك والاستراحة من ضنك المعيشة مما يغيظ. وذكر الكلبي أنها نزلت في المنافقين الذين يظنون أن الله لا ينظر رسول الله (¬5) في الدنيا والآخرة وذلك تأويل (¬6) ممكن؛ لأنهم كانوا يتغيظون على رسول الله وعلى أنفسهم ويتأسفون على إيمانهم به لما يرون منِ الفقر والمصائب، ويحتمل أنها كقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 35] حقيقة وفيها الرزق ان استطاع ثم ليقطع ذلك إن استطاع فلينظر هل ينفعه أحدها. {وَالْمَجُوسَ} (¬7): عبدة النيران، واحدهم (¬8) مجوسي، وهم الذين ينكحون الأمهات والأخوات، نسبوا إلى رئيس لهم يسمى موكوش (¬9) فغيرته العرب فجعلته مجوس. وعن ابن عباس قال: في سجود "الحج" الأولى عزمة والأخرى تعليم (¬10). ¬

_ (¬1) في الأصل: (عميد حل). (¬2) في الأصل: (هما). (¬3) عزاه في الدر المنثور (10/ 431) لعبد بن حميد. وقريبًا منه عند ابن جرير (16/ 480)، والحاكم (2/ 386). (¬4) (ثم) ليست في "أ". (¬5) (الله) من الأصل فحسب وفي "ب" "أ": (رسوله). (¬6) (تأويل) ليست في "ب". (¬7) في "ب": (المجوس) مرتين. (¬8) في "ب": (واحدها). (¬9) ذكره الألوسي في تفسيره "روح المعاني" (17/ 129). (¬10) ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 251) عن ابن عباس، وروي مرفوعًا عن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: "نعم ومن لم يسجدهما =

عن. قيس بن عباد قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} هم (¬1) الذين تبارزوا يوم بدر (¬2). {يُصْهَرُ} يُذَاب. {مَقَامِعُ} واحدها مقمعة وهي كالهوادة العظيمة تسمى حزرًا، وقيل: مشتق من قولهم قمعته فانقمع أي أذللته فذل. {وَلُؤْلُؤًا}: ما يحجر من القطر في جوف الصدف في البحر سمي لتلألؤه وبراقته، ويسمى الكبار دون الصغار مرجانًا {حَرِيرٌ} ما رق من ثياب الإبريسم. {وَهُدُوا} معطوف على قوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، {الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} الكلمة الطيبة لا إله إلا الله {صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإسلام. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} عن ابن عباس: أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه منعوا رسول الله الحج والمسجد الحرام أن يدخلوا زمن الحديبية وأن ينحروا الهدي في المنحر، قال: فبعث رسول الله إليهم عثمان بن عفان أن يخلوا بينهم وبين دخول مكة فأبوا ذلك، فكره النبي -عليه السلام- (¬3) قتالهم وهو محرم بعمرة، فسألوه أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا عامًا قابلًا ثلاثة أيام، فلما كان من العام القابل أخليت له مكة وخرجت قريش منها كهيئة البدا (¬4) مثقلة، فطافوا بالبيت وقضوا المناسك ثم انصرف رسول الله ورجع قريش إلى الحرم (¬5) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ ¬

_ = فلا يقرأهما ... " أخرجه أبو داود (1402)، والترمذي (578)، والدارقطني (1/ 408)، والحاكم (1/ 221)، وأحمد (4/ 151) وغيرهم. والجملة الأولى من الحديث صحيحة، أما الجملة الثانية من الحديث وهي قوله: "ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" فلا تصح حيث انفرد ابن لهيعة بها وهو ضعيف. (¬1) في الأصل: (لهم). (¬2) البخاري (3965). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (كهبة البدء). (¬5) أشار إلى ذلك القرطبي في تفسيره (12/ 31).

سَبِيلِ اللَّهِ} أي وهم يصدون أو: إن الذين يكفرون (¬1) ويصدون، وقيل: الواو مقحمة، وقيل: التقدير: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي عزمهم أن يصدوا (¬2). {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} يدل على أن المقيم برباع مكة ليس بأولى من الحاج. عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -عليه السلام- (¬3) قال: "حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها". وفي رواية: "وحرام أجر بيوتها" (¬4) {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ} يعتقد ويصر {بِظُلْمٍ} أي إلحاد ظلم فالباء مقحمة، والظلم بدل من الإلحاد، وبيان له. وتخصيص المسجد الحرام كتخصيص الأشهر الحرام بقوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} عن ابن عباس قال: لما كان بعد الطوفان الذي أغرق الله قوم نوح ورفع البيت المعمور إلى السماء السادسة الذي كان بناه آدم -عليه السلام- (¬5)، أمر إبراهيم -عليه السلام- (¬6) أن يأتي موضع البيت فيبني على أساسه، فانطلق فلم ير له أثرًا أو أخفي له مكانه، فبعث الله تعالى سحابة على قدر البيت الحرام في العرض والطول فيها رأس يتكلم له لسان وعينان فقامت على ظهر (¬7) البيت بحياله ثم قالت: يا ¬

_ (¬1) في الأصل: (كفروا). (¬2) أي يجوز في هذه الواو عدة أوجه: إما أن تكون واو العطف فتكون معطوفة على ما قبلها ويجوز عطف المضارع على الماضي ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] ويجوز أن يكون المضارع {يَصُدُّونَ} مؤول بالماضي. والوجه الثاني: أن الواو هي واو الحال وهي حال من فاعل كفروا، ذكر ذلك أبو البقاء العكبري، والوجه الثالث: أن الواو مؤيدة في خبر إنَّ. والتقدير: إن الذين كفروا يصدون وهذا مذهب الكوفيين ورده ابن عطية في تفسيره. [الإملاء (2/ 142)، المحرر (11/ 190)، الدر المصون (8/ 255)]. (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬4) ابن أبي شيبة (14679)، والدارقطني (3/ 57)، والحاكم (2327). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (أمر إبراهيم السلام) ليست في "أ". (¬7) (ظهر) ليست في "ي".

إبراهيم ابنِ على مداي وحيالي، فأخذ إبراهيم -عليه السلام- (¬1) قدرها وحيالها، فأسس عليه البيت الحرام وذهبت السحابة، ثم بناه حتى فرغ وطاف به أسبوعًا، وأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم لا تشرك (¬2) بي شيئًا (¬3). {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي مسجدي من عبادة الأوثان {لِلطَّائِفِينَ} بالبيت من غير أهل مكة، {وَالْقَائِمِينَ} أي المقيمين من أهل مكة، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} من أهل الصلاة من كل وجه، وقيل: إن ترجمة للوحي في فحوى قوله: {بَوَّأْنَا} {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬4) قال مجاهد: هو إبراهيم -عليه السلام- (¬5) فلما أذن لم يبق شيء سمع صوته إلا أقبل مليًا (¬6)، فقال عطاء: هو إبراهيم ومحمد -عليهما السلام- (¬7). وعن ابن عباس (¬8) قال: لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء البيت قال: يا رب، قد فرغت من بنائه، وهو أعلم، قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} على أرجلهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ركبانًا {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} قال: رب لا أُسمع أحدًا، قال: أذّن وعليَّ البلاغ، فصعد الصفا فقال: أيها الناس عليكم (¬9) حج البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض، فما بقي ممن سمع صوته إلا أقبل يلبي: اللهم لبيك (¬10)، ألا ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (لا تشترك) ليست في "أ". (¬3) قريبًا منه عن قتادة عند ابن جرير (16/ 511)، وعبد الرزاق في مصنفه (9094 - 9096). (¬4) (بالحج) من الأصل. (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) عن مجاهد عزاه السيوطي في الدر (10/ 468) لابن المنذر وابن أبي حاتم، وقريبًا منه عن سعيد بن جبير عند الطبري (16/ 516). (¬7) (السلام) ليست في "ي" "أ". (¬8) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 515)، والحاكم في مستدركه (2/ 552)، والبيهقي (5/ 176). (¬9) (عليكم) ليست في الأصل. (¬10) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (16/ 513 - 514).

ترى أنهم يجيئون من كل فج عميق يقولون: لبيك اللهم لبيك {ضَامِرٍ} ضد البطين من الإبل والخيل {فَجٍّ} فضاء بين الجبال {عَمِيقٍ} بعيد، وإنما عبر به لارتفاع شأن مكة، كقولك: رفعت حاجتي إلى المجلس العالي وإن كنت أعلى منه في رأي العين. {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} قال مجاهد: التجارة وما رضي الله من أمر الدنيا (¬1)، وقيل: المغفرة، وقال ابن عباس: أسواق كانت لهم ما ذكر الله منافع إلا للدنيا (¬2) {وَيَذْكُرُوا} الله {اسْمَ} التحميد والتهليل والثناء عليه والشكر {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ [بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} من] (¬3) السوائم والهدي، أو البسملة عند الذبح {فَكُلُوا مِنْهَا} قال إبراهيم النخعي: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء ترك و {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الذي يبسط يده، مشتق من البؤس وهو شدة الفقر. {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} دليل على أن قضاء التفث والنذر والطواف بالبيت مترتبة على ذكر اسم الله تعالى في الأيام المعلومات لا يجوز شيء منها إلا بعد ذلك، وهو يوم النحر. وقال ابن عباس: التفث الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب واللحية والأظفار (¬4)، وقال ابن عرفة: التفث: الدرن، وقال النضر بن شميل: قضاء التفث: إزالة الشعث {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وهو ما أوجبه الإنسان على نفسه من الهدي (¬5) {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الزيارة يوم النحر. وإنما قيل: {الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} لقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} [آل عمران:96] أو لأنه أعتق من تملك الناس إياه، وفي ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 521). (¬2) ابن جرير (16/ 520). (¬3) ما بين [. .] من "ب". (¬4) ابن جرير (16/ 526)، إلا أنه لم يذكر ابن عباس الأخذ من اللحية ولكن روي عن محمد بن كعب القرظي. أخرجه الطبري (16/ 526). (¬5) الذي أوجبه الإنسان على نفسه هو النذر، أما الهدي -هدي الحج- فإن الذي أوجبه على الإنسان هو الله -عز وجل-.

الحديث: "لأنه أعتق من الجبابرة ولم يدعه جبار قط" وذلك إشارة إلى ما تقدم أي الأمر أو الحكم وذلك {وَمَنْ} الواو لعطف الجملة. وعن النبي -عليه السلام- قال: "لا يزال هذا الأمر بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها" يعني مكة، وقال عمر بن الخطاب: لخطيئة أصبتها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة أصبتها بركبة. واتصال قوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ} بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا}. {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني في سُورَةُ "المائدة". وعن عبد الله قال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله (¬1)، قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}. {سَحِيقٍ} بعيد، ومنه: سحقًا للشيطان، وإنما وقع تشبيه المشرك بهذا المثال لأنه انحط عن درجة السعداء وتعرض للسفهاء والجهلاء وأنواع النبلاء، فإن سلم فلا بد من أن ينهي به عمره إلى البوار ودخول النار. و {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قال محمَّد بن أبي موسى: الوقوف بعرفة من شعائر الله ومن يعظمها فإنها من تقوى القلوب (¬2). {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى حالة بعينها وتقليدها من غير كراهة ولا ضرورة، وللمضطر أن ينتفع بها بعد التعيين والتقليد والإشعار، عن أنس أن رسول الله (¬3) رأى رجلًا يسوق بدنة قد جهدها قال: "اركبها" قال: يا رسول الله إنها بدنة، قال: "اركبها" (¬4) قال: قال-عليه السلام- (¬5): "اركبوا الهدي ¬

_ (¬1) أخرجه عن عبد الله بن عباس الطبري في تفسيره (16/ 536)، بل روي مرفوعًا من حديث خُرَيْم بن فاتك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُدِلَتْ شهادة الزور بالشرك بالله" ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 541)، وابن أبي شيبة (4/ 294) وزاد عليه: وبجمع من شعائر الله ورمي الجمار من شعائر الله والبُدْن من شعائر الله. (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (1689)، ومسلم (1322). (¬5) (السلام) ليست في "ي".

بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا إلى البيت العتيق" (¬1)، يعني حريم البيت العتيق وهو الحرم كله، وكان المشركون ينحرون عند زمزم وهو اليوم في المسجد الحرام، والمسجد ينزه عن القاذورات. {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} قال الكلبي: المراد به الأضاحي، وذلك يدل على وجوبها، {الْمُخْبِتِينَ} المتواضعين والساكنين، و (الجنب): المكان المطمئن من الأرض، و (الإخبات): التواضع والسكون. {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وهذه صفة أوليائه على بساط الغيب فإذا أكرموا بالمشاهدة اطمأنوا. وقد جمع الصفتين في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} اللام لكون إضافة الصلاة (¬2) غير محضة بدليل حسن دخول النون أو التنوين في المضاف وانتصاب المضاف إليه. {وَالْبُدْنَ} جمع بدنة، والبدنة: البعير أو البقرة، واللفظ لا يدل على اختصاصه بمكة بخلاف الهدي {صَوَافَّ} جمع صافة، كالدابة والدواب والحاسة والحواس {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت فلصقت بالأرض بعد الذبح والنحر وسكنت {فَكُلُوا} أمر إباحة وهو عام في كل بدنة بلغت محلها وكانت دم تذكية ولم يكن دم جناية {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} عام في أهل مكة وغيرهم، وقال مجاهد: القانع جارك وإن كان غنيًا، وقال مرة: القانع أهل مكة والمعتر الذي يعتريك ولا يسألك. {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} لن ينال ثواب الله وفضله ونعمته لحوم الهدايا و {دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} وفي زبور داود -عليه السلام-: ليس الأعمال أعمال الجوارح إنما الأعمال أعمال القلوب، وقال النبي -عليه السلام-: "إن الله ¬

_ (¬1) ابن حبان (4015) والحديث صحيح. (¬2) في الأصل: (لكون الإضافة غير).

تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" (¬1) وقال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬2)، وعن الكلبي والفراء (¬3): أن الكفار كانوا ينضحون البيت بالدماء ويقولون: اللهم تقبلها منا، وقصد المسلمون بمثل ذلك فأنزل الله تعالى رفع اتصالها من حيث الأمر بالمناسك، وذلك لا يتصور وجوده إلا بعد تمكين المأمورين والذب عنهم. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} في القتال {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} تعليل وتسبيب للإباحة، وذلك أن أهل مكة كانوا يستضعفون المؤمنين وينالون منهم وهم يستأذنون في القتال. {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} في محل الخفض بدلًا من الذين ظلموا {بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير سبب أو علة، فعلى هذا الاستثناء متصل، وقيل: بغير عدل، وعلى هذا الاستثناء منقطع ومثله قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 19، 20] {صَوَامِعُ} جمع صومعة (¬4) {وَبِيَعٌ} جمع بيعة وهي المدرسة {وَصَلَوَاتٌ} جمع صلاة، وقيل: صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات كنائس اليهود (¬5) {وَمَسَاجِدُ} المسلمين، وهذه المواضع أشرف وأعظم حرمة من غيرها، يدل عليه إجماع المسلمين على استحباب أن يتخذوا هذه البقاع من ديار الكفار مساجد وأفتحها الله لهم. ¬

_ (¬1) مسلم (2564). (¬2) البخاري (1)، ومسلم (1907). (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 227). (¬4) في الأصل: (صومة). (¬5) الصوامع هي صوامع الرهبان النصارى كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد، أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 581) وكذلك البيع بيع النصارى قاله قتادة والضحاك، وأما الصلوات فقيل: كنائس اليهود وهو الذي رجحه أبو منصور اللغوي، وكنائس اليهود بالعبرانية "صلوتا" وأما المساجد فكما قال ابن عباس هي مساجد المسلمين. [زاد المسير (3/ 241)].

والمراد {الْمُنْكَرِ} أمة (¬1) محمَّد -عليه السلام- وقد اختص بها الخلفاء الأربع وبنو عمه الأئمة المهديون. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} فارغة مهملة التي بادر أهلها المستقون منها {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} حصن حصين، وهما معطوفان على القرية. {فَتَكُونَ} نصب لأنها جواب الاستفهام بالفاء، والمعنى: استفادة التجارب والعبر بالسياحة في الأرض {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} وهو الذي لا يغني عنه شيء. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} ذكر لنفي الاستعجال عمن شأنه الحلم والإمهال. وعن أبي مليكة قال: مررت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسلمنا عليه فقال لصاحبي: من أنت؟ فانتسب له فعرفه فقال: يا أبا العباس {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 4] أي يوم هذا؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني قال: فهي أيام سماها الله تعالى في كتابه وهو أعلم بها أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر من ضربه فجلست إلى سعيد بن المسيب سئل عن المسألة فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك بما شهدته من ابن عباس؟ ثم ذكرته له فسري عنه، وقال: هذا ابن عباس قد اتقى أن يقول فيها وهو أعلم (¬2) مني. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} (¬3) بالتكذيب أو التحريف أو (¬4) التبديل. {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} مثل ما تتلو الشياطين على ملك سليمان. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الملهمون الراسخون في العلم {أَنَّهُ الْحَقُّ} الضمير عائد إلى نسخ ما {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}. ¬

_ (¬1) أي المراد بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وهذه الأوصاف في أمة محمَّد عليه الصلاة والسلام. (¬2) ذكره عبد الرزاق في أماليه (163). وانظر: البغوي (300)، والقرطبي (18/ 244). (¬3) (معاجزين) ليست في "ي" "ب". (¬4) في "ب" "ي": (و).

{يَوْمٍ عَقِيمٍ} أيس عن خيره، ويحتمل يوم بدر في حق قريش فإنه أعقمْ نساءهم بقتل رجالهم (¬1)، وقيل: المراد بالساعة انقراض الدنيا وباليوم العقيم افتتاح الآخرة (¬2). {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} في المقتص بالحق {ثُمَّ بُغِيَ} بعد اقتصاصه، واتصالها بما قبلها من حيث بغي الكفار على المؤمنين المستضعفين بعد انتصارهم بالحق والعدل والإنصاف، فقول الله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وقوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} لازدواج الكلام وذلك [إشارة إلى النفر الموعود، أي ذلك باقتضاء قدرته وسمعه وبصره، وقيل:] (¬3) إشارة إلى الحكم، أي هو بقضية حكمته الموجبة إيلاج الليل في النهار. {فَتُصْبِحُ} رفع لأنه (¬4) خبر منفصل عما قبله أو جواب شرط مضمر تقديره أن الله أنزل الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرة، وكذلك تقدير في قوله: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31]. وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} دليل على أن إمساكه في الهواء على سبيل القهر والإلجاء إما بوصل الإلجاء وإما باصطدام الأجزاء وإما بمعنى خفي على آراء، ولم يذكر الله تعالى سقوطها إلا بعد انفطارها وانقلابها. {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} قال الكلبي: نزلت في الأضحية وفي مجادلة الكفار في الذبيحة (¬5). ¬

_ (¬1) روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. [الطبري في تفسيره (16/ 616)، زاد المسير (3/ 246)]. (¬2) روي ذلك عن الضحاك وعكرمة كما ذكره الطبري في تفسيره (16/ 617). (¬3) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬4) في "أ": (الآية). (¬5) الذي رجحه الطبري في تفسيره (16/ 627) أنه عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت إراقة الدم في هذه الأيام.

{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يبطشون إشارة إلى سطوهم وبطشهم وإشارة إلى ما يتلى {بِشَرٍّ} أي مكروه، أي النار أبلغ في كراهتهم إياها مما يتلى عليكم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} متشابهة فوجب التماس حكمها من المحكمات، و (الذباب): طائر يشبه النملة. وذكر القتبي أن الذباب ثلاثة أجناس: القمعة والنعرة والبراع، ويضرب المثل بالذباب فيقال: فلان أجرأ من الذباب لأنه يقع على أنف الملك وجفن الأسد ولا يبالي، ويقال: فلان كالذباب إذا كان ذا وجهين، ويهمه على السواد بياض وعلى البياض سواد. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ} اتصالها من حيث قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} وفيها رد على اليهود والروافض من حيث عداوتهم لجبريل ولأبي بكر وعمر. {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وتخصيصهما مع ذكر العبادة لتشريف الصلاة وذكر فعل الخير بعد العبادة للتأكيد أو للتفعيل المندوب إليه [بعد الفرض المنصوص والآية مختصة بقريش ومثابهم عند بعض الناس عامة في المؤمنين] (¬1) عند بعضهم. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} نصب كانتصاب {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] وقيل: لنزع الخافض أي في ملة أبيكم (¬2)، واختلفوا في المخاطبين بالنبوة، قال بعضهم: ربيعة ومضر لأنهما أولاد (¬3) نزار بن معد، وقيل: جميع أولاد ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) ويجوز في "ملة أبيكم" أن تكون منصوبة بـ"اتبعوا" مضمرًا قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء العكبري، وقيل: هي منصوبة على الاختصاص والتقدير: أعني بالدين ملة أبيكم. وذهب الفراء إلى أنها منصوبة على حذف كاف الجر التقدير: كملة إبراهيم. [معاني القرآن للفراء (2/ 231)، المحرر (11/ 221)، الإملاء (2/ 147)، الدر المصون (8/ 307)]. (¬3) في الأصل: (أولا).

معد بن عدنان، وقيل: قضاعة وقنص وإياد ونزار وأربعة آخرون، وقيل: جميع أولاد عدنان بن أدد مثل عك ومَعْد، واختلفوا في نسبة عدنان بن أدد. وقد روى ابن عباس أن النبي -عليه السلام- (¬1) كان إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك وقال: "كذب النسابون" (¬2) قال الله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] أو قيل: المخاطبون بها عامة المسلمين لأنهم أبناء لأزواج رسول الله (¬3) وأمهات المؤمنين بنات إبراهيم لا أشك والجد أبو الأم لا محالة {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} اللام عائدة إلى قوله: {وَجَاهِدُوا} أو إلى قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} وعن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (1) قال: "من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر حجة وعمرة بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي" (¬4). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور وعزاه للحاكم في "الكنى". (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) مرّ الكلام على حديث أبي وأنه موضوع.

سورة المؤمنون

سُورَةُ المُؤمنُونَ مكية في قولهم (¬1) وهي مائة وتسع عشرة (¬2) آية في غير عدد أهل الكوفة (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} وعن كعب قال:" لم يخلق الله بيده إلا ثلاث أشياء: خطَّ التوراة بيده وخلق آدم بيده وغرس الجنة بيده ثم قال: تزيني، فتزينت - قالها ثلاث مرات- ثم قال لها: تكلَّمي، فتكلمت فقالت: قد أفلح المؤمنون" (¬4). وعن عمر بن الخطاب قال: كان النبي -عليه السلام- (¬5) إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل عليه يومًا فمكثنا ساعة فسري عنه واستقبل الكعبة فرفع يديه وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وكرمنا ولا تهنَّا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنّا" ثم قال: "أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ ¬

_ (¬1) هذا قول ابن عباس كما عند ابن مردويه. انظر: الدر المنثور (10/ 553). (¬2) في الأصل و"أ" "ي": (عشر). (¬3) عند الكوفيين (118) آية. وانظر: البيان في عدَّ آي القرآن (191). (¬4) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 43)، وابن جرير (17/ 5). (¬5) السلام ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -).

الْمُؤْمِنُونَ (1)} حتى ختم عشر آيات (¬1)، قيل: الخبر محمول على أن الآيات قبل فرض الحج والصوم، وقيل: فرضها دخل في جملة قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}. وعن أبي هريرة: رأى رسول الله رجلًا يلعب بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" (¬2). {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} إشارة إلى ما أبيح {الْعَادُونَ} جمع عادِ في قوله {بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173 {رَاعُونَ} رعايته مراعاته ومحافظته، وعن مجاهد عن ابن عمرو (¬3) قال: أول ما خلق الله من آدم فرجه قال: هذه أمانتي فأمسك عليها، وأن الفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له (¬4)، وقال -عليه السلام- لأبي ذرّ: "الإمارة أمانة وهي يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى عليه فيها وأدى له ذلك يا أبا ذر" (¬5). وعن ميمون بن مهران قال: "ثلاث يؤدين إلى البر والفاجر: العهد يوفى إلى البر والفاجر، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر والرحم تصلها برة كانت أو فاجرة" (¬6). ابتدأ الله تعالى بذكر الخضوع في الصلاة وانتهى بذكر المحافظة عليها لتشريفها وتأكيدها. ¬

_ (¬1) الترمذي (3173)، والنسائي في الكبرى (1439)، وعبد الرزاق في المصنف (6038)، وعبد بن حميد (15)، والحاكم (2/ 392)، والبيهقي في الدلائل (7/ 55) والحديث ضعيف. (¬2) رواه عن أبي هريرة الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (3/ 210)، وحكم بوضعه الشيخ ناصر في الإرواء (2/ 92). وذكره عن علي مرفوعًا صاحب "كنز العمال" (22530) للعسكري في "المواعظ" وقال: فيه زياد بن المنذر متروك. ورجح أنه قول سعيد بن المسيب. وقد رواه ابن أبي شيبة من قول سعيد بن المسيب (6787). (¬3) في جميع المخطوطات (ابن عمر) والصواب (ابن عمرو) والتصحيح من المصادر. (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في "الورع" (33)، وفي "مكارم الأخلاق" (275)، والحكيم الترمذي في نوادره (2/ 206) (3/ 155). (¬5) مسلم (1825). (¬6) ذكره سعيد بن منصور في سننه (2601).

{سُلَالَةٍ} ما انسل من الطين المسلول (¬1) وروي الفُعَالة مختصة بالقليل كالقلامة والفضالة. {قَرَارٍ} مكان مطمئن {مَكِينٍ} موضع التمكن فيه، وقيل: متمكن في مكان آخر كتمكن أوعية المني فيما بين الصلب والترائب وتمكن الرحم في البطن. {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} من الغذاء، ولذلك لا تحيض الحبلى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي نسمة وجسدًا متصورًا {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} تعالى وتعظم، وقال ابن عرفة (¬2): هي تفاعل من البركة وهي كثرة الخير والسعة. روي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح (¬3) كان يكتب لرسول الله (¬4) هذه الآية فجرى على لسانه: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال -عليه السلام- (¬5): ["اكتب ما جرى على لسانك" فقال: إنما هو كلامي، فقال -عليه السلام- (5)] (¬6): "كذلك أنزل علي"، فكتب ثم ارتاب في أمر النبوة وكان ذلك سبب ارتداده (¬7). وقال القتبي: كان يكتب مكان العزيز الحكيم الغفور الرحيم، وكان ذلك سبب ارتداده. {سَبْعَ طَرَائِقَ} قال أبو عبيد الهروي: الطرائق سموات واحدتهن طريقة لأنها طرائق الملائكة والأنبياء (¬8). {فَوَاكِه} جمع فاكهة وهو ما يتعلل به من الثمار على سبيل الاقتيات. {طُورِ سَيْنَاءَ} جبل بالشام، والشجرة الخارجة منها: هي الزيتونة، ¬

_ (¬1) روي ذلك عن قتادة، أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 18). (¬2) في "أ": (عروة). (¬3) في الأصل: (سراح). (¬4) في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) ما بين [...] ليست في "ب". (¬7) عزاه ابن حجر في "المطالب العالية" لابن راهويه (4049)، والطبراني في الأوسط (4657)، ولكن ليس عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولكن معاذ بن جبل. والحديث المذكور ضعيف جدًا وخبره فيه نكارة جدًا، إذ السورة مكية ومعاذ أنصاري. (¬8) العرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة، وبه سميت كل سماء طريقة.

ووجه التخصيص: الإشهار والغلبة {بِالدُّهْنِ} المائع الذي يعلو الماء ولا يمتزج به، {وَصِبْغٍ} إدام. {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ} يتشرف ويجتهد عليكم، وإنما أنكروا سماعهم لدروس أثر إدريس -عليه السلام- (¬1) ومن تقدمه أو لظنهم أنهم لم يكونوا أمثال (¬2) نوح -عليه السلام- (1) أو لوقاحتهم {قَرْنًا آخَرِينَ} (¬3) القرن الآخرين قيل: عاد ورسولهم هود -عليه السلام- (1)، ويحتمل غيرهم وغيره يقول الله تعالى لا يعلم إلا الله. ذكر أهل اللغة في {هَيهاتَ} سبع لغات: هيهاتَ بالفتح بغير تنوين، وهيهاتًا بالفتح والتنوين، وهيهاتُ بالضم من غير تنوين، وهيهاتٌ بالضم والتنوين، وهيهاتِ بالكسر من غير تنوين، وهيهاتٍ بالكسر والتنوين، وأيهات بإبدال الهمزة من الهاء الأولى ومعناها النهي والنفي (¬4)، وفيها شيء من معنى كلاهما {كَذَّبوُنِ} أي بسبب تكذيبهم. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} مذريًا أو شذرًا وعشيرته، قال الله تعالى (¬5): {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]، {تَتْرَى} من المواترة والتواتر مثلما وجد لموازنته غير أو معين ما ظاهر معيون وهو المرئي بالعين. عن سعيد (¬6) بن المسيب (¬7) في قوله: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أنها دمشق، وقيل أنها مصر (¬8)، وقيل: أنها الناصرة (¬9) وهذه هجرة من ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل: (مثال). (¬3) (آخرين) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: (النهي والتقي). (¬5) (تعالى) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل و "أ": (سعد). (¬7) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 45)، وابن أبي شيبة (32463)، وابن جرير (17/ 54)، وابن عساكر (1/ 205). (¬8) هذا ورد عن ابن وهب، وابن زيد، وابن عباس، انظر: الدر المنثور (10/ 589 - 591). (¬9) الناصرة بلدة في فلسطين، ولذا فسرت الربوة أنها فلسطين، روي ذلك عن أبي هريرة أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 54).

عيسى -عليه السلام-، وقال -عليه السلام-: "بشر الفرارين بدينهم إيمانًا واحتسابًا من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية أنهم معي ومع إبراهيم -عليه السلام- يوم القيامة كهاتين" وجمع بين إصبعيه الوسطى والتي تليها (¬1). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬2): "إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الآية وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] " قال: وذكر الرجل مطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه (¬3) إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (¬4). {أُمَّةً} نصب على الحال والمراد بها الأمة النبوية الحنيفية المستمعة إلى الوحي الإلهي. {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إلى اليهود والنصارى والصابئين بعد أن كانوا حنفاء في الأصل، فهي كتبهم المختلفة من تلقاء أنفسهم وإن كانت (¬5) جمع زبرة فهو أنهم صاروا فرقًا قطعًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} لأن الله تعالى لم ييسر لهم ما يسَّره لهم إلا على سبيل الاختيار دون الاضطرار والإجبار. {غَمْرَتِهِمْ} غشوتهم وسكرتهم. {نُسَارِعُ لَهُمْ} ففي المسارعة في الخيرات بإمداد المال والبنين لكونهما على سبيل الوقف والمراعاة إلى مقابلتهما بشكر أو كفر، قال -عليه السلام-: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] فمن رآهما ابتلاء حسنًا واستوثق الله تعالى بالإصلاح فيهما تمخضا خيرًا، ومن كانا مبلغه من ¬

_ (¬1) لم نجد له أصلًا لكن جاء عن الحسن مرسلًا: "إن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى ابن مريم" أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 416). (¬2) (السلام) ليست في "ي" وبدله في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "ي" "أ": (يده). (¬4) مسلم (1015). (¬5) في "ب": (كان).

العلم كانا مبلغه (¬1) من الغنم، وكفر بهما وبالًا حينئذ، وفي تأخير الإيمان عن الخشية دليل على وجود الإيمان بالعقل قبل وجوده بالسماع، ولولا ذلك لما تقدم الإشفاق من خشية الله على الإيمان بالآيات، فإنما تأخر نفي الشرك عن إثبات الإشفاق والإيمان لوجود الشرك في أهل الكتاب بعد ادعائهم الخشية والإيمان. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} صفة أولياء الله تعالى المعتقدين أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن موجب السعادة والشقاوة هي التقدير الأولي دون السبب العملي، وعلى هذا (¬2) قال -عليه السلام- (¬3): "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى" وقال -عليه السلام- (3): "أيكم ينجيه عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني برحمته" (¬4)، وعن عائشة قالت: سألت رسول الله عن قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} فقلت: أهم الذين يشربون الخمور ويسترقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلُّون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات" (¬5). وعن شقيق بن إبراهيم (¬6) الزاهد العاقل: لا يخرج من هذه الثلاثة إلا خوف: أولها أن يكون خائفًا لما سلف منه من الذنوب، والثاني لا يدري ما ينزل به ساعة بعد ساعة، والثالث يخاف من اتهام العاقبة {بَلْ ¬

_ (¬1) (من العلم كانا مبلغه) ليست في "أ". (¬2) بدل (العملي وعلى هذا) في "ب": (العلمي ولهذا). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6098)، ومسلم في صحيحه (2818) من حديث عائشة - رضي الله عنهما - مرفوعًا بلفظ: "واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة! " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل". (¬5) الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، والحديث حسن. (¬6) هو شقيق بن إبراهيم البلخي الإمام الزاهد شيخ خراسان كان من كبار الزهاد وكان غازيًا بل مات في إحدى الغزوات سنة 194 هجرية. انظر ترجمته في السير (9/ 313)، وحلية الأولياء (8/ 58).

قُلُوبُهُمْ} بل للإضراب عن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} وقيل: مرتب على قوله: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}. {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} من الأعمال الفاسدة القبيحة من دون الكفر والجهل، وقيل: أعمالهم المقدرة عليهم أن يكتبوها في المستقبل من أعمارهم. {بِالْعَذَابِ} قال مجاهد: هو يوم بدر (¬1)، وقال الكلبي: هو القحط سبع سنين (¬2)، ويحتمل معاينة العباس ورفع الالتباس، {يَجْأَرُونَ} يرفعون أصواتهم. و (الهجر): الهذيان، و (الإهجار) الإفحاش. {مُسْتَكْبِرِينَ} بالبيت العتيق، وقيل: الضمير عائد إلى نكوصهم إن كنتم {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} (¬3) بنكوصهم {سَامِرًا} كالباقي والحامل، وفي حديث قبله: إذا جاء زوجها، من السامري: أي من السمر (¬4). {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} القرآن، فيعلموا أنه ليس في جنس كلام الناس؟ بلى قد تدبروه فسمَّوه سحرًا يؤثر {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} في ¬

_ (¬1) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 47). (¬2) أي أنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخذ الله قريشًا بسني القحط إذ دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جاء أبو سفيان إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا محمَّد، أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العِلْهَز -وهو شيء يتخذونه في سني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه (النهاية 3/ 293) - فاْنزل الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ...} الآية، روى سبب النزول هذا عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 93)، والنسائي في الكبرى (11352)، والطبراني في الكبير (12038) وغيرهم. (¬3) (به) من "أ" "ب". (¬4) قوله "سامرًا" من السمر وهو السهر بالليل، والخطاب للمشركين فكانوا يسمرون ليلتهم حول البيت ويلعبون ويلهون ويتكلمون بالشعر والكهانة، وكانوا يقولون نحن أهل الحرم لا يخافون. [الطبري (17/ 82 - 83)].

معنى قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، وقيل في معنى قوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]. {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} بالأبوة والأمانة والمروءة والصيانة ومجانبة الكتابة والكهانة. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} عن الدين، وقيل: عن الديّان. {لَنَاكِبُونَ} لمائلون ومنحرفون (¬1)، ومنه: تنكب فلان عن الطريق، ومنه النكباء والمنكب. {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} أراد الرحمة الظاهرة وما بعدها بيان لها، لتمادوا. {بِالْعَذَابِ} با لجوع والخوف {فَمَا اسْتَكَانُوا} تضرعوا وتذللوا. {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} إنما يلامون على ما عملوا، إنما حل بأولئك الماضين ولا قدوة في السفر. {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} الاضطرار بالإقرار لعامة الكفار لإجماعهم أن العالم مستند إلى صانع ما. {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)} الاستعاذة من حيث مأواهم قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. {هَمَزَاتِ} غمزات، وفي الحديث: "أما الهمزة فالموتة" (¬2) قيل لأعرابي: من يهمز الفأرة؟ قال: السنور يهمزها {أَنْ يَحْضُرُونِ} بمعنى (¬3) يتدانوا مني {حَتَّى} غاية لعوجهم وأنهم لكاذبون. ¬

_ (¬1) وهو في معى قول ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال: "ناكبون" عادلون. والعدول عن الصراط هو الميل وإلانحراف عنه. [الطبري (17/ 91)]. (¬2) هو من قول عمر بن الخطاب. انظر: كتاب أبي داود وسنن ابن ماجه، وقال ابن ماجه: الموتة: يعني الجنون، وذكره القرطبي في تفسيره (12/ 148). (¬3) في "ي" "ب": (أن) بدل (بمعنى)، وفي "أ": (أي).

{بَرْزَخٌ} حاجز لطيف بين الشيئين المجتمعين المتضايقين. {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} لأن ليوم القيامة أحوالًا مختلفة وأهوالًا مؤتلفة، فإذا كانت النفخة الأولى لم يبق أحد إلا هلك (¬1) {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، ولانقطاع الإنساب وجوه: اْحدها: قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} إلى قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس:34 - 37]. والثاني: قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]. والثالث: انتقال التعريف يومئذ إلى الأعمال والملك. والرابع: كون كل واحد مبعوثًا من التراب مثل آدم -عليه السلام- (¬2) غير متولد من أحد، وقد قال -عليه السلام-: "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (¬3). {تَلْفَحُ} تصيب أشد من النفخ، وعن أبي سعيد الخدري عنه -عليه السلام- قال: " {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: تشويه النار فتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" (¬4) قال عبد الله: مثل الرأس النضيح (¬5). {سِخْرِيًّا} أي شيئًا سخريًا. وفائدة السؤال من قوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ} هو التنبيه على الحيرة {فَاسْأَلِ ¬

_ (¬1) من قوله (فلا أنساب) إلى هنا سقط من "ب". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) رواه الطبراني في الكبير (2634)، والبزار (274)، والحاكم (3/ 142)، وأبو نعيم (2/ 34)، والبيهقي (7/ 63). (¬4) الترمذي (2587، 3176)، وأبو يعلى (1367)، والحاكم (2/ 246، 395)، وابن أبي الدنيا في "صفة النار" (109)، والحديث ضعيف. (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 48)، وهناد في الزهد (303، 304)، وابن جرير (17/ 116).

الْعَادِّينَ} قيل: الكرام الكاتبين، وقيل: {فَسْئَلِ} معطوف على قوله {كَمْ لَبِثْتُمْ} دون جوابهم. {عَبَثًا} لعبًا. {فَتَعَالَى} الفاء للعطف على معنى الاستفهام وهو إنكار العبث تعالى عن الاتصاف بالعبث. عن أبي بكر الصديق عنه -عليه السلام- (¬1) قال: "لم (¬2) يصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" ينبغي أن يكون استغفاره على الحقيقة غفر له لقوله عليه: "من ساءه ذنبه غفر له وإن لم يستغفر" (¬3). وعن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (1): "من قرأ سورة المؤمنون بشره الملائكة بروح وريحان وتقرّ به عينه عند نزول ملك الموت" (¬4). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (لم) سقطت من الأصل "أ". (¬3) ذكره في كنز العمال (10282) بلفظ: (من ساءته خطيئته غفر له". (¬4) مرّ الكلام عليه وأنه حديث موضوع.

سورة النور

سُورَةُ النُّورِ مدنية (¬1)، وهي اثنتان وستون آية في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُورَةٌ} رفع بتقدير مبتدأ محذوف أي: هذه سورة. عن أبي عطية قال: كتب عمر: علموا نساءكم سورة "النور" (¬3). {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} مجملة محتملة موقوفة على التفسير كآية السرقة {فَاجْلِدُوا} فاضربوا بالسياط. عن عمر بن الخطاب قال: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، فإذا وجدتم للمسلم مخرجًا فادرؤوا (¬4) عنه. وقال ابن مسعود في البكر يفجر بالبكر إنهما يجلدان وينفيان سنة، وقال على نفيهما فتنة (¬5) {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا يمنعكم ¬

_ (¬1) هذا بالاتفاق وهو قول ابن عباس. (¬2) أما عن البقية فهي (64) آية، انظر: البيان في عدَّ آي القرآن (193). (¬3) أبو عبيد في "فضائل القرآن" (128)، ويروى مرفوعًا ولا يصح. (¬4) ذكره الشافعي في "الأم" عن عمر موقوفًا (7/ 564)، وهو عند الترمذي (1424)، والدارقطني (3/ 84)، والحاكم (8163) عن عائشة مرفوعًا وسنده ضعيف. (¬5) ذكرهما محمَّد بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار مرفوعًا، وانظر: "تحفة الأحوذي" (4/ 592). وهو عند عبد الرزاق في مصنفه (13313).

الرأفة عن إقامة الحد عليهما في طاعة الله {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} رجل فما فوقه. {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} الآية مجملة محتملة كالآية الأولى موقوف على التفسير. عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد ابن أبي مرثد يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت (¬1) امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له، فذهب مرثد ليحمل رجلًا من أسرى مكة فعرفته فقالت: مرثد! قال: مرثد، قالت: مرحبًا وأهلًا هلم فبت عندنا الليلة، قال: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا (¬2) الرجل يحمل أسراكم، فتبعه ثمانية (¬3) إلى غار فغماهم الله عنه، ثم ذهب وأخذ الرجل حتى قدم المدينة فأتى رسول الله فقال: أنكح عناقًا؟! فسكت رسول الله حتى نزلت الآية (¬4). وعن ابن عباس: أن المهاجرين لما قدموا المدينة نزل في صُفّة مسجد رسول الله -عليه السلام- (¬5) أناس من المهاجرين لم يكن لهم مساكن في المدينة ينزلون بها ولا عشائر يأتونهم، وكانوا نحوًا من أربعمائة رجل يلتمسون (¬6) الرزق بالنهار، فإذا أمسوا رجعوا إلى المسجد فكانوا فيه، وكان المسلمون من أراد أن يأتيهم بشيء أتاهم به، وكان في المدينة بغايا (¬7) يبغين بأنفسهن متعالمات بالفجور، لهن علامات كعلامات البياطرة ¬

_ (¬1) (وكانت) ليست في "أ". (¬2) في الأصل: (أم هذا). (¬3) في "أ": (تسعة). (¬4) أبو داود (2051)، والترمذي (3177)، والنسائي (6/ 66)، وابن جرير (17/ 151، 152)، وابن أبي حاتم في تفسيرهما (8/ 2526)، والحاكم (2/ 166) والحديث صحيح. (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وبدله في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) في الأصل و "أ": (يلتمثون). (¬7) في "ب": (بغيًا).

تصبن الطعام والشراب والكسوة، فقال أولئك الذين ليس لهم مساكن ولا عشائر من المهاجرين: لو أنا تزوجنا من هؤلاء فسكنا معهن في منازلهن وأصبنا من طعامهن وكسوتهن، فإذا ارتحلنا من المدينة خلينا سبيلهن، قال: فأتوا رسول الله فذكروا ذلك من شأنهم فنزل فيما نهي عن البغايا المعروفات (¬1). وعن ابن عباس قال: الزاني لا يجامع إلا زانية أو مشركة (¬2). وسئل ابن عباس عن رجل ألمَّ بامرأة فأتى منها ما حرم الله فرزقه الله تعالى من تلك توبة، فأراد أن يتزوجها فقال له ناس: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} فقال ابن عباس: ليست هذه الآية في ذلك، انكحها فما كان لك من إثم فعليّ (¬3). وعن سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] (¬4). {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يقدحون بصريح الزنا {الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر المسلمات العفائف، وليس لها أن تطالب بالحد حتى تثبت حريتها، وهذا الحد يسقط بعفو الخصم. وفي الآية دليل على إباحة تعمد النظر إلى فرج المسافحين لتحمُّل الشهادة، واجتماع الشهود الأربعة قبل أداء الشهادة شرط، وضرب القاذف دون ضرب الزاني، واستيفاء الحدود إلى السلطان، ولا اعتبار لعدد المقذوفات، ونفي قبول شهادة القاذف المحدود على التأبيد. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يغفر فسقهم {رَحِيمٌ} يرحمهم بالتوبة عليهم. ¬

_ (¬1) ابن أبي حاتم (8/ 2522، 2523). (¬2) ابن جرير (17/ 159)، وابن أبي حاتم (8/ 2522، 2525، 2526)، والبيهقي (7/ 154). (¬3) ابن جرير (17/ 153)، وابن أبي حاتم (8/ 2521). (¬4) أبو عبيد في ناسخه (129)، وابن أبي شيبة (16922)، وابن جرير (17/ 159)، وابن أبي حاتم (8/ 2524)، والبيهقي (7/ 154).

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} المحصنات {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} دليل على أن حكم اللعان إنما يجب على من هو من جنس الشهداء دون (¬1) المحدودين والعبيد ونحوهم. وعن ابن عمر أن رجلًا سأل النبي -عليه السلام- (¬2) فقال: يا رسول الله أرأيت لو أن أحدنا رأى امرأته (¬3) على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلَّم بأمر عظيم، هان سكت سكت عن أمر عظيم، فسكت النبي -عليه السلام- (2) ولم يجبه، فلما كان بعد الأيام فأتى النبي -عليه السلام- (2) فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله الآيات فدعاه فتلاهنّ عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم ثنى بالمرأة ووعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذي بعثك بالحق، قال: فبدأ الرجل فشهد {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} ثم ثنى بالمرأة فشهدت {تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} ثم فرق بينهما (¬4)، وفيه حديث سهل بن سعد الساعدي في عويمر العجلاني وامرأته (¬5). {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ} مسطح وحسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وحمنة بنت جحش. روي أن عائشة قالت: كان رسول الله -عليه السلام- (¬6) إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله وذلك بعد ما أنزل الحجاب، ¬

_ (¬1) (دون) ليست في "ب". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في الأصل و"ب": (امرأة). (¬4) البخاري (5349، 5350)، ومسلم (1493). (¬5) البخاري (423، 5309)، ومسلم (1492). (¬6) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" سقطت (-عليه السلام-).

فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، فسرنا (¬1) حتى فرغ رسول الله من الغزوة وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يحملونني فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن- يثقلن- ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه ورحلوه. وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الحمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. فتيممت منزلي الذي كنت فيه فظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلى، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني قد عرّسَ من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني وخمّرت وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني بكلمة ولا سمعت منه غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها. فانطلق يقول (¬2) في الراحلة حتى أتينا (¬3) الجيش بعد ما نزلوا معرِّسين في نحو الظهيرة، فهلك من هلك فيّ، وكان الذي تولَّى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول (¬4). فاشتكيت حين قدمتها شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا ¬

_ (¬1) في الأصل: (فيها مسيرنا). (¬2) في "أ": (يقوده). (¬3) في "ب": (أتيت)، وفي الأصل: (أتانا). (¬4) في "ي" "ب": (أبي بن سلول).

أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين كنت أشتكي، إنما يدخل رسول الله فيسلّم ثم يقول: "كيف تيكم" فذلك يحزنني ولا أعرف بالشر حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلًا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب، فأقبلت وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلًا شهد (¬1) بدرًا؟! قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضًا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي فدخل عليَّ رسول الله فسلم ثم قال: "كيف تيكم" قلت: تأذن لي أن آتي أبوي؟ قال: "نعم"، قالت: وأنا أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله. فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمة ما تتحدث الناس؟ قالت: أي بنية هوّني عليك فوالله لقلّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن، قالت: قلت سبحان الله وقد يحدث الناس بهذا؟. قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم من نفسه لهم ¬

_ (¬1) في "ي" "ب": (قد شهد بدرًا).

من الود فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت (¬1): فدعا رسول الله بريرة فقال: "يا بريرة هل رأيت شيئًا يريبك من عائشة؟ " فقالت بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السنن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقالت: قال رسول الله وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت عليها إلا خيرًا ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك (¬2) منه يا رسول الله إن كان (¬3) من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قال: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلًا صالحًا ولكن اجتلبته الحمية قال لسعد: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنَّه فإنك منافق تجادل (¬4) عن المنافقين، فثار الحيَّان الأوس والخزرج وهمُّوا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر، ولم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع [ولا أكتحل بنوم] (¬5) وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. ¬

_ (¬1) في "أ": (قال). (¬2) في الأصل: (عذرك). (¬3) (إن كان) ليست في "أ". (¬4) في "أ": (تخاطب). (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل.

قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل (¬1)، ولقد لبثت شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهد رسول الله حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت برية فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعتي حتى ما أحس منها فقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني (¬2) رسول الله، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر الله يعلم أني بريئة لتُصدِّقُنّي، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، والله مُبدٍ براءتي، ولشأني أحقر في نفسي من أن يتكلم الله جلّ جلاله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيّا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه -عليه السلام- (¬3)، وأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند ¬

_ (¬1) (ما قيل) ليست في الأصل. (¬2) المثبت في "أ"، وفي البقية: (عن). (¬3) (السلام) ليست في "ي".

الوحي أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فلما أسري عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك الله" فقالت لي أمي: فقومي إليه، فقلت: والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي، قالت: فأنزل الله تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} عشر آيات، فأنزل جل ذكره هذه الآيات براءتي. وقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وصغره: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة (¬1) ما قال، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لي، ورجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله سأل زينب ابنة جحش زوج النبي -عليه السلام- (¬2) عن أمري ما علمت أو ما رأيت قالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرًا، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -عليه السلام- (2) فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك (¬3). وهذا الحديث أتم من سائر الأحاديث. {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} من النساء (¬4)، {وَالطَّيِّبَاتُ} من النساء {لِلطَّيِّبِينَ} من الرجال {وَالطَّيِّبُونَ} من الرجال {لِلطَّيِّبَاتِ} من النساء {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} أي {ظَنَّ} بعضهم ببعض ¬

_ (¬1) في "أ": (بعائشة). (¬2) في "ي": (السلام) غير موجودة، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البخاري (4750)، ومسلم (2770). (¬4) تكررت العبارة (من الرجال) في كل النسخ إلا في "ب".

{خَيْرًا} والبعض هاهنا الصديقة بنت الصدِّيق أم المؤمنين وصفوان بن المعطل الذي زكاه رسول الله وقال: "ما علمت عليه من سوء قط ولا غبت في سفر إلا كتاب معي" وقال: "ما كشفت له بيتي قط" (¬1)، وأكرمه الله بالشهادة في سبيله، وإنما توجه عليهم الملام بتركهم قولهم {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} على سبيل الظن مع كون الخبر ممكنًا متصورًا موهومًا لتواتر أدلة الكذب {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في دين الله وحكمه. {وَلَوْلَا} ذلك لما كان كونهم (¬2) كاذبين في علم الله موقوفًا على عدم إتيانهم بأربعة شهداء، وفي الآية دليل على أنهم كانوا مطالبين بأربعة شهداء ولولا الإعجاز الإلهي لكان يمكنهم أن يأتوا بعد المطالبة بشهداء الزور مع كثرة المنافقين وفرط عصبيتهم (¬3). وعن عروة، عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله على المنبر وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم. يحتمل أن قولهم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} على سبيل التكرار، وأن قوله: {لَمَسَّكُمْ} جواب لما تقدم تشنيع الفاحشة تستفيض وأراد بها هاهنا الزنا والقذف وإنما كانوا يحبون ذلك من حيث إرادتهم الترخص والتساهل في هذا الباب، فلما كانوا متلوثين أحبوا أن يلوثوا بالتهمة غيرهم كقولهم قال الله فيهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] وقوله (¬4): {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} معطوفة على نظيرها قبل الجواب ويجوز أن يكون الجواب (¬5) مضمرًا (¬6)، ويجوز أن يكون جوابه (¬7) {مَا زَكَى} [النور: 21]. ¬

_ (¬1) من قوله (ولا غبت في سفر) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) في "أ": (كذبهم). (¬3) في الأصل و"أ": (عنتهم). (¬4) (وقوله) ليست في "ب". (¬5) (الجواب) ليست في الأصل. (¬6) إذا كان جواب لولا مضمرًا فإن التقدير يكون: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم. (¬7) (جوابه) ليست في الأصل.

عن ابن عباس (¬1) {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} نزلت في عائشة خاصة، واللعنة في المنافقين عامة. {دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي جزاؤهم الحق {وَيَعْلَمُونَ} على الضرورة والمشاهدة. {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يجوز أن يكون لفظها خبرًا ومعناها أمرًا وحكمًا كما في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] ويجوز أن يكون المراد بالخبيث الكفر وبالطيب الإيمان وبالطيبات الكلمات الطيبة (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا} روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد والد ولا ولد، فيأتيني الآتي فيدخل علي فكيف أصنع؟ فقال: "ارجعي" فنزل فأرسل إليها فقرأها عليها (¬3) {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} (¬4) تستعلموا إذن صاحب البيت وجوابه لكم، فكان عبد الله إذا دخل داره استأنس وتكلم. وعن ابن عباس: تستأذنوا (¬5)، وفيه تقديم وتأخير أي حتى (¬6) تسلموا وتستأنسوا السلم (¬7) عليكم أدخل (¬8). وقال عبد الله بن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم (¬9)، وقال جابر: استأذن على أمك هان كانت عجوزًا. (¬10) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (17/ 228)، والطبراني (23/ 153). (¬2) في الأصل: (الطيبات). (¬3) في الأصل و"ب": (عليه). (¬4) ابن جرير (17/ 242، 243). (¬5) ابن جرير (17/ 241). (¬6) من قوله (تستأذنوا) إلى هنا ليست في "أ". (¬7) في "ب": (السلام). (¬8) (ادخل) ليست في "ب" "ي". (¬9) ابن جرير (17/ 242)، والبيهقي (7/ 97). (¬10) ابن أبي شيبة (17605).

وعن أبي سعيد الخدري قال: استأذن أبو موسى على عمر فلم يؤذن له فانصرف فقال عمر: مالك لم تأتني؟ قال: قد جئت فاستأذنت فلم يؤذن لي فرجعت، وقد قال رسول الله: "من استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع" فقال له عمر: أقم بيَّنة هالا أوجعتك، فقال أبو سعيد: فأتانا أبو موسى وهو مذعور فزع (¬1) قال: جئت أستشهدكم، فقال أبي بن كعب: اجلس لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: كنت أصغر القوم فشهدت له عند عمر أن رسول الله -عليه السلام- (¬2) قال: "من استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع" (¬3). {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تؤنسوا ولم تحسوا صوت أحد، {هُوَ أَزْكَى} أي الأخذ بهذا الحكم أزكى. عن محمَّد ابن الحنفية في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} قال: هي الخانات تكون على الطريق ينزلها الناس وبيوت السوق (¬4)، وقالت عائشة: هي بيوت التجار لا إذن فيها (¬5)، وقال جابر بن زيد: لم تعن بالمتاع الجهاز ولكن ما سواه (¬6)، أما منزل ينزله قوم في ليل أو نهار أراد أن ينظر إليها رجل أو خربة يدخلها رجل لحاجة، فهذا المتاع (¬7) ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكل منافع الدنيا متاع. {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الغض في اللغة النقص، وغض الطرف خفضه وتقليل الالتفات، وغض الصوت خفضه وتقليله، وعن علي أن النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) في الأصل: (وفزع). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) البخاري (6245)، ومسلم (2513). (¬4) ابن جرير (17/ 249). (¬5) ذكره ابن جرير (17/ 249) عن ابن زيد. (¬6) ذكره القرطبي (12/ 199). (¬7) في الأصل: (متاع).

قال له: "يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي وكره لك ما أكره لنفسي لا تتبعن النظرة الأولى" (¬1) {ذَلِكَ} أي العفاف. {إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا} قال ابن عمر: ما ظهر منها الكفان والوجه (¬2) (¬3). وقال ابن عباس: الوجه والكف والخاتم (¬4)، وقال ابن مسعود: هي القرط والدملج والخلخال والقلادة (¬5) يعني مواضع هذه الزينة، ولهذا قلنا: لا بأس للرجل أن ينظر إلى ذوات محارمه إلى ما فوق سرتهن ودون ركبتهن إذا أمن الشهوة، والمراد بـ {نِسَائِهِنَّ} المؤمنات دون الكتابيات {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من المتشابه المختلف في تأويله (¬6)، وكذلك التابعون، ويجوز أن يكون {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} صفة الفريقين أو استثناء منهما. وقال الحسن والسفيانان: يكره أن ينظر العبد إلى شعر مولاته (¬7)، وقال مجاهد: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} الذين لا يهمهم إلا بطونهم ولا يخافون على عورات النساء (¬8) ولا يدرون ما هن من الصغر قبل الحلم، قال أبو مالك في قوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}: كن نساء في الجاهلية يجعلن في أرجلهن خرزًا فإذا مررن بالمجالس حركنه (¬9)، و {الْإِرْبَةِ} المأربة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، والبيهقي (7/ 90) والحديث حسن. (¬2) في الأصل: (الوجهان والكف). (¬3) ابن أبي شيبة (17011). (¬4) ابن أبي حاتم (8/ 2574)، وابن أبي شيبة (17018) وليس فيه الخاتم. (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 56)، وابن جرير (17/ 256، 257)، وابن أبي حاتم (8/ 2573، 2574)، والطبراني (9115 - 9117). (¬6) أي هل هو عام في المملوكة مسلمة كانت أم كتابية أم مشركة غير كتابية، وعن ابن جريج أن المراد بهن المسلمات دون المشركات. [الطبري في تفسيره (17/ 266)]. (¬7) نقلت الكراهة عن الشعبي والحسن ومجاهد وعطاء، انظر: القرطبي (12/ 205)، وفتح القدير (4/ 34). (¬8) ابن جرير (17/ 268). (¬9) ابن جرير (17/ 272)، وابن أبي حاتم (8/ 2508).

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} وهو جمع أيم وهي التي لا زوج لها سواء كانت بكرًا أو ثيبًا مات عنها زوجها أو لم تتزوج، ومنه قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" (¬1) فقال عمر: ما رأيت من تعدُّ أيمًا بعد هذه الآية، وقال عمر: ابتغوا الغنى في النكاح (¬2)، وكان بعض الكبار يكثر النكاح والطلاق، فسئل عنه قال: ألتمس الغناء في هاتين الخصلتين لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3) ولقوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. وفي قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} دليل على أن الإنسان لا يفتقر ولا يضطر إلى الفاحشة كافتقاره واضطراره إلى أكل الميتة {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} إما يرزقه الله زوجة أو جارية وإما يرفع الشهوة، قال الكلبي قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} نزل في غلام لحويطب ابن عبد العزى (¬4). وقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} نزل في مُسيكة وعائذة ومعوذة (¬5) ثلاث جوار لعبد الله ابن أبي ابن سلول (¬6) المنافق لعنه الله (¬7) {فَكَاتِبُوهُمْ} أمر ندب وإرشاد {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ (¬8) خَيْرًا}. قال إبراهيم النخعي: صدقًا (¬9)، وقال الحسن: دينًا وأمانة (¬10)، عبيدة ¬

_ (¬1) مسلم (1421). (¬2) عبد الرزاق في مصنفه (10385). (¬3) عن ابن مسعود، ابن جرير (17/ 275). (¬4) عزاه ابن حجر في الإصابة لابن السكن (3/ 407). (¬5) لم نجد في الروايات أن إحدى جواريه (عائذة) وإنما وردت مُسيكة ومعوذة وغيرهما. (¬6) في الأصل: (أبي بن سلول). (¬7) مسلم (3209) وفيه جارية واحدة. (¬8) في الأصل: (وإرشادًا أو {عَلِمْتُمْ فِيهِمْ}). (¬9) ذكره عن إبراهيم ابن الجوزي في "زاد المسير" (6/ 37). (¬10) ذكره عن الحسن ابن الجوزي في "زاد المسير" (6/ 37)، وعند ابن جرير عن الحسن (مالًا وأمانة).

السلماني: إقامة الصلاة (¬1)، سعيد بن جبير: إرادة الخير (¬2)، مجاهد وعطاء: المال (¬3). وهذا القول محمول على استفادته المال بعد عقد الكتابة، والمراد بالعلم غلبة الظن قبل عقده الكتابة جابر معجلًا (¬4) ومؤجلًا لأنه عقد على موجود مشار إليه كالبيع والخلع بخلاف السلم (¬5)، والمكاتب عبد ما بقي عليه شيء، قال -عليه السلام-: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته (¬6) درهم" (¬7). روى معبد (¬8) الجهني عن عمر بن الخطاب (¬9)، ومجاهد عن زيد بن ثابت (¬10) كذلك. {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} يعني من الصدقات كما قال: {وَفِي اَلرّقَابِ} [البقرة: 177]، أو يدفع مولاه بضاعة يستعين بها على أداء الكتابة، والحط عندنا على سبيل الندب والاستحباب دون الوجوب. وعن عائشة: وقعت جويرية بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها، وكانت ملاحة تأخذها العين، فجاءت تسأل رسول الله في كتابتها، فلما قامت على الباب فرأيتها كرهت مكانها وعرفت أن رسول الله سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا ¬

_ (¬1) ذكره عن عبيدة ابن الجوزي في "زاد المسير" (6/ 37). (¬2) ذكره عن سعيد ابن الجوزي في "زاد المسير" (6/ 37). (¬3) عن مجاهد رواه عبد الرزاق في المصنف (15571). وعن عطاء رواه عبد الرزاق في المصنف (15570)، والبيهقي في السنن (10/ 318). (¬4) (معجلًا جابر) في "أ". (¬5) في "ب": (العلم). (¬6) في الأصل: (كتابة). (¬7) أبو داود (3926) والحديث حسن. (¬8) في "ب": (سعيد). (¬9) البيهقي في سننه (10/ 325). (¬10) البيهقي في سننه (10/ 324).

يخفى، وإني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت على نفسي فجئت أسألك في كتابي، فقال رسول الله: "هل لك إلى ما هو خير منه؟ " قالت: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: قد فعلت، قال: فتسامع الناس أن رسول الله قد تزوج جويرية فأرسلوا ما في أيديهم من النبي فأعتقوهم، فقالوا: أصهار رسول الله، فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق في سبيها مائة أهل بيت من بني المصطلق (¬1). وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لاعتبار حال من نزلت فيه لا لتعليق الحكم بالشرط. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} اتصالها من حيث اعتبار بيان الأحكام والزجر عن الآثام {مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الذين قصصهم في القرآن. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وصفه بها من المتشابهات التي لا ينبغي تأويلها بعد الاعتقاد بأنه متعال عن مجانسة الشمس والقمر وما في معناهما لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] و (النور) في اللغة: ما يبين المحسوس أو المعقول وليس من شرط الضياء والشعاع، قال -عليه السلام- (¬2) مخبرًا عن الله: "الشيب نوري" (¬3) وقال: "اللهم اجعل النور في بصري" (¬4) وقال: "من أراد أن ينظر إلى رجل نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة" (¬5) فالله نور لا كسائر الأنوار مبين كل محسوس ومعقول، ونوره غيره ألا ترى أنه قال: {مَثَلُ نُورِهِ} ولم يقل مثل نوره. ¬

_ (¬1) أبو داود (3931)، والطبراني في الكبير (24/ 61/ (159))، والحاكم (6781) والحديث حسن. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) هذا حديث لا يصح ذكره الديلمي في مسند الفردوس. (¬4) ورد هذا في حديث موضوع، كما ورد من دعاء بعض الصالحين. (¬5) عزاه صاحب الكنز (33244) لابن منده والطبراني، والحارث: هو الحارث بن مالك الأنصاري.

وقال الكلبي وغيره: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} هادي أهل السموات (¬1) لأنه قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقال ابن عرفة: نور أي منور السموات ألا ترى ذكر المصباح والكواكب، وقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]، وقال الأزهري: {نُورُ السَّمَاوَاتِ} مدبر أمرها لحكمة بالغة وحجة نيرة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] الآية وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45] وقيل: الله جاعل نور السموات والأرض، حذف المضاف (¬2) وأقام المضاف إليه مقامه، ألا ترى قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] ثم اختلاف الفريقين في النور المضاف (¬3) قيل: إنه محمَّد -عليه السلام- (¬4)، وقيل: هو القرآن (¬5)، وقيل: هو المعرفة {كَمِشْكَاةٍ} ككوة لا منفذ لها (¬6)، وقيل: موضع الفتيلة {مِصْبَاحٌ} سراج في زجاجة، وهي خلاصة شفافة من الرمل والحجر من شجرة زيت {زَيْتُونَةٍ} شجرة بالشام ثمرتها كالتوت إلا أنها تنعصر دهنًا، والزيت هذا الدهن {لَا شَرْقِيَّةٍ} فتزول عنها الشمس بعد الزوال {وَلَا غَرْبِيَّةٍ} فلا تصل إليها الشمس قبل الزوال، ولكنها شجرة في ربوة من الأرض لا تفارقها الشمس من أول النهار إلى آخره (¬7)، ¬

_ (¬1) يروى عن ابن عباس كما عند ابن جرير (17/ 295)، وابن أبي حاتم 8/ 2593 - 2595)، وقد ردّ شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 374) على الذين أرادوا تأويل اسم النور بمعنى الهادي. والله نور ويهدي بنوره أما إنكار النور وأنه بمعنى الهداية فهذا الذي رده شيخ الإسلام. (¬2) (المضاف) ليست في "أ". (¬3) من قوله (إليه مقامه) إلى هنا ليست في "أ". (¬4) جاء عبد الله بن عباس إلى كعب الأحبار فقال له: حدثني عن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ....} [النُّور: 35] الآية، فقال كعب: {مَثَلُ نُورِهِ} مثل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كمشكاة، أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 299)، وابن أبي حاتم (8/ 2596) وهو قول سعيد بن جبير. (¬5) وهو قول الحسن وابن زيد، أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (17/ 305). (¬6) وهو قول كعب وابن جريج وكذا قال الفراء. [الطبري (17/ 305)، معاني القرآن للفراء (2/ 252)، زاد المسير (3/ 295)]. (¬7) وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة، أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (17/ 311)، وابن أبي حاتم (8/ 2600).

وزيتونة هذه الشجرة ألطف وأنضج، وقيل: هي التي لا تصيبها الشمس قبل الزوال ولا بعد الزوال فيغلظ زيتها وتتغير رائحتها، ولكنها في الظل وزيتها دقيق لطيف ورائحتها طيبة، ويحتمل أنها التي لا تكون في ديار الشرق ولا في ديار الغرب ولكنها في وسط الأرض بالشام فإن الشام منبت الزيتون وموضعه {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} تشبيه التشبيه وتمثيل التمثيل كقولك: مثل زيد مثل زينب العذراء التي كأنها الشمس. {فِي بُيُوتٍ} مطروفة الزجاجة والمشكاة أو {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أو {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أو تسبح. وهذه (البيوت) هي المساجد {أَذِنَ اللَّهُ} أمر الله ووفقه. وعن ابن بريرة قال: هن أربع مساجد لم يبنهن إلا نبي: الكعبة، بناها إبراهيم وإسماعيل -عليه السلام- فجعلاها قبلة، وبيت أريحا بيت المقدس بناها داود وسليمان -عليه السلام-، ومسجد المدينة بناه محمَّد -عليه السلام- (¬1)، ومسجد قباء أسس على التقوى (¬2) بناه رسول الله -عليه السلام- (¬3). {لَا تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم، قيل: هم (¬4) قوم في بيوعهم وتجاراتهم يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة، {يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} في الجوف فلا تقدر تخرج حتى تقع في الحنجرة لقوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18]، وقيل: تقلبها عن طبائعها {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] الآية، و (تقلب الأبصار) شخوص أبصارهم أو نظرهم في طرف خفي. {كَسَرَابٍ} شعاع منعكس من وجه الأرض يتلألأ كالماء {الظَّمْآنُ} كالعطشان من العطش، وإنما تكون أعمالهم كذلك لاعتمادهم عليها دون فضل الله ورحمته، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} في المثل دون الممثل به. {لُجِّيٍّ} منسوب إلى اللجة وهي قاموس البحر {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} مسند ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ابن أبي حاتم (8/ 2604). (¬3) (السلام) ليست في ل "ي". (¬4) في "أ" "ب" "ي": (قيلهم).

إلى {الظَّمْآنُ} كأنه ابتلي بالسراب مرة وبالظلام أخرى، وقيل: مسند إلى مضمر، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}. عن عبد الله بن المسور قال: تلا رسول الله -عليه السلام- (¬1) {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال: "تقذف به القلوب" (¬2) قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: "الأنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت" (¬3). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ} اتصالها من حيث اعتبار الله نور المحسموات، {وَالطَّيْرُ} معطوف على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} رفع بالتسبيح {صَافَّاتٍ} نصب على الحال، وصف الطائر: إذا بسط جناحه وحلق ولم يقبضها، وتخصيص هذه الحالة لقرار الطائر عليها في مكان واحد من الجو أو لحسنه عليها في رأي العين، وقيل: المراد بها الاصطفاف والانتظام في خط كالكركي ونحوها، والهاء في {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} عائد إلى الله تعالى، وقيل: إلى {كُلٌّ}. {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي بين أجزائه فيجعله {رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {مِنْ بَرَدٍ} هو القطر الجامد، قيل: ينزل من السماء بردًا من جبال في السماء الدنيا من جبال من برد وجبل باقٍ إلى يوم القيامة، وقال ابن عمر: جبال السماء أكثر من جبال الأرض. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) من قوله: (قالوا يا رسول) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) الحديث أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 541) من حديث أبي جعفر عبد الله بن المسور قال: لما نزلت هذه الآية {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت.

ثم الآية بعد هذه الأقاويل تحتمل أربعة أوجه: أحدها: أراد بالجبال السحاب فإنها تشبه الجبال. والثاني: أراد الرياح الشديدة التي اعتمد بعض أجزائها على بعض وتلوث بالغبار (¬1). والثالث: أراد نفس البرد أي: وينزل من السحاب جبالًا من برد. والرابع: أراد الشواهق التي كانت رؤوسها في السماء لشدة ارتفاعها وطول سمكها، وهذه الشواهق قل ما تخلو من الثلج والسحاب. والذي يعوم في الماء داخل في جملة {مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ}، والطير داخلة في جملة {مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} والذي يزحف على أربعة كثيرة داخل في جملة {مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} وإنما قيل: (من) و (منهم) كتغليب العقلاء. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وجه تكراره حسن رد الكلام على صدره فإن الفضل كان فضلًا، ولهذا في بيان المحسوسات والمعقولات والموهومات على مقدار الحاجة في تعمية بعضها على بعض على سبيل الابتلاء. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا} فضل مبتدأ (¬2) واتصالها من حيث اعتبار الأئمة أهل الإفك فإنهم كانوا جماعة من المنافقين والفاسقين، فكذلك هذا الفضل في جماعة من المنافقين. وعن ابن عباس قال: "لما قدم رسول الله المدينة سأل الأنصار بور أرضهم التي لا تزرع للمهاجرين، قال: فدفعوها إليه وقالوا: هي لك يا رسول الله فاصنع بها ما شئت، قال: فجعل يقسمها بين المهاجرين، فجعل يعطي الرجل الأرض ويعطي الرجلين يعملان بها ويزرعانها ويقومان عليها، فأعطى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب أرضًا بينهما فاقتسماها بينهما، فوقع نصيب عثمان في عمارتها وحد أرضها ووقع لعلي في مكان منها لا يصيبه الماء إلا بمشقة ونفقة وعلاج لا يكاد ¬

_ (¬1) من قوله: (التي اعتمد) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) أي في قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} الآية. فـ"فضل الله" مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا والتقدير: لولا فضل الله عليكم لعاجلكم بالعقوبة.

ينالها الماء، فقال عثمان لعلي: بعني أرضك، قال: فباعها إياه فقبض الثمن وسلم الأرض. قال: فندم عثمان قومه وقالوا: أي شيء صنعت؟ عمدت إلى أرض سبخة لا ينالها الماء فاشتريتها؟! ردّها عليه، فلم يزالوا به حتى أتاه فقال: اقبض مني أرضك فإني قد اشتريتها فلم أرضها على أرض لا ينالها الماء، فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها مني وأنت تعرفها وتعلم ما هي فلا أقبلها منك، فدعاه علي أن يخاصمه إلى رسول الله [فقال قوم عثمان: لا تخاصمه إلى رسول الله] (¬1) فإنك إن خاصمته إليه قضى له عليك فهو ابن عمه وأكرم عليه منك، ثم اختصما إلى رسول الله وقصّا عليه القصة فقضى لعلي على عثمان - رضي الله عنهما - وألزمه الأرض، ونزل في قوم عثمان (¬2): {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} الآية. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} الرسول (¬3) {بَيْنَهُم} بالقرآن قال الفراء: الحكم للرسول وذكر الله للتعظيم (¬4) {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} عن رسول الله والقرآن. {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} القضاء {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} طائعين، و (الإذعان): الإسراع مع الطاعة، وقال الفراء: مطيعين غير مستكرهين (¬5). {أَفِي قُلُوبِهِمْ} نفاق {أَمِ ارْتَابُوا} شكوا في الله ورسوله والقرآن وإيمانهم {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ} ويجور الله عليهم {وَرَسُولُهُ} في الحكم {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) لم نجده، وقد ورد أنها نزلت في المنافقين، ورائحة التشيع ظاهرة من هذا الأثر. لكن ذكر القرطبي أن الخصومة في ماء وأرض كانت بين المغيرة بن وائل من بني أمية وعلي بن أبي طالب (12/ 293). (¬3) (الرسول) ليست في "ب". (¬4) ذكره الفراء في معانيه (2/ 257). (¬5) ذكره الفراء في معانيه (2/ 257).

وإنما حسن الجمع بألف الاستفهام و (أم) المترتبة عليها بين شيئين متغايرين كقولك إنها لإبل أم شاة لتصور المغايرة بين المعاني هاهنا، فإن مرض القلب يتصور بالحيرة المتولدة من السفه، ومجرد الجهل دون الشبهات، وباليأس عن روح الله والمقت له من غير ارتياب وخوف حيف، ويتصور الارتياب في أمر القرآن والنبوة من غير حيرة في ظاهر التوحيد ويأس عمن هو الخالق الرازق ومقت له، ويتصور خوف الحيف بالتسخط على قضاء الله وقدره من غير حيرة ويأس ومقت وارتياب في الظاهر، وقيل: مرض القلب أن يضمر الرجل خلاف ما يظهره ويعتقد نقيض ما يعلنه، والارتياب أن يرتاب في حق أو باطل من غير اعتقاد خوف، الحيف أن يعتقد جواز كون الظلم من صفاته. وقيل: تقدير الآية: في قلوبهم مرض سابق باق، أم ارتابوا آنفًا، أم يخافون ظلم الله من غير هذين، ويحتمل أن الآية الأولى في شأن المنافقين من قوم عثمان، وهذه الآية في شأن الفاسقين منهم. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى كتاب الله ورسوله {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ليقضي بينهم، وقيل: هذه الآية متأخرة عن قول عثمان، وإنما مدح له وثناء عليه {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} أجبنا {وَأَطَعْنَا} ما أمرنا به {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} الآية، فلما نزلت (¬1) فيهم أقبل عثمان - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) قال: يا رسول الله لئن شئت والله لأخرجن من أرضي كلها لأدفعها إليه فنزل [{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ (¬3)}] (¬4) قُل لَّا تُقُسِمُواْ} لا تحلفوا، فإن الله لو بلغ منكم الجهد لم تبلغوه ثم قال: ¬

_ (¬1) الأصل و"ب": (نزل). (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل. (¬3) مرّ قبل قليل أننا لم نجده، وهناك أقوال أخرى ليس فيها ذكر لعثمان - رضي الله عنه -، وكأن هذه رواية للكلبي، كما سيأتي، وهي روايات باطلة لا يعتد بها. (¬4) ما بين [...] ليست في الأصل.

{طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي: أطيعوه، وقولوا له المعروف؛ أي الائتمار بأمر رسول الله طاعة معروفة غير منكرة، أو عليكم طاعة معروفة لا إصْر ولا ثقل فيها أو طاعتكم معروفة مقبولة، هذا في المؤمنين المصلحين خاصة. ونزل (¬1) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} تتولوا {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي وإن تطيعوا الله ورسوله تهتدوا من الضلالة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ} (¬2) محمَّد {إِلَّا الْبَلَاغُ} بالرسالة {الْمُبِينُ} يبين لكم، وذكر الضحاك أن هذه الخصومة كانت بين علي وبين المغيرة بن وائل (¬3). {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} قال الكلبي: إن عثمان في جملة الموعود لهم الاستخلاف {وَمَن كفَرَ} أي كفر النعمة الذي ضده الشكر، ولا شك أن عثمان من جملة الخلفاء الراشدين، وقيل: أراد بالكفر الشرك الذي هو ضدّ الإيمان، وكذلك المراد بالفسق كما في قصة إبليس، وأول من نقض عهد الخلافة وغيرها وبدلها قوم عثمان حين استحوذوا عليه (¬4) واستضعفوه وتسلطوا على عباد الله، وصدقت فراسة عمر بن الخطاب فزوّر مروان بن الحكم كتابًا وختمه بخاتمه وبعث به غلامه على ناقته إلى أن تم سعيه في دمه (¬5) {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]. وعن علي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) يقول لعثمان:"لو أن لي أربعبن بنتًا زوجتك واحدة بعد واحدة" (¬7). وسأل قوم الحسن بن علي عن عثمان بن عفان فقال: اجلسوا حتى يخرج أمير المؤمنين، فخرج ¬

_ (¬1) (ونزل) ليست في "ب". (¬2) في الأصل: (الرسول) وهو خطأ. (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره (12/ 293) دون أن ينسبه إلى الضحاك. (¬4) في "ب": (عليهم). (¬5) هذا تأويل فاسد مبني على رواية مجهولة وتفسير غير ثابت، وكان على المؤلف أن يبعد نفسه عن مثل هذه الأمور. وانظر كيف شرع بالدفاع عن عثمان بن عفان بتكلّف لظنه أن أسباب النزول ثابتة. (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "ي". (¬7) ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (1/ 750) ولا يثبت.

[علي]- رضي الله عنه - فسألوه فقال: كان عثمان من الذين آمنوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] (¬1). وعن عبد خير (¬2) قال: وضأت علي بن أبي طالب برحبة الكوفة (¬3) فقال: يا عبد خير سلني فقلت: عما أسألك يا أمير المؤمنين؟ فضحك ثم قال: وضأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) كما وضأتني فقلت: يا رسول الله من أول من يُدعى إلى الحساب؟ فقال: "أقف بين يدي ربي -عَزَّ وَجَلَّ- ما شاء الله ثم أخرج وقد غفر لي" قلت: ثم من يا رسول الله؟ قال: "ثم أبو بكر يقف مثل ما وقفت مرتين أو كما وقفت ثم يخرج وقد كفر الله له" قلت: ثم من يا رسول الله؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب يقف كما يقف أبو بكر مرتين ثم يخرج وقد كفر الله له" قلت: ثم من يا رسول الله؟ قال: "ثم أنت يا علي" قلت: يا رسول الله (¬5) فأين عثمان بن عفان؟ قال: "عثمان رجل ذو حياء سألت ربّي -عَزَّ وَجَلَّ- أن لا يوقفه للحساب فشفعني" (¬6). {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قال مجاهد عن ابن عباس: يعبدونني ولا يخافون غيري (¬7). {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في المذكورين بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} ولا يبعد كون يزيد بن معاوية (¬8) وأشياعه والقداحين وأتباعهم مرادين به. ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (32060)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 56) (7/ 224)، وابن عساكر في تاريخه (39/ 465). (¬2) تابعي كوفي مخضرم لازم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) (الكوفة) في الأصل مكررة. (¬4) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل. (¬5) من قوله (يا رسول الله قال) إلى هنا سقطت من "ب". (¬6) ابن عساكر في تاريخه (39/ 96 - 97). (¬7) عزاه صاحب الدر (11/ 100) لعبد بن حميد. (¬8) تفسير غير مقبول وتظهر مسحة التشيع والتحامل علي بني أمية.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن عباس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج ظهيرة إلى عمر ليدعوه، فانطلق الغلام إليه فوجده نائمًا قد أغلق على نفسه الباب، فسأل الغلام عنه فأخبر أنه في البيت، قال: فدفع الغلام الباب على عمر وسلَّم فلم يستيقظ، فرجع الغلام وردّ الباب فقام من خلفه وحركه فاستيقظ عمر، فجلس وانكشف منه شيء، فرآه الغلام وعرف عمر أن الغلام قد رأى ذلك منه فقال: وددت والله أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا هذه الساعة علينا إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى رسول الله فوجده وقد نزل عليه الآية فحمد الله (¬2) عمر، فقال رسول الله: "وما ذاك يا عمر؟ " فقال: يا رسول الله الغلام عندك فسله، فسأله فأخبره كيف أتاه، قال: فتعجب رسول الله من صنع الغلام فقال: "ممن أنت يا غلام؟ " لا فقال: يا رسول الله أسمي مُدلج وأنا غلام من الأنصار، فقال رسول الله: "أنت مُدلج تلج في طاعة الله وطاعة رسوله وأنت ممن يلج الجنة، لئن كنت استحييت من عمر إنك لمن قوم شديد حياؤهم رفقاء في أمرهم يسبق صغيرهم كبيرهم" (¬3) ثم قال رسول الله: "إن الله يحب الحليم المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف" (¬4). وسأل رجلان ابن عباس عن الاستئذان في الثلاث العورات قال: ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل. (¬2) إلى هنا ذكره القرطبي (12/ 276)، والبغوي في تفسيره، وابن الجوزي في زاد المسير (6/ 60)، والرواية من طريق الكلبي كما في ترجمة مدلج في الإصابة (6/ 61). (¬3) أشار لهذه الرواية ابن حجر في الإصابة (6/ 60). (¬4) ورد هذا الحديث عن عدة من الصحابة: - فقد ورد عن عبد الله بن مسعود عند الطبراني (10442) (22/ 413/ 1024). - عروة بن مسعود عند ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (86). - أبو هريرة كما عند أبي الشيخ في "طبقات أصبهان" (2/ 304). - وورد مرسلًا عن عمرو بن ديار عد ابن أبي الدنيا في الحلم (54). والحديث صححه لغيره في صحيح الترغيب للألباني - رحمه الله - (819).

إن الله سِتِّير يحبُّ السِّتر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حج الذي بيوتهم، وربما فاجأ الرجل ولده وخادمه أو يتيمه في حجره، وهو مع أهله، فأمرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يستأذنوا في الثلاث الساعات التي سمى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ثم جاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- باليسر وبسط عليهم الرزق فاتخذوا الستور والحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم عن الاستئذان الذي أُمِروا (¬1). وسئل الشعبي عن قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: لم تنسخ (¬2) لأن ابن عباس ذكر ما يجزي من الاستئذان ولم يخبر عن نسخ الآية {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} الساعات المعورة فإنهن من الأيام والليالي كالحلل في الدور، يقال: دار عورة معورة وأراد بالمماليك الصغار؛ لأن (¬3) العادة أن الناس يستخدمون الغلمان دون الفحول و {الظَّهِيرَةِ} الهاجرة. {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ} عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬4): "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" (¬5). {وَالْقَوَاعِد} اللوازم {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} لكبرهن، واحدتهن قاعد كحائض وطامث {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} خمارهن {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} متزينات والمعنى في نهيهن كون الزينة مشهية للناظرين فما لا يشتهى {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} عن وجه الثياب {خَيْرٌ لَهُنَّ} للاحتياط. {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} وعن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (¬6): أن المسلمين كانوا يرغبون في النفير مع ¬

_ (¬1) أبو داود (5192)، وابن أبي حاتم (8/ 2632)، والبيهقي (7/ 97) وهو حسن. (¬2) ابن أبي شيبة (17614). (¬3) في "ب": (أن). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) أبو داود (5189) والحديث صحيح. (¬6) (بن مسعود) ليست في الأصل.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعطون متاعهم رجالًا كانوا يتخلفون من أهل العلة، ومن كان لا يستطيع الخروج مع رسول الله -عليه السلام- (¬1)، ويستخلفونهم عليها مالًا فقدموا من بعد أسفارهم فشكوا إليهم الحاجة وما أصابهم بعدهم، قالوا: فهلا أصبتم مما في بيوتنا إذا أصابكم مثل ذلك، قال: فأصابوا منها فضاقت من ذلك وقالوا: نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، وإن قالوا بألسنتهم ما قالوا، فنزلت (¬2). وعن مقسم: كانوا يكرهون الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض لأنهم لا ينالون كما ينال الصحيح، فإن الأعمى لا يبصر جيّد الطعام والمختار، والأعرج ربما لا يتمكن من الجلوس متهيئًا للاستيفاء، والمريض لا يقدر على سرعة الأكل ولا على أكل ممتد لما يعرض له من الألم والعلة فنزلت. فعلى هذين الآية (¬3) عامة. وعن مجاهد: كان رجال زمنى عمي عُرج أولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا لهم طعامًا ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وسائر المعدودين في الآية، فكره ذلك المستتبعون فأنزل هذه الآية (¬4)، مختصة بالمتبسطين في بيوت أهل المعروف والسماحة. وقال الفراء: {عَلَى} هاهنا مكان (في) أي {لَيْسَ} في {الْأَعْمَى حَرَجٌ} ولا في {الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} {وَلَا} في {الْمَرِيضِ حَرَجٌ} يعني في مؤاكلتهم، والعرج في الرجل بمنع عن المشي المستوي {أَوْ صَدِيقِكُمْ} حبيبكم ومؤاخيكم {أَوْ أَشْتَاتًا} جمع شت وهو المتفرق {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كان ابن عمر إذا دخل بيتًا ليس فيه أحد أو بيته وليس فيه أحد ¬

_ (¬1) (-عليه السلام-) ليست في "ب" "ي". (¬2) عزاه في "الدر المنثور" (11/ 114). (¬3) قريبًا منه عند ابن جرير (17/ 366)، وابن أبي حاتم (8/ 2643)، وليس فيه ذكر أسباب النزول. (¬4) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 64)، وابن جرير (17/ 367، 368)، وابن أبي حاتم (8/ 2645)، والبيهقي (7/ 275).

يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (¬1).وعن إبراهيم النخعي مثله (¬2). وذكر سفيان عن أبي سنان عن ماهان قال: يقولون السلام علينا من ربنا (¬3)، وقال مجاهد: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: بسم الله والحمد لله السلام علينا من ربنا وعلى عباد الله الصالحين (¬4). وقال الفراء: من دخل مسجدًا ليس فيه أحد فليقل: السلام على رسول الله، السلام علينا من ربنا، السلام عَلى عباد الله الصالحين (¬5). {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا خطب يوم الجمعة عرض بالمنافقين يعيِّرهم في خطبته ويجعلهم رجسًا، فإذا سمعوا ذلك منه عرضوا لمكانهم ثم نظروا يمينًا وشمالًا، فإذا أبصرهم إنسان لم يقوموا ولبثوا حتى يصلوا الجمعة معه، فإن لم يبصرهم أحد تسللوا فخرجوا من المسجد ولم يصلوا معه الجمعة، فأنزل. وكان دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة وقدم كل ما يحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغير ذلك، لا يبقى أحد إلا أتاه من بين ناظر وبين مبتاع، فكان المسلمون لا يخرجون بعد نزول هذه الآية، لا يخرجون حتى يستأذنوا رسول الله، وأما المنافقين فكانوا يخرجون بغير إذن (¬6). {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ} اتصالها من حيث اعتبار توقير رسول الله، قيل: هو النداء من وراء الحجرات، وقيل: ¬

_ (¬1) البخاري في الأدب (1055)، وإسناده حسن. (¬2) الطبري (17/ 381). (¬3) الطبري (17/ 381)، وابن أبي شيبة (25836). (¬4) ابن أبي حاتم (8/ 2650)، والبيهقي في الشعب (8839). (¬5) ذكره الفراء في معانيه (2/ 261). (¬6) القرطبي (12/ 293)، وابن الجوزي (6/ 69).

هو التصريح بمجرد اسمه من غير ذكر الرسالة والنبوة، وقيل: هو التسوية بينه وبين سائر الناس بالدعاء له. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: لا ينبغي الصلاة على أحد إلا على النبي -عليه السلام- (¬1) (¬2). ولذلك كرهنا إطلاق لفظة الصلاة على سبيل الابتداء في دعاء غير الأنبياء {يَتَسَلَّلُونَ} ينسلون {لِوَاذًا} استتارًا أو التجاءً وذلك لأن بعض المنافقين كان يختفي وراء بعض {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} دليل على وجوب الأمر على جواز نسخ الكتاب بالسنة، وإنما قيل {عَنْ أَمْرِهِ} لاعتبار المعنى وهو الإعراض. {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} قد بينا الكلام في العدول عن المغايبة إلى المخاطبة {وَيَوْمَ} معطوف على {مَآ} وقيل: ظرف لمضمر {فَيُنَبِّئُهُمْ} معطوف على {يَعْلَمُ} أو على مضمر، والمضمر يجمعهم أو نحوه. وعن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬3): "من قرأ سُورَةُ النور كان له عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة" (¬4) وعن أحمد بن حنبل قال: إذا روينا عن رسول الله في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد (¬5). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) الطبراني في الكبير (11813). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) مرّ أنه حديث موضوع لا يصح. (¬5) قول أحمد ذكره ابن حجر في القول المسدد (11)، وابن تيمية في المسودة (246)، والخطيب في الكفاية (134). وهو مروي عن ابن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي. ومناسبة سياقه لهذا القول إيراده فضائل لسورة النور وهو يعلم أنها موضوعة وتالفة وليس مقصود أحمد مثل هذه الروايات.

سورة الفرقان

سُورَةُ الفُرْقَانِ مكية (¬1) في أكثر الأقاويل، وروى المعدل عن ابن عباس أن قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى انتهاء ثلاث آيات نزلت بالمدينة (¬2)، وهي سبع وسبعون آية بلا اختلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة كالتمالك والتماسك بخلاف التضاحك والتشارك، والتبارك صفة دونه لأن العبارة عنه ثابتة لا تنافيها عبارة في وصف الله تعالى بوجه، فهو متبارك حميد مجيد لم يزل ولا يزال سبحانه من متبارك متفاعل. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} الآية عامة في المشركين من عبدة الأرواح ¬

_ (¬1) نقل مكيتها عن ابن عباس عند ابن الضريس (17، 18)، والنحاس (603)، والبيهقي في الدلائل (7/ 142 - 144). (¬2) نقل القرطبي (13/ 5) عن ابن عباس مكيتها وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن عباس وقتادة مكيتها واستثناء ثلاث آيات. ونقل عن الضحاك مدنيتها وفيها آيات مكية مثل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ ...} [الفرقان: 68]. ونقل ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 71) عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وآخرين مكيتها. ونقل عن ابن عباس وقتادة مكيتها إلا الآيات المستثناة. (¬3) انظر: "البيان في عدَّ آي القرآن" (194).

والأشخاص، يدل عليه قوله في "المائدة": {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76] وفي الآيتين ردّ على القدرية. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة (¬1). {اكْتَتَبَهَا} من الكتابة التقول من القول، وقيل: استكتبها. {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} تخصيصه به هو التنبيه على الاستدلال بما في القرآن من الأحكام لكون الكوائن في المستقبل، مثل اللزام وغلبة الروم والدخان وكفاية المستهزئين، وبما كان يخبر رسول الله من الغيب مثل أخبار ليلة الإسراء، وأكل الأرضة صحيفة قريش لما تكاتب علي بني هاشم حين أبوا أن يدفعوا رسول الله إليهم، وذلك أنهم كانوا يتهمون رسول الله أنه يتعلم من حبر ويسار وعايش فبرأه الله تعالى مرة بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومرة بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، فلما نبههم على هذا رموه بالشعر والسحر والكهانة، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ترغيب وتعريض بقبول التوبة إن تابوا. فقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن نفرًا من قريش وهم ستة عشر رجلًا وهم المقتسمون؛ ثلاثة نفر من بني عبد شمس ابن (¬2) حنظلة بن أبي سفيان وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وسبع من بني مخزوم أبو جهل والعاص بن وائل وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أبي أمية وهلال بن الأسد والسائب بن صيفي، ورجلان من بني أسد أبو البحتري وعبد الله بن أبي أمية، ورجل من بني عبد الدار وهو النضر بن الحارث، ورجل من بني سهم وهو نبيه بن الحجاج، ¬

_ (¬1) رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأن الآية نزلت في النضر بن الحارث بن بمدة بن علقمة بن عبد مناف وذكر سبب النزول بطوله. أخرجه الطبري في تفسيوه (18/ 400)، وانظر: سيرة ابن إسحاق (256)، وسيرة ابن هشام (1/ 300). (¬2) (ابن) من الأصل فحسب.

ورجلان من بني جمح أمية ابن خلف وأويس بن المغيرة، اجتمعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) عند الكعبة، قد توافقوا على الكفر وبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ليكلَّموه، فجاء مسرعًا وهو يظن أنه قد بدا لهم فيه بداء، وكان حريصًا عليهم يحمب رشدهم وهُداهم، فلما جلس إليهم قالوا: يا محمَّد قد بعثنا إليك لحاجة فاستمع (¬3) منا وأجنا بالذي نسألك عنه، فقال لهم رسول الله: "إن شاء الله". قال: فبدأ أبو جهل بن هشام فقال: يا محمَّد أنت ابن عمنا ومن عشيرتنا وأنت فينا فقير عائل ضعيف ولا تحب أن نقول لك إلا ما يعرف قومك، وقد أتيتنا بأمر لم يواطئك عليه أحد من عشيرتك فيه خير (¬4) ولا أحد ممن سواهم معه غفلة، ونراك قلت قولًا ما قاله أبوك ولا أحد معه عقله، وقد نعلم أن الشياطين يحضرون سفهاء الناس فلا تكن ممن تضع قومه وتسمع بهم الناس فيكون لنا ذلك وضيعة ما بقينا، وقد علمنا أن الله جليل عظيم لا ينبغي لرسوله أن يمشي بيننا فقيرًا عائلًا، وهو ذي أنت تمشي في الطريق معنا وتأكل الطعام كما نأكل، ولو شاء الله لجعل ملائكة من عنده يقضون من أمره إنه على ذلك قدير. قال: ثم تكلم عتبة بن ربيعة فقال: يا محمَّد (¬5) بن عبد المطلب انظر الذي تكلمت فيه فراجعنا منه فإنا لك ناصحون، وإن أنت مضيت على الذي أنت لم تضرَّ بذلك إلا نفسك، ونحرض الناس على قتلك ونعلم أن قد عصيتنا وعصيت أمرنا ورضيت فضيحتنا، فواجعنا فإنا قد علمنا أن الله رب كل شيء، فمالك لا تراجعنا ومالك لامنا يغلب كلامك، وأنت تزعم يابن عبد المطلب أنه كلام الله، أفكلامنا يغلب كلام الله؟! هذا لتعلم أنك ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل فحسب. (¬2) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل. (¬3) في الأصل: (فاسمع). (¬4) (فيه خير) بدله فراغ من "أ". (¬5) المثبت من الأصل، وفي البقية: (فقال: يا ابن عبد المطلب).

مغرور مسحور، ألست تعلم أن الله يعلم غيب كل شيء؟ قال: "بلى حقًا يقينًا وأنا على ذلك من الشاهدين". قال: فإن كنت كما تزعم أنك رسوله فما منعه أن يخبرك أن قريشًا سيقولون كذا وكذا فردَّ عليهم كذا وكذا، هذا لتعلم يا محمَّد أنك قد أتيت بأمر عظيم باطل لا يصبر عليه، يابن عبد المطلب ألست تعلم أن الله يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؟ قال: "بلى حقًا يقينًا وأنا على ذلك من الشاهدين " قال: أفلا يلين قلوبنا لنصدقك بما تقول فنؤمن لك، هذا لتعلم أنك لتأتي (¬1) بأمر عظيم، أفلا ألقي إليك كنز من ذهب فتستغني به عن الناس؟! قال: ثم تكلَّم أمية بن خلف الجمحي فقال: ي ابن عبد المطلب لا عليك ألست تعلم أن الأرض والخلق والجبال كلها لله، فقال رسول الله: "بلى حقًا ويقينًا وأنا على ذلك من الشاهدين" قال: فهلمَّ فاجعل في أرضنا زرعًا وينبوعًا وإنها أرض ضيقة جدبة شديد عيشها بعيد ماؤها، وإلا فأعطنا مالًا نتبعك عليه فإن المال يفتن الناس عن دينهم، فاعطنا مالًا لعلنا نفتتن عن ديننا ونتبع دينك، فإن لم تستطع ذلك فاسند لنا إلى السماء سلمًا نكلم الله ثم نراه، أو ائتنا بالملائكة إن كنت من الصادقين، وإلا فإنا تقدمنا إليك بالمعذرة وإن نراك فقيرًا ضعيفًا إن تعد لمقالتك فَهُلْكٌ، أمعجز الله أن يجعل في الأرض نبيًا من خيرته، أو يبعث من الملائكة من يصطفي، أو يختار رجلًا من القريتين عظيمًا إما من مكة وإما من الطائف، لقد جئت قومك بأمر عظيم أجبنًا يابن عبد المطلب؟! فقال رسول الله: "إني آمنت (¬2) بربي وربكم لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون". ثم قال عبد الله بن أبي أمية: يابن عبد المطلب أما تستطيع أن تأتي قومك بما يقولون لك (¬3)؟ قال: "لا" قال: فاتنا بالله والملائكة قبيلًا حتى ¬

_ (¬1) (لتأتي) ليست في "ب". (¬2) (آمنت) من "ب" "ي". (¬3) (لك) ليست في الأصل.

يشهدوا لك أنك رسوله، فوالله لا أؤمن لك حتى تسند سلمًا إلى السماء ثم تصعد عليه وأنا انظر، ثم تأتي بكتاب منشور من عند الله أقرأه، وتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنه من الله، وأيم الله أن لو فعلت لظننت أني لا أصدقك. ثم قال العاص بن وائل السهمي وقريش معه: قد تعلم يا محمَّد أنه لا بلاد أضيق من بلادنا ولا أقل أنهارًا وزرعًا ولا أشد عيشًا، فادعُ ربَّك أن يسيِّر عنا هذه الجبال التي في أرضنا فقد ضيقت علينا لينفسح بلادنا فنعرف فضلك عند ربك، وابعث لنا من مضى من آبائنا لنسألهم عما تقول فيصدقوك أو يكذبوك، وليكن ممن يبعث قصي بن كلاب وإنه كان شيخًا صدوقًا، وقد جئتنا بذكر الرحمن ونحن لا نعرف إلا الله، فأما الرحمن فقد علمنا أنه كذاب باليمامة يعلِّمك هذه الأحاديث. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "الرحمن اسم من أسمائه (¬2) كريم شريف ولم أبعث بما سألتموني وإنما بعثت داعيًا إلى الله". قالوا: فخذ لأهل بيتك بعض ما سألناك لنعرف فضلهم أو فليكن لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا. قال: "لا أقدر على ذلك وليس ذلك إليَّ". قال: فخذ حذرك فإنا نراك يصيبك من الزلازل ما يصيبنا ونراك تمشي في الأسواق معنا تبتغي من يسير العيش فاسأل الله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وليبعث معك من يصدقك ويكلمنا دونك. فقال رسول الله: "ما ذلك إليّ إنما أدعو إلى الله عزوجل يصنع فيه ما يشاء". قالوا: يا محمَّد إنا ناظروك بسحرك هذا ثلاث ليالٍ ففكِّر بينك وبين ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل فحسب. (¬2) في "أ": (أسماء الله) بدل أسمائه.

نفسك فلا تبقين إلا عليها، إما أن نتخذك لنا عدوًا، وإما أن نجعلك من المهلكين، وإما تأتينا بأمر شاف نرضاه. فرجع رسول الله مهتمًا حزينًا قد شقَّ عليه ما قال له قومه وما ردوا عليه من أمره فأنزل (¬1). {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} جمع سوق، و (السوق) موضع البيع والشراء يذكَّر ويؤنث. {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ضربهم الأمثال لرسول الله وصفهم إياه بأنه ساحر أو (¬2) مسحور وشاعر ومجنون (¬3) {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ضربت (¬4) على الضلالة أي (¬5) ما داموا مصرين على الضلالة لم يستطيعوا أن يصدقوا في وصفك فقال: لا يستطيعون حيلة في أمرك أي في قهرك. {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا} عن حبيب قال: قيل للنبي - عليه السلام - (¬6): نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها لم نعطها أحدًا قبلك لا ينقصك ذلك عند الله شيئًا فقال: "أجمعها لي في الآخرة" فقال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ} (¬7). وعن ابن عباس قال: بينما رسول الله جالس وجبريل معه قال جبريل: هذا ملك قد نزل من السماء لم ينزل قط استأذن ربه في زيارتك، فلم يمكث إلا قليلًا حتى جاء الملك وقال: السلام عليك يا رسول الله ¬

_ (¬1) روي مختصرًا بمعناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 402)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2665). (¬2) "أو" من الأصل فقط، وفي البقية: (ساحر ومسحور). (¬3) في "ب": (صهور)، وفي الأصل و"ي": (صبور). (¬4) في "ي" "أ": (مرتب). (¬5) في الأصل و"ي": (التي). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) أخرجه الطبري في تفسيره عن حبيب مرفوعًا (18/ 408)، وابن أبي حاتم (8/ 2666)، وابن أبي شيبة (11/ 509).

إن الله يخبرك أن يعطيك خزائن كل شيء ومفاتيح كل شيء لم يعطه أحدًا قبلك ولا يعطيه أحدًا بعدك من غير أن ينقص لك مما ادخر لك شيئًا، فقال النبي -عليه السلام- (¬1): "بل يجمعها لي جميعًا يوم القيامة" فنزلت (¬2). وعن ابن عباس قال: قال النبي -عليه السلام- (1): "عرض علي جبريل بطحاء مكة ذهبًا فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات" (¬3) وذلك أكثر لذكري ومسألتي تقول: ذلك الجبل ينظر إلينا ويحتمل أن الله تعالى يحدث للنار رؤية كما يحدث لها نطقًا، وسماع التغيظ لغليان صدر المتغيظ واحتقانه وتتابع أنفاسه. {مَكَانًا ضَيِّقًا} أي في مكان ضيق {مُقَرَّنِينَ} مسلسلين أيمانهم عند أعناقهم، وقيل: يجمع بين ناصية الكافر وعقبيه (¬4)، وقيل: يجمع بينه وبين شيطانه وقرينه. {ثُبُورًا} هلاكًا وحرمانًا، ودعاؤهم: واثبوراه، والثبور مصدر ولذلك لم يجمع. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} دليل على أن أهل الجنة مخيرون في أنواع ما يخطر ببالهم من الخير. {نَسُوا الذِّكْرَ} تغافلوا وأعرضوا عن الاتعاظ بالموعظة {بُورًا} بسائر وهو الهالك (¬5). {وَمَنْ يَظْلِمْ} بالإصرار على الشركاء والزيادة على الكفر، وقيل: ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) عزاه في "الدر المنثور" (11/ 139 - 140). (¬3) الترمذي (2347)، وأحمد (5/ 254)، والطبراني في الكبير (7835) والحديث ضعيف أو ضعيف جدًا. (¬4) من قوله (وقيل يجمع) إلى هنا ليست في "أ". (¬5) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد. أخرجه الطبري عنهما في تفسيره (18/ 417)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2673)، وانظر تفسير مجاهد (ص 496).

جحودهم يوم القيامة بقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ليكون العذاب الكبير الختم على الأفواه وإنطاق الجلود. {أَتَصْبِرُونَ} أمر كقوله: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54]، وقيل: على سبيل الاختصار أي فتصبرون فنثيبكم عليها أم لا تصبرون فيهلككم ويستخلف قومًا غيركم. {لَا يَرْجُونَ} لا يخافون، ويحتمل أنه حقيقة الرَّجاء لأن ضده الإياس، والإياس كفر. {يَوْمَ} نصب على الظرف، {لَا بُشْرَى} لكم بالإياس ودخول الجنة {حِجْرًا مَحْجُورًا} حرامًا محرمًا (¬1) على سبيل الإيجاب والدعاء. عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا} (¬2) أي وعهدنا إلى ما عملوا من عمل لغير الله في الدنيا فجعلناه في الآخرة هباء (¬3)، نقول: بطلت أعمالهم فلم تقبل جعلت كالهباء المنثور, والهباء: ما يدخل من شعاع الشمس من الكوة مقبلًا وقت قيلولة في نصف النهار (¬4). {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} (¬5)، قال الفراء: بالغمام وعن الغمام، كقولك: رميت بالقوس وعن القوس (¬6)، فهذا الغمام فوق السماء. ¬

_ (¬1) قاله الضحاك بن مزاحم وقتادة. أخرجه الطبري عنهما في تفسيره (18/ 428). ومنه قول المتلمس: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حِجْرٌ حرام ألا تلك الدهاريسُ [ديوان المتلبس (ص 84) واسمه حميد بن ثور الهلالي]. (¬2) (وقدمنا إلى عملوا) ليست في الأصل. (¬3) لم نجده بهذا المعنى عن ابن عباس ولكن روي بمعناه عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. نقله عنهم ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (3/ 317)]. (¬4) قاله الخليل والزجاج والجوهري، وهو مروي عن علي بن أبي طالب والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة [معاني القرآن للزجاج (4/ 64)، زاد المسير (3/ 317)، الصحاح (نثر)]. (¬5) في الأصل بدل الآية (السموات). (¬6) ذكره الفراء في معانيه (2/ 267).

{يَعَضُّ} يمضغ وهو الكدم من ذوي الخف، واللسع من الحية، والمراد به التأسف، والمراد بـ {الظَّالِمُ} الجنس أي كل ظالم كقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} [النبأ: 40]. وقال ابن عباس (¬1) [في رواية الكلبي: نزلت في عقبة بن أبي معيط (¬2) وذلك أنه لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا فدعا عليه جيرانه وأهل مكة كلهم، قال: فكان (¬3) كثر مجالسة النبي -عليه السلام- (¬4) ويعجبه حديثه ويغلب عليه الشقاء، فقدم ذات يوم من سفره فصنع طعامًا ثم دعا رسول الله إلى طعامه فقال: "ما أنا بالذي أفعل حتى تقول" فشهد بذلك، قال: وطعم من طعامه، قال: وبلغ ذلك أُبَي بن خلف، فأتاه فقال له: صبوت يا عقبة، وكان خليله، فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، واستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فقال أبي بن خلف: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه، قال: ففعل عقبة ذلك فأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال رسول الله: "لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف" فأنزل. ثم أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر فقتله ثابت بن الأفلح صبرًا، ولم يقتل من الأسارى يومئذ غيره وغير النضر بن الحارث بن كلدة، ذكره الواقدي. وعن ابن عباس قال: كان أمية بن خلف صديقًا لعقبة بن أبي معيط وخليلًا، وكان عقبة قد غشي رسول الله حتى كاد يسلم، فلقيه أمية بن خلف فقال: بلغني أنك صبوت واتبعت دين محمَّد، فقال عقبة: ما فعلت، قال ¬

_ (¬1) من هنا سقط طويل وينتهي قبل نهاية السورة في نسخة "ب". (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس (17/ 440)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 68) إلى ابن المنذر وابن مردويه. (¬3) في "أ" "ي": (وكان). (¬4) (السلام) ليست في "ي".

أمية: وجهي من وجهك حرام إلا أن تأتيه فتتفل في وجهه وتبرأ من دينه وتعلم قومك أنك عدو لمن عاداهم وفرق جماعتهم، قال: فخرج عقبة فلما خر نظر في وجهه تفل في وجهه ولم يصب وجه النبي -عليه السلام- (¬1)، ثم رجع إلى أمية فأخبره فسرَّ بذلك، فأنزل (¬2): {فُلَانًا خَلِيلًا} أي ابن خلف (¬3). وقال الزجاج: أبي بن خلف على ما ذكره الواقدي، والظاهر أن {فُلَانًا} اسم مبهم (¬4) ينطبق على قرين سر مضل. {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أي الشهادة بالتوحيد والرسالة. {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} قيل: قاله رسول الله حين أَيِس من قومه فأخبر الله عنه {مَهْجُورًا} متروكًا، وقال مجاهد: مهجورًا فيه (¬5) لأنه قال: والغوا فيه، ويحتمل أنه سيقوله رسول الله في القيامة حين يشهد على أمته بالكفر والإيمان. {جُمْلَةً وَاحِدَةً} والجملة تأليف الأجزاء المتفرقة، تقديره: بل ننزله متفرقًا، أو تقديره: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} أي كالتوراة بل ننزله متفرقًا {وَرَتَّلْنَاهُ} فصلناه. {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} اتصالها من حيث اعتبار (¬6) وصفهم ما يتمنونه من القرآن أن ننزله جملة واحدة واعتبار ذلك عليهم ردّ الله بعلة معقولة، وهي تثبيت الفؤاد بحفظ القرآن؛ لأن التوراة أنزلت مكتوبة ولم يكن إعجاز ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) روى سبب النزول هذا ابن عباس - رضي الله عنهما - والشعبي ومجاهد. أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (17/ 440 - 441)، وانظر: تفسير مجاهد (ص 503)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2683). (¬3) أبو نعيم في الدلائل (401). (¬4) نقله الزجاج في معانيه (4/ 65)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 277). (¬5) أخرجه الطبري عن مجاهد (17/ 443)، وانظر: تفسير مجاهد (ص 504)، وابن أبي حاتم (8/ 2687). (¬6) في "أ": (اعتبارهم).

موسى في كونه أميًا، وكان هذا معجزة نبينا -عليه السلام- (¬1)، فهيأ الله له أسباب الحفظ منها أن يتلقن شيئًا بعد شيء على سبيل التراخي. أي: كيف المراد عن اللفظ المشكل مأخوذ من الفسر وهو الكسف، وقيل: مقلوب من قوله سفرت البيت أي كنست. {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وقع التفضيل على زعم الكفار من إضافة الشر والضلالة إلى المؤمنين. {اذْهَبَا} يعني أنت وأخوك. {وَقَوْمَ} نصب بالتدمير، وقيل: بالإغراق المضمر (¬2). {الرَّسِّ} البئر الذي لم (¬3) يطو (¬4)، وقال عكرمة: أصحاب الرس رموا (¬5) نبيهم في بئر (¬6)، وقال الكلبي: قوم كانوا باليمامة بفلج (¬7). {وَكُلًّا} نصب بضربنا، وقيل: على سبيل اتباع اللفظ. {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ} أي قرية لوط. {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} اتخاذهم ذلك عبادتهم للخواطر التي يتوهمونها بالشبهات فيتمنونها بالشبهات. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أي أنه يجوز أن يكون منصوبًا عطفًا على مفعول "دَمَّرْناهم"، ويجوز أن يكون منصوبًا بفعل مضمر يفسره قوله: {أَغْرَقْنَاهُمْ} كما يجوز أن يكون منصوبًا بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال، والتقدير: اذكر قوم نوح. [الدر المصون (8/ 483)]. (¬3) روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: هي بئر كانت تسمى الرس. أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 453). (¬4) في "أ": (تطو). (¬5) في "أ" "ي": (رسوا). (¬6) ابن جرير (17/ 452)، وابن أبي حاتم (8/ 2695). (¬7) هذا رواه ابن جرير (17/ 453)، وابن أبي حاتم (8/ 2695).

{كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} هو أن يمشي (¬1) بالليل جوف كل وادٍ ويغيب الأفق، قال (¬2) الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} [القصص: 71] الآية {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} هو انفلاق الصبح ليبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والصبح من مقدمات ضياء الشمس لا محالة فلا يزال ينبسط وينتشر هذا وينزوي ويستتر هذا إلى أن يفيض الليل كله. {قَبْضًا} سهلًا رفيقًا من غير فزع ولا خطر، وقد بدت الشمس على ظلال الأشخاص بالنهار أيضًا {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} إلى حكمنا الغيب. {اللَّيْلَ لِبَاسًا} التشبيه من حيث وقوع التستر به {سُبَاتًا} استراحة في استرخاء {نُشُورًا} أي وقت نشور وانتشار. {مِمَّا خَلَقْنَا} مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى لاعتبار نظم الآي ورؤوس الآي {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} قال الفراء: أصل إنْسَان إنْسيَان لأن تصغيره أنيسيان (¬3)، فالأناسي في الأصل أناسين أبدلوا من نونًا كزبرقان وزباريق، وقيل: جمع إنسان كقرطاس وقراطيس، وقيل: جمع إنسي على النسبة ككرسي وكراسي. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أي القرآن، وقيل: الماء الطهور (¬4). ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (يمتلي). (¬2) (قال) من "أ" "ي". (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 269). (¬4) من قال إنه المطر هو ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود ومجاهد وابن زيد. أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (17/ 469)، وأما من قال: إن الضمير يرجع إلى القرآن بناء على ذكره في أول السورة حيث قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ. . .} [الفرقان: 1] وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 29] وقوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] كل ذلك يدل على أن الضمير يرجع إلى القرآن. ذكر ذلك القرطبي في تفسيره (13/ 57).

{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} (¬1) أي بالقرآن والكلام دون السيف لأن الآية مكية. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} مرج إشارة إلى ما يتصوره المخاطب في قلبه كأنه ينظر إليه، قال الله تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] {مِلْحٌ} ماء فيه ملوحة {أُجَاجٌ} ماء في غاية الملوحة. و (العذب): الماء الطيب، و (الفرات) في غاية العذوبة {بَرْزَخًا} يعني الحواجز الواسعة، ويحتمل أن المراد بالبحرين بحر مجاور للساحل وبحر كمين في الساحل، وقيل: بحر بحرا وبحر قلزم فإن سواحلهما غير محاط بها، وفيه إشارة إلى الدمع الذي فيه ملوحة واللعاب الذي فيه عذوبة، والمملوح الذي فيه قرارة، والحام الذي سخ فلم يفسد شيء بمجاورة غيره، وإلى اللبن الحليب {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66]. {نَسَبًا وَصِهْرًا} أي مناسبًا ومصاهرًا يناسب بعضه، لتبقية الألفة وحفظ الأصل وتظاهر بعضه (¬2) بعضًا لاستفادة الألفة، وإنشاء النسل. {ظَهِيرًا} معيبًا لمثله على إنكار ربه وتبديل دينه ومعاداة نبيه. {إِلَّا مَنْ شَاءَ} استثناء كقوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] لأن ذلك يوجب حسن الظن به، وقوله: (وما سألتكم من أجر فهو لكم) أي على زعمكم فهو مردود عليكم ما أريد منكم ذلك، وقيل: المودة في القربى هو لكم أي حظكم ونصيبكم، وقيل: طالبهم بالمودة في القربى ثم ترك واقتصر على المودة في الله. {الرَّحْمَنُ} رفع بإسناد الاستواء إليه أو لتقديره مبتدأ (¬3) {فَاسْأَلْ بِهِ} ¬

_ (¬1) (وجاهدهم به) ليست في الأصل. (¬2) من قوله: (لتبقيه) إلى هنا ليست في"أ". (¬3) يجوز في {الرَّحْمَنُ} أن يكون خبرًا والمبتدأ جملة {الَّذِي خَلَقَ ...} ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ مضمر كما قال المؤلف والتقدير: هو الرحمن. ويجوز أن يكون بدلًا من الضمير في "استوى" أو يكون مبتدأ وخبره الجملة من قوله {فَاسْأَلْ بِهِ} [الفرقان: 59] على رأي الأخفش ومنه قول الشاعر: وقائلةٍ: خولانُ فانكح فتاتهم ... وأكرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا [معاني القرآن للأخفش (ص 124)، الكتاب (1/ 70)، الدر المصون (8/ 493)].

أي عنه، والضمير عائد إلى خلق السماوات والأرض أو إلى الاستواء على العرش (¬1) أو اسم الرحمن، قال -عليه السلام- (¬2): "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" (¬3). {سِرَاجًا} مصباحًا. وفي قوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} دلالة على جواز قضاء صلاة الليل بالنهار وقضاء صلاة النهار بالليل (¬4). {وَعِبَادُ} مبتدأ {الَّذِينَ يَمْشُونَ} خبره، والمراد بهم أولياؤه وخاصته {هَوْنًا} متواضعين {سَلَامًا} أي قولًا يؤدي إلى المسالمة والمتاركة، وقيل: منسوخة بآية السيف. {غَرَامًا} لزومًا، وقال بعضهم: هلاكًا (¬5) وهو غير مشهور. الإقتار والقتر والتقتير لضيق النفقة {وَكَانَ} إنفاقهم {بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} عدلًا، وقيل: قوام الأمر قوامه ونظامه وملاكه. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ} عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أي وحشيًا لما قتل حمزة مكث زمانًا ثم وقع في قلبه الإسلام، ¬

_ (¬1) (على العرش) ليست في "أ". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (1/ 87/ 35) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. (¬4) روي بمعناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن، قالوا: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وجاء في صحيح البخاري مرفوعًا: "ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة". وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب مرفوعًا: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". (¬5) الذي قال هلاكًا: أبو عبيدة نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (3/ 328)].

فأرسل إلى رسول الله يعلم أنه وقع في قلبه الإسلام ويقول: سمعتك تقول: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ} الآية، وإني فعلتهن فهل من رخصة؟. فنزل جبريل فقال: قل له يا محمَّد {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} الآية، فأرسل بها إليه، فلما قرئت عليه قال: أرى في هذه الآية شروطًا أخشى أن لا آتي بها ولا أجدني أطيق أن أعمل صالحًا، فهل عندك شيء ألين من هذا؟ فأنزل جبريل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فأرسل بها رسول الله إليه فقرئت عليه فقال: إنه يقول لمن يشاء (¬1) وأنا لا أدري لعلي لا أكون مما يشاء، فنزل جبريل بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، فأرسل بها رسول الله إليه فقرئت عليه، فأسلم وأرسل إلى رسول الله أني أسلمت فأذن لي في إتيانك فأرسل إليه أن لا أر وجهك فإني لا أستطيع أن أملأ عيني من قاتل عمي حمزة (¬2). . . الخبر. {ذَلِكَ} إشارة إلى جميع ما تقدم أو إلى الإشراك أو إلى فعل شيء متقدم على سبيل الاستحلال. {أَثَامًا} جزاء الإثم، يقال: أثمه يأثمه إذا جازاه جزاء إثمه. {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} لها وجوه؛ منها إقامة الندامة مقام ما كانت الندامة منه، ومنها التوفيق للكفارات والأعمال الصالحة، ومنها الابتلاء بالمصائب والمكاره الممحصة للذنوب الموجبة للثواب، ومنها تقلب المباحات من أفعاله المقترنة بالكفر طاعات بعد التوبة، كالأكل والشرب، ولهذا قال علي: بقية عمر المرء لا ثمن له يصلح فيه ما أفسد وبستدرك به ما فات. {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ} إنما كرر التوبة التوبة لاتصالهما بزيادة وهي ذكر الله، كأنه قيل: ومن يتب عن المعاصي فإنه يتوب إلى الله. ¬

_ (¬1) من قوله (فارس) إلى هنا ليست في "أ". (¬2) ذكره القرطبي (15/ 234) قريبًا منه، وكذا هو مختصرًا عند ابن جرير (17/ 517)، وابن أبي حاتم (8/ 2731، 2734).

{الزُّورَ} الشرك عن الضحاك (¬1)، وعن محمَّد ابن الحنفية وأبي الجحّاف: أي اللغو والغناء (¬2). عن إبراهيم بن ميسرة: أن ابن مسعود مرّ بلهو فلم يقف عليه فقال رسول الله: "لقد أصبح ابن مسعود كريمًا إذا مشى كريمًا إذا أمسى" (¬3). لم يستقروا ولم يصروا على تكذيبها. {صُمًّا وَعُمْيَانًا} لأن الاستقرار غاية غاية (¬4) السقوط، وقضيته كالوجوب. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} عبارة عن المرضى وضده سخنة العين وسخين العين {وَاجْعَلْنَا (¬5) لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي وفِّقنا للتقوى وأتبعنا ذرياتنا بالتقوى، وإنما لم يقل لاعتبار كل واحد من الراعين أو لاعتبار المصدر أو لاعتبار كون الاسم مشتقًا من القول، كقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]. {الْغُرْفَةَ} الغرفة: العلية، وهي المنزل الرفيع. {يَعْبَأُ} يبالي، فكأنه قيل: هل يبالي الله بكم وهل يراعي جانبكم بإصلاح المعيشة ورفع الآفات {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} دعاء بعضكم، (¬6) يعني المؤمنين، قال النبي -عليه السلام-: "لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع لصبّ عليكم العذاب صبًا" (¬7)، وقيل: لولا دعاء بعضكم الذي سيدعو في علم الله أنه سيؤمن، وقيل: معناه لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد على سبيل ¬

_ (¬1) ابن أبي حاتم (8/ 2737). (¬2) قولهما عند عبد بن حميد كما في الدر المنثور (11/ 227). (¬3) ابن أبي حاتم (8/ 2739)، وابن عساكر (33/ 128). (¬4) (غاية) ليست في "أ" "ي". (¬5) (واجعلنا) ليست في الأصل. (¬6) إلى هنا انتهى السقط الكبير في "ي". (¬7) رواه الطبراني (22/ 309/ (785))، وفي الأوسط (6539، 7085)، وأبو يعلى (6402، 6633)، والبيهقي في السنن (3/ 345)، وفي الشعب (9820) والحديث فيه ضعف.

الوعظ والتمكين من الاختيار، قاله الفراء (1). وقال القتبي: معناه ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم من دونه شركًا. {لِزَامًا} هلاكًا، والعذاب لازمًا يعني يوم بدر. أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (2): "من قرأ الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو موقن أن الساعة آتية لا ريب فيها ودخل الجنة بغبر حساب" (3). ... (1) ذكره الفراء في معانيه (2/ 275). (2) (السلام) ليست في "ي". (3) هذا جزء من الحديث الموضوع عن أبي.

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَراءِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس: سوى أربع آيات من آخرها (¬2)، وهي مائتان وسبع وعشرون آية كوفي شامي ومدني (¬3) الأول. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1)} (¬4) قال ابن عباس: عمي على العلماء علمه (¬5)، وعن قتادة وأبي روق: اسم من أسماء القرآن (¬6)، وعن الأنماري: أنه الظاهر المطلع على الغيوب، السميع الساتر للعيوب المجيد بإعطاء السيوب، وقيل: هو قسم بطول الله وسنائه (¬7)، وقيل: قسم بطور سينين ومكة، وهي البلد الأمين (¬8)، وقيل: إنها الطاهر السعيد المجيد. ¬

_ (¬1) هذا قول الحسن وعطاء كما في القرطبي (13/ 222). ونقل عن ابن عباس عند ابن الضريس (17)، وعبد الله بن الزبير عند ابن مردويه كما في الدر المنثور (11/ 37). (¬2) هذا قول ابن عباس كما عند النحاس (ص607)، وانظر: القرطبي (13/ 222)، و"البيان في عدّ آي القرآن" للداني (ص196). (¬3) في "البيان" (ص196) أن المكي والبصري والمدني الأخير (226). (¬4) في "أ" "ب": (طس). (¬5) المعروف عن ابن عباس فيما رواه الطبري في تفسيره (17/ 542)، قال: قسم أقسمه الله وهو من أسماء الله، ورواية ثانية عن ابن عباس ذكرها ابن الجوزي [زاد المسير (3/ 334)]، قال: الطاء: طيبة، والسين: بيت المقدس، والميم: مكة. أما ما ذكره المؤلف فلم نجده. (¬6) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 73)، وابن جرير (17/ 542)، وابن أبي حاتم (8/ 2747). (¬7) ذكره القرطبي كما في ابن الجوزي (6/ 115). (¬8) ابن الجوزي (6/ 115) الضحاك عن ابن عباس.

{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ} الشرط والجزاء على لفظ الاستقبال، والمنسوخ على لفظ الماضي لاعتبار المعنى، إذ المعنى واحد في نحو قولك: إن أكرمتني أكرمك {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} وجوههم وأشرافهم عن مجاهد (¬1)، وقال الفراء (¬2): الطوائف العصائب من قولهم رأيت الناس إلى فلان عنقًا، وقال الكسائي: الأعضاء التي عليها الرؤوس وإنما جمعت بـ {خَاضِعِينَ} لاعتبار الأعناق أو لما وصفت العقلاء وهو الخضوع، الآيات جمعت جمع العقلاء. {كَرِيمٍ} طيب، يقال: نخلة كريمة وشاة كريمة. {ذَلِكَ} إشارة إلى القرآن أو إلى الآيات (¬3). {أَكْثَرُهُمْ} أكثر المستمعين للذكر أو المشاهدين المذكورين. ووصف الله بأنه {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} للدعوة على سبيل الترهيب والترغيب. {أَلَا يَتَّقُونَ} استفهام بمعنى الإنكار على المستفهم عن حالهم كقوله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 77]. {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أيضًا ليؤازرني ويعينني، والرسول يقع على الواحد والجماعة كالعدو. و {نُرَبِّكَ} ننميك ونصلحك {وَلِيدًا} مولدًا وهو الطفل المربى. وقال القتيبي: الوليد الذي ولد في بلاد العجم ونشأ (¬4) في بلاد العرب، والمولد ¬

_ (¬1) المعروف عن مجاهد غير ما ذكره المؤلف فقد روى الطبري عن مجاهد (17/ 544)، قال: فظلوا خاضعين أعناقهم لها. وأما ما ذكره المؤلف عن مجاهد فقد أشار إليه الفراء في معانيه (2/ 277). (¬2) ذكره الفراء في معانيه (2/ 277). (¬3) في الأصل و"أ": (الأسباب). (¬4) في الأصل: (نشأ) بدون واو.

الذي ولد في الإسلام، وقال ابن شميل: هما واحد وهو الذي ولد عندك (¬1). {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي كفران النعمة. {فَعَلْتُهَا إِذًا} أي يومئذ {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} الجاهلين، من الجهالة في شرائع دين الله لا الجهالة في الله ولا الجهالة (¬2) في دين فرعون. {خِفْتُكُمْ} أن تصيبوني بشر ويكون سبب مكروه قضاه الله وقدره، وتلك إشارة إلى تربيته وليدًا, لأنه لم يكن يربِّي أولاد (¬3) بني إسرائيل إلا لتعبيدهم وإذلالهم، وهو على وجه الاستفهام تقديره: أوتلك نعمة تمنها المن: تذكير المنعم نعمته، ولا يحسن ذلك إلا من الله تعالى لأنه هو المنعم على الحقيقة، وأما غيره إذا منّ على أحد فقد تخلق بما ليس له، إذ هو سبب في تلك النعمة والمنعم في الحقيقة هو الله سماه به للزومه جوابًا واحدًا مع تفنن فرعون في السؤال، وإنما فعل موسى ذلك ليقرر عندهم التسمية وتوقعها في قلوبهم بالمبالغة في التعريف. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} تعريض بأنهم أولى بصفة الجنون منه لأنهم لم يكونوا يعقلون ما يلهمهم عليه من المشاهدات من الأفاعيل الإلهية، فلما فرّ فرعون من الجدال إلى التهديد قابله موسى بالبرهان العتيد. {ثُعْبَانٌ} حية بين الأفعوان والتنين. {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} استفهام بمعنى الأمر. {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} في طاعة فرعون. {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} قسم السحرة، و (عزته): قلة إذنه للناس أن يدخلوا عليه واحتجابه عنهم. ¬

_ (¬1) نقل قول النضر بن شميل الأزهري في تهذيب اللغة (14/ 176 - ولد). (¬2) (في الله ولا الجهالة) ليست في "أ". (¬3) في "أ": (أولًا).

{لَا ضَيْرَ} لا بأس. {لَشِرْذِمَةٌ} لقطعة (¬1) وفرقة، وثوب شراذم: أي مقطع قطعًا، ووجه الجمع بالقليلين حسن وصف كل بعض من أبعاض الجملة بالقليل. {لَغَائِظُونَ} (¬2) لمغضبون (¬3). {حَاذِرُونَ} مخلوقون على صفة الحذر، والحاذر: حامل السلاح والذي يحذر في الحال. {مُشْرِقِينَ} (¬4) مصبحين، {كَلَّا} ردّ لكلام قومهم {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}. {سَيَهْدِينِ} (¬5) إلى طريق النجاة (¬6). {فَانْفَلَقَ} فانشقَّ {كَالطَّوْدِ} كالجبل. {وَأَزْلَفْنَا} قربنا {ثَمَّ} إشارة إلى بقعة يتوهمها المقصوص عليه ضرورة. {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} استثناء متصل على اعتبار الظاهر وهو المجاز، أو منقطع على اعتبار الناظر وهو الحقيقة. وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} فيه أدب حسن حيث لم يقل: والذي يمرضني (¬7) وليس كذلك. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} لأن الإماتة قد تكون إراحة وقد تكون إبادة. ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (لفظة). (¬2) في الأصل (بياض). (¬3) في "أ": (لمبغوضون). (¬4) بدل (مشرقين) بياض في الأصل. (¬5) بدل (سيهدين) بياض في الأصل. (¬6) في "أ": (النجا). (¬7) في "أ": (يرضيني).

{لِسَانَ صِدْقٍ} هو الذكر الجميل، وإنما تمنى ذلك ليؤمنوا به فيسعدوا ويصلوا عليه فيزداد بصلاتهم خيرًا ورحمة. و {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ} أي لا ينفع المال والبنون أحدًا، والاستثناء يدل على هذا المضمر. {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مخلص ليس فيه مرض الكفر والنفاق، ويسمى المسلم الذي فيه بلاهة سليم القلب لبعده عن الجدال والشقاق والخبث وسوء الأخلاق، وإنما ينفع سليم القلب ماله وبنوه ليصرف ماله إلى الصدقات والقربات (¬1) وكون أولاده تابعين له بإيمان داعين له بخير. {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} عطف على {يَوْمَ} وهو {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ}، ويجوز أن يكون استئنافًا بتقدير يومئذ أي: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} يومئذ. {فَكُبْكِبُوا} فكبوا على الوجوه، وتكرار الحرف للمبالغة كالذبذبة والحثحثة (¬2). {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} خليل خاص وحامة الرجل خاصته. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} جواب "لو" مضمر وتقديره {فَنَكُونَ} لكنا مفلحين (¬3)، و (الكرة): الرجعة، وذلك إشارة إلى القرآن، أو إلى شأن إبراهيم -عليه السلام- (¬4). ¬

_ (¬1) (والقربات) ليست في "أ". (¬2) قاله الزمخشري وابن عطية والزجاج وغيرهم، وأن الكبكبة تكرير الكب، فجعل تكرير اللفظ دليلًا على تكرير المعنى. [البحر (7/ 27)، الكشاف (3/ 119)، معاني القرآن للزجاج (4/ 94)]. (¬3) يجوز أن تكون "لو" مشربة معنى التمني فلا جواب لها على المشهور -قاله السمين الحلبي-، وعلى هذا يكون نصب "فنكون" جوابًا للتمني الذي أفهمته "لو"، وأما ما ذكره المؤلف إذا كانت "لو" على بابها فيكون جوابها محذوف التقدير: لوجدنا شفعاء أو لعلمنا صالحًا. وعلى هذا يكون نصب الفعل "نكون" بأن مضمرة عطفًا على "كرةً"، ومنه قول ميسون بنت بحدل: لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ [الكتاب (1/ 426)، الدر المصون (8/ 536)]. (¬4) (السلام) ليست في "ي".

{قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} إنكارهم رسالة رسولهم المرسل إليهم تكذيب للجميع، فإن سائر المرسلين يشهدون لا محالة برسالته وهم ينكرونها، فهم مخالفون لهم يكذبون بهم أجمعين {أَخُوهُمْ} للنسبة أو لطول المجاورة. {رَسُولٌ أَمِينٌ} مأمون في نفسه بصفات يستحق بها أن تؤتمن من الأمارات الدالة على صدقه والبراهين الموجبة لدعواه. {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فيما مضى من أعمارهم قبل الإسلام والتوبة، ويحتمل أن لفظة (كانوا) صلة أي: بما يعملون. {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} المملوء (¬1)، وذلك إشارة إلى القرآن أو إلى شأن نوح -عليه السلام- (¬2). {رِيعٍ} طريق مشرف، قاله ابن عباس، وقيل: ما ارتفع من الأرض (¬3). {مَصَانِعَ} جمع مصنع وهو البناء المحكمة صنعته بتشييد الحجارة والتخصيص ونحوهما يتخذ للماء وغيره. {بَطَشْتُمْ} أخذتم على سبيل القهر. {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} هو إلزام حجة فإن التذكير لو وقع بإمدادهم بالهواء الذي فيه يتنفسون وما بالقرى التي لها يتحركون وبالحر والبرد اللذين بهما يتنعَّمون، وبالليل والنهار اللذين فيهما يتقلبون لما كادوا يفهمون. {إِنْ هَذَا} إن كان إشارة إلى رسومهم وعاداتهم فهو كقولهم {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وإن كان إشارة إلى قول هود -عليه السلام- (¬4) فهو كقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، وذلك إشارة إلى القرآن أو إلى شأن هود -عليه السلام- (4). ¬

_ (¬1) (المملوء) ليست في الأصل. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) قاله الزجاج في معانيه (4/ 96). (¬4) (السلام) ليست في "ي".

{أَتُتْرَكُونَ} إنذار بعذاب الله إن لم يؤمنوا أو تزهيد في الدنيا والآخرة. {طَلْعُهَا} طلع النخلة كفراها، وهو أول ما يبدو من ثمرها {هَضِيمٌ} منضم لم يتقشر عنه جلده، يقال: اهضم الكسخين، وقيل: يتهشهش وذلك إشارة إلى القرآن أو إلى شأن صالح -عليه السلام- (¬1). {مِنَ الْقَالِينَ} الكارهين الماقتين، قال الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} وفي حديث أبي الدرداء: "وجدت الناس أخبر تَقْلَه" (¬2). {مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي من عموم عذاب ما يعملون، وقيل: يجني مشاهدة ما (¬3) يعملون، وذلك إشارة إلى القرآن أو إلى شأن لوط -عليه السلام- (¬4). {وَالْجِبِلَّةَ} الخلق (¬5). {وَإِنَّهُ} أي القرآن. {الرُّوحُ الْأَمِينُ} جبريل -عليه السلام- (4)، ائتمنه الله على تبليغ رسالته ولم يأتمنه الروافض لعنهم الله. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} دليل على أن القرآن هو هذا المعنى المنظوم المكتسي بلفظ موسوم سواء كان عربيًا أو غير عربي، معجزًا أو غير معجز، وإنما أنزله الله في ألفاظ عربية ليكون أبين للمخاطبين في عصر النزول، وإنما جعله معجزًا ليكون برهانًا كاليد والعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) يقصد الحديث المرفوع عنه وهو حديث مشهور وسنده ضعيف جدًا، فقد رواه الطبراني في مسند الشراميين (1493)، وفي مسند الشهاب (635)، وروي موقوفًا عليه في "الزهد" (185) لابن المبارك. ولفظ رواية أبي الدرداء في مسند الشهاب: "أُخبُرْ تَقْلَهِ وثق بالناس رويدًا". (¬3) بدل (مشاهدة ما) في "أ": (مشاهدته). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد، أخرجه عنهم ابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2813).

{يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} لأنهم وجدوه مصدقًا لما بين يديه من التوراة وموعود على سبيل التعريض والتصريح. {بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} إن أراد الذين لا يحسنون تأدية حروف الهجاء أقامه الأعراب لآفة في ألسنتهم فهو كقوله: {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 111]، وإن أراد الأعجميين الذين لا يحسنون العربية والنطق والحروف المختصة بها كالصاد وحروف الإطباق فهو كقوله: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156]. {مَا أَغْنَى} نفي على سبيل الاستفهام والسؤال. {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} يدل على أن مشارق الأرض ومغاربها لم تخل من منذر وحجة لله تعالى على خلقه إلى أن ختم النبوة بمحمد -عليه السلام- (¬1) وجعل دعوة الإسلام شائعة سابقة مستفيضة. {ذِكْرَى} في محل النصب؛ أي منذرون تذكرة أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ (¬2). {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} نفي الكهانة. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} (¬3) في نفي استئهالهم (¬4) استغواء محمد -عليه السلام- (1) لطهارته وأمانته وعفته وصدق لهجته. {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} في نفي قدرتهم وذلك لعصمة الله تعالى وكونها حائلة بينه وبينهم. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) النصب على أنها مفعول لأجله والعامل فيها إما "منذرون" واما "أهلكنا"، وأما الرفع فهو على إضمار مبتدأ والتقدير: هذه ذكرى وتكون الجملة اعتراضية وجَوَّز السمين الحلبي أن تكون "ذكرى" صفة لـ"منذرون" على وجه المبالغة. [الدر المصون (8/ 561)]. (¬3) في "ب": (وما يستطيعون). (¬4) في "ب": (استنالهم).

{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)} مصروفون بالرجم بالثواقب إذا أراد استراق السمع. {عَشِيرَتَكَ} عشيرة رسول الله (¬1) ولد عدنان ثم ولد مضر منهم، ثم الحُمس، ثم قريش، ثم الأباطيح، ثم المطَّلبيون، ثم بنو عبد مناف، ثم بنو هاشم لا أقرب منهم. وعن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (¬2)} أتى رسول الله الصفا فصعد عليه ثم نادى: "يا صباحاه! " فاجتمع الناس إليه فبين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله (¬3): "يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل يريدون أن يغيروا عليكم مصدقي أنتم؟ "، قالوا: نعم، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًا لكم سائر البرية إنما دعوتمونا لهذا؟! فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1] (¬4). {حِينَ تَقُومُ} للصلاة كقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2]، وقيامه للجهاد والجدال كقوله: {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، وقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2] وقيامه للدعاء والوعظ كقوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، وفائدة التنبيه على رؤية قيامه هي البشارة بأن سعيه (¬5) مقبول. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} أي في جملة المصلين معه من حال إلى حال ومن ركن إلى ركن، أو تقلبه لمعاشه فيما بين المؤمنين بعد رجوعه (¬6) ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (الأقربين) ليست في "أ". (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (4971)، ومسلم (208). (¬5) في الأصل: (سعيد). (¬6) في الأصل: (رجوعهم).

عن مجاهدة (¬1) المشركين ومجادلتهم وإنذارهم، وأراد حركاته في مدة حياته، وأراد تقلبه من صلب إلى صلب، وسجود آبائهم كسجود الظلال يصرفونها. {وَالشُّعَرَاءُ} جمع شاعر كعلماء وعالم. {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} في كل فن من المدح والهجاء وغير ذلك، {يَهِيمُونَ} يخوضون ولا يبالون، هام الرجل يهيم إذا مضى على وجهه راكبًا رأسه لا يثنيه شيء. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية في معنى قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} [النساء: 148] الآية. روي أن عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت أتيا رسول الله حين نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} فقال -عليه السلام- (¬2) وهو يقرأها عليهم {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} حتى إذا بلغ المقولة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: "أنتم" {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال: "أنتم" {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال: "أنتم" (¬3) (¬4). ... ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (مجاهد). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (قال أنتم) ليست في "أ". (¬4) عزاه السيوطي في الدر المنثور (11/ 323) لابن مردويه.

سورة النمل

سُورَةُ النَّملِ مكية (¬1)، وهي خمس وتسعون آية في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {مَنْ فِي (¬3) النَّارِ} من (¬4) في طلب النار، وقيل: المراد به روح من أمر الله، وفي مصحف عبد الله وأبي بن كعب (¬5): {بوركت النار ومن حولها} والعرب تقول: باركك الله وبارك فيك وبارك عليك. {يَا مُوسَى إِنَّهُ} عائد إلى المنادي أو إلى جاعل النار في الشجرة، وقال الفراء: هو (¬6) عماد. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} (¬7) أي لم يكن على ما وراءه، قال شمر: كل راجع ¬

_ (¬1) مكية باتفاق أهل التفسير. (¬2) في الكوفي (93) آية، (94) آية في البصري والشامي. انظر "البيان" ص 199. (¬3) (في) ليست في الأصل. (¬4) (من) ليست في "أ". (¬5) ذكر ابن حبان في "البحر المحيط" (7/ 56) أنها قراءة شاذة وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وذكرها في "الدر المنثور" (11/ 335) وعزاها عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) (هو) مكررة في الأصل. (¬7) المشهور في التعقيب حديث ابن عمر مرفوعًا: "من عقب ما بين المغرب والعشاء بني له في الجنة قصران ... " أخرجه الجرجاني في تاريخ جرجان (1/ 74)، وذكره في كنز العمال (7/ 161)، أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فلم نجده.

معقب، وعن سفيان: لم يمكث، وفي الحديث: "من عقب في صلاة" (¬1) أي من أقام بعد ما يفرغ من الصلاة في مجلسه {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} نفي الخوف عنهم على سبيل الإطلاق لزوال قدرتهم واختيارهم، ولا يحلوا بروح الله تعالى لنزول الوحي عليهم، أو لاستبقائهم الكرامة وإرادة الخير كأهل الجنة في الجنة، ويحتمل نفي الخوف عنهم على سبيل التفنيد أي لا يهابون في مراقبته شيئًا من مخلوقاته. {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} استثناء متصل، والمراد بالظلم الخوف نفسه لا غير، وقيل: استثناء منقطع، والمراد به الأنبياء -عليه السلام- وغيرهم، وفائدة اللفظ تنبيه موسى -عليه السلام- (¬2) على الاستغفار من خطيئته {جَيْبِكَ} وهو الشق في القميص يخرج الإنسان منه رأسه. {وَجَحَدُوا} الجحود ضد الإقرار، والتقدير: {وَجَحَدُوا بِهَا} ظلمًا وعلوًا {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} عرفتها وتيقنت بكونها معجزة إلهية، ألا ترى قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: 134]. {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} قيل: كان لداود -عليه السلام- (2) تسعة عشر ابنًا فلم يرثه إلا سليمان -عليه السلام- {مَنْطِقَ الطَّيْرِ} أخص من القول وأعم من التكلم، فظاهر الاستعمال لأن القول يوصف به الجماد، والنطق لا يوصف به إلا ذوات الأرواح، والتكلم لا يوصف به إلا القادر على تصميمه مقولة حروف التهجي. {يُوزَعُونَ} يحبسون، يحبس أولهم على آخرهم لئلا ينقطع بعضهم عن بعض، وقيل: فهم يحبسون في طاعته أي يسخرون له. {وَادِ النَّمْلِ} كان معروفًا في ذلك الزمان أو ذكره معروفًا فيما بين ¬

_ (¬1) المثبت من "ي"، وفي البقية (صلاة) بدون (في). (¬2) (السلام) ليست في "ي".

العرب (¬1)؛ لأن الله تعالى سلط النمل على كثير من الأمم فجلاهم عن ديارهم، وإنما خاطبت خطابًا لتكليفها إياهنّ تكليف العقلاء، {مَسَاكِنَكُمْ} قراهن وجحرهن {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} لا يكسرنكم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} تمهيد لعذر سليمان وجنوده أو تحقيق للإنذار كي لا يقول واحد لا تظلمنا، وهو تبرؤ وتقبيح لتركهن الحذر؛ فإن من تعرض لسهم عزب كان أجهل وأشد لومًا ممن تعرض لمتعهد (¬2) القتال. وعن الشعبي أن النملة التي فقه سليمان -عليه السلام- (¬3) كلامها كانت ذات جناحين (¬4). {فَتَبَسَّمَ} أظهر الضواحك من الأسنان فرحًا للشكر على تفهيم الله إياه كلام النملة، أو على إلهام الله النملة عذر سليمان، أو لتعجيبه على قضية الطبيعة {أَوْزِعْنِي} ألهمني واجعلني مولعًا بشكرك (¬5) وبالعمل الصالح، وفي الحديث: "كان موزعًا بالسواك" (¬6) أي مولعًا به. {وَتَفَقَّدَ} طلب المفقود بجواز أن يكون مترتبًا على مقدار؛ أي صرفت (¬7) عن رؤيته {أَمْ (¬8) كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} وقيل: أم بمعنى الاستفهام، وقيل: بمعنى بل، وفي الآية دليل على وجوب التفقد والتيقظ على الإمام والرئيس. و {الْهُدْهُدَ} جنس من الطير ملون في حجم الفاختة، له عرف ¬

_ (¬1) قيل إنه بالطائف - قاله كعب -، وقيل إنه بالشام - قاله قتادة - ذكره عنهما ابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (3/ 356)]. (¬2) في "أ": (لمتعمد). (¬3) في "ي": (السلم). (¬4) ابن أبي حاتم (9/ 2857). (¬5) في "أ" "ب": (يشكرك). (¬6) هذا الحديث ورد في كتب الغريب واللغة كالنهاية (5/ 393)، والفائق (4/ 57)، وكتاب العين (2/ 207)، ولسان العرب (8/ 390). (¬7) في الأصل و"أ": (صرف). (¬8) بدل (أم) في "أ": (أي).

ورائحة منتنة، وكان الهدهد معجزة لسليمان كغراب نوح وورد إبراهيم وحمار عزير. روى الشعبي عن عبد الله بن سلام قال: أعطي سليمان -عليه السلام- (¬1) من عظيم الملك ما كان يخبز له في مطبخه كل يوم ستمائة كرّ حنطة ويذبح له كل غداة ستة آلاف ثور وعشرون ألف شاة، فكان يطعم الناس ويجلس معه على مائدته خاصة اليتامى والمساكين وأبناء (¬2) السبيل ويقول: مسكين بين مساكين. قال: ولما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس ومسجدها تجهز فسار يحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، فوغل في البادية حتى وراء أرض تهامة واد في الحرم، فذبح للبيت طول مقامه بمكة كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة، وقال لمن حوله من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناوأه ويكون سيفه سطوة على من خالفه، ويبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده سواء في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا: فبأيّ دين يخرج؟. قال: بدين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه. قالوا: وكم بيننا وبينه؟. قال: زُهاء ألف عام، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيّد الأنبياء وخاتم الرسل، وإن اسمه لمكتوب في زبر الأنبياء الماضين -عليهم السلام- (¬3). فأقام بمكة أيامًا حتى قضى حجه. ثم سار نحو أرض اليمن يوم نجم سهيل، فخرج من مكة صباحًا فوافى أرض صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} التي كانت تظله وجميع من كان معه من أصحابه، فرأى مكان الهدهد خاليًا ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (وابن). (¬3) (السلام) ليست في "ي".

ليمس فيه الهدهد فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} إلى آخر الآيتين قال: وكان تعذيبه الطير نتفه ريشه لئلا يقدر على الطيران. وكانت قصة الهدهد أنه نظر إلى هدهد ساقطًا على شجرة فانقض نحوه ليسأله عن خبر تلك الأرض، فقال له: أية أرض هذه؟ قال: هذه أرض سبأ، قال: فمن هذا الملك الذي سخر له ما أرى من الريح والشياطين والطير فإني لم أر من الناس أعطي مثل ما أعطي هذا، قال: هذا سليمان بن داود -عليه السلام-، قال: وإنه لهو؟ قال: نعم، قال: فأين هو من ملكة هذه الأرض؟ فقال هُدهُد سليمان (¬1): ومن هي؟ قال: هي بلقيس بنت الهداهد الحميرية (¬2) فإنها قد أعطيت من الملك والسلطان ما لم يعط أحد ممن مضى من ملوك هذه الأرض. قال: فانطلق حتى ترينيها، فانطلق معه فأراها إياه وهي في قصر لها بصنعاء أمرت ببنائه على رؤوس الأساطين من الرخام، كل أسطوانة طولها خمسون ذراعًا قد نصبت فوق وحملتها خمسمائة، وبين كل أسطوانتين عشرة أذرع وعليها سقف من ألواح الرخام طُعِّم (¬3) بعضها إلى بعض بالرصاص، والقصر فوق ذلك السقف فيه مجالس مطلية بالذهب والفضة مفصصة بألوان الجواهر، وللقصر شرف مطلية بماء الذهب الأحمر مفصصة بألوان الجوهر، وباب القصر مما يلي المدينة وله درج من الرخام الأبيض والأخضر والأحمر، كانت الشمس إذا طلعت على ذلك القصر التهب ذلك الذهب وتلك الجواهر كالتهاب النيران، تكاد تغشى العيون وتحار منها الأبصار، وبني لها في أسفل التل من قرار الأرض حائط بالصخور المنحوتة، حتى أرجع ذلك الحائط إلى ذروة التل، فكان ارتفاع باب القصر من القرار مائة ذراع، وهي حول التل ¬

_ (¬1) من قوله (بن داود) إلى هنا سقط في "ب". (¬2) ورد ذكر اسم بلقيس عند القرطبي (بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل)، وانظر: "مختصر تاريخ دمشق" (1/ 714). (¬3) المثبت من "أ"، وفي البقية (لحم).

قصر مشيد (¬1) مقطع بالحجر، ولكل قطعة باب يسير إلى التل يسكن فيها أحراسها وخدمها، فكان إذا دخل عليها قوادها ورؤساء أهل مملكتها من وراء حجاج، فإذا حزبها أمر أسفرت لهم عن وجهها. وكان لها أربعة وعشرون قائدًا تحت كل قائد ثلاثون ألف رجل، وكان اثنان وعشرون وزيرًا، فقالت لوزرائها: ما كان يعبد آبائي الماضون؟ قالوا: كانوا يعبدون إله السماء، قالت: وأين هو؟ قالوا: هو في السماء وعلمه في جميع الأرض، فقالت: كيف أعبده وأنا لا أراه ولست أعرف شيئًا أنور نورًا من الشمس فهي أولى بالعبادة، ثم عبدت الشمس من دون الله وحملت قومها على عبادتها، فكانوا يسجدون لها إذا طلعت وإذا غربت. فانصرف الهدهد إلى سليمان -عليه السلام- فأخبره بأمرها فكتب إليها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}، فحمل الهدهد الكتاب وأقبل به حتى دخل عليها وهي في مجلسها بينها وبين قومها ستارة وتكلمهم من ورائها، فكان دخوله عليها من كوة في جدار ذلك المجلس، فقذف الكتاب في حجرها ففزعت منه، فلما قرأته قالت للهدهد: من أرسلك بهذا الكتاب؟ قال: أرسلني نبي الله سليمان بن داود -عليه السلام-، قالت: وأين هو؟ قال: معسكر بجنوده من الجن والإنس والطير على تخوم أرضك. فعندها قالت: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} إلى قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} فأهدت سليمان ألفي فرس مجللة بالحرير، وألف وصيف وألف وصيفة، وركبوا تلك الخيول منها ألف فرس ذكور وعليها الوصفاء، وألف إناث وعليهن الوصائف مسورين بأسورة الذهب مكللين بالتيجان، وأرسلت إليه بحُقِّ مصمت (¬2) لا ثقب فيه وفي جودها مائة ياقوتة (¬3)، فانبرت للحق دودة - تكون اليوم في ¬

_ (¬1) (مشيد) من "ب"، وفي البقية (فسد). (¬2) (مصمت) ليست في الأصل. (¬3) في "أ": (يا قوم).

الخشب- فثقبته بأسنانها، وذلك أنها قالت للرسل: سلوه أن يثقبه بغير حديد. وأهدت إليه درة على عظم البيضة لم يكن في ذلك العصر مثلها وكانت غير مثقوبة، فقالت للرسل (¬1): سلوه أن يثقبها بغير حديد، فانبرت دودة حمرة تكون في الماء، فقالت: يا نبي الله أنا أثقبها على أن تسأل الله أن يجعل رزقي في الماء، قال: ذلك لك، فثقبتها بأسنانها. وأرسلت إليه بدرة لها ثقب معوج، وقالت للرسل: سلوه أن يدخل في الثقب خيطًا، فانبرت دودة فقالت: أنا أدخل فيه خيطًا على أن تسأل الله أن يجعل رزقي في الفواكه، قال: فإن ذلك لك، فلوت خيطًا على رأسها ودخلت في ذلك الذي في الدرة تتخلل حتى خرجت من الجانب الآخر. فلما أتته الهدية قال (¬2): {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} إلي قوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} فلما ردّ عليها الهدية عزمت على إتيانه وقالت لقومها: إني صائرة إليه وممتحنة إياه بمسائل، فإن أصابها فهو نبيّ ولا طاقة لنا به، وإن كان ملكًا عزمنا على محاربته. فسارت إليه في مائة وعشرين رجلًا من عظماء قومها ومع كل واحد منهم مائة رجل من حشمه وغلمانه. وبلغ سليمان توجهها إليه، فعند ذلك قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} قال الشعبي: فسألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الذي عنده علم الكتاب قال: كان ذلك آصف (¬3) وكان يعرف اسم الله الأعظم. ¬

_ (¬1) في "ب": (إلى الرسول). (¬2) تفاصيل الهدية التي أرسلتها إلى سليمان -عليه السلام- ذكر بعضًا منها الضحاك وابن زيد ووهب بن منبه ذكره عنهم الطبري في تفسيره (18/ 57)، وذكر ابن الجوزي تفاصيل الهدية عن ابن عباس مفصلة ومطولة. [زاد المسير (3/ 361)]. (¬3) ابن أبي حاتم (9/ 2885).

فقال سليمان: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} فجعلوا مكان الذهب فضة ومكان الفضة ذهبًا وكذلك بدلوا الجواهر. ونزلت بلقيس على علوة من معسكر سليمان -عليه السلام- (¬1) ورأت ما أعطي سليمان من عظم الملك فتقاصر إليها ملكها، وأقامت ثلاثة أيام لا تبرح من مكانها فقال لها قومها: ألا تأتين هذا الملك فتنظري ما عنده؟ قالت: أنا صائرة إليه اليوم (¬2) لأعرف عنه أمره، قالوا: وبم تعرفين ذلك؟ قالت: إن الملوك لا يجلس إليهم إلا بإذنهم، فإن أمرني بالجلوس إليه فإنه ملك وأمره هين، وإن لم يأمرني بالجلوس إليه ولم ينهني عن القيام فهو نبي ولا طاقة لي به، وسأمتحنه بثلاث مسائل فإن أصابهن لم أشك في نبوته وإن لم يصبهن علمت أنه ملك صاحب دولة. وإن سليمان -عليه السلام- (1) أمر الجن فبنوا عن يمين مجلسه وشماله رواقًا بلبن الذهب مفروشًا به وتركوا من فرشه موضع لبنة، ثم أقبلت ومعها خادم لها على عنقه لبنة من ذهب لتجلس بلقيس عليها، فلما دخلت الرواق فأبصرت ما أبصرت ونظرت إلى موضع اللبنة التي ليست بمكانها كرهت أن يظن القوم أن اللبنة المنزوعة التي هي معها، وأمرت الخادم بوضع اللبنة التي كانت معها في ذلك الموضع فاستوى مرسى الرحى بتلك اللبنة، ثم وقفت أمام سليمان فحيَّته بتحية الملوك، وقامت ساعة لا يأمرها بالجلوس ولا ينهاها عن القيام. ثم رفع طرفه إليها وقال: يا هذه! إن الأرض بساط الله وإن العباد عباد الله فمن شاء فليقم ومن شاء فليقعد، فقعدت أمامه على كرسي من ذهب والإنس على يمين سليمان والجن على شماله ما يلفظ أحد منهم بكلمة، ونظرت إلى عرشها فأنكرته فقيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (اليوم) ليست في الأصل.

فقال لها سليمان: يا أمة الله أدعوك إلى توحيد الله وتعظيمه وخلع ما تعبدين من دونه فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا، فإن أبيت فأذني بحرب من الله ورسوله ولن يعجز بهما، فقالت: قد فهمت مقالتك أيها الملك ولست أعرف عنه أمرك إنك نبي أم ملك، وإني سائلتك عن ثلاثة أمور (¬1) فإن أخبرتني بها علمت أنك نبي ودخلت في دينك، وإن لم تعرفها علمت أنك ملك ثم انظر في محاربتك ومسالمتك. قال: سلي ما بدا لك لأخبرك بما يوحي إلي فيه ربي. قالت: فأخبرني عن شبه الولد بأبيه وآخر بأمه، وائتني بماء ليس من أرض ولا سماء، وصف لي صفة ربك لأعرفه. فقال: أما صفة الولد وشبهه فإن نطفة المرأة إذا سبقت نطفة الرجل أشبه الولد أمه، وإذا سبقت نطفة الرجل نطفة المرأة أشبه الولد أباه. وأما الذي سألت أن ليس من أرض ولا سماء فإني آتيك به الساعة، فأمر راضة الخيل فأجروا الخيل حتى عرقت فملؤوا من ذلك العرق قلة فأتوها بها. فأما الثالثة قالت: فأخبرني عن المسألة، قال: حتى يوحى إليَّ فيها، قال: فأوحى الله تعالى إليه أني قد أنسيتها المسألة الثالثة فقل لها: ما كانت مسألتك الثالثة؟ قالت: ما سألتك غير هاتين المسألتين وقد أجبت عنهما وأنا ناظرة يومي هذا في أمري وعائدة عليك غدًا بما أرى. ثم قامت فيمن كان معها من عظماء قومها فانصرفت إلى معسكرها فجمعت إليها من كان معها فقالت: إن هذا الرجل نبي مكرّم فما الذي ترون؟ قالوا: أنت أفضلنا رأيًا فافعلي ما بدا لك وفيه صلاحك وصلاح قومك، قالت: قد رأيت أن أسالمه (¬2) وأدخل في طاعته لئلا يستبيح بلدتي ولا يسبي الذراري ولا يقتل المقاتلين قالوا: الرأي ما رأيت. ¬

_ (¬1) (أمور) ليست في "ب". (¬2) في "أ" "ب": (أسأله).

قال: ثم إن الجن الذين كانوا مع سليمان كرهوا أن يتزوجها سليمان لأنها كانت منتسبة من جهة أمها إلى الجن، واحتالوا وقالوا لسليمان: يا نبي الله إن هذه المرأة من جنية، وإن الجنية لم تلد إنسية وكان قدم الولد كحافر الحمار. فأمر سليمان الجن فاتخذوا أمام مجلسه صرحًا من قوارير تحته الماء، وفي الماء سمك، ففعلوا ذلك واعتذروا إلى سليمان مما قالوا في بلقيس وأقروا أنهم كذبوا عليها، فأعجب سليمان ذلك الصرح وقال لهم: أحسنتم، قد عفوتكم عما قلتم فلا تعودوا إلى مثله. قال (¬1): وأقبلت بلقيس حتى قربت من الصرح وسليمان قاعد في ذلك الجانب من الصرح فنظرت إليه وقالت لقومها: هذا الرجل إنما دعانا ليغرقنا في هذه اللجة، فقال لها قومها: مرينا بأمرك فإنا لا نبالي أفي الماء غرقنا أم بالسيوف قتلنا، ثم سلَّ القوم سيوفهم، فقال آصف لبعض العفاريت: أصح بهم صيحة، فصاح بهم ذلك العفريت فخروا على وجوههم ثم وثبوا وهم فزعون. قال: وتقدمت بلقيس إلى الصرح لتعبر (¬2) وهي تظن أنه ماء جار، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لتخوضه، ونظر سليمان إلى قدميها فإذا هما أحسن قدم يكون على (¬3) امرأة، فأمر مناديًا فناداها أن غطي ساقيك فإنه {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} فاستحيت بلقيس وأرسلت ثوبها على ساقيها ثم قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأقبلت حتى جلست على كرسي أمام سرير سليمان وقالت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وحملت الريح صوتها إلى قومها قالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال: ونظر سليمان إليها وتأملها لحسنها وجمالها فقال لها: ويحك يا بلقيس أفنيت شبابك في عبادة الشمس من دون الله. ¬

_ (¬1) (قال) ليست في "ب". (¬2) في الأصل و"أ": (فيغيروا). (¬3) (على) ليست في "أ".

قالت: يا نبي الله دع ما مضى فالآن قد دخلت في دينك وقلت بمقالتك وشهدت بشهادتك غير أني أرى خاتمك (¬1) منقوشًا بلا حفر ولا كتابة فما الذي على خاتمك؟. قال سليمان -عليه السلام-: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله. قالت بلقيس: من محمَّد؟. قال سليمان: محمَّد رسول الله يكون في آخر الزمان. قالت بلقيس: فلم صار اسمه على خاتمك دون اسمك؟. فقال: لأنه أكرم على الله مني، ولن ينفعك الإيمان ولن يقبل الله منك صرفًا ولا عدلًا حتى تؤمني بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فآمنت بلقيس ومن معها بنبينا محمَّد -عليه السلام- (¬3) من قبل أن يولد بدهر طويل. قال: وهمّ سليمان أن يتزوجها وكره ما رأى من تلك الشعر وعرفت ذلك منه فقالت: يا نبي الله إن الرمانة لا تدري ما طعمها حتى تكسر. فقال سليمان: ما لا يحلو في العين لا يحلو في القلب. فقال بعضهم من نصحاء سليمان من الجن: يا نبي الله هل كرهت منها إلا هذا الشعر؟ أنا أحتال لها حتى يكون كالفضة البيضاء، قال: دونك، فعمل لها (¬4) عند ذلك النورة، فتنورت فخرجت بيضاء نقية وكان ذلك أول ما اتخذت النورة، فأما الحمامات فقد كانت قبل ذلك بزمان (¬5) ودهر طويل في ملك جم بن نوجهان وكان قد سخر له الجن والشياطين ولم يسخر له الريح والطير. ¬

_ (¬1) (أرى خاتمك) من "ب" "ي". (¬2) (وسلم) ليست في "أ" "ي". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (لها) مكررة في الأصل. (¬5) في الأصل (بزمن).

قال: فتزوج بها سليمان -عليه السلام- (¬1) ووقعت من قلبه موضع محبته فأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا له بأرض اليمن ثلاث حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعًا وحسنًا ومجالس وقنادل مانظر من الخلق في سالف الدهر إلى مثله، قال: وجعلوا لهذا البنيان وهذه (¬2) القبات أبوابًا من ألوان الجواهر، واتخذوا بين تلك الأبنية نخيلًا وأشجارًا وكرومًا من الذهب والفضة ثمرها الزبرجد والياقوت. قال: ونظرت بلقيس إلى ذلك البنيان فبقيت متحيرة لا تقدر على الكلام ساعة ثم قالت: إن هذه القدرة لقدرة جبار عظيم لا تدركه العيون ولا تصفه الألسن، ولكنه له الملك والقدرة والسلطان لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأفكار والأقطار، ثم أقبلت على سليمان فقالت: يا نبي الله أشهد لقد فضلك رب السماء والأرض على جميع خلقه فضيلة لا يطفأ نورها ولا يبيد ذكرها آخر الأبد ولن أصلح إلا لمثلك. وكانت أسامي ما كانت تتولاه بأرض اليمن سليحين وبينون وغمدان، فكان سليمان -عليه السلام- (¬3) يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثًا ثم يبتكر فيمسي بالشام. قال الشعبي: وحكي لنا أن بلقيس - رضي الله عنها - لم تجلس على سرير الملك بعد إيمانها بالله ولا لبست حريرًا ولا ديباجًا ولا تحلَّت بالذهب، وكانت تقول: حسبي من الحسن والجمال والنور والبهاء توحيدي واسلامي وإيماني بربي (¬4) وسجودي له، وحسبي من الفخر تزويجي لسليمان نبي الله ورسوله، لا جلست إلا مثل جلوس سليمان، ولا أكلت إلا مثل أكله، ولا لبست إلا مثل لباسه، ولا نظرت إلى السماء حياء من ربي إذ عبدت الشمس من دونه. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (البنيان وهذه) ليست في "ب". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في الأصل: (يربي).

قال: وكانت كذلك حتى قرأت التوراة والإنجيل وكانت مع ذلك لا تفتر (¬1) من القنوت والسجود في الليل والنهار (¬2). وفي قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا} دليل على كون ذلك الهدهد عاقلًا مخاطبًا مكلفًا، وفي قوله: {لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} دليل على وجوب قبول العذر على الإمام والرئيس. وعن فروة بن مسيك المرادي، قال: أتيت النبي -عليه السلام- فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم فأمرني عليهم، فلما خرجت من عنده سأل عني وأرسل الغطيفي فأخبرني وقد سرت فأرسل في أثري فردّني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: "ادعُ القوم فمن أسلم فأقبل ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث لك"، قال: وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ أرض أم امرأة؟ قال: "ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم (¬3) ستة وتشاءم منهم (¬4) أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون وحميرة وكندة ومذحج وأنمار" فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (¬5) (¬6) وروى عن النبي نحوه. وقوله: "منهم خثعم وبجيلة" يحتمل النسبة الحقيقية ويحتمل الموالاة ¬

_ (¬1) في "أ": (تفتن). (¬2) هذا الأثر لم نجده، وأقرب شيء وجدناه ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2896 , 2897) وذكره ابن كثير وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم واستنكر قول ابن أبي حاتم: (ما أحسنه من حديث) قال: بل هو منكر جدًا. (¬3) (منهم) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: (ونشأم عشرة أربعة). (¬5) في الأصل: (حسن بن عويب). (¬6) الترمذي (3222) والحديث صحيح.

كما في قوله: "سلمان منا أهل البيت" (¬1) ثم يحتمل أن يكون وحيًا، ويحتمل أن يكون مسموعًا على سبيل الاستفاضة. وقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} لأن سليمان -عليه السلام- (¬2) كان مصروفًا عنه فيما ذكر (¬3). و (الصرفة) هو كاحتباس بني إسرائيل في التيه وكونهم مصروفين عما حواليه أربعين سنة. و {الْخَبْءَ} المخبوء وهو المستور، وفائدته أن عبدة الشمس إنما يعبدون لتبيينها المحسوسات وإظهارها المستورات، والله تعالى هو المبين لكل محسوس ومعقول فعبادته أولى. وعن معدان بن طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله فقلت له: دلَّني على عمل ينفعني الله به أو يدخلني الجنة، فسكت عني ثلاثًا ثم التفت إلى فقال: عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) يقول:"ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" قال معدان: فلقيت أبا الدرداء فسألته عما سالت ثوبان، فقال: عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" (¬5). {نَنْظُرْ} سنمتحن ونختبر. ¬

_ (¬1) ابن سعد في الطبقات (4/ 98)، والطبراني (6040)، والحاكم (2/ 691)، والبيهقي في الدلائل (3/ 418) والحديث ضعيف وله شواهد. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ب": (مهما). (¬4) (وسلم) ليست في "أ". (¬5) الترمذي (388، 389)، والنسائي (2/ 228)، وابن ماجه (1423، 1424)، وأحمد (5/ 164، 280، 283)، والدارمي (1461)، وابن خزيمة (316) والحديث صحيح.

{ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي اعتزلهم وانصرف عنهم، وقيل: ما فيه تقديم وتأخير: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ}. عن ابن عباس عن النبي -عليه السلام- (¬1) قال: "كرامة الكتاب ختمه" (¬2). وفي قوله: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} دليل (¬3) على حسن المشاورة، وقولها: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} أي ممضية حكمًا. وفي قولهم: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} دليل على حسن إظهار الجند بأسهم، وفي قولهم: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} دليل على حسن طاعة الرعية للإمام. وفي قولها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} دليل على وجوب حسن النظر في عواقب الأمور وتركهم قضية السورة والفورة {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يجوز أن يكون أمر لكلام بلقيس على سبيل التأكيد، ويجوز أن يكون كلامًا مبتدأ من جهة الله على سبيل التصديق (¬4)، وعن بعض الملوك أنها احتج بها على بعض النساك فقال: اقرأ الآية التاسعة عشرة من هذه {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}. ففي قوله: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} دلالة على صحة امتحان رجال الآخرة ورجال الدنيا بالدنيا. {لَا قِبَلَ لَهُمْ} لا طاقة {بِهَا} ولا يقابلونها بشدة وبأس. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) الحديث أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (5/ 1)، والطبراني في الأوسط كما في المجمع (8/ 99)، والثعلبي في تفسيره (3/ 12) عن ابن عباس مرفوعًا، قال الهيثمي: فيه محمَّد بن مروان السدي الصغير وهو متروك، وقال العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (4/ 69/ 1567) موضوع. (¬3) (دليل) من "ب" "ي". (¬4) جعلها ابن عباس من كلام الله، أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 52)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2877/ 16328).

{عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} نافر قوي معه حيث وردها، يقال: رجل عفر وعفريت (¬1). {نَكِّرُوا} غيِّروا، وإنما يوجب نكره وفائدة الامتحان ظهور الفطنة وذكاء القريحة، وإن من كان أخرق في معيشته وعاجلته فأخلق به أن يكون أخرق في ديانته وآجلته، وليس يميز السفيه بين البرهان والتمويه، وعلى هذا تأول الجاحظ قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72] في كتاب المعاش والمعاد غير أنه فاسد لأن من شغله السعير عن الشعير والآخرة عن الأولى وأصبح متألهًا لم يعرف قيم السلع في السوق، وله في التوحيد والفقه رتبة لا يدري مداها ولا يبلغ أعلاها. {وَصَدَّهَا} يعني من شؤم إشراكها صدّها عن صواب القول، وقيل: صدّ سليمان، وهذا خلاف الظاهر. {الصَّرْحَ} البناء العالي كالقصر {مُمَرَّدٌ} ملس، وقيل: مطول {مِنْ قَوَارِيرَ} جمع قارورة وهو الزجاج. ولو شاء سليمان -عليه السلام- (¬2) لاطَّلع على ساقيها من غير هذه الكلفة لكن أمر بالاحتيال إكرامًا لها واحتراما إياها وتنبيهًا لها على ما آتاه الله من البسطة والتمكين. وفي الآية دليل على جواز النظر إلى الأجنبية على نية النكاح. ¬

_ (¬1) في "عفريت" عدة لغات: الأولى: القراءة المشهورة "عِفْرِيْت" بكسر العين وسكون الياء بعدها تاء مجبورة. والثانية: قراءة أبي رجاء وأبي السمال وهي مروية عن أبي بكر الصديق "عِفْرِيَةٌ" بياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث المنقلبة هاءً وقفًا ومنه قول ذي الرمة: كأنهُ كوكبٌ في إثرِ عِفْرِيَهٍ ... مُصَوَّبٌ في سواد الليلِ مُنْقَضِبُ والثالثة: "عِفْرٌ" بحذف الياء والتاء. والرابعة: عفاريةَ. والخامسة: وهي لغة طي وتميم: عِفْرَى كَذِكْرَى. والكلمة مشتقة من العفر، وهو التراب، وقيل: من العُفْر وهو القوة، والعفريت من الجن هو المارد الخبيث. [ديوان ذي الرمة (ص 111)، البحر (7/ 76)، اللسان (عفر)، الدر المصون (8/ 614)، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة، (ص 324)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي".

{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} المؤمنون والكافرون {يَخْتَصِمُونَ} يختلفون (¬1) في أمر صالح -عليه السلام-. {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} بنزول العذاب قبل أن تتم العافية المقدرة في الكتاب. {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} كانوا يتطيرون بصالح وبالمؤمنين ويسندون الأمراض والآفات إليهم لكراهتهم مكانهم، فأخبر صالح -عليه السلام- (¬2) أن الشؤم من عند الله تعالى كما أن البركة من عند الله، لا خَيْر إلَّا خَيْره ولا طير إلا طيره ولا إله غيره، بل رد عليهم؛ أي لستم تصابون بالشر من جهتنا تختبرون بالشر لشقوتكم. {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} قدار وأصحابه من بني عمير {وَأَهْلَهُ} وهم المؤمنون (¬3). {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} عصبته المتعصب له مئل أي طالب {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} مهلكه ومهلك أهله. {وَمَكَرُوا مَكْرًا} وقتلوا الناقة {وَمَكَرْنَا} دمرناهم، وقيل: مكرهم تقاسم هؤلاء التسعة الرهط، ومكر الله إرسال الجبل عليهم وهم في غار من الجبل قتل هؤلاء التسعة غير قدار وأصحابه خلوا به خالية. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} كونها مخالفة لفطرة الله تعالى، وقيل: إن بعضهم كان يأتي بعضًا في الأندية. ¬

_ (¬1) (يختلفون) ليست في "ب". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) التسعة رهط هم الذين عقروا الناقة وهم الذين يفسدون في أرض حجر ثمود ولا يصلحون تحالفوا على قتل صالح وأهله، ثم يقولون لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئًا، فدمرهم الله أجمعين، هكذا قال مجاهد وابن جرير والطبري في تفسيره (18/ 90).

{بَلْ} للإضراب (¬1). (أم) مرتبة على ألف الاستفهام وفيما بعدها بمعنى بل {حَدَائِقَ} جمع حديقة وهي البستان الذي أحدق به البناء، والبناء الذي أحدقت به الأشجار {ذَاتَ بَهْجَةٍ} حسن ونضارة الأرض. {قَرَارًا} موضع قرار كقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36]، وقيل: وجعل الأرض مستقرة كقوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. {بَلِ ادَّارَكَ} أم أدرك على سبيل الاستفهام ثم الشك، حقيقة حالهم، ثم العمى لنفي توهم الشك علمًا، فإن الشك جهل وليس بعلم، وقيل: هو كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49] ثم الشك (¬2) والعمى، وقيل: {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إيمان أكثرهم بها على سبيل الإجمال، والشك شك بعضهم والعمى عمى، و {بَلْ} للإضراب دون الاستدراك، وقيل: الكلام على ظاهره والتناقض في أحوالهم المخبر عنها دون الخبر؛ لأنهم أيقنوا بانتهاء الدنيا في أول فكرهم ونظرهم على سبيل البديهة التي هي من قضية الفطرة، ثم شكوا فيها لتمكينهم الشبهات من قلوبهم، ثم عموا عنها باتباع الشهوات بقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] و (بل) للإضراب. وقيل: {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} حصل لهم بتواتر الأخبار والآيات النبوية، يدل عليه قولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} وشكهم يشككهم على سبيل المكابرة، وعماهم اعتقادهم خلاف العلم الضروري باعتقاد السوفسطائية (¬3) (¬4) في العالم واعتقاد الروافض في القرآن. ¬

_ (¬1) في الأصل: (للاضطراب). (¬2) من قوله (علمًا فإن) إلى هنا ليست في "ب". (¬3) بدل (السوفسطائية) في "أ": (فراغ). (¬4) كلمة "السوفسطائية" يفسرها الفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" ص 24:"بأنها اسم للمهنة التي بها يقدر الإنسان على المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام ... " =

{رَدِفَ لَكُمْ} أي ردفكم، والسلام مقحمة كما في قوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 86] تكن تخفى. {يَخْتَلِفُونَ} أي بنو إسرائيل {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} إنه كان نبيًا مرضيًا أم ملكًا مقارنًا للمعصية وقد زكاه الله وأثنى عليه. {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ولكن الله أسمعهم كلامه على سبيل التقريع وهم في قليب بدر. {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ} وجب العذاب الموعود عليهم، والضمير عائد إلى غاية المحجوجين المخالفين بكفر أم ببغي {دَابَّةً} جنس من الحيوان لم يعرف بعد تكلمهم بلسان معهود معروف فيما بين الناس. عن أنس بن مالك قال في دابة الأرض: أن فيها من كل أمة سيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين (¬1) قابل، والظاهر من هذه الدابة أنها آية ملجئة غير ملتبسة لاعتبار وقوع. عن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- (¬2) قال: "تخرج الدابة معها خاتم سليمان وعصى موسى -عليه السلام- فتجلو وجه المؤمن وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى أن أهل الخوان يجتمعون فيقول هذا ها يا مؤمن ويقول هذا ها يا كافر" قال عيسى: هذا حديث حسن صحيح (¬3)، قال إبراهيم: تخرج دابة الأرض من مكة (¬4)، وقال ابن عباس: الدابة التي يخرج الله تعالى للناس يكلمهم ¬

_ = والكلمة يونانية مركبة من "سوفيا" بمعنى الحكمة ومن "أسطس" بمعنى المموهة. بمعنى حكمة مموهة. وقد فصل القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في كتابه الصفدية (1/ 97)، ومجموع الفتاوى (19/ 75)، وانظر: مفاتيح العلوم للخوارزمي (ص 91). (¬1) (مبين) ليس في الأصل و"أ". (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) الترمذي (3187)، وابن ماجه (4066)، وأحمد (2/ 295، 491)، والطيالسي (2687)، وابن جرير (18/ 122)، وابن أبي حاتم (9/ 2923) والحديث ضعيف. (¬4) خروجها من مكة روي مرفوعًا من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله، من أين تخرج؟ قال: "من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى =

أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون هو الثعبان الذي كان في البيت فأرسل الله عقابًا فاختطفه (¬1). وقال مجاهد: اختطف العقاب الثعبان فألقاه نحو المخسف العماليق بقية عاد (¬2). وقال مجاهد عن ابن عباس: ألقته العقاب بأجياد فمن أجياد تخرج الدابة. وعن مجاهد عن (¬3) عبد الله بن عمرو قال: تخرج الدابة من تحت الصفا فتستقبل المشرق فتصرخ صرخة يبلغ صوتها منقطع الأرض من المشرق، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة يبلغ صوتها منقطع الأرض من المغرب، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة كذلك، ثم تستقبل الشام وكذلك، ثم تغدو فتقيل بعسفان (¬4). عكرمة عن ابن عباس: إنما جعل المسبق من أجل الدابة فإنها تخرج قبل التروية بيوم أو يوم التروية أو يوم عرفة أو يوم النحر، أو الغد من يوم النحر (2). وعن أبي هريرة قال: قال رسول (¬5) الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس ينذرن الساعة لا أدري أيتهن قبل، وأيتهن جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: الدابة ويأجوج ومأجوج والدجال وطلوع الشمس من مغربها وعيسى ابن مريم" (¬6). ¬

_ = يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تُحَرِّكُ القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا ... " الحديث أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 124)، والبغوي في تفسيره (6/ 179)، وذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (2/ 20)، وكذا روي عن ابن مسعود كما في زاد المسير (3/ 370). (¬1) ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (13/ 237). (¬2) ذكره الأزرقي في أخبار مكة (2/ 158). (¬3) من قوله (ألقته العقاب) إلى هنا ليست في "ب". (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص (9/ 2925). (¬5) في الأصل: (النبي رسول الله). (¬6) قريبًا منه عند إسحاق بن راهويه في مسنده (513).

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ} واذكر يوم نحشرهم يوم جمعهم. {دَاخِرِينَ} صاغرين. {جَامِدَةً} ضد سائلة، والجماد ضد الحيوان تكون هذه يوم القيامة كقوله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 3] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} [القارعة: 5] وذلك الحسبان لقصور الرؤية عن الاحتواء بأطرافها. {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي (¬1) الملجئة. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "من قرأ طس سليمان أعطاه الله عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشرون درجة، تعداد كل من كذب موسى وصدق داود وسليمان وصالحًا ولوطًا وخرج يوم القيامة وهو ينادي بشهادة أن لا إله إلا الله" (¬3). ... ¬

_ (¬1) (أي) ليست في الأصل. (¬2) (وسلم) ليست في "أ" "ي". (¬3) مرَّ الكلام عليه وأنه حديث موضوع.

سورة القصص

سُورَةُ القَصَصِ مكية (¬1)، وروى المعدل عن ابن عباس أن آية واحدة نزلت بالجحفة ورسول الله مهاجر إلى المدينة (¬2) قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] وهي ثمان وثمانون آية (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَهَامَانَ} رجل من آل فرعون كان عزيز مصر في زمانه مثل قوطفير ولم يبلغنا من نسبته ما نعتمد عليه (¬4). {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} جواريه، والسلام لام العاقبة (¬5) {وَحَزَنًا} أي سبب حزن {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} آسية، ولم يبلغنا أنها كانت من العمالقة أم ¬

_ (¬1) ممن ذهب إلى مكيتها ابن عباس، كما عند ابن الضريس (17/ 18)، والنحاس (ص 611)، والبيهقي في الدلائل (2/ 142 - 144). وكذا عبد الله بن الزبير كما عند ابن مردويه كما في الدر المنثور (11/ 421)، وهو قول الحسن وعطاء كما عند القرطبي (13/ 222)، وزاد المسير لابن الجوزي (6/ 200). (¬2) ذكره عنه القرطبي (13/ 222)، وابن الجوزي (6/ 200)، وأضاف القرطبي قتادة. (¬3) انظر: "البيان في عدّ آي القرآن" (ص 201). (¬4) "هامان" ظاهر الآيات يدل على أنه وزير فرعون، وهو لقب وليس باسم، ويطلق على وزير الملك في مصر في ذلك العصر. [التحرير والتنوير لابن عاشور (20/ 72)]. (¬5) أي اللام في قوله "ليكون" لام العاقبة وجعلها أبو جعفر النحاس في إعرابه (4/ 543) لام كي.

من القبط، أوزعها الله محبة موسى -عليه السلام-، وأكرمها بالإيمان ورزقها الشهادة وهي التي قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، وكانت لها ماشطة إسرائيلية فهي التي كانت توحي إليها علم التوحيد والإِسلام فيما يروى، وهي امرأة حزقيل النجار مؤمن آل فرعون. قيل: وجلب كهنة فرعون صلات عظيمة ليلبسوا أمر موسى على فرعون. {فَارِغًا} ضد شاغل، وإنما فرغ قلبها بعد التقاطهم، وإنما {كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} حين ألقته في اليم، أو حين دعيت لتكفله وترضعه، واسم أم موسى يوخابذ بنت لاوي واسم أخته مريم (¬1). عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قال: وهم قائلون قبل المدينة عن الشمس (¬2)، وقال مقاتل: هي قرية تدعى خانين على فرسخين من مصر {فَوَكَزَهُ} فضربه بجمع كفه {فَقَضَى عَلَيْهِ} فأمضى موسى -عليه السلام- (¬3) القتل بوكزه {قَالَ هَذَا} إشارة إلى قتل النفس بغير إذن الله. {فَاغْفِرْ لِي} أي استر الجناية على آل فرعون لئلا يؤاخذوني عاجلًا {أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أراد إنشاءه في حجر عدوه، وقيل: ستر الجناية وترك المؤاخذة عاجلًا {عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ} معطوف (¬4) على مقدر أي تبت {فَلَنْ أَكُونَ} قال ابن عباس: إن موسى -عليه السلام- (3) لم يستثن في كلامه فابتلي بالبطش ثانيًا (¬5). ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي [زاد المسير (3/ 375)] عن مقاتل أن اسم أم موسى يوخابذ، وذكر القرطبي في تفسيره (13/ 250) عن السهيلي أن اسمها أيارخا أو أيارخت، وعن الثعلبي أن اسمها لوحا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب، وأما اسم أخت موسى فقد ذكر المؤلف أن اسمها مريم وهذا مروي عن مقاتل ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 376). (¬2) ابن جرير (18/ 185)، وابن أبي حاتم (9/ 2953). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (علي فلن أكون معطوف) ليست في "أ". (¬5) قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره القرطبي في تفسيره (13/ 263).

{بِالْأَمْسِ} اليوم الماضي مبني على كسرة آخره. قال الكسائي: بني على الأمر من أمسى يمسي فإذا دخلته لام التعريف أعرب، وإنما قال للمستصرخ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} لاستنصاره موسى -عليه السلام- وترك البقية والرفق، وهو يعلم ما ابتلي به موسى -عليه السلام- بالأمس من جهته. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} بوجوب إغاثة الملهوف والذب عن المؤمنين، وإنما قال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} لخوفه بجهله وحماقته، وقيل: الصديق الجاهل شر من العدو العاقل. {وَجَاءَ رَجُلٌ} أي خربيل النجار مؤمن آل فرعون من الجانب الآخر من المدينة من جهة باب فرعون {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} لأن القبطي حيث سمع قول الإسرائيلي خلاه ومضى على وجهه يخبر فرعون بالقصة. {امْرَأَتَيْنِ} هما ابنتا شعيب -عليه السلام-، وقال الكلبي: هما ابنتا يثرون ابن أخي شعيب رجل صالح شاخ وعمي في آخر عمره {تَذُودَانِ} تجلسان عن الماء {الرِّعَاءُ} جمع راعي وليس بالقياس. عكرمة عن ابن عباس في قوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: ما سأل إلا الطعام (¬1). {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} متسترة بكمها (¬2) وذيلها. وإنما قالت: {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} لاستقائه وحده بدلو ما كان يطيقها، ولغضِّه البصر فإنه قال للمرأة: تخلَّفي عني فإن ضللت الطريق فناديني من ورائي. شرط المنفعة لولي المرأة غير المميز (¬3) وجعل ما يستحق على الولي مهرًا للمرأة {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} دليل على جواز الزيادة بالمهر، وذلك إشارة إلى كلامه جملة أو إلى قوله {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (18/ 216)، (¬2) في "أ": (بكما). (¬3) في الأصل و"ب": (المهر).

{أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} سئل ابن عباس: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أكثرهما (¬1)، وعن النبي -عليه السلام- (¬2) قال: "سألت جبريل: أي الأجلين قضى؟ قال: أتمهما وأكملهما" (¬3). {بِخَبَرٍ} أي خبر الطريق فإنهم كانوا محتاجين إليه {أَوْ جَذْوَةٍ} يشعل فيها النار. {شَاطِئِ الْوَادِ} وشاطئه شقه (¬4) {الْأَيْمَنِ} ضد الأشأم، وهو نعت الشاطئ، أو أيمن الوادي من يسلكه ويعبره {الْبُقْعَةِ} القطعة المتميزة من الأرض، جمع بقع كتحفة وتُحَف ونطفة ونطف، والبقاع جمع بَقعة بفتح الباء كقصعة وقصاع. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} يحتمل معنيين: التجمع والقبض لاستدراك القوة وإزالة الرهبة من الحية، والثاني: التضاؤل والتواضع من رهب الله تعالى يحتمل قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} متصلًا بقوله {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12]، وقوله: {مِنَ الرَّهْبِ} عائد إلى قوله: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}. وعن مقاتل: الرهب: الكم، قال: وضعت الشيء في الرهب أي في الكم، وهذا تأويل بعيد. {أَفْصَحُ} أقدر على البيان. {بِآيَاتِنَا} يجوز أن يتصل بما قبله وأن يتصل بما بعده. {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} لنتخذ آجرًّا فبنى الصرح منه وصعد به ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (18/ 235) بلفظ: "سئل ابن عباس: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأوفاهما" وفي لفظ: "خيرهما وأوفاهما". (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البزار (2245 - كشف)، وأبو يعلى (2408)، وابن جرير (18/ 236، 237)، وابن أبي حاتم (9/ 2970)، والحاكم (2/ 407) ورجاله ثقات كما في المجمع (7/ 87). (¬4) في الأصل: (بنفسه).

للاطلاع نحوه {لَعَلِّي} أراد أن يلبس الأمر على الجهال من قومه أو لجهالته وسفهه (¬1)، وكأنه كان يتوهم (¬2) كون السماء مقرونة بالسحاب دون الأفلاك ودون النار. {الْمَقْبُوحِينَ} المطرودين المبعدين، وفي حديث عمار: "اسكت مقبوحًا مشقوحًا منبوحًا" (¬3). {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} فائدة النفي التنبيه على كونه -عليه السلام- مخبرًا عن الغيب الذي لا يعلمه مثله إلا بوحي إلهي (¬4). {وَلَكِنَّا كُنَّا} وجه العطف تبعيد ما بين موسى ونبينا -عليه السلام- (¬5) بامتداد الزمان وتطاول العمر واستطالته وطوله (¬6) بمعنى، قال الله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [الحديد: 16]. {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي ما أنت بالذي كان فيما بينهم {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فرجعت إلى عادتك {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياه كما أرسلنا. عن الضحاك [عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قال: لما أخذ موسى الألواح ونظر فيها قال: إلهي لقد أكرمتني] (¬7) بكرامة لم تكرم بها أحدًا قبلي، فأوحى الله إليه: يا موسى إني اطلعت على قلوب عبادي فلم أجد أشد تواضعًا من قلبك، اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك بجد ومحافظة وكن من الشاكرين، يعني ¬

_ (¬1) في "ب": (الجهالة وسفرته). (¬2) في "أ": (يتوهمه). (¬3) أثر عمار ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 489) ولفظه: قال عمار لمن تناول من عائشة: "اُسْكُتْ مقبوحًا مشقوحًا منبوحًا" والمشقوح المكسور أو المُبْعَد. (¬4) في الأصل و"أ" "ب": (إلا وهي). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) في "أ": (وقوله). (¬7) ما بين [...] ليست في الأصل، وبدله (الضحاك بن مزاحم عن بكرامته).

شهادة أن لا إله إلا الله، ومت على التوحيد يعني محمَّد -عليه السلام- (¬1)، قال موسى -عليه السلام- (1): إلهي وما محمَّد؟ فأوحى الله تعالى إليه: محمَّد مكتوب على ساق العرش من قبل أن أخلق السماء والأرض بألفي عام، إنه نبيي وصفيي وخيرتي من خلقي، وهو أحب إلى من جميع خلقي ومن ملائكتي. فقال موسى: إلهي إن كان محمَّد أكرم عليك من جميع خلقك وجميع ملائكتك فهل خلقت أمة أكرم من أمتي؟ ظللت عليهم الغمام وأنزلت عليهم المن والسلوى، فأوحى تبارك وتعالى: يا موسى إن فضل أمة محمَّد -عليه السلام- على سائر الأمم كفضلي على خلقي، قال موسى: يا ليتني رأيت أمة محمَّد -عليه السلام-، قال: يا موسى لن تراهم ولكن تحب أن تسمع كلامهم؟ قال: نعم يا رب، فنادى ربنا -عَزَّ وجل-: يا أمة محمَّد، فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، فجعل تلك الإجابة شعائر الحج، ثم نادى: يا أمة محمَّد إن رحمتي سبقت غضبي قد غفرت لكم من قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم من قبل أن تعصوني، فمن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله صادقًا من قلبه أدخلته الجنة (¬2) وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر (¬3). {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي ولكن أخبرناك بالغيب رحمة عليك وعلى المتذكرين من قومك. {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ} جواب مضمر في آخر الآية إنا أرسلناك إليهم {لَوْلَا أَرْسَلْتَ} هلا أرسلت. قالوا: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} المراد بالكتابين التوراة ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (الجنة) ليست في "أ". (¬3) أشار القرطبي في تفسيره إلى رواية ابن عباس بعضًا منها (13/ 292)، وابن كثير في تفسيره (3/ 484).

والقرآن وبالنبيين موسى ومحمد -عليهم السلام-[وقيل التوراة والإنجيل وموسى وعيسى -عليهم السلام-، وقيل: إنه موسى وهارون والنبيين هما -عليهم السلام-] (¬1). {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} المراد بالكتاب الذي وقع فيه التحدي بالإتيان به، كتاب مخالف لهما، غير كتاب مصدق لهما، وفحوى الخطاب دالة عليه. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)} أهل الكتاب يؤتون أجرهم مرتين لإيمانهم. {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} يدفعون الكفر بالإيمان والإنكار بالإقرار. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬2) لعمه: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة" قال: لولا أن تعيرني قريش بهما لحمله عليه الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬3). وعن عمر قال: نزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} في أبي طالب (¬4)، عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة (¬6) وقال: "أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله (¬7) بن أبي أمية: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعاودانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، قال رسول الله: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "ب" "ي". (¬2) (السلام) ليست في الأصل، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) مسلم (25). (¬4) وجدته عن ابن عمر كما في النسائي في الكبرى (11384). (¬5) في الأصل: (السلام)، وسقطت في "أ" "ي". (¬6) (بن المغيرة) ليست في الأصل. (¬7) (عبد الله) مكررة في "أ".

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فأنزل الله بأبي طالب فقال رسول الله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬1) إيمانه، مثل أبي طالب {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مثل حمزة وعباس وأروى وصفية وعاتكة. {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى} كانوا يعتذرون إلى رسول الله بأنهم لا يقاومون العرب قاطبة حواليهم إن طلقوا دينهم فرد الله عليهم عذرهم بأنه هيأ لهم أسباب الحرمة وهم (¬2) كفار جهال فكيف لو اعتصموا بالعروة الوثقى {يُجْبَى} يجمع، ويحمل. {إِلَّا قَلِيلًا} إلا سكونًا (¬3) قليلًا. {الْمُحْضَرِينَ} في النار. {الَّذِينَ حَقَّ (¬4) عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} المتبوعين في الضلالة دون المعبودين. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} وودوا أي وتمنوا أنهم لو كانوا يهتدون، ويحتمل أن المراد به رؤية العذاب عن الذين يحشرون على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا. {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الخِيَرة والخِيرة كالطِّيَرة والطِّيرة، والآية في ردّ قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فيها دلالة أن المختار للإمامة من ميَّزه الله تعالى بالتوفيق دون من ميَّزه بالتخليق، وعلى فساد اختيار الناس إمامًا غير موافق للسنة والجماعة. {سَرْمَدًا} دائمًا أبدًا. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (3884)، ومسلم في صحيحه (24/ 39)، والنسائي (2034) وغيرهم عن سعيد بن المسيب عن أبيه. (¬2) في الأصل: (كانوا). (¬3) أي لم يسكن مساكنهم إلا المسافرون ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 389). (¬4) في الأصل: (يحق).

{شَهِيدًا} أي يشهد عليهم {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} يجوز أن يكون خطابًا للشهداء على سبيل التوفيق، ويجوز أن يكون خطابًا للمشهود عليه على سبيل التحدي والتقريع. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ذكر الحدادي (¬1) في تاريخه أن قارون ابن عم موسى وكان فرعون قد ملَّكه علي بني إسرائيل حين كان بمصر، فلما قطع موسى البحر ببني إسرائيل ومعه قارون أغرق الله فرعون وجنوده وجعلت الجنود لهارون وهو الرئيس الذي يقرب القربان وبيده المذبح، وجعلت الرسالة لموسى -عليه السلام- (¬2). وجد قارون في ذلك من نفسه فلم يزل كذلك حتى دخل التيه فقال قارون لموسى: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك لا أصبر على هذا، قال موسى: والله ما أنا صنعت ذلك لهارون بل جعله الله له، قال: لا والله لا أصدقك أبدًا حتى تريني آية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون. قال: فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصًا ثم يلحوا بها ثم ألقي في التيه التي كان يوحى إليه فيها، ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون يهتز لها وفرق (¬3) مكان (¬4) من شجرة اللوز، قال موسى: يا قارون [أترى أنّ الله صنعه لهارون، قال قارون لموسى: ما هذا بأعجب مما يصنع من السحر. ¬

_ (¬1) هو إما: طاهر بن محمَّد بن أحمد بن نصر المروزي تاج الدين الحدادي البخاري المحدث روى عن أبي الليث السمرقندي، توفي في حدود سنة 410 هـ، من مؤلفاته "عيون المجالس وسرور المدارس". انظر: هدية العارفين (1/ 224). أو هو أبو الفضل محمَّد بن الحسين بن محمَّد بن مهران المروزي الحدادي، شيخ أهل مرو في الحديث والفقه والتصوت، توفي سنة 388 هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 470). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) في "ي" "ب": (ورق). (¬4) في "ب": (وكانت).

واعتزل قارون على] (¬1) حدة وولي هارون الحبورة فكان معه القربان والمذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكلها، فقال قارون: والله ما هذه النار إلا مثل نارنا فإن شئت يا موسى جئتك بنار فإن لم تفعل مثلما تفعل هذه فأنا كذاب، فقال موسى: فأبعث إذًا بنار، فانتدب لقارون خمسون ومايتا رجل يأخذون نارًا من أول نارهم ثم يجعلونها في مجامرهم، فجاؤوا بها إلى القربان فلما انتهوا إلى القربان نزلت نار من السماء فأكلتهم كلهم، فجعل ابنان لهارون (¬2) يسكنان النار، فلما انتهيا إلى النار أحرقتهما، فقيل لأبيهما: إني قد قضيت أن لا يجيء رجل بنار عربية إلا أحرقته وإني قد جعلتهما شهيدين. واعتزل قارون ومن تبعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل، فاعتزل موسى فلم يكن يأتيه ولا يجالسه، فقال موسى: يا رب إن قارون قد أفسد عليّ بني إسرائيل فمر الأرض أن تطيعني فيه وفيمن معه، فأمرت أن تطيعه، فأقبل موسى إلى قارون ومن معه حتى انتهى إليهم قال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فإن مات بغير ما يموت الناس أو تغيرت به الأرض عن حالها فإني صادق فيما قلت، فمن كان معي فليعتزل ومن كان معه فليثبت مكانه. فلما سمعوا ذلك عرفوا أن موسى صادق فاعتزلوا غير رجلين من بني روبيل فقال موسى -عليه السلام- (¬3): يا أرض القميهم (¬4) فابتلعيهم، فقال: يا موسى أنشدك والرحم، فلم يرق لهم فقال الله: أما وعزّتي لو إياي دعا لنجيته، ثم دعا أيضًا موسى على ماله فخسف به؛ قال: فهو يتجلجل بها كل يوم قدر قامته إلى أن تقوم الساعة. ¬

_ (¬1) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬2) في "ب": (الرجل لهارون). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "أ" "ي": (الهميهم).

وعن الحسن البصري قال: أول من شرف الشرف قارون، وأنه لما بنى داره وفرغ منها وشرفها صنع للناس طعامًا سبعة أيام يجمعهم كل يوم فيطعمهم، ثم أرسل إلى بغيّ من بني إسرائيل لم يكن في بني إسرائيل امرأة أجمل منها فقال لها قارون: لك عندي كل شيء نطقت به وأردته على أن تفعلي ما آمرك، فقالت له: ما هو؟ قال: إذا جلست للناس غدًا وأذنت لك فأتيني فاستعدي على موسى وقولي: إنه أرادني، قالت: نعم. فلما كان الغد واجتمع الناس في داره حتى ملأوها أبطأت عليه فلم تجبه فأرسل إليها فجيء بها، ثم أرسل إلى موسى، فقال له قارون: ما لهذه المرأة تشكوك؟ قال له موسى: ما أدري ما لها، قال لها قارون: أخبريه، فقالت المرأة: يا موسى إن هذا جعل لي ما نطقت (¬1) به وما أردته على أن أزعم على رؤوس الناس أنك تراودني عن نفسي، وإني والله ما كنت لأفعل، معاذ الله لقد برأك الله من ذلك، فغضب موسى -عليه السلام- واشتدَّ غضبه، ثم قال: يا عدو الله قد بلغ جرأتك على هذا، وقال له قولًا غليظًا. فخرج من عنده مغضبًا فدعا الله تعالى فقال: عبدك قارون الذي عبد دونك وجحدك وأنكر ربوبيتك ثم قد أراد أن يرميني به حتى متى تمهله يا رب؟! فأوحى الله إلى موسى أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت، فجاء موسى وهو فرح فدخل على قارون حين اجتمع الناس في داره وملأوها فقال: يا عدو الله كذبتني وجحدت الله وعبدت من دونه في كلام غليظ حتى غضب قارون وأقبل عليه بكلام شديد وهمّ به، فلما رأى ذلك موسى -عليه السلام- (¬2) فقال: يا أرض خذيهم، وكان قارون على فرش على سرير مرتفع في السماء، فأخذت الأرض بأقدامهم وغاب سريره ومجلسه في الأرض، وأخذت الأرض بقدميه وقد دخل من الدار في الأرض مثل ما أخذت منهم على قدرها، وأقبل موسى يوبخهم ويغلظ لهم المقالة. ¬

_ (¬1) في "أ": (نطقته). (¬2) (السلام) ليست في "ي".

فلما رأى القوم ما نزل بهم عرفوا أن هذا أمر ليس لهم به قوة، قال: فنادوا يا موسى ارحمنا وكف عنا، وجعلوا يتضرعون ويطلبون إليه وهو لا يزداد إلا غضبًا وتوبيخًا لهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أوساطهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى آباطهم، فمدوا أيديهم على وجه الأرض رجاء أن يمتنعوا بها، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم فلم يبق على وجه الأرض إلا رؤوسهم ولم يبق من الدار إلا شرفها، وكانت الأرض تأخذ من الدار كل مرة مثل ما تأخذه منهم، وهم يتضرعون في ذلك إلى موسى -عليه السلام- ويسألونه. ثم قال: يا أرض خذيهم، فاستوت الأرض عليهم وعلى الدار. فانطلق موسى وهو فرح بذلك فأوحى الله إليه: أن يا موسى تضرع (¬1) عبادي إليك ودعوك وسألوك (¬2) فلم ترحمهم، أما وعزتي وجلالي وكرمي لو أن إياي دعوا واستغاثوا لأخرجتهم منها ولكنهم تركوا أن يجعلوا رغبتهم ومقالهم إلي ومسألتهم مني وجعلوها إليك فتركتهم. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} لتنوء بالعصبة أي لا ينهض إلا بنهوضهم، وقيل: ليميل بهم من ثقلها (¬3). وذكر الكلبي (¬4) أن خزائنه (¬5) كانت أربعمائة ألف يحملها أربعون رجلًا (¬6) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} بما يلهي عن الحق. {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} في معنى قوله: "يقول ابن آدم: ¬

_ (¬1) في "ب": (تضرعوا). (¬2) (وسألوك) ليست في الأصل و"أ". (¬3) روي ذلك عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم (19/ 3005، 3006)، والحاكم (2/ 408، 409). (¬4) في "ب": (الكرخي). (¬5) بدل (خزائنه) في "أ": (فراغ). (¬6) روي ذلك عن ابن عباس وأبي صالح وقتادة والضحاك أن العصبة أربعون رجلًا، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (18/ 315).

مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" (¬1) وقوله: {وَأَحْسِنْ} في معنى قوله -عليه السلام- (¬2): "إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه" (¬3). {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قيل: إن قارون كان يقرأ التوراة كلها فادعى أنه إنما أوتي ما أوتي كرامة له على علمه، وقيل: إنه كان يقول أوتيته على علم فلذلك أكرمني بهذا المال، وقيل: إن الله تعالى علم موسى -عليه السلام- (2) الكيمياء فعلم موسى ثلث ذلك العلم هارون -عليه السلام- (2) وثلثه يوشع -عليه السلام-، وثلثه قارون لعنه الله، لا يقدر أحد الثلاثة إلا بإعانة صاحبيه، فاحتال قارون في تحصيل العلم فذلك العلم الذي ادعاه {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي ولا يسأل المجرمون عن ذنوبهم، ولكنهم يعرفون بسيماهم، وهذه إحدى حالتيهم يوم القيامة. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ركوبه الخيل الشهب في ثلثماية من الجواري والغلمان لباسهم الأرجواني وتحت كل واحد منهم قطيفة حمراء. {وَيْكَأَنَّ} معناه ويلك إن الله، أي: اعلم أن الله، وأنكر الفراء (¬4) وقال: لا يجوز إضمار الإعلام في أول الكلام وليس يبعد كون لفظه ويلك قائمة مقام قوله: اعلم لما (¬5) في الدعاء بالويل من التنبيه، وقيل: "وي" منفصلة من كان على سبيل التعجب والتخمين، وقيل: {وَيْكَأَنَّ} كله على ¬

_ (¬1) مسلم (2958). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) أحمد (2/ 403)، والحديث ضعيف. (¬4) كما في معانيه (2/ 312) وهي في كلام العرب تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله كقول زيد بن عمرو بن نفيل: ويكأنْ مَنْ يكن له نشبٌ يُحَـ ... بَبْ ومَنْ يفتقِر يعش عيش ضُرٍّ ثم قال الفراء: أخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت. (¬5) في الأصل و"أ": (أنا).

حدتها ومعناها: التقدير إلى معاد {الدَّارُ الْآخِرَةُ} وهي الفردوس منها خرج وإليها يعود. قال ابن عباس: من قبلنا طيب في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق. وقال ابن عباس: أراد بـ (المعاد) مكة (¬1)، هاجر منها متخفيًا ثم عاد إليها يوم الفتح ظاهرًا مستوليًا بفضل من الله ورحمته. {إِلَّا رَحْمَةً} استثناء منقطع. {إِلَّا وَجْهَهُ} من الأعمال الصالحة كقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] وقيل: كل شيء يجوز عليه الهلاك والفساد إلا هو، ويجوز دخول الآخرة في عموم هذه الآية لأنها مما يتوهم هلاكها لولا تبقية الله إياها، فالبقاء في الحقيقة لله الذي يبقيها. عن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬2): "من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذبه ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقًا في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} " (¬3). ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4773)، والطبري في تفسيره (18/ 350)، والنسائي (11386) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) مرّ الكلام على أن هذا حديث موضوع لا يثبت بحال.

سورة العنكبوت

سُورَةُ العَنكبُوتِ (¬1) مكية (¬2)، وعن الحسن: أن عشر آيات من أولها مدنيات (¬3)، وعن المعدل عن ابن عباس أن هذه السورة مدنية (¬4) وهي تسع وستون آية (¬5). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} بيان للترك الذي حسبوه، وهذه كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} [البقرة: 214] الآية. {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ما ذكر في أثناء القرآن من الأقاصيص العجيبة عن عبد الله عنه -عليه السلام- (¬6): "يكون في هذه الأمة أربع فتن في آخرها الفناء" (¬7). ¬

_ (¬1) هذه السورة غير واضحة في نسخة "أ" إلا في مواطن يسيرة. (¬2) هي مكية عند ابن عباس، عند ابن الضريس (33 - 35)، والنحاس (ص 611)، والبيهقي في الدلائل (7/ 143 - 144)، وعن عبد الله بن الزبير كما في الدر المنثور (11/ 527)، وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء كما في القرطبي (13/ 286). (¬3) وجدناه عن يحيى بن سلام كما عند القرطبي (13/ 286)، ونقل أبو عمرو الداني في "البيان" (ص 203) عن قتادة ذلك. (¬4) نقله عن ابن عباس ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 253). ونقل القرطبي عن ابن عباس وقتادة (13/ 286). (¬5) كما في "البيان" (ص 203). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) أبو داود (4241)، وابن أبي شيبة (37568)، والطبراني في الكبير (18/ 180 / (416))، وفي الأوسط (8119) والحديث ضعيف.

عبد الله بن عمر: كنا قعودًا عند رسول الله فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل: وما فتنة الأحلاس يا رسول الله؟ قال: "هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء دخنها من تحتي قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون، ثم يصلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع (¬1) أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، إذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غداته (¬2) " (¬3). {أَمْ حَسِبَ} مترتبة على ألف الاستفهام وفي الآية ما يدل على وجوب الرهبة والرغبة جميعًا، وذكر الكلبي أن الآية نزلت في عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة (¬4) (¬5) وهي عامة. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} بشارة (¬6) لأولياء الله خاصة ولأهل السنة والجماعة، واتصالها من حيث اعتبار صبر المؤمنين على الفتنة ابتغاء وجه ربهم. مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: أنزلت فيَّ أربع آيات، فذكر قصته فقالت أم سعد (¬7): أليس قد أمر الله بالبرّ؟ والله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فاها فنزل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (¬8). ¬

_ (¬1) في "ب": (تضع). (¬2) في "ب": (عد)، وفي "ي": (غدام). (¬3) أبو داود (4242)، وأحمد (2/ 133)، والحديث صحيح. (¬4) في الأصل و"ب": (ربيعة). (¬5) القرطبي (13/ 289). (¬6) في الأصل: (إشارة). (¬7) في "ب": (سعيد). (¬8) ابن جرير (18/ 363)، وابن أبي حاتم (9/ 3036).

عن عمرو بن دينار عن عكرمة: خرج من مكة ناس يريدون المدينة فأدركهم المشركون يفتنونهم فأعطوهم الفتنة فنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} (¬1). وذكر الكلبي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو ابن عم أبي جهل والحارث بن هشام وأخوهما لأمهما، وكان قد أسلم مع النبي -عليه السلام- (¬2) فخرج من مكة هاربًا منهم إلى المدينة، وذلك قبل قدوم النبي -عليه السلام- المدينة، وبلغ أمهم الخبر فجزعت من ذلك جزعًا شديدًا فقالت لأبي جهل والحارث: لا والله لا يأويني بيت ولا يدخل بطني طعام ولا شراب حتى تأتوني به، فخرجوا في طلبه فظفروا به، فلم يزالوا به حتى تابعهم فحملوا به إلى أمه فعمدت إليه وقيدته وقالت: لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد -عليه السلام- (¬3)، ثم أقبلت تجلده بالسياط وتعذبه حتى كفر بمحمد -عليه السلام- جزعًا من ضرب أمه فنزلت، وبقي محبوسًا هو ورهط من المسلمين إلى أن هاجر رسول الله. فلما بلغهم نزول هذه الآية أظهروا الإيمان وناصحوا الله ورسوله، وكان رسول الله دعا لهم ليالي كلما قنت فقال: "اللهم نجِّ المستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك (¬4) على مضر، اللهم سنين كسني يوسف" ثم هاجر عياش بن أبي ربيعة وحسن (¬5) إسلامه، إنما لم يكونوا معذورين في التقية لأنهم لا يخافون بذلك على أنفسهم (¬6). {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وذكر الكلبي أن أبا سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة هم الذين قالوا هذه المقالة لعمر بن الخطاب ¬

_ (¬1) قريبًا عن الضحاك وفيه (ناس من المنافقين بمكة) ذكره ابن جرير (18/ 365). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (وبالك). (¬5) في "أ": (وحسن أحسن إسلامه). (¬6) ذكره القرطبي (13/ 292) جزءًا منه ولم يعزه، وعزاه ابن الجوزي له (6/ 258). وأما قوله: "اللهم أنج الوليد .. " فهو متفق عليه.

وخباب ابن الأرت وجماعة من المؤمنين، فمنهم من لم يقبل قولهم وثبت على دينه ومنهم من افتتن بقولهم ورجع عن الإسلام (¬1). {وَلْنَحْمِلْ} أمر منهم لأنفسهم {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ} نفي عزمهم وقدرتهم أو نفي تحقيقهم عن تابعيهم. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} في معنى قوله -عليه السلام- (¬2): "من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (¬3) {وَأَثْقَالًا} جمع ثقل وهو الوزر. {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (ما) الكافة. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} يحتمل إغارتهم على مارة الطريق، ويحتمل الطريق، ويحتمل قطع سبيل الولادة باللواطة (¬4). عن أم هانئ عنه -عليه السلام- في قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: "كانوا يخذفون أهل الأرض ويسخرون منهم" (¬5)، ونادي القوم: مجلسهم الذي يجتمعون فيه. {مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} (من) قائمة مقام كما تقدم. {مُسْتَبْصِرِينَ} مستيقظين، وقال قتادة: متعجبين بضلالتهم يرون أنها بصيرة. {الْعَنْكَبُوتِ} بوزن فعللول كالغنزروت والعضرفوط، وتصغيره عنيكب ¬

_ (¬1) سبب النزول هذا ذكره ابن عاشور في تفسيره. [التحرير والتنوير (20/ 219)]. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) مسلم (1677). (¬4) هذا ورد عن ابن زيد عند ابن جرير (18/ 388)، وابن أبي حاتم (9/ 3054). (¬5) الترمذي (3190)، وأحمد (6/ 341، 424)، وابن أبي الدنيا في الصمت (282)، وابن جرير (18/ 389/ 390)، وابن أبي حاتم (9/ 3054) وغيرهم.

وعناكب، والعنكبوت دويبة تنسج نسجًا طبيعيًا وتنصب الحبائل للذباب، وإن كان بيته أوهن البيوت لمعان خمسة؛ إما لكونه (¬1) شيئًا طبيعيًا غير كسبي فيه من أمارات الفطنة والذكاء شيء، إما لخسة صورته كالهباء، وإما لخسة قيمته وقلة منفعته فإنه لا يساوي شيئًا، وإما لسوء اختيارها مواضع البناء وسوء تهدبها في ذلك، وإما لكون بيته غير ظل ظليل ولا كن كبير ولا حصن حصين. {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} كونها منافية لهما وجودها، فإنها موقوفة على شرائط فيها: الإيمان المضاد للكفر، والعقد مضاد للكسر، والطهارة المضادة للجنابة المتصورة من الزنا واللواطة، والإنصات للكلام المتصور بهتانًا وغيبة وشتمًا وجدالًا، وترك الأكل المتصور حرامًا، والسترة المضادة للكشف، وترك الفعل المتصور قتالًا. وفيما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده صلاته عند الله إلا مقتًا" (¬2). قيل لسلمان (¬3): أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر (¬4). وعن ابن عباس قال: ذكر الله عند طعامك ومنامك، فقيل له: إن فلانًا يقول غير ذلك (¬5)، قال: فأي شيء يقول؟ قال: قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] فلذكر الله أكبر من ذكرنا إياه، قال: صدق (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (لكونهم). (¬2) عن أبي أمامة لم نجده، وإنما ورد عن ابن عباس. رواه ابن أبي حاتم (9/ 3066)، والطبراني (11025)، وعن عمران بن الحصين رواه ابن أبي حاتم (9/ 3065، 3066)، والبيهقي في الشعب (3262). ولا يثبت مرفوعًا، والصحيح وقفه على عبد الله بن مسعود. (¬3) في "أ": (لعثمان). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 415). (¬5) (ذلك) ليست في "ب". (¬6) ابن جرير (18/ 411، 412)، وابن أبي حاتم (9/ 3067)، والبيهقي في الشعب (674).

عن عبد الله بن ربيعة قال: سئل ابن عباس عن قول الله -عَزَّ وجل-: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} فقلت: هو التسبيح والتهليل والتقديس فقال: لو قلت شيئًا عجيبًا، قال: وإنما ذكر الله -عَزَّ وجل- العباد أكبر من ذكر العباد إياه (¬1). {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} هو بيان البيان وهو تقييد العلم بالقلم، والعرب تسمي كل أثر طويل خطًا. {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} عن يحيى بن جعدة أن النبي -عليه السلام- (¬2) أتي بكتب قد كتبوها فقال: "كفى بقوم حمقًا أو ضلالًا أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم" فنزلت (¬3)، وإنما عدَّ الاشتغال بسائر (¬4) الكتب مكروهًا؛ لأن علم القرآن فريضة والاشتغال بسائر الكتب يمنع عن القيام بالفريضة ولاستغنائهم به عنه. {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} تشبيه بعشي السحاب الشمس أو لاعتبار الإحاطة. عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فرّ بدينه إلى أرض وإن كان شبرًا استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم -عليه السلام-" (¬5) (¬6). وفي قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} ردّ (¬7) على القدرية. {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} لأن اعتدال طبائعها على ضعف وتفاوتها إلى حتف ومسارها مضارها وانتظامها احترامها قال: ¬

_ (¬1) أبو داود في مراسيله (ص 223)، والدارمي (1/ 124)، وابن جرير (18/ 429)، وابن أبي حاتم (9/ 3072، 3073). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ورد عند الزمخشري في الكشاف (276)، والقرطبي في تفسيره (5/ 328)، وقريبًا منه في تاريخ دمشق (49/ 86) بلاغًا، وقال (عيسى) وليس (إبراهيم) وهذه روايات لا تصح. (¬4) في "ب": (لسائر). (¬5) (إبراهيم -عليه السلام-) من الأصل. (¬6) تخريج أحاديث الكشاف (1/ 587)، وذكره القرطبي في تفسيره (5/ 347)، والثعلبي في تفسيره (3/ 372)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (49/ 86) وهو من مراسيل الحسن. (¬7) (رد) ليست في "أ".

يبشرني الهلال بهدم عمري ... وأفرح كلما طلع الهلال (¬1) والمراد بـ {الْحَيَوَانُ} (¬2) الحياة، قال الفراء: كل فعل فيه ذهاب ومجيء أو حركة، فأنت في إثبات الألف والنون في مصدره بالخيار كالضربان واللهبان والحدثان (¬3). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} المجاهدة افتقرت إلى التوفيق كالاهتداء يفتقر إلى الهداية والجهد غير متقدم عن التوفيق ولا متأخر عنه. وعن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬4): "من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين" (¬5). ... ¬

_ (¬1) البيت لأبي العتاهية في وصف الموت، ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد (3/ 138) بلفظ: وقد طلع الهلال لهدم عمري ... وأفرح كلما طلع الهلال (¬2) في "أ": (بالحياة). (¬3) لم نجده في معاني القرآن للفراء، وذكره ابن عاشور في تفسيره بمعناه ولم ينسبه إلى الفراء. (التحرير والتنوير 21/ 31). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) مرّ الكلام على هذا الحديث وأنه حديث موضوع لا يثبت.

سورة الروم

سُورَةُ الرُّومِ مكية (¬1)، وعن الحسن: إلا آية وهي قوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] (¬2) وهي ستون آية وغير المكي والمدني الأخير (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} قال: غلبت وغَلَبت، كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكر أبو بكر لرسول الله فقال: "أما إنهم سيَغْلِبون" فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل الأجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك لرسول الله (¬4) فقال: "ألا جعلته إلى دون العشرة" قال: قال سعيد: والبضع ما دون العشرة، ثم ظهرت الروم بعده فذلك قوله: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}، قال ¬

_ (¬1) ذكر مكيتها عن ابن عباس عند ابن الضريس (17)، والنحاس (ص 611)، والبيهقي في الدلائل (7/ 144843). وعن ابن الزبير عند ابن مردويه كما في الدر (11/ 573). (¬2) لم نجد هذا القول، وإنما وجدنا نقل الإجماع على مكيتها. (¬3) انظر: البيان (ص 205). (¬4) في "ب": (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر من بعد غلبتهم (¬1)، قال الفراء (¬2): غلبتهم سقطت الهاء للإضافة. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} في معنى قوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ويحتمل أن معناه لتمكين دين الله كلا الأمرين فإنه شغل بعضهم ليظهر الإسلام {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬3): "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لينفقن كنوزهما في سبيل الله" (¬4). {يَتَفَرَّقُونَ} يتميزون. {رَوْضَةٍ} مرج، وهي البقعة التي قلَّما يفارقها الماء والعشب، وقيل للحوض: روضة، قال: وروضة سقيت فيها نضوتي (¬5) واستراض المكان أي اتسع. {يُحْبَرُونَ} يسرُّون، رجل محبور ويحبور: مسرور. ¬

_ (¬1) الترمذي (3193)، والنسائي في الكبرى (11389)، وأحمد (1/ 276، 304)، والطبراني (12377)، والحاكم (2/ 410) والحديث صحيح. (¬2) ذكره الفراء في معانيه (2/ 319)، وذكر شاهدًا آخر وهو قوله تعالى: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] فسقطت الهاء للإضافة. (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (3/ 1135)، ومسلم (2918). (¬5) هذا البيت من الرجز، ذكره ابن قتيبة في غريب الحديث (469)، وعزاه في تاج العروس واللسان، مادة (روض) لهميان السعدي، بينما عزاه القرطبي (14/ 13) لأبي عمرو، وكذا في إصلاح المنطق (1/ 264) وذكره ابن فارس في المحكم (8/ 245).

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ} (¬1) نصب على المصدر، وأراد بالتسبيح الصلاة المكتوبة (¬2). سأل نافع بن الأزرق ابن عباس فقال: أخبرني بالصلوات الخمس في القرآن، قال ابن عباس: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الصبح {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر (¬3)، قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] دلَّ أن لكل صلاة وقتًا. وقيل: المراد التسبيح في أدبار الصلوات الخمس على سبيل الندب. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: "خلتان هما يسير ومن يعملهما قليل ولا يواظب عليهما مسلم إلا دخل الجنة؛ يسبح دبر كل صلاة عشرًا ويكبر عشرًا ويحمد عشرًا فذلك خمسون ومائة على اللسان وألف وخمسمائة في الميزان، وإذا أوى إلى فراشه حمد الله وسبحه وكبره مائة فذلك مائة على اللسان وألف في الميزان". قال عبد الله بن عمرو: فلقد رأيت رسول الله (¬4) يعقدهن ويقول: "أيكم يعمل في اليوم والليلة ألفي وخمسمائة سيئة" (¬5). {وَعَشِيًّا} معطوف على {حِينَ تُمْسُونَ}، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كالعارض في أثناء الكلام. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أقام خلقنا من تراب مقام المشاهدات في كونه آية الإلهية بعلمنا الضروري؛ أي أنفسنا هي خلاصة أجسادنا، وأجسادنا خلاصة الأرض من الأرض. ¬

_ (¬1) (الله) من الأصل فحسب. (¬2) في "أ": (مكتوبة). (¬3) ابن جرير (18/ 474، 475)، وابن المنذر في الأوسط (933). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) أبو داود (5065)، والترمذي (3410)، والنسائي (3/ 74)، وابن ماجه (926)، وأحمد (2/ 160، 204)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1216)، وابن حبان (2012، 2018) والحديث صحيح.

{إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أقام الخروج مقام المشاهدات لاعتبار كونه مشاهدًا يومئذ، ولاعتبار ما دخل في حيز المشاهدات أو من رجعة الطيور وعاميل وقوم حزقيل ومن أحياه عيسى بإذن الله. {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هين عليه. قال الشاعر: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد (¬1) والضمير عائد إلى البداءة أو الإعادة جميعًا، وقيل: إلى الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي أيسر عليه من البداءة (¬2) في خواطركم وأوهامكم، وإن كلا الأمرين عنده واحد، وقيل: الضمير عائد إلى الخلق الذي هو المخلوق، وأهون من الهوان، أي المخلوق أهون على الله من أن يعتدم في صفاته العلى ونتعرف به إلى من قدر له الهدى (¬3). {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا} في مجادلة العرب، وهم يقولون: العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة (¬4)، وفي مجادلة سائر الأقوياء {فَأَنْتُمْ} أي أنتم عبيدكم {سَوَاءٌ} أي بالتملك والتصرف دون الاستمتاع {تَخَافُونَهُمْ ¬

_ (¬1) نسب هذا البيت الأخفش في الاختيارين (ص 161) إلى مالك بن القين الخزرجي وهو في ديوان عبيد بن الأبرص، وكان الشافعي كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت كما في طبقات الشافعية الكبرى (1/ 303)، ووفيات الأعيان (1/ 239)، وسير أعلام النبلاء (10/ 72). (¬2) وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وعكرمة وقتادة، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (18/ 486). (¬3) في الأصل: (له الهدى كخيفتكم أنفسكم). (¬4) هذا مثل وفيه قصة ظريفة ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق (65/ 187) في أبيات ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري يقولها في غلام له باعه وندم على بيعه واسمه برد، قال: وشريت بردًا ليتني ... من بعد برد كنت هامه العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامه وانظر: سير أعلام النبلاء (3/ 523)، وطبقات فحول الشعراء (2/ 689)، وجمهرة الأمثال (1/ 263)، وخزانة الأدب (2/ 160).

كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تخافون العيب عليهم كخوفكم (¬1) العيب على أنفسكم. {فِطْرَتَ} انتصابه كانتصاب {صِبْغَةَ} [البقرة: 138] و (الفطرة) الخلقة المستوية والطبيعة المعتدلة التي فطر الله عليها آدم وحواء وأولادهما إلى أن أفسد قابيل ما أفسد. {أَمْ أَنْزَلْنَا} بمعنى الاستفهام {سُلْطَانًا} كتابًا معجزًا ناطقًا بإباحة الترك المضاد للقرآن وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء -عليهم السلام- وهكذا عن الضحاك. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} مجازه: من يؤت منكم {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} ومن يؤت منكم زكاة يريد بها وجه الله، ولاعتبار هذا المجاز، قيل: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الظاهر من فساد البر خرابه وغور مياهه وقلة بنائه وخيره وكثرة السباع العادية والحشرات المؤذية فيه، والظاهر من فساد البحر كثرة الرياح القاصفة وقلة السلامة وكثرة الحيوان العادية فيه، وكلا الفسادين لسوء ما كسبت أيدي الناس من المعاصي والذنوب ظهر في الأرض بكسب أيدي الناس إياها، وقيل: بالبر البوادي وبالبحر الأمصار (¬2). {لَا مَرَدَّ} لا رد له معنيان: أحدهما: يأتي يوم قضاه الله وأمضاه وأنفذه، ليس في حكمه ردّ لذلك اليوم، الثاني: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} من حكم الله وقضائه وقدره {لَا مَرَدَّ لَهُ} عند واحد، ولا تنافي بين المعنيين؛ فإنّ ما ردّه الله لم ينفذه أحد وما نفذه الله لم يرده أحد {يَصَّدَّعُونَ} يتصدعون ويتفرقون. ¬

_ (¬1) في "ب": كما تخافون. (¬2) روي ذلك عن مجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد، رواه الطبري عنهم في تفسيره (18/ 510).

{يَمْهَدُونَ} المهد والتمهيد بمعنى، وهي توطئة المسير، وأصله من توثير الفراش. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ} قال قطرب (¬1): قيل: التنزيل ومن قبله للمطر، وقيل: تكرار للتأكيد (¬2). {فَرَأَوْهُ} أي أثر رحمة الله وهو الزرع والثمر مصفرًا جافًا قبل أوانه، وقيل: مصفرًا مدركًا {يَكْفُرُونَ} يزرعون (من ضعف) من ضعيف كقوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]، وقيل: هو كقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وضعف الطرفين دليل على الحدوث والفناء والابتداء والانتهاء. {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} كقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] واستخفاف الإنسان ضد توقيره. عن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬3): "من قرأ سورة (¬4) الروم كان له الأجر عشر حسنات بعدد كل من يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع من ليلته" (¬5). ... ¬

_ (¬1) قول قطرب ذكره ابن الجوزي في تفسيره (3/ 427). (¬2) قاله الأخفش نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (3/ 427). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (سورة) ليست في "أ". (¬5) سبق أن ذكرنا أن هذا حديث موضوع غير ثابت.

سورة لقمان

سُورَةُ لُقْمَانَ مكية (¬1)، وعن ابن عباس: ما خلا ثلاث آيات (¬2) وهن قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآيات، وهي ثلاث وثلاثون آية في عدد أهل الحجاز (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس (¬4) في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: الغناء، وزاد ابن فضيل: الاستماع إليه. عن أبي أمامة عن رسول الله (¬5): "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن، ولا خير في التجارة فيهن وثمنهن حرام، في مثل هذا نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية" (¬6)، ومن قرأ قوله -عليه السلام- (¬7): ¬

_ (¬1) نقل عن ابن عباس ابن الضريس (ص 33 - 35)، والبيهقي في الدلائل (7/ 142 - 144). (¬2) نقل ذلك عن النحاس (ص 619)، وانظر: "البيان في عدِّ آي القرآن" (ص 206). (¬3) انظر: "البيان" (206). (¬4) هو عند ابن جرير (18/ 540)، ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (11/ 615)، وعزاه للفريابي وابن مردويه. (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) الترمذي (1282، 3195)، وابن ماجه (2168)، وأحمد (5/ 264)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (24)، وابن جرير (18/ 532، 533)، والطبراني في الكبير (7805، 7861، 7862) والحديث ضعيف. (¬7) (السلام) ليست في "ي".

"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يديه خير له من أن يمتلئ شعرًا" (¬1) وكل شعر يلهي عن ذكر الله حرام وعن الصلاة؛ لأن النبي -عليه السلام- (¬2) استمع الشعر وقال: "إن من الشعر حكمة" (¬3). {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} كما خلقها الله تعالى. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} كان لقمان عبدًا حبشيًا لرجل من بني إسرائيل فأعتقه وأعطاه مالًا، واسم ابنه ثاران (¬4)، ولم يكن نبيًا في قول أكثرهم. وعن سعيد بن المسيب: كان لقمان النبي -عليه السلام- خياطًا (¬5)، قال طاووس: الحكمة التي أوتيها، فمن كان عاقلًا فهو عند الله حكيم. عن أنس أن النبي -عليه السلام- (2) قال: "رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس" (¬6). وعن أنس عنه -عليه السلام- (¬7) أنه قال: "من أعطي (¬8) أربع خصال فقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6154)، ومسلم (2258). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البخاري (6145). (¬4) ذكر ذلك السهيلي وابن جرير وابن قتيبة، وقال الكلبي: هو (مشكم) وذكر النقاش (أنعم)، وانظر: القرطبي (14/ 58)، وفتح القدير (4/ 338)، وتفسير السمرقندي (3/ 22). (¬5) الذي ورد عند أحمد في الزهد: أنّ لقمان كان خيّاطًا، ولم يذكر النبوة، بل ورد عند ابن جرير (18/ 547) عن سعيد بن المسيب أنه أعطي الحكمة ومنعه النبوة. (¬6) رواه البيهقي في الشعب (8061)، عن أنس وهو سند ضعيف. وروي عن علي - رضي الله عنه - كما في الحلية (2/ 203)، والطبراني في الأوسط (4847) وهو حديث موضوع، وروي عن سعيد بن المسيب مرفوعًا كما في ابن أبي شيبة (25428)، والبيهقي في السنن (10/ 109)، وفي الشعب (8447) وسنده ضعيف. وروي عن أبي هريرة كما عند ابن أبي الدنيا في "الإخوان" (40)، وفي "مداراة الناس" (31)، والأمثال في الحديث لأبي الشيخ (129) وسنده ضعيف. (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) (أعطي) ليست في "ب".

أعطي الدنيا والآخرة: قلب شاكر ولسان ذاكر وبدن صابر وزوجة صالحة" (¬1). إنما خص لقمان ابنه من بين سائر الناس لاعتبار الأهم فالأهم، ألا ترى قال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] وقال -عليه السلام-: "ما نحل والد ولدًا أحسن من أدب حسن" (¬2). وقال -عليه السلام-: "لآن يؤدب ولده خير من أن يتصدق كل يوم بصاع" (¬3)، وعن علقمة (¬4) وعن عبد الله قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقَّ ذلك على أصحاب النبي -عليه السلام- فقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال رسول الله (¬5): "ليس كما تظنون (¬6) إنما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} كفر برسول الله فإن الشرك أخفى في هذه الأمة من أثر النملة في الصخرة الصماء" ولهذا كره هذا (¬7) للإمام الراكع إذا سمع خفق نعل أن ينتظره. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} نزلت في شأن سعد ابن أبي وقاص (¬8) وحسن كونه عارضًا في أثناء الكلام من ثلاثة أوجه: أحدها: اعتبار ما يجري بين لقمان الوالد وولده. والثاني: اعتبار النهي عن الشرك. ¬

_ (¬1) ابن أبي الدنيا في "الشكر" (34)، والطبراني في الكبير (11275)، والبيهقي في الشعب (4429) والحديث ضعيف. (¬2) أحمد (3/ 412) (4/ 77، 78)، والحاكم (7679)، والطبراني في الكبير (13234) والحديث ضعيف. (¬3) الترمذي (1951)، وأحمد (5/ 96، 102)، والطبراني في الكبير (2032)، والحاكم (7680) والحديث ضعيف. (¬4) (وعن علقمة) ليست في الأصل. (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) البخاري (4629). (¬7) (كره هذا) ليست في الأصل. (¬8) أبو يعلى (782) والحديث ضعيف.

والثالث: الأمر بالشكر الذي هو حكمة لقمان. وإنما لم يكن للوالدين إلا حق المصاحبة في الدنيا بمعروف لأن الولد ليس بفرع للوالدين إلا على حكم المشاهدة، فأما في المعقول فكل مخلوق مفرد بالإنشاء، يقول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101]. الضمير في {إِنَّهَا} عماد كما في قوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وما ثبت قوله {إِنْ تَكُ} (¬1) لاعتبار الحبة وهذه الآية كقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148] {فِي صَخْرَةٍ} من الصخور، وفي التفسير: المراد بالصخرة السجين وهي تحت (¬2) وفيها نسخ أعمال الفجار. {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلماء بالقول، ألا ترى أن نوحًا وهودًا وصالحًا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق (¬3) ولوطًا وشعيبًا وغيرهم من الأنبياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بألسنتهم. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬4): "مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه" (¬5) ولأنهم لو لم يفعلوا إلى أن يهذبوا أنفسهم لسقطت الأحكام وخربت دار الإسلام. {وَلَا تُصَعِّرْ} ولا تتكبر على الناس ولا تعرض عنهم تكبرًا {خَدَّكَ} يعني ما تحت الوجنة العارض، {مَرَحًا} شرًا وبطرًا. ¬

_ (¬1) في "ب": (إنك لاعتبار). (¬2) المراد بالصخرة التي عليها الأرض فهي تحت الأرض. وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 556). (¬3) في "ي": (إسحاق وإسماعيل). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) الطبراني في الأوسط (6628)، والصغير (981) عن أنس وسنده ضعيف جدًا.

كون صوت الحمير {أَنْكَرَ} لأنه يكلف خلقه من الصوت ما تختنق به. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬1): "ليس المؤمن بالطعان (¬2) ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" (¬3). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن هذه الأخلاق متاع فإذا أحب الله عبدًا منحه خلقًا حسنًا وإذا أبغض عبدًا منحه (¬4) خلقًا سيئًا" (¬5). {وَأَسْبَغَ} الآية عامة فالنعمة الظاهرة صحة الجسد وكثر العَدد والعِدد، والنعمة الباطنة تيسير اعتبار، والاختبار والتمكين من الاحتبار، وإن كانت خاصة، فالنعمة الظاهرة هي التوفيق لإدلال الطبيعة على استعمال الشريعة، والنعمة الباطنة هي التوفيق للاتحاد بعد حسن الاعتقاد. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} قال ابن عباس: هذه الآية مدنية والسبب في نزولها أن النبي -عليه السلام- (¬6) لما (¬7) قرأ قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أتته أحبار اليهود فقالوا: إنك إن عنيت بها قومك فأنت أعلم (¬8) بهم، وإن عنيتنا فكيف تقول ذلك وأنت تعلم أن الله أنزل التوراة على موسى وفيها أنباء كل شيء وخلفها موسى ميتًا وهي معنا، فقال النبي -عليه السلام- (6) لليهود: "التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله -عَزَّ وجل-" فأنزل (¬9). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب" "ي": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "أ": (بالطعام). (¬3) الترمذي (1977)، وأحمد (1/ 404)، والبخاري في الأدب (312، 332)، والطبراني في الكبير (10483)، وابن حبان (192) والحديث صحيح. (¬4) المثبت من الأصل و "ي"، وفي البقية: (منائح). (¬5) ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (34)، والطبراني في الأوسط (8621) والحديث ضعيف. (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) (لما) ليست في "ب" "أ". (¬8) في "ب": (أخبر). (¬9) ابن جرير (18/ 572، 573)، وابن أبي حاتم (9/ 3100/ 17559).

وذكر الكلبي أن السبب في نزولهن دعوى المشركين التناقض بين قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فبينت هذه الآية أن الحكمة خير كثير في جنب علم العالمين وهي قليل في جنب كلمات الله. {إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال الفراء: التشبيه واقع بمضاف مضمر تقديره: كخلق نفس واحدة وبعثها (¬1)، ووجه الاتصال من حيث ذكر الكلمات التي هي علم الله. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو وقت استقراره الطوالع. {خَتَّارٍ كَفُورٍ} قال ابن عرفة: الختر الفساد يكون ذلك في الغدر وغيره، يقال: ختره الشراب إذا فسد نفسه، قال الأزهري: الختر أقبح الغدر (¬2)، قال أحمد بن فارس: الختر الغَدْر والتختر مشية الكسلان (¬3). {الْغَرُورُ} الشيطان. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} قال مقاتل: أتى وارث بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن هذه المسائل فأنزل (¬4)، واتصال الآية من حيث قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أو من حيث قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) لم نجده في معاني الفراء لكن ذكره أبو جعفر النحاس في إعرابه وقال: هكذا قَدَّرَهُ النحويون: إلا كخلق نفس واحدة، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. [إعراب القرآن (4/ 607)]. (¬2) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (7/ 294 - ختر). (¬3) ذكره ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (2/ 244 - ختر). (¬4) سبب النزول هذا من مراسيل عكرمة ومقاتل فقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (11/ 662)، ونسبه لابن المنذر: أن رجلًا يقال له الوارث من بني مازن ابن خصفة بن قيس عيلان، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد، متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ ... الحديث. فنزلت هذه الآية.

عن ابن عمر قال النبي -عليه السلام- (¬1): "مفاتيح الغيب خمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ... " إلى آخر الآية (¬2). وعن ابن مسعود قال: "من كل شيء أوتي نبيكم علمًا إلا من خمس، قول الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} " (¬3). من قرأ سورة "لقمان" كان له لقمان رفيقًا يوم القيامة وأعفي من الحساب (¬4) بعدد من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر (¬5). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) البخاري (1039). (¬3) البخاري (4778). (¬4) في "ب": (الحسنات). (¬5) مرّ أنه حديث موضوع.

سورة السجدة

سُورَةُ السَّجْدَةِ مكية (¬1)، وقيل عن ابن عباس وعطاء والكلبي: إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في علي والوليد بن عقبة بن أبي معيط {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} [السجدة: 18] الآيات (¬2)، وهي ثلاثون آية في غير عدد أهل البصرة (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: في يوم من أيام الدنيا، ولو سار أحد من بني آدم لم يسره في ألف سنة، وهذه الرواية مخالفة لما سبق عن ابن عباس في هذا الباب (¬4)، فإن صحت ويحتمل أنه فسر هذه الآية لتوقيف أو لدلالة قامت له، ويحتمل أن ما سبق قوله الأول وهذه قوله الثاني استفاده من غيرهما أو فتح عليه بالإلهام وأدركته دعوة النبي -عليه السلام- (¬5): "اللهم فقهه في الدين وعلمه ¬

_ (¬1) نقل عن ابن عباس مكيتها كما عند ابن الضُّريس (17)، والبيهقي في الدلائل (7/ 143، 144). وعن ابن الزبير كما عند ابن مردويه، وانظر: الدر المنثور (11/ 669). (¬2) نقل هذا الاستثناء عن ابن عباس عند النحاس (620)، ونقل أبو عمرو الداني في "البيان" (207) عن ابن عباس وعطاء، ونقل ابن الجوزي عن الكلبي في زاد المسير (6/ 333). (¬3) كما في البيان (207) و (29) آية في عد البصريين. (¬4) الذي ورد عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: "في يوم من أيامكم هذه ومسيرة ما بين السماء إلى الأرض خمسمائة عام" أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 593). (¬5) (السلام) ليست في "ي".

التأويل" (¬1). {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} ويحتمل أن كل ما يحدث في العالم ما بين السماء والأرض كقولك: فلان يسوس الرعية من جيحون إلى فرات. {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} عند صيانة شكله إليه، ويعطف مثله إليه وإن كان قبيحًا من وجه، كما قيل: القرناء في عين أمها (¬2) حسنة. {مَهِينٍ} حقير ذليل. {ضَلَلْنَا} أي ضعنا وغبنا، يقال: ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكًا فيه. {مَلَكُ الْمَوْتِ} عزرائيل -عليه السلام- (¬3) يتوفى الأنفس بحول الله وقوته (¬4). {كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي الإيمان الاختياري الذي شاءه الله للمؤمنين ويسَّره لهم لم يشأه للكفار فعسره عليهم، دون الضروري عند معاينة العباس، وفيها رد على القدرية. عن أنس بن مالك أن قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري (75)، ومسلم (2477). (¬2) في الأصل و"ب": (أنها). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أكثر كتب التفسير تشير إلى أن اسم ملك الموت هو عزرائيل ولم أجده مسندًا مرفوعًا صحيحًا. وقد رواه أبو الشيخ في العظمة (3/ 905)، عن أشعث بن جابر الحراني -وهو تابعي صغير- قال: سأل إبراهيم -عليه السلام- ملك الموت واسمه عزرائيل وذكر الحديث -وهو حديث معضل-. وروي عن وهب بن منبه أيضًا عن أبي الشيخ في العظمة (3/ 900). وانظر حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 118)، والسيوطي وكتاب التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 369)، وعامة المعاصرين من أهل الحديث كالعلامة ابن باز والعلامة الألباني وشيخنا ابن عثيمين رحمهم الله جميعًا كلهم يقولون: إنه لم يرد في تسمية ملك الموت أنه عزرائيل في حديث مرفوع صحيح ولذا نسميه كما سماه الله ملك الموت. (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك (18/ 611)، والترمذي (3196)، وابن أبي حاتم (9/ 3106).

عن (¬1) أنس عنه -عليه السلام- (¬2): "ما من إنسان يصلي في بيت مظلم ركعتين بركوع تمام وسجود تمام إلا وجبت له الجنة بلا حساب ولا عذاب" (¬3). وعن جابر عنه -عليه السلام- (2): "إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد يسال الله فيها شيئًا إلا أعطاه، وهي في كل ليلة" (¬4). عن أسماء بنت يزيد عنه -عليه السلام- (2) قال: "يحشر الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ثم يقوم منادٍ ينادي: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، فيقولون: أين الذين يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم فينادي: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم ينادي: أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يؤمر بسائر الناس فيحاسبون (¬5). {تَتَجَافَى} تتنحى وتتباعد. {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} عن أبي هريرة يبلغ به النبي -عليه السلام- (2) قال: "قال الله -عَزَّ وجل-: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت (¬6) ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وتصديقه في كتاب الله -عَزَّ وجل-: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ} (¬7) الآية (¬8). {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} ظاهرها عامة. ¬

_ (¬1) (عن) من "ب". (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) الفردوس بمأثور الخطاب (4/ 37)، من حديث أنس بن مالك مرفوعًا. (¬4) مسلم (757). (¬5) إسحاق بن راهويه في مسنده (2305). (¬6) في "أ": (نظرت). (¬7) (لهم من قرة) من الأصل فحسب. (¬8) البخاري (4780)، ومسلم (2824).

ولذلك قال: {لَا يَسْتَوُونَ}، وقيل: إن الوليد بن عقبة قال لعلي: أنا أفصح منك لسانًا وأحد سنانًا (¬1) وأردُّ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت فإنك فاسق (¬2)، وذلك لا يبطل مذهب العموم؛ لأن أكثر آي القرآن على هذا السبيل {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا} المغيرة بن شعبة، عنه -عليه السلام- (¬3): "أن موسى -عليه السلام- (3) سأل ربه: أي رب أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل فيقول: كيف أدخل نزلوا منازلهم (¬4) وأخذوا أخذاتهم! فيقال: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقال: نعم أي رب (¬5) فيقال له: فإن لك هذا وعشرة أمثالها فيقول: رضيت أي رب، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك" (¬6). عن مسروق عن عبد الله قال: {الْعَذَابِ الْأَدْنَى} يوم بدر (¬7). وقال إبراهيم النخعي: آفة السنون (¬8) لقوله: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعود إلى قوله {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}. والثاني: أن يكون ملاقاة محمَّد رسول الله وموسى -عليهما السلام- ببيت المقدس ليلة الإسراء. والثالث: أن يكون المراد ملاقاتهما يوم البيت وذلك يوم الجمع يوم لا ريب فيه، ويحتمل أن يكون المراد به لقاء موسى الجبل الذي جعله الله دكًا وتلقيه الكتاب من عند الله. ¬

_ (¬1) (وأحد سنانًا) ليست في "ب". (¬2) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (263)، وابن عدي في الكامل (6/ 2131)، والخطيب في تاريخه (13/ 321)، وابن عساكر (63/ 235). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (منزلهم). (¬5) (فيقال نعم أي رب) من الأصل فحسب. (¬6) مسلم (189). (¬7) ابن جرير (18/ 629، 630، 632، 634)، والطبراني (9038). (¬8) ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 341).

{أَوَلَمْ يَهْدِ} الهداية مسندة إلى الكمية، تقديره: أفلم يبين لهم أمر كمية هلاك من {أَهْلَكْنَا} أو لم يروا علمه في الظاهر. وعن ابن عباس في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قال: هي أرض باليمن، {هَذَا الْفَتْحُ} قيل: فتح مكة، وقيل: يوم القيامة و (متى) ظرف حل محل الخبر المقدم على المبتدأ، التقدير: {هَذَا الْفَتْحُ} متى كان أو متى يكون؛ لأن الظرف لا يصلح أن يكون خبرًا. {يَوْمَ الْفَتْحِ} نصب بالظرف والعامل {لَا يَنْفَعُ} فإن حملنا الآية الأولى على يوم بدر فنفي النفع نفي العفو عنهم بغير فداء، وإن حملناه على فتح مكة فنفي النفع كونهم مهاجرين غير طلقاء. وذكر الكلبي أن المراد بالفتح فتح مكة وبنفي نفع الإيمان، فسئل خالد بن الوليد جماعة من خزاعة بعد ما أسلموا لأخيه كانت بينه وبينهم في الجاهلية وكان أبو قتادة مع خالد يومئذ، فاعتزل الحرب ثم أخبر رسول الله (¬1) فوداهم من غنائم خيبر حتى أرضاهم، وإن حملنا على يوم القيامة فنفي النفع بنفي دخولهم الجنة وخلاصهم من النار (¬2). عن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬3): "من قرأ سورة ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك كان له من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر" (¬4). ... ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 343). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) مرّ أن هذا حديث موضوع لا يثبت.

سورة الأحزاب

سُورَةُ الأَحْزَابِ مكية (¬1)، وهي ثلاث وسبعون آية (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن زُر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بن كعب: "كأيِّن تعدُّ الأحزاب؟ " قلت: اثنين وسبعين أو ثلاثًا وسبعين (¬3) قال: "فإنها تعدل سورة البقرة كانت فيها آية الرجم" قلت: وما آية الرجم؟ فقال: " (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالًا من الله والله عزيز حكيم) " (¬4). وعن عائشة قالت: كانت سورة "الأحزاب" تعد على عهد رسول الله (¬5) مائتي آية فإذا كتب المصحف لم تقدر منها إلا على ما هي الآن (¬6)، قال أبو بكر الأنباري: اللفظ المذكور في آية الرجم يرجمه ¬

_ (¬1) هذا خطأ بالاتفاق ولعله وهم فالسورة معروفة أنها مدنية. (¬2) بالاتفاق، انظر: "البيان في عدّ آي القرآن" لأبي عمرو الداني (208). (¬3) (أو ثلاثًا وسبعين) ليست في "أ". (¬4) عبد الرزاق في "المصنف" (13363)، والطيالسي (542)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (5/ 132)، والنسائي في الكبرى (7150)، وابن حبان (4428، 4429)، والحاكم (2/ 415) (4/ 359) وفي سنده ضعف والبعض يحسنه. (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) أبو عبيد في "فضائل القرآن" (190). وعزاه السيوطي في الدر (11/ 718) لأبي بكر ابن الأنباري في المصاحف إلى ابن مردويه.

بالتنزيل لأن التنزيل معجز وهذا غير معجز، قال - رضي الله عنه -: فلا يبعد أن يكون اللفظ لفظ القرآن بعينه لكنه لما نسخت تلاوته نسخ (¬1) إعجازه. ذكر الكلبي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا عرار السلمي قدموا على رسول الله (¬2) المدينة في الموادعة التي كانت بينهم فنزلوا على ابن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، فلما أجمعوا أمرهم أتوا رسول الله فعرضوا أشياء كرهها منهم، فهمَّ بهم رسول الله والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}. {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (¬3) في إحالة مجاز القوم، وذلك لنقلهم أحكام الحقائق إلى المجاز كمن يسمي إنسانًا شهابًا ثم يعتقده أنه نار فيرفع إليه فتيله مستوقدًا، ويعتقد أن الشهاب الحقيقي إنسان ويأمره وينهاه، واتصالها من حيث {وَلَا تُطِعِ} فإن النفل كان من صنيعهم. وسئل ابن عباس عن (¬4) هذه الآية قال: قام نبي الله -عليه السلام- (¬5) يومًا يصلِّي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلُّون معه: ألا ترى له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، وأنزل بمعنى قوله (¬6)، وقال ابن جريج: هو رجل من بني فهر كان يقول: إن لي قلبين أعقل بأحدهما ما يعقل محمَّد بقلبه وكذب (¬7)، زاد الكلبي بيان اسم الرجل معمر بن أسد (¬8)، قال: وتلقاه أبو سفيان بن حرب يوم بدر وهو معلق إحدى نعليه والأخرى في رجليه فقال: يا أبا معمر ما فعل الناس؟ فقال: انهزموا، فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما ¬

_ (¬1) في الأصل: (نسخت). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (6/ 364). (¬4) في "ب": (في). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) عزاه السيوطي (11/ 720) لابن مردويه. (¬7) قريبًا منه في زاد المسير (6/ 347). (¬8) ذكره ابن الجوزي عن الفراء.

جميعًا في رجلي، فعرفوا يومئذ جميعًا أنه قلب واحد ولو كان له قلبان لما نسي نعله في يده من شدة الخوف (¬1)، وهذا التأويل يروى عن مجاهد (¬2) وابن بريدة وغيرهما. ويحتمل نفي اجتماع عقيدتين مختلفتين في قلب واحد على سبيل الإنكار على المنافقين الذين كانوا يقولون لرسول الله بوجه والكفار بوجه. {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} سنذكر أحكامها في سورة "المجادلة" {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} فسنذكر في قصة زيد. و (الأدعياء): جمع دعي وهذا الذي يدعيه على سبيل الاتخاذ والاتحاد وسبيل الافتراء والإلحاد. عن سالم بن أبي الجعد لما نزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} لم يعرف لسالم أب، فقال: "سالم من الصالحين" (¬3)، وعن ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمَّد حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬4). {النَّبِيُّ أَوْلَى (¬5) بِالْمُؤْمِنِينَ} في تشريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) المجاوزة به من رتبته إلى رتبة الولاية، وكان أولى بنا لكونه في غاية الاتحاد بروح (¬7) الله، وكون الشهادة به شطر الإيمان، و (أزواجه أمهاتنا) لأن الأمومة غاية مراتب الحرمة والتعظيم في حق النساء {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} اللوح المحفوظ مستورًا مكتوبًا في كتاب الوصية على سبيل اعتبار غالب أحوال الوصية. ¬

_ (¬1) ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 347). (¬2) ابن جرير (19/ 8). (¬3) ذكره ابن عساكر في تاريخه (25/ 320، 321) عن سالم مولى أبي حذيفة. وقريبًا منه عند ابن أبي حاتم كما في الدر (11/ 726). (¬4) البخاري (4782)، ومسلم (2425). (¬5) في "أ": (النبي -عليه السلام- ... بالمؤمنين). (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) من الأصل و"ب". (¬7) (بروح) ليست في "ب".

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ} عن قتادة: كان النبي -عليه السلام- (¬1) آخرًا وبدئ (¬2) به أولًا (¬3). {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ} تبليغهم وتأديتهم الصدق لوجه الله. {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} عن مجاهد قال: كانت الصَّبَا تكبُّ القدور على أفواهها وتقطع الفسطاط حتى أظعنتهم (¬4)، وعنه -عليه السلام- (¬5) قال: "نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور" (¬6). قال الأمير - رضي الله عنه -: كانت هذه الوقعة سنة خمس في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق، وكان سببها أن النبي -عليه السلام- (¬7) لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر ورأسهم أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، فخرج حُيي بن أخطب وكنانة بن الربيع وأبو عمار اليهودي في بضعة عشر رجلًا إلى مكة فدعوا قريشًا إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوة سائر القبائل كذلك، فسارت قريش وأتباعها في (¬8) أربعة آلاف قائدهم أبو سفيان وفيهم ثلثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير، وسارت غطفان وفزارة في ألف يقودهم عتبة بن حصين الفزاري، وسارت سليم في تسعمائة يقودهم أبو الأعور السلمي، وسارت بنو أسد في عدد كثير يقودهم طلحة بن خويلد، وسارت أشجع في أربعمائة يقودهم مسعر بن دحيلة، وأقبلت يهود في عدد كثير، فلما انتهوا إلى المدينة استغاثوا ببني قريظة ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "أ": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (آخرًا) في "أ": (فراغ). (¬3) هذا يروى مرفوعًا بلفظ: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث" رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (11/ 736)، وأبو نعيم في الدلائل (3) وهو ضعيف، ينظر: السلسلة الضعيفة (661). (¬4) ابن جرير (19/ 28)، وأبو الشيخ في "العظمة" (858، 865). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) البخاري (1035)، ومسلم (900). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) (في) ليست في "ب".

فأغاثوهم (¬1) وصاروا معهم إلى أن فرق الله بينهم وعسكر رسول الله -عليه السلام- (¬2) خارج المدينة نحوهم يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة. ثم شاور أصحابه بإذن الله، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق فأعجب المسلمين رأيه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلعًا (¬3) خلفه وخندق بين يديه مقدار ما كان عورة، وكان سائر المدينة كالحصن من جهة البنيان، وأرسل النسوان والصبيان (¬4) إلى الآطام، وعن البراء بن عازب: كان النبي عليه الصلاة (¬5) والسلام ينقل معهم التراب يوم الخندق وهو يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" (¬6)، ويقول: "والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلَّينا فأنزل سكينة علينا ... وثبت الأقدام (¬7) إن لاقينا إن الأُلى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا" (¬8) ورفع بها (¬9) صوته بـ "أبينا". وقتل علي - رضي الله عنه - عمرو بن ود وقد أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬10) سيفه فقتله، وقتل الزبير نوفل بن عبد الله المخزومي، ورمى (¬11) صبار بن العرقة سعد بن معاذ فقطع أكحله ولم يمت حتى حكم حكمه في بني قريظة بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ثم سأل الله الشهادة فانفجرت الجراحة. ¬

_ (¬1) (فأغاثوهم) ليست في الأصل. (¬2) في "أ": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) بدل (سلعًا) فراغ في "ب". (¬4) في "ب": (والصبيان والنسوان). (¬5) (الصلاة) ليست في "ب". (¬6) البخاري (2/ 568)، ومسلم (1804) من حديث أنس بن مالك. (¬7) (الأقدام) ليست في الأصل. (¬8) البخاري (4/ 1506)، ومسلم (1803). (¬9) (بها) ليست في "ب". (¬10) (أنه) ليست في "ب". (¬11) (ورمى) ليست في "ب".

وجاء نعيم بن مسعود الأشجعي فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله (¬1): "إن استطعت أن تخذل عنا الناس فافعل" فأتى نعيم بن مسعود بني قريظة؛ فأشار عليهم أن لا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا منهم رهائن تستوثقون بهم، فصوَّبوا رأيه، ثم أتى أبا سفيان فأعلمه أن قريظة قد عزمت على أن تأخذ رهائن منكم تسلمهم إلى محمَّد -عليه السلام- (¬2)، وحذرهم أن يدفعوا إليهم الرهائن، ثم أتى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فوقع بين القوم وأيس بعضهم من بعض، وأرسل الله ريح الصبا فأطفأت نيرانهم وقطعت أطناب فساطيطهم وأظلم الجو عليهم بقسطل سد الأفق، فكان الرجل لا يهتدي إلى رحله فارتحلوا منهزمين. وكان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم أهل الأحزاب" (¬3) وكان المشركون قد شغلوا رسول الله عليه الصلاة (¬4) والسلام يومئذ عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كشفهم الله تعالى، فأمر عليه الصلاة والسلام بلالًا فأذن وأقام الظهر (¬5) وأقام لكل صلاة بعدها فقضاهن على الترتيب. ورجع إلى المدينة وقد استخلف عليها عبد الله بن أم مكتوم، وكان زيد بن حارثة يومئذ يحمل لواءه الأعظم لواء المهاجرين، وكان سعد بن عبادة صاحب لواء الأنصار، وكان حسان بن ثابت قد التجأ إلى حصن مع جماعة من النساء فيهن صفية بنت عبد المطلب، فقصده عشرة من اليهود يرمون وصفية تقول: دونك يا أبا الوليد وهو يأبى ولا يتجاسر عليهم، فدنا أحدهم من الباب يريدون أن يدخل، وأيست صفية وسائر النساء من حسان ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (السلام) ليست في "أ". (¬3) البخاري (3/ 1072)، ومسلم (1742) من حديث أبي هريرة. (¬4) في "ب" "أ: (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (وأقام الظهر) ليست في الأصل.

فاحتجزت صفية بثوبها ونزلت إليه، فهذه غزوة الخندق على سبيل الاختصار (¬1). {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال الكلبي (¬2): هذه في مجيء أبي الأعور السلمي منِ أسفل الوادي واعترض إلى أبي سفيان من قبل الخندق {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} عبارتان عن شدة الخوف، و (الحناجر) جمع حنجرة وهي رأس الفلصمة. {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال الكلبي: هو رجل واحد معتب بن قشير، وإنما قال ذلك حين أخبرهم بفتح فارس وملك الروم (¬3). {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} في المتخلفين عن العسكر والزاحفين إلى الحصن والمشيرين على أصحابهم بذلك يريدون به خذلان رسول الله (¬4)، فكانوا يعتذرون إلى رسول الله بأن بيوتنا عورتنا (¬5) {عَوْرَةٌ} نخاف عليهم السرق، وهم كاذبون فيما يقولون. {يَثْرِبَ} اسم المدينة في الجاهلية سماها رسول الله "طيبة" فكانوا يلحدون إلى الاسم الأول لنفاقهم وبغضهم رسول الله (4) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه الغزوة (غزوة الخندق) في كل من تفسير ابن كثير (2/ 317)، تفسير البغوي (2/ 254)، وابن كثير (3/ 473)، تفسير القرطبي (2/ 435)، صحيح البخاري (4/ 1509)، صحيح مسلم (3/ 1362) وغيرها من المصادر. (¬2) نقل قول الكلبي الرازي في التفسير الكبير (21/ 175)، وذكره القرطبي في تفسيره (14/ 144). (¬3) الذي قال ذلك ليس واحدًا وإنما هم جملة من المنافقين كما رواه الثعلبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، بل انضم إليهم اليهود في هذا الزعم، ذكر ذلك ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب (2/ 675). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (عورتنا) ليست في "ب". (¬6) ذكر الحافظ ابن حجر في كراهة تسمية المدينة يثرب كما في فتح الباري (4/ 87)، وذكر حديث البراء بن عازب مرفوعًا عند الإمام أحمد في مسنده: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة". كما ذكر حديث أبي أيوب مرفوعًا رواه عمر بن شبة ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقال للمدينة يثرب. قيل: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما مستقبح -قاله ابن حجر-.

{وَلَوْ دُخِلَتْ} أي المدينة {مِنْ أَقْطَارِهَا} أطرافها ونواحيها {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} أي طلبوا الكفر {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} أي لو أتوا الفتنة لما أمهلهم الله إلا قليلًا، ويحتمل أنهم أتوها ولم يلبثوا بها لأتوها (¬1) وبالثبات على الإيمان إلا قليلًا عاهدوا الله من قبل، يعني بيعة العقبة قبل الهجرة فعقد عليهم ذلك العقد العباس بن عبد المطلب لرسول الله (¬2) بإذن الله تعالى. {الْمُعَوِّقِينَ} المثبطين، والعائق الصارف عن القصد (¬3) {هَلُمَّ} كلمة دعوة، قيل: أصلها هل الاستفهام (¬4) والأمر من أم يؤم. {أَشِحَّةً} الظاهر أنه الشح يمنع الموالاة والنصر. وذكر الكلبي أنه يمنعهم النفقة عن إخوانهم الذين كانوا في المعسكر {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في مماليقهم {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} للدهش والحيرة {سَلَقُوكُمْ} سلخوكم نقول سلقته بالسوط وسلقت اللحم عن العظم ومنه السلاق، وهو يقشر جلد اللسان، ولكنه مستعار في الجهر بالقول السيء ورفع الصوت، ومنه خطيب سلاق. وفي الحديث: "ليس منا من سلق أو حلق" (¬5) وفي الحديث: "لعن الله السالقة" (¬6) {حِدَادٍ} جمع حديد وهو ذو الحدَّة. ¬

_ (¬1) (بها لأتوها) ليست في "ب" "ي". (¬2) في "ب": (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) قاله الجوهري في تهذيب اللغة (3/ 18)، إذا أردت أمرًا فصرفك عنه صارف تقول: عاق يعوق عوقًا، والتعويق ترييث الناس عن الخير. (¬4) "هَلُمَّ" قال في اللسان (12/ 617) بمعنى أقبل، وهذه الكلمة تركيبية من "ها" التي للتنبيه ومن "لم" ولكنها قد تستعمل استعمال الكلمة المفردة البسيطة. قال الزجاج: زعم سيبويه أن هلم "ها" ضمت إليها "لم" وجعلتا كالكلمة الواحدة، وأكثر اللغات أن يقال هلم للواحد والاثنين والجماعة وبذلك نزل القرآن: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] قاله سيبويه: وهي لغة أهل الحجاز، وما ذكره المؤلف من أنها بمعنى الاستفهام وأنها بمعنى هل فقد ذكره ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (6/ 60 هلم) وقال: أصلها هل أؤم كلام من يريد إتيان الطعام. (¬5) أحمد (4/ 411، 416)، وإسحاق بن راهويه (2318، 2319)، وابن حبان (3151) والحديث ضعيف والبعض يحسنه. (¬6) ابن حبان (3152)، والحديث صحيح. وانظر: غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 493)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 391).

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} في الذين صدوا عن القتال ولم يصدقوا المؤمنين في انهزام الأحزاب {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} مرة أخرى {يَوَدُّوا} هؤلاء المنافقون أن يكونوا متميزين عنكم {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ} يستميلون الناس {عَنْ أَنْبَائِكُمْ} كالأحاديث. {أُسْوَةٌ} قدوة، و (التأسي): الاقتداء. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} لأن النبي -عليه السلام- (¬1) كان قد أخبرهم قبل (¬2) مجيء الأحزاب بسبع أو تسع أنهم يجيئون. عن أنس بن مالك أن عمه النضر بن أنس غاب عن قتال بدر فقال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله (¬3) المشركين؛ لئن الله أشهدني قتالًا للمشركين ليرين الله كيف أصنع. فلما كان يوم الأحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه، ثم تقدم فلقيه سعد فقال: يا أخي ما فعلت فأنا معك، قال: فلم أستطع أن أصنع ما صنع فوُجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، قال: فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} (¬4). وعن عائشة في قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله يوم أحد أصيب فقال رسول الله: "أوجب طلحة الجنة" (¬5). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (قبل) فراغ في "أ". (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) مسلم (1903)، وأبو عوانة (3/ 176). عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده. (¬5) هذا الحديث مركب من حديثين: الأول عن عائشة وفيه ذكر أن طلحة ممن قضى نحبه. رواه الحاكم (2/ 415، 416) (3/ 376)، وفي سنده إسحاق متروك. =

{لِيَجْزِيَ اللَّهُ} اللام عائدة إلى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا} إلى قوله: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 9 - 15] الأول أظهر لأن الآية تليها {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عائدة إلى أول القصة على سبيل رد عجز الكلام على صدره. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} نزلت في غزوة بني قريظة، والسبب في ذلك أن النبي -عليه السلام- لما علم بقدوم الأحزاب أرسل إليهم سعد بن معاذ الأنصاري وخوات بن جبير يستنصرهم على الأحزاب، على قضية الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، فأبوا أن ينصروه ونقضوا العهد وشتموا الرسول والمرسل وأظهروا حقدهم وتعصبهم لبني النضير الذين كان رسول الله (¬1) أجلاهم إلى الشام قبل ذلك بسنتين، فلما نزل المشركون بساحتهم استنصرهم حيي بن أخطب وكان من بني النضير، وامتنعوا (¬2) منه بعض الامتناع ثم أجابوه وضمنوا إعانته على شريطة أن يدخل معهم الحصن إن كانت الدبرة عليهم، ثم تخلفت اليهود عن المشركين لمكان السبت، وغضب أبو سفيان بن حرب فلم ينتظرهم فهزم الله الأحزاب بما ذكرنا ودخل حيي بن أخطب الحصن مع بني قريظة. ورجع رسول الله إلى المدينة فجعل يغسل رأسه مما لقي يوم الخندق، فقالت عائشة: يا رسول الله إني لأرى دحية الكلبي (¬3) عند ¬

_ = ورواه أبو يعلى (4898)، وأبو نعيم (1/ 88) وفي سنده صالح بن موسى متروك. وقد ثبت من غير حديث عائشة كحديث معاوية وطلحة وله شواهد كثيرة. الثاني قوله: "أوجب طلحة" فرواه الترمذي (1692)، وأحمد (1/ 165) وهو حديث حسن عن عبد الله بن الزبير. (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب" "ي": (فامتنعوا). (¬3) هو دحية بن خليفة بن فروة الكلبي كان من كبار الصحابة شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد وبقي إلى خلافة معاوية، وهو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر رسولًا في الهدنة وذلك في سنة ستة من الهجرة، فآمن به قيصر وأبت بطارقته أن تؤمن، فأخبر بذلك دحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ثبت الله ملكه" في حديث طويل، وهو - أي دحية - =

المنبر، فنظر -عليه السلام- (¬1) فإذا هو جبريل -عليه السلام- فخرج إليه يمسح الغبار عن وجهه، فقال له جبريل: والله يا محمَّد ما وضع أهل السماء أسلحتهم وقد وضعتم أسلحتكم! اخرج إلى بني قريظة. فقال النبي -عليه السلام- (1): "كيف أصنع بهم وهم في حصنهم؟ " قال: اخرج إليهم والله لأدقنهم بالخيل والرجال كما تدق البيضة على الصفا، ولأخرجنهم من حصنهم. فنادى رسول الله في الناس يأمرهم بالخروج إلى بني قريظة، وخرج هو بنفسه على مقدمته علي بن أبي طالب، وعلى الميمنة زيد بن حارثة، وعلى الميسرة ثابت بن أثرم الأنصاري، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري. فلما انتهى إليهم استنزلهم فقال: "انزلوا على حكم الله ورسوله يا إخوة القردة" فنزل أسد وأسيد وثعلبة بنو سعية بن عمرو مسلمين مؤمنين وامتنع الباقون عن النزول، فأرسل رسول الله -عليه السلام- (¬2) أبا لبابة بن المنذر وقال: "قل لحلفائك ينزلون على حكم الله ورسوله" فأشار إليهم أبو لبابة ووضع يده على حلقه ينذرهم بالذبح إن نزلوا، وقالوا: لا ننزل، فقال رسول الله: "يا أبا لبابة خنت الله ورسوله" قال: نعم يا رسول الله. وندم على صنيعه فارتبط على سارية من سواري المسجد بضع عشرة ليلة حتى نزلت توبته، فلبثوا خمسًا وعشرين ليلة ثم استنزلهم على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وكان سعد بن معاذ حكمًا؛ فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ونسائهم وقسموا أموالهم وقتل سراتهم، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلًا، وقيل: أربعمائة وخمسين. وجيء بحيي بن أخطب وعليه مقطعة حمراء فشقها على نفسه مخافة أن يسبى، فأمر رسول الله (¬3) بضرب عنقه. ¬

_ = الذي كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورته، سكن آخر عمره في دمشق وكان منزله بقرية المزة. [الإصابة (2/ 384)، الاستيعاب (2/ 461)، تاريخ دمشق (17/ 201)]. (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

وكانت الخيل في هذه الغزوة في عسكر رسول الله ستة وثلاثين فرسًا (¬1). وروي في بعض التاريخ أن النبي -عليه السلام- (¬2) اصطفى من السبي ريحانة بنت عمرو بن قنافة (¬3) وليس بمعروف، وكان يحمل رايته علي بن أبي طالب، وكانت امرأة من قريظة ألقت رحى من فوق الحصن فقتلت جُلاد بن سويد، فأمر رسول الله بقتل تلك المرأة فقتلت (¬4)، ونهى في هذه الغزوة أن يفرق بين الأم وولدها، وبين الأختين إذا كانتا صغيرتين، وبلغ عدد السبي تسعمائة. {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} جمع صيصية، وهي كل ما يقع به الامتناع والتحصن، وصياصي البقر قرونها، وصيصيتا الديك شوكتاه. وفي حديث أبي هريرة: "أصحاب الدجال شواربهم كالصياصي" (¬5). {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} مزارعهم وبساتينهم {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} بيوتهم وخزائنهم. وذكر الكلبي أن الأرض التي لم تطؤوها خيبر أي سيورثكم، ويحتمل أن الآية نزلت بعد فتح (¬6) خيبر، وأراد بالأرض {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] لم يوجفوا خيلًا ولا ركبًا. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} جابر بن عبد الله قال: مكث رسول الله (¬7) ¬

_ (¬1) هذه روايهَ ابن إسحاق كما ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام، وله شواهد. (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) ابن سعد في الطبقات (2/ 75)، والإصابة (7/ 658) وهي ريحانة بنت شمعون بن زيد بن عمرو بن قنافة، صحابية. (¬4) ابن سعد في الطبقات (3/ 530). (¬5) هذا الحديث ذكره أهل اللغة كصاحب لسان العرب في مادة (صيص). وكذلك ذكره ابن الأثير في النهاية (3/ 140)، وابن الجوزي في غريب الحديث (1/ 612). (¬6) (فتح) ليست في الأصل. (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

يوماً (¬1) في بيته لم يخرج، فحضر الناس في المسجد ينتظرونه، فجاء أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- وقالوا: لو أن أبا بكر استأذن على رسول الله (¬2) فاستأذن أبو بكر فردّ، ثم استأذن عمر فرد، فجلسا مع الناس ساعة فقال القوم لأبي بكر: استأذن، فاستأذن (¬3) فأذن له (¬4)، ثم استأذن عمر فدخلا على رسول الله ونساؤه كلهن حوله وهو ناكس رأسه، ثم رفع رأسه فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد وقد سألتني النفقة والكسوة فقمت إليها فوجأت رقبتها، قال: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال: "والله ما حبسني عنكم منذ اليوم إلا من تسألني النفقة والكسوة". فقام أبو بكر إلى عائشة فضربها، فأمسكه رسول الله، وقام عمر إلى حفصة فقال: والله لا تسألين بعد هذا اليوم شيئاً، ثم خرج رسول الله (2) فصلى ثم نزل التخيير فبدأ بعائشة فقال: "يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تعجلي حتى يأتيك أبوك وأمك فتسأليهما" فلما عرض (¬5) عليها قالت (¬6): "إني أستشير فيك أبي وأمي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأحرج عليك أن تخبر أحداً من نسائك ممن تحب أن تفارقني ماذا قلت"، فقال رسول الله (2): "معاذ الله من ذلك إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ولا متعنتًا ولكن بعثني معلماً ميسراً فلا تسألني امرأة إلا أني أخبرتها أنك اخترت الله ورسوله والدار الآخرة" فعرض عليهن فقلن ما قالت عائشة فأخبرهن ما قالت فقلن: ونحن اخترنا الله ورسوله والدار الآخرة (¬7). {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} أزواجه وبناته وسائر الهاشميات، والخطاب قد ¬

_ (¬1) (يوماً) ليست في "ب". (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (فاستأذن) ليست في "أ". (¬4) (له) من "ي"، (فأذن) ليست في "أ". (¬5) في "ب": (أعرض). (¬6) في "ب": (قال). (¬7) مسلم (1478).

تناولهن جميعًا {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} لأن المحنة على قدر النعمة بدليل اختلاف المحصن وغير المحصن في حكم الزنا. {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} فلا تلنّ الكلام ولا تلطفن الصوت {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} لا نفخ فيه ولاريبة. عن ابن عباس قال: الجاهلية الأولى كانت بين إدريس ونوح عليهم السلام وكانت ألف سنة (¬1)، وقيل: إن الجاهلية الأولى كانت في أيام نمرود (¬2). وعن عمر بن سلمة ربيب النبي -عليه السلام- (¬3) قال: لما نزلت {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} كان في بيت أم سلمة فدعا فاطمة والحسن والحسين فجللها بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا " قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: "إنك على مكانك وأنت على خير" (¬4)، وفي بعض الروايات قالت أم سلمة: ألست من أهل بيتك يا رسول الله؟ قال: "بلى" فأدخلها معهم في كسائه (¬5)، ولكن الرواية الأولى أشهر فإن لم يدخلها فلاستغنائها بظاهر الكتاب فلتطمئن (¬6) قلبها أو كونها متأخرة في تزوجه (¬7) عن نزول الآية. وعن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله تذكر الرجال في كل شيء ولا تذكرنا فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية (¬8)، وإنما أحبت ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/ 380). (¬2) الذي ورد أنه في زمن إبراهيم كما عند ابن سعد (8/ 199، 200). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) الترمذي (3205)، وابن جرير (19/ 106)، والطبراني في الكبير (8295) وهو صحيح. (¬5) أحمد (6/ 298) وفي سنده شهر بن حوشب ضعيف. (¬6) في الأصل و"ب": (فلتطهر). (¬7) في "أ": (تزوجها). (¬8) أحمد (6/ 301، 305)، والنسائي في الكبرى (11405)، وابن جرير (19/ 111)، والطبراني في الكبير (23/ 263/ 554)، والحديث صحيح.

أم سلمة إفراد النساء بالذكر على سبيل الإتباع والإجمال ليتشرفن بذلك ويتبركن لأن ظاهر الخطاب لا يتناولهن، فإن طريقة العرب مشهورة أنهم إذا جمعوا بين مذكر ومؤنث وعاقل وغير عاقل ومفرد ومضاف أن يغلبوا المذكر والعاقل والمفرد. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} نزلت في شأن زينب (¬1) بنت جحش بن رياب بن يعمر ابن ضمرة بن مرة بن كثير بن غثم (¬2) بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس من مضر الأسدية، وأمها أميمة (¬3) بنت عبد المطلب عمة رسول الله، توفيت زينب في زمن عمر بن الخطاب فسترت على جنازته بنعش، وهي أول من سترت بنعش، فشيع الجنازة عمر - رضي الله عنه - فلما رأى النعش استحسن ذلك وقال: نعم جنا الطبيعة. وكان السبب في ذلك أن النبي -عليه السلام- (¬4) أمرها أن تتزوج بمولاه زيد بن حارثة بن شراحبيل بعد وفاة أم أيمن مولاة رسول الله (¬5) وأم أسامة بن زيد، وزيد هذا الذي ابتلاه الله تعالى بنفي نسبته عن رسول الله (5) بعد ثبوته، وابتلاه الله بمراجعة رسوله (¬6) إياه وامرأته على ما سنذكره، وكان راضيًا عن الله تعالى مطمئنًا بقلبه على الإيمان, فعوضه الله من مجاز النسبة والمرأة الغائبة ذكرًا مخلدًا، وهو أن صرح باسمه ووصفه بالجميل في كتابه المعجز وهو حي مكلف يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهذه رتبة كانت مختصة برسول الله (¬7)، قبل ذلك لم ينلها حمزة وعباس وعلي ولا أبو بكر وعمر وعثمان ولا فاطمة والحسن والحسين ولا خديجة وعائشة وحفصة. ¬

_ (¬1) ابن جرير (19/ 112، 113). (¬2) في الأصل: (عثمة). (¬3) في "ب": (أمية). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) في "ب": (رسول الله). (¬7) في "ب": (برسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

وسئل الزهري: مَن أول من أسلم؟ قال: من النساء خديجة، ومن الرجال زيد بن حارثة. وعن سليمان بنيسار قال: أول من أسلم زيد بن حارثة (¬1). روي أن حارثة (¬2) تزوج إلى طي بامرأة من بني نبهان، فأولدها جبلة وزيدًا وأسماء، فتوفيت أمهم وبقوا في حجر جدهم لأمهم، وأراد أبوهم حملهم فأبى عليه جدهم، ثم تراضوا على أن حمل جبلة وأسامة وترك زيدًا عند جده، فجاءت خيل من تهامة فاغارت على طي فسبت زيدًا وجاؤوا به إلى سوق عكاظ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) من قبل أن يبعث فقال لخديجة: "يا خديجة رأيت في السوق غلامًا صفته كيت وكيت- يصف عقلًا وأدبًا وجمالًا (¬4) - لو أن لي مالًا لاشتريته" فأمرت خديجة ورقة بن نوفل فاشتراه من مالها، فقال لها النبي -عليه السلام- (¬5):"يا خديجة هذا الغلام بطيبة من نفسك" فقالت: يا محمد إني رأيت غلامًا رضيًا وأحب أن أتبناه وأخاف أن تبيعه أو تهبه فقال: "يا موفقة ما أردت إلا أن أتبناه" فقالت له (¬6): خذه يا محمد، فرباه وتبناه وكان يقال له زيد بن محمد، فجاء رجل من الحي فرأى زيدًا فعرفه فقال: ألست زيد بن حارثة؟ قال: لا، أنا زيد بن محمد، قال: بلى أنت زيد بن حارثة نسبة أبيك وعميك وإخوتك كيت وكيت، وقد أتعبوا الأبدان وأنفقوا الأموال في سبيلك فقال: ألكني إلى قومي وإن كنت نائيًا ... وإني قطين البيت عند المشاعر فكفوا عن الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الآرض نص الأباعر ¬

_ (¬1) ابن سعد (3/ 44). (¬2) من قوله (وعن سليمان) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب": (وجمالًا وأدبًا). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" بدله (- صلى الله عليه وسلم -). (¬6) في الأصل بدل (له): (خديجة).

فإني بحمد الله في خير أسرة ... خيار معد كابر بعد كابر وإني مولى للنبي محمد ... حويت به سهم الفريع المفاخر فمضى الرجل وأخبر حارثة، ولحارثة في ذلك شعر يقول: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيٌّ يرجى أم أتي دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل فياليت شعري هل لك الدهر رجعة ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل سأعمل نص العيس في الأرض جاهدًا ... ولا أسأم التطواف إذ تسأم الإبل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره ... فيا طول أحزاني عليه ويا وجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا عسعس الطفل حياتي أو تأتي عليَّ منيتي ... وكل امرئ فان وإن غره الأمل ثم إن حارثة أقبل مكة وأخواه وولده وبعض عشيرته فإذا النبي -عليه السلام- (¬1) في فناء الكعبة في نفر من أصحابه وزيد فيهم، فلما نظروا إليه عرفوه وعرفهم فقالوا: يا زيد، فلم يجبهم انتظارًا منه لرأي رسول الله -عليه السلام- (1)، فقال له رسول الله: "من هؤلاء يا زيد؟ " فقال: يا رسول الله هذا أبي وهذان عمَّاي وهذا أخي وهؤلاء عشيرتي، فقال له: "قم يا زيد فسلِّم عليهم"، وسلَّم عليهم وسلَّموا عليه (¬2) فقال (¬3): امض معنا يا زيد، فقال: ما أريد برسول الله بدلًا ولا أؤثر عليه أحدًا، قالوا: يا محمد إنا معطوك بهذا الغلام ديات فسم ما شئت فإنا حاملوها إليك، فقال: "أسألكم (¬4) أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني خاتم أنبيائه" فأبوا وتلكؤوا (¬5) وتلجلجوا وقالوا: نعطي ما عرضنا عليك يا محمد قال: "ها هي (¬6) خصلة ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" بدله (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب": (وسلموا عليه وسلم عليهم). (¬3) في "ب": (فقالوا له). (¬4) في الأصل: (ما أسألكم). (¬5) (وملكًا) ليست في "ب": (فراغ). (¬6) في "ب": (قال ها ههنا).

غير هذه" قال: "قد جعلت الأمر إليه إن شاء فليرحل" قالوا: يا محمد ما بقي قضيت ما عليك (¬1)، يا زيد فانطلق معنا، قال: هيهات هيهات ما أريد برسول الله بدلًا ولا أؤثر عليه أحدًا، قال أبوه: يا نبي الله أما إني أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله، فآمن حارثة وأبى الباقون ورجعوا إلى البرية، والحديث مختصر (¬2). وعن أبي عمرو الشيباني أن جبلة بن حارثة قال: قدمت على رسول الله (¬3) فقلت له: يا رسول الله أبعث معي أخي زيدًا قال: "هوذا فإن انطلق معك لم أمنعه" قال زيد: يا رسول الله والله لا أختار عليك أحدًا، قال جبلة بن حارثة: فرأيت رأي أخي أفضل (¬4). وعن عمر أنه فرض لأسامة بن زيد في ثلاثة آلاف وخمسمائة وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف فقال عبد الله لأبيه: لم فضلت أسامة عليَّ فوالله ما سبقني إلى مشهد، قال: لأنَّ زيدًا كان أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله (¬5) منك فآثرت حبّ رسول الله على حبي (¬6). وعن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) بعث بعثًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته فقال: "إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقًا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ وإن هذا من أحب الناس إلى بعده". ¬

_ (¬1) (ماعليك) ليست في "ب". (¬2) رواه تمام في فوائده (1200)، وابن عساكر في تاريخه (10/ 137) (19/ 530). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) الترمذي (3815)، والطبراني في الكبير (2192)، والحاكم (3/ 237)، والحديث حسن. (¬5) قوله (من أبيك) إلى هنا ليست في "ب". (¬6) الترمذي (3813)، وابن أبي شيبة (32878)، والحاكم (3/ 645) والأثر فيه ضعف. (¬7) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "ب".

فلما كان زيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) بهذه المنزلة أحب إكرامه وتشريفه بأن تزوج منه بنت عمته فترفعت المرأة عن ذلك فأنزل الله هذه الآية فسلمت لحكم الله ورسوله وتزوجت يزيد بن حارثة (¬2). {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} إنعام الله توفيقه للإيمان وإنعام رسول الله هو عتقه وتزويجه {وَاتَّقِ اللَّهَ} من كلام رسول الله له {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ}. والسبب في نزولها أن المرأة مكثت عند زيد ما شاء الله، ثم إن رسول الله أتى بيت زيد ذات يوم وهو غائب عن بيته فوقع بصره على المرأة وهي قائمة في درع وخمار، فألقى الله حبَّها في قلبه، فأعرض عنها مدبرًا وهو يقول: "سبحان الله مقلب القلوب" فلما سمعت المرأة تلك اللفظة علمت بما (¬3) ابتلي به رسول الله، فجلست متسترة ولم تكلم رسول الله (¬4). ورجع رسول الله إلى بيته ورجع زيد إلى بيته (¬5) فأخبرته المرأة بالقصة فلم يثبت زيد أن جاء إلى رسول الله وهو يشكو زينب بأنها متكبرة ذات نخوة ما تطيعه في أمر ولا تبر قسمه وإنه يريد أن يطلقها (¬6)، فزجره النبي -عليه السلام- تمسكًا بالنصيحة الشرعية وفي قلبه ما في قلبه، فأظهر الله ذلك عليه (¬7). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت (¬8): لو كان النبي كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم ¬

_ (¬1) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "ب". (¬2) مسلم (2426). (¬3) في الأصل، "ي": (ما). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (ورجع زيد إلى بيته) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل: (وأن زيد أن يطلقها). (¬7) ابن سعد (8/ 101، 102)، والحاكم (4/ 23، 24) وهو ضعيف غير ثابت سندًا ومعنى. (¬8) في الأصل: (قال).

هذه الآية (¬1)، فلما نزلت الآية أذن النبي -عليه السلام- (¬2) لزيد (¬3) في طلاقها وفي أن خطبها بعد ذلك لرسول الله (¬4)، فرجع زيد وأخبر المرأة بأنه شكا منها إلى رسول الله (4) فاستأذن في طلاقها فأذن له في ذلك ثم قال لها: جزاك الله خيرًا إن كنت لتطيعيني وتبرين قسمي، فبكت المرأة، ثم أخبرها بأنه وكيل من جهة رسول الله في أن يخطبها له فضحكت. {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} أي استوفى حاجته من النظر والمفاكهة والملاعبة إلى ما وراء ذلك من المسيس (¬5) وغيرها. و (الوطر): الإرب والحاجة. وعن الشعبي أن زينب بنت جحش قالت للنبي -عليه السلام- (¬6): إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن؛ إحداهن أن جدي وجدك واحد، والثاني أن الله تعالى زوجنيك من السماء، والثالث أن السفير جبريل -عليه السلام- (¬7) (¬8). {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} يبين أن فعل النبي -عليه السلام- كان فعلًا ظاهرًا يدل على جوازه لأمته ما لم تقم دلالة لتخصيص فيها فرض الله له وفي استباحة ما خصه الله بالإباحة له مما يراه الناس محظورًا عليه بعقولهم أو بأوهامهم. {سُنَّةَ اللَّهِ} نصب على المصدر أي سنَّ الله فيك سنته {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} أي كان قضاؤه مقدرًا. {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} في محل الخفض بدلًا من {الَّذِينَ خَلَوْا}. ¬

_ (¬1) إلى هنا أخرجه الترمذي (3208)، وابن جرير (19/ 117)، والحديث صحيح. (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" بدلها: (- صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (لزيد) ليست في "ب". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) في "ب": (المس). (¬6) في "ب": (للنبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) الطبري (19/ 118، 119)

{مِنْ رِجَالِكُمْ} أي من رجال الدنيا، فإن الله استأثر بنبيه أطفالًا لم يبلغوا مبلغ الرجال. وقال الشعبي: ما كان ليعيش فيكم له ولد ذكر (¬1)، وتسمية الفاطمية حي رسول الله على المجاز كقوله -عليه السلام- (¬2) لأغيلمة [بني عبد المطلب] (¬3) ليلة الجمع بالمزدلفة حين قدم ضَعَفة أهله: "أبني لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس" (¬4). {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} عن عبد الله بن بسر أن رجلًا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله" (¬5). وعن أنس قال: قال رسول الله -عليه السلام- (¬6): "ذكر الله علم الإيمان وبراءة من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النار" يحتمل الوحي فرقًا للنبي -عليه السلام- (¬7)، ويحتمل التوفيق. {وَدَعْ أَذَاهُمْ} واترك مراعاة جانبهم والتودد إليهم باحتمال مشقتهم، وإنما أمره بذلك لأن النبي -عليه السلام- (6) ما كان يحتمل أذاهم إلا لوجه الله تعالى. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} فيه دليل على أن جواز الجمع بين الحقيقة في لفظ إذا تجانسا ولم يتنافيا؛ لأن قوله: {أَحْلَلْنَا} حقيقة في حق ¬

_ (¬1) الترمذي (3210). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) ما بين [...] من الأصول. (¬4) النسائي (5/ 270)، والحميدي في مسنده (465)، والحديث صحيح. (¬5) الترمذي (3375)، وأحمد (4/ 188)، وابن حبان (814)، والحديث صحيح. (¬6) (السلام) ليست "ي" وبدلها (- صلى الله عليه وسلم -). (¬7) (السلام) ليست في "ي".

أزواجه وفي غيرهن إذ هو في معنى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. فأما (1) أزواجه اللواتي آتاهن أجورهن فخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب توفيت قبل الهجرة، وسودة بنت زمعة من مهاجري الحبشة تزوجها بمكة وطلقها بالمدينة فسألته لوجه الله أن يراجعها بمكة وهي بها، بالمدينة، وحفصة بنت عمر تزوج بها بالمدينة بعد موت خنيس بن حذافة، وكان رسول الله أرسله إلى كسرى، وزينب بنت خزيمة من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة توفيت قبل رسول الله وكانت تدعى أم المساكين، وزينب بنت جحش الأسدية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان الأموية، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وميمونة بنت الحارث الهلالية أم الفضل التي هي أم الخلفاء - رضي الله عنهم -، وصفية بنت حيي النضيرية أعتقها ثم تزوج بها، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. فهؤلاء إحدى عشرة (¬2) امرأة أمهات المؤمنين توفيت اثنتان قبله ومات عن تسع منهن، وروي أنه -عليه السلام- (¬3) تزوج بحمنة بنت ذي اللجية من بني بكر بن كلاب (¬4) فدخل بها ليلة فطلقها، وتزوج بأميمة بنت النعمان الكندية (¬5) فقالت ملكة تحت (¬6) سوقة فلم يطأها وطلقها، وتزوج بامرأة فلما دخل عليها وبسط يده إليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال -عليه السلام- (3): "لقد عذت بمعاذ" فطلقها (¬7)، وأما ما ملكت يمينه من السراري فمارية القبطية أم إبراهيم (¬8) احتجبت بعد نزول آية الحجاب، ¬

_ 1 (...) من قوله (في غيرهن) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) في "ب": (عشرة). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) لم نجد اسمها فيمن ذكر أنهن وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) قصتها في البخاري في كتاب النكاح، وذكرها ابن حجر في الإصابة (7/ 515). (¬6) في "ب": (تحت حكم سوقه). (¬7) نفس الرواية السابقة في البخاري. (¬8) هي مارية القبطية أم إبراهيم كانت جارية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بعث بها المقوقس صاحب الإسكندرية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة سبع من الهجرة وأختها سيرين وألف مثقال ذهبًا وعشرين ثوبًا لينًا وبغلته الدلول وحماره عفيرًا، بعث ذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة، =

وريحانة بنت شمعون القرظية (¬1) قيل: إنها احتجبت بعد نزول آية الحجاب. {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (الإفاءة) في اللغة: الرد، إنما سميت الغنيمة فيئًا لأن النعمة يستحقها المؤمنون فكأن الكفار اغتصبوها أو جميع ما في الأرض للمؤمنين في عصر آدم -عليه السلام- (¬2) ونبيه، فما يغنمه المسلمون فكأنهم يرتجعونه {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} فضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب كانت تحت المقداد، وأم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب كانت تحت الربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (¬3)، وأم هانئ فاختة بنت أبي طالب وعمانة بنت أبي طالب لا نعرف لهما زوجًا، وأم حبيب بنت عباس من أم الفضل، وآمنة وصفية ابنتا عباس من أمهات الأولاد لا نعرف أزواج بنات عباس، وأم أبيها بنت حمزة لا نعرف زوجها، وهند بنت المقدام بن عبد المطلب كانت (¬4) تحت عبد الله بن أبي مسروح أخي بني سعد بن بكر بن هوازن، وبنات لأبي لهب، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب، لم يتزوج رسول الله بواحدة منهن (¬5) من هؤلاء فيما مضى ولا فيما استقبل من عمره. ¬

_ =فعرض حاطب على مارية الإسلام فاسلمت وأسلمت أختها. وهي أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [الإصابة (8/ 111)، البداية والنهاية (5/ 330)]. (¬1) ريحانة بنت شمعون القرظية، وقيل: النضرية. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباها فابت إلا اليهودية فوجد رسول الله في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: هذا ثعلبة يبشرني بإسلام ريحانة، فبشَّره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك، فتركها. [البداية والنهاية (5/ 328)، الإصابة (7/ 658)]. (¬2) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "ب". (¬3) (كانت تحت) إلى هنا ليست في "أ". (¬4) في "ي" "أ": (كان). (¬5) (منهن) ليست في "أ" "ي".

وأما بنات عماته فغير مسميات في المعارف والتاريخ ما خلا زينب ابنة جحش فإنها ابنة عمة رسول الله -عليه السلام- (¬1)، وأما بنات خاله فغير مسميات لا نعرف لوالدة رسول الله (¬2) ولا لمرضعته أخ من الأم ولكن بني زهرة أخوال رسول الله (2) على طريق الإجمال لمكان آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وبنو سعد بن بكر بن هوازن أخواله لمكان مرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وأما بنات خالاته فغير مسميات ولا نعرف أختًا لوالدة رسول الله -عليه السلام- (¬3) ولا لمرضعته، ولكن الزهريات والسعديات خالاته على طريق الإجمال لمكان آمنة وحليمة (¬4). وظاهر من قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وصف لبنات الخالات، وروى {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي} الآية، فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء، فالظاهر من قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} أنه عام في جميع المؤمنات مهاجرات وغير مهاجرات، وقال ابن عباس: نهي رسول الله عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وقوله: {خَالِصَةً لَكَ} منصوبة بمضمر؛ أي جعلنا هذه خالصة أو هذه الفريضة خالصة لك، والتخصيص هو عدم العوض لأن (¬5) الواهبة معطوفة على ذوات (¬6) الأجور، والمعطوف عليه في الظاهر، يدل عليه ما روي أن خولة بنت حكيم (¬7) وهبت نفسها للنبي -عليه السلام- (¬8) وكانت من المهاجرات الأُول، قالت عائشة: ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وبدله في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ"، وبدلها في "ب": (- صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب": (حليمة وآمنة). (¬5) (لأن) ليست في الأصل. (¬6) في الأصل: (ثلاث). (¬7) خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، كانت ممن وهب نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأرجأها، وكانت تخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها عثمان بن مظعون فمات عنها فكانت تصوم النهار وتقوم الليل. (¬8) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ"، وفي "ب" بدلها (- صلى الله عليه وسلم -).

كنت إذا ذكرت أستحيي امرأة تهب نفسها لرجل بغير مهر وكانت من أغير الناس، وفيها نزلت: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قالت: يا رسول الله إن ربك ليسارع في هواك (¬1). وعن ابن عباس قال: ألقى الله في قلب أم شريك بنت جابر الإسلام فأسلمت وهي بمكة، وهي إحدى نساء قريش، ثم إحدى بني عامر بن لؤي، وكانت تحت أبي العكبر الأزدي، فأسلمت وجعلت تدخل على نساء قريش سرًا تدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها فقالوا (¬2): لولا قومك لفعلنا بك ولفعلنا ولكن سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء من وطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني ولا يسقونني قالت: فما أتت عليَّ ثلاث وما في الأرض شيء أسمعه قالت: فنزلوا وكانوا إذا نزلوا منزلًا أوثقوني في الشمس ثم استظلوا، فهم فيها حتى يرتحلوا، قالت: فبينا هم قد نزلوا منزلًا وأوثقوني في الشمس أتاني شيء برد على صدري، فتناولته فإذا هو دلو من ماء، فشربت منه قليلًا، قالت: فصنع بي ذلك مرارًا، ثم تركت فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي فاستيقظوا فإذا هم بأثر الماء ورأوا فيَّ حسنة الهيئة فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه حتى رويت، قلت: ما فعلت ولكنه من الأمر كذا وكذا، قالوا: إن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها (¬3) كما تركوها فاسلموا عند ذلك. قال: فأقبلت إلى النبي -عليه السلام- (¬4) ووهبت نفسها للنبي -عليه السلام- (¬5) بغير ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/ 644)، من حديث عائشة والطحاوي في مشكل الآثار (15/ 336/ 6063). (¬2) في الأصل: (وقالوا). (¬3) (وجدوها) مكررة في الأصل. (¬4) (السلام) ليست في "ي" وبدلها (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (السلام) ليست في "ي".

مهر فقبلها ودخل بها فرأى أنها قد علتها كبرة فطلقها، وفي قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} دليل على أن لفظة الهيئة من ألفاظ النكاح. والظاهر من قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} إرجاء الواهبات أنفسهن ليبقين موقوفات غير مقبولات ولا مردودات. وذكر الحدادي في تاريخه أن النبي -عليه السلام- (¬1) أرجى سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة وآوى عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة (¬2)، فالإرجاء على هذا القول الإخراج من القسمة والثوبة من غير طلاق فإن كان كذلك لم يكن إلا برضاهن على سبيل المصالحة كما في قصة سودة بنت زمعة {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} إيواءها {مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} في إيوائها و {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي الإيواء بعد الإرجاء أقرب من مسرتهن كلهن تأكيد للضمير المكتسي بقوله: {وَيَرْضَيْنَ} دون الضمير في قوله: {آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}. {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ} في تحريم ذوات المهور في المستقبل من غير الأصناف المذكررة دون الواهبات أنفسهن وما تملكه بيمينه في باقي عمره إن رزقه الله تعالى، ولم يبلغنا أنه قبل نفس واهبة أو ملك سريته ملك اليمين بعد هذه الآية ما كان فعل شيئًا من ذلك. وفائدة الآية استعمالها وفائدتها اعتقادها. وعن مجاهد: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد (¬3) ما سمى لك من يهودية لكون الذمية في رتبة المؤمنين أو تحريم عسيلته على أهل النار فإن أبا طيبة شرب دمه وحرمت عليه النار. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست "ي". (¬2) ابن سعد (8/ 196)، وابن جرير (19/ 140، 141). (¬3) (أي من بعد) ليست في الأصل.

وعن عائشة قالت: ما مات رسول الله حتى أحل له النساء (¬1)، فقد فهمت من الآية تحريم الحرائر بعد التسع، ثم شاهدت من سنته ما استدليت به على نسخ الآية بالسنة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} عن أنس بن مالك قال: تزوج رسول الله (¬2) فدخل بأهله وصنعت -أي أم سلمة (¬3) - حيسًا فجعلته في تور فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله (2) فقل له: وجهت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل، قال: فذهبت به إلى رسول الله (2) فقلت: إن أمّي تقرئك السلام وتقول إن هذا لك منا قليل، فقال: "ضعه" ثم قال: "اذهب فادع فلانًا وفلانًا ومن لقيت" وسمّى رجالًا، فدعوت من سمى ومن لقيت. قال: قلت لأنس: كم عددهم كانوا؟ قال: زهاء ثلثمائة. قال (¬4): فقال رسول الله: " [يا أنس هات بالتور" قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليتخلف] (¬5) عشرة عشرة وليأكل كل (¬6) إنسان مما يليه" قال (¬7): فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم قال: قال: "يا أنس ارفع" قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله ورسول الله (¬8) ¬

_ (¬1) الترمذي (3216)، والنسائي في الكبرى (3204، 3205)، وابن سعد (8/ 194)، وعبد الرزاق (14001)، والحديث صحيح. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "أ": (أم سليم). (¬4) (قال) ليست في "ب". (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬6) (كل) من "ب". (¬7) (قال) ليست في "ب" "أ". (¬8) في "ب": (بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس)، وفي "أ": (بيت رسول الله جالس).

جالس (¬1) وزوجته مولية وجهها إلى الحائط (¬2)، فثقلوا على رسول الله (¬3)، فخرج رسول الله (3) فسلَّم على نسائه ثم رجع، فلما رأوا رسول الله (3) قد رجع ظنوا أنهم ثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله (3) حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى خرج علي، وأنزلت عليه هذه الآية، فخرج رسول الله وقرأها على الناس، قال أنس: أنا [حدث الناس عهدًا بهذه الآيات وحجبن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} في محل الخفض معطوفًا على قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} وعن عائشة قالت: كنت آكل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) حيسًا في قعب، فمرَّ عمر فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) فأكل معنا، فأصابت إصبعه إصبعي فقال: أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل الحجاب (¬7). وعن الشعبي: أن نبي (¬8) الله -عليه السلام- (¬9) تزوج قتيلة بنت قيس (¬10) ومات عنها، ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فأراد أبو بكر أن يقتله فقال له عمر: إن النبي -عليه السلام- لم يحجبها ولم يقسم لها (¬11) ولم يدخل بها، ¬

_ (¬1) في "أ": (جالس حين). (¬2) فراغ في كل النسخ. (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) مسلم (1428). (¬5) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ". (¬6) (- صلى الله عليه وسلم -) ليست في "أ" "ي". (¬7) النسائي في الكبرى (11419)، والطبراني في الأوسط (2947)، والحديث صحيح. (¬8) في "ب": (رسول). (¬9) (السلام) ليست في "ي"، وبدلها: (صلى الله عليك وسلم). (¬10) (قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، ذكر تفاصيل قصتها ابن سعد في "الطبقات"، وأن أخاها الأشعث عرضها على النبي -عليه السلام- فوافق على ذلك، فسافر إلى حضرموت ليأتي بها فبلغه في الطريق وفاة النبي --عليه السلام- فارتدَّ هو معها عن الإسلام وهي ممن وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. [طبقات ابن سعد (8/ 147)]. (¬11) (يقسم لها) ليست في "أ" "ي".

وارتدَّت مع أخيها عن الإسلام وبرئت من الله ورسوله، فلم يزل به حتى تركه (¬1). وما روي عن طلحة في عائشة لا نراه إلا فرية بعض روافض أهل الكوفة، أخذ الكلبي منهم ثم تابعه عليه مقاتل ثم أخذه الفراء من تفاسيرهما (¬2). وكل تحريم ثبت بالنسب يثبت بالرضاع لقوله -عليه السلام- (¬3): "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬4) ولما روي عن عائشة قالت: جاء عمي من الرضاعة بعد ما ضرب علينا الحجاب، فقلت: والله لا آذن لك حتى يأتي رسول الله (¬5) فاستأذنه، فجاء رسول الله فقلت: جاء عمي من الرضاعة فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك قال: "فليلج عليك عمك" قالت: قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال -عليه السلام-: "إنه عمك فليلج عليك" (¬6). {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} -عليه السلام- (3). عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى (¬7) آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬8). ¬

_ (¬1) الحاكم في مستدركه (4/ 40). (¬2) يقصد هنا رواية الشيعة ما رواه عبد الرزاق (2/ 122)، وعزاه السيوطي في الدر (12/ 112) لعبد بن حميد وابن المنذر عن طلحة بن عبيد الله: لما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت عائشة فنزلت الآية {وَمَا كَانَ لَكُمْ. . .} [الأحزاب: 53]. وما رواه ابن أبي حاتم كما عند ابن كثير إن الذي زعم ذلك هو طلحة. وأحسن المؤلف إذ قال: إن هذه من افتراءات الشيعة على أمهات المؤمنين. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) البخاري (2/ 935)، ومسلم (1444). (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) البخاري (5/ 2007)، ومسلم (1445). (¬7) (إبراهيم وعلى) ليست في "أ". (¬8) الحديث دون ذكر الآية في الصحيحين. أما مع الآية فرواه ابن أبي حاتم كما عند ابن كثير، والطبراني في الكبير (19/ 125 - 131) (271، 274، 275، 278، 279).

وعن ابن عباس عنه -عليه السلام- (¬1) قال: "من قال: جزى الله عنا محمدًا ما هو أهله أتعب سبعين كاتبًا ألف صباح" (¬2)، وقال (¬3) -عليه السلام-: "من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي فقد خطىء طريق الجنة" (¬4). {يُؤْذُونَ اللَّهَ} إيذاء الله على سبيل المجاز كخداع الله. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية، قيل: كانت الحرائر والإماء يخرجن من بيوتهن في زيٍّ واحد، وكان السفهاء يتعرضون للحرائر والنظر إلى وجوههن كما يتعرضون للإماء لا يميزون بينهن فيتأذى الحرائر بذلك، فأنزل (¬5). {جَلَابِيبِهِنَّ} جمع جلباب وهي الإزار. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} المولدون للأقوال المضطربة التي لا قرار لها ولا حقيقة، و (أرجف الناس في الشيء): إذا خاضوا فيه واضطربوا {إِلَّا قَلِيلًا} إلا قليلين، أو إلا زمانًا قليلًا. {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} فعلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا} نصب على الحال أو البدل، وعلى قوله (إلا زمانًا قليلًا) نصب على الذم والشتم كقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وفي الآية دليل على جواز قتل المنافق إذا ظهر نفاقه {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أنبياء الله الذين ينصرهم على من آذاهم، وقيل: الذين خلوا من قبل بني قريظة والنضير. {يَسْأَلُكَ (¬6) النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} كان الناس يكثرون السؤال عن الساعة متى هي، فلذلك كثر الجواب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} لم يذكر سبب نزول ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) الطبراني في الكبير (11509)، وفي الأوسط (535)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 306)، والحديث ضعيف جدًا بسبب هانئ بن المتوكل. (¬3) (وقال) من "ب". (¬4) ابن ماجه (908)، والبيهقي في الشعب (1573، 1574) والحديث صحيح. (¬5) ابن جرير (19/ 183). (¬6) في "أ": (يسألونك) وهو خطأ.

الآية، والظاهر أن سبب نزولها قول السفهاء: تزوج رسول الله بامرأة ابنه، أو قول المنافقين: هو ذو قلبين في جوفه، أو كراهة من كره الحجاب، وأما الذين آذوا موسى -عليه السلام- (¬1) فهم الذين اتهموه بقتل هارون -عليه السلام- (1) فأراهم الله هارون مضطجعًا على سرير من أسرة الجنة انشق عنه قبره ثم عاد إلى مكانه (¬2)، وقيل: اتهموه بالطمع في مال قارون فخسف الله به وبداره الأرض، وعن أبي هريرة عنه -عليه السلام-: "إن موسى -عليه السلام- كان حييًا ما يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، قالوا: ما تستر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدْرة وإما آفة، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا موسى يومًا وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذه من بني إسرائيل، فرأوه أحسن الناس خلقًا وأبرأه مما كانوا يقولون قال: وقام الحجر فأخذ ثوبه ولبسه" (¬3) الذين آذوه هم الذين اتهموه في التوراة وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]. {قَوْلًا سَدِيدًا} لا خلل فيه لصدقه ومتانته، وأصدق الأقوال قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} تبديل سيئاتنا حسنات أو قبوله صالح أعمالنا بعد الشهادتين. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إن كان المراد أهلوها وسكانها العقلاء من الملائكة والجن فالعرض على سبيل التخيير، و (الإباء والإشفاق) على سبيل الاجتهاد، وإن كان المراد سائر الحيوان فالغرض ابتلاء طبائعها، والإباء والإشفاق على سبيل الكراهة الطبيعية، وإن كان ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ابن جرير (19/ 149)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير، والحاكم (2/ 579) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية. (¬3) البخاري (278).

المراد بأعيانها التي هي جماد فالعرض على سبيل (¬1) الإصرار والاضطرار والإباء والإشفاق كذلك. فائدة العرض الأول بيان اجتهاد، وفائدة (¬2) العرض الثاني بيان التفاوت بين طبائع لا يحملها الحرص على المخاطرة وطبائع يحملها الحرص عليها (¬3)، وفائدة العرض الثالث تفخيم الأمر، والظاهر من الأمانة في هذه الأقوال كلها أنها الذمة الصحيحة التي يتعلق بها الحقوق، والظاهر من حملها اعتداء الإنسان وصحة ذمته أنها فضيلة لا يرضى بعدمها البتة، فأول ما ثبت ذمة الإنسان اعتزال الشجرة لم يتضرع إلى الله ليحول بينه وبينها، ثم ثبت في ذمته رعاية (¬4) امرأته لم (¬5) يتضرع إلى الله ليكفيه أمرها، فأكل من الشجرة وقصَّر في رعاية المرأة حتى أكلت من الشجرة، فسرى شؤم المعصية إلى الكمنى في صلبه {الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}. وعن ابن عباس قال: الأمانة المعترض على العباد عرض ذلك على السموات والأرض والجبال، فقلن: ما هي؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا (¬6) وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} يعني آدم -عليه السلام- (¬7)، وقال قتادة في قوله: {ظَلُومًا} أي لنفسه {جَهُولًا} بما حمل (¬8) أي جهولًا بثقل ماحمل. قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ} السبب العرض أو الحمل أو كينونة الإنسان {ظَلُومًا جَهُولًا}. ¬

_ (¬1) في الأصل: (سائر). (¬2) في الأصل: (بيان). (¬3) (المخاطرة) إلى هنا ليست في "أ". في الأصل: (دعائه). (¬4) (لم) ليست في "ب". (¬5) (فأبين أن يحملنها) ليست في الأصل و"ي". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في الأصل: (جهل). (¬8) (الله) من الأصل.

وعن أبي حاتم السختياني أنه لام قسم سقطت نونها فانكسرت. وعن أبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬1): "من قرأ سورة الأحزاب وعلمه أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من العذاب والجواز على الصراط" (¬2). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) كما مرّ ذكره إن هذا حديث موضوع غير ثابت.

دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر تَأليِف عَبد القَاهِر بن عَبد الرّحمن الجرجَاني المتوفى (471 هـ) تَحقِيق وَليد بِن أحمَد بْن صَالِح الحُسَيْن إيَاد عَبد اللَطيفْ القَيْسيْ مِنْ سُورَة سّبَأ إِلي سُورَة النَّاس المجلَّد الرابَّع

سورة سبإ

سُوْرَةُ سَبَإٍ مكية (¬1)، وهي أربع وخمسون آية في غير عدد أهل الشام (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الواو في {وَيَرَى} للاستئناف وهو عطف الجملة و {الَّذِينَ} في محل الرفع لأنه مفعول ما لم يسم فاعله، و {الْعِلْمَ} نصب لأنه (¬3) مفعول ثانٍ، و {الَّذِي أُنْزِلَ} في محل النصب لوقوع الرؤية عليه، وكذلك {الْحَقَّ} لأن الرؤية إذا كانت في معنى العلم أو الظن اقتضت مفعولين. {مُزِّقْتُمْ} بأجسامكم، والتمزيق بالإجزاء وفسخ التأليف {إِنَّكُمْ} بالكسر, لأن قوله: {يُنَبِّئُكُمْ} في معنى القول. {أَفْتَرَى} لم يدخل المد لأن الهمزتين (2) مختلفتان، وفي قوله: {آلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] متفقان (¬4). {أَوِّبِي} سبِّحي معه كل النهار إلى الليل (¬5) ورجعي بالتسبيح، {وَأَلَنَّا} ¬

_ (¬1) نقل ابن الضريس (18،17)، والنحاس (637)، والبيهقي في الشعب (7/ 142 - 144) عن ابن عباس مكيتها. (¬2) انظر "البيان" (ص 209). (¬3) من قوله (مفعول) إلى هنا ليس في "أ". (¬4) في "ب": (الهمزتان). (¬5) في "ب": (الليل إلى النهار).

الإلانة تصييره سهل المشي سهل الثني سهل الاستعمال، ضد الحزن والصعب والشد (¬1). و {السَّرْدِ} تنسيق حلقها وتشميرها. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي عين الصفر، فسالت ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب كما يعمل بالطين، هكذا ذكر الكلبي، وذكر أبو عبيد الهروي أن القطر النحاس، وقوله: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} حكاية أحوالهم التي كانوا عليها. {وَجِفَانٍ} جمع جفنة وهو شيء أعظم من الصحفة تجتمع عليها جماعة {كَالْجَوَابِ} جمع جابية. وقال مجاهد: الجابية حوض الإبل (¬2)، وقال ابن عرفة: الجابية كالحوض. وعن مسعر بن كدام قال: إنه لما قيل (¬3): {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} لم يأتِ عليهم ساعة من ليل ولا (¬4) نهار إلا ومنهم مصلٍّ يصلي. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} وعن ابن عباس أن سليمان -عليه السلام- (¬5) كان لا يصلي صلاة إلا وجد شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول (¬6) كذا وكذا، فيقول: لما أنتِ؟ فتقول (¬7): لكذا أو كذا، وإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء علم ذلك الدواء. قال: فصلّى ذات يوم فإذا شجرة بين يديه نابتة (¬8) فقال: ما اسمك؟ قالت: الخروبة لما ¬

_ (¬1) في "أ": (الشديد). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 233)، تفسير مجاهد (ص 553). (¬3) في الأصل: (قال افعلا قيل)، وفي "أ": (كدام قيل). (¬4) في الأصل: (أو نهار). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) في الأصل و"ي": (فيقول). (¬7) (فتقول) ليست في الأصل. (¬8) (نابتة) من "ب" "ي".

نبت، قال: لما أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت -يعني بيت المقدس- فقال سليمان: اللهم غيّب الجن موتي حتى يعلم الإنس أنهم كانوا لا يعلمون الغيب. قال: فأخذ عصا فتوكا عليها حولًا ثم أكلتها الأرضة فسقط فعلموا عند ذلك بموته فشكرت الشياطين تلك الأرضة وإنه لما (¬1) كانت الأرضة جاءها الشياطين فقالوا: قدروا مقدار أكل العصا فكانت (¬2) سنة، والأرضة دويبة تأكل الخشب (¬3). {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} سخرة سليمان -عليه السلام- وتكليفه بإذن الله. {آيَةٌ} اسم كان، وخبره في الجار والمجرور، و {جَنَّتَانِ} رفع على أنهما بيان الآية {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} يدل على كون حجة الله فيهم من رسول الله أو نبي أو صديق أو صالح أو عاقل يذكرهم بالإله ونعمائه. وذكر الكلبي أن الله تعالى (¬4) بعث إليهم ثلاثة عشر نبيًا وكانوا في ثلاث عشرة قرية {بَلْدَةٌ} أي هذه {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} الطين {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي ولكم رب غفور إن شكرتموه. {فَأَعْرَضُوا} عن الشكر {سَيْلَ الْعَرِمِ} {سَيْلَ الْعَرِمِ} (سيل) (¬5) مصدر قائم مقام الاسم و (العرم) المسناة التي هي السد (¬6) والسكر. ¬

_ (¬1) في الأصل: (واهما). (¬2) (فكانت) من "ب". (¬3) هناك قصة قريبة عن السدي عند ابن جرير (19/ 241، 242). (¬4) (تعالى) ليست في "ب". (¬5) في "ب": (سبيل). (¬6) قاله مجاهد وأبو ميسرة والفراء وابن قتيبة، وقال أبو عبيدة: هي السِّكْرُ. [زاد المسير (3/ 494)].

قيل: العرم اسم وادي (¬1)، وقال ابن الأعرابي (¬2): العرم والبرّ من أسماء الفأرة، وقيل: العرم المطر الشديد. ذكروا في التاريخ أن الله تعالى لما هيأ أسباب (¬3) سيل العرم، وذلك في ملك ذي الأذعار بن حسان أقبلت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر بن (¬4) أم أخيه عمران بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة وكان بينه وبين كهلان بن سبأ وكان جالسًا في نادي قومه فوقفت على رأسه ثم قالت: والظلمة والضياء ليقبلن إليكم الماء كالبحر إذا طما فيدع أرضكم يسقى عليها الصبا، قالوا: ومتى يكون؟ قالت: بعد سنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد فيأتيكم السيل العرم (¬5) بفيض هميل وخطب جليل وأمر وبيل، فتخرب الديار وتضمحل القرار. قال لها عمران: ويحكِ يا طريفة لقد أفجعتنا بأموالنا فبيِّني مقالك، فقالت: آتيكم أمر عظيم وسيل ركيم ودهر وخيم وخطب جسيم (¬6)، فاحرسوا السد (¬7) لئلا يمتدّ، وإن كان لا بد من الأمر المعدّ فانطلقوا إلى رأس الوادي فسترون العادي نحو كل حجر صخاد بأنياب له حراد. فانطلق عمران بن عامر في نفر من قومه حتى أتوا رأس الوادي فإذا بجرذ يحفر الجبل بأنيابه ويدفع برجله الحجر الذي يستنقله مائة رجل فيسد ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وأن موقع هذا الوادي في اليمن كان يسيل إلى مكة وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه، وهو قول قتادة والضحاك. [الطبري (19/ 251)]. (¬2) نقله عنه الأزهري في تهذيب اللغة (2/ 391 - عرم). (¬3) (أسباب) ليست في "ب". (¬4) (بن) ليست في "ب". (¬5) (العرم) من الأصل فقط. (¬6) في الأصل: (جسم). (¬7) في الأصل: (السد).

مسيل الوادي مما يلي البحر ويفتح مما يلي البلاد، فاستشار عمران عظماء بني كهلان فأجمعوا أن يكتموا الأمر عن إخوانهم من أولاد حمير ليبيعوا منهم حدائقهم وضياعهم ثم يرتحلوا عن تلك، ففعلوا (¬1) ذلك. ثم جاء السيل {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} وهم الذين بقوا في ديارهم. وقيل: الذين نزلوا الحجاز وأرض تهامة وسائر البوادي المتاخمة بهذه الديار و {خَمْطٍ} ثمر الأراك (¬2) وكل شجر لا شوك له ويقال له: البربر، وقيل: البربر ثمر الأثل، والأثل شجر يشبه الطرفا يصنع منه النضار، والنضار القدح المتخذ من شجر الأثل، و {سِدْرٍ} شجر يستظل به ويؤكل من ثمره، وذكر الفراء عن بعضهم أنه السمر (¬3)، ولا يبعد إلطاف الله لهؤلاء المعاقبين بأن يكونوا رزقوا من هذه الأشجار في أيامهم رزقًا صالحًا يتبلغ به كما رزق بني إسرائيل في التيه من المن, والمواضع التي تنبت فيها هذه الأشجار في أيامنا المفاوز دون السلتين، ذلك إشارة إلى سيل العرم وتبديل الذي هو خير بالذي هو أدنى. {جَزَيْنَاهُمْ} الجزاء والمجازاة بمعنى، والجزاء يتعدى إلى مفعولين. قال الله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 41]. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى} قال الكلبي أنهم ندموا على صنيعهم ومقاومتهم الرياح فوعدوا الرسل أن يؤمنوا إن كشف الله عنهم الشر، فدعت لهم الرسل فكشف الله عنهم وجعل من أرض سبأ إلى أرض فلسطين قرى متصلة يبيتون بقرية ويقبلون بقرية لا يحل المسافر عقده حتى يرجع إلى أهله، وكان مقدار سيرهم شهرًا في أمن وسلامة يمتارون الميرة إلى أهليهم حتى نكثوا العهد ورجعوا إلى الكفر والطغيان. ¬

_ (¬1) المثبت من "ب"، وفي البقية: (ففضلوا). (¬2) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (19/ 255 - 256). (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 359).

{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} لسؤالهم معنيان: أحدهما: أنهم سألوا ذلك على سبيل الاستهزاء وقلة المبالاة كقول آخرين {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، وقال: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] الآية. والثاني: أنهم تبرّموا بالعافية فحملهم السفاهة (¬1) على أن يشتهوا البلاء كقول بني إسرائيل: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] الآية. {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} له معنيان على سبيل المجاز: أحدهما: أن الله -عَزَّوَجَلَّ- جعل أخبارهم مستفيضة يتحدث الناس على سبيل الاعتبار. والثاني: أن الله تعالى خرب ديارهم ومحا آثارهم وأبقى (¬2) أحبارهم فكأنهم صاروا أحاديث، ويعني على الحقيقة وهو تقليب (¬3) الجوهر عرضًا. وبقاء العرب من نسل هؤلاء ليس بمخالف الآية لأن الله تعالى إذا أهلك قومًا أنشأ من ذريتهم قومًا آخرين، هذه سنة الله في عباده، ولقد صدق عليهم الظاهر أنهم في شأن آل سبأ، ويحتمل في شأن جميع الناس. {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} له معنيان: أحدهما: التمكين من غرورهم وسوستهم بتمكين. والثاني: الشبهة التي خلقها الله تعالى ليستدل بها الشيطان فيما يوسوس به الناس ويريه أنها البرهان. {زَعَمْتُمْ} من دون الله أنهم آلهة فبيّن الله تعالى أنهم لا يملكون شيئًا وهم مملكون ولا يعينون الله على شيء وهم معانون. ¬

_ (¬1) في "ي" "أ": (النفاهة). (¬2) في الأصل: (واتقى). (¬3) في الأصل: (يقلب).

عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- قال: "إذا قضى الله أمر الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا، لقوله: كأنها سلسلة على صفوان {حَتَّى (¬1) إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال: والشياطين فوق (¬2) بعضهم فوق بعض، فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته وربما أدرك الشهاب قبل أن ينبذها وقبل أن يدركه فينبذها بعضهم إلى بعض حتى ينتهي إلى الأرض فيلقى على لسان الكاهن أو الساحر فيكذب فيصدق بالكلمة التي يسمع بين السماء" (¬3) {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} غاية للحالة الغائبة المتقدمة عليها، والغاية لا تدل على مخالفة حكم ما وراءها {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني خلا الفزع عن قلوبهم، قالوا: يعني ملك الملائكة دون الملأ الأعلى [{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قالوا: جواب الملأ الأعلى الذين (¬4)] (¬5) يلونهم {الْحَقَّ} يحتمل الإجمال لقطع السؤال (¬6) ويحتمل البيان لاستراق الشيطان، ويحتمل أنهم يجهلون الجواب مرة ويفسرونه بإذن الله. {قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} على سبيل الإيجاز تقديرها: هانا {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وهذا كقولك لخصمك: الله يعلم أن أحدنا لكاذب. {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} المراد بالسؤال الأخذ والمطالبة. {أَلْحَقْتُمْ بِهِ} أي لله شركاء على زعمكم وأن الملائكة متولدة منه، وأن الانفعال قديم بقدم الفعل، وأن المعدوم شيء لا أول له، وأن المكان قديم بقدم الأنية، وأن الإيجاد واقع بين الله والعباد. {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} الذي عزّ فلا يطاق وعز فلا يناله الإلحاق ¬

_ (¬1) (حتى) من الأصل. (¬2) (فوق) من الأصل. (¬3) البخاري (7481)، والترمذي (3223)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬4) في الأصل و"ي": (الذين). (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬6) في الأصل: (البيان).

{الْحَكِيمُ} الذي تعالى بحكمته عن تمكين المخاذيل من صفته. {إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي إلا جاء معه للناس بالبشارة والإنذار، والهاء في {كَافَّةً} للمبالغة كما في النسابة والعلامة والراوية. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} في أول أمرهم وحسرهم بعد ذلك {الْأَغْلَالَ} جمع غل وهو طريق ذلّ وصغار. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ} في (¬1) {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} في ردّ استدلالهم بكثرة الأموال والأولاد على نفي العذاب في المعاد. {بِالَّتِي} إشارة إلى الأشياء إن شاء الله أو إلى الخصلة أو إلى الحسنة {إِلَّا مَنْ آمَنَ} إن كان الاستثناء متصلًا فالتقدير فيه الأموال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأولادهم وذلك لكون أموالهم منفعة في سبيل الله وكون أولادهم متابعة بإيمان، وإن كان الاستثناء منقطعًا لمن آمن وعمل صالحًا شرط (¬2). وقوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ} عن أنس عن النبي -عليه السلام- (¬3) قال: "ينادي مناد كل ليلة: لدوا للموت، وينادي آخر: ابنوا للخراب، ونادى منادٍ: اللهم هب للمنفق خلفًا، وينادي آخر: اللهم وللمسك تلفًا، وينادي منادٍ: ليت الخلق لم يخلقوا" (¬4). ¬

_ (¬1) (في) من الأصل. (¬2) الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ: 37]، إما أن يكون منقطعًا فيكون منصوب المحل وإما أن يكون في محل جر بدلًا من الضمير في {أَمْوَالُكُمْ} قاله الزجاج والفراء وهو مذهب الأخفش والكوفيين أنهم يجوزون البدل من المخاطب والمتكلم، وتبعهم الزمخشري في ذلك، كما يجوز أن يكون {مَنْ آمَنَ} في محل رفع على الابتداء، والخبر {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ: 37]. [معاني القرآن (2/ 363)، إعراب القرآن (2/ 677)، الكشاف (3/ 292)]. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) هذا حديث لا يثبت وهو يذكر من قول عيسى ويذكر شعرًا وحكمة. انظر "الدرر المنتثرة" (377).

{مِعْشَارَ} عشير، وقيل: عشير العشير، وهذه الآية في معنى قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]. {بِوَاحِدَةٍ} بخصلة واحدة {أَنْ تَقُومُوا} لتلك الخصلة {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي في محمد هل هو مجنون أم ليس بمجنون، وقوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} كلامًا مبتدأ على هذا التقدير وهو تزكية من الله تعالى لمحمد -عليه السلام-، ويحتمل أن التقدير فيه {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي شيء بصاحبكم من جنون، فإن كان التقدير هكذا لم يحسن الوقف على قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} على الباطل فيدمغه، الواو في {وَمَا يُبْدِئُ} لعطف الجملة، وهذه الآية في معنى قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [يونس: 34]، {إِنْ ضَلَلْتُ} قائمًا {أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي إن سلكت طريق الشر ودعوتكم إلى الشر فأنا شريككم فيه {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ} أي إن سلكت طريق الخير ودعوتكم إلى الخير فبوحي الله وإذنه، وإن كان ذلك من جهة الله تعالى لزمكم قبوله. {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} تذكير وقت إحساس اليأس، واليأس عن الناس وانقطاع الأنفاس، وذلك حين ينخفض الصوت ويقترب الموت ويتعذر الفوت. عن سمرة قال: قال -عليه السلام- (¬1): "مثل الذي يفر من الموت كالثعلب فطالبته الأرض بدين يسعى حتى إذا عيَّ وابتهر دخل جحره (¬2) فقالت له الأرض عند سبلته: يا ثعلب ديني ديني، فخرج، فلم يزل كذلك حتى انقطع عنقه فمات" (¬3). {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أنه الذي قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} كيف لهم منازل الإيمان وطلب الأمان. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} لبُعد معاينة البأس عن رتبة الاختيار والاختبار. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "أ": (حجره). (¬3) البيهقي في الشعب (10695)، والدارقطني في حديث أبي الطاهر (55). والمحفوظ أنه حديث موقوف كما قال البيهقي.

{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} مثل رجمهم بالغيب، وهو ظنهم بالنبي -عليه السلام- الظنون الفاسدة {مِنْ مَكَانٍ} لبُعد السفهاء عن إصابة العقلاء. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} في المشركين متصلة بما قبلها يدل عليه فحوى الخطاب، ولكن عموم قوله: {مَا يَشْتَهُونَ} جعل مما يجوز اقتباسه لوصف المؤمنين وذلك لأن كل واحد من الناس يشتهي أن يعيش ويشك في ساعة موته الذي يفنى به، وهذا النوع من الاقتباس كاقتباس علي - رضي الله عنه - {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية. وعن أُبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬1): "مَن قرأ سورة سبأ لم يبقَ رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة مصافحًا" (¬2). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) هذا حديث مكذوب لا يثبت ومرّ الكلام عليه.

سورة فاطر

سُوْرَةُ فَاطِرٍ سورة الملائكة: مكية (¬1)، وهي خمس وأربعون آية في غير عدد أهل الشام، والمدني الآخر (¬2) والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أُولِي أَجْنِحَةٍ} في محل النصب على أنه نعت للرسل (¬3)، ويحتمل أنه في محل الخفض بدلا من الملائكة، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة، وقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} عائد إلى الملائكة أو الرسل {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ (¬4)} أي في الأجنحة. عن عقيل بن شهاب أن النبي -عليه السلام- سأل جبريل أن يتراءى له في صورته، فقال له جبريل: إنك لن تطيق ذلك، قال: "فإني أحب أن تفعل"، فخرج رسول الله (¬5) إلى المصلى ليلة مقمرة فأتاه جبريل -عليه السلام- (¬6) في صورته فغشي على رسول الله (5) حين رآه، ثم أفاق وجبريل مسنده واضعًا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله (5): "ما كنت أرى أن ¬

_ (¬1) هناك اتفاق على مكيتها. (¬2) انظر: "البيان في عدّ آي القرآن" لأبي عمرو الداني (ص 210). (¬3) قاله أبو جعفر النحاس في إعرابه (2/ 683). (¬4) (ما يشاء) من الأصل فحسب. (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) (السلام) ليست في "ي"، و (-عليه السلام-) ليست في "ب".

شيئًا من الخلق هكذا" فقال جبريل -عليه السلام- (¬1): كيف لو رأيت إسرافيل؟ إنه له اثني عشر جناحًا؛ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوضع، والوضع عصفور صغير حتى ما يحمل عشرة إلا عظمته (¬2). وعن ابن مسعود (¬3) قال: إن لله (¬4) ملكًا يقال له صندفيل: البحار كلها في نقرة إبهامه (¬5). وعنه -عليه السلام- (¬6) قال: "أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنيه العرش وبين شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطير سبعمائة سنة يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت" (¬7). {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} كمن يعرف الخير من الشر، وقد سبق القول في الاقتصار على أحد طرفَي الكلام وقيل تقديره: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} {تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} كقولك لأخيك: أحمار عصاك فإن الله لم يجعل له عقلًا فلا يضجر منه يريد بذلك: أحمار عصاك فضجرت منه فلا تضجر منه إن الله لم يجعل له عقلًا (¬8) ولكنك اكتفيت لما أيقنت دليلًا على ما ألقيته. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ذهب الكلبي أن العمل الصالح رافع الكلم ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) ذكر هذه الرواية الزمخشري في الكشاف (3/ 298)، والقرطبي (14/ 320). (¬3) في "ب": (ابن عباس). (¬4) في الأصل و"ب": (الله). (¬5) ورد هذا الأثر عن كعب في الحلية (6/ 8)، وكذا ذكره القرطبي (1/ 429)، ولفظه في القرطبي (صندفيل البحار) وفي الحلية (6/ 61) (صنديائيل البحار) ومرة (صديقا بحور الدنيا السبع) عن شهر بن حوشب. (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) رواه الطبراني في الأوسط (6503)، وسنده ضعيف ولكن له شواهد يصحح بها. (¬8) من قوله (فلا يضجر) إلى هنا ليست في "ب".

الطيب. وروى الأشج عن الضحاك (¬1) موافقته للكلبي، وروى صالح بن محمَّد عنه مخالفته، وكلا القولين محتمل لأن عمل اللسان هو رافع الكلم الطيب الذي هو في الصدر، والكلم الطيب على لسانه هو رافع أعماله الصالحة بالأركان، والكلم الطيب (¬2) الشهادتان، والصعود إلى الله الارتفاع إلى محل الكرامة والقبول، ويحتمل التقدير: إلى الله يصعد الكلم الطيب والله يرفع العمل الصالح. {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} والذين يعملون السيئات. قال سعيد بن جبير: هم الذين يعملون بالرياء (¬3) وهكذا عن مجاهد (¬4)، وهذا لأن المرائي يظهر محبوب الطاعة ويضمر مكروه النفاق. وعن أُبي بن كعب عنه -عليه السلام- (¬5): "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين في البلاد ما لم يعملوا عمل الآخرة للدنيا، ومن يعمل عمل الآخرة للدنيا لم يقبل منه وليس له في الآخرة من نصيب" (¬6) {هُوَ يَبُورُ} أي يحبط العمل. {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} واللحم الطري موجود في البحرين وأطيبه الذي في بحر الملح، واللؤلؤ غير معهود وجوده في العذب لامتناع أن يصل الغوّاص إلى قعره ولسائر الآفات، وأما الصدف فلا يبعد تقلبه في البحرين جميعًا، وأما الياقوت والعنبر وسائر ما يتحلى به من الشك والخرز فغير ممتنع وجوده في كل واحد من البحرين. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3174) والبيهقي في الشعب (70) وابن المبارك في الزهد (90) ونسبه السيوطي في الدر المنثور (12/ 259) إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) من قوله (على لسانه) إلى هنا ليست في "ب". (¬3) عزاه صاحب "الدر" (12/ 261) لابن أبي حاتم ولم نجده في تفسيره. (¬4) البيهقي في الشعب (6845، 6847)، وعزاه صاحب الدر (12/ 261) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) (السلام) ليست في "ي"، و (-عليه السلام-) ليست في "ب". (¬6) أحمد (5/ 134)، وابن حبان (405)، والحاكم (7862)، والبيهقي في "الشعب" (6833).

عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- (¬1) قال: "كلم البحران فقيل للبحر الذي بالشام: يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عبادًا لي يسبِّحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبِّرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال الله تعالى: إني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواصيك، وقال للبحر الذي باليمن: إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل (¬2) فيك عبادًا لي يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أسبحك وأحمدك وأهللك وأكثرك معهم وأحملهم في بطني. قال الله تعالى: فإني أفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري" (¬3) ومعنى الحمل في بطن الماء عمل الغواصين. {قِطْمِيرٍ} حبة في بطن نواة التمر، وقيل: لفافة نواة التمر (¬4)، يضرب به المثل في القلة والحبة كالنقير والفتيل. {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} معطوف على مضمر تقديره: أحطنا بالغيب والشهادة خبيرًا، ولا ينبئك بالأمر أحد مثل خبير به كالمثل السائر: ما حكّ جلدك مثل ظفرك (¬5). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل و"ي": (جاعل). (¬3) ذكره الخطيب في تاريخه (10/ 234)، والحديث ضعيف كما في "العلل المتناهية" (34) لابن الجوزىِ. (¬4) قال ابن فارس في المحكم (6/ 623): القطمير: شق النواة، وقيل: القشرة التي فيها، وقيل: هي القشرة الرقيقة التي بين النواة والتمر. وكذا قال ابن منظور في اللسان (11/ 231) وزاد: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة التي تنبت منها النخلة. تقول: ما أصبت منه قطميرًا، أي شيئًا، فهو يضرب به المثل في القلة كما ذكر المؤلف. (¬5) هذا المثل هو بيت للشافعي كما في ديوانه (ص 111) وبلا نسبة في تاج العروس (حكك) ولفظه: ماحَكَّ جلدَكَ غيرُ ظُفْرِكْ ... فتولَّ أنت جميعَ أمركْ وذكره الميداني في مجمع الأمثال (3/ 250) بلفظ: ما حَكّ ظهري مثل يدي، ومثله الزمخشري في المستقصى في أمثال العرب (2/ 321).

{وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} ليس بعطفه على قوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} لكونه موقوفًا عليه، ولكن العطف للتنبيه على كمال القدرة والحث على العبرة، يدل عليه قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]. {وَمَا ذَلِكَ} إشارة إلى الشرط الذي هو المشيئة لم يكن ذلك {عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} يكون شأنها سبيل الاختصار دون الاضطرار، ويحتمل أنه إشارة إلى الإذهاب أو الإتيان بخلق جديد أو إلى الإذهاب والإتيان جميعًا نسخ الشيء بالشيء فعل واحد. {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} هم العلماء وهم الموصوفون بالبصيرة والنور والحياة، المشبهون بالظل وهم المعتبرون بمخالفة الألوان ومجانسة الأعيان، وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} على سبيل المبالغة، وإن كان المدعو قريبًا للنفس المثقلة الداعية إلى تحمُّل شيء من أوزارها. {الْحَرُورُ} بالليل كالسموم بالنهار. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} له معنيان: أحدهما: وصف الجهّال المثقلين على وجه الأرض شبهوا بأصحاب القبور، كما شبهوا بالأموات لتأكيد وصفهم بأنهم في سباتهم كالأموات لا يكسبون حسنة ولا يدفعون سيئة. والثاني: أنه في أصحاب القبور حقيقة، وذلك للتنبيه على استحالة مطالبة المشركين رسول الله بأن يأتي بالموتى شهداء يشهدون له فيهم قصي بن كلاب وكان شيخًا صدوقًا على ما سبق. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} فيه دليل على أنه عمّ العباد بالإنذار بالمعاد وإن كانوا في الأقطار والأبعاد {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

{جُدَدٌ} جمع جُدَّة وهي الخطة والطريقة (¬1) {وَحُمْرٌ} جمع أحمر الذي لونه حمرة وهو لون العقيق بين الشقرة والكمتة، والعرب تسمي الأبيض أحمر {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} جمع غربيب وهو شديد السواد وإنما تأخر ذكر السواد لبيان اللفظ الغريب أو لاعتبار نظم الآي (¬2). {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} إنما خصهم بالخشية لاختصاصهم بالهيبة، واختصاصهم بالهيبة لاختصاصهم بتجلي ذي الجلال لهم. والضمير في قوله: {فَمِنْهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} ويجوز أنه عائد إلى {عِبَادِنَا}. عن ابن عباس أنه سأل كعبًا عن قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} الآية. قال: تحاكّت مناكبهم (¬3) وربّ كعب ثم أعطوا الفضل بأعمالهم (¬4). وعن البراء عنه -عليه السلام- (¬5): كلهم (¬6) ناج وهي لهذه الأمة (¬7). وعن ابن مسعود البدري: كلهم في الجنة (¬8). وقال عطاء: إني ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معانيه (2/ 369) واستشهد بقول امرئ القيس: كأنَّ سراتيه وَجُدَّةُ مَتْنِهِ ... كنائنُ يجري فَوْقَهُنَّ دليصُ يريد بالجُدَّة: الخطة السوداء تكون في متن الحمار، وكذا قال الطبري في تفسيره (19/ 362). (¬2) وذلك أن العرب تقول: أسود غريب إذا وصفوه بشدة السواد، وجعل ههنا السواد صفة للغرابيب [الطبري (19/ 363)]. (¬3) في الأصل: (بياض). (¬4) ابن جرير (19/ 369، 370). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (كلهم) ليست في الأصل. (¬7) عزاه صاحب الدرر (12/ 290) للفريابي، وابن مردويه. (¬8) الذي وجدناه عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا. وهو عند الترمذي (3225)، وأحمد، والحديث صحيح.

لأحسبهم كلهم يدخلون الجنة (¬1). سئلت عائشة (¬2) عن هذه الأمة، قالت: نعم يجتمعون في الجنة، فالسابق بالخيرات على عهد رسول الله (¬3)، والمقتصد من اتبع أثره من الصحابة (¬4) حتى لحق به، والظالم لنفسه مثلي ومثلك (¬5). وعن جهيم بن زحر قال: قدمت المدينة زائرًا قبر النبي -عليه السلام- (¬6) فرأيت أبا الدرداء - رضي الله عنه - قال: أما إني سأحدثك بحديث سمعته من رسول الله (¬7) لم أحدث به أحدًا قبلك ولا أحدث به أحدًا بعدك، قال رسول الله (7) -عليه السلام- (6): "تجيء هذه الأمة غدًا على ثلاثة أصناف أو فرق، فصنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسَبون حسابًا يسيرًا، وصنف تصيبهم شدائد وزلازل وأهوال ثم يصيرون إلى الجنة" فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} (¬8) الآية. وعن عمرو (¬9) بن دينار عن ابن عباس في هذه الآية قال: الظالم لنفسه الكافر. وروى مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب (¬10) اليمين، السابق الناس كلهم من سبق منهم هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي (¬11). ¬

_ (¬1) لم نجد من ذكره عن عطاء. (¬2) (عائشة) ليست في الأصل و"ب". (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب" "أ": (أصحابه). (¬5) الطيالسي (1592)، والطبراني في الكبير (6094)، والحاكم (2/ 426). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) لم نجده بهذا النص. (¬9) في "ب": (عمر). (¬10) (أصحاب) من "ب". (¬11) قريبًا منه عند صاحب الدر (12/ 290) عن الفريابي وعبد بن حميد.

وإلى هذا ذهب الحسن البصري ومجاهد والكلبي (يدخلون) الضمير عائد إلى الظالم والمقتصد والسابق أو عائد إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا}. {دَارَ الْمُقَامَةِ} بقعة الإقامة، كما أن المقسمة بقعة القسمة {لُغُوبٌ} نصب جمعًا للتأكيد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} صريح لفظة الكفر دليل على نجاة الظالم {يَصْطَرِخُونَ} يستغيثون افتعال من الصراخ والقول مضمر عند قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] قال: ما بين الثلاث والثلاثين إلى الأربعين، وسألته عن العمر الذي عبر به {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: ستون سنة (¬1)، وسألته عن قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} قال: الشيب (¬2). عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- (¬3) قال (¬4): "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه" (¬5) {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال الكلبي: المراد بـ {إِحْدَى} ها هنا اليهود والنصارى لما سمع مشركو قريش بقتل اليهود أنبياءهم وباختلاف النصارى في المسيح فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى، والله لئن أتانا رسول لكنا أهدى منهم، وإنما كانت اليهود والنصارى إحدى الأمم لأنهم جميعًا أولاد إسحاق -عليه السلام- أو خصت قريش إحدى القبيلتين، إما اليهود وإما النصارى. و {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} إضافته كإضافة الحق إلى اليقين. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} المراد بالمؤاخذة المعاجلة بالعقوبة، والوجه في إهلاك كل {دَابَّةٍ} على ظهر الأرض عند مؤاخذة الناس بما كسبوا إنما هو كون دواب الأرض كلها لمنافع بني آدم واعتبارهم بها لا لمعنى ¬

_ (¬1) عبد الرزاق (2/ 138)، وابن جرير (19/ 384). (¬2) البيهقي في السنن (3/ 370). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (قال) من "ب". (¬5) البخاري (6194). هـ -

مفرد أوجب إهلاكهم إهلاكها، وفي الآية دلالة أن غضب الله غير مضاد رحمته فإنه يريد الخير والشر على قضية حكمه لا على قضية رقة محرقة أو حدة معلقة. عن أُبي بن كعب عنه -عليه السلام- (1): "مَن قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب يدخل من أيها شاء" (2). قال ابن جريج: للجنة ثمانية أبواب، فباب للمرسلين والنبيين، وباب للصدِّيقين، وباب للشهداء، وباب للصالحين، وباب للصائمين، وباب للصابرين، وباب للمتصدقين، وباب لسائر المؤمنين. ... (1) (السلام) ليست في "ي". (2) مرّ أن هذ حديث موضوع لا يثبت بحال.

سورة يس

سُورةُ يس مكية (¬1)، وقيل: آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا}: [يس: 47]، وهي اثنان وثمانون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يس (1)} قال: يا إنسان (¬3)، إلا أن حرف النداء لا يمال واسم المنادى لا يكون ساكنًا بل يكون مرفوعًا أو مبنيًا على الضم، ولو قيل: يا من أي والسين من الإنسان وهما حرفان مشيران إلى اسمين، والتقدير: أيها الإنسان لكان أقرب. وعن مجاهد: اجتمعت قريش رؤساؤهم وهم: أمية بن خلف، والوليد ابن المغيرة، والعاص بن وائل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام في رجال من قريش فبعثوا عتبة بن ربيعة فقالوا: لو رأيت هذا الرجل فقل له إن قومك يقولون إنك جئت بأمر عظيم لم يكن عليه آباؤنا ولا يتبعنك عليه أحد منا، وإنك إنما صنعت هذا لأنك ذو حاجة فإن كنت تريد المال فإن قومك سيجمعون لك يعطونك فدع ما ترى وعليك ما كانت عليك آباؤك، فانطلق إليه عتبة فقال له الذي أمروه، فدخل عليه ¬

_ (¬1) نقل عن عائشة وابن عباس القول بمكيتها كما في الدر المنثور (12/ 310)، وكذا ذكر أبو عمرو الداني في "البيان" (211). (¬2) وفي عد أهل الكوفة (83) آية. انظر "البيان" (211). (¬3) ابن جرير (19/ 398) عن ابن عباس.

بيته، فلما فرغ من قوله وسكت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت: 1، 2] " فقرأ عليه من أولها حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت: 13] إلى آخر الآية. فرجع عتبة وأخبرهم الخبر وقال: لقد كلمني بكلام ما هو بشعر وإني لشاعر أعرف الشعر، ولا هو بسحر وإنه لكلام عجيب ما هو بكلام الناس فوقعوا به وقالوا: نذهب إليه بأجمعنا، فلما أرادوا ذلك طلع عليهم رسول الله (¬1) فعمد لهم حتى قام على رؤوسهم وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (ضض2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} " حتى بلغ إلى قوله: {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} فصرف الله بأيديهم إلى أعناقهم فجعل {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فلما انصرف عنهم رأوا الذي صنع بهم فتعجبوا وقالوا: ما رأينا أحدًا قط أسحر منه، انظروا ما صنع بنا (¬2). وفي قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} صريح، كما في قوله: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. {تَنْزِيلَ} رفع باللام التي في التنزيل وبتقدير مبتدأ والنصب على القطع أو على التحريض (¬3) أي مثل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 27]. {مُقْمَحُونَ} رافعون رأسهم، والقموح والقماح رفع الإبل رأسها من الماء امتناعًا عن الشرب، والإقماح فعل عن القامح به وذلك في {إِمَامٍ مُبِينٍ} أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ. ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) عزاه في الدر المنثور (12/ 326 - 327) لعبد بن حميد عن مجاهد. (¬3) قوله "تنزيلَ" القراءة بالنصب وقدرها الفراء: حقًا إنك لمن المرسلين تنزيلًا حقًا. وقرأ أهل الحجاز بالرفع، وعاصم والأعمش ينصبانها، ومن رفعها جعلها خبرًا ثالثًا، والرفع على الاستئناف كقولك: ذلك تنزيل العزيز الرحيم. [معاني القرآن للفراء (2/ 272)].

عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت الآية، فقال -عليه السلام- (¬1): "إن آثاركم تُكتب فلا تنتقلوا" (¬2) قال: نزول الآية متقدم على هذه الحادثة، والحديث محمول إما على نزول الآية مرتين وإما لم يكن سمع أبو سعيد الخدري هذه الآية فيما قبل فظن أنها نزلت يومئذ. {وَاضْرِبْ لَهُمْ} اُقصص لهم القصة، كقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أهل أنطاكية (¬3). {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} على عهد عيسى -عليه السلام- (1) وهما تومان وبولس (¬4) وهما من الحواريين، فجعلا يدعوانه إلى توحيد الله حتى اطلع الملك على أمرهما فحبسهما، فجاء شمعون الصفا وهو من عظماء الحواريين في أثرهما مسجونين فجعل نفسه كواحد من أهل أنطاكية، وجاء بطعام ليطعم أهل السجن فأطعم كل واحد من أهل السجن شيئًا شيئًا، فلما انتهى إلى صاحبيه قال: إني أسعى في تقويتكما وإخراجكما، ثم خرج من السجن ودخل بيت الأصنام فاعتكف فيه أيامًا يصلي لله -عَزَّوَجَلَّ- ويتضرّع إليه وأهل أنطاكية يرونه متقربًا إلى أصنامهم فسكنوا إليه ووثقوا به ورفعوا خبره إلى الملك فدعاه الملك واستخلصه، ثم إنه قال للملك: إني سمعت أنك سجنت رجلين مخالفين لك في دينك فأخرجهما لأخاصمهما. وأخرجهما (¬5) الملك فقال لهما شمعون: وأنا أفعل ذلك، قالا: نحن نحيي ونميت الموتى، قال شمعون: عندنا ميت قد مات منذ سبعة أيام ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) الترمذي (3226)، وعبد الرزاق (1982)، وابن جرير (19/ 410)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير، والحاكم (2/ 428)، والبيهقي في الشعب (2890)، والحديث صحيح. (¬3) روي ذلك عن قتادة وعكرمة. أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 413) وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 140). (¬4) ذكره في "زاد المسير" (7/ 10) عن مقاتل. (¬5) في "أ" "ي": (فأخرجهما).

فأحيياه، فدعوا الله جهرًا ودعا شمعون سرًا فأحيا ذلك الميت فقال شمعون: أشهد أنهما صادقان وأن إلاههما حق، فآمن عند ذلك حبيب النجار ودعا الناس إلى الإيمان بهم فوطئوه بأرجلهم حتى قتلوه فأدخله الله الجنة. {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} واختلفت الروايات قيل: آمن الملك وطائفة من الناس معه فصاح جبريل -عليه السلام- (¬1) بالباقين، وقيل: لم يؤمن الملك ولا أحد سوى حبيب النجار ولكن رحموا الأنبياء فصاح جبريل بهم أجمعين. وروي أن الرجل الذي آمن بهؤلاء الرسل -عليه السلام- لم يكن نجّارًا ولكنه راعٍ من رعاتهم وهو أب الميت الذي أحيوه بإذن الله وهو الذي قتلوه فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}. {يَا حَسْرَةً} لبيان موضع التحسُّر كأنه قيل: يا متحسرًا، أي هل من متحسر فيكم. {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} في الاستدلال بانتفاء الرجعة العامة المطلقة على ثبوت المعاد لأن الأرواح لا تدبر بالإجماع، فلا بد له من محل ما، والمحل محلان، فإذا انتفى أحدهما ثبت الثاني بخلاف رجعة قوم معذورين لأنها كانت مخصوصة مقيّدة، وقد مات أصحاب تلك الرجعة بعد رجعتهم فلم يرجعوا. {مِنْ ثَمَرِهِ} من ثمر ما ذكرنا {وَمَا عَمِلَتْهُ} للحجر (¬2) على الحقيقة أي لم يوجدوه بأيديهم. وعن ابن عباس أن (ما) بمعنى الذي، والمراد تلقح النخل وهو على سبيل كسب الفعل. {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} الأجناس. {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قيل: لا مستقر لها كل ليلة ولكن ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل: (وما عملته الحجر).

مستقرها في آخر الزمان، تغرب الشمس فتمكث ما شاء الله غير طالعة، ثم تطلع من نحو المغرب يومًا واحدًا ثم تعود لهيئتها إلى انتهاء أيام الدنيا لقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33]، وقرأه ابن مسعود: {والشمس تجري لا مستقر لها} (¬1) وقيل إنها تستقر كل ليلة ساجدة تحت العرش، ساجدة حتى يؤذن لها إلى الرجوع إلى الدنيا لقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}. وعن أبي ذر قال: سألت رسول الله (¬2) عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: "مستقرها تحت العرش". وعن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله (2) في المسجد حين وجبت الشمس فقال: "يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "إنها تذهب حتى تسجد بين يدَي ربها فتستأذن بالرجوع فيؤذن لها، وكان قد قيل لها ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها" ثم قرأ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (¬3). وعن ربيعة الحرشي قال: عشر آيات بين يدَي الساعة: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بحجاز العرب، والرابعة الدجال، والخامسة نزول عيسى ابن مريم، والسادسة الدابة، والسابعة الدخان، والثامنة يأجوج ومأجوج، والتاسعة ريح باردة لا يبقى نفس مؤمنة إلا قبضت في تلك الريح، والعاشرة طلوع الشمس من مغربها (¬4). {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} وهي النجوم، هي أجزاء البروج وهي ثمانية ¬

_ (¬1) هي قراءة لابن عباس كذلك عند أبي عبيد في فضائله (181)، وابن الأنباري في المصاحف كما في الدر (12/ 348)، وهي قراءة شاذة. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) البخاري (3199)، ومسلم (159)، وأحمد (5/ 152). (¬4) هذه الرواية ذكرها عبد الرزاق في مصنفه (20792). وأصل الحديث من رواية حذيفة بن أسيد عند مسلم (901).

وعشرون منزلًا فيما يشاهد {كَالْعُرْجُونِ} قال الفراء: العرجون ما بين الشماريخ إلى الثابت في النخلة من العذق (¬1). {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فيه ما يبطل قول المنجمة في الكسوف والاحتراق إلا أنهم لا يسمون ليالي الهلال والمحاق قمرًا. {وَآيَةٌ لَهُمْ} لقريش وأمثالهم {ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2) {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ} للذرية {مِنْ مِثْلِهِ} مثل الفلك المشحون. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتدرون ما {الْمَشْحُونِ}؟ قلنا: لا، قال: الموقر، قال: جعلت سفينة نوح -عليه السلام- (¬3) على مثالها (¬4). وعن السدي عن أبي مالك {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} قال: سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}. قال: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} قال: السفن التي في البحر والأنهار التي يركبُ الناس فيها (¬5). {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} نصب لأنه مفعول له (¬6)، وتقديره: إلا أن نرحمهم رحمة منا. {وَإِذَا قِيلَ} جوابه مضمر والتقدير منه: أعرضوا. ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معانيه (2/ 378). (¬2) (ذريبتهم) ليست في "ب". (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 444) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬5) ذكره السيوطي في الدر (12/ 352 - 353)، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬6) هذا قول أبي إسحاق الزجاج، وذهب الكسائي إلى أنه منصوب على الاستثناء. [إعراب القرآن لنحاس (2/ 724)].

عن أبي هريرة قال: تقوم الساعة والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ويتبايعون في السوق، ثم قرأ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} (¬1). عن أبي هريرة قال: أخبرنا رسول الله (¬2) ونحن في طائفة من أصحابه فقال: "إن الله (¬3) تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السموات والاْرض خلق الصُّور وأعطاه إسرافيل واضع على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر" فقال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال: "قرن" قلت: وكيف هو؟ قال: "عظيم، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين"، يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماء والأرض إلا مَن شاء الله، ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها، يقول الله -عَزَّوَجَلَّ-: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15] فيسيّر الله الجبال فتمر مرّ السحاب ثم تكون سرابًا (¬4) ثم ترتج الأرض بأهلها رجًا وهي التي يقول الله -عَزَّوَجَلَّ-: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} [النازعات: 6 - 8] فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها، وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتطاير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة تضرب وجوهها، فيرجع الناس مدبرين [ينادي بعضهم، وهي التي يقول الله -عَزَّوَجَلَّ-: {يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}] (¬5) {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33,32]. فبينا هم على ذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرًا ¬

_ (¬1) البخاري (6506)، ومسلم (2954). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) من قوله (وتحت) إلى هنا ليست في "أ". (¬4) في "ب": (سحابًا). (¬5) ما بين [...] ليست في الأصل.

عظيمًا فيأخذهم من ذلك الكرب ما الله به عليم، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت وانخسفت شمسها وقمرها واندثرت نجومها ثم كشطت السماء عنهم. ثم قال رسول الله (¬1): "فالموتى لا يعلمون بشيء من ذلك وإنما يصل الفزع إلى (¬2) الأحياء". قال: قلت: يا رسول الله فمَن استثناه الله حيث يقول: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87]؟ قال: "أولئك الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم (¬3) الله شر ذلك اليوم ويؤمنهم منه، وهو عذاب يلقيه الله شرار خلقه، وهو الذي يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} إلى قوله: {عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج:1, 2] فيمكثون في ذلك ما شاء الله له أن يطول. ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعقة فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فإذا هم خمود، فيجيء ملك الموت إلى الجبار -عَزَّوَجَلَّ- فيقول: قد مات أهل السماء وأهل الأرض، فيقول الله وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقي حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل، وإنما قال: وليمت جبريل وميكائيل وإسرافيل فيتكلم العرش فيقول: أي رب أتموت جبريل وميكائيل وإسرافيل؟ فيقول له: اُسكت فإني كتبت على من تحت عرشي الموت، فيموتون. ويأتي ملك الموت إلى الجبار -عَزَّوَجَلَّ- فيقول: أي رب مات جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيقول الله وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: أي رب بقيت أنت الحي الذي لا يموت وحملة عرشك وبقيت أنا، فيقول: وليمت حملة عرشي، فيموتون. ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (إلى) ليست في "ب". (¬3) (ووقاهم) من "ب"، وفي البقية: (ولقنهم).

ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول: أي رب قد مات حملة عرشك، فيقول وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: قد (¬1) بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خلقتك لما قد رأيت فمن ثم لا تحيى، فيموت. فإذا لم يبقَ أحد إلا الله -عزّوجلّ- ليس بوالد ولا ولد كان آخرًا كما كان أولًا، يقول: لا موث على أهل الجنة ولا موت على أهل النار، فيطوي السماء {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، ثم دحاهما ثم يتلقفهما ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار، ثم يهتف بصوته: لمن الملك اليوم لمن الملك اليوم لمن الملك اليوم؟ ثم يقول: لله الواحد القهار، ثم ينادي: ألا من كان شريكًا فليأتِ، ألا من كان شريكًا فلياتِ، ألا من كان شريكًا فليأتِ، فلا يأتي أحد. ثم تبدَّل السماء والأرض غير الأرض ويبسطها ويبطحها ويمدها مدّ الأديم العكاظي {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107] ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى في بطنها وعلى ظهرها، ومن كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها. ثم ينزل الله عليهم من تحت العرش ما يقال له الحيوان فتمطر السماء عليكم أربعين سنة حتى يكون الماء فوقكم اثني عشر ذراعًا، ثم يأمر الله الأجساد فتنبت كنبات الطراثين وكنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادكم فكانت كما كانت يقول الله جل ثناؤه: ليحيَ حملة عرشي، فيحيون، ثم يقول: ليحي جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيحيون، فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور ثم يدعو الله الأرواح فيؤتى بها (¬2) فتوهج أرواح المسلمين نورًا والأخرى مظلمة فيأخذها فيلقيها في الصور. ¬

_ (¬1) (قد) من "ي" "ب". (¬2) (فيؤتى بها) من "أ" "ي".

ثم يقول لإسرافيل: انفخ نفخة البعث، فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فيخرجون منها شبابًا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين سنة، واللسان يومئذ بالسريانية، سراعًا {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر: 8] {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]. فيوقفون في موقف حفاة عراة غلفًا غرلًا مقدار سبعين سنة لا ينظر الله إليكم ولا يقضي بينكم، فتبكي الخلائق حتى تنقطع الدموع، ثم تدمع دماء، ويعرقون حتى يبلغ منهم الأذقان أو يلجمهم، فيضجون فيقولون: مَن يشفع لنا إلى ربنا ليقضي بيننا؟ فيقولون: مَن أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلًا. فيؤتى آدم يطلب ذلك إليه فيأبى، ثم يستنفرون الأنبياء نبيًا نبيًا، كلما جاؤوا نبيًا أبى". فقال رسول الله (¬1): "حتى يأتوني فإذا جاؤوني انطلقت حتى آتي الفحص فاخرّ قدام العرش لربي ساجدًا حتى يبعث الله إلى ملكًا فليأخذ (¬2) بعضدي فيرفعني"، فقال أبو هريرة (¬3): فقلت: يا رسول الله وما الفحص؟ قال: "قدّام العرش، فإذا رفعني الملك قال: ما شأنك يا محمَّد وهو أعلم، فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفِّعني في خلقك فاقضِ بينهم، فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: قد شفعتك، أنا آتيكم وأقضي بينكم". قال رسول الله (1): "فأرجع وأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف إذ سمعنا حسًّا شديدًا من السماء فهالنا، ونزل أهل السماء الدنيا بمثلي من فيها ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) المثبت من "ب" وفي البقية "فيأخذ". (¬3) في "ب": (أبا).

من الإنس والجن، حتى إذا دنوا من الأرض وأخذوا مصافهم قلنا: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار جلّ جلاله في ظلل من الغمام يحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة، أقدامهم في تخوم الأرض السفلى والأرضون والسموات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم، لهم زجل بالتسبيح وتسبيحهم: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق، سبُّوح قدُّوس رب الملائكة والروح قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة سبحانه أبد الآبدين. ثم يضع عرشه حيث شاء من الأرض ثم يقول: وعزتي وجلالي لا يؤتى اليوم أحد بظلم، ثم ينادي نداء يسمع الخلاتق: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أبصر أعمالكم وأسمع أقوالكم فأنصتوا إلى، فإنما هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. ثم يأمر الله جهنم فيخرج (¬1) منها عنق ساطع، ثم يقول: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} ثم يقضي الله بين خلقه كلهم إلا الثقلين: الجن والإنس، ويقيد بعضهم حتى إنه ليقيد الجلحاء من القرناء، حتى إذا لم يبقَ تبعة لواحد عند آخر قال الله: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]. ثم يقضي الله بين الثقلين فيكون أول من يقضي فيه الله الدماء، فيؤتى بالذي كان يقاتل في سبيل الله بأمر الله وكتابه ويأتيه من قتل كلهم يحمل رأسه يسحب أوداجه دمًا يقولون: ربنا قتلنا هذا، فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو أعلم: ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (ويخرج).

لمَ قتلتهم؟ فيقول: أي رب قتلتهم لتكون العزة لك، فيقول الله: صدقت، فيجعل الله لوجهه مثل نور الشمس ثم تشيِّعه الملائكة إلى الجنة. ويؤتى بالذي كان يقاتل في الدنيا على غير طاعة الله وعلى غير أمر الله تعزّزًا في الدنيا، ويأتي من قتل كلهم يحمل رأسه يسحب أوداجه دمًا فيقولون: ربنا قتلنا هذا، فيقول وهو أعلم: لمَ قتلتهم؟ فيقول: أي رب قتلتهم لتكون العزة لي، فيقول الله: تعست، ويسود وجهه وتزرق عيناه، ثم لاتبقى نفس قتلها إلاقتل بها. ثم يقضي الله بين خلقه حتى إنه ليكلف الشائب اللبن بالماء يخلص الماء من اللبن، حتى إذا لم يبقَ لأحد عند أحد تبعة نادى منادٍ فاسمع الخلاتق كلهم: ليلحق كل قوبم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد عبد من دون الله شيئًا إلا مثلت لهم آلهتهم بين أيديهم، ويجعل ملك يومئذ من الملائكة على صورة عيسى فتتبعه النصارى ثم تقودهم آلهتهم إلى النار، وهي التي يقول الله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ (¬1) آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 99]. حتى إذا لم يبقَ إلا المؤمنون وفيهم المنافقون جاءهم الله سبحانه فيما شاء من هيبة فيقول: أيها الناس الحقوا بآلهتكم، فيقولون: ما لنا من إله إلا الله وما كنا نعبد غيره، ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم فيخرُّون له سجَّدًا فيسجدون ما شاء الله، وبجعل أصلاب المنافقين كصياصي البقر فيخرُّون على أقفيتهم، ثم يأذن الله فيرفعون رؤوسهم. ثم يضرب بالصراط في كتفَي جهنم كحد الشعر وكحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان دونه جسر دحض مزلة، فيمرون كخطوف العين وكلمح البرق وكمرّ الريح وكأجاويد الخيل وكأجاويد الركاب وكأجاويد الرجال، مسلَّم وناجٍ مخدوش مكردس في جهنم، فيقع خلق من خلق الله أوقعتهم أعمالهم تأخذ النار قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه ¬

_ (¬1) (وهؤلاء) من "ب" "ي".

إلى أنصات ساقَيْه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم مَن تأخذ كل جسده إلا صورهم يحرمها الله تعالى على النار. فإذا مضى أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قالوا: مَن يشفع لنا إلى ربنا ليُدخلنا الجنة؟ فيقولون: مَن أحق بذلك من أبيكم؟ خلقه بيده ونفغ فيه من روحه وكلّمه قبلًا، فيؤتى آدم فيطلب فيذكر ذنبًا فعله فيقول: عليكم شرح فإنه أول رسل الله، فيؤتى نوح فيطلب إليه فيذكر ذنبًا فعله (¬1) فيقول: عليكم بإبراهيم فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- اتخذه خليلًا، فيؤتى إبراهيم فيطلب فيقول: عليكم بموسى فإن الله تعالى قرّبه نجيًا وأنزل عليه التوراة، فيؤتى موسى فيطلب إليه فيقول: عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم، فيؤتى عيسى فيطلب إليه فيقول: سأدلُّكم على صاحب ذلك، ويقول: عليكم بمحمد صلّى الله عليه وعلى جميع (¬2) الأنبياء". قال رسول الله (¬3): "فيأتوني ولي عند الله ثلاث شفاعات وُعِدْتُهُن" ثم ذكر باقي الحديث وفيه طول (¬4). وعن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات طرحت الأقلام وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال (¬5). {مِنَ الْأَجْدَاثِ} جمع جدث وهو القبر. {مِنْ مَرْقَدِنَا} يجوز أن يكون تمام الكلام فيحسن الوقف عليه، ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد على سبيل التأكيد. وعن ابن عباس في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} قال: في افتضاض الأبكار (¬6). ¬

_ (¬1) (فعله) من "ب". (¬2) في "ب": (شفيع). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) إسحاق بن راهويه كاملًا في مسنده (10). (¬5) ابن أبي شيبة (37599). (¬6) ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة " (276، 277)، وابن جرير (19/ 460).

عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع" فقال رجل من أهل الكتاب: إن الذي يأكل ويشرب يكون له حاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك فيضمر لذلك بطنه" (¬2). وعن أبي أمامة قال: سئل رسول (¬3) الله (¬4): أينكح أهل الجنة في الجنة؟ قال: "نعم دحمًا دحمًا ولا مني ولا منية" (¬5). وعن أبي هريرة: هل يقرب أهل الجنة نساءهم؟ قال: "نعم بذكر لا يمل وفرج لا يحفى وشهوة لا تنقطع" (¬6). وعن أبي سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله إن الولد من قرّة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال: "والذي نفسي بيده إن العبد أو الرجل ليشتهي أو ليتمنى فيكون حمله ووضعه وسنه الذي بنتهي إليها في ساعة واحدة" (¬7). وقال ابن عباس: إن اشتهوا ولد لهم (¬8). والفكاهة (¬9) غاية السرور والبشاشة. {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} قال الفراء وغيره: المراد بالسلام المسلم (¬10)، أي دعواهم مسلمة لا منازعة فيها، وقوله: {قَوْلًا} أي ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أحمد (4/ 367)، والنسائي في الكبرى (11478)، والطبراني في الأوسط (1722)، والحديث صحيح. (¬3) (رسول) ليست في "أ". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) رواه الترمذي (2487)، وابن ماجه (4329). (¬6) الطبراني في الكبير (7674)، وفي مسند الشاميين (956)، والحديث صحيح. (¬7) هناد في الزهد (87) وفي سنده ضعف. (¬8) لم نجده عن ابن عباس. (¬9) في "ب": (الفاكهة). (¬10) ذكره الفراء في معانيه (2/ 380).

وعدناهم هذه الأشياء وعدًا، وقيل (¬1): التقدير: ولهم ما يدعونه (¬2) قولًا مسلمًا {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} هذه الآية في تهديد قريش أن يصيبهم الله ببلاء في الدنيا. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ} كأنهم استنكروا (¬3) الطمس والمسح فذكرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بنكس الشاب العاقل المستوي إذا صار شيخًا ضعيفًا هرمًا على سبيل الاستدلال. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الركوب ما يركب كالقعود ما يقعد عليه والظهور ما يظهر به. {مُحْضَرُونَ} مأخوذون مأسورون غير ممتنعين ولا منتصرين. {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} غير مفسر هاهنا {إِنَّا نَعْلَمُ} كلام مبتدأ من جهة الله. عن الكلبي عن مجاهد قال: أتى أُبي بن خلف الجمحي إلى رسول الله (¬4) بعظم بالٍ ففتّه بيده ثم قال: يا محمَّد أتعدنا إذا متنا وكنا مثل هذا بُعثنا؟ فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية (¬5). عن أُبي بن كعب عنه -عليه السلام- قال: "إن لكل شيء قلبًا وقلب القرآن يس، ومَن قرأ يَس يريد الله به غفر له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن ثنتي عشرة مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت كان له بعدد كل حرف في سورة يَس عشرة مرة أملاك يقومون بين بديه صفوفًا يصلُّون ¬

_ (¬1) (وقيل) ليست في "ب". (¬2) في "ب": (ما يدعون). (¬3) في "ب": (استكرهوا). (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3202)، والطبري في تفسيره (19/ 486).

عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت أو من قرئت عليه لم يقبض ملك الموت روحه إلا وهو ريان فيمكث في قبره وهو ريان ويبعث يوم القيامة وهو ريان، [ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان] (¬1) ". وعن علي عنه -عليه السلام-: "مَن كتب يس ثم شربها دخل جوفه ألف نور وألف رحمة وألف بركة وألف دواء وأخرج منه ألف داء" (¬2). ... ¬

_ (¬1) ما بين [...]، ليست في الأصل. (¬2) هذا جزء من حديث أبي الموضوع وقد مرّ الكلام عليه.

سورة الصافات

سُورَةُ الصَّافَّاتِ مكية (¬1)، وهي مائة واثنتان وثمانون آية في غير عدد أهل البصرة (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} للعرب طريقة في القسَم بالأشياء الكريمة عندهم العزيزة عليهم من غير ضرورة يريدون بذلك تأكيد أخبارهم وأن يبلغ كلامهم من المخاطبين كل مبلغ، فأقسم الله لتأكيد الأمر وتفخيمه بأنفس صافات وأنفس زاجرات وأنفس تاليات من خلقه، فذهب أكثر المفسرين إلى أنها الملائكة (¬3)، فإن كان كذلك فالتاء للمبالغة كما في علامة ونسّابة. والصافات من الملائكة هم الذين في صفوف الصلاة. {فَالزَّاجِرَاتِ} هم الذين يزجرون السحاب بإذن الله (¬4)، والزجر كالنهي والرد، والازدجار: افتعال منه. ¬

_ (¬1) نقله عن ابن عباس ابن الضريس (17، 18)، والنحاس في ناسخه (637)، والبيهقي في الدلائل (7/ 142 - 144)، وانظر: "الدر المنثور" (12/ 382)، و "البيان" لأبي عمرو الداني (212). (¬2) عدّ أهل البصرة (182) آية، انظر: "البيان" لأبي عمرو الداني (212). (¬3) قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد، نقله عنهم الطبري (19/ 492) وابن أبي حاتم (10/ 3204) وابن الجوزي (3/ 535) وهم الملائكة صفوف في السماء. (¬4) أي الملائكة التي تزجر السحاب كما قاله مجاهد والسدي (الطبري 19/ 493) ورجحه الطبري.

{فَالتَّالِيَاتِ} هم الذين يتلون رسالات الله على أنبيائه عليهم السلام (¬1). {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} مشارق النجوم أو مشارق الشمس (¬2) على جدتها؛ فإنها تطلع كل يوم من مشرق آخر. {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} قال الفراء (¬3): معنى (لا) كقوله: {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ (¬4)} [الحجر: 13،12] ولو كان في موضع (لا) (أن) صلح ذلك كما في قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] يريد الفراء كون الفعل المتأخر المنفي معلولًا بالفعل المتقدم المثبت مرتفعًا فحذف الناصبة معنى، قال الحجاج في ابن عباس: إن كان لمعقنا يريد ثاقب العلم، والفضل ما شهدت به الأعداء. {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} تقرير ضعفهم وتقريب إعادتهم من اتهامهم على ما يتصور في أوهامهم كقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} [النازعات: 27]. وعن النعمان بن بشير {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: أمثالهم (¬5). {فَاهْدُوهُمْ} أمر بالسوق. {وَقِفُوهُمْ} أمر بالوقف بعد الأمر بالسوق إنما هو إن شاء الله لتكرار الأمر بالسوق وتضعيف الخوف والهول عليهم. ¬

_ (¬1) وهم الملائكة يتلون رسالات الله على أنبيائه. قاله مجاهد والسدي، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (19/ 494). (¬2) قال قتادة والسدي: هي مشارق الشمس وهي ستون وثلاثمائة مشرق والمغارب مثلها عدد أيام السنة. رواه عنهما الطبري في تفسيره (19/ 496) وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3204). (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 383). (¬4) (به) من "أ" "ي". (¬5) روي عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في هذه الآية {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [لصَّافات: 22] يقول: ضرباءهم، وهو بمعنى أمثالهم. أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 519) وأخرجه الحاكم (2/ 430).

{عَنِ الْيَمِينِ} اقتصار على أحد طرفَي الكلام ومعناه عن اليمين أو الشمال، وقيل: المراد باليمين جهة الدين والحق أي كنتم تأتوننا من قبل الحق فتلبسونه علينا، والعرب تنسب الحق والخير إلى اليمين. {لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} باختياركم. {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} دعوناكم (¬1) إلى الغواية من غير إكراه. {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} خطاب متوجه إلى كفار قريش. {بِكَأْسٍ} بقدح ممتلىء بالشراب. {بَيْضَاءَ} صفة الكأس {لَذَّةٍ} أي ذات لذة. {لَا فِيهَا غَوْلٌ} غليلة. قال أبو الهيثم: يقال: غالت الخمر بفلان إذا ذهبت بعقله أو صحة بدنه. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} غاضّات البصر {عِينٌ} جمع عيناء وهي الواسعة العين (¬2) {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} جمع بيضة وهي التي فيها فرخ الطائر، و (المكنون) الذي في رحم الأنثى بعد، وإنما شبه بالبيض إن شاء الله لبياض لونه وملاسته وكونه غير مثقوب (¬3)، وطيب مذاقه وقربه من طباع الحيوان، وبالمكنون لرقة قشره ولينه ولطافته. وقال الكلبي: المراد بالمكنون المصون عن الحر والبرد لئلا يفسد ولا يتغير. وعن ابن مسعود أن المرأة من نساء أهل الجنة من الحور العين لتكون عليها سبعون حلة وإنه ليُرى مخ ساقها من فوق عظمها ولحمها وثيابها كما يبدو الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء. {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} مثل يهوذا أو قرينة مثل قطروس على ما بيّنّا في سورة "الكهف". ¬

_ (¬1) في "أ" "ب": (دحوناكم). (¬2) قاله السدي وابن زيد وتبعهم الزجاج [زاد المسير (3/ 541)]. (¬3) في الأصل و"أ": (متقرب).

{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} أمر في غاية الرفق. {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)} سؤال منه لأصحابه الذين معه للجنة أو للملائكة على سبيل التقدير يريد به تقريع قرينه الكافر. {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} تأكيد للكلام (¬1) من حيث قطع توهم السامع أن يكون (¬2) الكلام عامًّا في اللفظ خاصًّا في المعنى مطلقًا على نيّة الاستثناء كقولك لغريمك: ما لي عليك حق إلا الذي أخذته منك، وقريب منه قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. {الزَّقُّومِ} حمل شجرة عقباوية ليست في الدنيا كما أن طوبى شجرة (¬3) جنوية. {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} من وجهين، أحدهما: كون عينها عذابًا لأهل النار، والثاني: كون اسمها سببًا لضلالة الكفار لأنه موافق لاسم الزبد مع التمر على لغة حمير أو الحبشة. {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} لرؤية المخاطبين الغيلان والتعالي في أسفارهم في الفلوات أو لقبح تصور الشياطين في الأوهام، وقيل: أراد بالشياطين الحيّات فإن العرب تسمِّي الحيّة شيطانًا. قال الراجز: عنجردٌ سليطة وثابة ... كمثلِ شيطانِ الحماط أعرفُ (¬4) ¬

_ (¬1) في "أ": (تأكيد الكلام). (¬2) في "أ" "ي". (كون). (¬3) (شجرة) من "ب" "ي". (¬4) هذا البيت ذكر في لسان العرب (13/ 238) دون نسبته إلى قائله، ولفظه: عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف قال الأزهري والفراء: امرأة عنجرد خبيثة سيئة الخلق، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانًا. وانظر: تهذيب اللغة (4/ 233) وتاج العروس (8/ 423) أيضًا بدون نسبة إلى قائله.

{لَشَوْبًا} مزجًا وخلطًا. {إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} كأنهم يخرجون عند أكل الزقوم من الجحيم في سواء أي ضحضاح في الجحيم أو النار ثم يرجعون بهم إلى سواء الجحيم، ويحتمل أن الضمير في قوله: {مَرْجِعَهُمْ} عائد إلى الأحياء من كفار قريش وأمثالهم دون الأموات الذين دخلوا النار. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} من قولهم: {سَلَامٌ} أو تركنا عليه الصيت والذكر في الآخرين، أو تركنا عليه البركة في أعقابه ليكون قوله: {سَلَامٌ} ابتداء كلام من جهة الله تعالى. الظاهر من كتاب الله أن الغلام الحليم هو إسماعيل -عليه السلام- (¬1)، وأن البشارة بإسحاق وهو الغلام العلم غير البشارة الأولى، وإذا كان كذلك فقضية الظاهر أن الذي بلغ معه السعي وكان من أمره ما كان هو إسماعيل -عليه السلام-، وكذلك قوله -عليه السلام- (¬2): "أنا ابن الذبيحين" (¬3). وعن عطاء بن يسار قال: سالت خوّات بن جبير (¬4) عن ذبيح الله أيهما كان؟ فقال: إسماعيل (¬5). {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} رأى إبراهيم في منزله بالشام أن يذبح إسماعيل بمكة فركب إبراهيم إليه على البراق حتى جاءه فوجده عند أمه فأخذ بيده ومضى به لما أمر به، وجاء الشيطان في صورة رجل يعرفه ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (وكذلك قوله -عليه السلام-) ليست في "أ"، و (السلام) ليست في "ي". (¬3) ذكره في تاج العروس (6/ 369)، وقال: أنكر هذا الحديث جماعة وضعفه آخرون وأثبته أهل السير. انظر كتاب الكليات (1/ 115). (¬4) خوات بن جبير الأنصاري المدني شهد بدرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُحدًا والمشاهد بعدها، معدود في الصحابة. [الإصابة (2/ 346)، الاستيعاب (2/ 455)، التاريخ الكبير (3/ 216)]. (¬5) الحاكم (2/ 605) بسند فيه الواقدي.

فقال: يا إبراهيم أين تريد؟ قال إبراهيم -عليه السلام- (¬1): في حاجتي، قال: تريد أن تذبح إسماعيل، قال إبراهيم -عليه السلام- (¬2): وهل رأيت والدًا يذبح ولده؟ قال: نعم أنت، قال إبراهيم -عليه السلام- (1): ولمَ؟ قال: تزعم أن الله أمرك بذلك، قال إبراهيم -عليه السلام- (1): فإن كان الله أمرني بذلك فقد أطعتُ الله وأحسنت، فانصرف عنه. وجاء إبليس إلى هاجر فقال: أين يذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به في حاجته، قال: فإنه يريد أن يذبحه، قالت: وهل رأيت والدًا يذبح ولده؟ قال: نعم هو، قالت: ولمَ؟ قال: يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: فقد أحسن حين أطاع ربه. ثم أدرك إسماعيل -عليه السلام- (1) قال: يا إسماعيل أين يذهب بك أبوك؟ قال: لحاجته، قال: فإنه يذهب بك ليذبحك، قال: وهل رأيت والدًا يذبح ولده؟ قال: نعم هو، قال: ولمَ؟ قال: يزعم أن الله أمره بذلك، قال: فقد أحسن حين أطاع ربه. قال: فخرج به حتى انتهى إلى مني إلى حيث أُمر، ثم انتهى إلى منحر البدن اليوم فقال: يا بني إن الله قد أمرني أن أذبحك، قال إسماعيل -عليه السلام- (1): فأطع ربك فإن في طاعة ربك كل خير، ثم قال إسماعيل -عليه السلام- (1): هل أعلمتَ أمي بذلك؟ قال: لا، قال: أصبت، إني أخاف أن تحزن ولكن إذا قرّبت السكين فأعرض عني فإنه أحرى أن تصبر ولا تراني، ففعل إبراهيم -عليه السلام- (1) فذهب يحز في حلقه فإذا هو يحز في نحاس ما يحبك الشفرة، فشحذها مرتين أو ثلاثًا بالحجر، كل ذلك لا يستطيع أن يحبك، قال إبراهيم -عليه السلام-: اللهم (¬3) هذا الأمر لله، فرفع رأسه فإذا هو بوغل واقف بين يديه، فقال إبراهيم -عليه السلام- (1): قم يا بني قد نزل فداؤك، فذبحه هناك (¬4). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (-عليه السلام-) من الأصل فقط. (¬3) (اللهم) من "ب". (¬4) قصة الذبيح هذه أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3222) عن كعب الأحبار =

وعن سعيد بن المسيب أن الذبيح إسحاق (¬1)، قال: فلما بلغ معه السعي كان إسحاق معه وإسماعيل لم يكن معه ولكنه كان بمكة. وعن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي -عليه السلام- (¬2) قال: "الذبيح هو إسحاق" (¬3). وعن الأحنف بن قيس عن النبي -عليه السلام- (¬4)، وعن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب، وعن يوسف بن مهران. وعن ابن عباس، وعن عطاء بن دينار عن عمر بن الخطاب، وعن كثير بن كليب الجهني عن عثمان بن عفان، وعن بسر بن سعيد الحضرمي عن أُبي بن كعب، وعن القاسم عن أبي الدرداء، وعن قتادة عن ابن مسعود وابن عمر، وعن الزهري مثله، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الصخرة التي في أصل ثبير هي التي ذبح عليها إبراهيم -عليه السلام- (¬5) (¬6). وعن عبد الله بن سلام قال: أراد أن يذبحه في جبل بيت المقدس إلا أن قبول الأخبار بذبح إسماعيل وكون المذبح بمنى أسرع إلى قبول غيرها، وسبب الاختلاف ما روي عن عبد الله بن سلام قال: كنا نتعلم في كتاب يهوذا الذي لم يبدل: هو إسماعيل -عليه السلام- (6)، ففي هذا الحديث ما يدل على ¬

_ = حدّث بها أبا هريرة، والطبري في تفسيره (19/ 580) عن السدي، والبغوي في تفسيره (7/ 47). (¬1) الذي روي عن سعيد بن المسيب أن الذبيح هو إسماعيل. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3223)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 547)، والقرطبي (15/ 100) ولعل المؤلف وهم في ذلك. (¬2) في "ب" بدل (-عليه السلام-): (صلّى الله -عليه السلام-). (¬3) هذا الحديث معروف عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - مرفوعًا. أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 588)، وتاريخه (1/ 263)، والبخاري في تاريخه (2/ 292)، وابن أبي حاتم (10/ 3223)، والحاكم في مستدركه (2/ 556)، ولم نجده عن زيد بن أسلم كما ذكر المؤلف. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) الحاكم (2/ 609). (¬6) (-عليه السلام-) ليست في "أ".

أن سبب الاختلاف هو تحريف اليهود وتبديلهم، فإن كان النبي -عليه السلام- (¬1) ذكر أنه إسحاق فإنما يكون ذكر ذلك على زعم اليهود من غير توقيف إلهي حتى أخبره الله بعد ذلك أو أخبره عبد الله بن سلام بحقيقة الأمر كما أخبره بقصة الرجم، ثم نجمع بين الأحاديث فنقول: يجوز أن ذبح إسماعيل في بعض الأحوال والمحال وفداه الله تعالى إياه وذبح أخيه في بعض الأحوال والمحال وفداه الله إياه وإخبار الله تعالى عن ذبح إبراهيم أحد بنيه لا يدل على نفي الآخر. ونظر إبراهيم في النجوم قيل: رمى ببصره إلى السماء ليتذكر جبلة، وقيل: أطرق ورمى ببصره إلى نجوم الأرض متفكرًا، وقيل: نظر في نجوم رأيه وهي خواطره التي تنجم له، وقيل: كان قومه يتعاظمون على النجوم فتشبّه بهم ليعذروه. في قوله {سَقِيمٌ} أي سأسقم. {فَرَاغَ} انصرف خفية على سبيل الاستراق، ومنه روغان الثعلب. {بِالْيَمِينِ} هي اليد اليمين، وقيل: القوة، وقيل: الجلد، وهو قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]. {وَتَلَّهُ} صرعه وأناخه {لِلْجَبِينِ} وهو أحد جانبَي الجبهة تذبح وهو ما أعدّ للذبح. عن ابن عباس {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)} قال: من المصلِّين (¬2). وعن أُبي بن كعب: سألت رسول الله (¬3) عن قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} قال: "عشرون ألفًا" (¬4) أبق على سبيل المعصية، وكان يونس قد مرق من الملك على ما سبق، ¬

_ (¬1) (-عليه السلام-) ليست في "أ". (¬2) أخرجه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (19/ 629)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 155) وابن أبي حاتم (10/ 3229). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله -عليه السلام-). (¬4) الترمذي (3229)، وابن جرير (19/ 637)، وابن أبي حاتم (10/ 3230).

و {مُلِيمٌ} الذي يأتي لما يلام عليه. {بِالْعَرَاءِ} الفضاء والهواء. {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} إن كان المراد بالجنة الملائكة (¬1) فعلّمهم {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} علّمهم أنهم ميتون بحكم الله تعالى ثم (¬2) مبعوثون بإذنه ليوم الجمع لا ريب فيه، أو علمهم أن المشركين محضرون في النار، وإن كان المراد بالجنة الشياطين، فعلمهم بأنهم محضرون علمهم بأنهم يدخلون النار لكون أبالسته آيسين من رحمة الله. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} استثناء من المحضرين، وقيل: من الواصفين. {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الضمير (¬3) عائد إلى ما يعبدون. وعن إبراهيم قال في قوله: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}: إن (¬4) الأمر قدر عليه أن يصلى الجحيم، وقيل: إنكم لا تفتنون بآلهتكم إلا من سبق عليه مني أنه يصلى الجحيم. في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا} الآيات دلالة على أن الله تعالى أعلى كلمة جميع عباده المرسلين، وأهلك أعداءهم المنذرين غير أوليائهم. {بِسَاحَتِهِمْ} بفناء دارهم. روي أن النبي -عليه السلام- (¬5) لما حاصر خيبر قال: "الله أكبر الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباح المنذرين" (¬6). ¬

_ (¬1) وهو قول مجاهد وقتادة والسدي. أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 645) وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النسب الذي زعموه لله هو قولهم: إن الله وإبليس أخوان -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-. (¬2) (ثم) ليست في "ب" "ي". (¬3) (الضمير) ليست في الأصل. (¬4) في "ب": (لأن). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) انظر مشارق الأنوار (2/ 229) لسان العرب (10/ 20 بزق).

عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله (¬1) عن سبحان الله قال: "تنزيه الله عن الشر" (¬2) وسئل ابن الكواء عن علي قال: كلمة رضيها الله لنفسه (¬3). وعن أُبي بن كعب عن النبي -عليه السلام- (¬4) قال: "مَن قرأ سورة الصافات أُعطي عشر حسنات بعدد كل جنِّي وشيطان، وتباعدت عنه مردَة الشياطين وشهد له حافظاه أنه مؤمن بالمرسلين" والله أعلم (¬5). ... ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) الحاكم (1/ 680)، والطبراني في الدعاء (1751)، وسنده ضعيف لإرساله، وموسى بن طلحة التيمي المدني من التابعين ولذلك أرسله. (¬3) الأثر في لسان العرب (2/ 471 - سبح) ونسبه إلى الأزهري بإسناده ولم نجده في تهذيب اللغة. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) سبق أن ذكرنا أن هذا حديث موضوع.

سورة ص

سُورَةُ صَ مكية (¬1)، وهي ست وثمانون آية في عدد أهل الحجاز والشام (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اشتكى أبو طالب فعاده أبو جهل في نفر من قريش فشكوا إليه النبي -عليه السلام- (¬3)، فأرسل إلى النبي -عليه السلام- (3) فجاء رسول الله (¬4) بيت أبي طالب [وبينه وبينهم قدر] (¬5) فجلس رجل، فلما رآه أبو جهل قام فجلس في ذلك المجلس فجلس رسول الله على عتبة الباب، وقال له أبو طالب: إن بني عمك يشكونك، قال: "أريد منهم أن يتكلموا بكلمة (¬6) تدين لهم العرب وتعطي العجم بها جزية" قال: وما هي؟ قال: "لا إله إلا الله" قال: فقاموا منه فزعين، ونزلت {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} (¬7) أي ذي الشرف. {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} والتقدير ¬

_ (¬1) نقل عن ابن عباس مكيتها عن ابن الضريس (17)، والنحاس في ناسخه (643)، والبيهقي في الدلائل (7/ 143، 144)، وانظر "البيان" للداني (214). (¬2) انظر "البيان" (214) وفي البصري (58) آية. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) ما بين [...] من المصادر. (¬6) (بكلمة) ليست في "أ". (¬7) الترمذي (3232)، والنسائي في الكبرى (11436، 11437)، وأحمد (1/ 227)، =

في الصاد على قضية هذا الحديث أنها إشارة إلى جواب القسم فكأنه قيل: صدقت (¬1) {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وقيل: جواب القسم مضمر، والقرآن ذي الذكر إنك لناصح (¬2). وقيل: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} جواب القسم كقولك لخصمك: والله أنت مبطل، وقيل: جواب القسم {كَمْ أَهْلَكْنَا} كقولك لأخيك: أقسم عليك بالله هل رأيت فلانًا (¬3). وقيل: جواب القسم {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ولا يحتمل هذا إلا أن يخرج الكلام من الحكاية ويجعله كلامًا مبتدأً من جهة الله تعالى، وقيل: جواب القسم {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} على احتمال كلام المبتدأ. وقيل: جواب القسم {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} وقيل: جواب القسم (¬4) {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (¬5) (64)} [صَ: 64] الكتاب (¬6)، وامتنع الفراء عن إجازة هذا القول (¬7). {وَلَاتَ} التاء زائدة في (لا) النفي كما زيدت (ثم) وربّ، وقال ¬

_ = وابن جرير (20/ 19، 20)، وابن أبي حاتم كما عند ابن كثير في تفسيره. والحديث ضعيف. (¬1) قاله الضحاك. أخرجه الطبري في تفسيره (20/ 7) وهو مروي عن ابن عباس. ذكره ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (3/ 557). (¬2) من قال إنه مضمر الحوفي وابن عطية والزمخشري وأبو حيان، والجميع اختلفوا في تقدير هذا المضمر. [المحرر (14/ 7)، الكشاف (3/ 359)، البحر (7/ 383)]. (¬3) وهذا قول ثعلب والفراء. [معاني القرآن (2/ 397)]. (¬4) وهو قول الزجاج والكوفيون غير الفراء. [معاني القرآن للزجاج (4/ 319)]. (¬5) (النار) ليست في "ي" "أ". (¬6) (الكتاب) ليست في الأصل. (¬7) انظر معاني القرآن للفراء (2/ 397).

سيبويه (¬1): هي مشبهة بليس (¬2)، وقال الفراء: معناها ليس (¬3) ولو كان كذلك الاسم مرتفعًا، وقيل: التاء زائدة في حين، وأنشد (¬4): العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان (¬5) ما من مطعم {مَنَاصٍ} والنوص بالنون والبوص بالبا العرض (¬6). {أَنِ امْشُوا} ترجم للانطلاق، وقيل: ترجمة للمضمر تقديره: وانطلقوا قائلين أن امشوا ترجمة للكبار {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} إن كان جواب القسم فالإشارة واقعة إلى شقاق المشركين، وإن كان قول المشركين، فالإشارة إلى أمر رسول الله (¬7) {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ} إن كان جواب القسم؛ فالإشارة واقعة إلى ما وعدهم النبي -عليه السلام- (¬8) على كلمة الإخلاص من طاعة العرب واستسلام العجم، وإن كان من قول المشركين؛ فالإشارة واقعة إلى الصبر على الآلهة (¬9) أي هو شيء يرضاه الله، ويجوز أن تكون الإشارة على قوله واقعة إلى خلاف رسول الله (¬10) أي هو شيء يتمناه كل أحد (¬11) ليذكر وليتشرف به على غيره. ¬

_ (¬1) بدل (سيبويه) فراغ في "أ". (¬2) ذكره سيبويه في الكتاب (1/ 28) وقال: لات مشبهة بـ"ليس" والاسم فيها مضمر أي ليست أحياننا حين مناص. (¬3) ذكره في معانيه (2/ 379). (¬4) البيت لأبي وجزة السعدي كما في لسان العرب، مادة (اون)، والزجاجي في "حروف المعاني" (70)، وغريب الحديث لابن سلام (4/ 250)، والمحكم (3/ 446). (¬5) في المخطوطات (تحين) والمثبت من المصادر. (¬6) قال الفراء: النوص: التأخير في كلام العرب، والبوص: المتقدم. قال امرؤ القيس: أَمِن ذكر ليلى إذْ نأتكَ تَنُوصُ ... وتقصر عنهاخُطْوةً وتَبُوصُ [معاني القرآن (2/ 397)]. (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وبدلها في "ي" السلام محذوفة. (¬9) في "أ": (الآية) بدل (الآلهة). (¬10) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬11) في الأصل: (واحد).

{فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قال مجاهد: النصرانية (¬1)، وقال الحكم بن عتيبة (¬2): ملة محدثة في أيام الفترة، وقال الكلبي: اليهودية والنصرانية (¬3)، وقيل: ملة قريش (¬4) التي أحدثها لهم عمرو بن لحي. {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} (ما) للنفي على لغة تميم وتقديره: جند هنالك ما هو مهزوم من الأحزاب، أو جند ما هو هنالك بمهزوم، أو هو جند ما هو بمهزوم هنالك، فإن صحّ هذا المعنى فالمراد بالجند الملائكة، وهنالك إشارة إلى الأسباب و (من) للتسبُّب (¬5) كما في قولك: ما زيد بمنهزم من عمرو. والثاني: أن تكون (ما) صلة دخولها كخروجها، وتقديره: جند هنالك مهزوم من الأحزاب أو هم جند مهزوم هنالك. والثالث: أن تكون (ما) التي يجوز بها كون المذكور على أنه صفة تدركها الأوهام تقديره: جندنا كان كيف، فإن صحّ أحد هذين المعنيين فالإشارة بهنالك واقعة إلى بدر أو بعض المشاهد التي انهزم فيها المشركون، ويكون (من) للجنس أي جند من جنس الأحزاب، والأحزاب الذين تحزّبوا على أنبياء الله عليهم السلام. {ذُو الْأَوْتَادِ} جمع وتد وهي ما تركزه في الأرض، وقيل: المراد بالأوتاد قصوره الثابتة في الأرض مثل الجبال، وقيل أربعة أوتاد كان يمد بينها لمن (¬6) يعذبه من الناس، وقيل: كانت أوتاد تلعب السحرة عليها بين يديه (¬7). ¬

_ (¬1) ابن جرير (20/ 21، 25) وهو قول ابن عباس كما ذكره ابن جرير. (¬2) في الأصل و"ب": (عتبة). (¬3) عزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (7/ 103) للفراء والزجاج. (¬4) هذا مروي عن مجاهد كما في الدر المنثور (12/ 508)، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير (20/ 23، 25). (¬5) (ومن للتسبُّب) ليست في "أ". (¬6) (يمد بينها لمن) بدلها في الأصل: (كان يمده نبيها). (¬7) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (20/ 30).

{فَوَاقٍ} مقدار استراحة (¬1) الناقة بين الحلبتين (¬2). وعنه -عليه السلام- (¬3): "العبادة مقدار فواق الناقة" (¬4). {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} اتصاله صرف الله نبيه عن أذى قومه إلى ما يتسلى بها أو يذكر الله ما ابتلى به داود -عليه السلام- (¬5) ليهون على رسول الله على كلمة الإخلاص أن تدين لهم بها العرب ويعطي العجم جزيتها، فإن داود -عليه السلام- (5) أوتي ما أوتي بكلمة لا إله إلا الله، وكانت قريش وسائر (¬6) العرب يعرفون داود -عليه السلام- (¬7) ويعترفون بسلطانه في الأرض. وعن ابن عباس: لم أدرِ ما صلاة الضحى حتى أتيت على هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (¬8) إذا أشرقت الشمس. {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} فصل القضاء بالشهود والأيمان عند مجاهد والحسن (¬9). وعن الشعبي عن زياد أنه قول الخطيب: أما بعد (¬10). {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} مصدر ويجوز أن يكون اسمًا كالصفة {إِذْ تَسَوَّرُوا} تسلّقوا. ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (استراحته). (¬2) قاله الفراء في معانيه (2/ 400)، وأبو عبيدة كما في تهذيب اللغة (9/ 254). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) ذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (3/ 945)، والأزهري كما في تهذيب اللغة (9/ 254). (¬5) (السلام) من "ب" "أ". (¬6) في الأصل: (وسائر). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) عبد الرزاق في المصنف (4870). (¬9) أما عن مجاهد فعند ابن جرير (20/ 49)، وأما عن الحسن فعند السيوطي في الدر (12/ 523) ورواه عبد بن حميد وابن المنذر. (¬10) ابن أبي شيبة (22968)، والطبري (20/ 51)، والبغوي في تفسيره (7/ 78).

{إِذْ دَخَلُوا} يعني ملكان مع كل واحد عدد معين له وقيل: لم يدخل عليه إلا ملكان لكن كنى بلفظ الجماعة لاعتبار وجود معنى الجمع والضم، قال الله تعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] ثم قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، وقال لآدم وحواء: {اهْبِطُوا} [البقرة: 36] وكون الابنتين والأختين كما فوقهما في الميراث. {خَصْمَانِ} أي نحن خصمان. {نَعْجَةً} وهي الأنثى من الضأن والبقر أو البقر الوحش والشاة الحبلى وجمعها نعاج، وهذا مثل ضرباه للنساء، وكان داود تحته تسع وتسعون امرأة وكانت عند أوريا امرأة واحدة {أَكْفِلْنِيهَا} أي سلّمها إليّ واجعلني كفيلها، والقصة فيه أن داود -عليه السلام- (¬1) دعا ربه ذات يوم فقال في دعائه: يا رب أخِّر ذكري بعد وفاتي في أفواه بني إسرائيل ليذكروني في صلاتهم كما يذكرون إبراهيم (¬2) وإسماعيل وإسحاق (¬3) ويعقوب -عليه السلام-، فأوحى الله تعالى أن هؤلاء ابتليتهم وأنت لم أبتلك بشيء مما بلوا به، فقال: إلهي وبمَ ابتليتهم؟ فأوحى الله إليه أني ابتليت إبراهيم فصبر على النار فصيّرتها عليه بردًا وسلامًا، وابتليت إسماعيل بالغربة عن أبيه فآويته وأحسنت مثواه (¬4) ومثوبته وأوفدت إليه أمة من الناس فآنست بهم وحشته وأغنيت بهم فقره ولممت بهم شعثه، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر لأمري ورضي بقضائي ففديته بذبح عظيم ونجّيته من الكرب الشديد، وابتليت يعقوب بفقد حبيبه يوسف. فقال داود: إلهي فابتلني واجعل اسمي مع أسمائهم في أفواه بني إسرائيل عند صلاتهم، فأوحى الله إليه إذ لم تقبل العافية فسأوتيك البلية، ثم أمهله الله -عَزَّ وَجَلَّ- حتى نسي مسألته، فبينا هو ذات يوم في مسجده يقرأ الزبور وكان ذلك المسجد مشرفًا على بستان من بساتين بني إسرائيل، وفي ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (إبراهيم) في الأصل مكررة. (¬3) (وإسحاق) ليست في الأصل. (¬4) (مثواه) من "ب" وفي البقية (مثوبه).

ذلك البستان عين ماء ينتهي إلى حوض معمول لنساء بني إسرائيل لتغتسلن فيه عند حيضهن، فبينما هو كذلك إذ سقطت حمامة أمامه كأنها من ذهب وجناحاها كالياقوت الأحمر وذنبها كالزمرد الأخضر ومنقارها كالدر الأبيض ومخالبها كالفيروزج الأزرق، فلما رآها أعجبه حسنها فظنّ أنها من طيور الجنة، فقام ليأخذها، فطارت حتى سقطت على حائط ذلك البستان، فمشى نحوها وأهوى بيده إليها فأصاب طرف أصابعه جناحها وانقضت في البستان فظن أنه صرعها. فأشرف على البستان فإذا هو بامرأة من نساء بني إسرائيل تغتسل في ذلك الحوض من أجمل ما يكون من النساء، فبقي مسترخيًا ينظر إلى جمالها وحُسن خلقها، ونظرت المرأة إلى صورة رجل في الماء فرفعت رأسها فإذا هي بداود -عليه السلام- مشرفًا عليها، وأرخت شعرها فجلّل ما بين رأسها إلى قدميها، فوقعت بقلب داود -عليه السلام-، وسأل عنها فأُخبر أنها امرأة أوريا، وكان أوريا بناحية من أرض الشام في خيل عظيمة عليها ابن أخت لداود -عليه السلام-، يقاتل خيلًا من كفار أهل ذلك القصر ومعهم التابوت الذي ذكره الله في كتابه {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] فكان من تقدم من بني إسرائيل على التابوت يوم القيامة لم ينصرف حتى يقتل أو يظفر. فكتب داود إلى ابن أخيه (¬1) يأمره أن يقدم أوريا أمام التابوت، فلما قرأ الكتاب على أوريا قال: إن نبي الله داود لم يقدمني إلا وقد علم أنني مقتول، فتقدم فقاتل حتى قُتل هو ومَن كان معه، فامهل داود المرأة حتى انقضت عدتها ثم تزوج بها. فبينا يصلي داود -عليه السلام- (¬2) ذات يوم في المحراب إذ تسوّر عليه الملكان المحراب حتى هبطا عليه في صورة رجلين، فخاف أنهما يريدانه بسوء وغضب على حراسه فقالا: {لَا تَخَفْ} فإنا {خَصْمَانِ} قال لهما: ¬

_ (¬1) في "أ" "ي": (أخته). (¬2) (السلام) ليست في "ي".

ارجعا ليس هذا يوم قضاء، قالا: حاجتنا يسيرة، قال: هاتها، قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} إلى آخر الآية. فحكم بينهما، فارتفعا في السماء وهو ينظر إليهما وهما يقولان: يا داود حكمتَ على نفسك، فعلم عند ذلك أنه مفتون فخرّ مغشيًا، ثم أفاق وهو يقول: إلهي كيف أعمل ولستَ تغفل عني؟ إلهي كيف أعمل إن لم تقبل توبتي؟ إلهي كيف أعمل وكيف أتوب وكيف توبتي؟ إلهي كيف أعتذر ولا عذر لي؟ إلهي كيف ألقاك وأنا صاحب الخطية؟ إلهي كيف ألقاك وأنا صاحب البلية؟ إلهي ما حجتي يوم ألقاك وأنا صاحب [الزلة (¬1)؟ إلهي ما حجتي يوم ألقاك وأنا صاحب أوريا؟ إلهي ما حجتي يوم ألقاك وأنا صاحب الذنب العظيم] (¬2)؟. قال: فأوحى الله إليه: أجائع أنت فأسبغك أم عطشان فأرويك أم عار فأكسوك؟. فقال: إلهي أنت أعلم بحاجتي، قال: فأوحى الله إليه أن انطلق إلى قبر أوريا فإني قد أذنت له في كلامك فاستوهبه الذنب، فإن وهبه لك غفرته لك. فانطلق داود -عليه السلام- إلى قبر أوريا وكان قد نقل إلى بيت المقدس، فدعاه داود -عليه السلام- فأجاب أوريا: مَن الذي أيقظني من نومي وقطع علي لذتي؟. قال داود -عليه السلام-: أنا أخوك داود. قال: مرحبًا بك يا نبي الله فما حاجتك إليّ؟. قال: ذنب كان مني إليك. قال: جعلتك في حل. ¬

_ (¬1) في "أ": (البلية). (¬2) ما بين [...]، ليست في الأصل.

فانصرف داود وقد ذهب بعض همه، فبينا (¬1) هو يمشي منصرفًا إذ أوحى الله إليه: يا داود إني حكم عدل لا أحكم بالغيب، فانصرف إليه وبيّن له الذنب، فانصرف داود -عليه السلام- على فوره إلى قبره، ثم دعا فأجابه: مَن هذا الذي أيقظني من نومي وقطع عليّ لذتي؟. قال: أنا أخوك داود. قال: فيما (¬2) عدت إلى يا نبي الله؟. قال: أستوهبك الذنب الذي كان مني إليك. قال: أوَلم أجعلك في حِل؟. قال: إن ربي أمرني أن أخبرك به. قال: وما هو؟. قال: إني عرضتك للمهالك والمكاره (¬3) من أجل امرأتك. قال: صنعت لحادي. قال: لأتزوج من بعدك. قال: فهل تزوجت بها؟. قال: نعم. قال: لست أجعلك في حِل حتى أخاصمك يوم القيامة بين يدَي الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬4). فوضع يده على رأسه ومرّ صائمًا سائحًا والهًا حيران يبكي ¬

_ (¬1) في "ب": (فبينما). (¬2) في الأصل (فيهما). (¬3) المثبت من "ب"، وفي البقية: (عرضتك للمكاره). (¬4) (عَزَّ وَجَلَّ) ليست في الأصل.

وينحب، ثم سقط مغشيًا عليه يومًا وليلة، ثم أفاق حتى أصبح، فمكث بذلك المكان شهرًا يبكي بدمع هتين وقلب حزين حتى نبت العشب في ذلك المكان من دموع عينيه، فرحم الله طول بكائه وتضرعه فأوحى الله إليه: أن ارفع رأسك يا داود فقد غفرنا لك، فقال إلهي وكيف تغفر الذنب (¬1) وأنت عدل لا تجور؟ فأوحى الله إليه أن أري أوريا في الجنة ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت فيسألني لمَن هذا يا رب؟ فيقول لمن غفر لأخيه ذنبه إليه. فقال إلهي وسيدي علمت الآن أنك غفرت لي، ثم لم يزل باكيًا على خطيئته أيام حياته، وكان يلبس الصوف ويفترش الشعر ويصوم يومًا ويفطر يومًا على خبز شعير بملح مريش، فكان إذا ذكر خطيئته خرّ مغشيًا عليه حتى ربط الله بالصبر والإيمان فألقى في قلوب بني إسرائيل أن يخرجوا في طلبه ويردوه إلى دار مملكته فإن داود -عليه السلام- ولد له سليمان من تلك المرأة واسمها شائع (¬2). {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ} خاطب الذي تصور له أنه مظلوم دون الذي تصور له أنه ظالم إعزاز الذليل وإهانة (¬3) {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يجوز أن يكون من كلام داود -عليه السلام-، ويجوز أن يكون كلامًا عارضًا في أثناء القصة من (¬4) جهة الله، ويجوز أن يكون من كلام الخصمين بإضمار القول {الْخُلَطَاءِ} جمع خليط وهو الشريك {وَظَنَّ دَاوُودُ} أي علم وتيقّن {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} يجوز أن تكون (ما) صلة وبجوز أن تكون اسمًا، أي قليل الذين يؤمنون. و {أَنَّمَا} هي التي تدخل الحرف الناصب على الأفعال. ¬

_ (¬1) (الذنب) من "ب". (¬2) هذه القصة ذكرت في كتب التفسير بروايات عدة ومعناها واحد. وهي كلها إسرائيليات. وقد استنكر القصة ابن كثير في البداية (2/ 309) وجزم بكذبها. (¬3) (إعزاز الذليل وإهانة) ليست في "ب". (¬4) في الأصل (من الله جهة الله).

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -عليه السلام- (¬1) سجد في "صَ" (¬2). وعن مجاهد قال: قلت لابن عباس: السجدة في "صَ" من أين أخذت؟ فتلا علي هؤلاء الآيات من "الأنعام" {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84 - 90] إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فقال: كان داود -عليه السلام- (¬3) ممن أُمر نبيكم أن يقتدي به (¬4). وعن ابن عباس: قال رجل للنبي -عليه السلام- (¬5): يا رسول الله إني رأيت الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا وضع عني بها وزرًا واجعلها لي عندك ذخرًا وتقبّلها مني كما تقبّلتها من عبدك داود (¬6). وعن الكلبي أنه بلغه عن عبد الرحمن بن سابط (¬7) قال: بلغني أن داود -عليه السلام- (5) يبعث يوم القيامة من قبره وهو ينتفض انتفاض العصفور مشفقًا من خطيئته، فلا يزال كذلك حتى يدنيه ربه فيمس بعض جوانبه فيطمئن، تعالى الله عن المسيس الذي نعرفه ولكنه يظهر سلطانه على ما شاء ممن شاء. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) أبو داود (1410)، وابن حبان (2765)، وابن خزيمة (1455، 1795)، والحديث صحيح. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) البخاري (3421). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) الترمذي (579، 3424)، وابن ماجه (1053)، والطبراني في الكبير (11262)، والحديث حسن. (¬7) عبد الرحمن بن سابط الجمحي، قال الذهبي: فقيه ثقة ذو مراسيل، وقال ابن حجر: تابعي كثير الإرسال لا يصح له سماع من صحابي. [الكاشف (1/ 628)، الإصابة (5/ 228)، جامع التحصيل في أحكام المراسيل (1/ 222)].

{أَمْ نَجْعَلُ} بمعنى ألف الاستفهام. وذكر الكلبي قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في حمزة وعلي وسفيان وبني عبد المطلب وعتبة وشيبة والوليد (¬1)، فإن كان كذلك فالآية مدنية. الحكم العامل في (إذ) مضمر (¬2)، وقيل: قوله: {أَوَّابٌ}، {الصَّافِنَاتُ} القائمات على ثلاث قوائم، والصافن من الرجال الذي يصف قدميه، و {الْجِيَادُ} الخيل العتاق. {حُبَّ الْخَيْرِ} المال. ووجه التعدية بـ"عن" إضمار المثل تقديره: ملت إلى حب الخير عن ذكر ربي. وذكر أبو عبيد الهروي وغيره أن المراد بالمحبة الإيثار، وأن (عن) بمعنى على، والقصة في ذلك أن قبائل من قبائل العرب النازلين بحدود دمشق ونصيبين تحزّبوا على سليمان ليقاتلوه فأظفره الله تعالى (¬3) عليهم فأخذ ألف رأس من خيلهم، فلما راح من المعركة إلى منزله عرض الخيول وكان (¬4) الله قد آتاه من الهيبة ما لا يبدأ الكلام، ولا يذكر شيء حتى يكون هو الذي يبدأ ويذكره، فابتلاه الله يوم عرض الخيل بنسيان العصر {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فغضب على نفسه وعاقبها بأن فوّت عليها ما أعجبها. {مَسْحًا} قطعًا. قيل: إنه عقر يومئذ تسعمائة فرس وترك مائة، مما بأيدي الناس من الخيل العراب فمن نسل تلك المائة. ¬

_ (¬1) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، والمفسدون في الأرض عتبة وشيبة والوليد وهم الذين تبارزوا يوم بدر. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (38/ 261). (¬2) أي في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} فذكر المؤلف أن العامل فيها هو مضمر ويمكن أن يقدر هذا المضمر بـ"أُذكر"، وهو اختيار السمين الحلبي، وقيل: العامل فيها "أواب" وفيه تقييد وصفه بذلك بهذا الوقت. [الدر المصون (9/ 374)]. (¬3) (تعالى) ليست في "أ". (¬4) في الأصل و"ب": (فكان).

{رُخَاءً} ريحًا طيبة، وقيل: لينة، والقصة فيه أن الجن أخبرت سليمان -عليه السلام- (¬1) بأمر ملك أندلس وطنجة وفرنجة وإفريقية (¬2) وما آتاه الله من النعمة والسلطان وهو كافر بربه يعبد الأصنام من دونه، فسار سليمان نحوه تحمله الريح وتُظله الطير، فلما انتهى إليه أرسل إليه رسوله يدعوه إلى توحيد الله ودين الإسلام، فاستشار ذلك الملك قومه فأشاروا عليه بالطاعة فتكبّر عنها وقال: لو كلفتني خراجًا لتحملته وأما ترك الآلهة فلا أتركها، وأمر قومه بأن يستعدوا للقتال فاستعدوا وقاتلوا سليمان -عليه السلام- (¬3) فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار قتل الملك فيمن معه واستسلم سائر الأرض. وكانت للملك بنت تسمى سحور وكانت أجمل من بلقيس، فلما رآها سليمان -عليه السلام- (3) تسرّى بها، وترفّعت المرأة أن تكون سرية له فطلبت من سليمان -عليه السلام- (3) أن يتزوجها، فتزوجها سليمان وهو (¬4) كالمنهي من جهة الله تعالى بعد بلقيس بامرأة غير إسرائيلية فكان ذلك سبب الفتنة. ثم إن المرأة أظهرت بكاء وتأسفًا على أبيها وأمها، وقالت لسليمان -عليه السلام-: حاجتي إليك أن تأمر الجن ليصورهما لي، فأمر سليمان بذلك فصورهما لها فعبدتهما من دون الله تعالى، ودعت جواريها وخدمها إلى عبادة هاتين الصورتين، فأجابوها إلى ذلك. فاتصل ذلك الخبر سائر نساء سليمان -عليه السلام- (¬5) وسراريه فلم يحسبوا أن يخبروا سليمان -عليه السلام- (¬6) بذلك، وبلغ الخبر آصف بن برخيا فدخل على سليمان -عليه السلام- (¬7) وقال: يا نبي الله إنه قد كبر سنين ورقّ جلدي ودقّ عظمي ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (وفحرنجية وإفريقية). (¬3) (-عليه السلام-) ليست في "ب" "ي". (¬4) في الأصل و"ب": (فتزوجها وكان). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ".

فأذن لي أن أخطب بني إسرائيل خطبة قبل موتي، فأذن له سليمان -عليه السلام- (¬1) فقال: يا نبي الله أحب أن أخطب وأنت حاضر، فحضر سليمان -عليه السلام- (1)، فلما صعد آصف المنبر حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلّى على أنبيائه ورسله عليهم السلام يذكر نبيًا بعد نبي من آدم -عليه السلام- وأمسك عن ذكر سليمان، ثم نزل عن المنبر فعاتبه سليمان على فعله، فقال آصف: يا نبي الله لم يتهيأ إلى أن أذكرك قد تزوجت بامرأة لم يؤذن لك في تزوجها وإنها تعبد الصورة في دارك من دون الله تعالى، فهذا الذي منعني أن أذكرك بالجميل. قال: ففزع سليمان من ذلك واغتمّ غمًّا شديدًا حتى ظهر ذلك عليه، فطلقها وأخرجها من بيته وأمر بالصورتين فكسرتا، واغتمّت الجارية لذلك غمًّا شديدًا فماتت من شدة الغم، واغتمّ سليمان عليها فأوحى الله إليه: يا ابن داود تغتم وتظهر الغم على امرأة لم آذن لك في تزوجها وقد عبدت الصورة في دارك من دوني، فاستعد الآن للفتنة والبلاء فلأبلونك ببلية أنسيك فيها بلية أبيك داود. ثم إن الله تعالى قيّض له شيطانًا بصورة جارية لسليمان -عليه السلام- (1) تسمى الأمينة، وكان سليمان -عليه السلام- (1) إذا أراد الخلوة مع نسائه رفع الخاتم إلى هذه الجارية، فدفع يومئذ إلى الشيطان على ظن أنه الأمينة واسم ذلك الشيطان صخر، فلما صار الخاتم في يده لم يستقر في يده فرمي في البحر وجاء حوت وابتلع الخاتم، ومضى صخر الجني وقد ألقى عليه شبه سليمان فجلس على كرسي سليمان، وخرج سليمان وقد تصوّر للأمينة بصورة صخر الجني فقالت: أعوذ بالله منك إني قد دفعت الخاتم إلى سليمان، إنه مفتون، فلم يدرِ ما يفعل، كلما قال: أنا سليمان بن داود استهزأ الناس به وسخروا منه وطردوه وشتموه. وجعل آصف يقول: أقسم بالله لقد بلي سليمان بأمر عظيم وذلك أنَّ ثرى الطيب قد نفرت فلسنا نسمع لها حسًا. قالوا: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي".

إن صخرًا الجني لم يقدر على امرأة من نسائه ولا على شيء من ماله وخدمه وحشمه وإنما كان جالسًا على ذلك الكرسي، فلما لم يدخل على النساء أنكرن ذلك منه وعلمن أنه ليس سليمان على الكرسى، وكانوا يهابونه أن يعترضوا حتى دخل سليمان -عليه السلام- (¬1) قومه من القرى، وفي تلك القرية بيت ملك فجعل سليمان يقول: أيها الناس أطعموني شيئًا من الطعام فأيكم أطعمني وأسبغ جوعي فله علي أن أعطيه كذا وكذا إن ردّ الله عليّ ملكي، فإني أنا سليمان بن داود نزع الله مني مُلكي وجعله لعدو من أعدائي بسبب خطيئة أتيتها، وأنا أرجو ربي أن يرد عليّ ملكي. قال: فأشرفت عليه تلك الجارية فقالت: يا هذا (¬2) إنا رأينا الكاذبين فما رأينا أكذب على الله منك، أتزعم أنك سليمان مع هذه الخلقة الوحشة وسليمان في منزله على كرسيه؟! اُخرج من قريتنا وإلا أمرت بدوس بطنك يا كذا وكذا، فقال سليمان: إلهي وسيدي إنك قد ابتليت الأنبياء من قبل غير أنك لم تحبس عنهم رزقك ولم تلق لهم البغضاء في قلوب الناس، إلهي وسيدي أسألك وأرجوك ولا أرجو سواك فاعفُ عني واغفر لي فإني لا أعود لشيء كرهته مني. فلم يزل كذلك أربعين يومًا، ثم إنه وجد قرصًا يابسًا فلم يقدر على كسره، فأتى ساحل البحر ليبل ذلك القرص ثم يأكله، فجاءت موجة فحملت ذلك القرص ومرت به فقال: إلهي وسيدي رزقتني قرصًا من طعام على رأس أربعين يومًا فانتزعه البحر مني (¬3)، إلهي وسيدي أنت المتكفل بأرزاق العباد، أنا عبدك المذنب فلا تحبس عني رزقك (¬4) فإنك أنت الرزاق الكريم. وجعل يمشي على ساحل البحر وهو يبكي، فإذا هو بقوم صيّادين فسألهم أن يطعموه سمكة فقالوا: انصرف عنا فما رأينا أقبح منك وجهًا، ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (يا هذا) مكررة في الأصل. (¬3) في "أ": (مني البحر). (¬4) (فلا تحبس عني رزقك) ليست في "أ".

فقال سليمان: وما عليكم من قبحي إنما سألتكم سمكة أسدّ بها جوعي، قالوا: وحق نبي الله سليمان لئن لم ترجع قمنا إليك وضربناك، فلما رآهم يحلفون باسمه قال: أما إنكم لو علمتم مَن أنا لأطعتموني، قالوا: مَن أنت؟ قال: أنا سليمان، فجعلوا يضحكون ويتغامزون به. ثم أقبل عليه بعض القوم فضربه بعصا كانت في يده وقال: مثلك يزعم أنه سليمان النبي، فبكى سليمان وبكت الملائكة في السموات قالوا: إلهنا وسيدنا عبدك ونبيك أذنب ذنبًا وأنت الغفور الرحيم، فقال الله تبارك وتعالى: ملائكتي (¬1) هذه بلية الرحمة وليست ببلية العذاب وسأردّ عليه ملكه وأظهره على عدوه وأنا الذي لا أخلف الميعاد، ثم إن الله ألقى في قلوب الصيادين رحمة عليه فقالوا: يا هذا لقد قرحت قلوبنا ببكائك وإنك لفي موضع رحمة خذ هذه السمكة وهذه السكين فشقها بها واغسلها وائت بها إلى هذه النار فاشوِها. فأخذ سليمان تلك السمكة فلما شقّ بطنها وجد خاتمه فتختم به سريعًا وسمع الأصوات من كل جانب: لبيك يا ابن داود. ومضى يريد قصره فجعل يمر بتلك القرى التي كانوا يطردونه منها إذا نظروا إليه تعادوا إليه وخرُّوا له سجَّدًا، وبلغ ذلك صخرًا الجني فهرب، وأقبل سليمان -عليه السلام- (¬2) حتى دخل إلى قصره واجتمعت عليه الإنس والجن والوحش والسباع والطير والهوام، ووفقه الله تعالى ليزداد لربه عبادة وذكرًا وخشوعًا، ثم بعث العفاريت في طلب صخر الجني فطلبوه حتى قدروا عليه، فأمر سليمان بأن ينقر له بين صخرتين وصفده بالحديد وألقاه بين الصخرتين، وأمر الشياطين بأن سدُّوا عليه الصخرتين بالحديد ثم أمر أن يلقى في بحيرة الطبرية (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: كتبت غير واضحة. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) هذه القصة من الإسرائيليات وفيها نكارة كما قال ابن كثير في تفسيره عن طائفة من بني إسرائيل لا يعتقدون نبوة سليمان. وقريبًا من هذه القصة ذكرها النسائي في الكبرى (10993)، وابن جرير (2/ 3204).

{أُولِي الْأَيْدِي} القوة أو الصنائع إن شاء الله. {ذِكْرَى الدَّارِ} ذكراهم دار الآخرة وهي إيمانهم بالبعث والثواب والعقاب، فمعنى الآية وقفناهم لهذه الخصلة الخالصة. {وَكُلٌّ} يعطف الجملة. {هَذَا} إشارة إلى ما سبق ذكره. {الْأَبْوَابُ} رفع لتقدير الإضافة فيها أي {مُفَتَّحَةً} أبوابها. {أَتْرَابٌ} جمع ترب وهي للذة والعرس. {حَمِيمٌ} رفع على أنه خبر (هذا)، والأمر (¬1) عارض بين المبتدأ والخبر كقولك: هذا فاضربه زيدًا، وارتفع بتقدير (من) أي منه حميم ومنه غساق. {مِنْ شَكْلِهِ} أي من مثل العذاب الأول. فالقول مضمر عند قوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ} الاقتحام: الدخول على خطر أو مشقة من غير تثبيت. والقول عند قوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} مضمر {مَرْحَبًا}: اسم من الرحب استعمله العرب في الخير والشر فكل من رضيت بمكانه قالت: مرحبًا به، على سبيل الدعاء له، وكل من لم ترضَ بمكانه قالت: لا مرحبًا به على سبيل الدعاء عليه. وحسن دخول الاستفهام وكونه مرادًا {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} إنما هو لكونهم غير متخذين إياهم سخريًا (¬2) لو كانوا أشرارًا على الحقيقة داخلين معهم النار؛ لأن الاتخاذ يدل على صرف الشيء عن حقيقته في الغالب، فكأنهم قالوا: أسأنا الظن بهم والقول فيهم اتخذناهم سخريًا أم صدقنا فهم معنا في النار قد {زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}. ¬

_ (¬1) الأمر وهو الذي بين المبتدأ والخبر وهو جملة فليذوقوه، والمبتدأ "هذا"، والخبر "حميم". (¬2) من قوله (وإنما) إلى هنا ليست في "ب".

{تَخَاصُمُ} رفع بتقدير ضمير؛ أي هو تخاصم. عن معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله (¬1) ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا فثوّب بالصلاة فصلّى رسول الله (1) وتجوّز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته فقال (¬2) لنا: "على مصافكم كما أنتم" ثم اتصل إلينا فقال: "أما إني ساحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصلّيت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك (¬3) وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمَّد، قلت: لبيك يا رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلالًا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفَي حتى وجدت برد أنامله بين يدَي فتجلّى كل شيء وعرفت يده فقال (¬4): يا محمَّد، قلت: لبيك يا رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات يا رب، قال: ما هو؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حيث الكريهات، قال: ثم فيمَ؟ قال: قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قومي فتوفّني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك" فقال رسول الله: "إنها حق فادرسوها (¬5) ثم تعلموها" (¬6). قال تعالى الله عن التصور والتقدير والتحيُّز إلى الجهات والحلول في الصور، ولكنه -عَزَّ وَجَلَّ- يحل روح خطابه محلاًّ محسوسًا كإحلاله القرآن في ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (فقال) من "أ" "ي". (¬3) بدل (تبارك) في "ب": (سبحانه). (¬4) في الأصل: (قال). (¬5) في الأصل: (فادرهموها). (¬6) الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243)، والطبراني (20/ 109/ 216)، والحديث بعضه صحيح ولكنه بهذا السياق ضعيف.

المصاحف والتوراة في الألواح، ثم يظهر على المحسوس من آياته ما يفيد علمًا ضروريًا. {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} (¬1) لم يكن إبليس لعنه الله بعد إنكاره على الله سبحانه وتعالى تفضيل آدم -عليه السلام- عارفًا إياه على الحقيقة ولكنه كان يخاطب مخاطبًا له من العيب على سبيل الظن، ويحلف باسمه على سبيل العُرف والعادة من قبل إنكاره، كهؤلاء المشركين من أهل الكتاب في أدعيتهم بعد إنكارهم على الله إنزال القرآن على رسوله ونسخ الشرائع المتقدمة من المتكلفين المتولين للقرآن والمخترعين من ذات نفسه، ويحتمل أنه نفي التعرض لعلم الغيب بالكسب والحيلة على طريقة الكهنة والمنجمة. ... ¬

_ (¬1) (أن تسجد) ليست في الأصل.

سورة الزمر

سُورَةُ الزُّمَرِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس وعطاء: إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي، قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر: 53] (¬2)، وهي اثنتان وسبعون آية في عدد أهل الحجاز والبصرة (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ قالوا: {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ} لهذه الرتبة بأتراب الوحدانية والقهر اللذين هما آيتا الإلهية من يشاء. {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} يلف، من كور العمامة أو لإلقاء من قولهم جمعته فكوّرته. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} ترتيب الخبر دون المخبر عنه، والمراد بالخلق الخلق الأول حيث أخرج بني آدم من صلب بني (¬4) آدم أمثال (¬5) الذر، فقال: ألست بربكم؟ ¬

_ (¬1) نقل عن ابن عباس مكيتها عند ابن الضريس (17)، والبيهقي في الدلائل (7/ 142، 144). (¬2) (النحاس في ناسخه (643) عن ابن عباس. وذكره عن ابن عباس وعطاء أبو عمرو الداني في "البيان في عدّ آي القرآن" (216). (¬3) و (75) آية في عد الكوفي و (73) آية في عدّ الشامي. انظر "البيان" (216). (¬4) (بني) ليست في "أ". (¬5) (أمثال) ليست في "أ".

{وَلَا يَرْضَى} ليس بنفي للمشيئة تنطلق على المرضي والمكروه. {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ} نزلت في أبي حذيفة ابن المغيرة (¬1)، وفي كل من كان مثله، وقيل: في أبي جهل، {إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً} أعطاها وأفادها، والخول الخدم {مَا كَانَ يَدْعُو} دعاوة، والضمير في {إِلَيْهِ} عائد (¬2) إلى ربه تعالى وتقدم الكلام عند الزجاج (¬3). {نَسِيَ} تضرعه الذي يتضرع إلى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} خبرًا بلفظ الأمر. {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} فحوى الآيات أنهن نزلن بمكة في المفتونين على سبيل الدلالة على الهجرة أو الصبر على الأذية من أعدائهم المشركين. وذكر الكلبي في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} إنه الرجل يجلس مع القوم يستمع الحديث من الرجال فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمع ويكف عما سوى ذلك (¬4). {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} كالذي لم يشرح فقسا قلبه. {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهو المشرك الذي غلّت يداه كالذي هو مؤمن آمن. {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} المكررات من القصص والأحكام والأمثال بعضها مثل بعضها، وفائدة ذلك التنبيه على كون ما وقع به التحدي ممكنًا غير محال لولا الإعجاز الإلهي. عن عبد الله بن المسور قال: لما نزلت هذه الآية {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} قالوا: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: "إذا دخل النور في القلب انفسح ¬

_ (¬1) ابن الجوزي في زاد المسير (7/ 164). (¬2) في "أ": (عاد). (¬3) ذكره الزجاج في معانيه (4/ 346). (¬4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (12/ 643) له وعزاه لسعيد بن المنصور.

وانشرح" قالوا: هل لذلك من علم نعرف به؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت" (¬1). {تَقْشَعِرُّ} ترتعد {يَهِيجُ} يجف ويصفر، وعن علي: لا يهيج على التقوى زرع قوم (¬2) {حُطَامًا} يكسر ويصير بمنزلة ما يحطم، والحِطْم الفاعل والحَطْم المنفعل. {سَلَمًا} وسالمًا مسلمًا الذي لا دعوى فيه لأحد {مُتَشَاكِسُونَ} التشاكس سوء الخلق وصعوبته، وإنما قيل {مَثَلًا} لأنهما جعلا مثلًا واحدًا، قاله الفراء (¬3). {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أطلق اسم المآل على الحال كقوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قال: أنا مت وعزّ من لا يموت قد تيقنت أني سأموت، وعلى هذا حمل الفراء (¬4) قوله: {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] ويجوز أن يكون عليمًا في حال الصغر. عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: لما نزلت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} قال الزبير: أيكرر علينا الخصومه بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: نعم، فقال: إن الأمر إذًا لشديد (¬5). وعن إبراهيم قال: لما نزلت قال أصحاب رسول الله: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا (¬6). وقال علي لأبي بكر بعد وفاته: سمَّاك الله -عَزَّ وَجَلَّ- في تنزيله صديقًا قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي عن محمَّد بن كعب القرظي وعزاه لابن مردويه كما في الدر (12/ 645). (¬2) (¬3) ذكره الفراء في معانيه (2/ 419). (¬4) انظر معاني القرآن للفراء (2/ 420). (¬5) (¬6) ذكره ابن جرير (20/ 202) عن ابن عمر. وكذا هو عن إبراهيم النخعي عند عبد الرزاق في تفسيره (2/ 172)، وابن جرير (20/ 202)، وابن عساكر في تاريخه (39/ 493). (¬7) ابن جرير (20/ 204)، وابن عساكر (30/ 336).

{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ثم قال: {هَلْ هُنَّ} لأنه إن كان المراد بهما الأرواح فالروح تذكَّر وتؤنَّث، وإن كان المراد الأصنام فالصورة مؤنثة للفظها. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} في محل النصب لوقوع التوفي عليه (¬1) {مَنَامِهَا} ظرف لقوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} وهذه الآية كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]. {اشْمَأَزَّتْ} نفرت وانقبضت، قيل: دخل على الربيع بن خثيم رجل ممن شهد قتل الحسين وكان ممن يقاتله، قال ابن خثيم: يا معلقها يعني الرؤوس، ثم أدخل يده في حنكه تحت لسانه فقال: والله لقد قتلتم صبية لو أدركهم رسول الله لقبل أفواههم وأجلسهم في حجره. ثم قرأ: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: يختصمون. {بَلْ هِيَ} أي النعمة. {قَدْ قَالَهَا} أي المقالة أو الكلمة. وعن الضحاك أن الآية في النضر بن الحارث بن كلدة، وقيل: في أبي حذيفة بن المغيرة، وقيل: إنها عامة في كل كافر هذه صفته. عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله (¬2) يقرأ (¬3): {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} ولا يبالي. {قَدْ جَاءَتْكَ} بتذكير الخطاب لذي النفس دون النفس ممن جعل الخطاب للنفس. ¬

_ (¬1) أي أنها عطف على الأنفس- وهي منصوبة- والتقدير: يتوفى الأنفس حين تموت ويتوفى التي لم تمت في منامها. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (يقرأ) ليست في الأصل.

{مَقَالِيدُ} جمع مقليد أو مقلود، فالمقليد (¬1) لغة الإقليد وهو المفتاح، والمقلود هو الحبل المفتول وهو السبب، وفي الحديث: "قلدتنا السماء قلدًا في كلل أسبوع" (¬2) وضاقت عليه. {لَيَحْبَطَنَّ} أراد النكال والفضيحة العاجلة كما في قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} [الحاقة: 44]. وعن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال: جاء يهودي إلى النبي -عليه السلام- (¬3) فقال: يا محمَّد إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي -عليه السلام- حتى بدت نواجذه، قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (¬4). وعن عائشة قالت: يا رسول الله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين (¬5) المؤمنون يومئذ؟ قال: "على الصراط يا عائشة" (¬6). وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7): "كيف أنعم وقد التقم صاحبُ القرنِ القرنَ وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ في الصور فينفخ" فقال المسلمون: يا رسول الله كيف نقول؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل توكلنا على الله" وربما قال: "على الله توكلنا" (¬8). عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (6) قال:"ينادي منادٍ -يعني في الجنة- ¬

_ (¬1) في "ب" والأصل: (فالمقلود). (¬2) ذكره ابن الأثير في النهاية (4/ 154)، وابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 55). (¬3) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وفي "ي": (السلام) ليست موجودة. (¬4) البخاري (4811)، ومسلم (186) عن عبد الله بن مسعود. (¬5) في الأصل و"ب": (فإن). (¬6) هو عند الترمذي (3242) عن عائشة، والحميدي في مسنده (274). (¬7) (وسلم) ليست في "ي". (¬8) الترمذي (2431، 3243)، وأحمد (1/ 326)، والحديث حسن.

إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا ولا تباسوا أبدًا" وذلك قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72] (¬1). ... ¬

_ (¬1) مسلم (2837).

سورة غافر

سُورَةُ غَافِرٍ سورة المؤمن: مكية (¬1)، وعن ابن عباس: إلا آيتين، قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} [غافر: 56] نزلتا بالمدينة (¬2)، وهي أربع وثمانون آية (¬3) حجازي (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1)} عن ابن عباس فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه اسم الله الأعظم لما روي عن النبي -عليه السلام- (¬5) قال: "إذا بيتم فقولوا: {حم (1)} لا ينصرون" (¬6). قال أبو عبيد: معناه: اللهم لا ينصرون. والثاني: أنه قسم قياسًا على سائر الحروف. والثالث: أنه من جملة الحروف (¬7) المقطعة التي يتركب فيها أسماء (¬8) الله -عَزَّ وَجَلَّ- كالألف واللام والراء والحاء والجيم والميم والنون. ¬

_ (¬1) ورد ذلك عن ابن عباس عند ابن الضُّريس (17، 18)، والنحاس (649)، والبيهقي في الدلائل (7/ 142 - 144)، وفي "البيان" لأبي عمرو الداني (218). (¬2) القرطبي (15/ 253). (¬3) (آية) ليست في "أ". (¬4) انظر "البيان" (218). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) الترمذي (1682)، وأبو داود (2597)، وغريب الحديث لابن سلام (4/ 95)، والحاكم (2/ 117)، والبيهقي في السنن (6/ 361)، والحديث صحيح. (¬7) من قوله (والثالث) إلى هنا ليست في "أ". (¬8) في الأصل و"ب": (اسم).

وعن مجاهد عن ابن مسعود قال: حم ديباج القرآن (¬1). وعن زر بن حبيش قال: قرأت على علي بن أبي طالب القرآن في المسجد الجامع بالكوفة فلما بلغت الحواميم قال: يا زر بن حبيش قد بلغت عرائس القرآن (¬2). وسأل عمر بن الخطاب رجالًا من إخوانه كانوا بالشام فسأل عن رجل قالوا ذاك أخو الشيطان أتى الشام فخالط أهل هذه الأشربة وجفا فكتب إليه: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} فلما جاءه الكتاب رجع عن فعله وتاب ثم قال: صدق الله ونصح إليّ عمر، ثم أقبل على طريقة حسنة (¬3). {غَافِرِ الذَّنْبِ} وغيره يجوز أن يكون بدلًا ويجوز أن يكون صفة لأن التكبُّر عن متمحض فيه لكونه مضافًا إلى معرفة فكأنه قيل: الغافر للذنب القابل للتوب الشديد عقابه. وعن الأخفش أن التوب جمع التوبة (¬4)، وهذا محمول على أن التوب فعل عام وهو المصدر، والتوبة فعل مرة. {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} اتصالها من حيث قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ}، {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} تسمية آيات القرآن شعرًا وسحرًا (¬5) وسجعًا وأساطير الأولين إنها مخالفة [للحقيقة] (¬6). ¬

_ (¬1) أبو عبيد في فضائل القرآن (137)، والحاكم (2/ 437)، والبيهقي في الشعب (2471)، وصحح إسناده الألباني. (¬2) قريبًا منه عن علي عند ابن النجار في تاريخه (يقصد الذيل لتاريخ بغداد). (¬3) قريبًا منه عند عبد بن حميد عن قتادة كما في "الدر المنثور" (13/ 12). (¬4) وهو أيضًا مذهب المبرد كلوزة ولوز، وأما مذهب الأخفش الذي ذكره المؤلف فقد ذكره الأخفش في معاني القرآن (276). (¬5) في "ب": (سحرًا وشهرًا). (¬6) ما بين المعكوفتين تصرف منا ليستقيم المعنى.

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} اتصالها من حيث {وَقَابِلِ التَّوْبِ}. وذكر الكلبي أن ابتداء استغفار الملائكة للمؤمنين إنما كان من لدن أمر هاروت وماروت. {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يوم القيامة إذا رأوا العذاب ولاموا أنفسهم ومقتوها. {اثْنَتَيْنِ} أي مرتين على ما سبق. {ذَلِكُمْ} إشارة إلى النداء. {رَفِيعُ} رفع كقوله {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ} [الرعد: 12]. {يَوْمَ التَّلَاقِ} تلاقي الخصوم يوم الجمع أو تلاقي المحسوس والمعقول {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، والقول مضمر عند قوله {لِمَنِ الْمُلْكُ} وكذلك عند قوله {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. وعن الحسن عنه -عليه السلام- (¬1): "مَن قال الحمد لله الذي تعزّز (¬2) بالقدرة وقهر العباد بالموت نظر الله إليه، ومَن نظر إليه لم يعذبه واستغفر له كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض" (¬3). {يَوْمَ الْآزِفَةِ} وأزف يأزف أزوفًا إذا دنا جانبه مصدر كالعافية (¬4) هو يوم الصيحة الآزفة (¬5) أو الرجفة الآزفة أو البعثرة الآزفة أو الزلزلة الآزفة، وأزف يأزف أزفًا إذا دنا. {خَائِنَةَ} مصدر كالعافية وراعته الإبل وتاعته الشاء. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} فيها دلالة على أن قارون لم يزل ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في الأصل: (يعزو). (¬3) في معناه ورد هاتفًا عند قبر دانيال في "الهواتف" للخرائطي (20). (¬4) من قوله (وأزف) إلى هنا من الأصل. (¬5) من قوله (وأزف) إلى هنا ليس في "ب".

عدوًا لموسى -عليه السلام- (¬1) باغيًا على قومه متعصبًا لفرعون إلى أن أهلكه الله، وفيها دلالة على أن فرعون ما كان يكفّ عن موسى -عليه السلام- (¬2) لحلمه وكرمه ولكنه يخاف اختلاف قومه في أمره إن قتله. وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} على سبيل الاستهزاء وقلة المبالاة، أي ما يمنعني عن قتله إلا مكانكم، فإن اجتمعتم على قتله وأشرتم علي بذلك فليدعُ ربه حينئذ هل يمنعني عن قتله {فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} أي فساد مملكته الفاسدة. {رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} هو حبيب النجار {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إنما يكتم قطعه الحكم بصدق موسى -عليه السلام- (2) في دعوى الرسالة دون إيمانه بوحدانية الله تعالى وبالأنبياء الماضين عليهم السلام، وإنما يكتم لخوفه القتل على نفسه، ولم يخف في سائر الخصال إلا محرمًا لجدال، وإنما دعاهم إلى طاعة موسى -عليه السلام- على سبيل الشك أو غلبة الظن؛ لأن موسى -عليه السلام- (2) كان يدعوهم إلى إنجاء بني إسرائيل وذلك فعل لم يكن مخالفًا للمعقول، فكان يجوز فعله من غير اعتقاد، وإنما قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} لأن موسى -عليه السلام- (2) قد وعدهم بأشياء وخوّف بأشياء للتخيير كقوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 65] الآية، والثاني: أن المراد بالبعض الكل. وقول فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} يدل على أنه بين الغرور والإكراه. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أي لا يريد أن يظلم هو بنفسه على عباده لتعاليه عن الاتصاف بالظلم بدليل إهلاك القرون الماضية بالغرق والصيحة والريح ونحوها، وقال (¬3): {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] وقيل: يريد أي يحب. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (السلام) ليست في "ي" "أ". (¬3) (وقال) ليست في "أ".

{يَوْمَ التَّنَادِ} تناديهم ما لها؟ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} [الزلزلة: 1] أو محاجتهم في النار. {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} أي شفاعة، وقيل: دعوة مبرهنة صحيحة (¬1). {وَأُفَوِّضُ} أسلم. {النَّارُ} رفع لكونه بدلًا من {سُوءُ الْعَذَابِ} أو يكون مبتدأً وخبره في الفعل المتصل بالضمير العائد إليها (¬2). {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} على سبيل ردّ عجز الكلام على صدره. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} روي أن الآيتين نزلتا في اليهود الذين أعظموا القول في الدجال الذي ينتظرونه، فزعموا أنه نبي آخر الزمان وأنه يسخِّر السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم ويحيي ويميت فردّ الله عليهم (¬3). قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} قيل: اليهود ونحوهم {وَالْبَصِيرُ} مثل المؤمن المتعوذ بالله من فتنة الدجال ومعرة الجدال. عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة" (¬4) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية. {وَالسَّلَاسِلُ} جمع سلسلة وهي الحلق المتصلة بعضها ببعض لتكون ¬

_ (¬1) والمراد به الوثن الذي يعبدونه ويدعونه من دون الله، فهو ليس بشيء ولا يضر ولا ينفع. (¬2) أي الخبر جملة (يعرضون) وفيه وجه ثالث وهو أن تكون "النار" خبرأ لمبتدأ محذوف، أي: هو أي سوءُ العذاب النارُ لأنه جواب لسؤال مقدّر، و"يعرضون" على هذا الوجه يجوز أن يكون حالًا من "النار" ويجوز أن كون حالًا من "آل فرعون". [الدر المصون (9/ 485)]. (¬3) ذكر سبب النزول هذا القرطبي في تفسيره (15/ 324 - 325). (¬4) أبو داود (1479)، والترمذي (2969، 3247، 3372)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (4/ 267) والحديث صحيح.

كالحبل وهو من الحديد ونحوه وهي معطوفة على الأغلال {يُسْحَبُونَ} يجرون، وسمّي السحاب سحابًا لانسحابه. {يُسْجَرُونَ} يرسلون، من قولهم: شعر منسجر أي مرسل، وقيل: يوقدون من فوقهم. سجرت (¬1) التنور بالسجور؛ أي بالوقود، وقيل: يملؤون بطونهم من الحميم من قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)} [الطور: 6]، أي المملوء. إنهما في محل السجر مع أنهم يشكونه أو يشركونه. ... ¬

_ (¬1) (سجرت) من "ي" "أ"، وفي الأصل: (شجرة).

سورة فصلت

سُورَةُ فُصّلَتْ سورة حمَ السجدة: مكية (¬1)، وهي ثلاث وخمسون آية في عدد أهل الحجاز (¬2) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ} عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمَّد فلو ابتغيتم من يعلم السحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علمًا ما يخفى. فلما خرج إليه قال له عتبة: أنت يا محمَّد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ إن لتشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسًا ما بقيت، وإن كانت بك الباءة زوّجناك عن نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وان كان إنما بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني أنت وعقبك من بعدك. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ساكت ولا يتكلم. فلما فرغ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1) ¬

_ (¬1) ورد ذلك عن ابن عباس وابن الزبير عند ابن مردويه كما في "الدر المنثور" (13/ 78). (¬2) في البصري والشامي (52) آية و (54) آية كوني كما في "البيان" (220). (¬3) (وسلم) ليست في "ي".

تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم أن يكف، ورجع إلى أهله فلم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ وأعجبه كلام محمَّد وما ذلك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: يا عتبة ما حبسك عليّ إلا أنك قد صبوت إلى محمَّد وأعجبك أمره، فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن ماله، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالًا ولكني قد أتيته فقصصت عليه القصة فأجابني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة ولا شعر، قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} إلى قوله: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب (¬1). وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} قال: خلق الأرض يوم الأحد وبوم الاثنين (¬2) {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} قال: شقّ الأنهار وغرس الأشجار ووضع الجبال وجعل فيها المنافع يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وقدّر الأقوات {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} يوم الخميس ويوم الجمعة، فمن سألك في كم خلقت السموات والأرض فقل في ستة أيام (¬3). {غَيْرُ مَمْنُونٍ} مقطوع، من قولهم حبل متين، أو منقوص من قوله: ¬

_ (¬1) البيهقي في الدلائل (2/ 202 - 204)، وابن عساكر (38/ 242). (¬2) روي ذلك مرفوعًا وهو أن اليهود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن خلق السماوات والأرض، قال: "خلق الله الأرض يوم الأحد والأثنين ... " الحديث أخرجه الطبري في تفسيره (20/ 382) وتاريخه (1/ 22) وأبو الشيخ في العظمة (880) والحاكم (2/ 543). (¬3) أبو الشيخ في "العظمة" (879).

{رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أو منقض بتذكره وبُعده من قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22]. {نَحِسَاتٍ} ضد سعود. {فَهَدَيْنَاهُمْ} أراد هداية الدلالة والتمكين دون الإرشاد وخلق الاهتداء كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [البلد: 10]. وعن ابن مسعود قال: اختصم عند البيت ثلاث؛ قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم وكثير شحم بطونهم، وقال أحدهم: أترون الله يسمع ما تقول؟ فقال آخر: يسهمع إن جهرنا ولا يسمع إن خفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا (¬1)، فأنزل الله {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} (¬2) الآية. وعن علي - رضي الله عنه - في قوله: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قال: ابن آدم الذي قتل أخاه من الإنس (¬3)، وإبليس الأبالسة من الجن. وعن أبي جعفر قال: ابن آدم الذي قتل أخاه والشيطان الذي سوّل له. {أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} شركهم وكفرهم. {وَقَيَّضْنَا} أبحنا وقدّرنا وسبّبنا. وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال علي: إن الله ربهم (¬4). ¬

_ (¬1) من قوله (وقال الآخر) إلى هنا ليست في "ب". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4817)، ومسلم في صحيحه (2775)، والترمذي (3245)، والبيهقي في الأسماء والصفات (177) عن ابن مسعود مرفوعًا. (¬3) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 186)، وابن جرير (20/ 420)، والحاكم (2/ 440)، وابن عساكر (49/ 47). (¬4) ابن المبارك في "الزهد" (326)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 187)، وابن سعد (6/ 84)، وابن جرير (20/ 422، 423).

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لم يروغوا روغان الثعالب (¬1). وعن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال للنبي -عليه السلام- (¬2): قل لي قولًا في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬3) على هذه المقالة. وعن ابن عباس قال: ثم استقاموا على ما افترض الله عليهم (¬4). {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} ذكر الكلبي أن الآيات نزلت في نبينا -عليه السلام- (¬5) (¬6) وأبي جهل لعنه الله، والأقرب أنه في نبينا عليه أفضل الصلاة (¬7) والسلام (6) وفي بعض المؤلفة. وعن عائشة قالت: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} قالت: المؤذنون {وَعَمِلَ صَالِحًا} بين الأذان والإقامة (¬8). والضمير في {يُلَقَّاهَا} عائد إلى الحالة الموعودة وهي حالة يودّ العدوّ أنه {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أو يتشبّه بولي حميم (¬9). {لَا يَسْأَمُونَ} لا يملُّون. وعن ابن عباس أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حم (¬10). ¬

_ (¬1) ابن المبارك في "الزهد" (325)، وأحمد في "الزهد" (115). (¬2) في "ب": (للنبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) مسلم (38)، وأحمد في مسنده (3/ 413). (¬4) أخرجه الطبري (20/ 425)، والبغوي في تفسيره (7/ 172) ذكره في "الدر المنثور" (13/ 105) وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ذكره عن الحسن وابن سيرين عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (13/ 110). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) (أفضل الصلاة و) من "ب". (¬8) عزاه في الدر (13/ 110) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬9) الضمير يعود على الفِعْلَة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا من هو صابر. قاله الفراء والزجاج. [معاني القرآن للفراء (3/ 18) معاني القرآن للزجاج (4/ 386)]. (¬10) ابن أبي شيبة (2/ 10، 11)، والحاكم (2/ 441)، والبيهقي في سننه (2/ 326).

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ، وخبره في جملة قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي قل لهم. وعن الحارث الأعور عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: ألا إنها ستكون فتنة فقلت: ما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} مَن ابتغى العلم في غيره أضلّه الله ومَن ولي هذا الأمر من جبار فحكم بغيره قصمه الله، وهو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم، فيه خير من قبلكم، وبيان من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، وهو الذي سمعته الجن فلم تنته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2]، لا يخلق عن كثرة الرد على طول الدهر ولا ينقضي عبره ولا تفنى عجائبه". ثم قال للحارث: خذها إليك يا أعور (¬1). {مَا يُقَالُ لَكَ} معنى قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} والثاني من معنى قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4]. {أَكْمَامِهَا} جمع كم وهو وعاء الطلع، ويقال: كم العسل إذا استتر من الهواء حتى يقوى، والأكمام أغطية النوى. {الْآفَاقِ} النواحي واحده أفق، فمن جملة ما رأت قريش من الآيات {فِي الْآفَاقِ} على عهد رسول الله (¬2) إيمان النجاشي وفيروز الديلمي وباذان والي اليمن وهلاك كسرى أبراويز والأسود (¬3) [العنسي واستئصال اليهود ومخافة هرقل وأخذ كبد صاحب دومة الجندل، وما رأوه بعد ذلك هلاك مسيلمة وأخذ طليحة الأسدي، وفتح العراق والشام وما والاها من ديار ¬

_ (¬1) الترمذي (2906) وهو حديث ضعيف. (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) من هذا القوس سقط كبير في "أ" ينتهي في سورة (حم عسق).

الشرق والغرب، ومما سيرونه بإذن الله، ففتح قسطنطينية وهلاك الدجال وسائر ما هو مأمول من فضل الله ورحمته، والذي رأوه من الآيات في أنفسهم في عهد رسول الله - عليه السلام - (¬1) غزواته المعروفة إلى يوم فتح مكة، والذي رأوه بعد ذلك ما رآه بنو أمية من السفاح والمنصور والمهدي - رضي الله عنه -. ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

سورة الشورى

سُورَةُ الشُّورَى مكية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات (¬2) {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ} [الشورى: 23] الآية، فلما نزلت قال رجل من المنافقين: والله ما أنزل الله هذه الآية، فأنزل الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 24] ثم إن الرجل تاب من ذلك وندم {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [الشورى: 26،25] الآيتان (¬3)، وهي خمسون آية عند أهل الكوفة (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1) عسق (2)} قيل في العين إشارة إلى العلم، وفي السين إشارة إلى سر الله في افتراق الفرق، وفي القاف إشارة إلى قول الله في وصف الجماعة، وفي السين إشارة إلى المتشبهات بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال، والقاف إشارة إلى القوم المنقادين لقائدهم. وعن أبي عبيدة أن العين إشارة إلى العذاب، والسين إشارة إلى السين، والقاف فيها العجب. ¬

_ (¬1) ذكر مكيتها ابن عباس وابن الزبير كما في الدر المنثور (13/ 128)، وانظر "البيان" (221). (¬2) ابن الجوزي في "زاد المسير" (7/ 271) عن ابن عباس بلفظ (وحكي). (¬3) ورد في ذلك حديث عند الطبراني في الأوسط (5758) بسند ضعيف جدًا. (¬4) هذا غير صحيح فهو (53) آية عند الكوفيين وفي غيره (50) آية.

وقال الضحاك: {حم (¬1) عسق (¬2)} قضى العذاب الذي سيكون أرجو أن يكون قد مضى يوم بدر والسنون التي أصابت أهل مكة أحد من حم إلا من قدر له الحمام الذي هو الموت. {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي وجود ابتداء حالة الانفطار من جهاتهن اللواتي هي من فوقهن لتقتل ما فوقهن من الفرش أو مما شاء الله أو لهيبة الله تعالى فوقهن لتصدع الجبال من خشية الله، وقيل: الضمير في {فَوْقِهِنَّ} عائد إلى الأنفس المعبودات من دون الله على ظن أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون، فالسموات تكاد يتفطرن من فوقهن أي من فوق هؤلاء الأنفس لعظم قول المشركين فيهن، هؤلاء الأنفس إنما هن الأرواح الخبيثة من الشياطين دون الملائكة الذين {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}. {حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} شهيد عليهم. {أُمَّ الْقُرَى} مكة. {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مجتمعين على دين واحد هدى أو ضلالة. {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي في حال الازدواج (1). {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} من شريعتنا تحريم ذوات الأرحام (¬3) {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لعطف الجملة وهو مبتدأ وخبره {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} فكذلك ¬

_ (¬1) ومعنى في {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري (20/ 476). (¬2) في الأصل: (بما). (¬3) المراد بهذه الوصية هي عموم التمسك بالدين وهو ما وصّى الله به الأنبياء وأنهم على دين واحد في تحريم الحرام وتحليل الحلال. هكذا قاله مجاهد وقتادة والسدي. انظر الطبري (20/ 480) وظاهر الآية يشير ويوضح هذه الوصية ولذا قال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

إشارة إلى إقامة الدين وترك التفرُّق فيه، لا حجة في ترك إقامة الدين وفي ترك ما أنزله (¬1) الله تعالى ولم ينسخه. {يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} يجادلون في دين الله {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} من بعد ما وعد الجواب في الدين أثه دين نوح وسائر الأنبياء عليهم السلام، وأنه موافق لما أنزل الله من كتاب غير مخالف لبعض الكتب المنزلة ولا يبعد أن يكون الجواب هو الإعجاز الإلهي. عن قتادة قال: إن الله تعالى يعطي على نية الآخرة ما يشاء من أمر الدنيا ولا يعطي نية الدنيا إلا الدنيا، ثم قرأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} الآية (¬2). عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- (¬3): "يخرج آخر الزمان رجال يلبسون للناس جلود الضأن من اللِّين وألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب فيقول الله: أبي يغترون أم عليَّ يجترئون فبي (¬4) حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيران" (¬5). {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} إن كلمة الفصل هي التي أوجب الله تأخيرها إلى يوم الفصل (¬6). عن زر بن حبيش الأسدي قال: قرأت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - القرآن في المسجد الجامع بالكوفة، فلما بلغت رأس العشرين من {حم (1) عسق (2)}: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} ¬

_ (¬1) في الأصل: (مما أنزله)، وفي "أ": (بما أنزل). (¬2) ابن جرير (20/ 491، 492). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) في "ب": (فراغ)، وفي الأصل: (وبي). (¬5) الترمذي (2404)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 34) وهو حديث ضعيف جدًا. (¬6) من (هي التي) إلى هنا مكررة في "أ".

الآية، قال: بكى حتى ارتفع نحيبه ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: "يا زر أمّن على دعائي" ثم (¬1) قال: "اللهم إني أسألك إخبات المخبتين، وإخلاص المؤمنين، وموافقة الأبرار، واستحقاق حقائق الإيمان، ووجوب رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والخلاص من النار، يا زر إذا ختمت القرآن فادعُ بهؤلاء الدعوات، فإن حبيبي رسول الله أمرني أن أدعو بهن عند ختم القرآن" (¬2). وعن أبي زكريا الفراء قال: إن الأنصار جمعوا نفقة فأتوا بها إلى رسول الله وقالوا: إن الله قد هدانا بك وأنت ابن أختنا فاستعن بهذه النفقة على بيوتك، فلم يقبلها النبي -عليه السلام-، فأنزل الله {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬3) أي في قرابتي من قريش. وعن أبي مالك قال: لم يكن فخذ من قريش إلا للنبي -عليه السلام- (¬4) فيهم قرابة فقال: "إن لم تبايعوني على ما آتيكم به فاحفظوا قرابتي فيكم " (¬5)، قيل: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال سعيد بن جبير: القربى آل محمَّد، فقال ابن عباس: أعجلت، إن رسول الله (¬6) لم يكن بطن] (¬7) من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: أن لا تصلوا بيني وبينكم من القرابة (¬8). {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} يصيره غير سامع ولا قائل للوحي، والواو في ¬

_ (¬1) (ثم) من "أ" "ي". (¬2) ذكره في كنز العمال (2/ 153) وقال الذهبي في الميزان (3/ 108): هذا خبر منكر عزاه في "الدر المنثور" (13/ 143) لابن النجار في تاريخه. (¬3) ذكره الفراء في معانيه (3/ 22)، وانظر تخريج الأحاديث والآثار (3/ 239) وقال: غريب. (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) ابن سعد (1/ 24)، والحاكم (2/ 444)، والبيهقي في الدلائل (1/ 185) عن الشعبي. (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) هنا ينتهي السقط الكبير من نسخة "أ". (¬8) ابن جرير (20/ 495)، والطبراني في الكبير (13026).

{وَيَمْحُ اللَّهُ} (¬1) لعطف الجملة لا للعطف على المجزوم، وسقوط الواو هاهنا كسقوطها من قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} [الإسراء: 11] إذ لو كان معطوفًا لما ذكر اسم الله تعالى وأن هو الباطل واجب بالإجماع غير موقوف على جزاء وشرط. وعن علي قال: خصلتان حفظتهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وأنا أحب أن تحفظوهما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3): "ما عاقب الله عليه عبدًا في الدنيا من ذنب فالله أرحم من أن يثني عقوبته عليه في الآخرة، وما عفا الله عن عبده في الدنيا من ذنب (¬4) فالله أكرم من أن يعود في شيء عفا عنه " (¬5). وعن أبي موسى (¬6) الأشعري عنه -عليه السلام- (¬7): "لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر" ثم قرأ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (¬8). {كَالْأَعْلَامِ} الجبال. {فَيَظْلَلْنَ} في محل الجزم لأنه معطوف على مجزوم {رَوَاكِدَ} سَوَاكِن. {شُورَى} اسم من المشاورة، ووجه المدح على كون الأمر شورى بينهم قبح الاستبداد والتضاد كقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. ¬

_ (¬1) في "ب": (يمح الله ما يشاء) وهو خطأ. (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (وسلم) ليست في "ي". (¬4) من قوله (فالله أرحم) إلى هنا ساقط من "أ". (¬5) الترمذي (2626)، وابن ماجه (2604)، وأحمد (1/ 99، 159)، والحاكم (1/ 48) والحديث حسن والبعض يضعفه. (¬6) في "ب": (يوسف) وهو خطأ. (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) الترمذي (3252) والحديث ضعيف.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬1) في بيعة أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنهما -: إنها كانت فتنة وقد وقى الله شرها، فلا تكون الإمارة من بعد إلا عن مشورة (¬2). {إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} وجه المدح على الانتصار عند البغي كراهة الذلة والتمسكن وتمكين العدو من الأهل والنفس. وعن علي - رضي الله عنه - (¬3) عنه -عليه السلام- (¬4) "إن الله ليبغض من يدخل عليه بيته ولا يقاتل" (¬5) وهذا محمول على من لم يقاتل فشلًا وجبنًا وخذلانًا لأهله وعياله دون من سلّم الله أمره وكره الفتنة كهابيل وعثمان والحسن بن علي - رضي الله عنه -: المستبان ما قالا من شيء فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم (¬6). {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} لأنهم يحشرون على وجوههم، ويطمس على أعينهم وإنما ينظرون إلى العرش أو إلى النار. {مِنْ نَكِيرٍ} إنكار أي لا يستطيعون الإنكار يومئذ. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} أي يجعل الأولاد ذكورًا أو إناثًا. {إِلَّا وَحْيًا} إلهامًا {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهو إلقاء الكلام في مسامع البشر من غير واسطة {أَوْ يُرْسِلَ} من الملائكة {رَسُولًا} والكلام الذي هو عن إدراك البشر إياه كلام الله تعالى حالة مشاهدة العبد إياه وذلك لوجوب الاضمحلال عند تجلي ذي الجلال. {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أي لست تعرف إيمانًا سماعيًا ¬

_ (¬1) (رضي الله عنه) ليست في "أ" "ي". (¬2) أحمد (1/ 55)، وابن حبان (413، 414)، والنسائي في الكبرى (7151) والحديث صحيح. (¬3) (رضي الله عنه) ليست في "ب". (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ذكره علي بن الجعد في مسنده (2123) عن إبراهيم بلفظ: كانوا يرون، وذكره. (¬6) أخرجه مسلم (2578)، والإمام أحمد (12/ 138)، والترمذي (1981) من حديث أبي هريرة.

من جهة الكتاب ولا إيمانًا عقليًا من جهة الاعتبار فحولك وقوتك وقضية طبيعتك {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} روحًا من أمرنا {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} بالإلهام مرة وبالرسالة أخرى كما هديناك، وقيل: لم يكن فيما مضى من الزمان تعرف القرآن ولا الإيمان السماعي. ***

سورة حم الزخرف

سُورَةُ حمَ (¬1) الزّخْرُفِ مكية (¬2)، وهي تسع وثمانون آية في غير عدد أهل الشام (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أفنعرض بالذكر عنكم، تقول: ضربت عن فلان وأضربت عنه إذا أعرضت عنه. {مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} بينهم وهي سنة الله فيهم. {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ} تقديره ليسندن خلقهن إلى {الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (¬4) وإنما يحتاج إلى هذا التقدير إذا وصلنا التي تليها، وإذا فصلنا (¬5) فالتقدير في الثانية أجل هو {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ}. {عَلَى ظُهُورِهِ} إلى ضمير عائد إلى ما فيه، وإنما جمع الظهور مع كونها مضافة إلى واحد لكون الواحد في معنى الجمع كقولهم كثر أوباش الجند وقلّت أوباشه. ¬

_ (¬1) (حم) من "ب" "ي". (¬2) نقل ذلك السيوطي في الدر (13/ 184) عن ابن عباس رواه ابن مردويه، وانظر "البيان" لأبي عمرو الداني (223). (¬3) في الشافي (88) آية، وانظر "البيان" (223). (¬4) من قوله (خلقهن) إلى هنا ليس في "ب". (¬5) من قوله (التي) إلى هنا ليس في "أ".

{مُقْرِنِينَ} مستطيعين، والإقران الاستطاعة والإطاقة والاقتدار. {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} يجوز أن يكون كلامًا مبتدأً (¬1) عن جهة الله على سبيل الإنكار، ويجوز أن يكون حكايته قوله {وَإِذَا بُشِّرَ} بألا نبي من الكفار. وليس في قوله {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)} ما يمهد لليهود والنصارى عذرًا لأنهم محرِّفون مبدِّلون غير مستمسكين ولو كانوا مستمسكين لكانوا مستسلمين في محوه وإثباته وتصريف آياته. {عَلَى أُمَّةٍ} (¬2) أنه على سنة وطريقة. {بَرَاءٌ} مصدر كالسواء والملاء. والمعنى: أنا بريء مما تعبدون وأنه {سَيَهْدِينِ} للإسلام. {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} بأنه وضع في تلبية الحج: لبيك لا شريك لك وبأنه قال: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي يعرضون عن الكفر ويعتزلونه، وقيل: جعلها كلمة باقية في عقبه لعل عقبه يرجعون إلى قضية تلك الكلمة إذا اختلفت بهم الأهواء. {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} نزل في الوليد بن المغيرة حيث قال (¬3): لولا أنزل هذا القرآن علي بمكة أو على مسعود الثقفي بالطائف (¬4). {وَمَعَارِجَ} سلاليم. {وَسُرُرًا} جمع سرير، وهو مجلس يُتخذ من الألواح ونحوها في ¬

_ (¬1) أي أنه مبتدأ وخبره محذوف والتقدير أوَمن ينشأ جزءٌ أو ولدٌ إذ جعلوه لله جزءًا، ويجوز أن يكون في محل نصب مفعولًا بفعل مقدّر أي: أو يجعلون من ينشأ في الحلية. ذكر الوجهين السمين الحلب في. [الدر المصون (9/ 578)]. (¬2) (أمة) ليست في الأصل. (¬3) في "ب": (قالوا). (¬4) رواه ابن أبي حاتم كما في الدر (13/ 202) عن ابن عباس.

البيوت، ووجب حبّ هذه النعم على الكفار {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} بكرم الله ومحبته أن لا يخلي عبدًا من إحسانه إما عاجلًا وإما آجلًا. وعن ابن عباس عنه -عليه السلام- (¬1): "لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد ولصببت الدنيا عليه صبًّا" (¬2). وعن كعب قال: إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يجزع عبدي المؤمن لكلّلت رأس الكافر بإكليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع (¬3). {وَمَنْ يَعْشُ} يميل، قال أبو الهيثم: يقال: عشوت إلى الشيء إذا أملت إليه، وعشوت عنه إذا أعرضتُ عنه، وأصله تبيُّن الطريق في الليل بضوء النار في الظلمة، ولا يكون ذلك إلا على ضعف. وعن الزهري: لما أسري بالنبي -عليه السلام- (¬4) صلّى خلفه كل نبي كان أُرسل، فقال للنبي -عليه السلام- (4): {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} (¬5) ويجوز أن يكون التقدير: سل آل من أرسلنا، أو سل ذوي من أرسلنا (¬6). {يَضْحَكُونَ} يستهزئون. {أَمْ} بمعنى بل، ويحتمل أنه مترتب على ألف الاستفهام، كأنه قال: أفلا تبصرون مزيتي على موسى أم تبصرونها فأنا خير منه عندكم. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) هذا مروي عن مغيث بن سمي قال: نجد في كتاب الله وذكر شيئًا قريبًا منه، انظر الحلية (6/ 69). (¬3) ذكره ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (102). (¬4) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) نقله عن الزهري ابن الجوزي في تفسيره: زاد المسير (4/ 79) وهو مروي عن عبد الرحمن بن زيد. أخرجه الطبري في تفسيره (20/ 605). (¬6) الأصل عدم التقدير، والتقدير الذي ذكره المؤلف مخالف لظاهر سياق الآية، فسؤال المرسل إليهم يختلف تمامًا عن سؤال آلهم أو ذويهم فيبقى النص على ظاهره بدون تقدير، ولم أجد أحدًا سبق المؤلف أو لحقه على ذلك، والله أعلم.

{آسَفُونَا} أغضبونا (¬1). {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} أي وضع آية ومعجزة وقد سبق القول في كيفية جدال قريش وكيفية الرد عليهم. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (¬2): "ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال" (¬3) ثم تلا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: إن كان ما يقول أبو هريرة حقًا فهو عيسى ابن مريم (¬4) {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} قال سفيان: يقول أبو هريرة حقًا أقروه مني السلام عني في الحديث نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال في آخر الزمان، ولكان يجوز أن يقول الضمير عائد إلى عيسى ابن مريم قبلما رفع إلى السماء فإنه لم يُبعث إلا في آخر الزمان، ولكان يجوز أن يقول الضمير عائد إلى القرآن أو إلى نبينا -عليه السلام- (¬5) والقول عند قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ} مضمر يدل عليه قوله: {وَاتَّبِعُونِ}. {بِصِحَافٍ} جمع صحْفَة وهي كالقصعة المسطحة {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب وهو القدح الذي لا عروة له {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} تستطيب. {لَا يُفَتَّرُ} لا يحدث الفتور فيه (¬6). ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنه -. أخرجه الطبري في تفسيره (20/ 617) وابن أبي حاتم (10/ 3284). (¬2) في "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) الترمذي (3253)، وابن ماجه (48)، وأحمد (5/ 292، 256)، والطبراني في الكبير (8067)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (135، 136)، والحاكم (2/ 486)، والبيهقي في الشعب (8438) والحديث حسن. (¬4) عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (3/ 199)، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 487). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) أي لا يخفف عنهم العذاب. كذا قال الطبري (20/ 647) وأصل الفتور الضعف.

{لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} بالموت كقولهم: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} [الحاقة: 27]، و (مالك) اسم خازن النيران وهو رئيس الزبانية. وعن عبد الله بن عمر قال: نادى أهل النار {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قال: فخلّى عنهم أربعين عامًا ثم أجابهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} فقالوا: ربنا أخرجنا منها، فخلّى عنهم مثلي الدنيا ثم أجابهم {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فأطبقت عليهم ثانية، فما نَبَس القوم بعد هذه الكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق (¬1). {أَمْ} بمعنى ألف الاستفهام {أَبْرَمُوا} أحكموا، أُنزلت الآية في شأن الذين تشاوروا في كيد رسول الله (¬2) في دار الندوة (¬3) أو في أمثالهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار يدل عليه قوله: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} أي لم يبرموا أمرًا {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}. {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} قال الكلبي: إن النضر بن الحارث بن علقة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي لعنه الله تعالى كان يهزأ بالقرآن وأنكر عليه عثمان بن مظعون وقال: اتقِ الله فإن محمدًا ما يقول إلا حقًا. قال النضر بن الحارث: وأنا والله ما أقول إلا حقًا، فإني أقول لا إله إلا الله كما يقول محمَّد لا إله إلا الله ولكنني أقول أنهنَّ (¬4) من بنات الله؛ أي الأصنام فأنزل، فلما سمعها النضر بن الحارث فهم منها ما أعجبه وقال: إن محمدًا قد صدّقني، فقال الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكنه كذبك، فإنه يقول ما كان للرحمن ولد لا يعني من أن يكون له ولد، فغضب النضر بن الحارث عند ذلك وقال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} [الأنفال: 32] الآية، فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عمر (20/ 650)، والبيهقي في البعث والنشور (649)، وابن أبي شيبة (13/ 152)، وابن أبى الدنيا في صفة النار (168). (¬2) "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) أشار إلى ذلك ابن الجوزي في تفسيره (4/ 84) والقرطبي في تفسيره (16/ 118). (¬4) في الأصل و"ب": (أن) وهو خطأ.

بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)} [المعارج: 1] قال: ذهب إلى هذا أهل التفسير والمعاني (¬1)، فقال ابن عرفة: إنما يقول عبد يعبد فهو عبد، وقال ما يقال عابد، والتقدير: عبده إن كان في أوهامكم وآرائكم للرحمن ولد فانا أول عابدٍ لله بالتوحيد الخالص، وقيل: التقدير: لو كان يجوز أن يكون للرحمن ولد لكنت أول عابد لذلك الولد، وقد ذكرنا قضية لفظ أو ولو كان هذا التقدير الآية فهي قريبة من قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4] وإنما يكون مثل هذا الكلام للتنبيه على غاية الاستحالة. ... ¬

_ (¬1) النضر بن الحارث بن علقمة كان من أشد قريش في تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وايذائه وأصحابه، ونزل في حقه عدة آيات من القرآن، أسره المقداد يوم بدر وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه فقتله علي بن أبي طالب. [الكامل في التاريخ (1/ 594)].

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَانِ مكية (¬1)، وهي ست وخمسون آية في عدد أهل الحجاز والشام (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} هي ليلة القدر (¬3). وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان (¬4)، ولا يصح هذا القول إلا أن تكون ليلة القدر دوّارة في السنة للتفاوت الذي بين الحساب الشمسي والقمري أو لمعنى لطيف إلهي. وقال ابن مسعود: من يقم الحول يُصب ليلة القدر (¬5). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لست ليال خلون من رمضان، والزبور لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، والإنجيل نزل لثلاث عشرة ليلة (¬6) ¬

_ (¬1) نقل السيوطي مكيتها عن ابن عباس وابن الزبير عن ابن مردويه، انظر الدر المنثور (13/ 245). (¬2) هي (59) في الكوفي، و (57) في البصري، انظر "البيان" (225). (¬3) هذا مروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. انظر الدر المنثور (13/ 248) وعن قتادة عند الطبري (21/ 5). (¬4) رواه ابن أبي حاتم (9/ 3287)، وانظر "زاد المسير" (7/ 336). (¬5) مسلم (762). (¬6) (لثلاث عشرة ليلة) بدلها فراغ في "ب" "أ"، وفي "ي": (ثلاثة عشر خلت).

خلت من رمضان، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان (¬1). وعن ابن عباس: نزل القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم كانت تنزل بعد كيف ما شاء الله (¬2) وذلك قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75]. {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} نصب على أنه حال للمنزل أي أنزلناه أمرًا من عندنا (¬3). {بِدُخَانٍ} وهي آية منتظرة (¬4) من الآيات العشر. وعن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت (¬5): لمَ؟ قال: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يطرق الدخان. وسلوني عن سورة "البقرة" وعن سورة "يوسف" فإني قرأت القرآن وأنا صغير (¬6). وعن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود قال: إن قاصًّا يقص يقول يخرج من الأرض الدخان فيأخذ بمسامع الكفار ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، قال: فغضب وكان متكئًا فجلس ثم قال: إذا سئل أحدكم عما يعلم فليقل به، وإذا سئل عما لا يعلم فليقل: الله أعلم [فإن من علم الرجل إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم] (¬7) وإن الله قال لنبيه: ¬

_ (¬1) الطبري (21/ 6). (¬2) عزاه السيوطي في الدر (13/ 248) لابن مردويه. (¬3) نصب "أمرًا" على أنه حال هو قول الأخفش نقله عنه الزجاج في معانيه. وجوّز الزجاج أن يكون منصوبًا بـ"يفرق"، أي أنه مفعول له، وهو قول الفراء، ذكره في معانيه. وذهب الزمخشري إلى أنه منصوب على الاختصاص. [معاني القرآن للزجاج (4/ 424)، معاني القرآن للفراء (3/ 39)، الكشاف (3/ 500)]. (¬4) في "ب": (مسطرة). (¬5) (فقلت) ليست في "ب". (¬6) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 206)، والحاكم (4/ 459). (¬7) ما بين [...]، من "ب" "ي".

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] إن رسول الله لما رأى قريشًا استصعبوا عليه، قال: "اللهم أعِنِّي بسبع كسبع يوسف" فأخذهم سنة فأحصت (¬1) كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة. وروي العظام قال: وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، قال: وأتاه أبو سفيان فقال: إن قومك قد هلكوا فادعُ الله لهم. قال: فهذا قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ} الآية، وقيل: هذا لقوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} قال: فهل يكشف عذاب الآخرة وقد مضى البطشة واللزام يوم بدر والدخان (¬2) وهذا مخالف لما تقدّم، والله أعلم بالصحيح. {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} في معنى قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105]. {فَاعْتَزِلُونِ} فاتركوني واهجروني. {رَهْوًا} سكونًا أو متتابعًا، تقديره: اترك البحر ساكنًا على حالته (¬3) وعلى حالة الانفلاق غير مضطرب ولا ملتطم، أو اترك البحر متتابعة أمواجه في الهواء {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. {فَمَا (¬4) بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ} أي أهل السماء {وَالْأَرْضُ} أراد مبالغة وصفهم في الهوان. وسئل ابن عباس (¬5): أتبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم إنه ليس من الخلائق أحد إلا وله باب من السماء أو في ¬

_ (¬1) في الأصل: (سنة حتى فاحصت). (¬2) البخاري (1020)، ومسلم (2798). (¬3) وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 35) وابن أبي حاتم (10/ 3288) وهو الذي رجحه الطبري، ومنه قول الشاعر: كأنَّما أهل حُجْرٍ ينظرون متى ... يرونني خارجًا طيرٌ ينادِيدُ طَيْرٌ رأتْ بازيًا نَضْحُ الدماءِ به ... وأمُّهُ خرجتْ رَهْوًا إلى عيدِ (¬4) (فما) ليست في "ب". (¬5) المثبت من "ب"، وفي البقية: (عياش).

السماء يصعد فيه عمله وينزل رزقه، فإذا مات المؤمن بكت عليه معاديه من الأرض التي يذكر الله فيها ويصلِّي، وبكا بابه الذي يصعد منه، وأما قوم فرعون فلم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبكِ عليهم السماء والأرض (¬1). وإنما كان فرعون بدلًا من {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} لكون المراد ذا العذاب المهين، ولكون فرعون نفسه عذابًا من الله علي بني إسرائيل. {قَوْمُ تُبَّعٍ} التتابعة ثلاث من حمير: أولهم: تبع بن الأقرن بن شمر وهو الذي سار على جبل طيئ ثم على الأنبار فأتى أذربيجان وقاتل الترك فهزمهم وسبا منهم، ثم إنه غزا الصين بعد ذلك فترك طائفة من قومه بأرض تبّت. والثاني: تبع بن كليلرب كان يعرف بالنجوم ويسير بها ويمضي أموره بدلالتها، فطالت مدته واشتدت وطأته فحملته حمير فقتلته وملكوا ابنه حسانًا على أنفسهم، وقيل: إن هذا التبع الثاني كان مؤمنًا بنبيّنا -عليه السلام- (¬2)، ثم إن حسان بن تبع سار إلى اليمامة لينصر طسمًا على جديس وهو ظالم فأهلكهم أجمعين، ووثب عليه قومه بعد ذلك فقتلوه برضا أخيه. والثالث: تبع بن حسان وهو الذي سلط جد امرئ القيس علي بني معد بن عدنان وقتل من اليهود جماعة بيثرب، ثم تهوّد وكسا الكعبة الأنطاع، وبقي الملك في أهل بيته إلى أن ملك ذا نواس وهو صاحب الأخدود فيما زعموا فاغتالوه فأدمغوه بشدة. ... ¬

_ (¬1) ابن جرير (21/ 45، 45)، والبيهقي في الشعب (3288). (¬2) (السلام) ليست في "ي".

سورة الجاثية

سُورَةُ الجَاثِيَة مكية (¬1). وعن ابن عباس وقتادة: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14] الآية (¬2)، وهي ست وثلاثون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {وَفِي خَلْقِكُمْ} معطوف على الضمير المحذوف التقدير: وفي خلقكم وخلق ما يبث من دابة. {بَعْدَ اللَّهِ (¬4)} بعد تسميته وذكره. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ} نزلت الآية في النضر بن الحارث (¬5) وأمثاله والمبتدعون الذين يلازمون مجالس العلماء ليتحمّلوا بهم متصفون بالآية الأولى، الذين يتعاظمون محاكاة العلماء والفقراء في أنفاسهم متصفون، أقلّ الله أعدادهم وقطع أمدادهم منتقمًا لدينه وذويه. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ} نزلت فيمن نزلت أن كفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة، ¬

_ (¬1) نقل السيوطي عن ابن مردويه مكيتها عن ابن عباس وابن الزبير. انظر "الدر المنثور" (13/ 293). (¬2) زاد المسير (7/ 254)، والقرطبي (16/ 136). (¬3) في الكوفي (37) آية. انظر "البيان" (226). (¬4) (الله) ليست في "أ". (¬5) زاد المسير (7/ 355)، والقرطبي (16/ 158).

وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خاصة حيث شتمه رجل من بني غفار (¬1). {يَغْفِرُوا} يتركوا المجازاة إلى الله تعالى. {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} وسواء (مماتهم) لأن المؤمن يعيش راضيًا شاكرًا والكافر ساخطًا كافرًا، {وَمَمَاتُهُمْ} لأن المؤمن يعرج به إلى العليين، والكافر يتسفّل به إلى سجين. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر (¬2) {مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} من بعد ما فعل الله به هذا الفعل. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي كل الزمان، وفي حديث: "فإن ذا الدهر أطوار دهارير" (¬3) وقوله -عليه السلام- (¬4): "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله" (¬5) قيل: معناه لا تسبُّوا فاعل الكون والفساد وخالق الخير والشر فإن الله هو ذلك، وقيل: لا تسبُّوا الدهر فإن الله هو منشىء الدهر وخالقه، فكان سبُّهم في الحقيقة يرجع إلى الله، فنبّه النبي -عليه السلام- (¬6) عند ذلك. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} قال ابن عباس: كتاب في السماء عليه ملائكة، والملائكة الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما كان يعمل بنو آدم. وروي: ينسخون في ذلك الكتاب ما كان يعمل بنو آدم. ¬

_ (¬1) زاد المسير (7/ 357). (¬2) الذي روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما أخرجه عنه الطبري في تفسيره (21/ 93) وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3291) بلفظ: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان، وأما ما ذكره المؤلف فقد ذكره القرطبي في تفسيره منسوبًا إلى سعيد بن جبير. (¬3) ذكره في لسان العرب في مادة (طور) وقال في حديث سطيح. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) البخاري (5/ 2286)، ومسلم (2246)، والنسائي في الكبرى (6/ 457)، والبيهقي (3/ 365)، وأحمد (2/ 395) وغيرهم. (¬6) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -).

عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عنه -عليه السلام- "أن أول خلق الله القلم فكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برًا وفجورًا ورطب أو يابس وأحصاه في الذكر واقرؤوا إن شئتم {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه، فلله الحمد إنما كان هذا الموضع موضع حمد لفرق الله بين المؤمنين والكافرين وانتصافه للمظلومين من الظالمين، والله أعلم. ***

سورة الأحقاف

سُورَةُ الأَحْقَافِ مكية (¬1). وعن ابن عباس وقتادة إلا آية نزلت في عبد الله بن سلام وهي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 4] (¬2)، وهي أربع وئلاثون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ التقدير في قوله (¬4): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أرونيه {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} مصدر كالسباحة والشجاعة. سئل رسول الله -عليه السلام- (¬5) عن الخط قال: "علّمه نبي فمن وافق علمه علم" (¬6)، قال صفوان: فحدثت به أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: فحدثت به ابن عباس فقال: هو أثارة من علم (¬7). {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي ما أنا أول رسول على سنة الأولين، ¬

_ (¬1) نقل ذلك عن ابن عباس وابن الزبير كما في "الدر المنثور" (13/ 310) عن ابن مردويه. (¬2) ورد عن قتادة عند ابن عساكر (29/ 130، 131). (¬3) في الكوفي (35) آية، انظر "البيان" (227). (¬4) (التقدير في قوله) من "ب" "ي". (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بدل (-عليه السلام-). (¬6) أحمد (2/ 394) وسنده صحيح. (¬7) ذكره العقيلي في الضعفاء (2/ 293) عن عطاء مرسلًا.

وقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} في الذين شكوا إلى رسول الله (¬1) أذى المشركين، والقصة في ذلك أن النبي -عليه السلام- (¬2) كان قد (¬3) رأى في منامه أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل، فقصّ رؤياه على أصحابه ثم مضى زمان ولم يهاجر فاستعجلوه فقال: "إنما قصصت عليكم رؤيا رأيتها ولم أقصّ عليكم وحيًا لست أدري هل يؤذن لي في الهجرة أم لا"، هكذا ذكر الكلبي وغيره (¬4). وفحوى الخطاب أنه متوجه إلى المشركين في معنى قوله: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] الآية. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وهو عبد الله بن سلام (¬5) شهد على مثل القرآن وهو التوراة أنها ناطقة برسالة رسول الله (¬6)، وشهد أن القرآن من عند الله على مثل ما شهد به رسول الله (¬7)، وإنما دخلت شهادته في حيز التواتر وهو رجل واحد لأسباب مجتمعة: أحدها: ما نطقت به أحبار اليهود وعلماء النصارى والكهّان برسالة رسول الله قبل مبعثه. والثاني: اعتراف عامة أحبار اليهود بأن عبد الله بن سلام أفضلهم علمًا وأصدقهم حديثًا فكانوا صدقوه في شهادته هذه. ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بدل (-عليه السلام-). (¬3) (كان قد) ليست في "ب". (¬4) نقلها عن الكلبي عن ابن عباس القرطبي في تفسيره (16/ 186)، وابن الجوزي في تفسيره [زاد المسير (4/ 104)] وسنده ضعيف جدًا وعلته الكلبي فهو متهم، وذكره الواحدي في أسباب النزول (744) والفراء في معانيه (3/ 50). (¬5) الترمذي (3256، 3803)، وابن جرير (21/ 127). (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

والثالث: مخافة غيره عند قراءته بعث نبينا -عليه السلام- (¬1) وآية الرجم من التوراة في المصحف. والرابع: كونه غير دافع ضررًا عاجلًا عن نفسه وغير جارّ منفعة إلى نفسه بشهادته هذه إلا ابتغاء وجه الله. والخامس: استقامته على شهادته في تقلُّب أحواله، وقيل: إن شهادته لم تكن حجة ولم توجب علمًا إلا بعد تزكية الله إياه بالقرآن المعجز. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا (¬2)} قال الكلبي (¬3): نزلت في اليهود حيث قال لهم عبد الله بن سلام: لمَ لا تؤمنون بهذا النبي؟ فقالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} رعاة الشاة. وقال الفراء: نزلت في بني عامر وغطفان وأشجع حيث قالوا هذا في مزينة وغفار وجهينة (¬4). {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} قال الكلبي: نزلت في أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - (¬5). {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ} قال الكلبي: نزلت الآيتان في عبد الرحمن بن أبي بكر حالة كفره وهو بمكة يومئذ (¬6) {أَنْ أُخْرَجَ} أن أبعث من قبري. {بِالْأَحْقَافِ} قال الأزهري: الأحقاف رمال مستطيلة بناحية شجر (¬7). وقال ابن عرفة: يقال للرمل العظيم المستدير حقف. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (آمنوا) ليست في "ب". (¬3) "زاد المسير" لابن الجوزي (7/ 374) ولم يعزه لأحد. (¬4) ذكره الفراء في معانيه (3/ 51). (¬5) ابن عساكر في تاريخه (30/ 338). (¬6) هذا الأثر أنكرته عائشة. وقال ابن كثير: في صحته نظر. وقال ابن حجر في الفتح (8/ 577): لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسنادًا وأولى بالقبول. وعند الطبري (21/ 144) عن ابن عباس قال: هذا ابن لأبي بكر - رضي الله عنه - ولم يذكر اسمه. (¬7) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (4/ 68 - حقف) وقال: الأحقاف رمال بظاهر بلاد اليمن كانت عاد تنزل بها، ولهذا قيل للرمل إذا كان منحنيًا: حقف.

وعن علي - رضي الله عنه - قال: خير واديين في الناس وادي مكة ووادي نزل به آدم -عليه السلام- (¬1) بالهند، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف ووادي بحضرموت يدعى بدهوت يلقى فيه أرواح الكفار، وخير بئر في الناس زمزم، وشر بئر (¬2) في الناس ملهوث وهو في (¬3) ذلك الوادي (¬4). وعن عائشة قالت: كان النبي -عليه السلام- (1) إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر، فإذا مطرف سري عنه، فقلت له، قال: "وما أدري لعله كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬5). {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} عن كعب الأحبار قال: لما انصرف رسول الله من الطائف انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم حسّا ومسّا وشاصر وناصر والأردينان والأحقب جاؤوا قومهم منذرين فخرجوا وافدين على رسول الله وهم ثلثمائة، فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب وسلّم على رسول الله (¬6) فقال: إن قومنا قد حفروا الحجون [يلقونك فواعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لساعة من الليل الحجون (¬7)] (¬8). وعن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله -عليه السلام- (¬9) ليلة صرف إليه النفر من الجن إذ جاءه عفريت من الجن بشعلة من نار يريد بها رسول الله (6)، فقال له جبريل -عليه السلام- (¬10): "ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن طفيت شعلته وانكبّ لنحره؟ " قال: "قل أعوذ بوجه الله الكريم ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (عبد). (¬3) (في) من "أ" "ي". (¬4) عبد الرزاق في مصنفه (9118) إلى قوله (أرواح الكفار). (¬5) البخاري (4829)، ومسلم (899). (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) أبو نعيم في "الدلائل" (261). (¬8) ما بين [...]، ليست في الأصل. (¬9) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬10) (-عليه السلام-) ليست في "ب".

وكلمة الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما نزل من السماء ومن شر ما يعرج ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن" فطفيت شعلته وانكبّ لنحره ولم يعي ولم يكل (¬1). {بَلَاغٌ} أي هذا بلاغ {يُهْلَكُ} يموت على سبيل الإهانة والعذاب. ... ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (10793).

سورة محمد -عليه السلام-

سُورَةُ مُحمَّدٍ -عليه السلام- مدنية (¬1) (¬2). وروي عن ابن عباس إلا آية نزلت عليه وهو يريد التوجه من مكة إلى المدينة وهو قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمَّد: 13] (¬3) وهي تسع وثلاثون آية في عدد أهل الحجاز والشام (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت الآيات في غزوة بدر (¬5). {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} للتخيير وليست بمناقضة لقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلا أن هذه أفادت الحكم بعد الإثخان، وتلك تثبت الحكم قبل الإثخان، ولكنه منسوخ عند قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. ¬

_ (¬1) في "ي": (مدنية)، وفي البقية: (مكية) وهو خطأ. (¬2) في "الدر المنثور" (13/ 349) عن ابن عباس وابن الزبير أنها مدنية. (¬3) القرطبي (16/ 191). (¬4) في الكوفي (38) آية، و (40) آية في البصري. (¬5) ذكر ذلك القرطبي في تفسيره (16/ 223) ونسبه إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت في المطعمين ببدر وهم اثنا عشر رجلًا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأُبي وأمية إبنا خلف، ومنبه ونُبَيْه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة ابن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. لكن روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في أهل مكة، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} نزلت في الأنصار. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 181) والحاكم في مستدركه (2/ 457).

وعن السدي وابن جريج أنه منسوخ بآية السيف (¬1). {حَتَّى تَضَعَ} لامتداد الحكم إلى الغاية المذكورة وقت وضع أهل (¬2) {الْحَرْبُ} أسلحتهم والألف واللام في {الْحَرْبُ} للتعريف والمعهود، وقيل: للجنس، وفيه نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] الآية. وقال سعيد بن جبير: إنما يكون هذا الوقت عند نزول المسيح وهلاك الدجال (¬3) {عَرَّفَهَا} أي جعلها معروفة {لَهُمْ} بما جعل الله بينها وبينهم من المناسبة الطبيعية. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} جملة متركبة من شرط وجزاء، الجزاء دعاء، وتعس الرجل: إذا سقط. {وَلِلْكَافِرِينَ} من أهل مكة ونحوها {أَمْثَالُهَا} أمثال عاقبة الذين من قبلهم. {مَثَلُ الْجَنَّةِ} قيل: الاستفهام معروفة، فكأنه قيل (¬4): مثل المتقين فيما وعدوا من الجنة الموصوفة بهذه الصفات كمثل من هو {خَالِدٌ فِي النَّارِ} {آسِنٍ} آخر وهو المتغير (¬5) {لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} إنما وصفه به (¬6) لكون الحليب أحب إلى العرب من القابض (¬7)، أو الدلالة على طيب الهواء فإن الشيء لا يتغير في الهواء الطيب، أو لكون الحليب أوفق لطبائع الحيوان ¬

_ (¬1) أخرجه عنهما الطبري في تفسيره (21/ 183 - 184)، وأخرجه أبو عبيد في ناسخه (300)، وفي الأموال (343)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن (467)، لكن رجح الطبري أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وفصل القول في ذلك. انظر تفسير الطبري (21/ 187). (¬2) (أهل) ليست في الأصل. (¬3) عزاه في الدر (13/ 356) لعبد بن حميد. (¬4) في الأصل: (قال). (¬5) قاله ابن عباس. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 200) وابن أبي حاتم (10/ 3298) وهو قول أبي عبيدة والزجاج وابن قتيبة. [زاد المسير (4/ 118)]. (¬6) (به) من "أ" "ب". (¬7) في "ب" "ي": (العارض).

على العموم {لَذَّةٍ} ذات لذة وشراب لذ ولذيذ (¬1) بمعنى {عَسَلٍ} ما رزقنا الله في الدنيا من بطون النحل {مُصَفًّى} لا شمع فيه {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} واحدها معًى وهو مجرى الطعام والشراب في البطن وري المعدة. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} قيل أن جماعة من المنافقين كانوا يستمعون إلى رسول الله (¬2) ابتغاء هفوة منه، فإذا لم يجدوها وسمعوا المواعظة (¬3) تعاموا عنها كأنهم لم يسمعوها وسألوا المؤمنين ماذا قال آنفًا؟ [فمن جملة المنافقين رفاعة بن زيد والحارث بن عمرو في جملة الذين أوتوا العلم عند الله {آنِفًا} أي] (¬4) الإيمان مأخوذ من استئناف زادهم، قول النبي -عليه السلام- هدى. {أَشْرَاطُهَا} علاماتها. قال الأصمعي: ومنه الاشتراط الذي يشترط بعض الناس على بعض إنما هي (¬5) علامات بينهم، قال: هذا بيان للاشتقاق، فأما حقيقة الشرط فالخصلة الموجبة للحكم. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أنه الأمر بالاستقامة على العلم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وعند الأعمش قال: ما قعدت إلى أحد أكثر استغفارًا من [أبي صالح وقال أبو صالح: ما قعدت إلى أحد أكثر استغفارًا من أبي هريرة، وقال أبو هريرة: ما قعدت إلى أحد كان أكثر استغفارًا من] (¬6) النبي -عليه السلام- (¬7) (¬8). قلت: فكم كان يستغفر؟ قال: كان يستغفر الله (¬9) في اليوم والليلة مائة مرة (7). ¬

_ (¬1) في "ب" "ي": (لذوذ). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في الأصل: (الموعظة). (¬4) ما بين [...]، ليس في الأصل. (¬5) في "ب": (هو). (¬6) ما بين [...]، ليس في الأصل. (¬7) ذكره القرطبي في تفسيره (4/ 206) عن مكحول عن أبي هريرة. (¬8) (السلام) ليست في "ي". (¬9) (كان يستغفر الله) ليست في "ي" "ب".

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} ذكر الكلبي وغيره أن المؤمنين كانوا يشتهون نزول الآيات من القرآن وكان (¬1) المنافقون من جملة المؤمنين يكرهون نزول آي القتال ويُشككون فيها، فتوعدهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- على ذلك {فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد، ومثله قوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)} [القيامة: 34]، وقال الأصمعي: أولى له: قاربه ما يهلكه أي نزل به (¬2)، وقيل: أولى: تحسر. {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي ظاهر المنافقين طاعة وقول معروف {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي جد. {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} كدتم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} إن أعرضتم عن الإسلام، ألا ترى (¬3) قال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا} [محمد: 25] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]. والمراد بقوله: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ما كان بين الأوس والخزرج قبل الإسلام. {أَقْفَالُهَا} جمع قفل، ومثل جزء وأجزاء وقرض وأقراض، وهو آلة من الحديد ونحوه يغلق به الباب. فلان مقفل البدن إذا كان نحيلًا {وَنَبْلُوَا} عطف على قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} وإنما حسّن العطف عليه لكون النبلاء الأول مستندًا إلى الله في اللفظ والمعنى، والبلاء الثاني مستند إلى الله في اللفظ: أولى أوليائه في المعنى، أو المراد بالأول الإصابة بالبلايا والمكاره، والثاني الاختبار. {أَضْغَانَهُمْ} حقدهم. {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} صرف الكلام عن ظاهره قصدًا أو خطأً {وَلَنْ يَتِرَكُمْ} ¬

_ (¬1) في الأصل: (فكان). (¬2) في الأصل: (نزول فيه). (¬3) (ألا ترى) ليست في "ب".

لن ينقصكم، وفي الحديث: "مَن فاتته العصر فإنما هي (¬1) وتر أهله وماله" (¬2). {فَيُحْفِكُمْ} يبالغوا في السؤال عنكم. وعن أبي هريرة قال: قال أناس من أصحاب رسول الله (¬3): من هؤلاء الذين ذكرهم الله: إن تولينا يستبدلوا ثم لم يكونوا أمثالنا، قال: وكان سلمان بجانب رسول الله (3) فضرب رسول الله (3) فخذ سلمان قال: "هذا وأصحابه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطًا بالثريا لتناوله رجال من فارس" (¬4)، وروي "معلقًا بالثريا". وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الأبدال من الموالي" (¬5). ... ¬

_ (¬1) (هي) ليست في "ب" "ي". (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 445)، والنسائي في المجتبى (1/ 237)، والطبراني في الأوسط (8/ 331)، والكبير (12/ 439)، وأبو يعلى في مسنده (9/ 343) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا. (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) ابن جرير (21/ 233، 234)، وكذا هو عند الترمذي (3261) والحديث صحيح. (¬5) عزاه صاحب الكنز (34598) للحاكم في الكنى عن عطاء مرسلًا، وذكره الشيخ ناصر في "السلسلة الضعيفة" (1476).

سورة الفتح

سُورَةُ الفَتْحِ مدنية (¬1)، وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {إِنَّا فَتَحْنَا} عن عمر أنه كان يساير رسول الله في بعض أسفاره فسأله عن شيء فلم يجبه، قال: قلت: ثكلتك أمك يا عمر، سالت رسول الله (¬3) ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، فحركت بعيري وتقدمت بين يديه، فلم ألبث أن سمعت صارخًا ينادي، فأتيت رسول الله وقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، فقال رسول الله: "قد أُنزلت علي سورة هي أحب مما طلعت عليه الشمس" ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬4). وعن المغيرة بن شعبة أن النبي -عليه السلام- (¬5) صلّى حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ " (¬6). قيل: المراد بالفتح هو حكم الموادعة بين ¬

_ (¬1) نقل صاحب "الدر المنثور" (13/ 455) عن ابن عباس وابن الزبير ذلك. (¬2) انظر "البيان" (229). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (4177). (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) البخاري (4836)، ومسلم (2819).

رسول الله (¬1) وبين المشركين عام الحديبية، ويحتمل أنه معنى قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر: 2]. وعن أنس قال: أُنزلت على النبي -عليه السلام- (¬2) {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية، فقال النبي -عليه السلام- (¬3): "لقد نزلت علي آية أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها -عليه السلام- (¬4) عليهم فقالوا: هنيئًا مريئًا قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي} حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا} (4). وذكر الكلبي أن الله تعالى لما أنزل في المؤمنين من كتابه ما أنزل وذلك بالحديبية، قيل: رجع رسول الله (¬5) إلى المدينة، وبلغ ذلك ابن أُبي ابن سلول فقال لأصحابه: هيهات ما نحن إلا كهيئتهم، فأنزل الله {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} (¬6). وعن معاذ بن جبل قال: قال النبي -عليه السلام- (¬7): "ثلاث مَن كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مؤمن: إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف" فقيل: يا رسول الله هذا للمسلمين؟ قال: "إنما حدثت عن رجال من المنافقين حدثوا أنهم أسلموا فكذبوا وائتمنهم علي فخانوا ووعدوا الله فاخلفوا" (¬8). {ظَنَّ السَّوْءِ} ظن أسد وغطفان (¬9) أنه لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا سالمين. ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) البخاري (4172)، ومسلم (1786). (¬5) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) ذكره ابن الجوزي في تفسيره عن مقاتل (4/ 129). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) البخاري (1/ 84)، ومسلم (59) كلاهما في كتاب الإيمان. (¬9) (ظن أسد وغطفان) ليست في "ب".

{وَتُسَبِّحُوهُ} الضمير عائد إلى الله تعالى. {فَمَنْ نَكَثَ} ذكر الكلبي أن جد بن قيس كان من الذين نكثوا العهد وكان قد توارى تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم (¬1). {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآيات نزلت في مزينة وجهينة وأسد وغطفان وأمثالهم (¬2). {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ (¬3) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} أراد بنفي خروجهم بعد ذلك نفي تكليفهم وتشريكهم في الغنائم، فخرج جماعة منهم إلى خيبر متبرعين لا غنيمة لهم، وقيل: لم تكن غنيمة خيبر إلا لأهل الحديبية خاصة. {سَتُدْعَوْنَ} قد سبق في سورة "التوبة"، قيل: المراد بالدعاء دعاء رسول الله (¬4) الناس إلى فتح مكة بعد غزوة خيبر، وإنما يصح هذا التأويل بعد أن يكون المخلفون عن الحديبية غير المخلفين (¬5) عن تبوك. {لَقَدْ (¬6) رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} كان السبب في بيعة الرضوان {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} أن النبي -عليه السلام- (¬7) خرج من المدينة يريد العمرة وتجهز معه ناس كثير من أصحابه ومعهم هدي فهم يسوقون الهدي معهم، فبلغ ذلك قريشًا واستعدُّوا ليصدوه وأصحابه، وبعثوا خالد بن الوليد في عصابة لذلك، فلما بلغ النبي -عليه السلام- (7) مسير خالد بن الوليد أحبّ أن يأخذ طريقًا لا يعلم به أحد من المشركين فقال: "أي رجل منكم يأخذ بنا الطريق نحو السيف لعلنا ¬

_ (¬1) نقله عن الكلبي ابن الجوزي في تفسيره (4/ 130). (¬2) ابن جرير (21/ 257، 262، 267، 279، 280)، والبيهقي في الدلائل (4/ 164، 165). (¬3) (ذرونا نتبعكم) ليست في "ب". (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) في الأصل و"ب": (المخلفون). (¬6) في الأصل: (فقد). (¬7) (السلام) ليست في "ي".

نطوي مسلحة القوم" فقال رجل: أنا يا رسول الله، قال: "امضِ على بركة الله". فنزل الرجل عن راحلته، فلما نزل لم يقف النبي -عليه السلام- (¬1) بهدايته ثم عاد فقال: "أي رجل يأخذ بنا الطريق نحو السيف لعلنا نطوي مسلحة القوم؟ " فقال رجل آخر: أنا يا رسول الله، قال: "امضِ على بركة الله" فركب راحلته وطوى برسول الله خالدًا وأصحابه فلم تشعر بهم قريش حتى نزلوا الحديبية. ففزع المشركون لنزول النبي -عليه السلام- (1) الحديبية فجاءة فاستعدوا ليصدُّوه، فأراد النبي -عليه السلام- (¬2) أن يبعث إليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر: يا رسول الله لو بعثت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كانوا له أرق منهم لي. فبعث النبي -عليه السلام- عثمان، فسار إليهم فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره وحمله بين يديه على الفرس فلم يقربه أحد بأذى. ثم إن قريشًا بعثوا عروة بن مسعود إلى النبي -عليه السلام- (2) وأصحابه ليأتيهم بالخبر، فلما أتاهم عروة أبصر قومًا عُمّارًا لم يأتوا للقتال، فرجع إلى قريش فقال لهم: لم أرَ قومًا مثل قوم صدُّوا هؤلاء عند الكعبة، فشتموه واتهموه ثم بعثوا بديل بن ورقاء الخزاعي ورباب بن إطليس أخا بني الحارث بن عبد مناة. فلما قدما قال النبي -عليه السلام- (2) لأصحابه: "ابعثوا الهدي في وجوهها ولبُّوا"، فلما فعلوا ذلك رجع بديل وصاحبه إلى قريش فقالا لهم مثل مقالة عروة بن مسعود، فآذوهما واتهموهما وشتموهما. ثم بعثوا سهيل بن عمرو فقال رسول الله (¬3) حين أبصر سهيلًا: "هذا رجل فاجر وما أرى إلا وقد سهل من أمركم" فلما أتاهم سهيل ذاكرهم الهدية والموادعة، فاطمأن النبي -عليه السلام-، وانطلق أناس من المسلمين إلى ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله -عليه السلام-). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

عشائرهم بمكة فحبسوهم عندهم بمكة، فلما كان من أوسط النهار والقوم في الرحال أمر النبي -عليه السلام- بأخذ البيعة فنادى منادٍ في القوم بأمر رسول الله -عليه السلام- (¬1): ألا إن روح القدس جبريل -عليه السلام- نزل على رسول الله (¬2) يأمره بأخذ البيعة. فأتوا رسول الله فبايعوه، وكبرت تلك البيعة في صدور المشركين، وعهد أناس من المسلمين كانوا ببطن النخلة فأتوا عصابة من المشركين ووجدوهم جلوسًا فأخذوهم حتى أتوهم بالرجال رهائن من أصحابهم الذين في أيدي المشركين فأمسوا وهم على ذلك فقام رجل من المشركين من تحت الليل في أصحاب رسول الله، فثار المسلمون عليهم بالحجارة فرموا أعداء الله بها حتى أدخلوهم البيوت وهزموهم بإذن الله، فأقبل أشرافهم إلى النبي -عليه السلام- (¬3) فقالوا: يا محمَّد لم يكن من (¬4) رضي منا وإنما فعله سفهاؤنا، وعرضوا الصلح عليه فقبله بعد قهر المسلمين المشركين بالحجارة فأرسل كل واحد من الفريقين من كان في أيديهم وكتبوا القضية بينهم وبين رسول الله (3). وكان سهيل بن عمرو أمين المشركين على قضيتهم، وكتبوا أنا نتوادع سنين بعضنا لبعض آمن، فمن لحق بالنبي -عليه السلام- لم يقبله حتى تنقضي المدة ومن لحق بالمشركين من أصحابه فهو منهم، وإنكم لتسوقون الهدي فإذا حبسناه نحرتموه ليس لكم أن تجاوزوا موضعًا نحبسه، وإنكم إن شئتم اعتمرتم عامًا قابلًا في هذا الشهر الذي حبسناكم فيه، ولا تحملون بأرضينا سلاحًا إلا سلاحًا (¬5) في قراب وهو القوس والسيف (¬6). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) (من) ليست في "أ". (¬5) (إلا سلاحًا) من "ب" "ي". (¬6) في الأصل: (العسيف).

فأجابهم (¬1) النبي إلى ذلك، ووجد رجال من المسلمين من ذلك الشرط وَجْدًا شديدًا فقال النبي -عليه السلام-: "أما من لحق منا بهم فأبعده الله فهم أولى من كفر، وأما من أراد أن يلحق بنا منهم فسيجعل الله مخرجًا". وكان الكاتب علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فكان قد كتب في أول الصحيفة: هذا ما قضى عليه رسول الله فأبت قريش ذلك وقالوا: إن علمنا أنك رسول الله لم نمنعك عن بيت الله، بل أنت محمَّد بن عبد الله، فقال رسول الله: "أنا رسول الله وأنا محمَّد بن عبد الله (¬2) فاكتب يا علي محمَّد بن عبد الله وامحُ ما كتبت". فعظم على عليّ - رضي الله عنه - أن يمحو اسم رسول الله فمحاه النبي -عليه السلام- (¬3) بيده. فلما فرغوا من كتاب (¬4) الموادعة وختموا عليه أقبل أبو (¬5) جندل بن سهيل وهو يَرْسُف في قيوده، كان قد أسلم وقيّده أبوه فقال: إني مسلم وإني أعوذ بالله أن ترجعوني إلى الكفار، فتحرك عند ذلك رجال من المسلمين فكاد يكون شر، فقال النبي -عليه السلام-: "خلُّوا بينه وبينهم فإن يعلم الله من أبي جندل الصدق يجعل له مخرجًا" فانطلق أبوه وساق النبي -عليه السلام- (3) وأصحابه الهدي حتى قال المشركون: جلب الهدي ونحر عند ذلك وحلق النبي -عليه السلام- (3) رأسه وحلّ من إحرامه وعهد أناس من أصحابه فقصروا وكرهوا أن يحلقوا ولم يطوفوا بالبيت، فبلغ ذلك رسول الله (¬6) فأخرج رأسه من العمة قد حلقه فقال: "اغفر اللهم للمحلقين" فقيل: يا رسول الله وللمقصرين، فقال: "اللهم اغفر للمحلقين" ثم استغفر للمقصرين بعد ثلاث مرات. ¬

_ (¬1) في "ب": (فأجاب). (¬2) في "ب": (عبد المطلب). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله -عليه السلام-). (¬4) في "أ": (كتابة). (¬5) (أبو) من "ب" "ي". (¬6) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

فلبث رسول الله (¬1) في غزوة الحديبية شهرًا ونصف، فوعدهم خيبر أن يفتحها لهم ثم رجع النبي -عليه السلام- (¬2) إلى المدينة، ونزل عليه القرآن {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}. وعن جابر في هذه الآية قال: بايعنا رسول الله (1) على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت (¬3). وعن يزيد بن أبي عبيدة قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله (1) يوم الحديبية؟ قال: على الموت (¬4). وعن ابن عمر قال: كنا نبايع رسول الله (1) على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ينازع الأمر أهله وأن يقوم بالحق حيث ما كنا وأن لا يخاف في الله لومة لائم (¬5)، ثم يقول النبي -عليه السلام- (¬6): "فيما استطعتم". ثم إن الله تعالى جعل لأبي جندل بن سهيل مخرجًا، فهرب من قومه ولم يأتِ رسول الله (1) مخافة أن يرده إليهم على شرط، ولكنه عمد إلى ذي عروة فكان به (¬7)، واجتمع إليه قريب من سبعين رجلًا من المسلمين فعمدوا إلى عير قريش مُقْبلة من الشام أو ذاهبة إليها فأخذوها، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين، فأرسل المشركون إلى النبي -عليه السلام- (¬8) يناشدونه منعهم وإيواءهم وأنه في حل من الكتاب الموادعة، فكتب إليهم ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) الحديث بطوله أخرجه الترمذي (1591)، والنسائي (7/ 140)، وأحمد (3/ 292، 355، 381) والحديث صحيح. (¬4) البخاري (1529)، ومسلم (1860). (¬5) هذا الحديث ملفّق من حديثين الأول عن ابن عمر وعبادة بن الصامت، وكلاهما في مسلم (1867، 1709). (¬6) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) (به) ليست في "ي" "أ". (¬8) (السلام) ليست في "ي".

رسول الله فلحقوا به، وعلم الذين كرهوا القضية كيف صنع الله للرسول وللمستضعفين من المؤمنين. {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أسد وغطفان (¬1) حيث اعترضوا لرسول الله (¬2) في مسيره إلى خيبر فناجزهم رسول الله (¬3) دون خيبر، فعلموا أنه لا طاقة لهم به، فألقوا إليه السلم أن لا يكونوا معه ولا عليه. {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} الآية نزلت في الوقعة بين المسلمين والمشركين بالحديبية، والحديبية على أربعة ميال (3) من مكة. {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبو جندل بن سهيل وغيرهم كانوا بمكة (¬4) {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تخلص المؤمنون منهم وتميزوا. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} عن علي - رضي الله عنه -: كلمة التقوى لا إله إلا الله (¬5). وعن ابن عمر أن الكلمة التي ألزمناها ليلة الحديبية كلمة التقوى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير (¬6). {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} كان النبي -عليه السلام- (¬7) قد رأى في منامه أنه دخل المسجد الحرام مع أصحابه {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ (¬8) وَمُقَصِّرِينَ لَا ¬

_ (¬1) الأظهر أنهم كفار قريش كما قاله قتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 278). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في "ب" "ي": (أميال)، وفي البقية: (منازل). (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (16/ 285). (¬5) عبد الرزاف في التفسير (2/ 229)، وابن جرير (21/ 311)، والحاكم (2/ 461)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (197). (¬6) نقلها عن ابن عمر مختصرًا بغير هذا اللفظ القرطبي في تفسيره (16/ 289) وابن الجوزي في تفسيره (4/ 137). (¬7) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) (رؤوسكم) من الأصل.

تَخَافُونَ} وكانت رؤياه هذه قبل الحديبية فخرج إلى الحديبية وهو يطمع في تأويل رؤياه والمؤمنون كذلك، وكان تأويل الرؤيا عند الله مؤجلًا إلى سنة بعد ذلك، فلما صدّهم المشركون دخل (1) في قلوب أناس من المؤمنين، فأنزل الله ووعدهم عمرة القضاء على نحو ما رأى رسول الله (¬2) في منامه {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر. والواو في قوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ} لعطف الجملة {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} خشوعهم وخضوعهم، وقيل: بياض في وجوههم يوم القيامة، وقيل: هو الذي ينعقد على أكفهم وجباههم وركبهم كركب البعير، ولهذا سمي زين العابدين لعبادته {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ} أي هذا الذي ذكرنا صفتهم {شَطْأَهُ} فرع الزرع وهو ما ينبت من الزرع أصغر منه، وهذا الفرع لو آزر الزرع ليقوم على سوقه، فالزرع رسول الله (2) والشطء: أصحابه و {الْكُفَّارَ} هم الذين يقاتلون المؤمنين. ... ¬

_ (ا) في "أ": (خطر). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

سورة الحجرات

سُورَةُ الحُجُراتِ مدنية (¬1)، وهي ثمان عشرة آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحّمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله ابن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم على النبي -عليه السلام- فقال أبو بكر: بل أمر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي فقال: ما أردت إلا خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} الآية (¬3). وعن مسروق بن الأجدع قال: كنا عند عائشة أم المؤمنين يوم عرفة والناس يشكُّون يرون أنه يوم النحر، فقالت لجارية لها: أَخرجي لمسروق سويقًا وحليه فلولا أني صائمة لذقته، قال: قلت: فإنك صمت هذا اليوم، وهو يشك فيه، فقالت: نزلت هذه (¬4) الآية في مثل هذا (¬5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كان قوم يتقدمون رسول الله في الصوم وما أشبهه، فنهاهم عن ذلك. ¬

_ (¬1) نقل السيوطي في "الدر المنثور" (13/ 527) عن ابن عباس وابن الزبير مدنيتها. (¬2) "البيان" لأبي عمرو الداني (230). (¬3) البخاري (4367، 4847). (¬4) (هذه) ليست في "ب". (¬5) عبد الرزاق في "المصنف" (7310)، وابن أبي شيبة (9282).

وعن الحسن أن قوماَ ذبحوا قبل أن يصلي النبي -عليه السلام- (¬1) يوم النحر، فأمرهم رسول الله أن يذبحوا ذبحًا آخر، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2). وعن الكلبي أن الآية نزلت في المنذر بن عمر والساعدي وأصحابه حين قتلوا رجلين من أهل الميثاق فوداهما رسول الله (¬3). وإنما اختلفوا في سبب نزول الآية لعمومها واشتمالها على هذه المعاني كلها وتلاوة رسول الله -عليه السلام- (¬4) إياها عند كل حادثة من هذه الحوادث، فمَن سمعها عند حادثة ظنّ أنها نزلت فيها خاصة. وقد جمع مجاهد هذه الأقوال وقال: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} أي لا تعاونوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. {امْتَحَنَ اللَّهُ} ابتلى الله. {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} الآيتان نزلتا في حي من بني العنبر وهم من بني عمرو بن تميم كان قد أغار عليهم عيينة بن حصن الفزاري بأمر رسول الله (3) وسبي منهم سبيًا كثيرًا، فحضروا المدينة وقت الهاجرة فوجدوا رسول الله (3) قد دخل إلى أهله للقيلولة، فجعلوا ينادونه من المسجد: يا محمد يا محمد، حتى أيقظوه، فخرج إليهم وهو يمسح النوم عن وجهه، فجعل حكمهم إلى شبرة بن عمرو وهو رجل منهم وعلى دينهم، فحكم بفداء نصف الشيء وعتق النصف، ولو كانوا صبروا حتى يخرج إليهم رسول الله (3) لأعتق جميعهم وكان ذلك خيرًا لهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} السبب في نزول هذه الآية أن النبي -عليه السلام- (¬5) استعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو الفاسق على ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) ابن جرير (21/ 336، 337). (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (السلام) ليست في "ي".

صدقات بني المصطلق وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما توجه إليهم استقبلوه بالطاعة لوجه الله تعالى ولرسوله -عليه السلام- (¬1) فظنّ الفاسق (¬2) أنهم استقبلوه ليقتلوه فانهزم إلى رسول الله (¬3) وزعم أنهم خرجوا من الطاعة، فهمّ النبي -عليه السلام- (1) أن يغزوهم فقدموا عليه (¬4) معتذرين إليه (¬5) فلم يصدقهم رسول الله (3) حتى نزلت الآية (¬6). قرأ أبو سعيد الخدري (¬7): {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال: هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعتوا فكيف بكم اليوم (¬8). {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} عن أنس قال: قيل للنبي -عليه السلام- (¬9): لو أتيت عبد الله بن أُبي، فانطلق إليهم، فركب حمارًا، وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما أتاه وثار الغبار قال: إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: لحمار رسول الله -عليه السلام- (9) أطيب ريحًا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله هذه الآية. وعن أبي مالك قال: حيّان من الأنصار بينهما ملاحي وقتال بغير (¬10) سلاح، فأمر الله أن يصلح بينهما. وعن أبي مالك قال: اقتتل رجلان فأقبل حيّاهما فاقتتلوا بالنعال ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) (الفاسق) ليست في الأصل. (¬3) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في "ب": (إليه). (¬5) (إليه) من "ب". (¬6) أحمد (4/ 279) وسنده حسن. (¬7) (أبو سعيد الخدري) ليست في "ب". (¬8) الترمذي (3269) صحيح. (¬9) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله صلى الله -عليه السلام-). (¬10) في "ب": (بلا).

والعصي فأنزل الله فيهم. قال: هذه الآية (¬1) أصل في قتال أهل البغي وقد اقتتلت طائفتان من المؤمنين بعد رسول الله إحداهما أصحاب والأخرى أهل مصر (¬2) فجاء الحسين بن علي ليصلح بينهما فلم يقدر فغلب أهل مصر وقتلوا عثمان - رضي الله عنه -، ثم إنهم تركوا البغي وبايعوا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فثارت فتنة أخرى ثم أخرى ثم أخرى حتى صار علي - رضي الله عنه - إمامًا في معرفة قتال أهل البغي لأنه قتل الناكثين والباغين والمارقين، وقد قال أبو حنيفة - رحمه الله -: لولا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما عرفنا قتال أهل البغي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} قيل: حضر ثابت بن قيس مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) بعد امتلاء المجلس بالناس فلم يمرّ بأحد إلا تفسّح له إلا رجلًا واحدًا قال له: أصبت مكانك فاجلس، فذكر ثابت أمه وكان يعير بها (¬4)، وشبهت إحدى أمهات المؤمنين طرف إزار الأخرى بلسان الكلب فأنزل الله الآية (¬5). وعن أبي جبيرة (¬6) بن الضحاك قال: نزلت الآية فينا {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} جاءنا رسول الله وللرجل الاسمان والثلاثة، فجعل يدعو الرجل فيقول: يا رسول الله إنه ليغضب منه، فنزلت (¬7). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا} قال الكلبي: نزلت الآية في رجلين من أصحاب رسول الله -عليه السلام- (¬8) قد ضمّ كل واحد (¬9) من الفقراء إلى رجلين ¬

_ (¬1) البخاري (2691)، ومسلم (1799). (¬2) (مصر) ليست في "أ". (¬3) (وسلم) ليست في "ي". (¬4) ابن الجوزي في "زاد المسير" (7/ 465) عن أبي صالح عن ابن عباس. (¬5) نفس الكلام السابق. (¬6) في "ب": (جبير). (¬7) البخاري (330). (¬8) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله -عليه السلام -). (¬9) (واحد) ليست في الأصل.

من الأغنياء ليخدمهما ولينفقا عليه، فهذان الرجلان قدما صحبهما في سفر ليهيىء لهما المنزل والطعام فغلبه النوم فلم يفعل شيئًا مما أمراه به، فأرسلاه إلى النبي -عليه السلام- ليسأله فضل طعام، فلما غاب قال أحدهما للآخر: والله لو أرسلناه إلى سميحة أو سُمَيحة - وهي بئر ذات ماء كثير - لقال ليس فيها ماء فهذه عيبتهما. ثم إن الفقير أتى رسول الله -عليه السلام- (¬1) وأدّى الرسالة فقال رسول الله (¬2): "انطلق إلى أسامة بن زيد" وكان أسامة بن زيد يحفظ طعام رسول الله (2)، فأتاه فلم يجد عنده شيئًا، فرجع إلى صاحبيه وأخبرهما بالقصة، فأتاهما أسامة بن زيد وقالا: هو رجل بخيل أمره رسول الله ولم يعط فهذا ظنهما الذي هو الإثم، ثم إن الرجلين راحا إلى رسول الله (2) وقد أنزل الله هذه الآية (¬3) {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} لحلوله محل الاعتقاد الفاسد {أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} لأن المغتاب ينال من أخيه في حال لا يمكنه الامتناع كالذي يأكل لحم أخيه ميتًا. {شُعُوبًا} وهي الأجيال التي تشعّبت من أولاد نوح -عليه السلام- {وَقَبَائِلَ} هي البيوت من كل جيل، والآية نزلت في ثابت بن قيس (¬4). وعن ابن عباس قال: ما تعدُّون الكرام فيكم وقد بيّن الله أكرمكم عند الله أتقاكم، وما تعدون الحسب فيكم أحسنكم أخلاقًا أكرمكم إحسانًا (¬5)، وقال -عليه السلام- (¬6): "لينتهين رجال يفتخرون برجال من رجال الجاهلية قد صاروا حممًا في النار ويجعلنَّهم الله أذل من الجُعُل يدفع النتن بأنفه" (¬7) وقيل: الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره (16/ 331). (¬4) ابن الجوزي في "زاد المسير" (7/ 465). (¬5) "الأدب المفرد" (899) والحديث صحيح. (¬6) (السلام) ليست في "ي" وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، وأحمد (1/ 301) والحديث حسن.

{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} أراد به نفي الإيمان {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أثبت الدخول في ظاهر عقد الإسلام بظاهر التصديق على سبيل النفاق، والآية نزلت في نفر من بني الحلّاف، والحلّاف مرّة بن الحارث بن سعد أجدبت بلادهم فحضروا المدينة بذراريهم ونزلوا في طريق المدينة وأفسدوا الطريق بالنجاشة (¬1) وأغلوا الأسعار، ولم يَزالوا يأتون رسول الله ويقولون: أعطنا يا محمد أعطنا فإنا آمنا بك إيمانًا لم يؤمن به أحد من العرب لأنهم أتوك مثنى وثلاث ونحن انتقلنا إليك بالأهل والذرية حتى أنزل الله فيهم (¬2). ... ¬

_ (¬1) المثبت من "أ"، وفي الجميع: (النجاسة). (¬2) الظاهر أن الآية نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة بنفس القصة التي ذكرها المؤلف وقد رواها مجاهد. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 388) وذكره البغوي في تفسيره تعليقًا (2017) وورد بنحوه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند النسائي في التفسير (539)، أما ما ذكره المؤلف من أنها نزلت في الخلاف مرة بن الحارث بن سعد فلم نجد من ذكر ذلك، والله أعلم.

سورة ق

سُورَةُ ق مكية (¬1). وعن ابن عباس: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬2) وهي خمس وأربعون آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحْيمِ {ق} جواب قسَم مقدّم عليه تقديره: قرب الأمر (¬4) {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وقيل: جوابه {بَلْ عَجِبُوا} مرتّب على كلام سابق تقديره أن النبي -عليه السلام- (¬5) قال قبل نزول السورة (¬6): "اللهم اهدِ قومي" أو المؤمنين قالوا قبل نزولها: والله لو جاءهم آية ليؤمنن بها، أو المشركين قالوا قبل نزولها: ليت جاءتنا آية لنؤمنن بها ليكون قوله: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ¬

_ (¬1) السيوطي في "الدر المنثور" (13/ 609) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) القرطبي (17/ 7) عن ابن عباس وقتادة. (¬3) انظر "البيان" (231). (¬4) الأظهر أن جواب القسم إما أن يكون محذوفًا والتقدير: والقرآن المجيد لتبعثنَّ. قاله الزجاج والأخفش والمبرد والفراء. وقيل: الجواب: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ} [ق: 4]، وهو قول بعض البصريين، وقيل الجواب: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وقيل الجواب: {بَلْ عَجِبُوا} [ق: 2] وهو قول الكوفيين. [معاني القرآن للزجاج (5/ 41)؛ معاني القرآن للأخفش (2/ 483)؛ معاني القرآن للفراء (753)]. (¬5) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬6) في "ب": (الآية).

جملة متركبة من قسَم وجواب، وتلك الجملة ردّ لكلام سابق أو ضرب عن كلام سابق، وقيل: جواب القسَم في آخر السورة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى}. وعن عبد الله بن بريدة قال: {ق} جبل محيط بالأرض من زمردة عليه كنفا السماء (¬1). {مَرِيجٍ} مختلط ملتبس (¬2). {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أضيف إلى نفسه، ويجوز أن يكون الزرع هو الحصيد. {بَاسِقَاتٍ} طوال، وفي حديث ابن عباس أن عبد المطلب قال لسيف بن ذي يزن: ثبت أصله وبسق فرعه. وإنما قال {مَيْتًا} لاعتبار المعنى وهو البلد أو المكان. {أَفَعَيِينَا} الاستفهام للإلزام، والعيا الكلال. {خَلْقٍ جَدِيدٍ} نشأة الأخرى. قال الفراء: {حَبْلِ الْوَرِيدِ} مضاف إلى نفسه، و {الْوَرِيدِ} عرق بين الحلقوم والعلباوين (¬3) والله تعالى أقرب إلى كل نفس منها إليها (¬4) قائمة بأمره لا بنفسها. {قَعِيدٌ} قال ابن عباس: قعود (¬5)، وقال الفراء: ويجوز إرادة الجمع بلفظ الواحد كقول موسى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] ويجوز أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو الشيخ (992)، والحاكم (2/ 464)، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (13/ 613) إلى ابن المنذر وابن مردويه كلهم عن عبد الله بن بريدة. (¬2) قاله سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وابن زيد. أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 407). (¬3) لم نجده في معاني القرآن للفراء لكن نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (4/ 159). (¬4) (إليها) ليست في "ب". (¬5) رواه الفراء في معانيه بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (3/ 77).

يكون واحدًا اكتفى به عن صاحبه أي قعيدان كقوله: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف (¬1). {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي الموت، والدليل عليه قراءة عبد الله: {وجاءت سكرة الحق بالموت} (¬2) {تَحِيدُ} تميل وتحذر. {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} سائق يسوقها إلى الله وشهيد شاهد عليها يعلمها، وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل (¬3)، وقيل: السائق العمل، والشهيد الأعضاء. {وَقَالَ قَرِينُهُ} تابعه من الشياطين {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} لمخافة أن يؤخذ أخذ الكفيل. {أَلْقِيَا} أمْر الملكين، وقيل: الملك واحد أي ألقين بنون خفيفة {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} كليهما إياه وقرينه. {لَا تَخْتَصِمُوا} بعد وجود الاختصام لا يدل على نفيه كالنهي عن الكفر، وقيل قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا} في الكفار، وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 31] في المؤمنين. ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معانيه (3/ 77)، والبيت لعمرو بن امرئ القيس كما في جمهرة أشعار العرب (2/ 675)، والخزانة (4/ 275)، ونسبه سيبويه في الكتاب (1/ 75) إلى قيس بن الخطيم، وهو في ديوانه (ص 173). (¬2) هي قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبي بكر الصديق وسعيد بن جبير. وقال ابن عطية: يروى أن أبا بكر الصديق قالها لابنته عائشة - رضي الله عنهما -. وذلك أنها قعدت عند رأسه تبكي وهو ينازع فقالت: لَعَمْرُكَ ما يغني الثراءُ عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصَّدْرُ ففتح أبو بكر - رضي الله عنه - عينيه وقال: لا تقولي هكذا، وقولي: "وجاءت سكرة الحق بالموت ... ". [القرطبي (17/ 12)؛ معاني الفراء (3/ 78)؛ إعراب النحاس (3/ 217)؛ القراءات السبع وعللها (1/ 23)؛ المحرر (13/ 545)؛ معجم القراءات للدكتور عبد اللطيف الخطيب (9/ 106)]. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3308) ونقله ابن الجوزي في تفسيره (4/ 161).

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي لا مردّ لقولي {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)}. {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} قال ابن عباس: ما امتلأت، تقول: فهل فيَّ من مكان يزاد (¬1). {فَنَقَّبُوا} مشوا في النقوب وهي الطرق، وواحده نقب وذلك إشارة إلى القرآن. {بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} سليم غير مريض أو بمعنى الواو {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وقيل: أراد بذي القلب من استشعر قلبه فلم يبقَ فيه لغير الله حظ، وبمن {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} من يستمع إلى روح الله وندائه وهو يشاهد بروق التوحيد بسويدائه. {مِنْ لُغُوبٍ} عناء وتعب، والآية ردّ على اليهود قولهم في السبت. وعن عمر قال {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] الركعتان قبل الفجر {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} الركعتان بعد المغرب (¬2). وعن علي {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} الركعتان بعد المغرب (¬3). ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 3309). (¬2) نقله عن عمر ابن الجوزي في تفسيره (4/ 165). (¬3) أخرجه عن علي - رضي الله عنه - الطبري في تفسيره (21/ 469)؛ وابن أبي شيبة (2/ 523)؛ وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 240).

سورة الذاريات

سُورَةُ الذّاريَاتِ مكية (¬1)، وهي ستون آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سأل ابن الكوى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} قال: هي الرياح، وعن {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} قال: السحاب، وعن {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} قال: السفن، وعن {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} قال: الملائكة (¬3) {يُسْرًا} أي سهلًا. {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال ابن عرفة: ذات الخلق الوثيق، يقال: حبكه إذا أجاد صنعته، وقيل: ذات الطرائق، وقال مجاهد: ذات البنيان (¬4)، وقال الأزهري: هي الطرائق المحكمة (¬5)، وكل شيء أجيد عمله فهو محبوك وكل ما يراه من درج الرمل والماء إذا صفقته الرياح فهو حبك واحدها حباك أو حبيكة. ¬

_ (¬1) ذكر مكيتها ابن عباس وابن الزبير كما في "الدر المنثور" (3/ 363). (¬2) انظر "البيان" لأبي عمرو الداني (232). (¬3) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 241)، وابن جرير (21/ 479 - 483)، وابن أبي حاتم كما في التغليق (4/ 318)، والحاكم (2/ 466 - 467)، والبيهقي في الشعب (3991). (¬4) "زاد المسير" (8/ 29). (¬5) ذكره ابن الجوزي في الزاد (8/ 29) عن بعض اللغويين، وانظر لسان العرب (10/ 409 "حبك").

{قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} في رسول الله -عليه السلام- (¬1). {يُؤْفَكُ عَنْهُ} يصرف عن الإيمان به اليوم من صرف عنه بالإقرار في الأزل. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} على سبيل الدعاء والإيجاب لعن وأهلك الكذّابون، فكل قائل بالظن والتخمين خارص عمره وعيشه. {سَاهُونَ} غالطون. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} أي يوم يفتن هؤلاء على النار، وهو جواب سؤالهم أيّان يبعثون. والقول عند قوله: {ذُوقُوا} مضمر (¬2). {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ} وعن ابن عباس قال: كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا صلّوا فيها (¬3). {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} قال: كنا نؤمر بالسحر بالاستغفار سبعين مرة (¬4). وعن الضحاك قال: أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الضجعة (¬5). وعن أبي الجويرية قال: صحبت حماد بن أبي سليمان وعلقمة بن مربد ومحارب بن دثار وعون بن عبد الله وأبا حنيفة، فما كان في القوم أحسن ليلًا من أبي حنيفة، صحبته ستة أشهر فما رأيته ليلة واحدة وضع جنبه فيها (¬6). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) هكذا قدّره الفراء في معانيه (3/ 82)؛ وانظر: الدر المصون (10/ 44). (¬3) ابن جرير (21/ 502، 503)، والحاكم (2/ 467)، والبيهقي في "الشعب" (3109). (¬4) هذا عن أنس كما عند القرطبي (4/ 41). (¬5) ابن أبي الدنيا في "التهجد" (45). (¬6) تاريخ بغداد (13/ 355).

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} نصيب معدّ دون الواجب لأن الأسخياء والبخلاء (¬1) في الوجوب سواء، ثم لا يستحقون المدح. {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} آثار القدرة والحكمة والرحمة لمتفرد بالقدم والبقاء، قاضٍ بالحدوث والفناء، مستحق للعبادة والدعاء. وإنما قال: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ} ولم يقل مثل ما تنطقون؛ لأن التشبيه واقع بكونهم ناطقين حقًا لا يكون نطقهم حقًا لأن نطقهم في أعلى مراتب النطق وأبعد من الالتباس، فإن البهائم ناطقة من وجه غير وجه، وسائر الناس فيهم عجمة، والعرب في فصاحتهم قصور، وقريش هم الغاية في الفصاحة، وقيل: المراد بالتشبيه تشبيه نطق رسول الله -عليه السلام- (¬2) عن الغيب بنطقهم عن المشاهدات. {فِي صَرَّةٍ} صيحة وضجة، وقيل: صرير الباب، وقيل: صرير النعل، ومنه الاصطكاك. {وَفِي مُوسَى} معطوف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ} أو قوله: {تَرَكْنَاهَا آيَةً}. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي الاتحاد بروحه (¬3) والاعتصام بروحه. (الذَّنوب): الدلو العظيمة، وهاهنا عبارة عن التوبة والنصيب. ... ¬

_ (¬1) في "ب": (والبخلاء والأسخياء). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) لفظه الاتحاد بروح الله هي لفظة صوفية تنتهي بالمريد بها أن يفنى بروح الله حتى يتوهم أنه هو الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية [فتاوى شيخ الإسلام (13/ 199)] ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول فأحدهم قد يذكر الله حتى يغلب على قلبه ذكر الله ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا الله ويفنى ذكره وشهوده لما سواه فيتوهم أن الأشياء قد فنيت وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو الله، وأن الوجود هو الله كما قال أبو زيد: ما في الجبة إلا الله. اهـ.

سورة الطور

سُورَةُ الطُّورِ مكية (¬1)، وهي سبع وأربعون آية في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس في قوله: {وَالطُّورِ (1)} يقول: والجبل (¬3)، وكل جبل طور ولكن عني الله بهذا الجبل الذي كلّم الله موسى -عليه السلام- (¬4) عليه وهو بمدين واسمه زبير (¬5)، وكان حجابًا بين الله وبين موسى فسمع صرير القلم حين كتب له التوراة. {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} قال ابن عباس: البيت المعمور بيت في السماء حيال الكعبة يحجُّه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة يسمى الضُّراح (¬6). وعن علي - رضي الله عنه - في {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)}: السماء. ¬

_ (¬1) ذكر السيوطي مكيتها عن ابن عباس وابن الزبير كما في "الدر المنثور" (13/ 691). (¬2) وفي عدد البصريين (48)، وفي الكوفيين (49)، انظر "البيان" (233). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 3314). (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 175). (¬6) قريبًا منه عند الطبراني في الكبير (12185)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3314) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.

{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إ} قال: هو تحت العرش في رق جلد يكتب عليه (¬1). {تَمُورُ} تدور وتضطرب {دَعًّا} دفعًا، وهذا إشارة إلى العذاب وهو جزاء قولهم {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15]. {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أدركناهم إياهم. وعن ابن عباس قال: إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا لم يبلغوا في العمل لتقرَّ بهم عينه، ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا (¬2) وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية (¬3). والمراد بـ (الغلمان) الوصفاء، وتشبيههم باللؤلؤ لفرق بينهم وبين المشبهات بالبيض المكنون، فإن اللؤلؤ العيون والبيض العيون والبطون، فكذلك غلمان الجنة لا ينتفع بهم إلا بالرؤية، وينتفع بالجواري بالرؤية والمجامعة. {بِكَاهِنٍ} براهب ومنجم وعرّاف. ولقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} معنيان: أحدهما: أو وجدوا منفعلين من غير فاعل أم هم فاعلو أنفسهم. والثاني: أنهم مخلوقون محدثون من لا شيء. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} غير محدثين من لا شيء. {مِنْ (¬4) مَغْرَمٍ} غرامة، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ابن جرير (21/ 570). (¬2) (آمنوا) ليست في "ي" "أ". (¬3) هناد في الزهد (179)، وابن جرير (21/ 579)، والحاكم (2/ 468). (¬4) (من) من "أ" "ي".

سورة النجم

سُورَةُ النَجْمِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: إلا آية نزلت بالمدينة {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [النجم: 32] الآية (¬2)، وعن الحسن البصري أن السورة كلها مدنية (¬3) وهي إحدى وتسعون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} قال مجاهد: الثريا إذا سقط (¬5)، لقوله -عليه السلام-: "إذا طلعت النجم رفعت العاهة عن كل بلد" (¬6) فلما صار كون طلوعه معتبرًا صار كون نوئه في المغرب معتبرًا، وذكر أبو بكر ابن دريد أن الثريا تسقط لثلاث عشرة (¬7) ليلة تخلو من تشرين الثاني، وتطلع من المشرق رقيبها الإكليل، وتكون الشمس حينئذ بالممتحن في أربع وعشرين درجة من العقرب، ويكون طول النهار عشر ساعات وخمس ساعات (¬8)، ولسقوط ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 5) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) القرطبي (17/ 72). (¬3) القرطبي (17/ 72) بلفظ: (وقيل). (¬4) انظر "البيان" (234). (¬5) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 250)، وابن جرير (22/ 5). (¬6) أحمد (2/ 341)، والطراني في الصغير (104) وحسّنه الشيخ أرناؤوط وحققه الشيخ الألباني - رحمه الله -. (¬7) (عشرة) ليست في "أ". (¬8) في "أ" "ي": (ساعة).

الثريا بسبع ليال. وقال الضحاك: أراد بالنجم النجوم (¬1)، وقال الكلبي: أراد القرآن إذا نزل؛ لأن القرآن نزل نجومًا منجمة وهو رواية الأعمش عن مجاهد قال: أراد نجوم القرآن آية آية وسورة سورة (¬2). {عَلَّمَهُ} لقّنه {شَدِيدُ الْقُوَى} جبريل -عليه السلام- (¬3). {ذُو مِرَّةٍ} قوة {فَاسْتَوَى} في صورته. وعن عبد الله قال: رأى رسول الله -عليه السلام- (¬4) جبريل -عليه السلام- (¬5) له (¬6) ستمائة جناح كل جناح قد سدّ الأفق (¬7). {وَهُوَ} يعني جبريل رآه {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} قبل مطلع الشمس، وقيل: فوق السموات السبع. {قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر قوسين عربيتين، وقيل: القوس الذراع بلغة أزد شنوءة. وهذه المسافة كانت بين جبريل وبين نبينا -عليه السلام- (¬8) حين دنا من ذلك. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} وهو القرآن وما شاء الله من شيء بعد. وعن ابن عباس: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} رآه بقلبه (¬9) قال: كانت هذه الرؤية قبل المعراج ورسول الله -عليه السلام- (8) بأجياد أجياد (¬10) مكة. ¬

_ (¬1) هو مروي عن مجاهد كما في زاد المسير (8/ 62). (¬2) ابن جرير (22/ 6). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (له) ليست في "أ". (¬7) البخاري (4856)، ومسلم (174). (¬8) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" "أ": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬9) مسلم (176). (¬10) (أجياد) ليست في "ب".

{أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجحدونه. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال ابن عباس: رآه بفؤاده موسى (¬1)، وقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين (¬2). قال: وكانت هذه الرؤية ليلة المعراج وهو مرفوع إلى سدرة المنتهى. قال ابن مسعود: انتهى إليها ما يعرج من الأرض (¬3) وقيل: ينزل من فوق، وقيل: ينتهي علم الخلق إليها لا علم لهم بما فوق ذلك. {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إ} جنة من الجنان، وقيل: هي التي تأوي إليها أرواح الشهداء. {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ} في السماء السادسة، قال سفيان: فراش من ذهب. وعن الضحاك عن ابن عباس {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4): "رأيتها حتى أستثبتها ثم حال دونها فراش الذهب" (¬5). وعن الحسن: غشيها النور من دون النور كجراد الذهب (¬6). قال الأمير: إنما لم يزغ بصره عن رؤية {آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} لأنه لم يرع فؤاده عن مشاهدة ربه الأعلى وما روي عن عرباض بن سارية قال: رأى رسول الله (¬7) فراشًا من ذهب، ومن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد ¬

_ (¬1) مسلم (158) بلفظ: (رآه بفؤاده مرتين). (¬2) الترمذي (3278)، والصغاني في تفسيره (3/ 252)، وانظر عمدة القاري (15/ 143). (¬3) الترمذي (3276). (¬4) (وسلم) ليست في "ي". (¬5) الطبري (22/ 38)، وأبو يعلى (2656) وسنده ضعيف جدًا. (¬6) أخرجه مسلم في أفراده (173) من حديث ابن مسعود بلفظ: غشيها فراش من ذهب. (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

أعظم الفرية، وعن عائشة كذلك (¬1) فهما محمولان على نفي الرؤية بالعينين. {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} واشتقاق اللات من اسم الله تعالى، والعزى من العزيز فإنها تأنيث الأعز، ومناة تأنيث منا وهو القد، وقيل: سميت لاتًا لأن ممتها يلتُّ السويق للناس، ولو كان كذلك لكان التا مشددة (¬2)، وقيل: مناة تسمية أعجمية عرّبتها العرب (¬3)، وإنما اتصفت بالثالثة وبالأخرى جميعًا لأنها ثالثة الثلاث المعبودات دون الله تعالى، وثانية الظلمات في كونها صخرة مثلها، وأما العزى فكانت شجرة قطعها خالد بن الوليد بإذن الله تعالى وبأمر رسول (¬4) الله (¬5). وقيل: اتصافها بالأخرى لأن كل واحدة ثانية ما يتقدمها كقولك: هذه واحدة وهذه أخرى وهذه أخرى، وكانت الشياطين تحل هذه المحال الثلاثة فتكلم منها أولياءهم وهم يظنون أنها ذات أرواح، ويعتقدون الأرواح ملائكة وأنه ابنات ففي ذلك قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. ¬

_ (¬1) عن عائشة عند الترمذي (3068)، وأبي عوانة في مسنده (1/ 134)، وابن حبان (60) والحديث صحيح ولم نجده عن العرباض بن سارية. (¬2) واللات: نسبة لرجل كان يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 47 - 48). (¬3) مناة: هو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة، وقال أبو عبيدة: كان في جوف الكعبة، و {الثَّالِثَةَ} نعت لمناة هي ثالثة الصنمين في الذِّكر و {الْأُخْرَى} نعت لها. قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأخرى، وإنما الأخرى نعت للثانية، فيكون في المعنى وجهان، أحدهما: أن ذلك لوفاق رؤوس الآية كقوله تعالى: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] ولم يقل أُخر. قاله الخليل. والمعنى الثاني: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا تقديره: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل. [زاد المسير (4/ 188)]. (¬4) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) النسائي في الكبرى (11547) ففعل خالد بن الوليد وقطعها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيتُ الله قد أهانك

{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} اتباعهم الظن عبادتهم على قضية أوهامهم واتباعهم أهواء أنفسهم استباحتهم على قضية شهواتهم {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} القرآن والرسول فلزمهم الإيمان بالقرآن والرسول. {أَمْ} مرتبة على ألف الاستفهام {لِلْإِنْسَانِ} الكافر {مَا تَمَنَّى} شفاعة الملائكة بغير إذن (¬1) الله تعالى (¬2). {ذَلِكَ (¬3)} إشارة إلى الظن أو إلى إيثار الحياة الدنيا. {لِيَجْزِيَ} -عليه السلام- قوله: {فَأَعْرِضْ} أو قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} تقديره: لم يكن لله ما في السموات وما في الأرض إلا (¬4) {لِيَجْزِيَ}. وعن ابن عباس قال: {اللَّمَمَ} ما بين حد الدنيا والآخرة (¬5)، وسئل ابن عباس عن {اللَّمَمَ} فقال (¬6): إني لم (¬7) أرَ شيئًا أشبه من قول أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬8): "كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، ورنا اليد البطش، ورنا الرجلين المشي، وزنا اللسان المنطق، والنفس تهم (¬9) وتمني ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" (¬10). ولو شاء الله لم يذكر اللمم بالاستثناء ولكنه أحبّ ترجية المذنبين من المؤمنين. ¬

_ (¬1) في الأصل: (بإذن). (¬2) (تعالى) من الأصل. (¬3) (ذلك) من "ي". (¬4) (إلا) من "ي" "أ". (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (22/ 67)، والبغوي في الجعديات (272). (¬6) في "ب": (قال). (¬7) (لم) ليست في الأصل. (¬8) (رضي الله عنه) من الأصل. (¬9) في الأصل و"أ": (هم). (¬10) البخاري (6612)، ومسلم (2657)، والطبري (22/ 62) وغيرهم.

وعن ابن عباس في هذه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "إن تغفر اللهم تغفر جَمًّا، وأي عبد لك ما ألمّا" (¬2). {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} لا تثنوا عليها. {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)} قال مقاتل: نزلت الآيات (¬3) في الوليد بن المغيرة وقصته أن الله تعالى لما أنزل (¬4) على رسوله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] إن كان محمد قاله من تلقاء نفسه فنعم ما قاله، وإن كان أنزل عليه ربه فنعم ما أنزله، وأعطى هذا المقدار بلسانه من الإقرار بالمعروف، ثم قطع إقراره بالمعروف واستمر على كفره (¬5). وقال الكلبي: نزلت في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬6) حين لامه عبد الله بن أبي سرح على إنفاقه في سبيل الله فاعتذر عليه عثمان بأنه ينفق لأجل ذنوبه وخطاياه فخدعه ابن أبي سرح وقال: أعطني بعيرك هذا بخطامه لأتحمل عنك خطاياك، فأعطاه عثمان بعيره ثم أمسك على النفقة بعد ذلك (¬7). {وَأَكْدَى} انتهى عن العمل من انتهاء حافر البئر إلى الكدية في الأرض. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ} خطاب لكل واحد من المخاطبين، ألا ترى قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} وحمله هذا الفصل مما هو في صحف موسى وإبراهيم وفي ما ذكرنا في قوله: {فَأَتَمَّهُنَّ}. {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ردّ على القدرية لأن الغالب من الضحك والبكاء أن يكونا في طاعة أو معصية. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) الترمذي (3248)، وابن جرير (22/ 63، 64)، والبغوي (4/ 85) والحديث صحيح. وقال في أضواء البيان (7/ 75): في صحته مرفوعًا نظر. (¬3) في "ب": (الآية). (¬4) في "ب": (وقصته لما أنزل الله تعالى). (¬5) ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 77) قريبًا منه عن مجاهد وابن زيد. (¬6) (رضي الله عنه) من الأصل. (¬7) القرطبي (17/ 98) عن ابن عباس والسدي والكلبي عن المسيب بن شريك.

{تُمْنَى} ينزل المني. {وَأَقْنَى} أعطى القنية، والقنية أصل من المال لقناة الرجل أي يلزمه (¬1). {رَبُّ الشِّعْرَى} كوكب في السماء وهما شعريان: العبور لأنها عبرت المغيرة، أو شبهه بالعين العبرى وهي سيل عبرتها، والأخرى الغميصا لأنها تشبه العين الغميصة، وكان أبو كبشة الخزاعي يعبد الشعرى العبور فأنزل الله هذه الآية ليبين أنه أحق بالعبادة منها، وتسمى الشعرى العبور مرزم الجوزاء ومرزم الدراع. و {عَادًا الْأُولَى} هم (¬2) الذين أهلكهم الله بالصيحة مع شداد والذين أهلكهم الله بالريح مع خلجان، وعاد الثانية هم العماليق فإنهم كانوا من بقيتهم (¬3). و (تغشية المؤتفكات) إنما كانت بالحجارة التي أمطرت عليها (¬4). {هَذَا نَذِيرٌ} إشارة إلى نبينا -عليه السلام- (¬5) {مِنَ النُّذُرِ} من جنسهم أو صلبهم. {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)} قربت الساعة. {سَامِدُونَ} السامد: القائم، لما روي أن عليًا خرج فرأى أصحابه قيامًا فقال: ما لي أراكم سامدين (¬6)؟ وقال أحمد بن فارس: كل رافع رأسه سامد (¬7)، يدل عليه تفسير ابن عباس: سامدين مستكبرين (¬8). ¬

_ (¬1) أي أن الله أعطاه الغنى ورضَّاهُ، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنه - ومجاهد. أخرجه الطبري عنهما (22/ 83). (¬2) (هم) من "ب" "ي". (¬3) قاله الطبري في تفسيره (22/ 87). (¬4) قيل: هم قوم لوط، قاله قتادة وابن زيد. وعن ابن عباس أنهم المكذبون أهلكهم الله. الطبري (22/ 91). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) عبد الرزاق في "المصنف" (1933)، وابن جرير (22/ 100). (¬7) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 100 - سمد). (¬8) لم نجده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذا التفسير والمعروف عنه في تفسير هذه الآية قال: {سَامِدُونَ} لاهون. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 97).

عن الأسود بن عبد الله أن النبي -عليه السلام- (¬1) قرأ {وَالنَّجْمِ} فلم يبقَ أحد إلا سجد إلا شيخًا كبيرًا أخذ من تراب فقال: هذا يكفيني، قال عبد الله: فلقد رأيته قتل كافرًا (¬2) (¬3) {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) البخاري (1067)، ومسلم (576). (¬3) من قوله (أخذ من) إلى هنا ليست في "أ".

سورة القمر

سُورَةُ القَمَرِ مكية (¬1). وعن الحسن: مدنية (¬2)، وهي خمس وخمسون آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} بمجيء رسول (¬4) آخر (¬5) الزمان وبختم النبوة، وكان النبي -عليه السلام- (¬6) يقول: "بُعثت والساعة كهاتين" (¬7). وعن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله بمنًى فانشقّ القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله -عليه السلام- (¬8): "اشهدوا" (¬9) يعني قد اقتربت الساعة وانشق القمر. وروى إثبات انشقاق القمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وعبد الله بن ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 63) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) لم نجده عن الحسن، وجمهور المفسرين على أنها مكية. (¬3) انظر "البيان" (236). (¬4) في "ب": (رسول - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (آخر) ليست في "أ". (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) البخاري (530)، ومسلم (867) من حديث سهل بن سعد مرفوعًا. (¬8) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬9) البخاري (3636)، ومسلم (2800).

مسعود وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وجبير بن مطعم وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬1). {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قوي دائم، قاله الزجاج (¬2) وغيره، وقال الفراء: هو السحر الذاهب الذي يمضي ويبطل (¬3). {أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} ثابت حق غير مضطرب. {مُزْدَجَرٌ} محل الازدجار، وقد يكون الازدجار بمعنى الزجر ويكون بمعنى الانزجار. والعامل في {يَوْمَ يَدْعُ}: {يَخْرُجُونَ} و {يَقُولُ الْكَافِرُونَ}. {وَازْدُجِرَ} أي زجر بالشتم، وقيل: النهي عن الإيمان ينهى بعض القوم بعضًا. {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} منصب على كثرة. {وَدُسُرٍ} مسامير (¬4) واحدها دسار يقول: دسرت المسمار أدسره. {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} نوح -عليه السلام- كانت نصرة الله جزاء له. {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} يعني الفلك المتخذة على مثال سفينة نوح -عليه السلام- أو قصته. {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} مكنا الناس من تعلُّمه وقراءته واستخراج معانيه. {تَنْزِعُ النَّاسَ} جلودهم عن رؤوسهم، أو نزعها إياهم بعد ما رسخوا في الأرض وساخت أقدامهم فيها بقوتهم {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أسافلها منقطع. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (22/ 103 - 112). (¬2) ذكره الزجاج في معانيه (5/ 85). (¬3) ذكره الفراء في معانيه (3/ 104). (¬4) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة وابن زيد. أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (22/ 124).

{ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} حيوان وناقة مسعورة إذا كان بها جنون. وقال ابن عرفة (¬1): أي أمر يسعرنا يعني يلهينا. {أَشِرٌ} لجوم، وإذا قيل: مطر أشر أريد به اللجوج في نظره. {الْمُحْتَظِرِ} صاحب الحظار، والحظار المزرعة المحاط عليها (¬2). {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} تشككوا بأمر النذر. {جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} جميع موحد ومنتصر نعته. {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} وقد هزم بحمد الله يوم بدر وغيره إلى أن فتح الله مكة وأسلمت قريش إلى أن يهلك الدجال. {بَلِ} للإضراب عن الوعيد الدنياوي إلى الوعيد العقباوي رد على الذين أنكروا الدواهي البكر أي أشد إصابة، والدواهي: المصائب {وَأَمَرُّ} أشد مرارة، يقال: لقيت فيه الأمرين أي الدواهي فكانه أخذه من مرارة الطعم وهي طعم المرة الصفراء. عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي -عليه السلام- (¬3) يخاصمون في القدر فنزلت: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} (¬4). {سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم مأخوذ من سقرته الشمس. {إِلَّا وَاحِدَةٌ} إلا كلمة واحدة وهي قوله: كن، وأمر الله أقرب من لمح البصر. ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن منظور في لسان العرب (4/ 366 - سعر). (¬2) لم نجد من قال ذلك، وقد فسر ابن عباس {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)} [القمر: 31] قال: كالعظام المحترقة. الطبري (22/ 147). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) عزاه في الدر (14/ 94) لعبد بن حميد.

{وَنَهَرٍ} جمع نهر وجمع أنهار. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} صالح وهو الجنة {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} في حكمه وجوار عرشه وفي رتبة القربة والكرامة بإذنه. * * *

سورة الرحمن

سُورَةُ الرَّحْمنِ مكية، عن ابن عباس وعطاء (¬1)، وعن العدل عن ابن عباس: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: 29] نزلت في اليهود حيث قالوا في السبت (¬2)، وعن الحسن وقتادة أنها مدنية (¬3)، وهي خمس وسبعون آية في عدد أهل الحجاز (¬4). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} ردّ لقولة (¬5) المشركين {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. {الْإِنْسَانَ} آدم -عليه السلام-. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} أسماء الأشياء من الخير والشر (¬6). {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} أي مسيرهما وبقاؤهما بحساب معلوم. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي (17/ 132) عنهما، وابن الجوزي "زاد المسير" (4/ 205). (¬2) ذكره القرطبي (17/ 132). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 105) عن عطية عن ابن عباس وابن مسعود. (¬4) انظر "البيان" (237). (¬5) في "أ" بدل (رد لقولة): (على قولة). (¬6) روي ذلك عن قتادة. أخرجه الطبري (22/ 169).

{وَالنَّجْمُ} ما نجم (¬1) في الأرض من اليقطين أو نجوم السماء والتثنية للجنسين. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} العدل الذي جعله الله في قضية العقول بإلهامه، وفي الحديث: "العدل ميزان الله في الأرض" (¬2) وقيل: هو الميزان المعروف. {أَلَّا تَطْغَوْا} نصب، أي أن لا تطغوا (¬3)، وقيل: مجزوم على النهي ترجمة للقرآن أو للبيان. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ (¬4)} قال عبد الله بن مسعود: لسان الميزان (¬5). {لِلْأَنَامِ} الجن والإنس، ألا ترى قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}. {وَالْحَبُّ} البذر و {الْعَصْفِ} العصيفة (¬6) {وَالرَّيْحَانُ} الثمر. {كَالْفَخَّارِ} نوع من الخزف. {رَبُّ} خبر (¬7) المبتدأ مضمر أو إسناد الخلق المتقدم إليه {الْمَشْرِقَيْنِ} مشرقا الصيف والشتاء، وقيل: مشرق الشمس والقمر، وقيل: مشرقا السيارة والثابتة {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}. ¬

_ (¬1) (ما نجم) ليست في الأصل. (¬2) انظر كتاب الجوهر النفيس في سياسة الرئيس (1/ 122) وتمام الحديث: " ... فمَن أخذ به قاده إلى الجنة ومَن تركه قاده إلى النار". (¬3) النصب باعتبار "أنْ" ناصبة و"لا" بعدها نافية و"تطغوا" منصوب بـ "أنْ"، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن تكون "أنْ" مفسرة و"لا" ناهية والفعل مجزوم بها، وإلى ذلك ذهب أيضًا مكي وأبو البقاء. [الكشاف (4/ 44)، المحرر (15/ 323)، الإملاء (2/ 251)]. (¬4) (بالقسط) ليست في الأصل. (¬5) لم نجده عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، لكن روي بمعناه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. ذكره القرطبي في تفسيره (17/ 155). (¬6) العصف والعصيفة هما ورق السنبل. نقله القرطبي عن الهروي [تفسير القرطبي (20/ 120)، وانظر: تهذيب اللغة (2/ 42)]. (¬7) (خبر) ليست في "أ".

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرض، والسماء مبنية عليها. داخلون في حكم الفناء والفناء بطلان وهلاك، {وَيَبْقَى} يمتنع عن الفناء {وَجْهُ رَبِّكَ} أي يبقى الله (¬1) {ذُو الْجَلَالِ} والجلالة والجليل: الكثير (¬2) بشأنه أو بمعنى من معانيه. {يَسْأَلُهُ} سؤالهم إياه -عَزَّ وَجَلَّ- عند الاضطرار، وقيل: احتياجهم الطبيعي إلى صانعهم دون غيره، وقيل: سؤالهم القادر على إجابتهم على طريق الإجمال وإن أخطأوا في الإشارة والإقبال {كُلَّ يَوْمٍ} وقت ممتد {هُوَ فِي شَأْنٍ} أي أمره في شأن حال. وعن كعب الأحبار قال: لولا آيتان من كتاب الله تعالى أخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة وهما قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. {سَنَفْرُغُ} سنخلو عن الشغل، وذكر الفراغ هاهنا على المجاز، والمراد به انتهاء الأحوال المقدرة في الأجل المضروب للثقلين، فإنها إذا انتهت انتهى الأجل ولم يبين {الثَّقَلَانِ} الجن والإنس سميا بذلك لكونهما محمولين في السفر فالسفر سفر القيامة، وحاملهما أمر الله المنتهي بهم إلى يوم الموعود. وقال -عليه السلام- (¬3): " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" (¬4). فحوى قوله: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أن تنفذوا منها من له سلطان، والسلطان إذن الله لمن شاء من أوليائه. ¬

_ (¬1) بقاء وجه الله هو بقاء الله لكن المؤلف قال: يبقى الله فرارًا من إثبات صفة الوجه لله وذلك كون المؤلف أشعريًا وهو على مذهب الأشاعرة في نفي صفة الوجه، والأصل حمل اللفظ على ظاهره فنثبت لله -عَزَّ وَجَلَّ- وجهًا يليق بجلاله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (¬2) في الأصل: (الكبير). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5/ 169)، والبغوي في تفسيره (4/ 271)، والطحاوي في مشكل الآثار (9/ 88) من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا.

{شُوَاظٌ} لهب لا دخان معه {وَنُحَاسٌ} صفر وقيل: دخان. وعن الضحاك: إن نارًا تجيء من قبل المشرق وأخرى من قبل المغرب فيحشرون الناس إلى المحشر (¬1). {وَرْدَةً} زهرة، أي (¬2) تنقلب حمراء بعد أن كانت صفراء. رواه ابن عرفة عن ثعلب، وقال الأزهري: أي صارت كالوردة تتلون ألوانًا (¬3) {كَالدِّهَانِ} جمع دهن والمراد بها المثل. {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} ملائكة العذاب إياهم بعد قراءة الصحف والفراغ من الحساب. {حَمِيمٍ آنٍ} بلغ غاية الحرارة من شدة غليان فكأنه من قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} أي مقامه بين يدَي ربه فيتقيه وهو عام في الجن والإنس على الظاهر. {أَفْنَانٍ} جمع فن وهو الغصن، وشجرة فنواء أي ذات أفنان. {بَطَائِنُهَا} جمع بطانة وهي باطن الثوب، وذكر بطائن الفراش دون ظواهرها كذكر عرض الجنة دون طولها {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} قريب، ومنه قوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} [الحاقة: 23]. {فِيهِنَّ} أي في الجنان. {يَطْمِثْهُنَّ} ينكحن بالتدمية. {الْيَاقُوتُ} ما شفّ من حصل البحر، وأحمره أجوده، والرماني غايته، والحال يدل على أنه هو المراد بالتشبيه دون الألهب والأصفر كما في الورد في الحسن والبحر في السخاء. ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (15/ 78). (¬2) في "ب" "ي": (التي). (¬3) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (6/ 208).

وعن محمد بن علي في قوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ} قال: هي مسجلة في البر والفاجر (¬1) يعني يجزيهما بإحسانهما. {وَمِنْ دُونِهِمَا} ورائهما. {مُدْهَامَّتَانِ} خضراوتان في سواد. {نَضَّاخَتَانِ} فوّارتان كبئر من الماء. {خَيْرَاتٌ} جمع خيرة وهي المختارة. {الْخِيَامِ} جمع خيمة وهي البيت بني بالعمد والطنب. قال عمر (¬2): أتدرون ما {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} قال: الدرّ المجوّف (¬3). وعن الحسن: محبوسات لسن بطوّافات في الطرق، و {الْخِيَامِ} الدر المجوف (¬4). {رَفْرَفٍ} ما فضل من العرش في أطرافه {وَعَبْقَرِيٍّ} منسوب إلى عبقر وهو موضع ينسب إليه الجن العبقرية، ثم نسب كل عمل جليل وصنعة دقيقة إليه كان الجن تعلمه، وقال الفراء: هي الطنافس الثخان (¬5) واحدتها عبقرية، وقيل (¬6): منسوب إلى عبقر، وقيل: السحاب وهي تلألؤه. عن جابر بن عبد الله أن النبي -عليه السلام- (¬7) خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة "الرحمن" من أوّلها إلى آخرها فسكتوا، فقال: "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودًا منكم، كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب فلله الحمد" (¬8). ¬

_ (¬1) البخاري في "الأدب المفرد" (130)، وابن جرير (22/ 253). (¬2) في الأصل: (عمر)، وفي البقية: (عثمان)، والمثبت أصوب. (¬3) ابن جرير (22/ 268، 269). (¬4) ابن جرير (22/ 267، 271). (¬5) ذكره الفراء في معانيه (3/ 120). (¬6) (وقيل) ليست في الأصل و"ب". (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) الترمذي (3291)، والحاكم (2/ 473)، والبيهقي في الدلائل (2/ 232) والحديث حسن.

سورة الواقعة

سُورَةُ الوَاقِعَةِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} (¬2) [الواقعة: 82]، وهي تسع وتسعون آية في عدد أهل الحجاز والشام (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْوَاقِعَةُ} القيامة. {كَاذِبَةٌ} كذب وهو مصدر كالعافية واللاغية والمراد به الصرف والمثوبة. {خَافِضَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هي {خَافِضَةٌ} قومًا إلى النيران {رَافِعَةٌ} قومًا إلى الجنان. {إِذَا رُجَّتِ} بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ} والرج: الزلزلة، والرجرجة: الاضطراب، ويترجرج كلها. {وَبُسَّتِ} من قولهم: بسست الإبل إذا زجرتها أو من بسست الحنطة إذا فتتها وهي البسيسة. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 173) عن ابن عباس والزبير. (¬2) ذكره القرطبي (17/ 167). (¬3) انظر "البيان" (239).

{أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} أصنافًا وأجناسًا ثلاثة. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وأصحاب اليمين هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، أو كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، أو يكونون على يمين العرش يوم العرض، أو أملوا على الملائكة الذين كانوا عن أيمانهم في دار الدنيا. {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أصحاب الشمال، وهم أنداد أصحاب الميمنة و {مَا} لتفخيم الأمر وتعجيب المخاطبين. وكذلك تكرار قوله: {وَالسَّابِقُونَ} وهم من أصحاب اليمين ولكنهم أفردوا بالذكر لشرفهم ولأنهم عبدوا الله تعالى لله لا لعاجلة ولا لآجلة. {ثُلَّةٌ} جماعة، وإنما كانت السابقون {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} لكثرة الأنبياء في الأولين وقلَّتهم في الآخرين، وقيل: الأولون والآخرون كلا الفريقين من هذه الأمة. {مَوْضُونَةٍ} منسوجة كالدرع وغيره. {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} وصفاء مبقون على حد الوصافة أبدًا لا يهرمون ولا يموتون، يقال للذي لا يشيب مخلد، وقيل {مُخَلَّدُونَ} مقرطون، والخلد القرط جمع خلدة. {وَأَبَارِيقَ} قماقم التي لها عرى وخراطيم، وفي الحديث: "كأن جيده إبريق فضة" {لَا يُصَدَّعُونَ} بالتخفيف: لا يصرفون، من قولك: ما صدعك من هذا الأمر أي ما صرفك، وبالتشديد يحتمل هذا. ويحتمل من الصداع؛ أي لا يأخذهم الخمار والصداع منها. {وَلَحْمِ طَيْرٍ} لكونه أشهى وأمر أو أسرع (¬1) استحالة إلى الدم القرمزي الذي هو مادة الشباب والفرح. {إِلَّا قِيلًا} استثناء منقطع. ¬

_ (¬1) في "ب": (أسهل).

{سِدْرٍ مَخْضُودٍ} وهو الذي كسر شوكه (¬1). {وَطَلْحٍ} موز (¬2)، وقيل: شجر مستطاب ظله. عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، ثم قال: اقرؤوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} (¬3). وعن أنس قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وإن شئتم فاقرؤوا {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} (¬4). {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)} {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} ولا تنصرف آياتها ولا يمنع عنها. وعن أبي سعيد الخدري عنه -عليه السلام- (¬5) في قوله (¬6): {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسير ما بينهما خمسمائة عام (¬7). وعن أبي أمامة {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} قال: لو هوى فراش منها ما بلغ قرار الأرض ثمانين عامًا (¬8) (¬9). {أَبْكَارًا} عذارى. {عُرُبًا} محبات لأزواجهن محببات إليهم. ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة وقتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 307 - 308). (¬2) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومجاهد وعطاء وقتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 311). (¬3) البخاري (3252)، ومسلم (2826). (¬4) البخاري (3251). (¬5) (السلام) ليست في "ي". (¬6) (في قوله) ليست في "ب". (¬7) الترمذي (2540)، وابن أبي الدنيا فيإ صفة الجنة" (157)، والطبري (22/ 319). (¬8) (عامًا) من "ب". (¬9) الطبراني في الكبير (4947) وفيه مائة عام، وفي رواية أخرى عن الحسن البصري ثمانين عامًا.

{أَتْرَابًا} لذات أصحاب اليمين الذين يساوينهم في السنن. وعن كعب قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة من يؤتى بغدائه في سبعين ألف صحفة (¬1) من ذهب ليس فيها لون يوافق صاحبه وليس فيها رذل (¬2). وعن ابن عمرو: إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملك ألفي سنة نعيمه وسروره ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أفضل أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين (¬3). {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)} قال ابن عباس: من دخان جهنم. {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} العظيم (¬4) بدل من يحموم وهو كقوله: {لَا بَارِدٍ} ولا كرامة. {يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ} يثبتون على قسمهم بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت. {فَمَالِئُونَ مِنْهَا} من (¬5) الشجر، والمراد به الجمع. {الْهِيمِ} الإبل التي أصابها الهُيام، وهو العطاش، واحدها: أهيم وهيمان، وقيل: {الْهِيمِ} الرمال التي لا ترويها ماء السماء (¬6)، يقال: كثيبة أهيم وهيمان، والمراد بقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} المسخ. {تَحْرُثُونَ} تلقون البذر. ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": (صفحة). (¬2) الحسين المروزي في زوائد الزهد (1461). (¬3) أبو يعلى (5712) والحديث ضعيف. (¬4) (العظيم) من "ب". (¬5) (من) ليست في الأصل. (¬6) هو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 225) وبه قال أبو عبيدة: هو ما لا يَرْوى من رَمْل أو بعير، لكن عامة المفسرين على أن "الهيم" الإبل العطاش وهو مروي عن ابن عباس أيضًا ومجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة.

و {تَزْرَعُونَهُ} تنشئون الزرع، ومجازه شق الزرع والتسبُّب للنبت. عن أبي هريرة عنه -عليه السلام- (¬1): "لا يقول أحدكم زرعت وليقل حرثت" ثم قرأ أبو هريرة (¬2) هذه الآية (¬3). {تَفَكَّهُونَ} تندمون (¬4) والقول مضمر عند قوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)}. {مِنَ الْمُزْنِ} السحاب. {تُورُونَ} تقدحون (¬5). {شَجَرَتَهَا} كل شجرة إلا العنّاب والصندل والأبنوس، والعرب تقول: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار (¬6). {تَذْكِرَةً} آية، وغيره {لِلْمُقْوِينَ} النازلين تقي من الأرض أمر لإظهار الشكر على نعم الله. {فَلَا أُقْسِمُ} (لا) ردّ لكلام سابق كقولك: لا والله وبلى والله. روي أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله (¬7) لعمرو بن حزم أن لا تمس القرآن إلا طاهرًا (¬8). ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) من قوله (عنه عليه) إلى هنا ليست في "أ". (¬3) أخرجه البزار في مسنده (1289 - الكشف)، والطبراني في الأوسط (8024)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 267)، والبيهقي في الشعب (5217)، والطبري في تفسيره (22/ 348). (¬4) قاله الحسن وقتادة. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 350). (¬5) قاله ابن قتيبة. نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره (4/ 227). (¬6) هذا مَثَل معروف عند العرب. قال ابن فارس: معناه: أي استكثرا من النار وأخذا منها ما هو حسبهما فهما قد تناهيا في ذلك حتى إنه يقبس منهما. اهـ. وانظر: مجمع الأمثال للميداني (2/ 74)، والمحكم والمحيط الأعظم (5/ 192)، وتفسير البغوي (4/ 21). (¬7) في "ب": (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) رواه مالك في الموطأ (1/ 199)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 313)، وأبو داود في المراسيل (1/ 121)، وابن حبان (6559) سنده ضعيف وله شواهد.

{مُدْهِنُونَ} وهم الذين يتكلفون موافقة على النفاق. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} أي تجعلون حظكم من تقدير الله التكذيب بالقرآن وباليوم الآخر. {الْحُلْقُومَ} الحلق، والتي تبلغ الحلقوم: هي النفس عند النزع، وتكرار {فَلَوْلَا} لطول الصلة والعارض (فله روح). {فَسَلَامٌ} أي فيقال له عند النزع: (سلام لك) أنت من أصحاب اليمين أو فيقال له: سلام لك تحية لك من أصحابك وهم أصحاب اليمين. * * *

سورة الحديد

سُورَةُ الحَدِيْدِ مدنية (¬1)، وهي ثمان وعشرون آية في عدد أهل الحجاز والشام (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هُوَ الْأَوَّلُ} لمستقر الأحوال {وَالْآخِرُ} لعلمه بالآجال {وَالظَّاهِرُ} بالقدرة والجلال {وَالْبَاطِنُ} بأن لا ينال (¬3) وهو معنا أينما كنا من غير حلول في المحال ولا انتقال ولا ارتحال. عن زيد بن أسلم عنه -عليه السلام-: "سيأتي قوم بعدكم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قالوا: يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ قال: "لو أن أحدهم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدكم ولا نصيفه" (¬4). فرقت هذه الآية بيننا وبين الناس {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} اقتصار على أحد طرفَي الكلام، ويحتمل أن الذي يتقدمهم نور أيمانهم والذي عن أيمانهم نور أعمالهم الصالحة، فلا يحتاجوا إلى نور آخر، قوله: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] أي اجعله ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 255) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر "البيان" (241). (¬3) أوضح التفاسير في هذه الآية ما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "هو الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء والظاهر فليس فوته شيء والباطن فليس دونه شيء" [معارج القبول (1/ 204)]. (¬4) أحمد (6/ 6) وسنده ضعيف.

باقيًا معنا إلى أن ينتهي بنا إلى الجنة، ويحتمل أن يكون سؤالهم الإتمام وسؤال النور عن شمائلهم. {بِسُورٍ} هو الأعراف باب الجنة {الرَّحْمَةُ} الجنة {مِنْ قِبَلِهِ} أي من قبل السور كما يمنع المنافقين عن الوصول إليه {قِيلَ} يعني المؤمنين للمنافقين {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} أي إلى الدنيا إن استطعتم فاكتسبوا النور كما كسبنا بإذن الله. {أَلَمْ يَأْنِ} ألم يحن {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} بعلوهم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} هما (¬1) اليهود. عن نافع قال: ما سمعت ابن عمر أتى على هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلا بكى حتى ينشج. {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} إنما جاز عطف الفعل على الاسم لكون الاسم في معنى الفعل كالعطف على صلة الاسم الموصول. وعن مجاهد قال: مَن آمن بالله ورسله فهو صديق وشهيد، ثم قرأ هذه الآية (¬2). {وَزِينَةٌ} زخارف الدنيا {وَتَفَاخُرٌ} تذاكر بالشرف القديم، وأول من فخر إبليس {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} الزرّاع، وقيل: أضداد المؤمنين لاختصاصهم بالسرور (¬3) العاجل وقلة نظرهم في العواقب {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي في الآخرة شر (¬4) محض وخير محض على غير سبيل الابتلاء. {لِكَيْلَا} أخبرناكم وبيّنّا لكم {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} والمراد بالأسى أسى المضجر وبالفرح الفرح المبطرة ما يعرض فيعرض عنه. ¬

_ (¬1) (هم) في "ب". (¬2) ذكره القرطبي في تفسيره (17/ 253). (¬3) في "أ": (الشرور). (¬4) المثبت من "أ"، وفي البقية: (السر).

وعن ابن عباس أنه ليس أحد (¬1) إلا يفرح ويحزن، فمَن أصابته مصيبة فليجعلها صبرًا، ومَن أصابه خير فليجعله شكرًا. {وَرَهْبَانِيَّةً} تخليًا عن الأهل والمال لعبادة الله {مَا كَتَبْنَاهَا} أي لم نوجب الرهبانية عليهم {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله على سبيل الإجمال، والثاني لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي (¬2) قصروا في إقامتها ومحافظة شرائطها بعد وجوبها عليهم. لينذرهم (¬3) {كِفْلَيْنِ} تضعيف الأجر كقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. {لِئَلَّا} (لا) زائدة، وفي جزء عبد الله: لكي يعلم. قال الفراء: يجعل العرب إلا) صلة في كل كلام فيه جَحْد. قال الله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: 95] (¬4). {أَهْلُ الْكِتَابِ} بعضهم حالة الاختيار أو كلهم حالة الاضطرار. ... ¬

_ (¬1) في "أ": (أحدهم). (¬2) في الأصل: (التي). (¬3) في الأصل: (شدرهم). (¬4) ذكره الفراء في معانيه (3/ 137 - 138).

سورة المجادلة

سُورَةُ المُجَادلَةِ مدنية (¬1)، وهي اثنتان وعشرون آية في غير عدد أهل مكة وإسماعيل (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} روي أن أوس بن الصامت قال لامرأته خولة بنت ثعلبة الأنصارية: أنت عليَّ كظهر أمي، وكانت هذه الكلمة يطلّق بها أهل الجاهلية، فأتت النبي -عليه السلام- (¬3) فقالت: إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ، فلما (¬4) خلا بي وَنَثَرْتُ له بطني جعلني عليه كأمه، فقال -عليه السلام-: "ما أراك إلا حرمت عليه" وروي: "ما عندي من أمرك شيء" فقالت: زوجي وابن عمي وأحب الناس إلى وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يخدم، أشكو إلى الله تعالى. وقالت فيما قالت: إن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه (¬5) ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وكانت عائشة تغسل رأس النبي -عليه السلام- فقالت: يا خويلة اقصُري حديثك ومجادلتك مع ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 298) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر "البيان" (242). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) من قوله (وأنا شابة) إلى هنا ليس، في "ب". (¬5) (إليه) من "ب" "أ".

رسول الله (¬1) أما ترين إلى وجه النبي -عليه السلام- (¬2)؟! تريد أنه يوحى إليه، فما تحولت عنه إلى جانب آخر حتى نزل جبريل -عليه السلام- بآية الظهار (¬3)، فجعله تحريمًا مؤقتًا بالتكفير أو شبه امرأته بظهر أمه أو بطنها أو فخذها أو فرجها أو قال: رقبتك أو رأسك أو فرجك يكون ظهارًا، ولا يجوز الظهار من الذمي والأمة لا تدخل في الظهار. وفي قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [أربعة أقوال: أحدها: اللام بمعنى من؛ أي مما قالوا كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]. والثاني: {ثُمَّ يَعُودُونَ}] (¬4) إلى إبطال أو رفع أو استدراك ما {قَالُوا} (¬5). والثالث: المراد بالعود الندامة والسلام بمعنى على؛ أي يندمون على ما قالوا. والرابع: على التقديم والتأخير تقديره: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) وقد أخطأ من فسر العود بتكرار لفظة الظهار؛ لأنه لم يرد فيه توقيف، ولا هو من قضية اللغة، ولفظ "ثم" يدل على تأخر (¬6) العود عن الظهار بزمان؛ فإن مسَّها قبل الكفارة فعليه الكفارة لما روي أن سلمة بن صخر جاء إلى النبي -عليه السلام- (¬7) فقال: تظاهرت من امرأتي فرأيتها في ليلة قمراء فأعجبت ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) أسباب نزول هذه الآية متفقة على ذلك ولكن تفاصيل الروايات تختلف. وانظر: الطبري (22/ 446)، و"الدر المنثور" للسيوطى (14/ 298 - 309). (¬4) ما بين [...] ليس في الأصل. (¬5) أي أن اللام في قوله "لما قالوا" بمعنى إلى؛ قاله الأخفش، نقله عنه القرطبي في تفسيره (17/ 282). (¬6) في الأصل: (تأخير). (¬7) (السلام) ليست في "ي".

بها فواقعتها، فقال -عليه السلام- (¬1): "استغفر الله ولا تعد حتى تكفّر" (¬2) وإن مسّها في أثناء الكفارة فعليه الاستقبال؛ لأن إيجاب جميع الصوم قبل المسيس أمر بإخلاء الشهرين عن المسيس وهو قادر على ذلك، والذي لا يستطيع شيئًا من الكفارات الثلاث فلسنا نرى (¬3) أن يقرب امرأته بوجه من الوجوه. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الإتيان في الوعيد {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كفار بدر، وقيل: كفار الخندق. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} من مجاز الكلام وحقيقته (¬4) استحالة اجتماعهم من غير أن يجمع وتناجيهم من غير أن يسمع، فهو واحد قبلهم وواحد معهم وواحد بعدهم، تعالى عن كل اتصال وانفصال وانعقاد وانحلال (¬5). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} كان المنافقون يرجفون في المدينة على سبيل التناجي إذا خرجت سرية من المسلمين فكان (¬6) يحزن من ذلك أولياء الغزاة ويظنون أنهم سمعوا مكروهًا من جهة الغزاة أو عندهم خبر سبق، فنهاهم الله عن ذلك فلم ينتهوا فأنزل الله، وعن عائشة قالت: دخل على رسول الله (¬7) يهود فقالوا: السام عليكم يا أبا القاسم، قالت عائشة: فقلت: عليكم السام ونلت منهم، فقال رسول الله (7): "إن الله لا يحب ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أبو داود (2213)، والترمذي (3299)، وابن ماجه (3062)، وأحمد (5/ 436) والحديث حسن. (¬3) في "ب": (فلسنا نرى له أن). (¬4) في الأصل: (وحقيقة). (¬5) يريد المؤلف أن الله لا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، وهذه العبارة ابتدعها المتأخرون ولم يخض بها السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فالأصل عدم الخوض في مثل هذا الكلام والله مستغن عن جميع مخلوقاته؛ فإن كان الاتصال يقتضي حاجته لشيء من مخلوقاته فهذا منتف عن الله. وانظر تفصيل ذلك في شرح العقيدة الطحاوية (1/ 325)، فضائح الباطنية (1/ 152). (¬6) (فكان) ليست في "أ". (¬7) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

الفحش والتفحش" قالت: أوما سمعتهم يقولون: السام عليك (¬1)؛ قال -عليه السلام- (¬2). "أوما سمعتِني أقول: عليكم" (¬3) فأنزل الله {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ} نزلت فيمن لم ينفسح لثابت ابن قيس (¬4)، التفسح: التوسع في المجلس، والفسحة: الوسعة {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} قبوركم (¬5) أو يبارك لكم في مجلسكم {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} انهضوا للعدوّ، وقيل: قيام الرجل عن المجلس لمن هو أفضل منه قرآنًا وعلمًا. وعن مجاهد في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال: نهوا عن مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6) إلَّا تقدموا صدقة (¬7)، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارًا وتصدق به. ثم أنزل {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} فشق ذلك على المسلمين فوضعت وأمر بمناجاته بغير صدقة (¬8). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} نزلت الآيات في المنافقين الذين كانوا يتولون اليهود والمشركين في الشر (¬9). ¬

_ (¬1) في الأصل: (عليكم). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) البخاري (6024)، ومسلم (2165). (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 191). (¬5) لم نجد من قال أن الفسح فسح القبور ولم يرد ذكره في الآية، فلا وجه لما ذكره المؤلف. وذهب ابن الجوزي (زاد المسير 4/ 247) في قوله "يفسح الله لكم" أي يوسِّع الله لكم الجنة والمجالس فيها، وهو قريب مما ذكره المؤلف. (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) في الأصل: (صدق). (¬8) أخرجه ابن أبي حاتم (10/ 3344)، وعزاه السيوطي في الدر (14/ 325) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬9) روي ذلك عن قتادة، أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 487)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 280).

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ترسًا. {لَا تَجِدُ قَوْمًا} نزلت (¬1) في إبطال عذر حاطب بن أبي بلتعة حيث قال: لم أتقرب إلى قريش إلا لمكان أهل بيتي منهم (¬2) {أُولَئِكَ} إشارة إلى قوم مؤمنين {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أىِ أوجده وأوجبه فيه {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: (نزل). (¬2) نقله ابن الجوزي عن مقاتل واختاره الفَرَّاء والزجاج [زاد المسير (4/ 252)].

سورة الحشر

سورة الحَشْرِ مدنية (¬1)، وهي أربع وعشرون آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ} الآيات نزلت في بني قينقاع أو في بني النضير، والقصة في ذلك أن النبي -عليه السلام- (¬3) هاجر إلى المدينة وصالحته (¬4) على (¬5) اليهود على أن لا يكونوا نواته (¬6) أولًا (¬7) عليه، فلما غزا رسول الله (¬8) بدرًا وظفر بالمشركين قالت: والله هذا النبي الذي وجدنا لا تردّ له راية، ثم إن طائفة من اليهود وهم بنو قينقاع نقضوا العهد وحسدوا رسول الله (8) وخافوا على أنفسهم فقالوا للمسلمين: والله لو قاتلناكم لرأيتم منّا غير الذي رأيتم من أهل بدر، فبلغ ذلك رسول الله (8) فأرسل إليهم أن اخرجوا من جوارنا، فأبوا وتحصنوا وتهيئوا للقتال، فحاصرهم رسول الله (8) حتى نزلوا على حكمه، فغنم رسول الله (8) رقابهم وأموالهم ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (14/ 332) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (243). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب" (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬4) المثبت من "ي"، وفي البقية: (صالحة). (¬5) (على) من الأصل فقط. (¬6) (نواته) من "أ". (¬7) (أولًا) ليست في "ي". (¬8) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولم تكن لهم نخل ولا مزارع، ثم استوهبهم ابن أبي ابن سلول، فأرسلهم رسول الله (¬1) إلى أذرعات. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة اثنين، وكان كعب بن الأشرف وهو رجل من طي من نبهان ولكنه من جهة أخواله فإن أمه كانت من بني النضير قد نقض العهد وهجا رسول الله (1) ورثى قتلى بدر وحرض المشركين على المسلمين، ثم ارتحل إلى مكة وحالف قريشًا تحت أستار الكعبة أن يكون معهم على عداوة رسول الله (1)، فأرسل رسول الله (1) محمَّد بن مسلمة الأنصاري في أربعة من الأوس منهم عبّاد بن بشر وأبو نافلة سلكان بن سلامة والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبر ليغتالوه، فأتوه في جوف الليل واستنزله محمَّد بن مسلمة من قصره وشكا إليه رسول الله واستقرضه طعامًا، ثم تشبث برأسه وكبَّر فخرج أصحابه من وراء الحائط وضربوه حتى برد، وفي ذلك يقول عباد بن بشر: صرخت به فلم يعرض (¬2) لصوتي ... وأوفى طالعًا من فوق قصر (¬3) فعدت فقال من هذا المنادي ... فقلت أخوك عباد بن بشر وأقبل نحونا يهوي سريعًا ... وقال لنا لقد جئتم لأمر فعانقه ابن مسلمة المردي ... به كفار كالليث الهزبر وشد بسيفه صلتًا عليه ... فقطره أبو عيسى ابن جبر وصلت وصاحباي فكان لما ... قتلناه الخبيث كديح عسر وكان الله سادسنا فأبنا ... بأفضل نعمة وأعزّ نصر وكانت هذه الواقعة في صفر سنة ثلاث، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) في صفر سنه أربع جبر بن عتيك في ثلاثة من أصحابه إلى خيبر ليغتالوه وكان ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) في المخطوطات (يجعل). (¬3) في المصادر (جدد). (¬4) (وسلم) ليست في "ي".

في خيبر وهو رافع بن سلام ابن أبي الحقيق فاغتالوه وكانوا قد دخلوا عليه وهو سكران (والذي تولى) قتله عبد الله بن أنيس الأنصاري ورجعوا إلى رسول الله (¬1) سالمين. ثم انطلق رسول الله (1) إلى بني النضير يستعينهم في دية رجلين من بني كلاب قتلهما عمرو بن أمية وكان لهما عهد، ومعه أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة، فاستقبله اليهود، ورحبوا به فقالوا: قد آن لك أن تزورنا يا أبا القاسم ولك عندنا ما تحب ولكن احتبس عندنا ساعة نطعمك فاستراح (¬2) رسول الله (1) إلى بيت من بيوتهم وجلس معه أصحابه، ورجعت اليهود بعضها إلى بعض يتآمرون في أمره، فأشار عليهم حيي بن أخطب أن يلقوا عليه رحا من فوق السطح، فأعلم الله نبيه كيدهم، فوثب كأنه يريد حاجة وخرج حتى رجع إلى المدينة، وتبعه أصحابه من بعده، ثم أرسل إليهم رسول الله (1) يأمرهم بالخروج من جواره وأجلهم عشرة أيام، فأخذوا يتجهزون للخروج، ثم أرسل إليهم ابن أبي ابن سلول المنافق: أن لا تبرحوا مكانكم ننصركم، فاغتروا بذلك وأرسلوا إلى رسول الله (1): لسنا بخارجين عن ديارنا فاصنع ما أنت صانع، فكبر رسول الله (1) وسار بأصحابه نحوهم وهم مشاة على أرجلهم، على المقدمة الفضل بن عباس وعلى الميمنة عكاشة بن محصن، وعلى الميسرة ثابت بن أقرم الأنصاري، فصلى العصر بفنائهم وهم يرمون بالنبل والحجارة إلى الليل، فانصرف رسول الله (¬3) إلى بيته في عشرة من أصحابه يدرع وهو على فرس، وقد استعمل عليًا - رضي الله عنه - على العسكر والمسلمون يكبرون حتى أصبحوا، ثم سار النبي -عليه السلام- (¬4) إلى العسكر وحمل معه قبة من أديم ليبيت فيها، فحاصرهم خمسة عشر يومًا وسعد بن عبادة يحمل إليهم التمر من المدينة وبينهم وبين المدينة مقدار ميلين، وكان المسلمون يتقون دورهم وهم ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) في "ب" "أ": (فاستنزل). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم).

بها على المسلمين ففي ذلك قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} وأمر رسول الله بقطع نخلهم وكانت خير أموالهم العجوة، فأخذوا يعيبون المسلمين على ذلك ويقولون: إنكم معشر المسلمين تزعمون أنكم لا تحبون الفساد في الأرض فكيف تقطعون النخيل وإنما هي لنا إن ظفرنا ولكم إن ظفرتم، وطمع بعض المسلمين في ذلك فلم يقطع منها شيئًا، ثم اختلفوا فيما بينهم بعد ما استولوا فأنزل الله {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية؛ لأن من قطعها قطعها إضرارًا باليهود ومن تركها تركها نفعًا للمسلمين، وأسلم من بني النضير يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب فأحرزوا أموالهما. وشرط النبي -عليه السلام- لليهود أن يخرجوا ولهم ما حملت إبلهم إلا الحلقة وهي السلاح، فخرجوا على ذلك، وغنم رسول الله (¬1) سلاحهم وسائر أموالهم سوى الإبل (1). واختلفوا في قوله {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فقال القيسي: الحشر هو الجلاء، وهؤلاء اليهود أول قوم أُجْلوا عن ديارهم، وقال الزهري: هو أول حشر إلى الشام ثم يحشر إليها يوم القيامة (¬2). وقد روى عكرمة عن النبي -عليه السلام- (¬3) قال: "من شك أن الحشر ليس بالشام فليقرأ أول الحشر" وهو قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (¬4) مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فلما قال لهم رسول الله (¬5): "اخرجوا من المدينة" قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض (¬6) المحشر" (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر تفاصيل هذه القصة ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (4/ 253)، والقرطبي في تفسيره (18/ 4). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره عن الزهري (22/ 498)، والبيهقي في الدلائل (3/ 176). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬4) (من أهل الكتاب) من الأصل. (¬5) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬6) في "ب": (الأرض). (¬7) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 254) من قول عكرمة. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 3345).

وعن الحسن قال: لما أجلى النبي -عليه السلام- (¬1) بني النضير هذا أول الحشر وإنا على الأثر (¬2). {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية في قطع أطماع الصحابة عن قسمة أرض بني النضير على حكم الجاهلية، وكان حكم الجاهلية أن كل سرية خرجت عن خيل أو ركاب وغنمت شيئًا دفعوا المرباع إلى رئيسهم وقسموا سائرها بينهم فقالوا: هذا اليوم لك المرباع يا رسول الله فخل بيننا وبين الباقي، فبين الله تعالى أنهم لا يستحقونها بحكم الجاهلية ولا الإسلام، أما حكم الجاهلية فلأنهم لم يكونوا أوجفوا عليه خيلًا ولا ركابًا، وأما حكم الإسلام فإن الأمر لله يحكم كيف يشاء وقد حكم بالفرق بين الفيء وبين الغنيمة (¬3). إيجاف الخيل كإيضاع الإبل وذلك إسراعها, لكن الإيجاف أعم من الإيضاع {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات في صرف الأرضين المفتتحة إلى رأي رسول الله (¬4) ليحكم فيها خلاف حكمه في سائر الأموال المغنومة، فجعل رسول الله (4) بعضها لنفسه وقرابته ولفقراء المسلمين ولسائر مواليه، وقسم بعضها بين الغزاة، وكان مما قسمه النصف من خيبر جعلها على ثمانية عشر سهمًا، واستن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بهذه السنة. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} شيئًا متداولًا. {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} حاجة وفقر {مِمَّا أُوتُوا} مما آتاهم الله من الرضا والصبر أو بما أوتي المهاجرون من الغنيمة. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} فهذا فصل آخر في ذم المنافقين وتوهينهم ووعظًا للمؤمنين. ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3345). (¬3) من قوله (خيلًا ولا) إلى هنا ليس في "أ". (¬4) في "ب" (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ} أي إذا قاتل بعضهم بعضًا كان بأسهم {شَدِيدٌ} {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} تأنيث شت وإنما كانت قلوبهم شتى لكونهم على أديان مختلفة. و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كفار بدر {قَرِيبًا} أي من مكان قريب وزمان قريب، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: ذاقوا وبال أمرهم قريبًا. والظاهر من قول {الشَّيْطَانِ} {لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} كقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48]. وعن عبيد بن رفاعة يرفعه أن امرأة ابتليت فألقى الشيطان في قلوب أهلها أن شفاءها أن تأتوها إلى فلان الراهب، قال: فذهبوا بها إليه فكلموه أن يبقوها عنده في صومعته، فكره ذلك فلم يزالوا به حتى فعل، يمكثها ما شاء الله عنده، ثم إن الشيطان أوقعها في نفسه فوقع بها فحملت، فلما حملت أتاه الشيطان فقال: تفتضح الآن، اعمد إليها فاقتلها وادفنها، فإذا أتاك أهلها فسألوك فقل: ماتت فدفنتها، ففعل، فجاء أهلها فأخبرهم أنها ماتت فدفنها، فصدّقوه وانصرفوا فأتاهم الشيطان فأوقع في أنفسهم أنه قتلها، فأتوه ليقتلوه فسبق إليه الشيطان فقال له: إن أهلها يأتوك ليقتلوك وقد علمت أني صاحب هذا أوله وآخره فأطعني أنجك منهم، اسجد لي سجدتين تنج منهم، ففعل. ففيه أنزلت {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} (¬1). {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (¬2) هذا فصل آخر من السورة اتصالها من حيث التنبيه. والوعظ السابق في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذا فصل آخر في الثناء على الله واتصالها بذكر المؤمنين ليجدد إيمانهم بتجديد الوعظ السابق في قلوبهم. ¬

_ (¬1) البيهقي في الشعب (5449). (¬2) من قوله (لرأيته) إلى هنا ليست في "ب".

{الْقُدُّوسُ} اسم عظيم من أسماء الله تعالى اشتقاقه من القدس (¬1)، وقال أبو علي الفسوي (¬2): أصله من السريانية قديس. {الْمُؤْمِنُ} من أسماء الله تعالى لإيمانه المؤمنين ظلمه وإيمانه الموحوش في الحرم ونصبه نبيًا في الدنيا من دخله كان آمنًا {الْمُهَيْمِنُ} اسم من أسماء الله تعالى مشتق (¬3). و {الْبَارِئُ} الذي برأ النسمة فهي البرية، واشتقاقه من البر، فإن الله تعالى فصل بين الحق والباطل والحسن والقبيح والحيوان والجماد، وقد استوفينا الكلام في الأسماء في كتاب "مفتاح الهدى". ... ¬

_ (¬1) قاله في مختار الصحاح (1/ 219 - قدس) ونقل عن ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول مثل سفود وكلوب وسمور وشبوط وتنور إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان. وانظر: اللسان (6/ 169 - قدس) والنهاية (4/ 23)، وكان سيبويه يقول: سبوح وقدوس بفتح أولهما. [تفسير القرطبي (18/ 46)]. (¬2) في الأصل (العنوي). (¬3) أي أنه مشتق وأصله: مُؤَيْمِن، فقلبت الهمزة هاءً لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة. ومعناه الشهيد كما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي ومنه قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} فالله الشاهد على خلقه. [تفسير الطبري (22/ 552)، زاد المسير (4/ 264).

سورة الممتحنة

سُورَةُ المُمتَحنةِ مدنية (¬1)، وهي ثلاث عشرة آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن علي بن أبي طالب قال: بعثنا رسول الله -عليه السلام- أنا والزبير والمقداد قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها" فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا فقلنا: لتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لنقطعن (¬3) الثياب، فأخرجت من عقاصها، فأتينا به رسول الله (¬4) فإذا به: من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله (4)، فقال رسول الله (4): "يا حاطب (¬5) ما هذا؟ " فقال: يا رسول الله لا تعجل (¬6) علي، إني كنت أمرأً ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون قراباتهم وأهليهم ولم تكن لي قرابة أحمي بها أهلي، فأحببت ذلك من السبب أن أتخذ منهم يدًا يحمون بها قرابتي وأهلي، ما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 402). (¬2) انظر: "البيان" (244). (¬3) في "ي" "أ": (لتلفين). (¬4) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬5) (يا حاطب) من "أ" "ي". (¬6) في الأصل و"ب": (تجعل).

عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي -عليه السلام- (¬1): "إنه قد صدق"، فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -عليه السلام- (1): "إنه قد شهد بدرًا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (¬2) صفة للاسم المذكور كقولك: لا تتخذوا صديقًا يفشي إليك سرك، الباء زائدة (¬3) {يُخْرِجُونَ} في معنى الحال للذين كفروا و {أَنْ تُؤْمِنُوا} تعليل لإخراجهم {إِنْ كُنْتُمْ} شرط للنهي. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ} الآية في الذين حسن إسلامهم من المؤلفة قلوبهم ومن سائر الطلقاء. وعن عبد الله بن الزبير: قال: قدمت قُتَيلة بنت عبد العزى بن أسيد على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا من ضباب وسمن وأقط فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها، فسألت بها عائشة، فأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} (¬4) أي أن تحسنوا إليهم {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} أي تؤمنوا إليهم عهودهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال مقاتل وغيره: نزلت الآية في سبيعة بنت الحارث الأسلمية وكانت تحت صيفي بن راهب فهربت منه عام الحديبية بعد الموادعة ولحقت بالمسلمين وهم بالحديبية، فجاء صيفي ليستردّها وهو يقول: العهد بيننا وبينكم أن تردّوا علينا من لحق منا بكم فلا تغدروا بنا ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله -عليه السلام-). (¬2) البخاري (3007)، ومسلم (2494)، وأحمد (2/ 37) وغيرهم. (¬3) القول بزيادة الباء هو قول الكوفيين؛ وهو قول الفراء، وإنها مزيدة في المفعول به، ومثله قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وفيه قول آخر وهو أن الباء للسببية، والتقدير: تلقون إليهم أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره بسبب المودة التي بينكم. ونقل الحوفي عن البصريين أنها متعلقة بالمصدر الدال عليه "تلقون" أي: إلقاؤهم بالمودة. [معاني القرآن للفراء (3/ 147)، الدر المصون (10/ 298)]. (¬4) أحمد (4/ 4)، والطيالسي (1744)، والبزار (2208)، وسنده ضعيف، وأصله في البخاري (2620).

قبل أن تجف طينة (¬1) الكتاب وشنع، فقال النبي -عليه السلام- (¬2): "ذلك الكتاب في الرجال دون النساء" فأنزل الله الآية (¬3) ورضي الفريقان به جميعًا، وقيل: ولم يرض المشركون بشيء فأنزل الله تعالى على رسوله قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}. {فَامْتَحِنُوهُنَّ} قيل: استوصفوا الإيمان, وقيل: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحلف المرأة بالله أنها لم تخرج مغاضبة لبعض أهلها ولا متعشقة لبعض المسلمين ولا طالبة للدنيا ولكنها خرجت لوجه الله وحده لا شريك له (¬4)، فإيمانهن إيمان القلب {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} إيمان اللسان، وحكم قوله: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} باق، وحكم قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} منسوخ، وحكم قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} منسوخ، والنسخ بالسنة المتواترة بعد انتهاء الموادعة (¬5)، وحكم قوله {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} باقٍ، وذهب الشيخ أبو جعفر (¬6) إلى أن هذه الآية متأخرة عن قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]. ¬

_ (¬1) في الأصل: (طيبة). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله -عليه السلام-). (¬3) زاد المسير (8/ 238). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 575)، والبزار (2272) وفيه عطية العوفي وهو ضعيف، ويغني عنه حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله يُمْتَحَنَّ بقول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ...} الآية قالت عائشة: فمن أَقَرَّ بهذا من المؤمنات فقد أقرَّ بالمحبة ... " الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (1866)، وأخرجه البخاري في "تغليق التعليق" (4/ 339)، والبيهقي (9/ 228). (¬5) يتنزل هذا الحكم الذي في الآية على الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، والمعنى كما قال مجاهد: ما ذهب من أزواج أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتِهِنَّ، وليُمْسِكُوهُنَّ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمثل ذلك. قال ابن العربي: كان هذا حكم الله مخصوصًا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة. [الطبري (22/ 586)، القرطبى (18/ 68)]. (¬6) (أبو) ليست في الأصل.

ولقوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ} معنيان؛ أحدهما: أن تريد مسلمة أن تلحق بدار الحرب ثم يُغير المسلمون على الكفار ويسبوا تلك المرأة فيجب عليهن (¬1) أن يعطوا من القسمة زوجها الأول المسلم مثل ما كان أنفق قبل ردّتها ثم يسترقوا، والثاني: أن تلحق مسلمة بالكفار مرتدة فيرونها المشركون وتقابلهم والمسلمون يأبون مهاجرة من غير أن يسألوا ما أنفقوا ويؤتوا ما أنفقوا ويعطوا نفقة الكفار، فلا يحل لهم نكاح تلك المهاجرة على سبيل المهاجرة ولكن الواجب عليهم أن يسألوا ما أنفقوا أن يعطوا اليوم الكفار على ما سبق في الآية الأولى، وأي المعنيين صح فهو منسوخ بالسنة المتواترة. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} نزلت بعد فتح مكة، وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان أم معاوية في جملة المبايعات، فلما بلغ رسول الله -عليه السلام- (¬2) إلى قوله: {وَلَا يَسْرِقْنَ} قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح فكان لي في الأخذ من ماله مقدار ما يكفيني ويكفي أولادي، فأذن لها رسول الله (¬3) بالمعروف لا وكس ولا شطط، فلما بلغ إلى قوله: {وَلَا يَزْنِينَ} قالت: وهل تزني الحرة؟ فتبسم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم قال: لا والله لا تزني الحرة، فلما بلغ إلى قوله: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قالت: ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارًا (¬4)، فضحك عمر حتى استلقى على قفاه (¬5) {بِبُهْتَانٍ} لفظ، وعن أم سلمة الأنصارية قالت: قالت امرأة: ما هذا المعروف الذي ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: "لا تخن" قلت: يا رسول الله إن بني فلان قد أسعدوني على مصابة ولا بدّ لي من قضائهن فأبى عليّ فعاتبته مرارًا فأمر لي في قضائهن فلم أنح بعد ¬

_ (¬1) في الأصل و"أ": (عليهم). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله صلى الله -عليه السلام-). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله -عليه السلام-). (¬4) في "ب": (ربيناهم كبارًا فقتلتموهم صغارًا) وهو خطأ. (¬5) ابن جرير (22/ 596) قريبًا منه. وحديث هند بنت عتبة أصله في صحيح البخاري (2/ 769)، والنسائي (3/ 481)، والدارقطني (4/ 234) وغيرهم.

في قضائهن ولا غيره حتى الساعة ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري (¬1). قال طاوس (¬2): ما مسّت يد رسول الله (¬3) يد امرأة إلا امرأة يملكها (¬4). {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قيل (¬5): اليهود {يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} بسحرهم وكهانتهم وتحريفاتهم كما يئس المشركون من موتاهم، وقيل: المشركون يئسوا من خير الآخرة لإيثارهم البعث {كَمَا يَئِسَ} الذين سبقوهم بالكفر وماتوا عليه لمشاهدتهم العذاب، ونزلت الآية ردًا لعجز الكلام على صدره، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (3307)، وابن ماجه (1579)، وأحمد (6/ 320)، وابن سعد (8/ 8)، وابن جرير (22/ 559) وهو حديث حسن. (¬2) في "ب": (طاووس). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله -عليه السلام-). (¬4) ورد ذلك عن عائشة في البخاري (2713). (¬5) في "أ": (قول).

سورة الصف

سُورَةُ الصَّفِ مكيّة (¬1)، عن عطاء: مدنية، وعن الحسن وعكرمة وقتادة (¬2) , وهي أربع عشرة آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} هم الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم، والشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، قيل لميمون بن مهران (¬4): أهو الذي يفرط بنفسه أو هو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفيه تقصير، قال: كلاهما ممقوت. {فَلَمَّا زَاغُوا} تهيأوا للزيغ مختارين له بخذلان الله تعالى خلق فيهم الزيغ، وعن عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس: اسمه في التوراة ¬

_ (¬1) ذكره النحاس (745) عن ابن عباس. (¬2) ذكره السيوطي في الدر (14/ 440) عن ابن عباس وابن الزبير وقتادة، وانظر: "زاد المسير" (8/ 249). (¬3) انظر: "البيان" (245). (¬4) هو ميمون بن مهران أبو أيوب مولى بني أسد يعد في أهل الجزيرة، سمع عبد الله بن عمر وابن عباس وأبا الدرداء، قال ابن سعد: كان ميمون ثقة كثير الحديث. [التاريخ الكبير للبخاري (7/ 338)، سير أعلام النبلاء (2/ 71)، تاريخ دمشق (61/ 336)، حلية الأولياء (4/ 82)].

أحمد الضحوك القتال يركب البعير ويلبس الشملة ويجتري بالكسرة، سيفه على عاتقه (¬1). {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} عيسى أو نبينا - عليهم السلام -. {تُؤْمِنُونَ} و {وَتُجَاهِدُونَ} رفع بحذف الناصبة، تقديره: هو أن تؤمنوا وتجاهدوا، ويحتمل أنه خبر بمعنى الأمر. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) قريبًا منه عند ابن سعد (1/ 159)، وعند ابن عساكر في تاريخه (11/ 14).

سورة الجمعة

سُورَةُ الجُمُعَةِ مدنية (¬1)، وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أبي هريرة قال: كنا جلوسًا عند رسول الله (¬3) فقرأ علينا سُورَةُ الجمعة، فلما قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وفينا سلمان قال: فوضع يده [- صلى الله عليه وسلم -] على سلمان ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لنالته رجال من موالي" (¬4). {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} كلفوا حملها قهرًا بنتق الجبل فوقهم {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} حق حملها {أَسْفَارًا} جمع سِفْر؛ وهو الكتاب، {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} صفة الموت أو بدل منه، وليس بالخبر، والخبر مضمر فيه: لن يعجزوه، وقيل: {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} خبر، وإنما دخلت الفاء لأن الاسم الموصول كالشرط، فكان الخبر كأنه الجزاء. وعن جابر قال: بينما النبي -عليه السلام- يخطب يوم الجمعة قائمًا إذْ قَدِمَتْ ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 453) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (246). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬4) البخاري (4897)، ومسلم (2546).

عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلًا فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) والخطاب لجماعة سوى ذاكر الله يسعون إليه، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة {نُودِيَ} أذَّن بعد زوال الشمس {يَوْمِ الْجُمُعَةِ} والجمعة العروبة بين الخميس والسبت، سميت جمعة لاجتماع الناس فيه، السعي: المضي دون العَدْو كقوله: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)} [عبس: 8] وذكر الله الخطبة، وظاهر الآية تدل على جواز الاقتصار على تسبيحه (¬2) {وَذَرُوا الْبَيْعَ} اتركوا التبايع في الأسواق حالة النداء لتدركوا الخطبة والصلاة، والبيع منهي عنه ساعتئذٍ وجائز لأن النهي لمعنى في غيره. {فَانْتَشِرُوا} {وَابْتَغُوا} أمر إباحة {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} التجارة، وعن جابر ابن سمرة قال: كان رسول الله -عليه السلام- (¬3) يخطب قائمًا ثم يقعد ثم يقوم (¬4). ... ¬

_ (¬1) البخاري (936)، ومسلم (863). (¬2) في الأصل: (وعلى تشبيحه) وهو خطأ. (¬3) (السلام) ليست في الأصل، وفي "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬4) رواه الترمذي: تحفة الأحوذي (3/ 20) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وذكره ابن حجر في فتح الباري (2/ 406)، وهو عند الجماعة إلا البخاري من حديث جابر بن سمرة.

سورة المنافقون

سُورَةُ المنَافِقُونَ مدنية (¬1)، وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عند قوله {لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬3) وقف حسن لأن قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليس من كلام المنافقين (¬4). {خُشُبٌ} جمع خشب وهو ما صلب من نبات الأرض، والمراد به الأصنام المنحوتة من الخشب {مُسَنَّدَةٌ} مردودة إلى الجدار ليعتمد عليها فلا تحرّك، وفائدة التشبيه إثبات صورة حسنة لا خير فيها، وعن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله (3) وكان معنا أناس من الأعراب وكنا نبتدر الماء والأعراب يسبقوننا إليه، فسبق أعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (4/ 491) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) الترمذي (3313)، والطبراني في الكبير (5041)، والحاكم (2/ 488، 489)، والبيهقي (4/ 54, 55)، والحديث صحيح. (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬4) أي هو من كلام الله وهو أن الله كذبهم من قلوبهم لأنهم قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، كذا قال ابن منده في الإيمان (1/ 351)، وانظر: "إرشاد الفحول" (1/ 87) وكذا قال السمرقندي في تفسيره (3/ 428) وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 243).

الأنصار أعرابيًا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع منه الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبد الله فقال: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} من حوله، يعني الأعراب، فكانوا يحضرون عند النبي -عليه السلام- (¬1) عند الطعام، قال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمَّد فأتوا محمدًا بالطعام ليأكله هو وأصحابه، قال لأصحابه {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قال زيد: وأنا أردف رسول الله (¬2) قال: فسمعت عبد الله فأخبرت عمّي فانطلق فأخبر رسول الله -عليه السلام- (¬3)، فحلف وجحد قال: فصدقه (¬4) رسول الله وكذبني، قال: فجاء عمي إليّ فقال: ما أردت إلا مقتك رسول الله (2) وكذّبك المسلمون، قال: فوقع علي من أقوالهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا مع النبي -عليه السلام- (3) في سفر قد خفقت برأسي من الهمّ إِذْ أتى رسول الله (2) فعرك (¬5) أذني ثم ضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله (2)؟ قلت: ما قال شيئًا إلا أنه عرّك (¬6) أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر، ثم لحق عمر، فقلت له مثل قولي لأبي بكر (¬7)، فلما أصبحنا قرأ النبي -عليه السلام- (3) سُورَةُ المنافقين (¬8). وعن أبي هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل، ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬4) في الأصل: (فصدّق). (¬5) في الأصل و"أ": (ففرك). (¬6) في الأصل: (فرك). (¬7) بدل (لأبي بكر) في "ب": (ذلك). (¬8) هناك روايات كثيرة حول أسباب نزول هذه السورة. انظر: الدر المنثور (14/ 502 - 507).

قال: وجاء إلى النبي -عليه السلام- (¬1) فقال: إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، والذي بعثك بالحق ما تأملت في وجهه قط هيبة له، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك به فإني أكره أن أرى قاتل أبي، فتركه النبي -عليه السلام- (1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فصل آخر اتصالها من حيث سبق ذكر المنفعة، وفحوى الخطاب أن المراد بالصالحين المتصدقون والصديقون أو المصدقون (¬2)، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: ما من أحد يموت ولم يحج ولم يؤدَّ زكاة ماله ممن وجب عليه الحج إلا سأل الرجعة فقالوا: يا أبا عباس ما نزال نسمع منك الشيء لا ندري ما هو، قال: فأنا أقرأه عليكم قرآنًا، فقرأ عليهم {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} الآية، قال: أَحُجُّ (¬3). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) في "أ": (المتصدقون). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 671 - 672) والترمذي (3316)، والطبراني مرفوعًا (12635).

سورة التغابن

سُورَةُ التَغَابُنِ مدنية (¬1)، وعن ابن عباس (¬2): مكية إلا ثلاث من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} [التغابن: 14] نزلت في عوف بن مالك (¬3) وهي ثماني عشرة آية بلا خلاف (¬4). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم ظهور التغابن، وإنما كان التغابن في القيامة بترك مراحة المصلحين والمفسدين في شهواتهم في الدنيا واغتنامهم العبادة الموجبة للدرجات الأخروية مسلمة لهم عند الله، وقيل: أراد بالتغابن أخذ بعض الخصماء حسنات بعض يسير من المظلمة، وأصل الغبن: النقض، وعن الضحاك: أن التغابن من أسماء القيامة، وعن الضحاك قال: قال عبد الله: ما أحد بأكسب من أحد، قسم الله المصيبة والأجل، وقسم المعيشة والعمل، والناس يجزون إلى المنتهى (¬5). وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا سأله عن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال: هؤلاء رجال من أهل مكة أرادوا أن يأتوا النبي -عليه السلام- (¬6) فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (14/ 511) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) في "أ" (عياش). (¬3) النحاس (745 - 746). (¬4) انظر: "البيان" (248). (¬5) أبو نعيم في الحلية (6/ 116) وابن أبي الدنيا في "القناعة والعفاف" (118). (¬6) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم).

رسول الله (¬1)، فلما أتوا رسول الله (1) رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله الآية (¬2). ... ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 14)، والترمذي (3317)، والطبراني (11720)، والحاكم (2/ 490) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وذكره في "زاد المسير" (8/ 284) عن ابن عباس أيضًا.

سورة الطلاق

سُورَةُ الطَّلَاقِ مدنية (¬1)، وهي اثنتا عشرة آية في غير عدد أهل البصرة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لِعِدَّتِهِنَّ} اللام للتاريخ (¬3)؛ أي طلقوهن لوقت يحتسبنه من عدتهن، وهو الطلاق في طهر لا جماع فيه، وعن أبي الأحوص عن عبد الله {فَطَلِّقُوهُنَّ} قال: طاهرًا من غير جماع (¬4) و {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} في غير المبتوتات بدليل قوله {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ولكن المبتوتات دخلن من وجه آخر وهو أنه لو طلق امرأته بطلقتين فيما مضى وأمسكها سنين وولدت أولادًا، ثم عزم على طلاقها لا شك أن يطلقها للعدة، عن الأسود أن ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 524) عن ابن عباس. (¬2) انظر "البيان" (249). (¬3) قوله: اللام للتاريخ. لم نجد من استعمل هذه اللفظة من أئمة النحو والتفسير مع أنه فيما يظهر أنه يريد بالتاريخ الوقت. قال في البحر (8/ 281): اللام للتوقيت. (¬4) المراد بعبد الله هو عبد الله بن عباس فيما يظهر أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 23)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (14/ 528) إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه، لكن أبا الأحوص واسمه محمَّد بن الهيثم لم يسمع من ابن عباس - رضي الله عنهما -، فالسند معضل بينهما، لكن الأثر صحيح عن ابن عباس من طرق أخرى، كما أنه مروي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 527).

عمر بن الخطاب و (¬1) عبد الله بن مسعود قالا في المطلقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة (¬2)، وعن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بنيزيد في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فذكروا المطلقة ثلاثًا فقال الشعبي: حدثتني فاطمة بنت قيس أن رسول الله (¬3) قال: "لا سكن لك ولا نفقة" قال: فرمى الأسود بحصى ثم قال: ويلك أتحدث بمثل هذا؟ فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬4) فقال: لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبيّنا لامرأة لا تدري لعلها كذبت قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5). وعن الأسود قال: ذكر لعائشة أمر فاطمة (¬6) بنت قيس (¬7) فقالت: إنما أمرها رسول الله (¬8) أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم لسوء خلقها (¬9)، وعن ابن عباس قال: الفاحشة المبينة أن تبدو على أهلها (¬10)، وعن عكرمة عنه: الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم (¬11)، وعن ابن مسعود: أن تزني فتخرجوها لإقامة الحدود (¬12). وقال أبو يوسف وعن ابن عمر: أنها أن تعصي فتخرج بنفسها (¬13)، والاستثناء على هذا منقطع وبه أخذ إبراهيم النخعي، وهو رواية عن ¬

_ (¬1) في الأصل: (وعن). (¬2) الترمذي (1180). (¬3) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬4) (رضي الله عنه) من الأصل. (¬5) مسلم (1480). (¬6) في "ب": (ذكر فاطمة أمر عائشة). (¬7) (بنت قيس) ليست في "ب". (¬8) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬9) مسند الشافعي (1435). (¬10) قريبًا منه عند عبد الرزاق في المصنف (11021، 11022)، وابن جرير (23/ 34). (¬11) أخرجه عبد الرزاق (11021)، والبيهقي (7/ 431)، وابن راهويه كما في المطالب (4156). (¬12) هي قراءة شاذة لابن مسعود وهي عند عبد الرزاق في مصنفه (11020) ولفظها: {إلا أن يفحشن}. (¬13) قريبًا منه عند عبد الرزاق (11019)، والحاكم (2/ 491).

أبي حنيفة رحمه الله. والمراد بقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} مودة المطلقة والندامة على الطلاق ليرتجعها {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أمر للأخذ بالاحتياط كقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وفائدته قطع أسباب التجاحد، وعن ابن سيرين: سئل عمران بن حصين في رجل طلق امرأته ولم يُشهد وراجع لم يشهد؟ قال: بئس ما صنع طلق في عدة وراجع في غير سنة ليشهد على غيرها (¬1) (¬2). ولا مخالف له من (¬3) الصحابة. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} في أمر النكاح والطلاق، وعن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أسر المشركون ابن رجل من المسلمين فشكا ذلك إلى النبي -عليه السلام- (¬4) قال: "أرسل إليه فليكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله" ففعل، فغفلوا عنه، فركب فحلًا لهم واتبعته الإبل فأنزل الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬5). {لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} لكل مخلوق مقدار. {يَئِسْنَ} الآيسات القواعد اللاتي انقطع دم حيضهن. {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في فراغ أرحامهن لاعتبار غالب الأحوال، والأصح إن ارتبتم في حكمهن فاعلموا أن أرحامهن ثلاثة أشهر {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} إن كان معطوفًا على {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} فالارتياب فيهن كالارتياب في الآيسات وإن كان معطوفًا على الضمير المجرور في قوله {فَعِدَّتُهُنَّ} فالارتياب فيهن. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬6): إن وضعت ما في بطنها وزوجها ¬

_ (¬1) (غيرها) من الأصل. (¬2) عبد الرزاق (10255، 10257). (¬3) (له من) بدله في "ب": (أمر). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬5) ذكره القرطبي (18/ 143) عن الكلبي، وفي زاد المسير (8/ 291) قال: إنه عوف بن مالك الأشجعي. (¬6) (رضي الله عنه) من الأصل.

على السرير قبل أن يدفن في حفرته فقد انقضت عدتها (¬1)، وروي أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين ليلة فأتت النبي -عليه السلام- (¬2) فأمرها أن تتزوج (¬3). {أَسْكِنُوهُنَّ} خطاب للأزواج {مِنْ وُجْدِكُمْ} ما تملكونه ويبطل ذلك عدتهم لانتقال الملك إلى الورثة {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} شرط لامتداد نفقتهن إلى وضع الحمل وانقطاعها بالوضع طالت المدة أو قصرت، أو لبيان حكم (¬4) النفقة قبل الوضع أنه مخالف لحكم النفقة بعد الوضع، من الأولى نفقة عدة يلزم الأزواج ويلزم سائر الورثة، وهذا الشرط لا يدل على سقوط نفقة سائر المعتدات لقول عمر - رضي الله عنه - وابن مسعود - رضي الله عنه - وردهما حديث فاطمة بنت قيس. وعن ابن عباس: إذا مات عن المرأة زوجها وهي حبلى أو غير حبلى فنفقتها من نصيبها (¬5). وعن جابر بن عبد الله: ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حسبها الميراث (¬6). {تَعَاسَرْتُمْ} تضايقتم في نفقة الرضاع وهو أن لا ترضى الوالدة بنفقة ترضى بها مثلها. {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} قال الحسن البصري: الذكر هو الرسول (¬7) ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (2/ 589)، والشافعي (2/ 100)، وعبد الرزاق (18/ 117) وابن أبي شيبة (4/ 297). (¬2) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬3) أخرجه البخاري (5319)، مسلم (1484)، وأبو داود (2306)، والنسائي (6/ 194)، وأحمد (6/ 432) وغيرهم. (¬4) في "ب": (حكم بيان النفقة). (¬5) سعيد بن منصور في سننه (1378). (¬6) الشافعي في مسنده (1425)، وعبد الرزاق (12085). (¬7) لم نجد من نسب هذا التفسير للآية إلى الحسن البصري، وهذا التفسير قد ذكره جمع من المفسرين دون نسبة إلى الحسن البصري، وقد ذكره جمع من المفسرين دون نسبة إلى أحد منهم الطبري (23/ 76)، والبغوي (4/ 361)، والثعالبي (9/ 342).

مصدر بمعنى الاسم؛ أي ذكرًا أو مذكرًا رسولًا، نصب على البدل، ويحتمل بفعل مضمر؛ أي أنزلنا ذكرًا وأرسلنا رسولًا (¬1) سقط الواو لأنه رأس آية. {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي خلق من الأرض مثلهن والمماثلة في الكمية، وقيل: في الطبيعة، وقيل: في كون بعضهن فوق بعض، وقيل: في كون بعضهن منفصلًا عن بعض بالهواء المتخلل بينهن، وقيل: بالتدوير، وقيل: بالتسطيح، وقيل: في كون كل جنس منهن محلًا للحيوان وللأمر والنهي. وعن ابن عباس قال: مثل السموات والأرضين فيما وراءهن من الهواء حيث لا سماء ولا أرض إلا كمثل فسطاط ضربته بصحراء من الأرض. وعن مجاهد عن ابن عباس في قوله {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال: لو أخبرتكم تفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم (¬2). ... ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأوجه الزجاج في معانيه (5/ 188). (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (14/ 563) عن عبد بن حميد وابن المنذر.

سورة التحريم

سُورَةُ التَّحْرِيمِ مدنية (¬1)، وهي اثنتا عشرة آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذكر الكلبي أن النبي -عليه السلام- دخل بيت حفصة ذات يوم واليوم يوم عائشة، فوجد البيت خاليًا وحفصة خارجة إلى بيت أبيها زائرة، فأرسل إلى أمته مارية القبطية وجلس معها خاليًا، فرجعت حفصة بعد ساعة وأبصرت الجارية وأخذت تعاتبه وتقول: قد رأيت من قد (¬3) كانت عندك، فقال لها النبي -عليه السلام- (¬4): "حرمت هذه الجارية على نفسي فاكتمي عليَّ هذا الحديث ولا تخبري به عائشة ولك عندي بشارة" قالت: وما هي؟ قال: "أن أبا بكر وأباك سيملكان هذه الأمة بعدي ولا تخبري بهذه البشارة أحدًا" فلم تصبر حفصة حتى أخبرت عائشة بالأمر جميعًا فأظهر الله نبيه على إفشائها، فعاتبها رسول الله (¬5) على حديث مارية (¬6)؛ لأنه لم ينل بإظهاره وتكراره ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (14/ 568) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (250). (¬3) (قد) ليست في "أ". (¬4) (-عليه السلام-) ليست في "أ" "ي"، وبدله في "ب": (صلى الله عليه وسلم). (¬5) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬6) ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 302) عن ابن عباس من طريق العوفي. وقريبًا منه عند ابن جرير (23/ 88).

ولم يتعرض لحديث البشارة معًا (¬1) متغافلًا عنها لأنه يحب إظهارها وتكرارها. ثم اعتزل نساءه جميعًا شهرًا فظن بعض النساء أنه طلقهن فدخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ابنته حفصة وبالغ في لومها والإنكار عليها وقال لها: والله لئن كان رسول الله (¬2) قد طلقك تطليقة لما كلمتك أبدًا، فقالت: لم يطلقني وإني لعلى شرف ذلك، وهي تبكي، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} (¬3) الآيات، واختار رسول الله (2) لكفارة يمينه عتق رقبة، واليمين: هي تحريم ما أحل الله له من صحبة مارية القبطية، فأعتق رقبة ورجع إلى مارية وهي أم إبراهيم بن محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: أن النبي (¬5) -عليه السلام- (¬6) طلق حفصة ثم راجعها، وصححه الطحاوي في "تأويل مشكل الأخبار" (¬7)، وهذا يصدق الكلبي من قول عمر. وعن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة زوج النبي -عليه السلام- (¬8): أن النبي -عليه السلام- (8) كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب (¬9) عندها عسلًا فتواصيت أنا وحفصة أيَّتنا ما دخل عليها النبي -عليه السلام- (8) فلتقل: إني لأجد ¬

_ (¬1) (معًا) من الأصل. (¬2) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬3) قصة عمر هذه عند البخاري (2468)، ومسلم (1479)، وليس فيها أسباب النزول. (¬4) (وسلم) ليست في "ي". (¬5) في "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) وأخرجه أبو داود (2283)، والنسائي (6/ 213)، وابن ماجه (2016)، وأحمد (3/ 478) قال ابن كثير في تفسيره (3/ 503): إسناده قوي، وانظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (12/ 24). (¬8) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬9) في "ب": (ويشرب).

منك مغافير، فدخل - صلى الله عليه وسلم - على إحداهما فقالت ذلك فقال: "بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له" فنزلت {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬1). {إِنْ تَتُوبَا} لعائشة وحفصة، وعن ابن عباس قال: لم (¬2) أزل حريصًا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي -عليه السلام- (¬3) قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى حج عمر وحججت معه فصببت عليه من الإداوة، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي -عليه السلام- (3) اللتان قال الله تعالى (¬4) {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}؟ فقال لي: واعجبًا لك يا ابن عباس. قال الزهري: وكره والله ما سأل عنه ولم يكتمه فقال: هي عائشة وحفصة، ثم أنشأ يحدثني الحديث، قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضَّبْتُ على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني فأنكرت من أن تراجعني، فقالت: ما تنكر من ذلك؟! فوالله إن أزواج النبي (¬5) ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فقلت في نفسي: قد خابت من فعلت ذلك منهن وخسرت، قال: وكان منزلي بالعوالي في بني أمية، وكان لي جار من الأنصار كنا نتناوب النزول إلى رسول الله (¬6)، قال: فينزل يومًا فيأتيني بخبر الوحي وغيره وأنزل يومًا فآتيه بمثل ذلك، قال: فكنا نحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا. قال: فجاء يومًا عشاء وهو يضرب على الباب، فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، قلت: أجاءت غسَّان؟ قال: أعظم من ذلك، طلق ¬

_ (¬1) هذه الرواية نفسها في البخاري (4912) فلا أدري لماذا جلب رواية الكلبي، وهذا يدل على قلّة البضاعة الحديثية للمؤلف. والحديث أيضًا في مسند أبي عوانة (3/ 158)، والبيهقي في السنن الصغرى (6/ 347)، وأحمد (6/ 221). (¬2) (لم) ليست في الأصل. (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬4) (تعالى) ليست في "ي" "أ". (¬5) في "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬6) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

رسول الله (¬1) نساءه، فقلت في نفسي: قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن أن هذا كائن، فلما صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله (1)؟ قالت: لا أدري هو معتزل في هذه المشربة، قال: فانطلقت فأتيت غلامًا أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليَّ قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئًا، فانطلقت إلى المسجد فإذا حول المنبر أخر يبكون، فجلست إليهم، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج، قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئًا، قال: فانطلقت إلى المسجد أيضًا، فجلست، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليَّ قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئًا، فوليت منطلقًا، فإذا الغلام يدعوني قال: ادخل قد أذن لك، فدخلت فإذا النبي (¬2) -عليه السلام- يتكئ على رمل حصير رأيت أثره في جنبه. فقلت: يا رسول الله أطلقت نسائك؟ قال: "لا"، قلت: الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتعصبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك فقالت: ماذا تنكر فوالله إن أزواج النبي -عليه السلام- (¬3) ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، [فقلت لحفصة: تراجعين لرسول الله؟ قالت: نعم تهجره إحدانا اليوم إلى الليل] (¬4)، قال: فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله (¬5) فإذا هي قد هلكت، ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) في "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬3) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬4) ما بين [...]، من "أ" "ي". (¬5) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فتبسم النبي -عليه السلام- (¬1)، قال: فقلت لحفصة: لا تراجعي رسول الله (1) ولا تسأليه شيئًا وسليني ما بدا لك، فلا يغرنك أن صاحبتك أوسم منك وأحب إلى رسول الله، قال: فتبسم أخرى، قلت: يا رسول الله استأنس قال: "نعم" قال: فرفعت رأسي فما رأيت إلا أهُبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله اُدع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسَّع الله على فارس والروم وهم لا يعبدونه، فاستوى جالسًا فقال: "أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة (¬2) الدنيا" قال: وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرًا فعاتبه الله في ذلك وجعل له كفارة اليمين. قال الزهري: حدثني عروة عن عائشة قال: فلما مضت تسع وعشرون دخل عليَّ بدأني قال: "يا عائشة إني ذاكر لك شيئًا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك" (¬3) ثم قرأ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] على ما سبق {فَقَدْ (¬4) صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} مالت قلوبكما عن الحق وجزاؤه مضمر تقديره {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} توبا أو فأسرعا {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أبو بكر وعمر (¬5) وعلي، فتقديره: ومن صلح من المؤمنين ظهير كالفقيه. وعن عمر بن الخطاب: وافقت الله في ثلاث ووافقني في ثلاث (¬6)؛ قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ (¬7) مُصَلًّى} [البقرة: 125] فقلت: يا رسول الله إنه يدخل عليك ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ب"، وبدله في "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬2) في "ب": (حياتهم). (¬3) البخاري (2468)، ومسلم (1479). (¬4) (فقد) من الأصل. (¬5) روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا قال عليه الصلاة والسلام: "من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر". أخرجه ابن عساكر (30/ 223)، والخطيب البغدادي في تاريخه (1/ 304)، والطبراني (60477) وهو مروي عن مقاتل بن سليمان والضحاك بن مزاحم. (¬6) (ووافقني في ثلاث) ليست في "أ". (¬7) من قوله (فأنزل) إلى هنا ليس في "أ".

البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين، فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني بعض معاتبة النبي (¬1) على (¬2) نسائه فاستقربت أمهات المؤمنين، فدخلت عليهن فجعلت أستقربهن واحدة واحدة فقلت: لئن (¬3) انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله أزواجًا خيرًا منكن، حتى انتهيت إلى زينب أو بعض أزواجه فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ أزواجه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} (¬4). {سَائِحَاتٍ} مهاجرات إلى الله ورسوله (¬5) وقيل: صائمات (¬6)، وقيل (¬7): حاجات ومعتمرات، وقيل: {سَائِحَاتٍ} بقلوبهن في ملكوت الله تعالى {ثَيِّبَاتٍ} اللواتي كان لهن أزواج {وَأَبْكَارًا} اللواتي (¬8) لم يكن لهن أزواج. وكان علي - رضي الله عنه - إذا قرأ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} يقول: علَّموهم وأدّبوهم (¬9) (¬10)، وعن ابن مسعود {وَالْحِجَارَةُ} حجارة من كبريت خلقه الله كبريتًا كما شاء (¬11). والقول مضمر عند قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقال لهم. ابن عباس في قوله: {تَوْبَةً نَصُوحًا} قال: الندم بالقلب والاستغفار باللسان ¬

_ (¬1) في "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬2) (على) ليست في "ب". (¬3) في "أ": (أي). (¬4) هذه رواية أحمد (1/ 24، 26)، وابن حبان (6896)، والحديث في صحيح البخاري (1/ 157)، ومسلم (4/ 1865). (¬5) قاله زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 102). (¬6) في الأصل و"أ": (صائمًا). (¬7) قاله ابن عباس والجمهور وهو قول قتادة والضحاك. أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (23/ 101)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 302). (¬8) في "ب": (اللاتي). (¬9) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 303)، وابن جرير (23/ 103)، والحاكم (2/ 494)، والبيهقي في "المدخل" (372). (¬10) في "أ": (علموهن وأدبوهن). (¬11) ابن جرير (23/ 104).

والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود (¬1)، وقال عمر: يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه (¬2). وفائدة ضرب هذين المثلين هو الإعلام أنه {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 38، 39] الآيات. ... ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي عن الكلبي (18/ 174). (¬2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/ 313).

سورة الملك

سُورَةُ المُلكِ مكية (¬1)، وهي ثلاثون آية في غير عدد أهل مكة والمدني الأخير (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وعن ابن بريدة عن أبيه قال (¬3): السماء الدنيا موج مكفوفة والثانية مرمرة بيضاء، والثالثة حديد، والرابعة صفر، والخامسة نحاس، والسادسة فضة، والسابعة ذهب، وما بين السماء (¬4) السابعة إلى الحجب صحارى من نور. وعن كعب كذلك، غير أنه قال: السماء السابعة من ياقوتة حمراء (¬5). {مِنْ تَفَاوُتٍ} أن يفوت كل واحد من الشيئين صاحبه في الاتفاق والانتظام فيختلفا {مَا تَرَى} أي انظر ما ترى {فُطُورٍ} شقوق. {كَرَّتَيْنِ} رجعتين. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 599) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (251). (¬3) في "ب": (قالت). (¬4) (السماء) ليست في "أ". (¬5) الأثر هذا روي عن الربيع بن أنس أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية (8/ 396)، والطبراني في الأوسط (5661)، وأبو الشيخ في العظمة (564)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/ 237) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والأثر فيه أبو جعفر الرازي ضعفه النسائي.

{تَفُورُ} تغلي وتشد حركته. {تَمَيَّزُ} تفرق وتشتت وإنما لم يجمع الذنب لأنه فعل (¬1). {فَسُحْقًا} بعدًا وإهلاكًا. {مَنَاكِبِهَا} جبال الأرض، وقيل: طرفها {مَنْ (¬2) فِي السَّمَاءِ} أتى أمر الله، ينزل الأمر من السماء إلى الأرض. وعن ابن غنم قال: سيكون حَيَّان متجاوران يشقّ بينهما نهر يستقيان منه قبسهم واحد فيصبحان يومًا من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حي، ويوشك أن يقعد أمتان على ثفال رَحًى فتطحنان يخسف بأحدهما والأخرى تنظر (¬3). {هَذَا الَّذِي} إشارة إلى موهوم لا شيء، كقولك للذي نطق أنه محترم: من هذا الذي يحترمك، وهو من مجاز الكلام. {لَجُّوا} من اللجاجة وهو الإصرار. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا} قال الكلبي: نزلت الآية في نبينا -عليه السلام- (¬4) وفي أبي جهل (¬5). ¬

_ (¬1) قاله الفراء في معانيه (3/ 170)، وقال السمين الحلبي (الدر المصون 10/ 384) وحده لأنه مصدر في الأصل ولم يقصد التنويع. (¬2) (من) ليست في "أ". (¬3) ابن غنم هو عبد الرحمن بن غنم الأشعري، يقال: له صحبة. وذكره ابن حجر في الإصابة (5/ 106) وأكثر المحدثين لا يثبتون له صحبة، وقال الإمام أحمد: أدرك ولم يسمع. وقال أبو حاتم: ليست له صحبة وروايته مرسلة، والأثر الذي ذكره المؤلف عن ابن غنم عزاه السيوطي في الدر المنثور (13/ 424 - سُورَةُ محمَّد آية 18) إلى ابن أبي الدنيا. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) نقله القرطبي في تفسيره عن الكلبي ونسبه لابن عباس أيضًا [تفسير القرطبي (18/ 219)].

{إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} في تربصهم الدوائر بالمؤمنين، يقول النبي -عليه السلام- (¬1): هب كأنما هلكنا فهل للمجرمين من عذاب الله من نجاة. {غَوْرًا} مصدر في معنى الجمع كالضيف والدور (¬2) {بِمَاءٍ مَعِينٍ} قال ابن عباس: بماءٍ (¬3) طاهر. وعن علي عن النبي -عليه السلام- (¬4) قال لعلي: "يا علي من قرأ سورة تبارك الذي بيده الملك جاء يوم القيامة راكبًا على أجنحة الملائكة ووجهه في الحسن كوجه يوسف الصديق -عليه السلام- (¬5) وله بكل آية قرأها مثل ثواب شعيب -عليه السلام- (4) (¬6) ". وعن ابن مسعود قال: من قرأ سُورَةُ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة عصم من فتنة القبر، يؤتى من قبل رأسه فيقول: لا سبيل لكم إليه كان يقرأني، ثم يؤتى من قبل رجله فيقول: لا سبيل لكم إليه قد كان يقرأني (¬7). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) قاله الفراء في معانيه (3/ 172). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم (10/ 3363) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ظاهر. (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي صلى الله عليه وسلم). (¬5) (-عليه السلام-) ليست في "ب"، و (السلام) ليست في "ي". (¬6) لم نجد لهذا الحديث أصلًا فيما بين أيدينا من كتب الحديث، ولم نجده في مسند علي - رضي الله عنه -. (¬7) ابن نصر المروزي في "قيام الليل" (66)، والطبراني في الكبير (8651)، والحاكم (2/ 498)، والبيهقي في الشعب (2509)، والحديث حسن.

سورة القلم

سُورَةُ القَلَمِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: الفصل الأول إلى {الْخُرْطُومِ} [القلم: 16] مكي، والفصل الثاني إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] مدني، والفصل الثالث إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم: 47] مكي، والفصل الرابع إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50] مدني، والفصل الخامس مكي (¬2). وهي اثنتان وخمسون آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: أول شيء خلق ربي القلم ثم قال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم خلق النون فوق الماء ثم كبس الأرض عليه (¬4). وعن ابن عباس قال: الأرض على النون وهو الذي ذكره الله تعالى {ن وَالْقَلَمِ}، والنون على بحر، والبحر على صخرة خضراء مخضرة، ما ترون من السماء من خضرة تلك الصخرة التي ذكر الله تعالى في القرآن ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 617) عن ابن عباس وعائشة. (¬2) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 326) عن ابن عباس وقتادة أن فيها مدني ولم يحدد. (¬3) انظر: "البيان" (252). (¬4) أخرجه الطبراني في تفسيره (23/ 140)، وتاريخه (1/ 33)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 307)، وابن أبي شيبة (14/ 101)، وأبو الشيخ في العظمة (900) والآجري في الشريعة (183) وغيرهم.

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] (¬1). والنون إشارة إلى اسم الحوت (¬2). وعن ابن عباس: النون: الدواة (¬3)، وعن قتادة ومجاهد: إنها اسم للسورة (¬4)، وعن سهل التستري (¬5): إنها اسم من أسماء الله (¬6)، وعن عبادة (¬7) بن الصامت عنه -عليه السلام-: "أن أول ما خلق القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد" (¬8). {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} وعن سعد بن هشام (¬9) (¬10) بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني عن خلق رسول الله (¬11)، فقالت: أما تقرأ القرآن {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}؟ قالت: كان خلقه القرآن (¬12). وعن أبي سعيد الخدري: "كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فكان إذا كره الشيء عرفنا في وجهه" (¬13). ¬

_ (¬1) بعضه ذكره عبد الرزاق في تفسيره (2/ 307)، وابن جرير (23/ 140، 141) وأبو الشيخ في العظمة (900)، والحاكم (2/ 498). (¬2) ابن جرير (23/ 146)، والطبراني في الكبير (12227). (¬3) ابن جرير (23/ 143). (¬4) ذكره ابن جرير في تفسيره (23/ 144) دون أن ينسبه لأحد. (¬5) سهل بن عبد الله التستري أحد أعيان المتصوفة وله من الكتب كتاب دقائق المحبين وكتاب مواعظ العارفين وكتاب جوابات أهل اليقين [الفهرست (1/ 263)]. (¬6) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن (ن) من حروف الرحمن المقطعة وهي (ألر) و (حم) و (ن) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 142). (¬7) في "ب": (قتادة) وهو خطأ. (¬8) الترمذي (5/ 424)، وأحمد (5/ 317) والحديث صحيح. (¬9) (بن هشام) ليست في الأصل. (¬10) سعد بن هشام بن عامر الأنصاري هو ابن عم أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وروى عنه، وهو من ثقات التابعين، روى له البخاري ومسلم والأربعة. مات مقتولًا -رحمه الله-. (¬11) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬12) مسلم (746)، وأحمد (6/ 53)، وأبو عوانة (2/ 323) وغيرهم. (¬13) أخرجه مسلم (2320) عن أبي سعيد.

وعن عائشة قالت: "ما ضرب رسول الله (¬1) بيده شيئًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة" (¬2). {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} أي يجوز أن تكف عن ذكر آلهتهم وكفرهم فيكفوا عنك. {حَلَّافٍ} كثير الحلف في الجد والهزل، وهو عيب لأنه إن كان باسم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فاسم الله لا يذكر بالهزل، وإن كان باسم من دونه فالحلف به [شرك] (¬3) إذ قربت منه، ولا شك فيمن كثر حلفه أن يكثر حنثه. {مَهِينٍ} حقير عند الله أو عند الناس. {هَمَّازٍ} غماز كأنه يغمز بغمز جفنه، يهمز حدقته أي يضغطها وهو اللّماز، وقيل: الهمز بظهر الغيب، واللّمز: في حضرة الرجل. {بِنَمِيمٍ} بنميمة، وهو الحديث المنقول المسوق من مجلس إلى مجلس، و (النمام): الفتان، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة نمام" (¬4). {عُتُلٍّ} هو (¬5) الذي هو كالمنتفخ من سعة جوفه، يقال: رمح عتل إذا كان كذلك {زَنِيمٍ} الذي في نسبه خلل. وهذه الآيات عامة في قضية الظاهر، وروي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وستأتي قصته في سُورَةُ "المدثر" إن (¬6) شاء الله. {سَنَسِمُهُ} الوسم الكي والعلامة {الْخُرْطُومِ} الأنف، ولا يكاد يطلق هذا ¬

_ (¬1) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم). (¬2) أحمد (6/ 229)، وابن حبان (488)، وأبو يعلى (7/ 339)، والبيهقي في الشعب (1424)، والسنن (7/ 45) والحديث صحيح. (¬3) (بياض) في جميع النسخ. (¬4) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (3/ 176)، وأحمد (2/ 164)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 330) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - كلاهما مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) (هو) ليست في "أ" "ي". (¬6) (أن) ليست في "أ".

اللفظ إلا على أنف فاحش موحش مثل الكلب والخنزير والفيل والبعوضة. والمراد بالوسم معنى يتميز به الموسوم عن سائر المعذبين. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} نزلت الآيات في سنوات الدخان حين دعا رسول الله على قريش بسبع كسبع يوسف -عليه السلام-، أكلوا العلهز والرمة من الحمير والمجاعة (¬1). وضرب الله مثلًا أصحاب الجنة وهم ثلاثة إخوة باليمن في قرية تسمى صروان (¬2) وكان أبوهم قد رسم للفقراء كل ما أخطأه المنجل من الزرع، وكل ما سقط عن البسط من المنجل، وكل ما أخطأه القطاف من الكرم، فكانوا يتعيشون به. فلما مات أبوهم وورثه هؤلاء البنون الثلاثة بخلوا بما رسمه أبوهم وقالوا: كانت يد أبينا يدًا واحدة وفي العيال قلة حين رسم هذا الرسم، وأمّا اليوم فلا نفعل، وتواعدوا وتقاسموا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ولم يقولوا إن شاء الله. و (الصِّرام): الحصاد. فأرسل الله على أموالهم بالليل آفة {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} وهو الحصيد، وأصبح الإخوة باكرين من بيوتهم يتنادون {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أن (¬3) لا تخلوا مسكينًا يدخل عليكم اليوم. {عَلَى حَرْدٍ} قصد (¬4) (¬5) {قَادِرِينَ} مستطيعين للصرام إن أدركوا. ¬

_ (¬1) الحديث في صحيح البخاري (3/ 1072)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: كان يدعو في القنوت: "اللهمَّ أَنْج سلمة بن هشام، اللهم أَنْج الوليد بن الوليد، اللهم أَنْج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أَنج المستضعفين من المؤمنَين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف" وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 197). (¬2) قال القرطبي (15/ 14): القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، ونقله عن الطبري والماوردي والسهيلي. (¬3) (أن) من "ب" "أ". (¬4) (قصد) ليست في "أ". (¬5) في الحرد أربعة أقوال: منها ما ذكره المؤلف أنها بمعنى القصد، وقيل: بمعنى المنع، وقيل: بمعنى الغضب، وقيل: هو اسم للجنة؛ قاله في التسهيل في علم التنزيل (4/ 139)، وابن حجر في فتح الباري (8/ 661).

{فَلَمَّا رَأَوْهَا} كالحصيد {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} الطريق خاطئين جنتنا، ثم تيقنوا أنها جنتهم أرسل الله عليها آفة. فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم (¬1) قولًا (¬2) {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} هلّا يقولون إن شاء الله ورجعوا إلى تسبيح الله واعترفوا بالطغيان وأحسنوا الظن بالله في التفويض. يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} لو كانت قريش تعلم. {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} عبارة عن شدة الأمر (¬3). {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} غير مغفور له، فلما سبقت الرحمة وغفرت له الذلة نبذ بالعراء وهو سقيم غير مذموم. {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أطلقت قريش اسم الجنون على رسول الله (¬4) لمعنيين؛ أحدهما: أنهم استبعدوا سيرته من قضية عقولهم الفاسدة، والثاني: أنهم رأوه كاهنًا تأتيه الجن بالأسجاع العجمية فبرأه الله -عَزَّ وَجَلَّ- مما قالوا من الوجهين. ... ¬

_ (¬1) قاله ابن فارس [المحكم (3/ 212)]. (¬2) (قولًا) ليست في "ب". (¬3) يحاول المؤلف الهروب عن إثبات الساق لله -عَزَّ وَجَلَّ- حيث كما تقدم أشعرية المؤلف في عقيدته، والذي يوضح معنى الآية في إثبات الساق لله -عَزَّ وَجَلَّ- ما رواه مسلم في صحيحه (4/ 2259)، وفيه ... : "فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، قال: فيقول أتعرفونه بعلامة ترونها؟ فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود .. " الحديث. وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1/ 252): الذين أثبتوا الساق أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا". وانظر تفصيل هذه المسألة في: سير أعلام النبلاء (19/ 582) الرد على الجهمية لابن منده (1/ 16)، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 394). (¬4) في "ب": (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

سورة الحاقة

سُورَةُ الحَاقةِ مكية (¬1)، وهي اثنتان وخمسون آية في غير عدد أهل الشام والبصرة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَاقَّةُ (1)} هي الساعة سميت حاقة لأنها تحق لا محالة، ورفع بالابتداء (¬3) والاستفهام قائم مقام الخبر تقديره: الحاقّة ما هي، وذلك لتضمنه معنى الخبر. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} للتعجب وتفخيم (¬4) الأمر (¬5)، والقارعة (¬6) كالحاقة سميت قارعة لأنها تقرع الجبابرة. {بِالطَّاغِيَةِ} بالصيحة المجاوزة عن الحدّ. {عَاتِيَةٍ} ريح مجاوزة عن الحد المعهود سخرها الله للهبوب عليهم. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (14/ 660) عن ابن عباس وابن الزبير. ونقل ابن الجوزي في زاد المسير الإجماع على مكيتها (8/ 345). (¬2) انظر: "البيان" (253). (¬3) انظر: التبيان في إعراب القرآن (2/ 1236) وذكر وجهًا آخر وهو أن تكون "الحاقة" خبرًا لمبتدأ محذوف. (¬4) قال في التسهيل لعلوم التنزيل (4/ 141) إن "ما" استفهامية يراد بها التعظيم وهو قريب مما قاله المؤلف من أنها لتفخيم الأمر. (¬5) (الأمر) ليست في "ي". (¬6) في "ب": (بالقارعة).

{حُسُومًا} متتابعة (¬1) لا واحد لها، وعن ابن مسعود: حسومًا متتابعات (¬2). {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} زمان طوفان نوح -عليه السلام-. {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} بين الحفظ والإدراك والتحصيل. {وَاهِيَةٌ} الوهي: زوال التماسك واقتراب التأليف من الانفساخ، يقال: سقاء واهٍ إذا انفتق خرزه. {أَرْجَائِهَا} نواحيها واحدها رجًى. وعن عبد الله بن قيس قال: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان: فجدال ومعاذير، وأما الثالثة: فتطاير الكتب؛ فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله (¬3). {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أي خذوا، من العرب من يقول: ها يا رجل وهاؤما للاثنين وهاؤم للجماعة، ومنهم من يقول: هاك وهاكما وهاكم. {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية. عن سلمان الفارسي عنه -عليه السلام-: "يعفى المؤمن من جواز على الصراط ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا الكتاب من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية" (¬4). و (القطف): كالصرم والجني، و (القطوف): ما يقطف من عنقود. وعن ابن عباس: أن قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} قال: نزلت في الصائم خاصة، قال: "من صام يومًا تطوعًا لا ¬

_ (¬1) نقل الطبري في تفسيره إجماع أهل الحجة من أهل التأويل على هذا التفسير وهو أصح القولين عنده كما ذكره عند تفسيره لهذه الآية. (¬2) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 312)، وابن جرير (23/ 212، 213)، والطبراني (9061)، والحاكم (2/ 500). (¬3) الترمذي (2425)، وابن ماجه (4277)، وأحمد (4/ 414)، والحديث ضعيف. (¬4) الخطيب في تاريخه (11/ 319).

يطلع عليه إلا الله لم يرض الله له ثوابًا دون الجنة" (¬1). والها المتصلة بياء المتكلم هاآت التنفس. {يَا لَيْتَهَا} أي النفخة، يقول: يا ليتها نفخة [إماتة ولم تكن نفخة] (¬2) بعث. {ذَرْعُهَا} مقدارها، و (الذرع): التقدير بالذراع. عن ابن عباس: ما أدري ما (¬3) {غِسْلِينٍ}. وذكر أحمد بن فارس وأبو عبيد الهروي: أن {غِسْلِينٍ} ما ينغسل من أبدان الكفار من النار؛ وهو الصديد المضاف إلى الزقوم ليكون طعامًا واحدًا، كالمن والسلوى (¬4). {فَلَا أُقْسِمُ} القسم (¬5) بالمحسوس والمعقول، والمراد خالقهما. {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} وهو جبريل -عليه السلام- من كونه أول نفس نطقت بالقرآن (¬6) وصدرت حروفه من صدرها. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} لأنه أنشأه إياه قولًا من غير فعل، ثم ألقاه في مسامع جبريل -عليه السلام- (¬7). {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} يعني محمد -عليه السلام-، وقيل: جبريل. قال أحمد بن فارس: {الْوَتِينَ} عرق يسقي القلب (¬8)، وقيل: الوتين: ¬

_ (¬1) رواه أبو سعيد النقاش -المتوفى 414 هـ - في فوائد العراقيين (1/ 95) عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعًا. (¬2) ما بين [...] ليست في الأصل. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر" (14/ 681) وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) قاله في اللسان (11/ 495 - غسل) وزاد: إن الياء والنون مزيدة فهي من الغَسل كما زيدت في عفرين، ونقل ذلك عن ابن قتيبة. (¬5) (القسم) ليست في "أ". (¬6) في الأصل: (نطقت به القرآن). (¬7) (السلام) ليست في "ي". (¬8) انظر محتار الصحاح (1/ 295 - وتن)، ولسان العرب (13/ 442 - وتن)، والنهاية (5/ 149).

النياط. وقال "صاحب الديوان" (¬1): الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه، وأراد إماتة متميزة عن الموجود على سبيل النكال. {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} أي القرآن حسرة عليهم يوم القيامة من حيث لم يؤمنوا به. ... ¬

_ (¬1) صاحب الديوان هو كمال الدين أبو الحسن علي بن محمد بن حسن المصري مدح الملك الأشرف وسكن نصيبين وبها توفي سنة تسع عشرة وست مائة. قال عنه الذهبي [سير أعلام النبلاء (22/ 178)]: في نظمه مبالغات تفضي به إلى الكفر بالله لا أرى ذكر ها. وصاحب الديوان لقب اشتهر به البحتري الوليد بن عبادة، والذي يظهر أن المؤلف يقصد البحتري لأن المؤلف توفي سنة أربعمائة وواحد وسبعين.

سورة المعارج

سَوْرَةُ المَعَارِجِ مكية (¬1)، وهي أربع وعشرون آية في غير عدد أهل الشام (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَأَلَ سَائِلٌ} دعا داعٍ، وعن عطاء قال: وهو النضر بن الحارث (¬3). {ذِي الْمَعَارِجِ} معارج الملائكة والأنبياء وأرواح الشهداء، وعن الحسن: أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد -عليه السلام- (¬4) وأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمله على بيت المال، وأنه عمد إلى فضة فكسرها فخدَّ لها أخدودًا ثم أمر بحطب جزل فأوقده عليها حتى أماعت وتزبدت وعادت ألوانها، ثم قال: انظروا من بالباب فادخلوا، قال (¬5): رأينا في الدنيا المهل (¬6). {كَالْعِهْنِ} كالصوف المصبوغ. {يُبَصَّرُونَهُمْ} يرونهم ويعرفونهم وذلك بالنداء على رؤوس الخلائق ألا إنّ هذا فلان بن فلان كان عمله كذا وكذا. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي (14/ 686) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (254). (¬3) عزاه السيوطي (14/ 686 - 687) لابن أبي حاتم. (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (محمد - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) (فادخلوه قالوا) في "ب". (¬6) ابن جرير (23/ 256).

أبو عبيد الهروي: (الفصيلة) أقرب العشيرة (¬1)، فعباس بن عبد المطلب فصيلة النبي -عليه السلام- (¬2)، وأصل الفصيلة قطعة من لحم الفخذ. {إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)} لهب النار، {لِلشَّوَى} واحدتها شواة وهي جلدة الرأس خاصة (¬3). {فَأَوْعَى} المتاع كما وعى الكلام. {هَلُوعًا} يعني الذي فسره الله تعالى وهو الجزوع. {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} والمفزع. {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} فهو الضجر البخيل، {الْإِنْسَانَ خُلِقَ} يعني الجمع، والاستثناء في {إِلَّا (¬4) الْمُصَلِّينَ} متصل. وعن عقبة بن عامر في {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} قال: هم الذين إذا صلَّوا لم يلتفتوا خلفهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم (¬5). وعن ابن عباس في قوله {بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} قال: الشهادة بين علي ما كانت في قريب أو بعيد (¬6). {عِزِينَ} جمع عزة وهي الحِلق (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في تفسيره (3/ 472)، وابن العربي في أحكام القرآن (4/ 308)، وعمدة القاري (9/ 260)، وتاريخ الإسلام (1/ 22). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) انظر: [مختار الصحاح (1/ 148) - "شوي"، وتاج العروس (38/ 397) - "شوي"، ولسان العرب (14/ 445) - "شوى"]. (¬4) (إلا) ليست في "أ". (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 269) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (¬6) ذكره القرطبي (18/ 291). (¬7) انظر: النهاية (3/ 233)، ومنه قوله -عليه السلام-: "ما لي أراكم عزين" أي: مجتمعين متحلقين. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 322).

{كَلَّا} ردّ (¬1) لأطماعهم الفاسدة ونفي لدخولهم الجنة {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} كلام غير متعلق بما تقدمه ويجوز أن تكون كالعلة لما تقدمه من جهة أن الجنة تستحق بالطاعة كالمؤمنين، وبالخلقة أخرى كحور العين. {يُوفِضُونَ} يسرعون. ... ¬

_ (¬1) في "أ": (ردع).

سورة نوح -عليه السلام-

سُوْرَةُ نُوْحٍ -عليه السلام- مكية (¬1)، وهي ثلاثون آية عند أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} لتبرمهم بنوح -عليه السلام- (¬3) واستخفافهم به، فدعاهم جهارًا، ثم أعلن لهم الوعد والوعيد وأسرهم إسرارًا، فلم ينجع فيهم كلامه. {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} لا تخشون لله عظمة {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ} لوعد الله موقرين إياه. {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} أي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، وقيل: خلق أرواحهم جنودًا مجندة أول مرة وإخراجهم من صلب آدم -عليه السلام- (3) كأمثال الذر للميثاق ثانيًا وتوليدهم من آبائهم وأمهاتهم أطفالًا للقدرة والاختيار ثالثًا، وقيل: أراد تمنيتهم والزيادة في إجزائهم كل يوم، وقيل: أراد تصريفهم من حال إلى حال، و (الطور) المرة. {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} زين لهم الشيطان لعمرو بن لحي حتى اتخذ أصنامًا على هذه الأسماء وفرقها في قبائل ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي (14/ 704) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (255). (¬3) (السلام) ليست في "ي".

العرب وزعم أنه استخرجها من الأرض، وأنها (¬1) تلك الأصنام القديمة، فكانت ودّ لكلب بدومة الجندل، وسواع لهذيل برهاط، ويغوث لقبائل من اليمن بجرش، ويعوق لهمدان، وفيه شيطان يكلمهم إذا تحاكموا إليه، ونسر الذي لكلاع الذي بأرض حمير (¬2) ودعوة نوح -عليه السلام-. {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} كدعوة موسى -عليه السلام- (¬3). {مِمَّا} "ما" صلة (¬4) كما في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. {دَيَّارًا} فيعال من الدور، وقيل: المراد بالديار صاحب الدار. عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: إذا كان يوم القيامة دعي نوح -عليه السلام- (¬5) إلى الحساب، فيقول قومه: لا والله ما جاءنا، فيقول نوح: بلى والله قد بلغت، فيقال له: من يعلم؟ فيقول: أمة محمَّد، فيجيئون ويشهدون له، ثم كذلك ثم كذلك (¬6). ¬

_ (¬1) في "أ": (وأنا). (¬2) هذا التفصيل أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 427) عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح -عليه السلام-، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق مثل هذا. (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) وقيل: إن "ما" زائدة إعرابًا، والتقدير: من خطيئاتهم، ومثله "فبما نقضهم" فبنقضهم و"عما قليل" عن قليل. كما زيدت الباء في قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، و {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] و {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، و {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)} [الشعراء: 114]. [انظر: سر صناعة الإعراب (1/ 133)]. (¬5) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "ب". (¬6) قريبًا منه عن ابن عباس عند الحاكم (2/ 547، 548).

سورة الجن

سُوْرَةُ الجِنِّ مكية (¬1)، وهي ثمان وعشرون آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} الهاء عماد وهو ضمير الأمر والشأن، وهذه السورة في النفر السبعة الذين استمعوا لقراءة رسول الله -عليه السلام- (¬3) ببطن نخلة وهو راجع من الطائف دون الذين أتوه بالحجون بعد ذلك (¬4) (¬5). وقوله: {فَآمَنَّا بِهِ} يدل على أنهم لم يكونوا موحِّدين قبل ذلك مع معرفتهم موسى -عليه السلام- (¬6)، كان قد استزلَّهم سفيههم بالشبهات عن خالص التوحيد، كما استزل اليهود والنصارى مع معرفتهم موسى وعيسى -عليهما السلام-، وكما استزل مع معرفتهم إبراهيم -عليه السلام- واستعمالهم طائفة من شريعته. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 5) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (256). (¬3) (-عليه السلام-) ليست في "ي" "أ"، وفي "ب": (صلى). (¬4) (بعد ذلك) ليست في الأصل. (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره (19/ 7)، وذكر البغوي في تفسيره (4/ 401) أنهم تسعة نفر من الجن وأنهم من جن نصيبين، وكذا قال السمرقندي في تفسيره (3/ 480)، والثعلبي في تفسيره (10/ 49). وأصل الخبر في صحيح البخاري (4/ 1873)، ومسلم (1/ 331 - 4/ 2321). (¬6) (السلام) ليست في "ي".

{تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي عظمة ربنا (¬1)، و (الجدّ) في الناس: السعادة (¬2)، وفي صفات الله: ما ينفي الشقاوة، و (سفيهنا): إبليس الأبالسة. فظنهم الأول والثاني: اعتقادهم (¬3) الفاسد، وظنهم الثالث: حقيقة العلم عند إيمانهم. {حَرَسًا} جمع حارس وهو الرقيب بالليل. {قِدَدًا} جمع قدة وهي الرهط والفرقة (¬4). {رَهَقًا} عبءًا وخطأ. {تَحَرَّوْا} طلبوا {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}: الجائرون الذين يأخذون قسط غيرهم. عن أنس بن مالك قال: الجن لا يثابون، ليس لمحسنهم ثواب، ولا لمسيئهم عقاب. وعن ابن عباس مثله، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: لمحسنهم الثواب وعلى مسيئهم العقاب (¬5). {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} على الكفر من معنى قوله {نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178]، وقوله: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ (¬6)} [الزخرف: 33]. فقال القتبي: هي استقامتهم على طريقة الإسلام في معنى قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 66] ¬

_ (¬1) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - "جد ربنا" قال: أمره وقدرته. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3377)، وما ذكره المؤلف هو تفسير مجاهد وعكرمة وقتادة. ذكره البغوي في تفسيره (4/ 401). (¬2) السعادة أو المال أو الجاه، ومنه حديث المغيرة بن شبة - رضي الله عنه - مرفوعًا: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 243)، ومسلم (1/ 343) باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬3) في الأصل: (في اعتقادهم). (¬4) (والفرقة) من "ي" "أ". (¬5) لم نجد من ذكر ذلك عن أي واحد من هؤلاء الثلاثة. (¬6) في "ب": (ومعارج).

الآية، وقيل: هي الطريقة الواحدة من خير أو شر لا يعينها في معنى قوله {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 , 119]. {مَاءً غَدَقًا} كبيرًا واسعًا (¬1)، وهو عبارة عن المال وحسن الحال. {عَذَابًا صَعَدًا} شاقًا أحدُّ من الصعود وهي العقبة. {الْمَسَاجِدَ} بيوت الله، وقيل: أعضاء السجود. و {لِبَدًا} متلبدين، وذلك من اجتماعهم وازدحامهم، حتى غاية للغيبة إن شاء الله. {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} لا يطلع على حقيقة غيبه باليقين أحدًا؛ لأن الكهنة يزيدون وينقصون، وأصحاب الفراسة يخطئون ويصيبون. {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى} إلا أحدًا ارتضاه لرسالته فإنه تعالى يسلكه، {رَصَدًا} من الملائكة يرصدون الشياطين {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} كيلا يلبسوا الأمر عليه، وهذا بعد ما ينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. {لِيَعْلَمَ} الرسول (¬2) أن قد أبلغت الرسل كلهم رسالات الله بإذنه من غير زيادة ولا نقصان، وأن ربهم تعالى قد أحاط بما لديهم {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}. ... ¬

_ (¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 432)، والبغوي في تفسيره (4/ 403)، والقرطبي (19/ 18) إلا أنهم قالوا: كثيرًا، بدل: كبيرًا. (¬2) (الرسول) ليست في الأصل.

سورة المزمل

سُوْرَةُ المُزَّمِّلِ مكية (¬1) (¬2)، وعن ابن عباس وعطاء: إلا (¬3) آية {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} [المزمل: 20] (¬4) والمعدل وقتادة: إلا آيتين {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ...} [المزمل: 10 , 11] الآيتان (¬5)، وهي عشرون آية في عدد أهل مكة والمدني الأول والكوفة والشام (¬6). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس قال: بين أول المزمل وآخرها سنة (¬7) قال في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} كانوا يقومون كنحو قيام شهر رمضان حتى نزل {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} منه. وعن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فرض الله القيام في أول هذه السورة فقام النبي -عليه السلام- (¬8) وأناس من أصحابه سنين حتي انتفخت أقدامهم، فأنزل الله اليسر والتخفيف في هذه السورة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا ¬

_ (¬1) (مكية) من "ي". (¬2) ذكره السيوطي في الدر (15/ 35) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬3) (إلا) ليست في "أ". (¬4) ذكره القرطبي (19/ 31) عن الثعلبي، وابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 387) عن عطاء ومقاتل. (¬5) ذكره النحاس (751) عن ابن عباس. (¬6) انظر: "البيان" (257). (¬7) ابن الجوزي في زاد المسير (8/ 389). (¬8) (السلام) ليست في "ي".

تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬1) فنسخ الله قيام الليل، ثم أحسن عليهم الثناء في قيامهم سنين فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17]، ما ينامون. {الْمُزَّمِّلُ} المتزمل في ثيابه، وكل شيء لف في شيء فقد زمل {نِصْفَهُ} بدل من الليل والأمر بالزيادة والنقصان لنفي الحرج. {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} قال ابن عباس: بيِّنه تبيينًا (¬2)، وعن ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هَذًّا كهذ (¬3) الشعر ولا تنثروه كنثر الدقل (¬4). {قَوْلًا ثَقِيلًا} كلامًا (¬5) راهجًا مخالفًا لشهوات النفس. وعن ابن أبي مليكة قال: سألت ابن عباس وابن الزبير عن {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} فقالا: إذا قمت فهو ناشئة {اللَّيْلِ} (¬6) (¬7) أي الليل أنشأته فهو ناشئة. {سَبْحًا} قال ابن الأعرابي: إصرارًا ومصرفًا للمعاش (¬8). {وَتَبَتَّلْ} انقطع إلى الله -عَزَّوَجَلَّ-. {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي اكتف بي كافيًا لأمرهم {أُولِي النَّعْمَةِ} التنعم. {أَنْكَالًا} جمع نكل بكسر النون وسكون الكاف: وهو قيد الدابة أو حديدة اللجام {ذَا غُصَّةٍ} شحًا (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 58) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد وابن نصر. (¬2) ابن أبي شيبة (8725)، محمد بن نصر المروزي (6، 52)، والبغوي في تفسيره (4/ 407). (¬3) في "أ": (كهذا). (¬4) ابن أبي شيبة (8733، 30156)، والبيهقي في الشعب (2041). (¬5) (كلامًا) ليست في الأصل. (¬6) ما بين [...]، ليست في الأصل. (¬7) ابن جرير (23/ 368)، وابن أبي حاتم (10/ 3380). (¬8) ذكره البغوي في تفسيره (4/ 409) وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سبحًا طويلًا: أي فراغًا لنومك وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، ذكره في زاد المسير (8/ 392). (¬9) الأظهر ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - كما ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 438) قال: "طعامًا ذا غصة" ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج، وعامة المفسرين على هذا التفسير ولم أجد من ذكر ما ذكره المؤلف.

{كَثِيبًا مَهِيلًا} الكثبة الهبوبة من الرمل (¬1). {وَبِيلًا} ثقيلًا، يقال: ماء وبيل وطعام وبيل. عن أبي سعيد الخدري عنه -عليه السلام-: "يقول الله لآدم -عليه السلام- (¬2) يوم القيامة: قم وابعث بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعماية وتسع (¬3) وتسعون، فعند ذلك يشيب الصغير (¬4) " وذكر باقي الحديث. {مُنْفَطِرٌ} لأن السماء تذكر وتؤنث {بِهِ} بأمر الله، أو باليوم الذي يجعل الولدان شيبًا وهو من أمر الله تعالى {وَثُلُثَهُ} واحد من ثلاثة ونصفه جزء من جزءين، وفي الآية دليل على جواز الصلاة بقراءة ما تيسر من القرآن من غير تخصيص فاتحة أو غيرها. وعن ابن مسعود قال: من اقترى منكم بالثلاث الآيات التي في سورة البقرة فقد أكثر وأطاب (¬5). وعن ابن عمر عنه -عليه السلام-: "لا يقبل الله الإيمان والصلاة إلا بالزكاة" (¬6). وعن علقمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من جالب يجلب طعامًا من بلد إلى بلدان المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كان منزلته عند الله منزلة الشهداء" ثم قرأ رسول الله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7). ¬

_ (¬1) قال الكلبي: هو الرمل الذي أخذت منه شيئًا تبعك ما بعده، يقال: أهلت الرمل أهيله هيلًا إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه، ذكره عنه البغوي في تفسيره (4/ 410)، وهو الذي ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بأنه الرمل السائل (4/ 1874). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) (وتسع) ليست في الأصل. (¬4) البخاري (5/ 2392)، ومسلم (1/ 201). (¬5) الطبراني (8672). (¬6) ذكره في كنز العمال (1/ 151، 6/ 129) وعزاه إلى الديلمي، وقال: سنده ضعيف، وانظر جامع العلوم والحكم (1/ 45). (¬7) عزاه السيوطي لابن مردويه (15/ 60) وحققه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (179).

سورة المدثر

سُوْرَةُ المُدَّثِرِ مكية (¬1)، وهي ست وخمسون آية في غير عدد أهل الشام والمدني الأخير (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أبي سلمة قال: سألت جابر: أي القرآن أنزل أولًا؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} قلت: ثم أية آية؟ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} ثم قال: ألا أخبرك بما حدثنا به رسول الله -عليه السلام- (¬3) قال: "كنت في حراء فلما هبطت نوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئًا" إلى أن قال: "فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردًا فأنزل الله (¬4) يا أيها المدثر" (¬5). و (التدثر): استغشاء الدثار، والدثار من الثياب ما فوق الشعار. وسئل ابن عباس عن قوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} قال: لا تلبسها على غَدْرَةٍ ولا فجور (¬6)، وقيل: هو أمر بقطع القلب عن العلائق، وقيل: أمر ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 61) وعزاه لابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (258). (¬3) (السلام) ليست في "ي". (¬4) (الله) من "ب". (¬5) البخاري (4922 - 4924)، ومسلم (161). (¬6) أخرجه ابن جرير (23/ 406) ثم استشهد ابن عباس بقول غيلان بن سلمة الثقفي: وإني بحمد الله لا ثوب فاجرٍ ... لبستُ ولا من غدرةٍ أتَقَنَّعُ

بتنقية النفس، وقيل: أمر بتطهير الكسوة من النجاسات الشرعية، وقيل: أمر بتهذيب الأخلاق. ويجوز أن يكون أمرًا بهذه المعاني كلها تقديره: كل ما يُعبَّر عنه بلفظ الثياب، إذن كل واحدة من هذه العبادات حقيقة في موضعها كالأخ. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [على اجتناب [أعيان النجاسة بحكم الشريعة وعلى اجتناب] (¬1) الأصنام والآثام بحكم الحقيقة. {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} لا تعطِ عطية وهي كثيرة في عينك معجبة إياك (¬2)، وقيل: لا تعط عطية تبتغي عليها كثرة الجزاء. عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬3) {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} نقول: اصبر نفسك في طاعة ربك. {فَإِذَا نُقِرَ} قال أحمد بن فارس: النقر أن تصوب بلسانك حتى تلصقه بحنكك (¬4)، وقال صاحب "الديوان": نقر به إذا صفر و {النَّاقُورِ} الصور ينفخ فيه الملك بأمر الله -عَزَّوَجَلَّ-. وعن عون بن ذكران (¬5): صلَّى بنا زرارة بن أوفى (¬6) صلاة الصبح وقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} فلما بلغ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} خرّ ميتًا. ¬

_ (¬1) ما بين [...] من "أ" "ب". (¬2) من قوله (ولا تعط) إلى هنا من الأصل. (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 412)، والطبراني (12672). (¬4) قاله الراغب. انظر: المفردات في غريب القرآن (1/ 503). (¬5) عون بن ذكران أبو جناب القصاب قال الدارقطني: متروك، وقال العجلي: يخطئ ويخالف. [الثقات للعجلي (8/ 515)، لسان الميزان لابن حجر (4/ 387)، المغني في الضعفاء للذهبي (2/ 495)]. (¬6) زرارة بن أوفى أبو حاجب العامري البصري قاضي البصرة أحد الأعلام المشاهير وقصته هذه ذكرها ابن كثير [البداية والنهاية (9/ 93)]. توفي عن سبعين سنة روى عن أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن سلام وغيرهم من الصحابة وكان من الثقات. [تهذيب التهذيب (3/ 278)، سير أعلام النبلاء (4/ 515)، الجرح والتعديل (3/ 603)، طبقات ابن سعد (7/ 150)].

وعن عكرمة قال: قال الوليد بن المغيرة لقريش: إني قد سمعت الشعر رجزه وهزجه وقريضه ومخمسه، ما سمعت (¬1) شيئًا مثل هذا القرآن وإن له لقرْعًا وإن عليه (¬2) لطلاوة، فقال بعضهم: هو سحر، قال الوليد بن المغيرة: ولكني سأنظر، قال: فنظر وفكرّ، ثم قال: هو سحر، فنزل القرآن (¬3) {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} إلى قوله {سِحْرٌ يُؤْثَرُ}. وعن أبي سعيد في قوله {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} قال: هو صخرة في جهنم إذا وضع أحدهم يده (¬4) عليها مدّة ذابت وإذا رفعها عادت (¬5). {وَحِيدًا} نصب على الحال أي منفردًا (¬6). {مَالًا مَمْدُودًا} ضيعة معروفة بالطائف (¬7). وعن الضحاك أنه أربعة آلاف دينار كانت موضوعة عنده (¬8). {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} سبعة ذكور كانوا حضورًا عنده (¬9). {يُؤْثَرُ} يقص على المتقدمين. ¬

_ (¬1) من قوله (الشعر) إلى هنا ليس في "أ". (¬2) (عليه) من المصادر وليس المخطوطات. (¬3) رواية عكرمة أخرجها الطبري في تفسيره (23/ 429) مطولة، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 328)، وأبو نعيم في الدلائل (1/ 234). (¬4) (يده) من "ب". (¬5) هناد في "الزهد" (281). (¬6) قاله الزجاج في معانيه (5/ 246). (¬7) قاله مقاتل نقله عنه البغوي في تفسيره (4/ 414)، وابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (4/ 362). (¬8) ذكر هذا القول القرطبي في تفسيره (19/ 71) ولم ينسبه إلى الضحاك وإنما نسبه إلى سفيان الثوري وقتادة. وانظر: زاد المسير (4/ 362) حيث نسبه إلى قتادة. (¬9) قاله مقاتل، ذكره البغوي في تفسيره (4/ 414) ثم ذكرهم وهم الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة وهم خالد وهشام وعمارة.

{عَبَسَ وَبَسَرَ} (¬1) أي (¬2) كلح (¬3)، وعن الشعبي قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي -عليه السلام- (¬4): هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأله, فجاء رجل إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا محمَّد غلب أصحابك، قال: "فلم غلبوا؟ " قال: سألهم (¬5) يهود هل يعلم نبيكم خزنة جهنم؟ قال: "فما قالوا؟ " قال: قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا، قال: "أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون قالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، عليَّ يا أعداء الله إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك" فلما جاؤوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: "هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسع" قال لهم النبي -عليه السلام- (¬6): "ما تربة الجنة؟ " فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبره يا أبا القاسم فقال -عليه السلام- (6): "الجنة من الدرمك" (¬7). {وَمَا هِيَ} أي الآيات المنزلة من القرآن. {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} تبين. {الْكُبَرِ} جمع كبرى (¬8). {نَذِيرًا} إنذارًا، ويجوز إطلاق الاسم بمعنى المصدر كقوله: {عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 37] عن المنهال عن علي في قوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} قال: هم الولدان (¬9). ¬

_ (¬1) (عبس وبسر) ليست في الأصل. (¬2) (أي) ليست في "أ". (¬3) قاله البغوي في تفسيره (4/ 416). (¬4) (السلام) ليست في "ي"، وفي "ب": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). ملاحظة: هنا انتهت المخطوطة، "ب". (¬5) في "ي" "أ": (سالم). (¬6) (السلام) ليست في "ي". (¬7) القرطبي (19/ 72). (¬8) قال ابن قتيبة "الكُبَر" جمع كبرى. مثل: الأُوَل والأُولى، والصُّغَرُ والصُّغْرَى، والمعنى إحدى العظائم. [زاد المسير (4/ 365)]. (¬9) عبد الرزاق (2/ 270، 329)، وابن جرير (23/ 450).

وعن ابن عباس في قوله {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} قال: هو ركز الناس، قال سفيان: يعني حسهم وأصواتهم (¬1)، وعن أبي هريرة قال: الأسد (¬2)، وقال ابن عباس: الرماة (¬3). وعن أنس عنه -عليه السلام- (¬4) في قوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} قال: "قال الله تعالى: أنا أهل أن أُتقى فمن اتقى ولم يجعل معي إلهًا فانا أهل أن أغفر له" (¬5). ... ¬

_ (¬1) القرطبي (19/ 80). (¬2) ابن جرير (23/ 459، 460). (¬3) عزاه السيوطي في الدر (15/ 90) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) الترمذي (3328)، وابن ماجه (4299)، والنسائي في الكبرى (11630)، وأحمد (3/ 243) والحديث فيه ضعف.

سورة القيامة

سُوْرَةُ القِيَامَةِ مكية (¬1)، وهي تسع وثلاثون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن موسى ابن يسار: أن النبي -عليه السلام- (¬3) قرأ هاتين الآيتين {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ (¬4) بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: "ليس يوم القيامة أحد يلوم نفسه إن كان محسنًا ألا يكون ازداد وإن كان مسيئًا فهو ألوم" (¬5). {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} عدي بن ربيعة (¬6). {قَادِرِينَ} نصب على الحال (¬7) {نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} نسوي مفاصله عن نظامها الطبيعي، وقيل: يصير الكف مثل خف الإبل. عن ابن عباس {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال: قول الإنسان سوف أتوب (¬8)، فأمام الشيء ما يستقبله. ¬

_ (¬1) عزاه في الدر (15/ 95) لابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (259). (¬3) (السلام) ليست في الأصل، وفي "أ": (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) (ولا أقسم) من "أ" "ي". (¬5) القرطبي (20/ 139). (¬6) ذكره في زاد المسير (8/ 416) عن مقاتل، وانظر القرطبي (19/ 84). (¬7) أي حال من الفاعل [التبيان في إعراب القرآن (2/ 1254)] والفاعل في فعل مضمر تقديره: بلى نجمعها قادرين، وهو قول سيبويه ذكره في الكتاب (1/ 346). (¬8) ابن جرير (23/ 475).

{وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} الخسوف النقصان والخسف التذليل. {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)} حصن ملجأ (¬1)، وعن السدي عن أبي سعيد عن ابن مسعود: لا حصن (¬2)، وعن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: لا نجاة (¬3). {إِلَى رَبِّكَ} إلى حكم ربك. {بَصِيرَةٌ} الهاء للمبالغة مجازه شاهد على نفسه عارف بما فعل وإن جحد وتناكر. {مَعَاذِيرَهُ} جمع معذرة. عن ابن عباس قال: كان النبي -عليه السلام- (¬4) إذا نزل عليه القرآن تعجل ليحفظه فأنزل الله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (¬5) التحريك: ضدّ التسكين، والقرآن مصدر كالقراءة. {بَيَانَهُ} تفسير المجملات. {نَاضِرَةٌ} النضرة البهجة والطراوة، وفي تعدية النظر بـ "إلى" دليل على أن المراد به النظر بالعين. {فَاقِرَةٌ} داهية (¬6) تكسر فاقرة الظهر. {إِذَا بَلَغَتِ} النفس المنزوعة {التَّرَاقِيَ} جمع ترقوة. ¬

_ (¬1) قاله ابن قتيبة نقله عنه ابن الجوزي في زاد المسير (8/ 420) وهو نفس المعنى الذي قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم إنه بمعنى لا نجاة. (¬2) عن ابن مسعود عزاه في الدر (15/ 102) لابن أبي حاتم. (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره. (¬4) (السلام) ليست في "ي". (¬5) البخاري (4/ 1876)، ومسلم (448). (¬6) قاله البغوي في تفسيره (4/ 424) والفراء نقله عنه في اللسان (5/ 62 - فقر).

{وَظَنَّ} تيقن بالموت دون أصحابه على رأسه {الْفِرَاقُ} الموت قال علي: لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الفراق قليل (¬1) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} من الوهي وزوال التماسك والفزع، وقيل: هو انضمام شدة إلى شدة. {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} نزلت الآيات في أبي جهل (¬2). {يَتَمَطَّى} يتمدد على سبيل التبختر أو الكسل. {سُدًى} إهمالًا وتخلية. ... ¬

_ (¬1) ذكره الحاكم في المستدرك (3/ 178)، والبيت لشقران السلامي، وانظر تاريخ دمشق (23/ 126). (¬2) ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 425)، والقرطبى (19/ 103).

سورة الإنسان

سُوْرَةُ الإنْسَانِ مكية (¬1)، وقيل (¬2): مدنية (¬3). وعن الحسن: آية مدنية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ (¬4)} [الإنسان: 8]، وقيل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الإنسان: 23]، إلى آخر السورة مكي (¬5). وعن الكلبي أن قوله {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] مكي في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة (¬6)، وهي إحدى وثلاثون آية بلا خلاف (¬7). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ} بمعنى (¬8) قد. ¬

_ (¬1) (مكية) من "ي" "أ". (¬2) ذكره السيوطي في الدر (15/ 142) عن ابن عباس. (¬3) ذكره السيوطي في الدر (15/ 142) عن ابن الزبير وابن عباس. (¬4) (الطعام) ليست في "أ". (¬5) ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 427). (¬6) ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 427). (¬7) انظر: "البيان" (260). (¬8) ويجوز أن يكون الاستفهام على بابه ويكون بمعنى التقرير أو التوبيخ قاله في التبيان في إعراب القرآن (2/ 1257)، وأما ما ذكره المؤلف إنها بمعنى قد فهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقول الكسائي والفراء والمبرد، ونقله في المفصل عن سيبويه [مغني اللبيب (1/ 460)].

{أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} عن ابن عباس قال: ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان (¬1)، وعنه: ماء الرحم والفرج (¬2). {كَافُورًا} الله أعلم بكافور الجنة ما هو وكيف هو، فأما كافور الدنيا فطيب، هو صمغ شجرة يحرق بالنار، قيل: وهو بارد جامد مجمد، وفي أدنى حرارة من جهة المرارة، وماء الكافور في غاية الحرارة وهو من جملة الطيب أيضًا. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} عنه -عليه السلام- (¬3): "النذر ما ابتغي به وجه الله (¬4) " وعنه -عليه السلام- (3): "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين" (¬5). وعن مجاهد وأبي صالح: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله مع أبي بكر وعمر، قال عمر: يا علي لو نذرت في ابنيك، فنذر علي صوم ثلاثة أيام، فأنزل الله. وقيل: إن عليًا لم يجد بعد صوم ثلاثة أيام إلا ثلاثة أرغفة فجاء مسكين ويتيم وأسير يسألونه فتصدق بها عليهم ولم يفطر، فأنزل الله. وقيل: مرضا فنذر فاطمة وعلي والجارية صوم ثلاثة أيام متتاليات، فاشترى علي ثلاثة أصوع من شعير من يهودي على غزل جزة صوف (¬6) اليهودي، فلما كان وقت الإفطار جاءهم مسكين فأطعموه وباتوا جياعًا لم يفطروا إلا على الماء. وفي اليوم الثاني جاءهم يتيم فأطعموه كذلك. وفي اليوم الثالث جاءهم أسير فأطعموه كذلك، فأنزل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ}. ¬

_ (¬1) عزاه في الدر (15/ 146) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 533). (¬3) (السلام) ليس في "ي". (¬4) أحمد (2/ 211)، والبيهقي (10/ 67)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 210) والحديث حسن. (¬5) النسائي (7/ 28)، وأحمد (4/ 433، 439، 440)، والحديث ضعيف. (¬6) (على غزل جزة صوف) ليست في "أ".

وعن ابن الحنفية قال: كان الأسير يومئذٍ من أهل الشرك (¬1). {قَمْطَرِيرًا} مقبضًا بين عينيه من العبوس. {وَذُلِّلَتْ} سخرت تسخير اللّيل منها، وعن علي - رضي الله عنه - قال: ينطلق بهم حتى يأتوا بابًا من أبواب الجنة، فإذا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيتوجون من أحدهما فتجري نضرة النعيم، ولا يتغير إنسان بعدها أبدًا ولا تشعث أشعارهم بعدها أبدًا، ويشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من أذى، يأتون خزنة الجنة فيقولون: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. ويتلقاهم الولدان حتى يأتي بعضهم أزواج الرجل فيبشرهن ويقول: جاء فلان، باسمه، فيقلن: أنت رأيته؟ فيقول: نعم فيعمها الفرح حتى حين يقوم إلى باب بيتها، فيدخل بيتًا هي أسفله من جندل اللؤلؤ وحيطانه من كل لون، ثم ينظر إلى سقفه، فلولا أنه شيء قدره الله له أن يذهب (¬2) لم يبصره، فإذا هو بـ {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)} [الغاشية: 13 - 15]، متكئين عليها (¬3)، ثم يقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا (¬4)} [الأعراف: 43] (¬5) الآية. ¬

_ (¬1) قال أبو عبد الله الترمذي الحكيم في كتابه "نوادر الأصول" في الأصل الرابع والأربعين: ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... إلى آخر الحديث، ثم قال: هذا حديث مزوق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل ... إلخ. [تخريج الأحاديث والآثار (4/ 134)، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/ 339)، تنزيه الشريعة (1/ 362)]. (¬2) (أن يذهب) من "أ". (¬3) (عليها) من "أ" "ي". (¬4) (وما كنا) من "أ". (¬5) هذا الحديث ذكره ابن كثير وعزاه لابن أبي حاتم وهو عند ابن أبي الدنيا "صفة الجنة"، ورواه كذلك علي بن الجعد في مسنده (2569) وهو غير محفوظ.

وعن ابن عباس في قوله {كَانَتْ قَوَارِيرَا} قال: لو أنك أخذت من فضة الدنيا فصنعتها حتى تكون مثل جناح الذباب ما رأيت الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القوارير (¬1). {قَدَّرُوهَا} أي الخدم قدروا الأواني والكؤوس تقديرًا على مقدار ري المسقي لا نقص ولا عجز، ويحتمل أن أهل الجنة يقدرون القوارير من فضة فيتوهمونها كذلك لصفائها وبياضها توهمًا حقًّا. و (الزنجبيل) في الدنيا يزكى بالعسل كالشقاقل وهو غاية الحرارة والحدة، والله أعلم بزنجبيل الجنة. {سَلْسَبِيلًا} عذبًا سلسالًا. {ثَمَّ} إشارة إلى المكان كهناك. {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} في عرض قريش الأموال والبنات وعقد اللواء على رسول الله على أن يكف عن آلهتهم. {أَسْرَهُمْ} فقدهم وحبسهم والمراد به الخلقة هاهنا. ... ¬

_ (¬1) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 338)، والبيهقي في "البعث" (348).

سورة المرسلات

سُوْرَةُ المُرْسَلَاتِ مكية (¬1)، وعن ابن عباس: الآية نزلت في ثقيف حين قالوا: لا ينحني وهو قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [المرسلات: 48] الآية (¬2)، وهي خمسون آية من غير خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن الأسود عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) في غار فأنزلت عليه {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} فنحن نأخذ من فيه وهي رطبة إذ خرجت حية فقالوا: "اقتلوها" فسبقتنا، فقال: "وقاها الله شركم كما وقاكم الله شرها" (¬5). وسئل عبد الله بن مسعود عن {وَالْمُرْسَلَاتِ} قال: الريح، {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)} قال: الريح (¬6)، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)} قال [قال: الريح، {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)} قال: الريح، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)} قال: حسبك (¬7)] (¬8) ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 172). (¬2) "زاد المسير" (8/ 443). (¬3) انظر: "البيان" (261). (¬4) (وسلم) ليست في "ي". (¬5) البخاري (1830)، ومسلم (2234). (¬6) من قوله (فالناشرات) إلى هنا ليس في "أ". (¬7) ابن جرير (23/ 580، 581، 583 - 585). (¬8) ما بين [...] من "أ" "ي".

يعني هبوب السهلة، وقيل: الملائكة المرسلة، و (الفارقات): الآيات التي تفرق بين الحق والباطل، و (الملقيات) الملائكة. {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} كالبدل من الذكر (¬1). {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} يعني القيامة. عن أبي هريرة في قوله {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} قال: ظهرها للأحياء وبطنها للأموات (¬2)، وأخذ ابن مسعود قملة في الصلاة فدقها ثم قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} (2) {كِفَاتًا} ذات كفت وهو الجمع والضم. {شَامِخَاتٍ} عاليات. {شُعَبٍ} جمع شعبة. {بِشَرَرٍ} وهو ما ينتفض من النار، واحدتها شررة {كَالْقَصْرِ} شبهه لاشتباكه كاشتباك بروج القصر وشرفه، وقيل: القصر اسم جنس والمراد به القصور المتلاصقة كأنه -أي كأن القصر- من قصور مياه العرب، وشبه القصر أو القصور بالجمالات الصفر لأن تخيل الأبنية في الأقضية كالسائمة للمتأمل من بعيد، لا سيما القيظ عند تلألؤ الرمال وتغير الظلال، وقيل: التشبيهين جميعًا تشبيه دون القصر على سبيل إبدال أحد التشبيهين من الآخر. {فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {يَنْطِقُونَ}، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ} في المنطق والاعتذار. ¬

_ (¬1) أي أنهما بدلان من "ذِكرًا"، ويجوز أن يكونا مفعولين لأجلهما والعامل فيهما إما "الملقيات" وإما "ذكرًا". كما يجوز أن يكونا حالين من "الملقيات" قاله السمين الحلبي في تفسيره "الدر المصون" (10/ 630). (¬2) ابن جرير (23/ 597)، والبيهقي في السنن (2/ 294).

عن إسماعيل بن أمية أن النبي -عليه السلام- (¬1) كان إذا قرأ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (¬2) قال: "آمنت بالله وبما أنزل الله" (¬3) والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) من قوله (في المنطق) إلى هنا ليس في "أ". (¬3) عبد الرزاق في تفسيره (3/ 383)، وفي المصنف (4052)، وأبو داود (887)، والحديث ضعيف.

سورة النبإ

سُوْرَةُ النَّبإِ سورة التساؤل: مكية (¬1)، وهي أربعون آية في عدد أهل مكّة والبصرة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نزلت في قريش، كانوا يتساءلون عن القرآن وما فيه خبر القيامة، أهو شعر أم سحر أم (¬3) كهانة، والقيامة كائنة أم غير كائنة، فكان يقع تساؤلهم في الحقيقة عن شيء واحد، فافتتح الله هذه السورة بالسؤال على سبيل الإنكار والتعجّب، فتقديره: عن ماذا يتساءلون، أعن {النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)}. {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)} علمًا ضروريًا {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)}. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)} وما بين هذين الفصلين كالعارض من الكلام {وَهَّاجًا} متوهّجًا متوقّدًا {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} الرياح (¬4) {مَاءً ثَجَّاجًا} سيّالًا {أَلْفَافًا} ملتفّة. ¬

_ (¬1) نقل السيوطي في الدُّر (15/ 189)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) في البصري (41)، انظر "البيان" (262). (¬3) (أم) ليست في "أ". (¬4) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد. أخرجه الطبراني في تفسيره (23/ 12)، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 3394).

{أَحْقَابًا} عن عليّ أنه سأل الهَجَريِّ -وكان صاحب كتب-: كم يجدون الحقب؟ قال: قال: سبعين (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: الحقب ثمانون سنة السنة ثلاثمائة وستّون يومًا (¬2)، اليوم كألف سنة مما تعدّون (¬3). {بَرْدًا} برد العفو والعافية، وقيل: نومًا (¬4). {كِذَّابًا} لغة يمانية فصيحة مصدر التكذيب. {وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب، وهي الجارية التي نهد ثديها كالرمانة. وعن الكلبيّ عن أبي صالح: أنّ العباس بن عبد المطّلب يقول: كنّا في جاهليّتنا نقول: اسقنا {دِهَاقًا} (¬5)، نقول: متتابعات. وعن ابن عبّاس: مملوءة سائغة (¬6). وعن أبي هريرة: دمادُم (¬7). {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} من دونه ومن غير إذنه {خِطَابًا}. ¬

_ (¬1) هو هلال الهَجَريّ عندما سأله عليّ بن أبي طالب، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 24)، لكن فيه اختلاف في المتن؛ فلفظه عند الطبري قال: نجده ثمانين سنة، وهو كذلك عند هناد في الزهد (220)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 342). (¬2) (وستون يومًا) من "أ" "ي". (¬3) ذكره السيوطي في الدرّ المنثور ونسبه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر (15/ 203). (¬4) قال ابن جرير الطبري في تفسيره (23/ 27): وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم وليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره. ثم ذكر ابن جرير تفسير البرد الذي جرى عليه تفسيره. (¬5) ابن جرير (24/ 39)، والحاكم (2/ 512). (¬6) هناك أكثر من رواية عن ابن عباس بهذا المعنى، انظر: "الدرّ المنثور" (15/ 208 - 209) (¬7) ابن جرير (24/ 40).

{وَقَالَ صَوَابًا} لا إله إلَّا الله محمّد رسول الله (¬1). {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} كل كافر يتمنّى أن يصير {تُرَابًا}، أي هباءً منثورًا مثل سائر الحيوان، وقيل: الكافر إبليس يودّ لو كان ترابًا مخلوقًا من تراب مثل آدم -عليه السلام-. ... ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 51).

سورة النازعات

سُوْرَةُ النَّازِعَاتِ مكّية (¬1)، وهي خمس وأربعون آية في غير عدد أهل الكوفة (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)} هم الملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأشباح (¬3) بإذن الله تعالى مدًّا شديدًا كإغراق النشّاب في القوس وإغراقًا للنفس في ريقها عندما يغرغر الإنسان. {وَالنَّاشِطَاتِ} هم الملائكة (¬4) يعقدون على أطراف من حضره الموت مثل العقد على الذبيحة لئلا يضطرب، يقول: نشطت إذا عقدت وأنشطت إذا حللت، والذين يقشرون الروح قشرًا يقول: نشطت الشيء إذا قشرفه. {وَالسَّابِحَاتِ} هم الملائكة (¬5) كانوا يسبحون في الهواء إلى السماء بروح الميت، والأنفس التي تسبح في الأشباح إلى أن ينزع. ¬

_ (¬1) نقل السيوطي في الدرّ (15/ 218) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) في الكوفي (46)، انظر "البيان" (263). (¬3) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 57)، وأبو الشيخ في العظمة (493)، وحددها ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم كما في تفسيره (10/ 3397)، بأنها أنفس الكفار تُنْزع ثم تنشط ثم تُغرق في النار. (¬4) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 60). (¬5) قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3397).

{فَالسَّابِقَاتِ} هي الأنفس أو الملائكة (¬1). {فَالْمُدَبِّرَاتِ} هي الأنفس المدبرة بعد ما قدر الله عليها والملائكة الذين يدبرون بأمر الله. وقيل: (النازعات) رماة الغزاة نزعوا القسي، فأغرقوا النشاب فيها نشاطهم أو نشاط خيلهم، و (السابحات) هي الخيل التي كأنها تسبح عند الركض {فَالسَّابِقَاتِ} هي جياد الخيل {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} السرايا (¬2)، وجواب القسم مضمر عند القراء: لتبعثن ولتحاسبن (¬3). {لَمَرْدُودُونَ في الْحَافِرَةِ} مبعوثون للحساب، وقيل: جواب القسم {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} تقديره: القلوب أوجفت، ويحتمل أنّ جواب القسم {إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}. {يَوْمَ تَرْجُفُ} تزلزل {الرَّاجِفَةُ} الأرض. {تَتْبَعُهَا} أي تتبع الرجفة والنفخة التي هي سبب الرجفة {الرَّادِفَةُ} النفخة الثانية إن شاء الله، وقيل: هما رجفتان؛ الأولى: لموت الحيوان، والثانية: لتدكدك الجبال وانقلاب الأرض ظهرًا عن بطن. {وَاجِفَةٌ} مضطربة من الهول. {يَقُولُونَ} كلام مبتدأ على سبيل الحكاية على الكفار في الدنيا ¬

_ (¬1) قاله مجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 64)، قال الربيع بن أنس في قوله: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)} قال: هاتان الآيتان للكفار، عند نزع النفس تنشط نشطًا عنيفًا مثل سفود في صوف، فكان خروجه شديدًا. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}، قال: هاتان للمؤمنين. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3397). (¬2) إذا أراد بالسّرايا جموع الملائكة فهو المتعيّن. قال القشيري: أجمعوا على أن المراد بـ {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} الملائكة، وهو قول الجمهور، كما قاله الماوردي. وتدبير الملائكة هو بأمر الله وتوجيهه. [تفسير القرطبي (19/ 194)]. (¬3) قاله الفراء في معانيه (3/ 231).

{لَمَرْدُودُونَ في الْحَافِرَةِ} يعني الرجعة إلى الشباب وعنفوان الأمر (¬1) يقال: رجع الأمر إلى حافرته، وهي حافرته، وقيل: {الْحَافِرَةِ} الحفرة المحفورة وهي القبر (¬2). {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي رجعة ذات خسر. {فَإِنَّمَا هِيَ} يعني الكرة {زَجْرَةٌ} صوتة، والزجر بالسائمة والصيد هو الصوت بهما. {بِالسَّاهِرَةِ} بالأرض (¬3). {هَلْ لَكَ} هل فيك من رغبة وميل {إِلَى أَنْ تَزَكَّى}. {نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أمّا نكاله في الآخرة: فحين يقدم قومه إلى النار. وأما نكاله في الدنيا: فعندما يقذفه البحر إلى فجوة من الأرض سمكها علوّها الداخل في المساحة. {وَأَغْطَشَ} أظلم الله الليل، والأغطش: الذي في عينيه شبه العمش. {دَحَاهَا} بسطها ووسّعها. عن عبد الله بن عمرو قال: أوّل ما صنع الله الكعبة دحى الأرض من تحتها ثم بني السماء بعدها بألف عام، ثم قال الله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} (¬4). وعن ابن عباس: خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء، ودحى الأرض بعد ما خلق السماء (¬5). ¬

_ (¬1) أي مردودون إلى الحياة، كما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 70). (¬2) رُوِيَ ذلك عن مجاهد، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 71). (¬3) قاله ابن عباس -رضي الله عنهما - وعكرمة والحسن وقتادة، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (23/ 75). (¬4) الذي رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو، قال: "خلق الله البيت قبل الأرض بألْفَيْ سنة، ومنه دُحِيَت الأرض ... " أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 93)، وتاريخه (1/ 49)، والبيهقي في الشعب (3983). (¬5) عزاه صاحب الدرّ (15/ 233 - 234) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

{الطَّامَّةُ} الخصلة العالية الغالية القاهرة، يقال: طم الأمر إذا غلب وغلا، وهي من أسماء القيامة. عن عروة بن الزبير، قال: لم يزل النبيّ -عليه السلام- (¬1) يسأل عن الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}، فانتهى ولم يسأل عنها (¬2)، وعن عروة عن عائشة قالت: لم يزل النبيّ -عليه السلام- (1) يسأل عن الساعة حتى نزلت عليه: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}، فانتهى (¬3). ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) البزار (2279 - كشف)، وابن جرير (24/ 99)، والحاكم (2/ 513). (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (23/ 99)، والبزار (2279 - كشف)، وأبو نعيم (7/ 314)، والحاكم (2/ 513)، والخطيب في تاريخه (11/ 321).

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ مكّية (¬1)، وهي اثنتان وأربعون آية في عدد أهل الحجاز والكوفة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: أُنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} في ابن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول الله، فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله من عظماء المشركين، فجعل رسول الله يُعْرض عنه ويُقْبل على الآخرين، ويقول: أترى لما أقول بأسًا، فيقول: لا؛ ففي هذا أُنزل (¬3). وعن عروة بن الزبير قال: جاء ابن أُمّ مكتوم إلى النبيّ وهو أعمى فقال: يا رسول الله علّمني مما علَّمك الله، وجاءه أُميّة بن خلف وابن أُمّ مكتوم يكلّمه، فأقبل رسول الله على أُمية وأعرض عن ابن أُمّ مكتوم وعبس في وجهه، فأنزل: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} يعني: أُمية بن خلف. {أَلَّا يَزَّكَّى} يقول: يهتدي (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر السيوطي في "الدرّ المنثور" (15/ 239) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) هي (40) آية في الشامي، و (41) في عدد أبي جعفر والبصري، كما في "البيان" (264). (¬3) الترمذي (3331)، وابن حبان (535)، والحاكم (2/ 514) والحديث صحيح. (¬4) في الأصل و"ب": (المهتدي)، وليست في "أ".

{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} يعني: الملائكة مقدّرة في الوحي. قال الأمير: التصدّي للشيء: استشرافه والنظر إليه، والتلهّي عن الشيء: التشاغل عنه. قال الكلبي: {أَلَّا يَزَّكَّى} (¬1) الإنسان (¬2). {الْإِنْسَانُ} هاهنا عتبة بن أبي لهب (¬3) {مَا أَكْفَرَهُ} كفر بالنجم إذا هوى. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} سبيل الولادة أو سبيل التنفس أو سبيل الطعام والشراب أو سبيل الخير والشر. {فَأَقْبَرَهُ} أي جعل له قبرًا يُواري مواته. {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)} يجوز أن يتناول لكل إنسان على معنى؛ كقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. {وَقَضْبًا} رطبة (¬4)، وكل يقضب من النبات رطبًا. {غُلْبًا} غلاظًا طوالًا. {وَأَبًّا} مرعى (¬5). ¬

_ (¬1) (ألا يزكى) ليست في "أ" "ي". (¬2) في الأصل و"ب": (إنسان). (¬3) رُوِي عن عكرمة في قوله: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)}، قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى، فدعا عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخذه الأسد بطريق الشام. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 246). (¬4) قاله الفراء في معانيه (3/ 238)، والزجاج في معانيه (5/ 286). (¬5) لعلّه قريب من تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما - حيث قال: الأب ما أنبتت الأرض، مما لا يأكل الناس. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 121)، وابن خزيمة (2173)، أي أنه مختصّ بطعام الدوابّ، وهو المرعى.

و {الصَّاخَّةُ} الصيحة التي تصخّ الأسماع وتصمّها، وهي صيحة يوم القيامة. عن ابن عباس عنه -عليه السلام- (¬1): "يُحْشر الناس حفاة عُراة غرلًا"، فقالت امرأة: يبصر ويرى بعضنا عورة بعض؟ قال: "يا فلانة، لكل امرئ منهم يومئذِ شأن يُغْنيه" (¬2). الغبرة: صفة من الغبار. ... ¬

_ (¬1) (السلام) ليست في "ي". (¬2) الطبراني في الأوسط (294)، وهو ضعيف.

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكوِيرِ مكّية (¬1)، وهي ثمان وعشرون آية في عدد المدني الأول (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة رأي عين فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} " (¬3). وعن ابن عباس في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} قال: يكوّر الله الشمس والقمر يوم القيامة ثم يبعث عليها ريح الدبور فتضرمها، فتصير نارًا (¬4)، فذلك قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)}. وفي قوله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} ليحشرنّ كل شيء حتى الذباب، وقال أيضًا: حشرها موتها. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - في قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} قال: ¬

_ (¬1) ذكر السيوطي في "الدرّ المنثور (15/ 257) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) في عدّ أبي جعفر (28) آية، انظر "البيان" (265). (¬3) الترمذي (3333)، وأحمد (2/ 27)، والطبراني كما في "المجمع (7/ 134)، والحاكم (2/ 515) (4/ 576) والحديث صحيح. (¬4) ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3402)، وأبو الشيخ في العظمة (645).

هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنّة، وعنه قال: الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح (¬1). {الْعِشَارُ} جمع عشراء، وهي الناقة التي قَرُب ولادتها. {عُطِّلَتْ} تُرِكت وأُهملت، و {الْوُحُوشُ} جمع وحش وهو ما يُوحش من الصيد {الْمَوْءُودَةُ} المدفونة قبل الموت، قيل: وأد البنات من المكرمات {سُئِلَتْ} كسؤال عيسى -عليه السلام- (¬2). {كُشِطَتْ} نحّيت الجلد عنه. عن عمرو بن شرحبيل (¬3) {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)}: الظباء تكنس بالنهار من الحرّ في الكن يستكن، وقال الفرّاء (¬4) وغيره: وهي النجوم الخمسة في الكناس، وهو بيت الظّباء. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} أقبل، وقيل: أدبر من الأضداد، وعسعست السحابة إذا دنت من الأرض باللّيل. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} انفلق، من قولهم: تنفّست القوس إذا انشقّت. ... ¬

_ (¬1) عبد الرزّاق في تفسيره (2/ 350)، وابن جرير (24/ 142)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير، والحاكم (2/ 515، 516). (¬2) (السلام) ليست في "ي". (¬3) لم نجده عن عمرو بن شرحبيل، لكن ذكر القرطبي في تفسيره قال: الكشط: قلع عن شدّة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش أو غيره، وكشطت البعير كشطًا نزعت جلده. [القرطبي (19/ 235)]. (¬4) ذكره الفراء في معانيه (3/ 242)، والنجوم الخمسة هي: زُحَل والمشتري وعطارد والمرّيخ والزهرة، فهي تخنس في مجراها، وتكنس أي تستتر كما تستتر الظباء في المغار.

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَارِ مكّية (¬1)، وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {بُعْثِرَتْ} بحثرت فتشت وقلبت. وعن ابن عباس في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} تقول: ما علمت من خير أو شرّ، فإن كان شرًّا كان عليه مثل أوزار مَنْ عمل به من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء، وإنْ كان خيرًا له مثل أجر من يعمل به مِنْ غير أن ينتقص من أجورهم شيء (¬3). ... ¬

_ (¬1) نقله السيوطي في الدرّ (15/ 280) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) "البيان" (266). (¬3) بهذا اللفظ لم نجده عن ابن عباس -رضي الله عنهما -، وإنما هو عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - أخرجه ابن المبارك في الزهد (1469)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3408)، والذي ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: تعلم ما قدمت من طاعة الله، وما أخَّرت مما أُمِرت به. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 176).

سورة المطففين

سُورَةُ المُطفِّفِينَ مكّية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: 29] (¬2)، وهي ستّ وثلاثون آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس قال: لمّا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة مهاجرًا إلى المدينة نزل عليه جبريل -عليه السلام- بالمدينة بقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} واقترأها رسول الله عليهم فأحسنوا كيلهم ووزنهم بعد (¬4). قوله: {يَسْتَوْفُونَ} يعني على غيرهم يستوفون الكيل والوزن والاكتيال والاتّزان. {وَإِذَا كَالُوهُمْ} لغيرهم {أَوْ وَزَنُوهُمْ} لغيرهم {يُخْسِرُونَ} يُنقصُون، وضمير الجمع متّصل؛ كقوله: كِلْتك طعامًا ووزنتك مائة، فهو عائد إلى الناس، ولهذا لم يكتب الألف بعد الواو؛ لقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [هود: 19]. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]. ¬

_ (¬1) نقله السيوطي في الدرّ (15/ 288) عن ابن عباس وابن الزبير، ونقل عن ابن عباس أنّها أول ما نزل بالمدينة. (¬2) زاد المسير (9/ 51)، عن ابن عباس وقتادة. (¬3) "البيان" (267). (¬4) النسائي في الكبرى (11654)، وابن ماجه (2223)، وابن جرير (24/ 186)، والطبراني في الكبير (12041)، والبيهقي في الشعب (5286)، والحديث حسن.

يقول الله عزوجل: {أَلَا يَظُنُّ} ألا يعلم {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} وهو يوم القيامة فيُسألون عن كيلهم ووزنهم. وعن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو القيامة للحساب فيقومون بين يدي رب العالمين مقدار ثلاثماية سنة، ويهون على المؤمنين كقدر انصرافهم من الصّلاة (¬1). وعن أُبيّ بن كعب: يقومون ثلاثمائة عام لا يُؤذن لهم فيقعدوا فيهوّن عليهم كما يهوّن عليهم المكتوبة (¬2). وعن سلمان قال: الصّلاة مكيال، فمن أوفى [أوفى] (¬3) الله له، وقد سمعتم ما قال الله في الكيل (¬4) (¬5) {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}. عن ابن عمر عنه -عليه السلام-: "يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذنيه" (¬6). عن أبي هريرة عنه -عليه السلام-: "إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، وإن عاد ازداد حتى يعم في قلبه، فذلك القرآن الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} (¬7). وفحوى قوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أن يكون أهل الجنّة غير محجوبين {كِتَابَ} مكتوب. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (19/ 255). (¬2) ذكره السيوطي في الدرّ (15/ 291)، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر، ولكن عن كعب وليس (أُبيّ بن كعب). (¬3) ما بين [...] من المصادر ليستقيم المعنى. (¬4) في "ي" "ب": (الكتاب). (¬5) ذكره السيوطي في الدرّ (15/ 289)، وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة. (¬6) البخاري (6531)، ومسلم (2862). (¬7) الترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، والنسائي في الكبرى (11658)، وأحمد (2/ 297)، والحديث حسن.

{عِلِّيِّينَ} من العلوّ. عن أسامة بن زيد عن أبيه، قال: السماء السابعة. {سِجِّينٌ} من السجن (¬1)، عن سعيد قال: تحت خد إبليس (¬2). عن مسروق عن عبد الله {رَحِيقٍ} خمر (¬3) {مَخْتُومٍ} ممزوج. {خِتَامُهُ مِسْكٌ} طعمه وريحه. {تَسْنِيمٍ} قال: عينٌ في الجنّة يشربها (¬4) {الْمُقَرَّبُونَ} صرفًا ويمزج لأصحاب اليمين (¬5)، قال الأمير: خاتم الشيء وختامه آخره، أي: آخر طعم الشراب. {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فليتفاضل في الرغبة والإيثار. {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} أي: ما جعل الله الكفار رقباء على المؤمنين. {يَتَغَامَزُونَ} يتلامزون. ... ¬

_ (¬1) ورد ذلك عن مجاهد عند عبد بن حميد، كما في الدرّ (15/ 302). (¬2) ورد ذلك عن كعب الأحبار عند زوائد الحسين المروزي على زهد ابن المبارك (1223). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (23/ 214)، والبيهقي في البعث (357). (¬4) هناد في "الزهد" (64/ 66). (¬5) أخرجه الطبري عن مسروق عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - (23/ 221 - 222).

سورة الانشقاق

سُورَةُ الانْشِقَاقِ مكية (¬1)، وهي خمس وعشرون آية في عدد أهل الحجاز والكوفة (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} بالغمام. {وَأَذِنَتْ} يعني الأرض (¬3)، إذنها سمعها وطاعتها في الانفعال. {مُدَّتْ} سوّيت قاعًا صفصفًا. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أخرجت ما فيها من الكنوز والموتى من بطنها إلى ظهرها, وذلك تخلّيها {وَحُقَّتْ} أي حقّ لها أن تسمع وتطيع. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} كلّ واحد من الناس، وذكر الكلبيّ: أنّه أُبيّ بن خلف, وذكر مقاتل أنه الأسود بن عبد الأسد (¬4)، عن ابن عمر عنه -عليه السلام-: "أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة، فأجلس جالسًا في قبري ثم يُفتح ¬

_ (¬1) نقل السيوطي ذلك في الدرّ (15/ 313)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) انظر "البيان" (268). (¬3) الأظهر أن الضمير يعود إلى السماء {وَأَذِنَتْ} أي: السماء؛ لأن الأرض لم يتقدّم ذكرها بعد، ثم ذكرها بعد ذلك، وإذنها هو سمعها وطاعتها لربّ العالمين، ومنه قوله عليه الصّلاة والسّلام: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنّى بالقرآن"، أخرجه البخاري (5023)، ومسلم (792). (¬4) ذكره القرطبي في تفسيره (19/ 270).

لي باب إلى السماء بحِيال رأسي حتى أنظر إلى عرش ربّي، ثم يفتح لي باب إلى الأرض السفلى حتى أنظر إلى الثور والثرى، ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنّة وإلى منازل أصحابي، وأن الأرض تحرَّكت تحتي، فقلت: مالك أيّتها الأرض؟ قالت: إنّ ربي أمرني أن أُلقي ما في جوفي وأن أتخلّى فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ، وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} (¬1) بطنها {وَتَخَلَّتْ}. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} أي سمعت وأطاعت وحقّ لها أن تستمع. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنا ذلك الإنسان"، قال الأمير: رواته مجهولون. {كَادِحٌ} ساعٍ. {مَسْرُورًا} فَرِحًا. {لَنْ يَحُورَ} يرجع ويهلك. وعن عائشة قالت: مَنْ حُوسب دخل الجنّة، يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)}، ويقول الآخرون -يعني الكفار-: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ (¬2) وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 39] (¬3). وعن القاسم بن محمّد عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نوقش في الحساب لم يغفر له"، قلت: يا رسول الله، فأين قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ قال: "ذلك العرض" (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدرّ المنثور (15/ 316)، وقال: أخرجه أبو القاسم الختلي في "الدِّيباج" عن ابن عمر مرفوعًا. (¬2) (إنس) من "أ". (¬3) الحديث بهذا اللفظ مذكور في طبقات الحنابلة (2/ 137)، والمشهور عن عائشة مرفوعًا كما في صحيح البخاري (4939، 6536)، ومسلم (2876): (من نُوقِش الحساب هلك"، وفي رواية: "عُذّب". (¬4) الحديث بهذا اللفظ: "من نُوقش الحساب لم يُغفر له ... " الحديث، قال في ذخيرة الحفاظ (4/ 2428): فيه عبيد الله بن أبي زياد القداح وهو ضعيف، وروى الحديث ابن عدي في الكامل (4/ 327)، وابن المبارك في الزُّهد (1/ 466).

وعن أنس بن مالك قال: من حوسب عذّب (1). (الشفق) وهو اسم لشعاع الشمس بعد غروبها ومأخوذ من الشفقة، وهي رقّة القلب، والشفق من كل شيء أرذله، ويقال: فلان في شفق من حياة إذا كان في النزع. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} اجتمع ليلة البدر. عن الأسود قال: رأيت عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يسجدان في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} (2)، وعن أبي رافع قال: صلّيت خلف أبي هريرة بالمدينة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، فسجد فيها فلمّا فرغ من صلاته لقيته، فقلت: أتسجد فيها؟ فقال: رأيت رسول الله -عليه السلام- يسجد فيها، فلا أدعُ ذلك (3). {يُوعُونَ} يجمعون في صدورهم ويضمرونه من العداوة والمكر. ... (1) هذه اللفظة مشهورة عن عائشة مرفوعًا كما عند البخاري في صحيحه (1/ 51) وغيره. أمّا ما ذكره المؤلف عن أنس بن مالك فقد رواه الترمذي عن أنس مرفوعًا (5/ 435)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب ونسبه في كنز العمال (14/ 160) إلى الضياء في المختارة، وذكره ابن حجر في الفتح (11/ 402)، والذهبي في السِّيَر (11/ 547)، وابن عدي في الكامل (5/ 182). (2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (9/ 258). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 369)، وانظر كنز العمال (8/ 70).

سورة البروج

سُورةُ البُرُوجِ مكّية (¬1)، وهي اثنتان وعشرون آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} جواب القسم مضمر عند البصريّين، وعند الكوفيّين جوابها {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)} على سبيل التقديم والتأخير، أي قتل هؤلاء {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} كقولك لخصمك: خصمتك والله. عن ابن عباس قال: (المشهود) يوم القيامة (¬3)، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، والشاهد لقوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]. وقيل: (الشاهد) جبريل (¬4)، و (المشهود) محمّد -عليه السلام- (¬5)، لقوله: ¬

_ (¬1) نقل السيوطي ذلك في الدرّ (15/ 327) عن ابن عباس. (¬2) أنظر "البيان" (269). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 266)، والنسائي في الكبرى (1663). (¬4) لم أجد من قال إن الشاهد جبريل، وقد ذكر ابن الجوزي في تفسيره (4/ 423) أربعة وعشرين قولًا في معنى الشاهد ليس فيه واحد منها، وكذا القرطبي وغيره من المفسّرين، فلا أدري من أين اعتقاد المؤلف هذا القول. (¬5) ذكر هذا القول ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 424)، ولم ينسبه لأحد، والمشهور في ذلك أن الشاهد نبيّنا محمّد -عليه السلام-، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 266)، والنسائي في الكبرى (11663).

{دَنَا فَتَدَلَّى} إلى قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 8 - 11]. وقيل: (الشاهد) يوم الجمعة، و (المشهود) يوم عرفة (¬1). {الْأُخْدُودِ} شقٌّ في الأرض، وأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين من الصابئين كانوا على حقيقة دين عيسى -عليه السلام-، كلمت النصارى قيصر الروم حتى كتب إلى صاحب اليمن يأمره بإحراقهم، وهذا فيما رواه أبو جعفر الآملي. وعن ابن عباس قال: إنّ الله خلق لوحًا محفوظًا من درّة بيضاء دفّتاه ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابته نور، عرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كله ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة ويُحيي ويُميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رُوِيَ ذلك عن أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (23/ 264). (¬2) رواه ابن جرير الطبري (24/ 287)، وقد ذكره باسم أبو جعفر الآملي؛ لأن ابن جرير أصله من مدينة آمل.

سورة الطارق

سُوَرةُ الطَّارِقِ مكّية (¬1)، وهي ستّ عشرة آية في عدد المدني (¬2) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} قال: نزلت في أبي طالب، وذلك أنه رأى نجمًا انحطّ من السماء فامتلأ ماء ثم نارًا، ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال رسول الله: "هذا نجم قد رُمِي به، وهو آية من آيات الله تعالى"، فتعجّب أبو طالب ونزل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} (¬3)، و (الطارق): الآتي باللّيل. {دَافِقٍ} مندفع. {الصُّلْبِ} الظهر {وَالتَّرَائِبِ} جمع تريبة وهو عظم الصدر (¬4)، وعن ابن عباس قال: صلب الرجل وترائب المرأة (¬5). ¬

_ (¬1) نقل السيوطي ذلك في الدرّ (15/ 347)، عن ابن عباس. (¬2) و (17) في البقية، انظر "البيان" (270). (¬3) ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي (4/ 472)، والقرطبي (20/ 1). (¬4) أي موضع القلادة من عظام الصدر؛ لأن الولد مخلوق من مائهما، فماء الرجل في صلبه وماء المرأة في ترائبها، وهو معنى قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}، ومنه قول امرئ القيس: مهفهفة بيضاءُ غيرُ مفاضةٍ ... ترائبها مصقولةٌ كالسجنجلِ وهو قول ابن عباس، وهناك أقوال أخرى في "الترائب"، ونقل ابن القيم عن الزجاج وأبي عبيدة نحو ذلك. [تفسير البغوي (4/ 473)، ابن كثير (4/ 499)، تحفة المولود (1/ 277)]. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3415).

{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ} قال ابن عباس: أن يجعل الشيخ شابًّا والشاب شيخًا (¬1). {السَّرَائِرُ} جمع سريرة وهي الضمير. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} بالسحاب والمطر (¬2)، وقيل: هو ردّ الفلك النجوم من بطن الأرض إلى ظهرها. {ذَاتِ الصَّدْعِ} الشقّ بالنبات. {فَصْلٌ} الذي يفصل بين الحقّ والباطل. {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} وهو نقيض الجدّ. {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ} يتآمرون في دار الندوة في شأن رسول الله. {أَمْهِلْهُمْ} بدل من قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}، {رُوَيْدًا} نعت المصدر، أي إمهالًا {رُوَيْدًا} وهو تصغير رُوْد، يقال: ارود بفلان، أي: ارفق، أصله من رادت الريح ترود رودانًا إذا تحركت خفيفة. ... ¬

_ (¬1) نسبه في الدرّ المنثور (15/ 352)، لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 302)، وعبد الرزّاق في تفسيره (2/ 365)، وأبو الشيخ في العظمة (750).

سورة الأعلى

سُورَةُ الأَعْلى مكّية (¬1)، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الأحوى) المدهام على سبيل التقديم والتأخير (¬3)، وقيل: المسود من الاحتراق في حر أو برد، والحوة السوداء، يقال: شعر {أَحْوَى} عن أبي ذرّ عنه -عليه السلام-: "إن الله صرف ما يخرج من آدم مثلًا للدنيا، وإنّ ملحه وقزحه قد علم إلى ما يصير" (¬4). {إِنْ نَفَعَتِ} بمعنى قد (¬5) وظاهرها للشرط. {مَنْ تَزَكَّى} قال أبو العالية: أدنى صدقة الفطر (¬6)، وقال عطاء ابن أبي رباح: آمن (¬7). ¬

_ (¬1) نقل السيوطي في الدر (15/ 357) عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة. (¬2) أنظر: "البيان" (271). (¬3) قاله الطبري في تفسيره (23/ 314)، والفراء في معانيه (3/ 256). (¬4) أحمد (5/ 126)، والطيالسي (548)، وابن المبارك في "الزهد" (546)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (205)، والطبراني في الكبير (530)، وابن حبان (702)، والحديث صحيح. (¬5) ذكره ابن خالويه واستبعده السمين الحلبي، وقال: هو بعيد جدًا [الدرّ المصون (10/ 763)]. (¬6) عزاه السيوطي في الدر (15/ 371) لعبد بن حميد، وهو عند البيهقي في سننه (4/ 159). (¬7) عزاه السيوطي في الدر (15/ 369) لعبد بن حميد.

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} يقتضي افتتاح الصلاة بذكر الله بأي لفظة ذكر، وبأيّ عبارة نطق. وعن أبي ذرّ قال: أتيت النبيّ -عليه السلام- وهو في المسجد فاغتنمت خلوته، فقال: "يا أبا ذرّ للمسجد تحية وتحيته ركعتان"، فلما صلّيت قلت: يا نبيّ الله ما الصلاة؟ قال: "خير موضوع فاستكثر أو استقلّ"، قلت: فأيّ العمل أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله وجهادٌ في سبيله"، قلت: فأيّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: "أحسنهم خلقًا"، قلت: فأيّ المسلمين أسلم؟ قال: "من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه"، قلت: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر السيئات"، قلت: فأيّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"، قلت: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: "جهد من مقلّ يمشي به إلى فقير"، قلت: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: "من عُقر جواده وأُهريق دمه"، قلت: يا نبيّ الله كم كتاب أنزل الله؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب"، قلت: فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "أمثالًا كلها"، قال: "فكان فيها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} إلى آخر السورة، وفيها: أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها ولو كانت من كافر، وفيها: على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يتفكّر في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخّر، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى قدر لا يكون ظاعنًا إلَّا في ثلاث: تزوّد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذّة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلًا على شأنه حافظًا للسانه، ومن حسب الكلام من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه". قلت: يا نبي الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: "كانت عبرًا كلّها، عجبت لمن أيقن بالحساب وهو لا يعمل". قلت: يا رسول الله أوصني، قال: "أُوصيك بتقوى الله، فإنّه رأس

أمرك، وعليك بتلاوة القرآن وذكر الله عزوجل، وعليك بالجهاد فإنّها رهبانية أُمّتي". قلت: زِدْني، قال: "عليك بالصمت إلَّا من خير، فإنّه مطردة الشيطان وعون على أمر دينك". قلت: زدني، قال: "انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك"، قلت: زدني، قال: "أحب المساكين وجالسهم"، قلت: زدني، قال: "صِلْ قرابتك وإن قطعوك، ولا تخف في الله لومة لائم"، قلت: زدني، قال: "ليردك عن الناس ما تعلم من نفسك، ولا تجد عليهم فيما يأتي"، ثم ضرب يديه على صدري فقال: "يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكفّ ولا حسب كحسن الخلق" (¬1)، وبالله التوفيق. ... ¬

_ (¬1) ابن حبان (361)، أبو نعيم في الحلية (1/ 166)، والحديث ضعيف جدًا.

سورة الغاشية

سُورةُ الغَاشِيةِ مكّية (¬1)، وهي ستّ وعشرون آية من غير خلاف (¬2) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْغَاشِيَةِ} من أسماء القيامة (¬3). {وُجُوهٌ} ذوو الوجوه وعملهم {يَوْمَئِذٍ} طوافهم بين الجحيم وبين حميم آن ويكلفهم في الجواز على الصراط أو اقتحام العقبة والعقد بين شعيرتين، ونحو هذا وكل ذلك عذاب، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: {وُجُوهٌ} {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} {يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} وهي وجوه الرهبان والبراهمة ونسّاك الروافض والمعتزلة وسائر المُلحدين. وإنما جاء وصف النار بالحامية لتصوّر وجودها غير حامية؛ كنار إبراهيم -عليه السلام- ونار اليراع ونار الكمينة في الأشجار والأحجار، ويحتمل أن المراد بالحامية التي في غاية الحمى؛ لقوله -عليه السلام-: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنّم، ضربت بالماء مرّتين ولولا ذلك لما انتفع به بنو آدم" (¬4). ¬

_ (¬1) نقل السيوطي في الدر (15/ 380)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) أنظر "البيان" (272). (¬3) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 326). (¬4) بهذا اللفظ رواه أحمد (2/ 244)، وابن حبان (7463)، والحديث صحيح.

{مِنْ ضَرِيعٍ} هو الشبْرِق (¬1) إذا يبس في الدنيا، وهذا طعام قوم مخصوصين من أهل النار سوى الذين طعامهم من غسلين أو طعام أهل النار في زمان مخصوص، أو هو يضم إلى الزقوم والغسلين ليكون الجميع طعامًا واحدًا، ويحتمل أنّ هذه الألفاظ كلّها عبارة عن طعام واحد، والعبارة عنه لتضمنه بشاعة هذه الأشياء كلّها. {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)} لا يفيد السمن والشبع لكونه مخالفًا للطبيعة. {نَاعِمَةٌ} والشيء الناعم هو ذو الرقة والملوسة والنظافة والطراوة في نفسه. {لَاغِيَةً} لغوًا. {وَنَمَارِقُ} جمع نمرقة، وهي الوسادة، قالت هند: نحن بنات طالق ... نمشي على النمارق (¬2) {وَزَرَابِيُّ} طنافس (¬3). {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ} خصّ هذه الأشياء لكونها بمرأى من الأعراب يوم ظعنهم ويوم إقامتهم وفي نهارهم وليلهم، ومصيفهم ومشتاهم، وحالة اجتماعهم وتفرّقهم، وقيل: تخصيص الإبل لتيسر قودها ورعيها وسقيها وشدّ الأحمال، فهي مرة تجر ومرة تمر، لحومها طعام وألبانها شراب، ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ومجاهد وقتادة، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (23/ 332). (¬2) قالته هند بنت عتبة عندما كانوا في معركة أُحد، وتكملة الأبيات: الدرّ في المخانق ... والمسك في المفارق إن تقبلوا نُعانق ... ونفرش النمارق أو تُدْبِروا نُفارق ... فراق غير وامق وانظر: ابن سعد في الطبقات (402)، والحاكم (2/ 256). (¬3) قاله الفراء كما في معانيه (3/ 258)، وزاد: أن لها - أي الطنفسة - خَمْلٌ رقيق.

رعاؤها عناء وأوبارها وطاء وكساء وخباء، وأبوالها لقوم دواء، وأبعارها وقود، وفيها غناء، يغني غناء الحصين باللّيل والسفن في السيل. {سُطِحَتْ} بُسِطت، وعن جابر عنه -عليه السلام- قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلَّا بحقها، وحسابهم على الله"، ثمّ قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى} إلى آخر السورة (¬1). ... ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 17)، ومسلم (1/ 52).

سورة الفجر

سُورةُ الفَجْرِ مكّية (¬1)، وهي اثنتان وثلاثون آية في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْفَجْرِ (1)} اسم جنس في الظاهر، ويجوز أن يكون المراد الفجر الطالع من ليلة القدر أو فجر يوم النحر أو فجر يوم الفطر أو فجر يوم الحشر. {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} الظاهر أنهنّ ليالي الأيام المعلومات (¬3)، ويجوز أن يكون المراد بهنّ ليلة الحائزة، وهي ليلة الفطر، وليلة المزدلفة وهي ليلة النحر وليالي مني وهي ثلاث، وليلة النصف من شعبان وهي ليلة البراءة، وأربع لي الذي العشر الأواخر من شهر رمضان اللواتي إحداهنّ ليلة القدر. {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)} ظاهره أن أحدهما: الله عَزَّ وَجَلَّ وهو الوتر، والثاني: الشفع وهو الخلق، وقيل: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر (¬4). ¬

_ (¬1) السيوطي في الدر (15/ 392)، عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة. (¬2) أنظر: "البيان" (273)، وعند البصري (29) آية، والكوفي (30) آية. (¬3) أي: الليالي العشر من ذي الحجّة، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 345)، والبيهقي في الشعب (3747)، وهو قول عبد الله بن الزبير ومسروق وعكرمة ومجاهد. (¬4) قاله عمران بن حصين - رضي الله عنه - بل رفعه إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الطبري في =

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} أي يسري فيه وهو عام (¬1) إنْ شاء الله، ويحتمل أنه ليلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (¬2). {هَلْ} للتقرير (¬3)، عن ابن عباس في قوله: {لِذِي حِجْرٍ} قال: لذي النُّهَى والعقل (¬4)، وكأنه قيل: هذه الأقسام كفاية لذي العقل بأن يعتمد عليها، جواب القسم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}. {إِرَمَ} بدل من (عاد) (¬5)، {الْعِمَادِ} جمع عمود وهي أجسادهم إن شاء الله. {جَابُوا} قطعوا ونقبوا {الصَّخْرَ} الحجارة. {سَوْطَ عَذَابٍ} نصيب أو نوع منه. (المرصاد) المر. {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ} عن ابن عباس: نزلت الآيات في أُبيّ بن خلف (¬6). {تَحَاضُّونَ} تحثون. {التُّرَاثَ} لما جمعوا، و (الأكل) يحتمل الخبيث والطيّب، و (الجمّ): الكثير. {النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} هي المتحدة بالقرآن. ¬

_ = تفسيره (23/ 354)، والإمام أحمد في مسنده (4/ 438)، والترمذي (3342)، والطبراني (18/ 232)، والحاكم (2/ 522). (¬1) أي: والليل إذا يسري ذاهبًا، وهو قول جمهور المفسّرين، ذكره ابن الجوزي في تفسيره (4/ 439). (¬2) لم نجد مَنْ قال بهذا القول غير المؤلف -فيما نعلم- والأصل العموم، وهو ظاهر الآية. (¬3) أي الاستفهام الذي بمعنى التقرير، قاله القرطبي في تفسيره (20/ 43)، وقيل: "هل" في موضع جواب القسم. (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (23/ 358). (¬5) هذا إذا كانت "إرَم" اسم قبيلة، فهي بدل من عاد. (¬6) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/ 118)، وعزاه لابن السائب.

سورة البلد

سُورَةُ البَلدِ مكّية (¬1)، وهي عشرون آية بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْبَلَدِ} مكّة. وفائدة قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} هي البشارة بأنه سيدخلها حلالًا غير محرم بإذن الله تعالى، وهي منزلة لم ينلها أحد من العالمين، وقيل: معناها وأنت نازل بهذا البلد؛ كقولك: هي حلة بمكان كذا، أي نازلة به، وفائدته هي الزيادة في تشريف المخلوق به، وفي تعظيمه؛ كقولك: تحليلك تجيء الدار وأنت ساكنها لأفعلن كذا، أو بحرمة هذه التربة وأنت واطئها لأفعلنّ كذا. {في كَبَدٍ} مشقة، وعن ابن عباس {في كَبَدٍ} قال: منتصبًا (¬3). وعن عبد الله بن شداد: معتدلًا. والإنسان المذكور في الفصل الأول كلدة بن أسيد، فكان يضع تحت قدميه الأديم العكاظي، ويضمن لمن نزعه من تحت قدميه مالًا بطرًا ورياء الناس، ويزعم أنه لا يقدر على ذلك ¬

_ (¬1) السيوطي في الدر (15/ 432)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) أنظر: "البيان" (274). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (10/ 3433)، قال: منتصب في بطن أُمّه.

أحد، ويزعم أنّه ورث مالًا كثيرًا فأنفقه في عداوة محمَّد -عليه السلام- كان يتحلى بذلك، فكان يكذب فإنه كان فقيرًا قبل ذلك، ثم استفاد المال؛ فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات في تكذيبه وذمّه وتقريعه (¬1). {وَشَفَتَيْنِ} شفتا فم الحيوان تصغيرها شفيهة وجمعها شفاه، كأنّها في الأصل شفهة، ومنها المشافهة بالكلام. {النَّجْدَيْنِ} الطريقين، والنجد ما ارتفع من الأرض، وعن ابن عباس: النجدين الثديين (¬2). وعن عبد الله بن مسعود: الخير والشرّ وهو رواية أبي صالح عن ابن عباس (¬3). {فَلَا اقْتَحَمَ} دعا، وقيل: نفي فعل ماض، معناه: فلم يقتحم. {مَسْغَبَةٍ} مجاعة. {مَقْرَبَةٍ} قرابة. {مَتْرَبَةٍ} خلوّ يده من الخير من قولهم: تربت يداه. ... ¬

_ (¬1) ذكر القرطبي (20/ 56) عن الكلبي أنها نزلت في رجل يسمى أبو الأشدين، وذكر الأثر. وكذا ذكره ابن كثير (4/ 608)، وأبو الأشدين هو كلدة بن أسيد. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 419)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3434)، وعبد الرزّاق في تفسيره (2/ 374). (¬3) أمّا رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - فأخرجها الطبري في تفسيره (23/ 415)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3434). وأمّا رواية ابن عباس - رضي الله عنهما -، فأخرجها الطبري أيضًا في تفسيره (23/ 416)، واللالكائى (957).

سورة الشمس

سُورةُ الشَّمْسِ مكّية (¬1)، وهي ستّ عشرة آية في عدد أهل مكّة، والمدني الأوّل (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الضمير في {وَضُحَاهَا} و {تَلَاهَا} و {يَغْشَاهَا} عائد إلى (الشمس)، أمّا إضافة الضحى إلى الشمس فلا يخفى جوازها، وكذلك تلوّ القمر الشمس. وأمّا تجلّيه النهار {وَاللَّيْلِ}، فمن مجاز الكلام (¬3)، وذلك إذا نويت بالنهار الوقت دون الضياء. قال طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد (¬4) وقيل: يجوز كون النهار ضياء منفردًا يحدثه الله تعالى في الآفاق، لا من ضياء الشمس لتجلّي الشمس، وإنْ كانا متّحدين. وأمّا تغشية الليل ظلمة مفردة يحدثها الله تعالى في العالم ليغشاها، وإن كان الظلّ والظلمة متّحدين. ¬

_ (¬1) السيوطي في الدر (15/ 454) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) أنظر: "البيان" (275). (¬3) في "أ": (الليل)، وهو خطأ. (¬4) البيت لطرفة بن العبد البكري من مُعلّقته. انظر شرح القصائد السبع الطوال لأبي بكر محمّد بن القاسم الأنباري (ص 213).

وقال الفراء: الضمير في {جَلَّاهَا} عائد إلى الظلمة (¬1)، فعلى قياسه الضمير في (يغشاها) عائد إلى الأرض. {وَالسَّمَاءِ} بعده بمعنى المصدر. وقيل: بمعنى {دَسَّاهَا} دسسها، فقلبت إحدى السينات ياء، كما في فقضى وتصدّى، والتدسيس: الإخفاء والتعليل، ذكره أبو عبيد الهروي، وقال أحمد بن فارس (¬2): هو دسايد سواء إذا أغمض وقيل، والمزكّي والمدسي على سبيل التقدير هو الله تعالى، وعلى سبيل مباشرة الفعل هو الإنسان دون النفس. {وَسُقْيَاهَا} للناقة شربها. {فَدَمْدَمَ} العذاب، والدمدمة تكرار الإطباق والتغشية. ... ¬

_ (¬1) ذكره الفراء في معانيه (3/ 266)، ثم قال: جاز الكناية عن الظلمة ولم تُذْكر لأن معناها معروف، ألا ترى أنّك تقول: أصبَحَت باردةٌ، وأمْست باردة، وهبّت شمالًا، فكنى عن مؤنثات لم يجرِ لهنّ ذكر لأنّ معناها معروف. (¬2) انظر: مجمل اللغة (2/ 269)، ومعجم مقاييس اللغة (2/ 277)، كلاهما لابن فارس.

سورة الليل

سُورَةُ اللَيلِ مكّية (¬1)، وهي إحدى وعشرون آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن جابر قال: سأل سراقة بن جعشم رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله أخبرنا عن عمرتنا هذه، ألِعَامِنا هذا أم للأبد؟ قال: "بل للأبد"، قال: أخبرنا عن ديننا هذا، كأنا خلقنا له في أي شيء العمل في شيء قد جرت فيه الأقلام، وثبتت فيه المقادير، [أخبرني شيء نستأنف فيه العمل، قال -عليه السلام-] (¬3)، قال: فَفِيمَ العمل يا رسول الله؟ فقال: "اعملوا، فكل عامل ميسّر لعمله، ومَنْ كان من أهل الجنّة يسّر لعمل أهل الجنّة، ومَنْ كان من أهل النار يسّر لعمل أهل النار"، ثم تلا هذه الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} (¬4). {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} كلام مقتصر على أحد طرفيه يعني الهدى والإضلال، وقيل: {لَلْهُدَى} لمن قدرنا له الهدى وعلى قصد السبيل. ¬

_ (¬1) السيوطي في الدرّ (15/ 464)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) أنظر: "البيان" (276). (¬3) ما بين [...] ليست في الأصل و"ب". (¬4) مسلم (2648).

ذكر الكلبي أبا سفيان في قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}، وأبا بكر الصدّيق في قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ} (¬1) أي ليست لفقير {عِنْدَهُ} يد تجب عليه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 479)، والبزار (2209)، والطبراني في الكبير (237)، وابن عساكر في تاريخه (30/ 70).

سورة الضحى

سُورَةُ الضُّحَى مكّية (¬1)، وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن جندب بن سفيان البجلي قال: كنت مع النبيّ -عليه السلام- في غار (¬3) فدُمِيَت أصبعه فقال: "هل أنت إلا أصبع دُمِيت ... وفي سبيل الده ما لقيت" (¬4) قال: وأبطأ جبريل -عليه السلام- فقال المشركون: قد ودّع، فأنزل الله {وَالضُّحَى (1)} (¬5) {سَجَى} السجوّ الهدوّ. {وَدَّعَكَ} تركك {وَمَا قَلَى} بغض فترضى به وهو الشفيع في أُمّته أجمعين. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} إلى بيت عبد المطلب، ثم إلى بيت أبي طالب. ¬

_ (¬1) السيوطي (15/ 479)، عن ابن عباس. (¬2) "البيان" (277). (¬3) (في غار) من "أ" "ي". (¬4) رواه البخاري (3/ 1031)، ومسلم (3/ 1421) وغيرهما. (¬5) أخرجه مسلم (1797)، وأخرجه أبو عوانة في مسنده (2/ 494)، والطبري في تفسيره (23/ 485).

{وَوَجَدَكَ ضَالًّا} لا على الطبيعة البشرية التي هي طبيعة النّفس الأمارة بالسوء، فهداك بالعقل قبل الوحي بالكتاب بعد الوحي. {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} محتاجًا {فَأَغْنَى} باطنه بالتوفيق للتفويض والرّضا بالقضاء، وأغنى ظاهره بأن حرّم عليه الصدقة وجعل يده العليا، ومده بمال خديجة وأبي بكر (¬1) وخمس المغنم، فكان ينفق ولا يخاف من ذي العرش إقلالًا، وهو يعيش في خاصة نفسه عيشة الفقراء يجوع يومًا وينفق يومًا. {فَلَا تَقْهَرْ} تبخس حقّه واستخدامه واستحقاره. {فَلَا تَنْهَرْ} تزجره، عن عبد الرحمن السلماني عنه -عليه السلام-: "إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردّوا عليه بوقار ولين، ببذل يسير وبردٌّ جميل، فإنه قد يأتيكم مَن ليس بإنس ولا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خولكم الله" (¬2). {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} في معنى قوله: "إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحبّ أن يُرى أثرها عليه" (¬3)، والحديث بالنعمة هو الشكر. ... ¬

_ (¬1) (بكر) ليست في "أ". (¬2) ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 294) عن ابن عمر مرفوعًا. (¬3) أحمد (2/ 403)، والبيهقي (3/ 271)، والطبراني في الكبير (18/ 135)، قال في المجمع (5/ 132): رجال أحمد ثقات.

سورة الشرح

سُورَةُ الشَّرْحِ مكّية (¬1)، وهي ثمان آيات بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبيّ -عليه السلام- قال: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلًا يقول: أحد من ثلالة، فأُتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح الله صدري إلى كذا وكذا". قال قتادة: قلت لأنس: ما يعني؟ قال (¬3): إلى أسفل بطني، قال: "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه ثم حشي إيمانًا وحكمة" (¬4). وفي الحديث قصة {وِزْرَكَ} وزره قبل الوحي أنّه لم يكن يتجنب ما ذبحت على الأنصاب (¬5). وبعد الوحي أنه {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 2،1] ولولا رحمة ربّه لكان يركن إليه شيئًا قليلًا. ¬

_ (¬1) السيوطي (15/ 495) عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة. (¬2) أنظر: "البيان" (278). (¬3) (قال) مكررة في الأصل و"ب". (¬4) مسلم (164)، وابن خزيمة في صحيحه (1/ 153). (¬5) الذي ورد عند البغوي عن الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: (حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية). أما الذي ذكره المؤلف، فلم نجده، ومعناه غير سليم، فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل ما ذبح على النصب قبل بعثته.

{أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أثقل وأوفر من النقض وهو البعير الذي أتعبه السفر ونقض لحمه، قاله ابن عرفة (¬1). {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} يعني في شهادة الإسلام والأذان والإقامة والصلوات في الشرق والغرب والسماء والأرض. وعن ابن عباس: لا يغلب يسرين عسر واحد (¬2)، وعن الحسن: بلغني أنّه لمّا نزل على النبيّ -عليه السلام- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}، قال: "لن يغلب عسرٌ يسرين" (¬3). وعن عمران بن حصين في قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} أي: إذا فرغت من الصلاة وقعدت فانصب في الدعاء (¬4)، قال: النصب التعب والإعياء (¬5). ... ¬

_ (¬1) ذكره الطبري بمعناه دون أن ينسبه لابن عرفة (23/ 493). (¬2) أخرجه الحاكم في المسندرك (2/ 575)، وقال: قد صحت الرواية عن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب: لن يغلب عسر يسرين، وقد رُوِي بإسناد مرسل عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 446) عن عمر موقوفًا. وقال في "تخريج الأحاديث والآثار" (4/ 235): موقوف ابن عباس غريب. وقال ابن حجر في تغليق التعليق: أمّا الموقوف على عمر، فإسناده حسن. وموقوف ابن مسعود إسناده جيد، وأما المرفوع فإسناده ضعيف. وذكر ابن القيم في بدائع الفوائد (2/ 383) أنه مرسل وله طرق تعضده. (¬3) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 380)، وابن جرير (24/ 496)، والحاكم (2/ 528) وسنده ضعيف. (¬4) ابن جرير (24/ 497) عن ابن عباس. (¬5) (والإعياء) من "أ" "ي".

سورة التين

سُورَةُ التِّيْنِ مكّية (¬1)، وعن ابن عباس وقتادة: مدنيّة (¬2)، وهي ثمان آيات بلاخلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس في {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} قال: هو تينكم وزيتونكم هذا، وقال: هما مسجدان بالشام، وروى الفراء عن رجلٍ شامي: التين جبال ما بين حلوان إلى همدان، والزيتون جبال بالشام (¬4). {وَطُورِ سِينِينَ (2)} جبل، وقيل: هو طور سيناء، وقيل: جبل آخر (¬5). {وَهَذَا الْبَلَدِ} مكّة {الْأَمِينِ} يأمن فيه الناس، وعن أنس عنه -عليه السلام-: "يكتب للصغير الحسنات، ولا يكتب عليه السيئات، وتكون حسناته لأبويه، فإذا بلغ كتب عليه السيّئات وكتب له الحسنات، ثم يقول الله ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي (15/ 506)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) ذكر ذلك القرطبي (20/ 102)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (9/ 168). (¬3) انظر: "البيان" (279). (¬4) ذكره الفراء في معانيه (3/ 276). (¬5) وقيل: هو مسجد الطور، وهو مسجد في بلاد الشام. رُوِيَ ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 504)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3447). وكلمة "سينين" معناها -الحسن- في لغة الحبشة. رُوِي ذلك عن عكرمة ومجاهد وقتادة وغيرهم.

لملائكته تحفظًا وتسديدًا وحتفًا، فإذا بلغ أربعين سنة أمنَه من البلايا الثلاث: البرص والجنون والجذام، فإذا بلغ خمسين سنة خفّف الله حسابه ما لم يعمر، فإذا بلغ ستين سنة وكان في علم الله أنّه سعيد رزقه الله الإنابة إليه بما يحب الله، فإذا بلغ سبعين سنة أحبّه الله وحبّبه إلى أهل السماء، وإذا أحبّ عبدًا دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلانًا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إنّ الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع القبول في الأرض فيحبه من سمع به في الأرض، وأن الرجل ليحبه إذا سمع به وما رآه قط، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]، يعني المحبة في الإسلام، فإذا بلغ ثمانين سنة أثبت الله حسناته ومَحَا عنه سيئاته، فإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ما عمل وهو عامله وشفع في أهل بيته، وكان (¬1) اسمه في السماء أسير الله في الأرض إنْ عمل خيرًا كتب له، وإن ضعف عن شيء مُحِيَ عنه، فإذا ذهب عقله وضَعُف عن العمل كتب له صاحب اليمين مثل ما كان يكتب له من صالح عمله، وأمسك عنه صاحب الشمال فلم يكتب عليه سيئة، وهو قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)}، يعني: أرذل العمر، فمن قرأ القرآن لم يرد في أرذل العمر {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70] " (¬2). {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} قبل ذلك {فَلَهُمْ أَجْرٌ} إذا بلغوا ذلك {غَيْرُ مَمْنُونٍ} مما يكتب لهم صاحب اليمين. {فَمَا يُكَذِّبُكَ} فمن الذي يكذّبك على سبيل الإنكار على التكذيب، أو فأي معنى يدلّ على كذبك على سبيل (¬3) نفي الأدلّة، أو فأية حجّة تحملك على الكذب أيُّها الكافر. ¬

_ (¬1) في "أ": (وهو). (¬2) بهذا اللفظ لم نجده وأقرب شيء وجدناه عند أبي يعلى (3678)، وانظر الفردوس بمأثور الخطاب (5/ 537). (¬3) (على سبيل) من "أ" "ي".

كان النبيّ -عليه السلام- إذا قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}، قال: "سبحانك بلى"، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 40] قال: "سبحانك بلى" (¬1). ... ¬

_ (¬1) قال الطبري في تفسيره (24/ 525): وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ ذلك فيما بلغنا، قال: "بلى". ورُوي عن قتادة ورفعه قال: ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال: "بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين". ورُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا: كان يقول: "سبحانك اللهمّ وبلى"، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 526).

سورة العلق

سُورَةُ العَلَقِ مكّية (¬1)، وهي عشرون آية في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أبي جعفر قال: نزل الملك على رسول الله يوم الاثنين بحراء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، ورسول الله يومئذ ابن أربعين سنة، وجبريل كان الذي ينزل عليه بالوحي، قالوا: وكان قبل ذلك يرى ويسمع. وعن عائشة قالت: كان أول ما بدىء بالنبيّ -عليه السلام- (¬3) بالوحي الرُّؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا كان مثل فلق الصبح. قال: فمكث على ذلك ما شاء الله وحبَّب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من الخلوة، وكان يخلو بغار حراء، وكان يتحنّث فيه وهو التعبّد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، وفي رواية أخرى: فجاءه الملك، قال: اقرأ، فقال رسول الله: "فقلت: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطّني حتى (¬4) بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ}. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي (15/ 519)، عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) أنظر: "البيان" (280). (¬3) (السلام) ليست في "أ" "ي". (¬4) في "أ" "ي": (حتى أخذه سنة).

فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: "زمّلوني زمّلوني"، حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال: "يا خديجة ما لي؟ " وأخبرها الخبر وقال: "قد خشيت عليّ". فقالت له خديجة: كلاّ، أبشر فوالله لا يخزيك أبدًا إنّك لتصل الرَّحم وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، وكان امرءًا قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمي، اسمع من ابن أخيك، فقال له: يا ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره النبيّ -عليه السلام-. فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى -عليه السلام-، يا ليتني فيها جذعًا أكون حيًّا حين يخرجك قومك، فقال -عليه السلام-: "أوَ مخرجي هم"؟ قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عُودِي وأُوذي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصرًا مُؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال؛ فكلّما أوفى بذروة لكي يلقي نفسه منها تبدَّى له جبريل -عليه السلام-، فقال: يا محمّد، إنَّك رسول الله حقًّا، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طال ذلك فترة الوحي غدا بمثل ذلك، فإذا أوفى ذروة جبل تبدّى له جبريل -عليه السلام-، فقال له مثل ذلك (¬1). {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)} ذكر الكلبي أن أبا جهل لمّا سمع هذه الآيات أقبل إلى النبيّ -عليه السلام-، فقال: يا محمّد فادع لنا ربك يحوّل هذه الجبال ذهبًا لعلّنا نستغني فنطعن في ديننا ونتّبعك في دينك، فأذن الله لنبيّه أن يأخذ عليهم شرطًا كشرط عيسى -عليه السلام- على أصحاب المائدة، فأمسك رسول الله عن ذلك نظرًا لقوله وشفقته وأبقى عليهم. ¬

_ (¬1) البخاري (6/ 2561)، ومسلم (160).

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف إليه النبيّ -عليه السلام- فزجر، فقال: "والله إنك لتعلم"، فقال: والله إنك لتعلم أنّ ما بها أكثر ناديًا مني؛ فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}. قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية (¬1). {اللَّهَ} سبحانه وتعالى، الذي {كَانَ عَلَى الْهُدَى} النبيّ -عليه السلام-، والذي {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أبو جهل. {لَنَسْفَعًا} لنأخذن {بِالنَّاصِيَةِ} وهو شعر مقدم الرأس. {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} صاحب الناصية. {الزَّبَانِيَةَ} مشتقّ من الزبن، وهو الدفع والصدم، ورجل ذو زبونة، أي مانع جانبه (¬2). عن أبي هريرة: سجدنا مع رسول الله -عليه السلام- في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، وسجد فيهما عمرو بن العاص، فقيل له في ذلك، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيهما (¬3). ... ¬

_ (¬1) الترمذي (3349)، وأحمد (1/ 256، 329)، وابن جرير (24/ 537)، والطبراني (11950) والحديث صحيح. (¬2) الزبانية في كلام العرب: الشُّرَط الواحد زِبْنِيَة من الزبن وهو الدفع، قاله الزمخشري. وذهب عيسى بن عمر والأخفش: أنّ واحدها زابن. والحاصل أن هذه المادة تدلّ على الدفع، ومنه قول الشاعر: مطاعيمُ في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غُلْبٌ عظامٌ حُلُومُها [الكشاف (4/ 272)، معاني القرآن للأخفش (2/ 541)]. (¬3) أخرجه مسلم (578) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - دون الزيادة في قوله: وسجد فيها عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. وذكره البيهقي في سننه (1/ 503)، وقال: إنما أسلم أبو هريرة بعدما تحوّل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بزمان ... والحديث رواه أيضًا أبو داود في سننه (2/ 59)، والترمذي (2/ 462)، وابن ماجه (1/ 336)، وأبو عوانة في المسند (1/ 523)، وأحمد في مسنده (2/ 461).

سورة القدر

سُورَةُ القَدْرِ مكّية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي خمس آيات في غير عدد أهل مكّة والشام (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن أنس قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يخبر بليلة القدر، فرأى رجلين يتلاحيان، قال: "خرجت أخبركم بليلة القدر، فتلاحيتم فرُفِعَت" (¬4)، قال الأمير: يعني رفع حكمها أو تركتها. وعن أُبيّ بن كعب قال: ليلة القدر ليلة سبع وعشرين؛ وذلك أن الشمس تطلع صبيحة ذلك وليس لها شعاع كأنّها ترقرق. {أَنْزَلْنَاهُ} الهاء عائدة إلى القرآن {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} هي اللّيلة التي لها قدر وشرف، أو الليلة التي يلزم فيها التقدير إلى سنة. وعن ابن عباس، قال: العمل في ليلة القدر خيرٌ من العمل في ألف شهر لا يوافق ليلة القدر (¬5). وعن ابن أبي نجيح أنّ النبيّ -عليه السلام- ذكر أن رجلًا من بني إسرائيل ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي (15/ 533). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" (9/ 181)، عن الضحاك ومقاتل. (¬3) أنظر: "البيان" (281). (¬4) الطيالسي (577)، والبيهقي في الشعب (3679)، وسنده صحيح. (¬5) ذكره الفراء عن ابن عباس كما في معانيه (3/ 280)، وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (4/ 472): أن هذا اختيار ابن قتيبة والزجاج، وهو مرويّ عن قتادة.

لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، قال: فتعجب المسلمون من ذلك؛ فأنزل الله (¬1): {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} بإذن ربّهم وفيهم الروح من أمر الله {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، فـ"من" لتبيين الجنس، أي من كل أمر قضي في تلك السنة، وقد قيل غير هذا (¬2). {هِيَ} إشارة إلى ليلة القدر، و {سَلَامٌ} ذات سلامة وأمن وراحة وُيمن وكونها وقت تسليم الملائكة على المؤمنين بإذن الله. ... ¬

_ (¬1) البيهقي في السنن (4/ 306)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 534) (¬2) وقال أبو حاتم: يجوز في "من" أن تكون بمعنى اللام، والتقدير: تتنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل، ويجوز أن تكون "مِنْ" بمعنى الباء، والتقدير: تتنزل بكل أمر، فتكون للتعدية. [البحر (8/ 497)].

سورة البينة

سُورَةُ البّيِّنّةِ سُورَةُ لم يكن مكّية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي ثمان آيات في غير عدد أهل البصرة. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {مُنْفَكِّينَ} متفرّقين، يقولون: لم يكونوا متفرّقين في انتظار نبي آخر الزَّمان أو في مللهم، فإن أهل مكّة كانوا ملازمين طريقة واحدة وجدوا آباءهم عليها حتى أتاهم رسول الله، فمنهم من آمن به ومنهم مَنْ كفر. {رَسُولٌ مِنَ اللهِ} مرتفع على البدل من البيّة أو البيان للبيِّنة (¬3). (الكتب القيّمة) هي سور القرآن {وَمَا تَفَرَّقَ} أي: ما انفكّ بعض اليهود من بعض، وبعض النصارى من بعض، في وصف رسول الله ونعته والإيمان به والشهادة له إلا بعد ظهوره -عليه السلام- ولزوم حجّته إياهم. {دِينُ الْقَيِّمَةِ} دين الأُمّة القائمة المستقيمة على الإسلام، عن أنس قال: قال رجل للنبيّ -عليه السلام-: يا خير البرية، قال: "ذاك إبراهيم" (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 570)، عن عائشة. (¬2) ذكره السيوطي في الدر (15/ 570)، عن ابن عباس. (¬3) عامة النحاة على رفعه بدلًا من "البينة"، إما بدل اشتمال، واما كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرّسول نفسه البيِّنة، أو على حذف مضاف، أي: بيّنة رسولٍ. ويجوز رفعه على خبر ابتداء مضمر، أي: هي رسولٌ [الدرّ المصون (11/ 68)]. (¬4) مسلم (2369)، وأبو يعلى في مسنده (7/ 40)، وأحمد في مسنده (3/ 184).

وعن مجاهد قال: قرأ عمر بن الخطّاب على المنبر: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}، قال: يا أيها الناس أتدرون ما جنّات عدن؟ قصر في الجنّة له عشرة آلاف باب، على كلّ باب خمسة وعشرون ألفًا من الحُور العِين لا يدخله إلّا نبي وهنيئًا يا صاحب القبر - وأشار إلى قبر رسول الله - أو صدّيق وهنيئًا لأبي بكر، أو شهيد، وأنى لعمر الشهادة، وإن الذي أخرجني من منزلي بالخيمة قادر على أن يسوقها إليّ (¬1)، قال يزيد بن هارون: فساقها الله إليه. ... ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (34032)، وذكره في كنز العمال (14/ 273)، وقال: رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم.

سورة الزلزلة

سُورَةُ الزَّلزَلّةِ مدنيّة (¬1)، وقيل: مكّية (¬2)، وهي ثمان آيات في عدد المدني الأوّل وأهل الكوفة (¬3). بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَوْحَى لَهَا} إليها، وعن سعيد بن جبير قال: زلزلت الأرض على عهد عبد الله بن عباس، فقال لها مالك: أما أنها لو تكلّمت لقامت -يعني القيامة- (¬4)، ثم قرأ: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} (¬5). عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله هذه الآية، قال: "أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمَة بما عَمِل على ظهرها، يقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها" (¬6). وعن ابن عباس قال: إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها، فكل شيء أخذت بها، فكل واحد من ذلك مثقال ذرة (¬7). ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس. انظر: الدر (15/ 579)، وزاد المسير (9/ 201). (¬2) ذكرها عن ابن مسعود وجابر وعطاء. انظر: الزاد (9/ 201). (¬3) انظر: "البيان" (283). (¬4) من قوله (عبد الله) إلى هنا ليس في "أ" "ي"، وفي "أ": (عهد رسو الله عبد ثم قرأ). (¬5) ابن جرير (24/ 559، 562). (¬6) الترمذي (2429، 3353)، والنسائي في الكبرى (11693)، وأحمد (2/ 374) والحديث ضعيف. (¬7) ذكره فخر الدين الرازي في التفسير الكبير (32/ 58)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

سورة العاديات

سُورَةُ العَادِيَاتِ مكّية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَالْعَادِيَاتِ} قال: هي الإبل (¬4)، وقال ابن عباس: هي الخيل، فبلغ قول ابن عباس عليًّا فقال: ما كانت لنا خيل يوم، إنما هي الإبل، فقال ابن عباس: إنما كان ذلك في سرية بعثت (¬5). {ضَبْحًا} صوت أنفاسها (¬6)، وقيل: صوت أجوافها (¬7)، وقيل: هو عَدْوها على التقريب. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 597) عن ابن عباس. (¬2) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" (9/ 206) عن ابن مسعود وعطاء وعكرمة وجابر. (¬3) انظر: "البيان" (284). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3457)، والطبري في تفسيره (24/ 574). (¬5) ابن جرير (24/ 573). (¬6) قاله عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 575)، وبه قال الفراء كما في معانيه (3/ 284)، وأسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬7) قاله الزجاج كما في معانيه (5/ 353).

{قَدْحًا} استخرج من المقدح (¬1)، والضمير في {بِهِ} عائد إلى القدح (¬2)، وهو أول فناء العدو. {نَقْعًا} غبارًا. {فَوَسَطْنَ بِهِ} بالمكان {جَمْعًا} مجتمعات، وقيل: {فَوَسَطْنَ} بالصبح أو الإيراء والقدح {جَمْعًا} من جموع الأعداء. {لَكَنُودٌ} كفور (¬3)، والمراد بالخير خير الدنيا {وَحُصِّلَ} الحصول خلوص الشيء للهجوم عليه، كخلوص الذهب من المعدن المحصلة، وبالله التوفيق. ... ¬

_ (¬1) أي أنها الخيل توري النار بحوافرها إذا جرت فأصابت بحوافرها الحجارة، فتنقدح منها النيران، وهذا قول جمهور المفسّرين؛ كما قاله ابن الجوزي في تفسيره (4/ 481). (¬2) الأظهر أن الضمير عائد على "صبحًا"، والتقدير: فأثرن في وقت الصبح غبارًا، وهو الذي رجحه السمين الحلبي في تفسيره؛ لأنه مذكور بالصريح وهو أقرب مذكور. (¬3) قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال مجاهد والحسن البصري والربيع أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (24/ 584 - 585)، وانظر تفسير مجاهد (ص 743)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 287).

سورة القارعة

سُورَةُ القَارِعَةِ مكّية (¬1)، وهي عشر آيات في عدد أهل الحجاز (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْقَارِعَةُ (1)} ما يقرع الناس من هول يوم القيامة. {يَوْمَ} ظرف للقارعة {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الهمج التي تتهافت في النار {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} كالقطن المندوف. {فَأُمُّهُ} قراره {هَاوِيَةٌ} مهواة وتفسيرها في كتاب الله تعالى {نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. ... ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 609) عن ابن عباس. (¬2) انظر: "البيان" (285).

سورة التكاثر

سُورَةُ التَّكَاثُرِ مكّية (¬1)، وهي ثمان آيات بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلْهَاكُمُ} شغلكم، قال الكلبي: تفاخر حيان من بني عبد مناف وبني سهم بكثرة الرجال، فكثرهم عبد مناف، فقال بنو سهم: إنما قللنا البغي، فرجعوا إلى عدّ المقابر؛ فأنزل الله (¬3). {زُرْتُمُ} جددتم العهد بلقاء. {كَلَّا} لوجوب لو مضمر لما ألهاكم التكاثر. {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)} جواب قسم مضمر. والفرق بين علم اليقين و {عَيْنَ الْيَقِينِ} أن علم اليقين يؤثر في القلب لا في النفس (¬4)، و {عَيْنَ الْيَقِينِ} يؤثر فيهما جميعاً على ما سبق في قصة إبراهيم، حيث قال: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وفي قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} [طه: 67]. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 615). (¬2) انظر: "البيان" (286). (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره (20/ 168)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ومقاتل والكلبي، وكذا ذكره ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (4/ 485). (¬4) في "أ": (اليقين).

أبو هريرة عنه -عليه السلام-: "أوّل ما يُسأل عنه يوم القيامة عن النعيم أن يقال: ألم يصح لك جسمك ورواك من الماء البارد" (¬1). ... ¬

_ (¬1) الترمذي (3358)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (31)، وابن جرير (4/ 609)، وابن حبّان (7364)، والحديث صحيح.

سورة العصر

سُورَةُ العَصْرِ مكية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي ثلاث آيات بالإجماع (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذكر الكلبي والفراء والعزيزي (¬4) أن {وَالْعَصْرِ (1)} المحلوف به هو الدهر (¬5)، ويحتمل الصلاة، ويحتمل صلاة العصر، أو وقت صلاة العصر من كل يوم (¬6). {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} لأنه إن زهد في الآخرة ورغب عنها لم يهيج رأسًا برأس لا له ولا عليه. وقيل: (التواصي بالحق) هو طلب العلم. قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله عنه -: قدمت مكّة مع أبي، فرأيت ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 641). (¬2) ذكره القرطبي (20/ 168) عن قتادة. (¬3) انظر: "البيان" (287). (¬4) هو محمَّد بن عزيز السجستانيّ أبو بكر، من تصانيفه: "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن"، توفي سنة 330 هـ. (¬5) أما عن الفراء، فهو في معانيه (3/ 289)، وهو مرويّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 612). (¬6) ذكره ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (4/ 487)، عن مقاتل.

الناس مصطفين على رجلٍ، فقلت: مَنْ هذا؟ فقالوا: عبد الله بن الحارث صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمعته يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تفقّه لله كفاه الله ما أهمّه من أمر دينه ودنياه" (¬1). ... ¬

_ (¬1) ذكر هذه القصة والحديث الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (1/ 269)، وقال: رواه الحاكم في تاريخ نيسابور، وقد وقع لنا هذا الحديث من وجهِ آخر، وهو باطل أيضًا.

سورة الهمزة

سُورَةُ الهُمَزَةِ مكّية (¬1)، وهي تسع آيات بلا خلاف (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} قال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق (¬3)، وعن مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة (¬4). {وَعَدَّدَهُ} يجوز أن يكون من إعداد، ويجوز أن يكون من عدد المعدود (¬5). {الْحُطَمَة} اسم من أسماء جهنّم، فكأنها مشتقّة من الحطم وهو الكسر (¬6)، وراعٍ حطمة وحطم أي عنيف في الرعية. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 645) عن ابن عباس. (¬2) انظر: "البيان" (288). (¬3) وذكره كذلك السديّ عند ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3463). (¬4) ذكره ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (4/ 488) عن ابن جريج ومقاتل. (¬5) عامّة القرَّاء على تثقيل الدال الأولى، وأمّا تخفيف الدال فهي قراءة الحسن والكلبي، وعلى قراءة التخفيف يكون المعنى جمع مالًا وعدَدَ ذلك المال، أي: وجَمَع عدَدَه، أي: أحصاه. والمعنى الثاني: جمَعَ عَدَدَ نفسه من عشيرته وأقاربه. ["الدر المصون" (11/ 406)، القرطبي (20/ 183)]. (¬6) ومنه قول الراجز: إنَّا حطمنا بالقضيب مُصعَبَا ... يَوْمَ كَسَرْنا أنْفَهُ لِيَغْضَبا وسُمّيت النار بالحطمة لأنها تكسر كل ما يُلقى فيها وتُحطّمه وتُهشّمه. ["القرطبي" (20/ 184)].

{فِي عَمَدٍ} سرادق النار {مُمَدَّدَةٍ} مدّها بالسرادق إن شاء الله، ويحتمل أن (العمد) عمود. ***

سورة الفيل

سُورَةُ الفِيْلِ مكّية (¬1)، وهي خمس آيات بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ تَرَ} مكة محروسة ممنوعة منذ نزلتها قريش لم يظفر بها أحد، وقد قصدها تبع في الزمان الأوّل فحذرته اليهود فرجع عن رأيه وكسا البيت الأنطاع وآمن برسول الله -عليه السلام-، ورسول الله في أصلاب الآباء، ولكن الله تعالى جعل بأصحاب الفيل ما صاروا (¬3) إليه عبرة للعالمين، وليكون ذلك من مقدمات إعجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل خمود النيران وسقوط الإيوان، وهذه سنّة الله في أنبيائه؛ لأنّ الله لمّا أراد أن يظهر عيسى -عليه السلام- أظهر آياته في مريم -عليه السلام-. فولد رسول الله سنة الفيل بعد الواقعة بخمسين ليلة، لم يزل قريش وأهل الحجاز قاطبة من يومئذ يؤرّخون كتبهم من عام الفيل حتى كانت سنة الفجار الأوّل، فمنهم من أرّخ كتبهم منها، ومنهم من أرَّخ كتبهم من سنة الفيل، ثم أرخت كتبهم من سنة بناء الكعبة حتى أرّخ المسلمون من سنة الهجرة. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 653) عن ابن عباس. (¬2) انظر: "البيان" (289). (¬3) في "أ": (أصابه).

و (أصحاب الفيل) هم الحبشة الذين كانوا قد ملكوا بلاد اليمن وطردوا منها ذا يزن، و (الفيل) دابّة عظيمة يعتلق بخرطومه وناباه قرناه وتسمّى أُنثاه العيثوم. {فِي تَضْلِيلٍ} ضلال وهو الهلاك. {أَبَابِيلَ} جماعات في تفرقة لا واحد لها، وقيل: واحدها أبيل قياسًا لا سماعًا، وقيل: أبول مثل عجول وعجاجيل، وكانت مع كل طائر ثلاثة أحجار: واحد في منقاره واثنان في رجليه، وهي أمثال الحمّص والعدس، لم يصب شيء منها إلا أهلكته، فتولّوا مدبرين، وفي الحادثة أشعار وأخبار. ***

سورة قريش

سُورَةُ قُرَيْشٍ سوة لإيلاف: مكّية (¬1)، وهي خمس آيات في عدد أهل الحجاز (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللام في {لِإِيلَافِ} لمقدّر، قال الفراء وابن الأنباري: تقديره أعجب (¬3) {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}، وإنما سمّيت قريش لغلبتهم في الحجاز، وقريش حيوان في البحر يغلب سائر الحيوان فيه (¬4)، وقيل: سمّيت لتقرشهم؛ أي تجمّعهم بمكّة (¬5) بعد ما كانوا تفرّقوا. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 670) عن ابن عباس. (¬2) انظر: "البيان" (290). (¬3) أمّا قول الفراء فذكره في معانيه (3/ 293)، وأمّا قول ابن الأنباري فذكره في البيان في إعراب القرآن (ص 455). وذكر ابن الأنباري وجهين آخرين، الأول: أن تكون متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}، أي لأجل هذا. والثاني: أن تكون متعلقة بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}. (¬4) قاله ابن سيده في المحكم (6/ 157)، وأن هذه الدابة التي هي في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها، فجميع الدواب تخافها، ويُنسب هذا القول لابن عباس حكاه عنه ابن الأعرابي في تهذيب اللغة (8/ 321)؛ فقبيلة قريش شبيهة بذلك، ومنه قول الحميري: وقُريشٌ هي التي تسكن البحـ ... ـر بها سُمِّيَتْ قريشٌ قُرَيْشا (¬5) قاله ابن سيده في المحكم (6/ 158)، والأزهري كما في تهذيب اللغة (8/ 321).

{الشِّتَاءِ} أيّام كون الشمس في الدّلو والجدي والحوت، {وَالصَّيْفِ} القيظ، وقيل: الربيع. {مِنْ جُوعٍ} (من) لنقلهم إلى حالة الشبع من حالة الجوع، وقيل: من هاهنا مكان بعد. ***

سورة الماعون

سُورَةُ المَاعُونِ مكّية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2). وقيل: بعضها مكيّ في العاص بن وائل السَّهمي، وبعضها مدني في المنافقين (¬3)، وهي ستّ آيات في عدد أهل الحجاز والشام (¬4). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَاهُون} غافلون، والسهو في الصلاة غير السّهو عن الصلاة {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} قال علي: الزكاة المفروضة (¬5)، ومثله عن ابن عمر (¬6)، وعن ابن عباس: عارية المتاع (¬7). وعن ابن مسعود: الفاس والدلو والقدر (¬8)، ومثله عن سفيان. وعن ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدرّ (15/ 685) عن ابن عباس وابن الزبير. (¬2) ذكر ذلك ابن الجوزي (9/ 243) عن ابن عباس وقتادة. (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي (9/ 243). (¬4) انظر: "البيان" (291). (¬5) أخرجه الطبري (24/ 666)، والبيهقيُّ (4/ 182) عن عليّ - رضي الله عنه -. (¬6) أخرجه الطبري (24/ 668)، والبيهقيُّ (4/ 184) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬7) أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 675)، والطبراني في الكبير (12354)، والحاكم (2/ 536). (¬8) أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 674)، وابن أبي شيبة (2/ 203).

أبي عبيد البغدادي (¬1) {الْمَاعُونَ} في الجاهلية العطاء والمنفعة، وفي الإسلام: الركوة والطاعة، وقيل: {الْمَاعُونَ} الماء (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) أما عن سفيان، فقد رواه الطبري في تفسيره (24/ 675)، وأسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأما عن أبي عبيد، فذكره القرطبي في تفسيره (20/ 214). (¬2) قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء. وأنشدني فيه: يَمُجُّ صبيرهُ الماعونَ صبًّا قال الفراء: ولست أحفظُ أوّله. والصبير: السحاب. ["معاني القرآن" (3/ 295)].

سورة الكوثر

سُورَةُ الكَوْثَرِ مكّية (¬1)، وقيل: مدنيّة (¬2)، وهي ثلاث آيات بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْكَوْثَرَ} قال صاحب من الرجال: الرجل الكثير الخير، ومن الغبار: الكثير. وعن ابن عمر عنه -عليه السلام- قال: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من الذهب يجري على الدرّ والياقوت تزينه أطيب من ريح المسك، وماؤه أشدّ بياضًا من الثلج وأحلى من العسل" (¬4). وعن عائشة قالت: الكوثر نهر في الجنّة على شاطئيه درّ مجوف (¬5). وعن ابن عباس: الكوثر الخير الكثير (¬6). {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} فالظاهر أنّه صلاة العيد ونحر الجزور (¬7)، ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 695) عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة. (¬2) ذكره القرطبي (20/ 200) عن الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. (¬3) انظر: "البيان" (292). (¬4) الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334)، وأحمد (2/ 67)، وابن جرير (24/ 689) والحديث صحيح. (¬5) البخاري (4965). (¬6) البخاري (5/ 2405) موقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬7) رُوِي ذلك عن أبي بن مالك - رضي الله عنه- وعكرمة والربيع وعطاء والحسن وقتادة، رواه عنهم الطبري في تفسيره (24/ 693 - 694).

وعن عائشة قالت: ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- من إهراق الدّم (¬1)، وقال عليّ: الأمر بالنحر أمر بوضع اليمين على الشمال في الصّلاة (¬2). وقال ابن عباس: المراد به الانتصاب بعد الركوع (¬3). والأصل لهذين القولين لأنا (¬4) لم نجد في القرآن أمرًا بالصلاة عطف عليها ركنًا من أركانها أو سنّة من سنتها، ووجدنا المعطوف على الصلاة في أكثر المواضع عبادة مالية، وهي الزكاة؛ فالقياس في الأمر بالنحر كذلك، وهذا قول الضحّاك وعطية. ثم إن ثبت قول عليّ وابن عباس ضممناه إلى ما دلّ عليه الظاهر، ولم نترك الظاهر كضمنا الهدية إلى التحية والخلوة الصحيحة إلى الدخول. {إِنَّ شَانِئَكَ} نزلت في العاص بن وائل (¬5)، وذلك أنّه شمت بموت إبراهيم ابن رسول الله وسمّاه الأبتر، فردّ الوصف عليه. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2/ 352)، وابن ماجه (2/ 272)، والحاكم (4/ 221)، والبغوي في شرح السنّة (1/ 129) عن عائشة - رضي الله عنه - مرفوعًا، والحديث ضعيف. قال البغوي: فيه أبو الحارث ضعّفه أبو حاتم جدًا، والحديث ضعفه العلامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة (2/ 526). (¬2) البخاريُّ في التاريخ (6/ 437)، وابن جرير (24/ 690، 691)، والدارقطني في السنن (6/ 313)، والحاكم (2/ 537). (¬3) البيهقي في السنن (2/ 31). (¬4) في الأصل: (أنا). (¬5) ابن جرير (24/ 697).

سورة الكافرون

سُورَةُ الكَافِرُونَ مكّية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي ستّ آيات بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ التكرار يجوز على ما سبق، ويجوز أن يكون بعضها نفي العزيمة، وبعضها نفي الحال، وبعضها الحكم بالنفي في المستقبل من الزمان. عن فروة بن نوفل عن أبيه أن النبيّ -عليه السلام- قال لنوفل: "اقرا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى خاتمتها، فإنها براءة من الشِّرك" (¬4). وعن عبد الرحمن بن نوفل عن أبيه قال: قلت لرسول لله: إني حديث الشرك، فما يبرئني من الشرك؟ قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، قال: فما أخطاته ليلة، حتى مات (¬5). ... ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 711) عن ابن عباس. (¬2) ذكره السيوطي في الدر (15/ 711) عن ابن الزبير. (¬3) انظر: "البيان" (293). (¬4) رواه ابن حبّان في صحيحه (3/ 70)، والنسائي في الكبرى (6/ 200)، وأبو داود (4/ 313)، والترمذي (5/ 474) وغيرهم، والحديث صحيح. (¬5) سعيد بن منصور في سننه (128 - التفسير)، وهو صحيح.

سورة النصر

سُورَةُ النَّصرِ مكّية (¬1)، وهي ثلاث آيات بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} أخبر رسول الله عن الموت عنه في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} قال: قال النبيّ -عليه السلام-: "نعيت نفسي، فإني مقبوض في تلك السنة" (¬3). وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلّى صلاة إلّا قال: "سبحانك ربّنا بحمدك، اللهم اغفر لي" (¬4). ... ¬

_ (¬1) في جميع المخطوطات (مكّية)، وهو خطأ بيّن، فهي مدنية باتّفاق. (¬2) انظر: "البيان" (294). (¬3) أحمد (1/ 217)، وابن جرير (24/ 9 - 7)، وسنده ضعيف. قال الحافظ ابن كثير "البداية والنهاية" (6/ 624): في لفظه نكارة شديدة. (¬4) البخاري (794) كتاب التفسير، أحمد (6/ 190).

سورة المسد

سُورَةُ المَسَدِ سُورَةُ تبَّت: مكية (¬1)، وهي خمس آيات بلا خلاف (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَطَبِ} الحطب قيل: المراد به هاهنا النميمة (¬3)، وقيل: حملت الشوك ذات يوم وألقته في طريق رسول الله مكايدةً له (¬4). {فِي جِيدِهَا} رقبتها {مَسَدٍ} ممسد وهو المفتول، والمراد بها سلسلة من جهنّم إن شاء الله. عن ابن عباس قال: صعد رسول الله ذات يوم على الصفا فنادى: "يا صباحاه"، فاجتمع إليه قريش، فقال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أرأيتم لو أخبرتكم أن العذاب ممسيكم ومصبحكم، أكنتم تصدّقوني"؟ فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبًّا لك؛ فنزلت (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (15/ 733) عن ابن عباس وعائشة وابن الزبير. (¬2) انظر: "البيان" (295). (¬3) رُوِي ذلك عن عكرمة وقتادة ومجاهد وسفيان، أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (24/ 720 - 721). (¬4) رُوِيَ ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما- والضحاك وابن زيد، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 719 - 720)، والبيهقي في الدلائل (2/ 183). (¬5) البخاري (4801)، ومسلم (208).

وعن ابن عباس: أتاه اثنان من ولد أبي لهب يصلح بينهما فرمى أحدهما الآخر، فقال ابن عباس: أمّا أنا فاشهد أنكما مما كسب (¬1) (¬2). ... ¬

_ (¬1) عبد الرزاق في تفسيره (2/ 460)، وفي المصنف (16631)، والحاكم (2/ 539). (¬2) في "ي": (كتب)، وهو خطأ.

سورة الإخلاص

سُورَةُ الإخْلَاصِ مكية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي أربع آيات في غير عدد أهل مكّة والشام (¬3). بسم الله الرحمن الرحيم عن أُبيّ بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله: انسب لنا ربك؛ فأنزل. {اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} (¬4) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلّا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} لم يكن له شبيه ولا عدل، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وعن أبي العالية عنه -عليه السلام- أنّه ذكر آلهتهم، فقالوا: انسب لنا ربك، فأتاه جبريل -عليه السلام- بهذه السورة (¬5). ¬

_ (¬1) القرطبي (20/ 225)، وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. (¬2) القرطبي (20/ 225) وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسديّ. (¬3) انظر: "البيان" (296). (¬4) الترمذي (3364)، وأحمد (5/ 133)، والبخاري في التاريخ (1/ 245)، وابن جرير (24/ 727)، وابن أبي حاتم (10/ 3474)، والحاكم (2/ 589)، وقال: صحيح الإسناد. (¬5) ابن الضّريس (244)، وابن جرير (24/ 728).

وعن ابن مسعود (¬1) قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"؟ قالوا: ومن يطيق ذلك؟ فأنزل (¬2): " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلث القرآن" (¬3)، وبالله التوفيق. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: (عباس). (¬2) في "أ" "ي": (قال). (¬3) الطبراني في الكبير (17/ 255، 707)، وفي الأوسط (8480)، والبزار (1856)، والحديث صحيح.

سورة الفلق

سُورَةُ الفَلَقِ مكية (¬1)، وقيل: مدنية (¬2)، وهي خمس آيات بلا خلاف (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن عقبة بن عامر الجهني عن النبيّ -عليه السلام-، قال: "قد أنزل الله عليّ آيات لم يُرَ مثلهن {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} إلى آخر السورة، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} إلى آخر السورة" (¬4). وعن أبي نضرة: أنّ رسول الله كان يتعوّذ من أعين النّاس والجنّ حتى نزلت المعوّذتان (¬5)، فنزل ذلك. {الْفَلَقِ} فلق الصبح. روى الكلبي وغيره أن الفلق بيتٌ في النار إذا فُتِح تعوّذ منه أهل النار (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: القرطبي (20/ 232)، وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. (¬2) انظر: القرطبي (20/ 232)، وهو قول ابن عباس وقتادة. (¬3) انظر: "البيان" (297). (¬4) مسلم (814). (¬5) وجدنا قريبًا منه عن أبي سعيد عند الترمذي (2058)، والنسائيُّ في الكبرى (5509)، والحديث صحيح. (¬6) رُوِي ذلك عن كعب القرظي، بلفظ: الفلق: بيت في جهنّم إذا فُتِح صاح جميع أهل النار من شدّة حرِّه، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 742). ورُوِيَ عن أبي هريرة مرفوعًا: "الفلق جُبُّ في جهنم مُغَطَّى"، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 742).

{غَاسِقٍ} غسق الليل، وعن النبيّ -عليه السلام- أنّه أشار إلى القمر، وقال لعائشة: "تعوّذي بالله من هذا، فإنه هو الغاسق إذا وقب" (¬1)، دخل. {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} الساحرات (¬2)، والنفث التفل. {حَاسِدٍ} لبيد بن أعصم اليهودي، وذكر الكلبي وغيره أنّه كان سَحَر سحرًا أثّر في نفس النبيّ -عليه السلام-، فقالوا: بينا رسول الله بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: أيّ شيء به؟ قال: طبّ الرجل، قال: ومَنْ طبّه؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي، قال: فأين جعله؟ قال: في بئرٍ بني أروان تحت مشط ومشاطة. فبعث رسول الله بعض أصحابه (¬3) إلى تلك البئر، فإذا نخلها كأنه رؤوس الشياطين، وإذا ماؤه كأنه نقاعة الحنّاء، وأتوا بالسِّحر إلى رسول الله، فقرا رسول الله المعوّذتين إحدى عشرة آية، فكلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتى انحلّت العقد كلّها، وقام الرّسول - صلى الله عليه وسلم - كأنه أنشط من عقال (¬4). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 748)، وأحمد (6/ 206)، والبغوي في تفسيره (8/ 595)، والنسائي (10138)، وأبو الشيخ في العظمة (681)، عن عائشة مرفوعًا. (¬2) قاله ابن عباس - رضي الله عنه -، أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 750)، وكذا رُوِيَ عن مجاهد وقتادة والحسن عند الطبري أيضًا. (¬3) في "أ": (أصحابي). (¬4) البخاري (3268)، ومسلم (2189).

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ مكّية (¬1)، نزولها مع نزول "الفلق "، وهي ستّ آيات في غير عدد أهل مكّة والشام (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْوَسْوَاسِ} والوسوسة الصوت الخفي، ومنه وسواس الحلي، والمراد به هاهنا الوسواس، وفحوى الخطاب أن المُوَسوسين من الفريقين جميعًا من الجنّ والإنس. عن أبي بكر الأنباري في تفسير قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} جِنّهم وإنسهم (¬3). وقال الفرّاء: قال بعض العرب في كلامه فجاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل لهم: مَنْ أنتم؟ قالوا: أُناس من الجنّ (¬4)، وهذا في ترجمة الثقلين. وروينا عن ابن عباس في أوّل الكتاب أنّ العالمين الجنّ والإنس واستدللنا على صحته بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر (80615) عن ابن عباس. (¬2) انظر: "البيان" (298). (¬3) انظر: البيان في إعراب القرآن لابن الأنباريّ (ص 465). (¬4) ذكره الفراء في معانيه (3/ 302).

وفي التعوّذ معنى الحمد، وهو يدلّ على الربوبية؛ لأن غير المحمود يتعوذ منه ولا يتعوّذ به وغير المتصف بالربوبية يتعوّذ منه ولا يعبد غير الله، ولمّا كانت الكفار يعتقدون في الجنّ أنّها آلهة، يقولون إذا نزلوا منزلًا: نعوذ بربِّ هذا الوادي من شرّ سفهائه، ثبت أن التعوّذ يتضمّن معنى الحمد، ويدلّ على الربوبيّة، وأن العالمين هم الجنّ والإنس، وكأنه (¬1) -عليه السلام- أمر بالحمد لله ربّ العالمين. تمّ الكتاب بعون الله وتوفيقه والصلاة على محمّد نبيّه وصدّيقه [بتاريخ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشر رجب سنة سبع وستّين وتسعماية] (¬2) ¬

_ (¬1) في الأصل: (كأنه). (¬2) ما بين [...] من الأصل، فحسب.

فهرس المصادر والمراجع

5 - فهرس المصادر والمراجع 1 - الآحاد والمثاني؛ ابن أبي عاصم، ت: د. باسم الجوابرة، دار الراية، 1991 م. 2 - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت) 911 هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية - بيروت 1407 هـ. 3 - الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ترتيب الأمير علاء الدين بن بلبان الفارسي (ت 739 هـ)، ت: شعيب الأرنؤوط. 4 - أخبار مكة؛ الفاكهي، ت: د. عبد الملك دهيش، 1414 هـ. 5 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب العظيم، أبو السعود محمد بن محمد العماري (ت 893 هـ). دار الفكر - بيروت. 6 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد بن ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي - بيروت، دمشق. 7 - أسباب النزول، أبو الحسن الواحدي (ت 468 هـ). تعليق: د. مصطفى البغا، دار ابن كثير - بيروت 1408 هـ. 8 - الاستيعاب في بيان الأسباب؛ سليم الهلالي ومحمد موسى آل نصر، ط. دار ابن الجوزي، السعودية - الدمام. 9 - أسد الغابة في معرفة الصحابة؛ لابن الأثير (ت 630 هـ) - دار الشعب - القاهرة. 10 - الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ). دار الكتاب العربي - بيروت. 11 - الأصول في النحو، أبو بكر بن السراج البغدادي (ت 316هـ)، مؤسسة الرسالة - بيروت 1405 هـ. 12 - الأضداد، محمد بن القاسم الأنباري (ت 328 هـ). تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية - بيروت 1407هـ.

13 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمَّد الأمين الشنقيطي (ت 1392هـ). عالم الكتب - بيروت. 14 - إعجاز القرآن، أبو بكر محمَّد بن الطيب الباقلاني (ت 403 هـ). تحقيق: عماد الدين حيدر. مؤسسة الرسالة - بيروت 1406هـ. 15 - إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس (ت 338 هـ). تحقيق: زهير غازي. عالم الكتب - بيروت 1405 هـ. 16 - إعراب القرآن وبيانه؛ محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد للشؤون الجامعية - سوريا. 17 - الأعلام (قاموس تراجم)، خير الدين الزركلي (ت 1396 هـ). دار العلم للملايين - بيروت. 1984 م. 18 - الأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت 2002 م. 19 - الإقناع في القراءات السبع، أحمد بن علي الأنصاري المعروف بابن الباذش (ت 540 هـ). تحقيق: عبد المجيد قطامش. جامعة أم القرى 1403 هـ. 20 - الأم، محمَّد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، دار المعرفة - بيروت. 21 - الأمالي؛ لأبي علي القالي، دار الكتب المصرية- القاهرة 1344هـ. 22 - الأمالي المطلقة؛ ابن حجر، ت: حمدي السلفي، المكتب الإِسلامي، 1995م. 23 - إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي (ت 654 هـ). بتحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر العربي- القاهرة 1406هـ. 24 - الأنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، كمال الدين عبد الرحمن الأنباري (ت 577 هـ). دار الفكر - بيروت. 25 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 792 هـ). دار الكتب العلمية - بيروت. 26 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، جمال الدين ابن هشام الأنصاري (ت 671 هـ) = ضياء السالك (للنجار). 27 - البحر الزخار؛ البزار، ت: د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، 1989 م. 28 - البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (ت 754 هـ). دار الفكر العربي - بيروت 1403 هـ.

29 - البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي (ت 774 هـ). تحقيق: مجموعة من العلماء. دار الكتب العلمية - بيروت 1407 هـ. 30 - البرهان في بيان القرآن، موفق الدين ابن قدامة الحنبلي (ت 620 هـ). تحقيق: د. سعود النفيسان. مكتبة الهدي النبوي - مصر 1409 هـ. 31 - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث؛ الهيثمي، مسعد عبد الحميد السعدني، 1994 م. 32 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ). تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية - بيروت. 33 - البلغة في أصول اللغة، محمَّد صديق حسن القنوجي (ت 1307 هـ). تحقيق؛ نذير مكتبي. دار البشائر الإِسلامية - بيروت 1408 هـ. 34 - البيان في عد آي القرآن؛ أبو عمرو الداني، ت: د. غانم قدوري الحمد، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق - الكويت. 35 - البيان في إعراب غريب القرآن، كمال الدين عبد الرحمن ابن الأنباري (ت 577 هـ). تحقيق: بركات يوسف، ط. دار الأرقم - بيروت. 36 - تأويل مشكل القرآن، عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ). تعليق: أحمد صقر. المكتبة العلمية - المدينة المنورة 1401 هـ. 37 - تأويلات أهل السنة، أبو منصور محمَّد بن محمَّد الماتريدي (ت 333 هـ)، تحقيق: محمَّد مستفيض الرحمن. مطبعة الإرشاد - بغداد 1404 هـ. 38 - تاج العروس من جواهر القاموس، محمَّد مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ). دار إحياء التراث العربي - بيروت. 39 - تاريخ الأمم والملوك، محمَّد بن جرير الطبري (ت310 هـ). تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم. دار سويدان - بيروت 1387هـ. 40 - تاريخ بغداد، الخطيب أحمد بن علي البغدادي (ت 463 هـ). دار الكتاب العربي- بيروت. 41 - تاريخ الثقات؛ ابن حبان. 42 - تاريخ جرجان؛ حمزة بنيوسف السهمي الجرجاني (ت 427هـ)، تحقيق: محمَّد عبد المعيد خان، دار عالم الكتب - بيروت. 43 - التاريخ الكبير؛ إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت.

44 - تاريخ مدينة دمشق؛ ابن عساكر، ت: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي. 45 - التبصرة في القراءات السبع، مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ). تحقيق: محمَّد غوث الندوي. الدار السلفية- الهند 1402 هـ. 46 - التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء العكبري (ت 616 هـ). تحقيق: علي محمَّد البجاوي البابي الحلبي- مصر. 47 - التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم. تحقيق: محمَّد شرف سكَّر. دار إحياء العلوم - بيروت 1409هـ. 48 - التتمة في النحو؛ عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، تحقيق: طارق نجم، المكتبة الفيصلية - مكة المكرمة. 49 - التحرير والتنوير، محمَّد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ). الدار التونسية للنشر - تونس 1984 م. 50 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمَّد بن عبد الرحمن المباركفوري (ت 1353هـ). مكتبة ابن تيمية - القاهرة 1407 هـ. 51 - تخريج أحاديث مشكلة الفقر؛ الألباني. 52 - تخريج الألباني لأحاديث فقه السيرة للغزالي؛ دار الريان، 1987 م. 53 - تذكرة الحفاظ، شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ). تصحيح: عبد الرحمن المعلمي. دار إحياء التراث العربي - بيروت. 54 - تعظيم قدر الصلاة؛ المروزي، ت: د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار. 55 - تغليق التعليق؛ ابن حجر، ت: سعيد عبد الرحمن القزقي، المكتب الإسلامي. 56 - تفسير ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ). تحقيق: أحمد العماري. مكتبة الدار- المدينة ودار طيبة - الرياض. 57 - تفسير سورتي الفاتحة والبقرة؛ أبو المظفر السمعاني (ت 489 هـ)، تحقيق د. عبد القادر منصور، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة. 58 - التفسير الصحيح؛ موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور، د. حكمت بشير ياسين، دار المآثر- المدينة المنورة. 59 - تفسير الطبري؛ ت: د. عبد التركي، دار هجر، 2001 م. 60 - تفسير القرآن؛ عبد الرزاق الصنعاني، مكتبة الرشد.

61 - تفسير القرآن؛ ابن المنذر، ت: د. سعد السعد، دار المآثر. 62 - تفسير القرآن العظيم؛ ابن أبي حاتم، ت: أسعد الطيب، الدار العصرية. 63 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي (ت 774 هـ)، دار الدعوة - استانبول 1408 هـ. 64 - تفسير القرآن الكريم: الفاتحة والبقرة؛ محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، دار ابن الجوزي - الدمام. 65 - التفسير الكبير/ المعروف بـ "مفاتيح الغيب"؛ فخر الدين محمَّد بن عمر الرازي، ط. دار الكتب العلمية - بيروت. 66 - تفسير أبي الليث نصر بن محمَّد السمرفندي، (ت 375 هـ)، تحقيق: عبد الرحيم الزقَّة. الإرشاد - بغداد 1405 هـ. 67 - التفسير والمفسرون، د. محمَّد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة 1396هـ. 68 - تفسير النسفي؛ عبد الله بن أحمد النسفي، ت: مجدي منصور، ط. المكتبة التوفيقية - القاهرة. 69 - تنوير المقباس من تفسيرات ابن عباس، أبو طاهر ابن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 هـ). 70 - تهذيب اللغة، أبو منصور محمَّد بن أحمد الأزهري (ت 370 هـ). تحقيق: عبد السلام هارون. دار القومية العربية - مصر 1384هـ، وط. الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة، ت: عبد العظيم محمود ومحمد النجار. 71 - التوحيد؛ ابن خزيمة، ت: د. عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد. 72 - التوحيد؛ ابن منده، ت: د. علي الفقيهي، مكتبة الرشد. 73 - تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن، الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت 1376 هـ). مركز ابن صالح الثقافي - عنيزة 1407 هـ. 74 - جامع ببان العلم وفضله؛ ابن عبد البر، ت: أبي الأشبال الزهيري. 75 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن؛ محمَّد بن جرير الطبري (ت 310 هـ)، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وجماعة. 76 - الجامع الصحيح؛ البخاري. 77 - الجامع الصحيح، أبو عيسى محمَّد بن عيسى الترمذي (ت 279 هـ). دار إحياء التراث - بيروت. 78 - الجامع لأحكام القرآن، محمَّد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ). دار إحياء التراث العربي - بيروت.

79 - الجدول في إعراب القرآن؛ محمود صافي، دار الرشيد - دمشق 1990 م. 80 - الجهاد؛ ابن أبي عاصم، ت: مساعد بن سليمان الراشد، مكتبة العلوم والحكم. 81 - الجهاد؛ ابن المبارك، مجمع البحوث الإسلامية. 82 - حاشية الجرجاني على الكشاف، الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816 هـ). دار الفكر العربي - بيروت 1397هـ. 83 - حاشية علي الكازروني على تفسير البيضاوي، الخطيب أبو الفضل القرشي المعروف بالكازروني (ت 1102هـ). مؤسسة شعبان - بيروت. 84 - حاشية ابن محيي الدين على تفسير البيضاوي، محيي الدين شيخ زاده (ت 951 ص). المكتبة الإسلامية - (ديار بكر- تركيا). 85 - الحجة للقراء السبعة، أبو علي الفارسي (ت 377 هـ)، تحقيق: مجموعة من العلماء. دار المأمون - بيروت 1404هـ. 86 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ). دار الكتاب العربي - بيروت 1400 هـ. 87 - خزانة الأدب ولب لباب العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (ت 1093 هـ). تحقيق: عبد السلام هارون. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1979 م. 88 - الخصائص، صنعه أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ). تحقيق: محمد علي النجار. دار الكتاب العربي - بيروت. 89 - درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية (ت 728 هـ). تحقيق: د. محمد رشاد سالم. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (ضمن سلسلة: مكتبة ابن تيمية)، 1399 هـ. 90 - الدر المصون في علم الكتاب المكنون، أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي (ت 756 هـ). تحقيق: د. أحمد محمد الخراط. دار القلم- دمشق 1406 هـ. 91 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)، دار الفكر- بيروت 1403 هـ. 92 - الدر المنثور؛ السيوطي، ت: د. عبد الله التركي ود. عبد السيد حسن، دار هجر. 93 - الدعاء؛ الطبراني، ت: د. محمد سعيد البخاري، دار البشائر الإسلامية، 1987 م.

94 - الدعوات الكبير؛ البيهقي، بدر البدر، جمعية إحياء التراث الإِسلامي، 1409 هـ 95 - دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي (ت 1392 هـ) (مطبوع مع الفتاوى). 96 - دقائق التفسير (الجامع لتفسير ابن تيمية)، جمع وتحقيق: د. محمد السيد الجليند. مؤسسة علوم القرآن (دمشق - بيروت) 1404 هـ. 97 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 هـ). تعليق: محمود محمد شاكر. مكتبة الخانجي- القاهرة 1404 هـ. 98 - دلائل النبوة؛ للبيهقي، ت: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية. 99 - دلائل النبوة؛ أبو نعيم، ت: د. محمد رواس قلعجي، دار النفائس. 100 - ديوان حسان بن ثابت بشرح عبد الرحمن البرقوتي، دار الكتاب العربي - بيروت 1410هـ. 101 - ديوان الحماسة؛ أبو تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 231هـ)، تحقيق أحمد حسن، دار الكتب العلمية - بيروت. 102 - ديوان ذي الرمة؛ بتصحيح كارليل هنري هيس - كمبريج 1337 هـ. 103 - ديوان العجاج؛ رواية الأصمعي، تحقيق عزة حسن، دار الشرق - بيروت 1971 م. 104 - ديوان عديّ بن زيد العبادي؛ تحقيق محمد جبار المعيبد وزارة الثقافة - بغداد 1965م. 105 - ديوان علقمة الفحل؛ شرح الأعلم الشنتمري، تحقيق لطفي الصقال، حلب - سوريا 1389 هـ. 106 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار صادر - بيروت 1966م. 107 - ديوان المثقف العبدي؛ تحقيق كامل حسن كامل الصيرفي - القاهرة 1931 م. 108 - ديوان النابغة؛ تحقيق شكري فيصل، دار الفكر - دمشق 1388 هـ. 109 - ديوان الهذليين؛ الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1385 هـ. 110 - ذم الغيبة والنميمة؛ ابن أبي الدنيا، ت: عمرو عبد المنعم سليم، مكتبة ابن تيمية، 1416هـ. 111 - الرسالة القشيرية؛ القشيري. 112 - روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، محمد الآلوسي البغدادي (ت 1270 هـ)، ت: محمد حسين، دار الفكر - بيروت.

113 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لأبي الفضل محمود الآلوسي، دار الفكر - بيروت. 114 - الروض الأنف؛ السهيلي، ت: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، 1967 م 115 - زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (ت) 597 هـ)، المكتب الإِسلامي 1407 هـ، وطبعة دار الكتاب العربي 2001 م، ت: عبد الرزاق المهدي. 116 - الزهد؛ ابن المبارك، حبيب الرحمن الأعظمي. 117 - الزهد؛ الإمام أحمد بن حنبل. 118 - الزهد؛ الإمام وكيع، ت: د. عبد الرحمن الفريوائي. 119 - الزهد الكبير؛ البيهقي، ت: عامر أحمد حيدر، دار الجنان، 1987 م. 120 - سر صناعة الإعراب، عثمان بن جني (ت 392 هـ). تحقيق: د. حسن هنداوي. دار القلم- دمشق 1405هـ. 121 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمَّد ناصر الدين الألباني. المكتب الإِسلامي 1399 هـ، ومكتبة المعارف. 122 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، محمَّد ناصر الدين الألباني. المكتب الإِسلامي 1399 هـ، ومكتبة المعارف. 123 - السنة؛ ابن أبي عاصم، الألباني، المكتب الإِسلامي. 124 - السنة؛ عبد الله ابن الإمام أحمد، ت: د. محمَّد بن سعيد القحطاني. 125 - سنن الترمذي. 126 - سنن الدارقطني؛ عالم الكتب. 127 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255 هـ). تحقيق: عبد الله هاشم يماني. (حديث أكاديمي- باكستان) 1404هـ، دار الفكر. 128 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ). تعليق: عزت الدعاس وعادل السيد. دار الحديث - بيروت (1389هـ). 129 - سنن سعيد بن منصور، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية. 130 - سنن سعيد بن منصور (التفسير)، ت: سعد آل حميد، دار الصميعي. 131 - السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ). مجلس دائرة المعارف العثمانية - الهند 1355 هـ، دار المعرفة.

132 - سنن ابن ماجه، محمَّد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ). تحقيق: محمَّد فؤاد عبد الباقي. المكتبة الإِسلامية. (استانبول- تركيا)، دار إحياء الكتب العربية. 133 - سنن النسائي الكبرى؛ النسائي، دار الكتب العلمية. 134 - سنن النسائي (المجتبى)؛ النسائي، دار المعرفة، 1991 م. 135 - سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ). تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة 1409 هـ. 136 - السيرة النبوية؛ ابن هشام، ت: مصطفى السقا وآخرين، 1955 م. 137 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ). دار الآفاق الجديدة - بيروت. 138 - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، علي بن محمَّد الأشموني. تصحيح مصطفى حسين أحمد. دار الفكر - بيروت. 139 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة؛ اللالكائي، ت: أحمد سعد حمدان. 140 - شرح التسهيل، محمَّد بن عبد الله بن الطائي (ت672 هـ)،. تحقيق: د. عبد الرحمن السيد ود. محمَّد بدوي المختون. دار هجر- مصر 1410 هـ. 141 - شرح التصريح على التوضيح، الشيخ خالد الأزهري (ت 905 هـ). دار الفكر- بيروت. 142 - شرح شواهد المغني؛ للسيوطي، محمَّد محمود الشنقيطي، المطبعة البهية 1322 هـ - القاهرة. 143 - شرح صحيح مسلم، يحيى بن شرف النوويّ (ت676 هـ). دار إحياء التراث - بيروت 1392 هـ. 144 - شرح الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي (ت 792 هـ). خرج أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإِسلامي - (بيروت - دمشق) 1404 هـ. 145 - شرح القصائد العشر لأبي زكريا يحيي بن علي الخطيب التبريزي (ت 502 هـ)، مطبعة السعادة - القاهرة. 146 - شرح الكافية الشافية، محمَّد بن عبد الله بن مالك الطائي (ت 672 هـ). تحقيق: عبد المنعم أحمد هريدي. جامعة أم القرى - مكة. 147 - شرح الكافية في النحو (كافية ابن الحاجب)، رضي الدين الاستراباذي (ت 686 هـ). دار الكتب العلمية - بيروت 1402 هـ.

148 - شرح مشكل الآثار؛ الطحاوي، ت: شعيب الأرنؤوط، 1994 م. 149 - شرح معاني الآثار؛ الطحاوي، ت: محمد زهدي النجار، 1979 م. 150 - شرح المفصل لابن يعيش؛ إدارة المطابع المنيرية - القاهرة. 151 - شعب الإيمان؛ البيهقي، ت: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، 1990 م. 152 - الصبر والثواب عليه؛ ابن أبي الدنيا، ت: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، 1987 م. 153 - الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 هـ). تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. دار العلم للملايين - بيروت 1404 هـ. 154 - صحيح الأدب المفرد؛ الألباني، مكتبة ابن تيمية. 155 - صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ). المكتبة الإسلامية (استانبول - تركيا). 156 - صحيح الترغيب والترهيب؛ الألباني، مكتبة المعارف. 157 - صحيح الجامع الصغير وزيادته؛ الألباني، المكتب الإِسلامي. 158 - صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311 هـ)، تحقيق: محمد الأعظمي. المكتب الإِسلامي 1395 هـ. 159 - صحيح سنن الترمذي؛ الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي. 160 - صحيح سنن أبي داود؛ الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي. 161 - صحيح سنن ابن ماجه؛ الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي. 162 - صحيح مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ). تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. المكتبة الإسلامية (استانبول - تركيا)، دار إحياء التراث العربي. 163 - صحيح سنن النسائيُّ؛ الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي. 164 - الصمت وحفظ اللسان؛ ابن أبي الدنيا، ت: د. محمد عاشور، دار الاعتصام. 165 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة؛ ابن قيم الجوزية، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة - الرياض. 166 - الضعفاء الكبير؛ العقيلي، ت: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العربية. 167 - ضعيف الأدب المفرد؛ الألباني، مكتبة ابن تيمية. 168 - ضعيف الترغيب والترهيب؛ الألباني، مكتبة المعارف. 169 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته؛ الألباني، المكتب الإِسلامي. 170 - ضعيف سنن الترمذي؛ الألباني، المكتب الإِسلامي.

171 - ضعيف سنن أبي داود؛ الألباني، المكتب الإِسلامي. 172 - ضعيف سنن ابن ماجه؛ الألباني، المكتب الإِسلامي. 173 - ضعيف سنن النسائي؛ الألباني، المكتب الإِسلامي. 174 - طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين عبد الوهاب السبكي (ت 177 هـ). تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي. دار إحياء الكتب العربية - مصر. 175 - الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع الهاشمي (ت 230هـ). دار صادر - بيروت. 176 - الطبقات الكبرى- القسم المتمم؛ ت: زياد محمَّد منصور، 1383هـ. 177 - طبقات المفسرين، محمَّد بن علي الداوودي (ت 935 هـ). مراجعة لجنة من العلماء. دار الكتب العلمية - بيروت. 178 - العجاب في بيان الأسباب؛ ابن حجر، ت: عبد الحكيم محمَّد الأنيس، دار ابن الجوزي. 179 - عناية القاضي وكفاية الراضي (حاشية على تفسير البيضاوي)، الشهاب الخفاجي (ت 1069هـ). دار صادر - بيروت. 180 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، أبو الطيب أبادي. تحقيق: عبد الرحمن محمَّد عثمان. مؤسسة قرطبة - مصر 1388هـ. 181 - العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، (ت 175 هـ). تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت 1408هـ. 182 - غريب الحديث، حمد بن محمَّد الخطابي البستي (ت 388 هـ). تحقيق: عبد الحكيم العزباوي. خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النّبي -. نشر: جامعة أم القرى - مكة. 183 - غريب القرآن لابن قتيبة؛ مطبعة العاني - بغداد 1397هـ. 184 - فتح الباري شرح صحيح البخاريُّ، ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ). بعناية محمَّد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب. دار الفكر - بيروت. 185 - فتح القدير، الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ). دار إحياء التراث العربي - بيروت. 186 - الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل (ت 1204 هـ). البابي الحلبي - مصر. 187 - الفروق، أحمد بن إدريس القرافي (ت 384 هـ). عالم الكتب - بيروت.

188 - الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري (ت 395 هـ). تحقيق: حسام الدين القدسي. دار الكتب العلمية - بيروت. 189 - فضائل الصحابة؛ الإمام أحمد بن حنبل، وحي الله بن محمَّد عباس، مؤسسة الرسالة. 190 - فضائل القرآن؛ ابن الضريس، ت: غزوة بدير، دار الفكر، 1408هـ. 191 - فضائل القرآن؛ لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت: وهبي غاوجي، 1991 م. 192 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، محمَّد بن علي الشوكاني (ت1250هـ). تحقيق عبد الرحمن المعلمي. مكتبة السنة المحمدية. 193 - فيض القدير شرح الجامع، عبد الرؤوف المناوي (ت1031 هـ). دار المعرفة - بيروت. 194 - القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 هـ). مؤسسة الرسالة - بيروت 1407هـ. 195 - الكافي الشاف في نخريج الكشاف؛ ابن حجر، طبع مع الكشاف. 196 - الكامل في التاريخ، علي بن محمَّد الجزري، الشهير بابن الأثير (ت 630 هـ). تحقيق عبد الله القاضي. دار الكتب العلمية - بيروت 1407 هـ. 197 - الكامل في ضعفاء الرجال؛ ابن عديّ، دار الفكر، 1984 م. 198 - الكتاب (في النحو)، عمرو بن عثمان بن قنبر (سيبويه) (ت 180هـ). تحقيق: عبد السلام هارون. عالم الكتب - بيروت 1403هـ. 199 - كتاب المقتصد في شرح الإيضاح؛ عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، تحقيق د. كاظم بحر المرجان. 200 - كتاب العين؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال. 201 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ). دار المعرفة - بيروت (وبذيله عدة حواشٍ). 202 - كشف الأستار عن زوائد البزار؛ الهيثمي، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، 1984 م. 203 - كشف الخفا؛ العجلوني، دار الكتب العلمية، 1988 م. 204 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة مكتبة المثنى (بيروت- بغداد). 205 - الكشف عن وجوه القراءات السبع، مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ). تحقيق د. محيي الدين رمضان. مؤسسة الرسالة - بيروت 1401 هـ.

206 - الكشف والبيان، أحمد بن محمد الثعلبي (ت 427هـ). مصور عن ميكروفيلم في قسم المخطوطات في جامعة الإمام محمَّد بن سعود- الرياض. 207 - كنز العمال؛ المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة، 1985 م. 208 - لباب التأويل في معاني التنزيل، محمد بن إبراهيم الخازن (ت 725 هـ). دار المعرفة- بيروت. 209 - لباب النقول في أسباب النزول، جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ). (بهامش تفسير الجلالين) دار الدعوة - تركيا. 210 - لسان العرب، محمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي (ت 711 هـ)، ت: أمين محمد ومحمد العبيدي، ط. دار إحياء التراث الإِسلامي - بيروت. 211 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية (شرح العقيدة السفارينية)، محمد بن أحمد السفاريني (ت 1188 هـ). دار الخافقين- دمشق 1402 هـ. 212 - مجاز القرآن، صنعه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت 210 هـ). تعليق د. محمَّد فؤاد سزكين. مؤسسة الرسالة - بيروت 1401 هـ. 213 - المجروحين؛ ابن حبّان، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي. 214 - مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمَّد الميداني (ت 518 هـ). تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. دار الفكر - بيروت 1393هـ. 215 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ). دار الكتاب العربي - بيروت 1402هـ. 216 - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي (ت 1392هـ)، إدارة المساحة العسكرية - مصر 1404 هـ. 217 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 546هـ). تحقيق: مجموعة من العلماء. الدوحة 1398هـ. 218 - المحكم والمحيط الأعظم؛ أبو الحسن بن سيده، ت: عبد الحميد هنداوي، ط. دار الكتب العلمية - بيروت. 219 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أحمد بن محمود النسفي (ت 701هـ). دار الكتاب العربي - بيروت. 220 - المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله الحاكم (ت 405 هـ). دار الكتاب العربي - بيروت. 221 - مسند إسحاق بن راهويه، ت: د. عبد الغفور البلوشي، مكتبة الإيمان، 1995 م.

222 - مسند الإمام أحمد، (ت 241 هـ)، ت: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، والمكتب الإِسلامي - بيروت 1405هـ. 223 - مسند الحميدي، ت: حبيب الرحمن الأعظمي. 224 - مسند أبي داود الطيالسي؛ ت: د. محمَّد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، 1999م. 225 - مسند الروياني؛ مؤسسة قرطبة، 1416هـ. 226 - مسند الشاشي؛ ت: د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم. 227 - مسند الشاميين؛ الطبراني، ت: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة. 228 - مسند الشهاب؛ القضاعي، ت: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة. 229 - مسند أبو يعلى؛ ت: حسين سليم أسد، دار المأمون. 230 - مشكل إعراب القرآن، مكي بن أبي طالب (ت 437هـ). تحقيق: حاتم صالح الضامن. مؤسسة الرسالة - بيروت 1405هـ. 231 - مصباح الزجاجة؛ البوصيري، ت: موسى محمد علي، د. عزت علي عطية - القاهرة، 1983 م. 232 - المصنف، أبو بكر بن أبي شيبة، تحقيق: عامر العمري الأعظمي، الدار السلفية. 233 - المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ). تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإِسلامي - بيروت 1403 هـ. 234 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية؛ ابن حجر، ت: أيمن على أبو يماني، أشرف صلاح علي، مؤسسة قرطبة، 1997 م. 235 - معالم التنزيل، الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ). دار المعرفة - بيروت. 236 - معاني القرآن، أبو الحسن سعيد بن مسعدة (الأخفش الأوسط ت بعد 207 هـ). تحقيق: د. عبد الأمير محمد الورد. عالم الكتب - بيروت 1405 هـ، وط. دار الكتب العلمية - بيروت، ت: إبراهيم شمس الدين. 237 - معاني القرآن، أبو زكريا يحيي بن زياد الفراء (ت 207هـ). تحقيق: محمَّد علي النجار وأحمد نجاتي، دار السرور - بيروت. 238 - معاني القرآن الكريم، أبو جعفر النحاس (ت 338 هـ). تحقيق: محمَّد علي الصابوني. جامعة أم القرى- مكة 1408هـ.

239 - معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري الزجاج (ت 311 هـ). تحقيق: عبد الجليل شلبي. عالم الكتب - بيروت 1408 هـ. 240 - معجم البدع؛ رائد بن صبري بن أبي علفة، ط. دار العاصمة السعودية - الرياض. 241 - المعجم؛ ابن الأعرابي، ت: عبد المحسن الحسيني، ابن الجوزي، 1997 م. 242 - معجم الأدباء، ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626 هـ). دار إحياء التراث العربي- بيروت. 243 - المعجم الأوسط؛ الطبراني، ت: طارق عوض الله، عبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، 1995 م. 244 - المعجم الصغير؛ الطبراني، ت: عبد الرحمن محمَّد عثمان، المكتبة السلفية. 245 - المعجم الكبير؛ الطبراني، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتبة السلفية. 246 - معجم البلاغة العربية، د. بدوي طبانة. (دار المنارة جدة - دار الرفاعي الرياض) 1408هـ. 247 - معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626هـ). دار صادر - بيروت 1397هـ. 248 - معجم القراءات؛ إعداد د. عبد اللطيف الخطيب، ط. دار سعد الدين - دمشق. 249 - المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 هـ). تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. 250 - معجم المصطلحات النحوية والصرفية، د. محمد سمير اللبدي. مؤسسة الرسالة - بيروت 1405هـ. 251 - المعجم المفصل في علوم البلاغة؛ د. إنعام فَوَّال عكاوي، دار الكتب العلمية - بيروت. 252 - معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس (ت 395 هـ). تحقيق: عبد السلام هارون. دار الفكر العربي - بيروت 1399هـ. 253 - المغني في الفقه، عبد الله بن أحمد بن قدامة (ت 602 هـ). تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. دار هجر- القاهرة 1406هـ. 254 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، جمال الدين بن هشام (ت 761 هـ). تحقيق: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله. دار الفكر العربي - بيروت 1979 هـ.

255 - المفضليات؛ المفضل الضبي، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف - القاهرة. 256 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، شمس الدين محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ). تحقيق: عبد الله محمَّد الصديق وعبد الوهاب عبد اللطيف. مكتبة الختنجي - مصر. 257 - مقدمة المفسرين؛ محيي الدين بن بير علي البركوي (ت 981هـ)، تحقيق د. عبد الرحمن بن صالح الدهش، ضمن سلسلة إصدارات الحكمة رقم (18). 258 - مكارم الأخلاق؛ ابن أبي الدنيا، ت: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن. 259 - مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني (ت 1367 هـ). البابي الحلبي- مصر. 260 - المنتخب من مسند عبد بن حميد؛ ت: مصطفى العدوي، دار الأرقم. 261 - منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (ت 728 هـ). تحقيق: د. محمد رشاد سالم. جامعة الإمام- الرياض 1406هـ. 262 - الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والنحو واللغة؛ وليد بن أحمد الحسين وآخرون، مطبوعات سلسلة إصدارات الحكمة، بريطانيا- مانشستر. 263 - الموضوعات عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ). تحقيق: عبد الرحمن محمَّد عثمان. دار الفكر -بيروت 1403 هـ. 264 - الموطأ؛ الإمام مالك بن أنس، ت: محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. 265 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ). تحقيق: علي محمَّد البجاوي. دار المعرفة - بيروت 1382 هـ. 266 - الناسخ والمنسوخ؛ أبو جعفر النحاس، ت: د. محمد عبد السلام، مكتبة الفلاح - الكويت، 1988 م. 267 - الناسخ والمنسوخ في القرآن؛ لأبي عبيد القاسم بن سلام، مصورة عن مخطوطة، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإِسلامية. 268 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور؛ برهان الدين البقاعي، ط. دار الكتاب الإسلامي - القاهرة. 269 - النكت والعيون، تصنيف أبي الحسن علي بن محمد الماوردي (ت 450 هـ). علق عليه: سيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، ط. مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت.

270 - النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري (ت 606 هـ). تحقيق: الطاهر الزاوي ومحمود محمد الطناحي/ المكتبة الإِسلامية - تركيا، وط. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة. 271 - هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي. منشورات مكتبة المثنى - بيروت، سنة 1955 م. 272 - همع الهوامع شرح جمع الجوامع، جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ). مكتبة الكليات الأزهرية - مصر 1372 هـ. 273 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد، أبو الحسن الواحدي (ت 468 هـ). تحقيق: محمَّد حسن أبو العزم. وزارة الأوقاف المصرية - القاهرة 1406 هـ. 274 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان (ت 681 هـ). د. إحسان عباس. دار الثقافة - بيروت. 275 - الوقف والابتداى؛ ابن الأنباري، ت: د. محمد أحمد الدالي، الجفان والجابي للطباعة، 1993 م. ***

§1/1