درة الغواص في أوهام الخواص

الحريري

درة الغواص في أوهام الخواص

درة الغواص فِي أَوْهَام الْخَواص

[1] فمن أوهامهم الفاضحة، وأغلاطهم الواضحة أنهم يقولون: قدم سائر الحاج، واستوفى سائر الخراج، فيستعملون سائرا بمعنى الجميع، وهو في كلام العرب

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الْأَجَل الأوحد الرئيس أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم ابْن عَليّ الحريري رَحمَه الله تَعَالَى: أما بعد حمد الله الَّذِي عَم عباده بوظائف العوارف، وَخص من شَاءَ مِنْهُم بلطائف المعارف، وَالصَّلَاة على نبيه مُحَمَّد العاقب، وعَلى آله وَأَصْحَابه أولي المناقب فَإِنِّي رَأَيْت كثيرا مِمَّن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسموا بسمة الْأَدَب، قد ضاهوا الْعَامَّة فِي بعض مَا يفرط من كَلَامهم، وترعف بِهِ مراعف أقلامهم، مِمَّا إِذا عثر عَلَيْهِ، وَأثر عَن المعزو إِلَيْهِ، خفض قدر الْعلية، ووصم ذَا الْحِلْية. فدعاني الْأنف لنباهة أخطارهم، والكلف بإطابة أخبارهم، إِلَى أَن أدرأ عَنْهُم الشّبَه، وَأبين مَا الْتبس عَلَيْهِم واشتبه، لألتحق بِمن زكى أكل غرسه، وَأحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ. فألفت هَذَا الْكتاب تبصرةً لمن تبصر، وَتَذْكِرَة لمن أَرَادَ أَن يذكر، وسميته: درة الغواص فِي أَوْهَام الْخَواص، وَهَا أَنا قد أودعته من النخب كل لباب، وَمن النكت مَا لَا يُوجد منتظماً فِي كتاب، هَذَا إِلَى مَا لمعته بِهِ من النَّوَادِر اللائقة بمواضعها، والحكايات الْوَاقِعَة فِي مواقعها، فَإِن حلى بِعَين النَّاظر فِيهِ والدارس، وأحله القادح لَدَى القابس، وَإِلَّا فعلى الله تَعَالَى أجر الْمُجْتَهد، وَهُوَ حسبي وَعَلِيهِ أعْتَمد. [1] فَمن أوهامهم الفاضحة، وأغلاطهم الْوَاضِحَة أَنهم يَقُولُونَ: قدم سَائِر الْحَاج، وَاسْتوْفى سَائِر الْخراج، فيستعملون سائراً بِمَعْنى الْجَمِيع، وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب

بِمَعْنى الْبَاقِي، وَمِنْه قيل لما يبْقى فِي الْإِنَاء: سُؤْر، وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لغيلان حِين أسلم وَعِنْده عشر نسوةٍ: اختر أَرْبعا مِنْهُنَّ، وَفَارق سائرهن، أَي من بَقِي بعد الْأَرْبَع اللَّاتِي تختارهن. وَلما وَقع سَائِر فِي هَذَا الموطن بِمَعْنى الْبَاقِي الْأَكْثَر، منع بَعضهم من اسْتِعْمَاله بِمَعْنى الْبَاقِي الْأَقَل. وَالصَّحِيح أَنه يسْتَعْمل فِي كل باقٍ، قل أَو كثر لإِجْمَاع أهل اللُّغَة على أَن معنى الحَدِيث: إِذا شربتم فأسئروا، أَي أَبقوا فِي الْإِنَاء بَقِيَّة مَاء، لَا أَن المُرَاد بِهِ أَن يشرب الْأَقَل ويبقي الْأَكْثَر. وَإِنَّمَا ندب إِلَى التأدب بذلك لَان الاكثار من الْمطعم وَالْمشْرَب منبأةٌ عَن النهم ملأمة عِنْد الْعَرَب، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي حَدِيث أم زرع عَن الَّتِي ذمت زَوجهَا، فَقَالَت: إِن أكل لف، وَإِن شرب اشتف، أَي يتناهى فِي الشربه إِلَى أَن يستأصل الشفافة، وَهِي مَا يبْقى من الشَّرَاب فِي الْإِنَاء. وَمِمَّا يدل على أَن سائراً بِمَعْنى باقٍ مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ: (ترى الثور فِيهَا مدْخل الظل رَأسه ... وسائره بادٍ إِلَى الشَّمْس أجمع) وَيشْهد بذلك أَيْضا قَول الشنفرى: (لَا تقبروني إِن قَبْرِي محرمٌ ... عَلَيْكُم وَلَكِن أَبْشِرِي أم عَامر)

(إِذا احتملت رَأْسِي وَفِي الرَّأْس أكثري ... وغودر عِنْد الْمُلْتَقى ثمَّ سائري) فعنى كل شَاعِر بِلَفْظ سَائِر مَا بَقِي من جثمانه بعد إبانة رَأسه. وَقد اشْتَمَلت هَذِه الأبيات على مَا يَقْتَضِي الْكَشْف عَنهُ لِئَلَّا يحتضن هَذَا الْكتاب مَا يلتبس شَيْء مِنْهُ. أما قَول الشَّاعِر الأول: ترى الثور فِيهَا مدْخل الظل، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ مدْخل رَأسه الظل، فَقلب الْكَلَام كَمَا يُقَال: أدخلت الْخَاتم فِي إصبعي. وَحَقِيقَته إِدْخَال الإصبع فِي الْخَاتم، وقلب الْكَلَام من سنَن الْعَرَب المأثورة وتصاريف لغاتها الْمَشْهُورَة، وَمِنْه فِي الْقُرْآن: {مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي الْقُوَّة} لِأَن تَقْدِيره: مَا أَن الْعصبَة تنوء بمفاتحه، أَي تنهض بهَا على تثاقل. وَأما قَول الشنفرى: وَلَكِن أَبْشِرِي أم عَامر، فقد اخْتلف فِي تَفْسِيره، فَقيل أَنه الْتفت عَن خطاب قومه إِلَى خطاب الضبع، فبشرها بالتحكم فِيهِ إِذا قتل وَلم يقبر، وَأم عَامر كنية الضبع، والالتفات فِي المخاطبة نوع من أَنْوَاع البلاغة وأسلوب من أساليب الفصاحة، وَقد نطق الْقُرْآن بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوسُف أعرض عَن هَذَا واستغفري لذنبك} . فحول الْخطاب عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى امْرَأَة الْعَزِيز. وَقيل: بل الْخطاب كُله

[2] ويقولون للمتتابع: متواتر فيوهمون فيه لأن العرب تقول: جاءت الخيل متتابعة، إذا جاء بعضها في إثر بعض بلا فصل، وجاءت متواترة، إذا تلاحقت وبينها فصل، ومنه قولهم: فعلته متواترا، أي حالا بعد حال، وشيئا بعد شيء.

لِقَوْمِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تقبروني إِذا قتلت وَلَكِن اتركوني للَّتِي يُقَال لَهَا: ابشري أم عَامر فَجعل هَذِه الْجُمْلَة لقباً لَهَا، وأوردها على وَجه الْحِكَايَة كَمَا قيل لِثَابِت بن جَابر الفهمي: تأبط شرا، بِأَخْذِهِ سَيْفا تَحت إبطه. وَإِنَّمَا لقب الضبع بذلك، لِأَن من عَادَة من يروم اصطيادها من وجارها، أَن يَقُول لَهَا حِين يتحفر عَنْهَا: ابشري أم عامرٍ، خامري أم عامرٍ، وَهِي تبتعد مِنْهُ وتروغ عَنهُ، وَهُوَ لَا يزَال يُكَرر ذَلِك عَلَيْهَا ويؤنسها بِهِ إِلَى أَن تبرز إِلَيْهِ وتسلم نَفسهَا لَهُ، وَلأَجل إنخداعها بِهَذَا القَوْل نسبت إِلَى الْحمق وَضرب بهَا الْمثل فِيهِ. وَأما قَوْله: وَفِي الرَّأْس أكثري، فَإِنَّهُ عَنى بِهِ أَن فِيهِ أَرْبعا من الْحَواس الْخمس الَّتِي بهَا كملت فَضِيلَة الْإِنْسَان، وامتاز عَن سَائِر الْحَيَوَان، وَإِنَّمَا اخْتَار هَذَا الشَّاعِر تسليط الضبع على أكله وَألا يقبر بعد قَتله، ليَكُون هَذَا الْفِعْل أوجع لقلوب قومه، وأدعى لَهُم إِلَى السؤور بدمه، وَقد فسر بِغَيْر ذَلِك إِلَّا أَنا لم نضع هَذَا الْكتاب لهَذَا الْفَنّ فنستقصي فِيمَا نشرح مِنْهُ، وَإِنَّمَا شذرناه بِمَا نظمناه من غير سمطه فِيهِ. [2] وَيَقُولُونَ للمتتابع: متواتر فيوهمون فِيهِ لِأَن الْعَرَب تَقول: جَاءَت الْخَيل متتابعة، إِذا جَاءَ بَعْضهَا فِي إِثْر بعض بِلَا فصلٍ، وَجَاءَت متواترة، إِذا تلاحقت وَبَينهَا فصل، وَمِنْه قَوْلهم: فعلته متواترا، أَي حَالا بعد حَال، وشيئا بعد شَيْء. وَجَاء فِي الْأَثر أَن الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا فِي الموؤودة قَالَ لَهُم عَليّ كرم الله وَجهه: أَنَّهَا لَا تكون موؤودة حَتَّى تَأتي عَلَيْهَا التارات السَّبع، فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ: صدقت أَطَالَ الله بَقَاءَك وَكَانَ أول من نطق بِهَذَا الدُّعَاء، وَأَرَادَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ بالتارات السَّبع طَبَقَات الْخلق السَّبع المبينة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما ًفكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا}

) . فعنى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وِلَادَته حَيا، فَأَشَارَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَنه إِذا اسْتهلّ بعد الْولادَة ثمَّ دفن فقد وئد، وَقصد بذلك أَن يدْفع قَول من توهم أَن الْحَامِل إِذا أسقطت جَنِينهَا بالتداوي فقد وأدته. وَمِمَّا يُؤَيّد مَا ذكرنَا من معنى التَّوَاتُر قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا} ، وَمَعْلُوم مَا بَين كل رسولين من الفترة وتراخي الْمدَّة. وروى عبد خير، قَالَ: قلت لعَلي رَضِي الله عَنهُ: أَن عَليّ أَيَّامًا من شهر رَمَضَان، أفيجوز أَن أقضيها مُتَفَرِّقَة قَالَ: اقضها إِن شِئْت متتابعة، وَإِن شِئْت تترى. قَالَ: فَقلت: أَن بَعضهم قَالَ: لَا تُجزئ عَنْك إِلَّا متتابعة، فَقَالَ: بلَى تُجزئ تترى، لِأَنَّهُ قَالَ عز وَجل: {فَعدَّة من أَيَّام أخر} وَلَو أرادها متتابعة لبين التَّتَابُع كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين} . وَعند أهل الْعَرَبيَّة أَن أصل تترى وَترى، فقلبت الْوَاو تَاء، كَمَا قلبت فِي تخمة وتهمة وتجاه، لكَون أُصُولهَا من الوخامة وَالوهم وَالْوَجْه.

[3] ويقولون أزف وقت الصلاة اشارة إلى تضايقه ومشارفة تصرمه.

وَيجوز أَن تنون تترى كَمَا تنون أرطى وَألا تنون مثل سكرى، وَقد قرئَ بهما جَمِيعًا. وَحكى أَبُو بكر الصولي قَالَ: كتب أحد الأدباء إِلَى صديق لَهُ، وَقد أَبْطَأَ جَوَابه عَنهُ: كتبت إِلَيْك فَمَا أجبْت، وتابعت فَمَا واترت، وأضبرت فأفردت، وجمعت فَمَا وحدت. فَكتب إِلَيْهِ صديقه: الْجفَاء المستمر على الْأَزْمَان، أحسن من بعض الْخطاب للإخوان. [3] وَيَقُولُونَ أزف وَقت الصَّلَاة اشارة إِلَى تضايقه ومشارفة تصرمه. فيحرفونه فِي مَوْضِعه، ويعكسون حَقِيقَة الْمَعْنى فِي وَضعه، لِأَن الْعَرَب تَقول: أزف الشَّيْء بِمَعْنى دنا واقترب، لَا بِمَعْنى حضر وَوَقع، يدل على ذَلِك أَن سُبْحَانَهُ سمى السَّاعَة آزفة وَهِي منتظرة لَا حَاضِرَة، وَقَالَ عز وَجل فِيهَا: {أزفت الآزفة} ، أَي دنا ميقاتها وَقرب أوانها، كَمَا صرح جلّ اسْمه بِهَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله سُبْحَانَهُ: {اقْتَرَبت السَّاعَة} ، وَالْمرَاد بِذكر اقترابها التَّنْبِيه على أَن مَا مضى من أمد الدُّنْيَا أَضْعَاف مَا بَقِي مِنْهُ، ليتعظ أولو الْأَلْبَاب بِهِ. وَمِمَّا يدل أَيْضا على أَن أزف بِمَعْنى اقْترب، قَول النَّابِغَة: أزف الترحل غير أَن رِكَابنَا لما تزل برحالنا وَكَأن قد) فتصريحه بِأَن الركاب مَا زَالَت، يشْهد بِأَن معنى قَوْله: أزف، أَي اقْترب، إِذْ لَو كَانَ قد وَقع لَسَارَتْ الركاب. وَمعنى قَوْله: وَكَأن قد أَي وَكَأن قد سَارَتْ، فَحذف الْفِعْل لدلَالَة مَا بَقِي على مَا ألْقى. وَنبهَ بقد على شدَّة التوقع وتداني الْإِيقَاع لَهُ. وَالْعرب تَقول فِي كل مَا يتَوَقَّع حُلُوله، ويرصد وُقُوعه: كَانَ قد، أَي كَانَ قد وجد كَونه، وأظل وقعه.

[4] ويقولون: زيد أفضل اخوته فيخطئون فيه، لأن أفعل الذي للتفضيل لا يضاف إلا إلى ما هو داخل فيه، ومنزل منزلة الجزء منه، وزيد غير داخل في جملة اخوته، ألا ترى أنه لو قال لك قائل: من اخوة زيد لعددتهم دونه، فلما خرج عن أن يكون داخلا فيهم امتنع أن يقال: زيد أفضل اخوته كما لا يقال: زيد أفضل النساء لتميزه من جنسهن وخروجه عن أن يعد في جملتهن.

[4] وَيَقُولُونَ: زيد أفضل اخوته فيخطئون فِيهِ، لِأَن أفعل الَّذِي للتفضيل لَا يُضَاف إِلَّا إِلَى مَا هُوَ دَاخل فِيهِ، ومنزل منزلَة الْجُزْء مِنْهُ، وَزيد غير دَاخل فِي جملَة اخوته، أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لَك قَائِل: من اخوة زيد لعددتهم دونه، فَلَمَّا خرج عَن أَن يكون دَاخِلا فيهم امْتنع أَن يُقَال: زيد أفضل اخوته كَمَا لَا يُقَال: زيد أفضل النِّسَاء لتميزه من جنسهن وَخُرُوجه عَن أَن يعد فِي جملتهن. وَتَصْحِيح هَذَا الْكَلَام أَن يُقَال: زيد أفضل الاخوة، أَو أفضل بني أَبِيه لِأَنَّهُ حينئذٍ يدْخل فِي الْجُمْلَة الَّتِي أضيف إِلَيْهَا بِدلَالَة أَنه لَو قيل لَك: من الاخوة أَو من بَنو أَبِيه لعددته فيهم وأدخلته مَعَهم. [5] وَيَقُولُونَ لمن يَأْخُذ الشَّيْء بِقُوَّة وغلظة: قد تغشرم، وَهُوَ متغشرم. وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: تغشمر، وَهُوَ متغشمر، بِتَقْدِيم الْمِيم على الرَّاء، كَمَا قَالَ

[6] ويقولون: بعد اللتيا والتي فيضمون اللام الثانية من اللتيا وهو لحن فاحش، وغلط شائن إذ الصواب فيها اللتيا بفتح اللام لأن العرب خصت الذي والتي عند تصغيرهما وتصغير أسماء الإشارة بإقرار فتحة أوائلها على صيغتها، وبأن زادت ألفا في آخرها، عوضا عن ضم أولها، فقالوا في تصغير الذي والتي: اللذيا واللتيا، وفي تصغير ذاك وذلك: ذياك وذيالك، وعليه أنشد ثعلب:

الراجز: (أَن لَهَا لسائقا عشنزرا ... إِذا ونين سَاعَة تغشمرا) ويروى: إِن لَهَا لسائقا غشوزرا، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الشَّديد. وَمن كَلَام الْعَرَب: قد تغشمر السَّيْل، إِذا أقبل بِشدَّة وَجرى بحدة. [6] وَيَقُولُونَ: بعد اللتيا وَالَّتِي فيضمون اللَّام الثَّانِيَة من اللتيا وَهُوَ لحن فَاحش، وَغلط شائن إِذْ الصَّوَاب فِيهَا اللتيا بِفَتْح اللَّام لِأَن الْعَرَب خصت الَّذِي وَالَّتِي عِنْد تصغيرهما وتصغير أَسمَاء الْإِشَارَة بِإِقْرَار فَتْحة أوائلها على صيغتها، وَبِأَن زَادَت ألفا فِي آخرهَا، عوضا عَن ضم أَولهَا، فَقَالُوا فِي تَصْغِير الَّذِي وَالَّتِي: اللذيا واللتيا، وَفِي تَصْغِير ذَاك وَذَلِكَ: ذياك وذيالك، وَعَلِيهِ أنْشد ثَعْلَب: (بذيالك الْوَادي أهيم وَلم أقل ... بذيالك الْوَادي وذياك من زهد) (وَلَكِن إِذا مَا حب شَيْء تولعت ... بِهِ أحرف التصغير من شدَّة الوجد)

[7] ويقولون: فلان يستأهل الإكرام وهو مستأهل للأنعام، ولم تسمع هاتان اللفظتان في كلام العرب، ولا صوبهما أحد من أعلام الأدب، ووجه الكلام أن يقال: فلان يستحق التكرمة، وهو أهل للمكرمة، فأما قول الشاعر:

أَرَادَ أَن التصغير قد يَقع من فرط الْمحبَّة ولطف الْمنزلَة كَمَا يُقَال: يَا بنيّ وَيَا أخي. وَقَوله: إِذا مَا حب شَيْء يَعْنِي بِهِ أحب لِأَنَّهُ يُقَال: أحب الشَّيْء وحبه بِمَعْنى، كَمَا جَاءَ فِي الْمثل السائر: من حب طب، إِلَّا أَنهم اخْتَارُوا أَن بنوا الْفَاعِل من لَفْظَة احب وبنوا الْمَفْعُول من لَفْظَة حب فَقَالُوا للْفَاعِل: محب وللمفعول مَحْبُوب، ليعادلوا بَين اللفظتين فِي الِاشْتِقَاق مِنْهُمَا والتفريع عَنْهُمَا، على أَنه قد سمع فِي المحبوب محب، وَعَلِيهِ قَول عنترة: (وَلَقَد نزلت فَلَا تظني غَيره ... مني بِمَنْزِلَة الْمُحب المكرم) [7] وَيَقُولُونَ: فلَان يستأهل الْإِكْرَام وَهُوَ مستأهل للأنعام، وَلم تسمع هَاتَانِ اللفظتان فِي كَلَام الْعَرَب، وَلَا صوبهما أحد من أَعْلَام الْأَدَب، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: فلَان يسْتَحق التكرمة، وَهُوَ أهل للمكرمة، فَأَما قَول الشَّاعِر: (لَا بل كلي يَا ميّ واستاهلي ... إِن الَّذِي أنفقت من ماليه) فَإِنَّهُ عَنى بِلَفْظَة استاهلي، أَي اتخذي الإهالة، وَهِي مَا يؤتدم بِهِ من السّمن

[8] ويقولون إذا أصبحوا: سهرنا البارحة وسرينا البارحة، والاختيار في كلام العرب على ما حكاه ثعلب أن يقال: مذ لدن الصبح، إلى أن تزول الشمس: سرينا الليلة، وفيما بعد الزوال إلى آخر النهار: سهرنا البارحة، ويتفرع على هذا أنهم يقولون مذ إنتصاف الليل إلى وقت الزوال: صبحت بخير، وكيف أصبحت ويقولون إذا زالت الشمس إلى أن ينتصف الليل: مسيت بخير، وكيف أمسيت وجاء في الأخبار المأثورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انفتل من صلاة الصبح، قال لأصحابه: هل فيكم من رأى رؤيا في ليلته وقد ضرب المثل في المتشابهين فقيل: ما أشبه الليلة بالبارحة، كما قال طرفة:

والودك. وَفِي أَمْثَال الْعَرَب: استاهلي اهالتي وأحسني إنالتي، أَي خذي صفو طعمتي، وأحسني الْقيام بخدمتي. [8] وَيَقُولُونَ إِذا أَصْبحُوا: سهرنا البارحة وسرينا البارحة، وَالِاخْتِيَار فِي كَلَام الْعَرَب على مَا حَكَاهُ ثَعْلَب أَن يُقَال: مذ لدن الصُّبْح، إِلَى أَن تَزُول الشَّمْس: سرينا اللَّيْلَة، وَفِيمَا بعد الزَّوَال إِلَى آخر النَّهَار: سهرنا البارحة، وَيتَفَرَّع على هَذَا أَنهم يَقُولُونَ مذ إنتصاف اللَّيْل إِلَى وَقت الزَّوَال: صبحت بِخَير، وَكَيف أَصبَحت وَيَقُولُونَ إِذا زَالَت الشَّمْس إِلَى أَن ينتصف اللَّيْل: مسيت بِخَير، وَكَيف أمسيت وَجَاء فِي الْأَخْبَار المأثورة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا انْفَتَلَ من صَلَاة الصُّبْح، قَالَ لأَصْحَابه: هَل فِيكُم من رأى رُؤْيا فِي ليلته وَقد ضرب الْمثل فِي المتشابهين فَقيل: مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة، كَمَا قَالَ طرفَة: (كل خَلِيل كنت خاللته ... لَا ترك الله لَهُ واضحه) (كلهم أروغ من ثَعْلَب ... مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة) وَمعنى قَوْله: لَا ترك الله لَهُ وَاضِحَة، أَي لَا أبقى الله لَهُ شَيْئا. وَقيل: بل أَرَادَ بِهِ المَال الظَّاهِر. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الأوحد أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله: وَقد خَالَفت الْعَرَب بَين أَلْفَاظ متفقه الْمعَانِي لاخْتِلَاف الْأَزْمِنَة وَقصرت أَسمَاء الْأَشْيَاء على وَقت دون وَقت، كَمَا سمت شرب الْغَدَاة صَبُوحًا، وَشرب العشية غبوقاً، وَشرب نصف النَّهَار قيلاً، وَشرب أول اللَّيْل فَحْمَة، وَشرب السحر جاشرية. وكما قَالُوا: أَن السراب لَا يكون إِلَّا نصف النَّهَار، والفيء لَا يكون إِلَّا بعد الزَّوَال. والمقيل: الاسْتِرَاحَة وَقت الهاجرة، والسمر حَدِيث اللَّيْل خَاصَّة، والطروق الْإِتْيَان لَيْلًا فِي قَول أَكْثَرهم، والإدلاج بِإِسْكَان الدَّال سير أول اللَّيْل والادلاج بِالتَّشْدِيدِ سير آخِره، والتأويب سير النَّهَار وَحده والسرى، سير اللَّيْل خَاصَّة، والمشرقة والشرقة لَا تكون إِلَّا فِي

[9] ومن أوهامهم أيضا في هذا الفن قولهم: لا أكلمه قط وهو من أفحش الخطأ لتعارض معانيه وتناقض الكلام فيه وذاك أن العرب تستعمل لفظة قط فيما مضى

الشتَاء فَإِن عَارض معَارض بقوله سُبْحَانَهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} فَالْجَوَاب عَنهُ أَن المُرَاد بِذكر اللَّيْل الْإِخْبَار بِأَن الْإِسْرَاء وَقع بعد توسطه، كَمَا يُقَال: جَاءَ فلَان البارحة بلَيْل، إِذا جَاءَ بعد أَن مضى قطع مِنْهُ. وَمِمَّا يَنْتَظِم فِي هَذَا السمط قَوْلهم: ظلّ يفعل كَذَا وَكَذَا، إِذا فعله نَهَارا، وَبَات يفعل كَذَا وَكَذَا، إِذا فعله لَيْلًا، وغور الْمُسَافِر، إِذا نزل وَقت القائلة، وعرس الساري، إِذا نزل فِي آخر اللَّيْل للاستراحة، ونفشت السَّائِمَة فِي الزَّرْع، إِذا رعته بِاللَّيْلِ، وتهجد الْمُصَلِّي، إِذا تنفل فِي ظلّ اللَّيْل. وكتسميتهم الشَّمْس فِي وَقت ارتفاعها: الغزالة، وَعند غُرُوبهَا: الجونة حَتَّى امْتَنعُوا أَن يَقُولُوا: طلعت الجونة كَمَا لم يسمع عَنْهُم غربت الغزالة. وأنشدت ليوسف الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ: (وإدا الغزالة فِي السَّمَاء ترفعت ... وبدا النَّهَار لوقته يترجل) (أبدت لقرن الشَّمْس وَجها مثله ... تلقى السَّمَاء بِمثل مَا تسْتَقْبل) [9] وَمن أوهامهم أَيْضا فِي هَذَا الْفَنّ قَوْلهم: لَا ُأكَلِّمهُ قطّ وَهُوَ من أفحش الْخَطَأ لتعارض مَعَانِيه وتناقض الْكَلَام فِيهِ وَذَاكَ أَن الْعَرَب تسْتَعْمل لَفْظَة قطّ فِيمَا مضى

من الزَّمَان، كَمَا تسْتَعْمل لَفْظَة أبدا فِيمَا يسْتَقْبل مِنْهُ فَيَقُولُونَ: مَا كَلمته قطّ وَلَا ُأكَلِّمهُ أبدا، وَالْمعْنَى فِي قَوْلهم: مَا كَلمته قطّ، أَي فِيمَا انْقَطع من عمري، لِأَنَّهُ من قططت الشَّيْء، إِذا قطعته، وَمِنْه قطّ الْقَلَم، أَي قطع طرفه. وَمِمَّا يُؤثر من شجاعة عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا اعتلى قد، وَإِذا اعْترض قطّ، فالقد قطع الشَّيْء طولا، والقط قطعه عرضا، وَلَفْظَة قطّ هَذِه مُشَدّدَة الطَّاء، وَهِي اسْم مَبْنِيّ على الضَّم مثل حَيْثُ ومنذ، وَأما قطّ بتَخْفِيف الطَّاء، فَهُوَ اسْم مَبْنِيّ على السّكُون مثل قد، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى حسب. وقرأت فِي أَخْبَار الْوَزير عَليّ بن عِيسَى أَنه رأى كَاتبا يبري بمجلسه قَلما فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ: مَالك فِي مجلسي إِلَّا القط فَقَط وَقد تدخل نون الْعِمَاد على قطّ وَقد، مَعَ ضمير الْمُتَكَلّم الْمَجْرُور كَمَا قَالَ الراجز فِي قطّ: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ) أَي قد بلغ من الامتلاء إِلَى الْحَد الَّذِي لَو كَانَ لَهُ نطق لقَالَ حسبي. وَمِمَّا أنشدته من أَبْيَات الْمعَانِي: (إِذا نَحن نلنا من ثريدة عوكل ... فَقدنَا لَهَا مَا قد بَقِي من طعامها) أَرَادَ هَذَا الشَّاعِر بقوله: فَقدنَا، أَي فحسبنا. ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: لَهَا مَا قد بَقِي من طعامها، أَي لَا نرزؤها بِهِ لاستغنائنا عَنهُ واكتفائنا بِمَا نلنا مِنْهُ.

[10] ويقولون للمريض: مسح الله ما بك، بالسين، والصواب فيه مصح كما قال الراجز:

[10] وَيَقُولُونَ للْمَرِيض: مسح الله مَا بك، بِالسِّين، وَالصَّوَاب فِيهِ مصح كَمَا قَالَ الراجز: (قد كَاد من طول البلى أَن يمصحا ) وكقول الشَّاعِر وَقد أحسن فِيهِ: (يَا بدر أَنَّك قد كُسِيت مشابهاً ... من وَجه أم مُحَمَّد ابْنة صَالح) (وأراك تمصح فِي المحاق وحسنها ... باقٍ على الْأَيَّام لَيْسَ بِمَا صَحَّ) ويحكى: أَن النَّضر بن شُمَيْل الْمَازِني مرض، فَدخل عَلَيْهِ قوم يعودونه، فَقَالَ لَهُ

[11] ويقولون: قرأت الحواميم والطواسين ووجه الكلام فيهما أن يقال: قرأت آل حم وآل طس، كما قال ابن مسعود رحمه الله: آل حم ديباج القرآن.

رجل مِنْهُم يكنى أَبَا صَالح: مسح الله تَعَالَى مَا بك، فَقَالَ لَهُ: لَا تقل: مسح، بِالسِّين وَلَكِن قل: مصح بالصَّاد، أَي أذهبه الله وفرقه، أما سَمِعت قَول الشَّاعِر: (وَإِذا مَا الْخمر فِيهَا أزبدت ... أفل الازباد فِيهَا ومصح) فَقَالَ لَهُ الرجل: أَن السِّين قد تبدل من الصَّاد كَمَا يُقَال: الصِّرَاط والسراط، وصقر وسقر، فَقَالَ لَهُ النَّضر: فَأَنت إِذا أَبُو سالح وَيُشبه هَذِه النادرة مَا حُكيَ أَيْضا أَن بعض الأدباء جوز بِحَضْرَة الْوَزير أبي الْحسن بن الْفُرَات أَن تُقَام السِّين مقَام الصَّاد فِي كل مَوضِع، فَقَالَ لَهُ الْوَزير: أَتَقْرَأُ: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم} أم وَمن سلح فَخَجِلَ الرجل وَانْقطع. [11] وَيَقُولُونَ: قَرَأت الحواميم والطواسين وَوجه الْكَلَام فيهمَا أَن يُقَال: قَرَأت آل حم وَآل طس، كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَحمَه الله: آل حم ديباج الْقُرْآن. وكما روى عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا وَقعت فِي آل حم وَقعت فِي روضات دمثات أتأنق فِيهِنَّ. وعَلى هَذَا قَول الْكُمَيْت بن زيد فِي الهاشميات: (وجدنَا لكم فِي آل حم آيَة ... تأولها منا تَقِيّ ومعرب) يَعْنِي بِالْآيَةِ قَوْله تَعَالَى فِي حم 16 فِي الْقُرْبَى) .

[12] ويقولون: أدخل باللص السجن فيغلطون فيه، والصواب أن يقال: أدخل اللص السجن، أو دخل به السجن، لأن الفعل يعدي تارة بهمزة النقل كقولك: خرج وأخرجته، وتارة بالباء، كقولك: خرج وخرجت به فأما الجمع بينهما فممتنع في الكلام، كما لا يجمع بين حرفي الإستفهام.

[12] وَيَقُولُونَ: أَدخل باللص السجْن فيغلطون فِيهِ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أَدخل اللص السجْن، أَو دخل بِهِ السجْن، لِأَن الْفِعْل يعدي تَارَة بِهَمْزَة النَّقْل كَقَوْلِك: خرج وأخرجته، وَتارَة بِالْبَاء، كَقَوْلِك: خرج وَخرجت بِهِ فَأَما الْجمع بَينهمَا فممتنع فِي الْكَلَام، كَمَا لَا يجمع بَين حرفي الإستفهام. وَقد اخْتلف النحويون: هَل بَين حرفي التَّعْدِيَة فرق أم لَا فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد: بل بَينهمَا فرق، وَهُوَ أَنَّك إِذا قلت: أخرجت زيدا كَانَ بِمَعْنى حَملته على الْخُرُوج. فَإِذا قلت: خرجت بِهِ، فَمَعْنَاه أَنَّك خرجت واستصحبته مَعَك. وَالْقَوْل الأول أصح بِدلَالَة قَوْله تَعَالَى: {ذهب الله بنورهم} . فَإِن اعْترض معترض فِي جَوَاز الْجمع بَين حرفي التَّعْدِيَة بِقِرَاءَة من قَرَأَ: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنْبت بالدهن}

[13] ويقولون لما يتخذ لتقديم الطعام عليه: مائدة، والصحيح أن يقال له

) بِضَم التَّاء، فقد قيل فِيهَا عدَّة أَقْوَال: أَحدهَا أَن أنبت بِمَعْنى نبت، والهمزة فِيهَا أَصْلِيَّة، لَا للنَّقْل، كَمَا قَالَ زُهَيْر: (رَأَيْت ذَوي الْحَاجَات حول بُيُوتنَا ... قطينا لَهُم حَتَّى إِذا أنبت البقل) فعلى هَذَا القَوْل تكون هَذِه الْقِرَاءَة بِمَعْنى من قَرَأَ: {تنْبت بالدهن} بِفَتْح التَّاء، وَالْمعْنَى أَن الدّهن ينبتها. وَقيل فِي الْقِرَاءَة: إِن الباءزائدة كزيادتها فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وكزيادتها فِي قَول الراجز: (نَحن بَنو جعدة أَصْحَاب الفلج ... نضرب بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بالفرج) فَيكون تَقْدِير الْكَلَام على هَذَا التَّأْوِيل: تنْبت الدّهن، أَي تخرج الدّهن. وَقيل: أَن الْبَاء مُتَعَلقَة بمفعول مَحْذُوف تَقْدِيره تنْبت مَا تنبته، وَفِيه دهن، كَمَا تَقول: ركب الْأَمِير بِسَيْفِهِ أَي وسيفه مَعَه، وَخرج زيد بثيابه، أَي وثيابه عَلَيْهِ. وَقيل - وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال: إِنَّمَا زيدت الْبَاء لِأَن انباتها الدّهن بعد إنبات الثَّمر الَّذِي يخرج مِنْهُ الدّهن، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل فِي الْمَعْنى قد تعلق بمفعولين يكونَانِ فِي حَال بعد حَال، وهما الثَّمَرَة والدهن، احْتِيجَ إِلَى تقويته فِي التَّعَدِّي بِالْبَاء. [13] وَيَقُولُونَ لما يتَّخذ لتقديم الطَّعَام عَلَيْهِ: مائدة، وَالصَّحِيح أَن يُقَال لَهُ

خوان إِلَى أَن يحضر عَلَيْهِ الطَّعَام، فيسمى حينئذٍ مائدة، يدل على ذَلِك أَن الحواريين حِين تحدوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن يسْتَنْزل لَهُم طَعَاما من السَّمَاء، قَالُوا: {هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} ، ثمَّ بينوا معنى الْمَائِدَة بقَوْلهمْ: {نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا وتطمئن قُلُوبنَا} . وَحكى الْأَصْمَعِي قَالَ: غَدَوْت ذَات يَوْم إِلَى زِيَارَة صديق لي، فلقيني أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، فَقَالَ لي: إِلَى أَيْن يَا أصمعي فَقلت: إِلَى صديق لي، فَقَالَ: إِن كَانَ لفائدة، أَو عَائِدَة، أَو مائدة، وَإِلَّا فَلَا. وَقد اخْتلف فِي تَسْمِيَتهَا بذلك، فَقيل: سميت بِهِ لِأَنَّهَا تميد بِمَا عَلَيْهَا، أَي تتحرك، مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم} ، وَقيل: بل هُوَ من ماد، أَي أعْطى، وَمِنْه قَول رؤبة بن العجاج: (إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الممتاد ) أَي المستعطي، فَكَأَنَّهَا تميد من حواليها مِمَّا أحضر عَلَيْهَا. وَقد أجَاز بَعضهم أَن يُقَال فِيهَا: ميدة، وَاسْتشْهدَ عَلَيْهِ بقول الراجز: (وميدة كَثِيرَة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان)

وَفِي كَلَام الْعَرَب أَشْيَاء تخْتَلف أسماؤها باخْتلَاف أوصافها فَمن ذَلِك أَنهم لَا يَقُولُونَ للقدح: كأس إِلَّا إِذا كَانَ فِيهَا شراب، وَلَا للبئر: ركية إِلَّا إِذا كَانَ فِيهَا مَاء، وَلَا للدلو: سجل إِلَّا وفيهَا مَاء وَلَو قل، وَلَا يُقَال لَهَا: ذنُوب إِلَّا إِذا كَانَت ملآى، وَلَا يُقَال أَيْضا للبستان: حديقة، إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهِ حَائِط، وَلَا للإناء: كوز إِلَّا إِذا كَانَت لَهُ عُرْوَة، وَإِلَّا فَهُوَ كوب، وَلَا للمجلس: نَاد إِلَّا وَفِيه أَهله، وَلَا للسرير: أريكة إِلَّا إِذا كَانَت عَلَيْهِ حجلة، وَلَا للْمَرْأَة: ظَعِينَة إِلَّا مَا دَامَت راكبة فِي الهودج، وَلَا للستر: خدر إِلَّا إِذا اشْتَمَل على امْرَأَة، وَلَا للقدح سهم: إِلَّا إِذا كَانَ فِيهِ نصل وَرِيش، وَلَا للطبق: مهدى إِلَّا مَا دَامَت فِيهِ الْهَدِيَّة، وَلَا للشجاع: كميّ إِلَّا إِذا كَانَ شاكي السِّلَاح، وَلَا للقناة رمح إِلَّا إِذا ركب عَلَيْهَا السنان، وَعَلِيهِ قَول عبد الْقَيْس بن خفاف البرجمي: (وأصبحت أَعدَدْت للنائبات ... عرضا بريا وعضبا صقيلا) (وَوَقع لِسَان كَحَد السنان ... ورمحاً طَوِيل الْقَنَاة عسولا) وَلَو كَانَ الرمْح هُوَ الْقَنَاة لقَالَ: رمحاً طَويلا، لِأَن الشَّيْء لَا يُضَاف إِلَّا إِلَى ذَاته. وَمن هَذَا النمط أَيْضا أَنه لَا يُقَال للصوف: عهن إِلَّا إِذا كَانَ مصبوغاً، وَلَا للسرب: نفق إِلَّا إِذا كَانَ مخروقاً، وَلَا للخيط: سمط إِلَّا إِذا كَانَ فِيهِ نظم، وَلَا للحطب: وقود إِلَّا إِذا اتقدت فِيهِ النَّار، وَلَا للثوب: مطرف إِلَّا إِذا كَانَ فِي طرفه علمَان، وَلَا لماء

[14] ويقولون لمن يحمل الدواة: دواتي بإثبات التاء، وهو من اللحن القبيح والخطأ الصريح، ووجه القول أن يقال فيه: دووي، لأن تاء التأنيث تحذف في النسب، كما يقال في النسب إلى فاطمة: فاطمي.

الْفَم: رضاب إِلَّا مَا دَامَ فِي الْفَم، وَلَا للْمَرْأَة: عانس وَلَا عاتق إِلَّا مَا دَامَت فِي بَيت أَبَوَيْهَا، وَلذَلِك لَا يُقَال للأنبوبة: قلم إِلَّا إِذا بريت. وأنشدني أحد شُيُوخنَا رَحمَه الله لأبي الْفَتْح كشاجم: (لَا أحب الدواة تحشى يراعاً ... تِلْكَ عِنْدِي من الدويّ مَعِيبَة) (قلم وَاحِد وجودة خطّ ... فَإِذا شِئْت فاستزد أنبوبه) (هَذِه قعدة الشجاع عَلَيْهَا ... سيره دائبا وَتلك جنيبه) [14] وَيَقُولُونَ لمن يحمل الدواة: دواتي بِإِثْبَات التَّاء، وَهُوَ من اللّحن الْقَبِيح وَالْخَطَأ الصَّرِيح، وَوجه القَوْل أَن يُقَال فِيهِ: دوويّ، لِأَن تَاء التَّأْنِيث تحذف فِي النّسَب، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى فَاطِمَة: فاطميّ. وَإِلَى مَكَّة: مكي وَإِنَّمَا حدفت لمشابهتها يَاء النسبه من عدَّة وُجُوه: أَحدهَا: أَن كلتيهما تقع طارفة فَتَصِير هِيَ حرف الْإِعْرَاب، وَيجْعَل مَا دخلت عَلَيْهِ حَشْوًا فِي الْكَلِمَة. الثَّانِي: أَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا قد جعل ثُبُوتهَا عَلامَة للْوَاحِد، وحذفها عَلامَة للْجمع، فَقَالُوا فِي تَاء التَّأْنِيث: ثَمَرَة وثمر، كَمَا قَالُوا فِي يَاء النّسَب: زنجية وزنج. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِذا التحقت بِالْجمعِ الَّذِي لَا ينْصَرف أصارته منصرفاً، نَحْو صيارف وصيارفة وَمَدَائِن ومدائني، فَلَمَّا أشبهتا من هَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة،

[15] ويقولون: بعثت إليه بغلام، وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما، لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه: بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا} ويقولون فيما يحمل: بعثت به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخبارا عن بلقيس: {وأني مرسلة إليهم بهدية} .

لم يجز أَن يجمع بَينهمَا كَمَا لَا يجمع بَين حرفي معنى فِي كلمة وَاحِدَة. وَلما حذفت التَّاء بَقِي الِاسْم على دوا الموازن للثلاثي الْمَقْصُور فَقيل: دوويّ، كَمَا قَالُوا فِي النّسَب إِلَى فَتى: فتويّ، وَلَا فرق فِي هَذَا الموطن بَين الْألف الَّتِي أَصْلهَا الْوَاو كألف حمى الْمُشْتَقّ من حميت، وحكمهما فِيهِ بِخِلَاف حكمهمَا فِي التَّثْنِيَة الَّتِي ترد فِيهَا الْألف إِلَى أَصْلهَا، كَقَوْلِك فِي تَثْنِيَة قفا: قفوان، وَفِي تَثْنِيَة حمى: حميان. وَالْفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ أَن عَلامَة التَّثْنِيَة خَفِيفَة وَمَا قبلهَا يكون أبدا مَفْتُوحًا وَلَا يجْتَمع فِي الْكَلِمَة الْمُثَنَّاة مَا يثقل، وعلامة النّسَب يَاء مُشَدّدَة تقوم مقَام ياءين وَمَا قبلهَا لَا يكون إِلَّا مكسوراً، فَلَو قلبت الْألف فِي النّسَب يَاء لتوالى فِي الْكَلِمَة من الْكسر والياءات مَا يستثقل التَّلَفُّظ بهَا لأَجله. [15] وَيَقُولُونَ: بعثت إِلَيْهِ بِغُلَام، وَأرْسلت إِلَيْهِ هَدِيَّة، فيخطئون فيهمَا، لِأَن الْعَرَب تَقول فِيمَا يتَصَرَّف بِنَفسِهِ: بعثته وأرسلته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا} وَيَقُولُونَ فِيمَا يحمل: بعثت بِهِ وَأرْسلت بِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِخْبَارًا عَن بلقيس: {وَأَنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية} . وَقد عيب على أبي الطّيب قَوْله: (فآجرك الْإِلَه على عليل ... بعثت إِلَى الْمَسِيح بِهِ طَبِيبا) وَمن تَأَول لَهُ فِيهِ قَالَ: أَرَادَ بِهِ أَن العليل لاستحواذ الْعلَّة على جِسْمه وحسه قد

[16] ويقولون: المشورة مباركة، فيبنونها على مفعلة والصواب أن يقال فيها مشورة على وزن مثوبة ومعونة، كما قال بشار:

الْتحق بحيز مَا لَا يتَصَرَّف بِنَفسِهِ، فَلهَذَا عدى الْفِعْل إِلَيْهِ بِحرف الْجَرّ، كَمَا يعدى إِلَى مَا لَا حس لَهُ وَلَا عقل. [16] وَيَقُولُونَ: المشورة مباركة، فيبنونها على مفعلة وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا مشورة على وزن مثوبة ومعونة، كَمَا قَالَ بشار: (إِذا بلغ الرَّأْي المشورة فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْي لَبِيب أَو نصاحة حَازِم) (وَلَا تحسب الشورى عَلَيْك غَضَاضَة ... فَإِن الخوافي رافدات القوادم) وَكَانَ الأَصْل فِي مشورة مشورة على وزن مفعلة مثل مكرمَة، فنقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا وسكنت هِيَ فَقيل مشورة. وَاخْتلف فِي اشتقاق اسْمهَا فَقيل أَنه من قَوْلك: شرت الْعَسَل اشورة إِذا جنيته، فَكَأَن المستشير يجتني الرَّأْي من المشير. وَقيل: بل أَخذ من قَوْلك: شرت الدَّابَّة إِذا أجريتها مقبلة ومدبرة، لتسبر حضرها، وتخبر جوهرها فَكَأَن المستشير يسْتَخْرج الرَّأْي الَّذِي عَن المشير وكلا الاشتقاقينه يتقارب مَعْنَاهُ من الآخر، ويلتحم بِهِ. [17] وَيَقُولُونَ فِي التحذير: إياك الْأسد، إياك الْحَسَد وَوجه الْكَلَام إِدْخَال الْوَاو على الْأسد والحسد، كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إياك ومصاحبة الْكذَّاب، فَإِنَّهُ يقرب عَلَيْك الْبعيد، وَيبعد عَنْك الْقَرِيب، وكما قَالَ الشَّاعِر: (فإياك وَالْأَمر الَّذِي إِن توسعت ... موارده ضَاقَتْ عَلَيْك المصادر)

وَالْعلَّة فِي وجوب إِثْبَات الْوَاو فِي هَذَا الْكَلَام أَن لَفْظَة إياك مَنْصُوبَة بإضمار فعل تَقْدِيره: اتَّقِ أَو باعد، واستغني عَن إِظْهَار هَذَا الْفِعْل لما تضمن هَذَا الْكَلَام من معنى التحذير وَهَذَا الْفِعْل إِنَّمَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، فَإِذا كَانَ قد استوفى عمله ونطق بعده باسم آخر لزم إِدْخَال حرف الْعَطف عَلَيْهِ، كَمَا لَو قلت: اتَّقِ الشَّرّ والأسد، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْمَفْعُول الثَّانِي حرف جر، كَقَوْلِك: إياك من الْأسد، أَي باعد نَفسك من الْأسد. فَإِن قيل: فَكيف يجوز أَن يُقَال: إياك والأسد، فَيَأْتِي بِالْوَاو الَّتِي مَعْنَاهَا الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ، وَأَنت إِنَّمَا أَمرته أَن يباعد نَفسه، وَلم تَأمره أَن يباعد الْأسد فَالْجَوَاب عَنهُ أَنه إِذا باعد نَفسه من الْأسد كَانَ بِمَنْزِلَة تبعيده الْأسد. وَقد جوز إِلْغَاء الْوَاو عِنْد تَكْرِير لَفْظَة إياك، كَمَا اسْتغنى عَن إِظْهَار الْفِعْل مَعَ تَكْرِير الِاسْم فِي مثل قَوْلك: الطَّرِيق الطَّرِيق وأشباهه، وَعَلِيهِ قَول الشَّاعِر: (فإياك إياك المراء فَإِنَّهُ ... إِلَى الشَّرّ دُعَاء وللشر جالب) فَإِن قلت: إياك أَن تقرب الْأسد. فالأجود أَن تلْحق بِهِ الْوَاو، لِأَن أَن مَعَ الْفِعْل بِمَنْزِلَة الْمصدر، فَأشبه قَوْلك: إياك ومقاربة الْأسد. وَيجوز إِلْغَاء الْوَاو فِيهِ على أَن تكون أَن وَمَا بعْدهَا من الْفِعْل للتَّعْلِيل وتبيين سَبَب التحذير، فكأنك قلت: أحذرك لأجل أَن تقرب الْأسد، وَعَلِيهِ قَول الشَّاعِر: (فبح بالسرائر فِي أَهلهَا ... وَإِيَّاك فِي غَيرهم أَن تبوحا) وَمِمَّا ينخرط فِي سلك هَذَا الْفَنّ أَنهم رُبمَا أجابوا المستخبر عَن الشَّيْء بِلَا النافية ثمَّ عقبوها بِالدُّعَاءِ لَهُ، فيستحيل الْكَلَام إِلَى الدُّعَاء عَلَيْهِ، كَمَا روى أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ رأى رجلا بِيَدِهِ ثوب، فَقَالَ لَهُ: أتبيع هَذَا الثَّوْب فَقَالَ: لَا عافاك الله، فَقَالَ: لقد علمْتُم لَو تتعلمون هلا قلت: لَا وعافاك الله

[18] ويقولون ذهبت إلى عنده، فيخطئون فيه، لان عند لا يدخل عليه من أدوات الجر إلا من وحدها، ولا يقع في تصاريف الكلام مجرورا إلا بها، كما قال سبحانه: {قل كل من عند الله} وإنما خصت من بذلك لأنها أم حروف الجر،

قَالَ الْمُؤلف: والمستحسن فِي مثل هَذَا قَول يحيى بن أَكْثَم لِلْمَأْمُونِ وَقد سَأَلَهُ عَن أَمر، فَقَالَ: لَا وأيد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَحكي أَن الصاحب أَبَا الْقَاسِم بن عباد حِين سمع هَذِه الْحِكَايَة قَالَ: وَالله لهَذِهِ الْوَاو أحسن من واوات الأصداغ فِي خدود المرد الملاح. وَمن خَصَائِص لُغَة الْعَرَب إِلْحَاق الْوَاو فِي الثَّامِن من الْعدَد، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر} ، وكما قَالَ سُبْحَانَهُ: {سيقولون ثَلَاثَة رابعهم كلبهم وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم رجماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم} . وَمن ذَلِك أَنه جلّ اسْمه لما ذكر أَبْوَاب جَهَنَّم ذكرهَا بِغَيْر وَاو، لِأَنَّهَا سَبْعَة، فَقَالَ: {حَتَّى إِذا جاؤوها فتحت أَبْوَابهَا} ، وَلما ذكر أَبْوَاب الْجنَّة ألحق بهَا الْوَاو لكَونهَا ثَمَانِيَة، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} ، وَتسَمى هَذِه الْوَاو وَاو الثَّمَانِية. وَمِمَّا يَنْتَظِم أَيْضا فِي إقحام الْوَاو مَا حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج، قَالَ: سَأَلت أَبَا الْعَبَّاس الْمبرد عَن الْعلَّة فِي ظُهُور الْوَاو فِي قَوْلنَا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. فَقَالَ: إِنِّي قد سَأَلت أَبَا عُثْمَان الْمَازِني عَمَّا سَأَلتنِي عَنهُ، فَقَالَ: الْمَعْنى سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك سبحتك. [18] وَيَقُولُونَ ذهبت إِلَى عِنْده، فيخطئون فِيهِ، لَان عِنْد لَا يدْخل عَلَيْهِ من أدوات الْجَرّ إِلَّا من وَحدهَا، وَلَا يَقع فِي تصاريف الْكَلَام مجروراً إِلَّا بهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قل كل من عِنْد الله} وَإِنَّمَا خصت من بذلك لِأَنَّهَا أم حُرُوف الْجَرّ،

ولأم كل بَاب اخْتِصَاص تمتاز بِهِ وتنفرد بمزيته، كَمَا خصت أَن الْمَكْسُورَة بِدُخُول اللَّام فِي خَبَرهَا وخصت كَانَ بِجَوَاز إِيقَاع الْفِعْل الْمَاضِي خَبرا عَنْهَا، وخصت بَاء الْقسم باستعمالها مَعَ ظُهُور فعل الْقسم، وبدخولها على الِاسْم الْمُضمر، فَأَما قَول الشَّاعِر: (كل عِنْد لَك عِنْدِي ... لَا يُسَاوِي نصف عِنْد) فَإِنَّهُ من ضرورات الشّعْر، كَمَا أجْرى بَعضهم لَيْت وسوف - وهما حرفان - مجْرى الْأَسْمَاء المتمكنة فأعربهما فِي قَوْله: (لَيْت شعري وَأَيْنَ منى لَيْت ... ان ليتا وان سوفا عناء) وَقد تسْتَعْمل عِنْد بعدة معَان، فَتكون بِمَعْنى الحضرة كَقَوْلِك: عِنْدِي زيد،

[19] ويقولون لمن تغير وجهه من الغضب: قد تمغر وجهه بالغين المعجمة، والصواب فيه تمعر بالعين المغفلة.

وَبِمَعْنى الملكة كَقَوْلِك: عِنْدِي مَال، وَبِمَعْنى الحكم كَقَوْلِك: زيد عِنْدِي أفضل من عَمْرو، أَي فِي حكمي، وَبِمَعْنى الْفضل وَالْإِحْسَان كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِخْبَارًا عَن خطاب شُعَيْب لمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام: {فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} أَي من فضلك وإحسانك. [19] وَيَقُولُونَ لمن تغير وَجهه من الْغَضَب: قد تمغر وَجهه بالغين الْمُعْجَمَة، وَالصَّوَاب فِيهِ تمعر بِالْعينِ المغفلة. ذكر ذَلِك ثَعْلَب، وَاسْتشْهدَ عَلَيْهِ بِمَا روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَن الله عز وَجل أَمر جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن يقلب بعض الْمَدَائِن فَقَالَ: يَا رب إِن فِيهَا عَبدك الصَّالح، فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، ابدأ بِهِ فَإِنَّهُ لم يتمعر لي وَجهه قطّ، أَي لم يغْضب لأجلي، فَرَوَاهُ بِالْعينِ الْمُهْملَة، ثمَّ قيد الرِّوَايَة بِأَن غلط من رَوَاهُ بالغين الْمُعْجَمَة، وَنسبَة إِلَى التَّصْحِيف فِي الْكَلِمَة. [20] وَيَقُولُونَ من هَذَا النَّوْع أَيْضا: قد اصفر وَجهه من الْمَرَض، واحمر خَدّه من الخجل. وَعند الْمُحَقِّقين أَنه إِنَّمَا يُقَال: اصفر واحمر ونظائرهما فِي اللَّوْن الْخَالِص، الَّذِي قد تمكن وَاسْتقر وَثَبت وَاسْتمرّ، فَأَما إِذا كَانَ اللَّوْن عارضا لسَبَب يَزُول وَمعنى يحول، فَيُقَال فِيهِ: اصفار واحمار، ليفرق بَين اللَّوْن الثَّابِت واللون الْعَارِض، وعَلى هَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث: فَجعل يحمار مرّة ويصفار أُخْرَى. [21] وَيَقُولُونَ: اجْتمع فلَان مَعَ فلَان، فيوهمون فِيهِ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: اجْتمع فلَان وَفُلَان لِأَن لَفْظَة اجْتمع على وزن افتعل، وَهَذَا النَّوْع من وُجُوه افتعل مثل اخْتصم واقتتل، وَمَا كَانَ أَيْضا على وزن تفَاعل مثل تخاصم وتجادل يَقْتَضِي وُقُوع

الْفِعْل من أَكثر من وَاحِد، فَمَتَى أسْند الْفِعْل مِنْهُ إِلَى أحد الفاعلين لزم أَن يعْطف عَلَيْهِ الآخر بِالْوَاو لَا غير وَإِنَّمَا اخْتصّت الْوَاو بِالدُّخُولِ فِي هَذَا الموطن لِأَن صِيغَة هَذَا الْفِعْل تَقْتَضِي وُقُوع الْفِعْل من اثْنَيْنِ فَصَاعِدا، وَمعنى الْوَاو يدل على الِاشْتِرَاك فِي الْفِعْل أَيْضا، فَلَمَّا تجانسا من هَذَا الْوَجْه، وتناسب مَعْنَاهُمَا فِيهِ، اسْتعْملت الْوَاو خَاصَّة فِي هَذَا الْموضع، وَلم يجز اسْتِعْمَال لَفْظَة مَعَ فِيهِ، لِأَن مَعْنَاهَا المصاحبة وخاصيتها أَن تقع فِي المواطن الَّتِي يجوز أَن يَقع الْفِعْل فِيهَا من وَاحِد، وَالْمرَاد بذكرها الْإِبَانَة عَن المصاحبة الَّتِي لَو لم تذكر لما عرفت، وَقد مثل النحويون فِي الْفرق بَينهَا وَبَين الْوَاو، فَقَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل: جَاءَ زيد وَعَمْرو كَانَ إِخْبَارًا عَن اشتراكهما فِي الْمَجِيء على احْتِمَال أَن يَكُونَا جَاءَا فِي وَقت وَاحِد، أَو سبق أَحدهمَا. فَإِن قَالَ: جَاءَ زيد مَعَ عَمْرو كَانَ إِخْبَارًا عَن مجيئهما متصاحبين، وَبَطل تَجْوِيز الِاحْتِمَالَيْنِ الآخرين، فَذكر لَفْظَة مَعَ هَاهُنَا أَفَادَ إِعْلَام المصاحبة، وَقد اسْتعْملت حَيْثُ يجوز أَن يَقع الْفِعْل فِيهِ من وَاحِد. فَأَما فِي الموطن الَّذِي يَقْتَضِي أَن يكون الْفِعْل فِيهِ لأكْثر من وَاحِد، فَذكرهَا فِيهِ خلف من القَوْل، وَضرب من اللَّغْو وَلذَلِك لم يجز أَن يُقَال: اجْتمع زيد مَعَ عَمْرو، كَمَا لم يجز أَن يُقَال: اصطحب زيد وَعَمْرو مَعًا للاستغناء عَن لَفْظَة مَعَ بِمَا دلّت عَلَيْهِ صِيغَة الْفِعْل. وَنَظِيره امتناعهم أَن يَقُولُوا: اخْتصم الرّجلَانِ كِلَاهُمَا للاستغناء بِلَفْظَة اخْتصم الَّتِي تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي الْخُصُومَة عَن التوكيد لِأَن وضع كلا وكلتا، أَن تؤكد الْمثنى فِي الْموضع الَّذِي يجوز فِيهِ انْفِرَاد أَحدهمَا بِالْفِعْلِ ليتَحَقَّق معنى الْمُشَاركَة، وَذَلِكَ فِي مثل قَوْلك: جَاءَ الرّجلَانِ كِلَاهُمَا لجَوَاز أَن يُقَال: جَاءَ الرجل، فَأَما فِيمَا لَا يكون فِيهِ الْفِعْل لوَاحِد فتوكيد الْمثنى بهما لَغْو. وَمثل ذَلِك أَنهم لَا يؤكدون بِلَفْظَة كل إِلَّا مَا يُمكن فِيهِ التَّبْعِيض، فَلهَذَا أَجَازُوا أَن يُقَال: ذهب المَال كُله لكَون المَال مِمَّا يَتَبَعَّض، وَمنعُوا أَن يُقَال: ذهب زيد كُله لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يتَجَزَّأ، وَفِي مَعَ لُغَتَانِ أفصحهما فتح الْعين مِنْهَا، وَقد نطق بإسكانها، كَمَا قَالَ جرير: (فريشي مِنْكُم وهواي مَعكُمْ ... وَإِن كَانَت زيارتكم لماماً)

[22] ويقولون: لقيتهما اثنيهما مقايسة على قولهم: لقيتهم ثلاثتهم، فيوهمون في الكلام والمقايسة وهمين، ويختل عليهم الفرق بين الكلامين، وذلك أن العرب تقول في الاثنين: لقيتهما من غير أن تفسر الضمير، فإن أرادت أن تخبر عن أفرادهما باللقاء قالت: لقيتهما وحدهما.

[22] وَيَقُولُونَ: لقيتهما اثنيهما مقايسة على قَوْلهم: لقيتهم ثَلَاثَتهمْ، فيوهمون فِي الْكَلَام والمقايسة وهمين، ويختل عَلَيْهِم الْفرق بَين الْكَلَامَيْنِ، وَذَلِكَ أَن الْعَرَب تَقول فِي الِاثْنَيْنِ: لقيتهما من غير أَن تفسر الضَّمِير، فَإِن أَرَادَت أَن تخبر عَن أفرادهما باللقاء قَالَت: لقيتهما وَحدهمَا. وَتقول فِي الْجَمِيع: لقيتهم ثَلَاثَتهمْ ورأيتهم خمستهم وَمَا أشبه ذَلِك، فتفسر الضَّمِير. وَالْفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ أَن الضَّمِير فِي قَوْلك: لقيتهما ضمير مثنى، والمثنى لَا تخْتَلف عدته، وَلَا تَلْتَبِس حَقِيقَته، فاستغنى عَن تَفْسِير يُبينهُ، وَالضَّمِير فِي قَوْلك: لقيتهم ضمير جمع وَالْجمع مُبْهَم غير مَحْصُور الْعدة لاشْتِمَاله على الثَّلَاثَة، وعَلى مَالا يُحْصى كَثْرَة، فَلَو لم يفسره الْمخبر عَنهُ بِمَا يبين عدته، ويزيل الْإِبْهَام عَنهُ لما عرف السَّامع حَقِيقَته، وَلَا علم كميته. وَحكى أَبُو عَليّ الْفَارِسِي أَن مَرْوَان بن سعيد المهلبي سَأَلَ أَبَا الْحسن الْأَخْفَش عَن قَوْله عز وَجل: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} : مَا الْفَائِدَة فِي هَذَا الْخَبَر فَقَالَ: أَفَادَ الْعدَد الْمُجَرّد من الصّفة، وَأَرَادَ مَرْوَان بسؤاله أَن الْألف فِي كَانَتَا تفِيد الاثنتين، فلأي معنى فسر ضمير الْمثنى بالاثنتين، وَنحن نعلم أَنه لَا يجوز أَن يُقَال: فَإِن كَانَتَا ثَلَاثًا، وَلَا أَن يُقَال: فَإِن كَانَتَا خمْسا وَأَرَادَ الْأَخْفَش بقوله أَن الْخَبَر أَفَادَ الْعدَد الْمُجَرّد من الصّفة، أَي قد كَانَ يجوز أَن يُقَال: فَإِن كَانَتَا صغيرتين فَلَهُمَا كَذَا، أَو كبيرتين فَلَهُمَا كَذَا، أَو صالحتين فَلَهُمَا كَذَا، أَو طالحتين فَلَهُمَا كَذَا. فَلَمَّا قَالَ: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} ، أَفَادَ الْخَبَر أَن فرض الثُّلثَيْنِ للأختين تعلق بِمُجَرَّد كَونهمَا اثْنَتَيْنِ على أَيَّة

[23] ويقولون: لعله ندم ولعله قدم، فيلفظون بما يشتمل على المناقضة وينبيء عن المعارضة، ووجه الكلام أن يقال: لعله يفعل أو لعله لا يفعل لأن معنى لعل التوقع لمرجو أو لمخوف، والتوقع إنما يكون لما يتجدد ويتولد لا لما انقضى وتصرم.

صفة كَانَتَا عَلَيْهَا من كبر أَو صغر أَو صَلَاح أَو طلاح أَو غنى أَو فقر، فقد تحصل من الْخَبَر فَائِدَة لم تحصل من ضمير الْمثنى. ولعمري لقد أبدع مَرْوَان فِي استنباط سُؤَاله، وَأحسن أَبُو الْحسن فِي كشف أشكاله. [23] وَيَقُولُونَ: لَعَلَّه نَدم وَلَعَلَّه قدم، فيلفظون بِمَا يشْتَمل على المناقضة وينبيء عَن الْمُعَارضَة، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: لَعَلَّه يفعل أَو لَعَلَّه لَا يفعل لِأَن معنى لَعَلَّ التوقع لمرجو أَو لمخوف، والتوقع إِنَّمَا يكون لما يَتَجَدَّد ويتولد لَا لما انْقَضى وتصرم. فَإِذا قلت: خرج، فقد أخْبرت عَمَّا قضي الْأَمر فِيهِ، واستحال معنى التوقع لَهُ، فَلهَذَا لم يجز دُخُول لَعَلَّ عَلَيْهِ. [24] وَيَقُولُونَ فِي التَّعَجُّب من الألوان والعاهات: مَا ابيض هَذَا الثَّوْب وَمَا اعور هَذَا الْفرس كَمَا يَقُولُونَ فِي التَّرْجِيح بَين اللونين والعورين: زيد أَبيض من عَمْرو، وَهَذَا أَعور من ذَاك، وكل ذَلِك لحن مجمع عَلَيْهِ، وَغلط مَقْطُوع بِهِ، لِأَن الْعَرَب لم تبن فعل التَّعَجُّب إِلَّا من الْفِعْل الثلاثي الَّذِي خصته بذلك لخفته، وَالْغَالِب على أَفعَال الألوان والعيوب الَّتِي يُدْرِكهَا العيان أَن تتجاوز الثلاثي، نَحْو أَبيض وأسود وأعور وأحول وَلِهَذَا لم يجز أَن يبْنى مِنْهَا فعل التَّعَجُّب، فَمن أَرَادَ أَن يتعجب من شَيْء مِنْهَا بنى فعل

التَّعَجُّب من فعل ثلاثي يُطَابق مَقْصُوده من الْمَدْح أَو الذَّم، ثمَّ أَتَى بِمَا يُرِيد أَن يتعجب مِنْهُ كَقَوْلِهِم: مَا أحسن بَيَاض هَذَا الثَّوْب وَمَا أقبح عور هَذَا الْفرس وَحكم أفعل الَّذِي للتفضيل يساوق حكم فعل التَّعَجُّب فِيمَا يجوز فِيهِ وَيمْتَنع مِنْهُ، فَكَمَا لَا يُقَال: مَا أَبيض هَذَا الثَّوْب وَلَا مَا أَعور هَذَا الْفرس لَا يجوز أَن يُقَال: هَذِه أَبيض من تِلْكَ، وَلَا هَذَا أَعور من ذَاك. وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا} ، فَهُوَ هَاهُنَا من عمى الْقلب الَّذِي تتولد الضَّلَالَة مِنْهُ، لَا من عمى الْبَصَر الَّذِي يحجب المرئيات عَنهُ، وَقد صدع بتبيان هَذَا الْعَمى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} . وَقد عيب على أبي الطّيب قَوْله فِي صفة الشيب: (أبعد بَعدت بَيَاضًا لَا بَيَاض لَهُ ... لأَنْت أسود فِي عَيْني من الظُّلم)

[25] ويقولون: امتلأت بطنه، فيؤنثون البطن، وهو مذكر في كلام العرب، بدليل قول الشاعر:

وَمن تَأَول لَهُ فِيهِ جعل أسود هَاهُنَا من قبيل الْوَصْف الْمَحْض الَّذِي تأنيثه سَوْدَاء، وَأخرجه عَن حيّز أفعل الَّذِي للتفضيل وَالتَّرْجِيح بَين الْأَشْيَاء، وَيكون على هَذَا التَّأْوِيل قد تمّ الْكَلَام وكملت الْحجَّة فِي قَوْله: لأَنْت أسود فِي عَيْني وَتَكون من الَّتِي فِي قَوْله: من الظُّلم لتبيين جنس السوَاد لَا أَنَّهَا صلَة أسود، وَمعنى قَوْله: بَيَاضًا لَا بَيَاض لَهُ، أَي مَا لَهُ نور وَلَا عَلَيْهِ طلاوة. وَذكر شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الْفضل بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ رَحمَه الله، أَنَّك إِذا قلت: مَا أسود زيدا، وَمَا أسمر عمرا وَمَا أصفر هَذَا الطَّائِر، وَمَا أَبيض هَذِه الْحَمَامَة، وَمَا أَحْمَر هَذَا الْفرس فَسدتْ كل مَسْأَلَة مِنْهَا من وَجه، وَصحت من وَجه، فتفسد جَمِيعهَا إِذا أردْت بهَا التَّعَجُّب من الألوان، وَتَصِح كلهَا إِذا أردْت بهَا التَّعَجُّب من سؤدد زيد وَمن سمر عَمْرو، وَمن صفير الطَّائِر، وَمن كَثْرَة بيض الْحَمَامَة، وَمن حمر الْفرس، وَهُوَ أَن ينتن فوه من البشم. [25] وَيَقُولُونَ: امْتَلَأت بَطْنه، فيؤنثون الْبَطن، وَهُوَ مُذَكّر فِي كَلَام الْعَرَب، بِدَلِيل قَول الشَّاعِر: (فَإنَّك إِن أَعْطَيْت بَطْنك سؤله ... وفرجك، نالا مُنْتَهى الذَّم أجمعا) وَأما قَول الشَّاعِر: (فَإِن كلابا هَذِه عشر أبطن ... وَأَنت بري من قبائلها الْعشْر) فَإِنَّهُ عني بالبطن الْقَبِيلَة فأنثه على معنى تأنيثها، كَمَا ورد فِي الْقُرْآن: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} ، فأنث الْمثل وَهُوَ مُذَكّر لما كَانَ بِمَعْنى الْحَسَنَة. وَنَظِير

[26] ويقولون: فعلته لإحازة الأجر، والصواب أن يقال: لحيازة الأجر، بدليل أن الفعل المشتق منه حاز، ولو كانت الهمزة أصلا في المصدر لالتحقت بالفعل المشتق منه، كما تلتحق بأراد المشتق من الإرادة، بأصاب المتفرع من الإصابة.

تأنيثهم الْبَطن وَهُوَ مُذَكّر تأنيثهم الْألف أَيْضا فِي الْعدَد. فَيَقُولُونَ: قبضت ألفا تَامَّة، وَالصَّوَاب أَن يذكر فَيُقَال: ألف تَامّ، كَمَا قَالَت الْعَرَب فِي مَعْنَاهُ: ألف صتم وَألف أَقرع، وَالدَّلِيل على تذكير الْألف قَوْله تَعَالَى: {يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف} وَالْهَاء فِي بَاب الْعدَد تلْحق بالمذكر وتحذف من الْمُؤَنَّث، وَأما قَوْلهم: هَذِه ألف دِرْهَم، فَلَا يشْهد ذَلِك بتأنيث الْألف لِأَن الْإِشَارَة وَقعت على الدَّرَاهِم وَهِي مُؤَنّثَة، فَكَانَ تَقْدِير الْكَلَام: هَذِه الدَّرَاهِم ألف. [26] وَيَقُولُونَ: فعلته لإحازة الْأجر، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: لحيازة الْأجر، بِدَلِيل أَن الْفِعْل الْمُشْتَقّ مِنْهُ حَاز، وَلَو كَانَت الْهمزَة أصلا فِي الْمصدر لالتحقت بِالْفِعْلِ الْمُشْتَقّ مِنْهُ، كَمَا تلتحق بأراد الْمُشْتَقّ من الْإِرَادَة، بأصاب المتفرع من الْإِصَابَة. فَلَمَّا قيل فِي الْفِعْل: حَاز، علم أَن مصدره الْحِيَازَة مثل خاط الثَّوْب خياطَة وصاغ الْخَاتم صياغة وحاد عَن الْحَرْب حيادة. وَحكى الْأَصْمَعِي قَالَ: سَأَلت بعض الْأَعْرَاب عَن نَاقَته فَأَنْشد: (كَانَت تقيد حنت تنزل منزلا ... فاليوم صَار لَهَا الكلال قيودا) (لن تَسْتَطِيع عَن الْقَضَاء حيادة ... وَعَن الْمنية أَن تصيب محيدا) (الْقَوْم كالعيدان يفضل بَعضهم ... بَعْضًا كَذَاك يفوق عود عودا)

[27] ويقولون للخبيث الدخلة: ذاعر، بالذال المعجمة، فيحرفون المعنى فيه، لأن الذاعر هو المفزع لاشتقاقه من الذعر، فأما الخبيث الدخلة فهو الداعر، بالدال المهملة لاشتقاقه من الدعارة وهي الخبث، ومنه قول زميل بن أبير لخارجة بن ضرار:

فَأَما قَوْلهم فِي الْمثل: أَسَاءَ سمعا فأساء جابة، فالجابة هَاهُنَا هِيَ الِاسْم، والمصدر الْإِجَابَة، وَهَذَا الْمثل يضْرب لمن يُخطئ سمعا فيسيء الْإِجَابَة، وَأَصله أَنه كَانَ لسهيل بن عَمْرو ابْن مضعوف، فَرَآهُ إِنْسَان مارا فَقَالَ لَهُ: أَيْن أمك يُرِيد أَيْن قصدك فَظن أَنه يسْأَله عَن أمه، فَقَالَ: ذهبت تطحن، فَقَالَ: أَسَاءَ سمعا فأساء جابة. وَنَظِير الجابة فِي كَلَامهم الطَّاقَة وَالطَّاعَة والغارة، ومصادر أفعالها الإطاقة والإطاعة والإغارة. [27] وَيَقُولُونَ للخبيث الدخلة: ذاعر، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، فيحرفون الْمَعْنى فِيهِ، لِأَن الذاعر هُوَ المفزع لاشتقاقه من الذعر، فَأَما الْخَبيث الدخلة فَهُوَ الداعر، بِالدَّال الْمُهْملَة لاشتقاقه من الدعارة وَهِي الْخبث، وَمِنْه قَول زميل بن أبير لخارجة بن ضرار: (أخارج هلا إِذْ سفهت عشيرة ... كَفَفْت لِسَان السوء أَن يتدعرا) أَي هلا حِين سفهت عشيرتك كَفَفْت ألسنتهم عَن التفوه بالسفه والتلفظ بخبائث القذع. وَيُقَال للعود الْكثير الدُّخان: عود داعر ودعر، وَهُوَ يرجع للمعنى الأول، وَمِنْه مَا أنْشدهُ ابْن الْأَعرَابِي فِي أَبْيَات الْمعَانِي: (وَلكُل غرَّة معشر من قومه ... دعر يهجن سَعْيه ويعيب) (لَوْلَا سواهُ لجررت أوصاله ... عرج الضباع وَصد عَنهُ الذيب) وَفسّر قَوْله: لَوْلَا سواهُ أَي إِنَّمَا يكرم لغيره الَّذِي لولاه لقتل حَتَّى يصير طعمة للضباع الَّتِي هِيَ أَضْعَف السبَاع، وَنبهَ بقوله: وَصد عَنهُ الذيب على أَن الذِّئْب يعاف

فريسة غَيره، وَلَا يَأْكُل إِلَّا مَا يفترسه بِنَفسِهِ. وَنَظِير هَذَا التحريف تحريفهم قَول الشَّاعِر: (حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم) (كضرائر الْحَسْنَاء قُلْنَ لوجهها ... حسدا وبغيا إِنَّه لدميم) فينشدونه بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة لتوهمهم أَن اشتقاقه من الذَّم، وَهُوَ بِالدَّال المبهمة لاشتقاقه من الدمامة، وَهِي الْقبْح. وَإِلَى هَذَا نحا الشَّاعِر إِذْ بقباحة الْوَجْه يتعايب الضرائر. ونقيض هَذَا التَّصْحِيف أَنهم يلفظون بِالدَّال المغفلة فِي الزمرد والجرذ والنواجذ، والجرذ، وَهُوَ دَاء يعْتَرض فِي قَوَائِم الدَّابَّة، وَهَذِه الْكَلِمَات الْأَرْبَع هن بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة لَا المبهمة. وَقد ألحق بهَا أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة اسْم سذوم الْمَضْرُوب بِهِ الْمثل فِي جور الحكم. وَمن الْكِنَايَات المستحسنة، والمعاريض المستملحة مَا حُكيَ أَن عجوزاً وقفت على قيس بن سعد فَقَالَت: أَشْكُو إِلَيْك قلَّة الجرذان، فَقَالَ: مَا أحسن هَذِه الْكِنَايَة وَالله لأكثرنّ جرذان بَيْتك، وَأمر لَهَا بأحمال من تمر ودقيق واقط، وزبيب. وَقد نطقت الْعَرَب فِي عدَّة أَلْفَاظ بِالدَّال والذال، فَقَالُوا لمدينة السَّلَام: بغذاذ وبغداد، وللرجل المجرب: منجد ومنجذ وللدواهي: القناذع والقنادع، وللضئيل الحقير الشَّخْص: مذل ومدل، وللعنكبوت: الخذرنق والخدرنق، وللقنفذ: ابْن انقذ وَابْن انقد،

وللحمى: أم ملذم، وَأم ملدم، فَمن أعجمها فاشتقاقه من لذم بِهِ إِذا اعتلق بِهِ، وَمن لم يعجمها فاشتقاقه من اللدم وَهُوَ ضرب الْوَجْه حَتَّى يحمار. وَلما يجذف بِهِ الملاح: المجداف والمجذاف، ولضرب من مَشى الْخَيل: الهيذبي والهيدبي، ولأيام الْحر الْمَعْرُوفَة بوقدات سُهَيْل: المعتذلات والمعتدلات. وَذكر الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ فِي كتاب الطّيب أَن من أَسمَاء الزَّعْفَرَان الجاذي والجادي، وَقَالُوا من الْأَفْعَال: ذففت على الجريح ودففت، أَي أجهزت عَلَيْهِ وخرذلت اللَّحْم وخردلته، أَي قطعته وفرقته، واقذحرّ الرجل واقدحرّ، إِذا غضب وتهيأ للشر، وامذقر الْقَوْم وامدقروا، إِذا تفَرقُوا، واذرعفت الْإِبِل وادرعفت، إِذا ندت، وجذف الطَّائِر وجدف، إِذا أسْرع تَحْرِيك جناحيه فِي طيرانه، وَمَا ذقت عذوفاً وَلَا عدوفاً، أَي مَا ذقت شَيْئا. وَقد قيل فيهمَا: عذافاً وعدافاً، وَقد استدف الشَّيْء واستذف بِمَعْنى اطرد واستتب، إِلَّا أَن عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى الهمذاني نَص فِي أَلْفَاظه على أَنه بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة لاشتقاقه من الذفيف، وَهُوَ السَّرِيع الْحَرَكَة. وَحكى أَبُو الْقَاسِم الْحسن بن بشر الْآمِدِيّ مُصَنف كتاب الموازنة بَين الطائيين، قَالَ: سَأَلت أَبَا بكر بن دُرَيْد عَن الكاغد، فَقَالَ: يُقَال بِالدَّال والذال والظاء الْمُعْجَمَة، وطابق ثَعْلَب عَلَيْهِ. وَيُقَال أَيْضا: جذ الْحَبل وجده، أَي قطعه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {عَطاء غير مجذوذ} . وَيُقَال: شَيْء جَدِيد وجذيذ، أَي مَقْطُوع. وَمن أَبْيَات الْمعَانِي: (أبي حبي سليمى أَن يبيدا ... وَأمسى حبلها خلقا جَدِيدا) أَي مَقْطُوعًا. وَمِمَّا يلتحم بِهَذَا الْفَصْل قَول الراجز: (كَيفَ تراني أذريّ وأدريّ ) فَالْأول بذال مُعْجمَة، لِأَنَّهُ افتعل من ذريت تُرَاب الْمَعْدن، وَالثَّانِي بدال مُبْهمَة، لِأَنَّهُ افتعل من دراه، أَي ختله، فَيَقُولُونَ: كَيفَ تراني أذري التُّرَاب، واختل مَعَ ذَلِك هَذِه

[28] ويقولون: شوشت الأمر وهو مشوش.

الْمَرْأَة بِالنّظرِ إِلَيْهَا إِذا غفلت، وَيُقَال: ذرته الرّيح تَذْرُوهُ وتذريه. [28] وَيَقُولُونَ: شوشت الْأَمر وَهُوَ مشوش. وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: هوشته وَهُوَ مهوش، لِأَنَّهُ من الهوش، وَهُوَ اخْتِلَاط الشَّيْء، وَمِنْه الحَدِيث: إيَّاكُمْ وهوشات الْأَسْوَاق، وَجَاء فِي خبر آخر: من أصَاب مَالا من مهاوش أذهبه الله فِي نهابر، يَعْنِي بالمهاوش التخاليط وبالنهابر المهالك. وَقد روى: من أصَاب مَالا من نهاوش وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ. [29] وَيَقُولُونَ فِي ضمن أدعيتهم لمن يُخَاطب أَو يُكَاتب: بلغك الله الْمَأْثُور، ويعنون بِهِ مَا يؤثره الْمَدْعُو لَهُ، فيوهمون فِيهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ فِي معنى الْمُؤثر وَلَا اشتقاق لَفْظَة مِنْهُ لِأَن الْمَأْثُور هُوَ مَا يأثره اللِّسَان لَا مَا يؤثره الْإِنْسَان، لاشتقاق لَفظه من أثرت الحَدِيث، أَي رويته، لَا من آثرت الشَّيْء، أَي اخترته، وعَلى معنى الرِّوَايَة فسر

[30] ومن أوهامهم أيضا في تغيير صيغة المفاعيل وهو من مفاضح اللحن الشنيع قولهم: قلب متعوب، وعمل مفسود، ورجل مبغوض، ووجه القول أن يقال: قلب متعب، وعمل مفسد، ورجل مبغض، لأن أصول أفعالها رباعية، ومفعول الرباعي يبنى على مفعل فكما يقال: أكرم فهو مكرم وأضرم فهو مضرم، كذلك يقال: أتعب فهو متعب، وأفسد فهو مفسد، وأبغض فهو مبغض، وأخرج فهو مخرج.

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر} ، أَي يرويهِ وَاحِد بعد وَاحِد وينقله مخبر إِلَى مخبر. وَقد يشْتَمل الْخَبَر على المفروح بِهِ والمحزون مِنْهُ، فَلَا يدل معنى الْمَأْثُور على إخلاص الدُّعَاء لمن دَعَا لَهُ بِهِ لتجويز أَن تُؤثر المذمات والمساءات عَنهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَجْعَل صفة للدُّعَاء المحبوب، فَيُقَال: أولاك الله اللطف الْمَأْثُور وَمَا أشبه ذَلِك، فَتَصِير حِينَئِذٍ الدعْوَة دعوتين، والمدعو لَهُ بصدد حسنتين. [30] وَمن أوهامهم أَيْضا فِي تَغْيِير صِيغَة المفاعيل وَهُوَ من مفاضح اللّحن الشنيع قَوْلهم: قلب متعوب، وَعمل مفسود، وَرجل مبغوض، وَوجه القَوْل أَن يُقَال: قلب مُتْعب، وَعمل مُفسد، وَرجل مبغض، لِأَن أصُول أفعالها ربَاعِية، ومفعول الرباعي يبْنى على مفعل فَكَمَا يُقَال: أكْرم فَهُوَ مكرم وأضرم فَهُوَ مضرم، كَذَلِك يُقَال: أتعب فَهُوَ مُتْعب، وأفسد فَهُوَ مُفسد، وَأبْغض فَهُوَ مبغض، وَأخرج فَهُوَ مخرج.

[31] ويقولون: انضاف الشيء إليه وانفسد الأمر عليه، وكلا اللفظين معرة لكاتبه والمتلفظ به إذ لا مساغ له في كلام العرب ولا في مقاييس التصريف.

[31] وَيَقُولُونَ: انضاف الشَّيْء إِلَيْهِ وانفسد الْأَمر عَلَيْهِ، وكلا اللَّفْظَيْنِ معرة لكَاتبه والمتلفظ بِهِ إِذْ لَا مساغ لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب وَلَا فِي مقاييس التصريف. وَوجه القَوْل أَن يُقَال: أضيف الشَّيْء إِلَيْهِ وَفَسَد الْأَمر عَلَيْهِ وَالْعلَّة فِي امْتنَاع انفعل مِنْهُمَا أَن مبْنى فعل المطاوعة المصوغ على انفعل أَن يَأْتِي مُطَاوع الثلاثية المتعدية كَقَوْلِك: سكبته: فانسكب وجذبته فانجذب، وقدته فانقاد، وسقته فانساق، ونظائر ذَلِك، وضاف وَفَسَد، إِذا عديا بِهَمْزَة النَّقْل فَقيل: أضَاف وأفسد صَارا رباعيين فَلهَذَا امْتنع بِنَاء انفعل مِنْهُمَا. فَإِن قيل: نقل عَن الْعَرَب أَلْفَاظ من أَفعَال المطاوعة بنوها من انفعل فَقَالُوا: انزعج، وَانْطَلق، وانقحم، وانحجر، وأصولها أزعج وَأطلق وأقحم وأحجر فَالْجَوَاب عَنهُ أَن هَذِه شذت عَن الْقيَاس المطرد، وَالْأَصْل المنعقد كَمَا شذّ قَوْلهم: انسرب

[32] ويقولون للمأمور بالبر والشم: بر والدك بكسر الباء، وشم يدك بضم الشين.

الشَّيْء الْمَبْنِيّ من سرب، وَهُوَ لَازم والشواذ تقصر على السماع، وَلَا يُقَاس عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاع. [32] وَيَقُولُونَ للْمَأْمُور بِالْبرِّ والشم: بر والدك بِكَسْر الْبَاء، وشم يدك بِضَم الشين. وَالصَّوَاب أَن يفتحا جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا مفتوحان فِي قَوْلك: يبر ويشم، وَعقد هَذَا الْبَاب أَن حَرَكَة أول فعل الْأَمر من جنس حَرَكَة ثَانِي الْفِعْل الْمُضَارع إِذا كَانَ متحركاً فتفتح الْبَاء فِي قَوْلك: بر أَبَاك لانفتاحها فِي قَوْلك يبر، وتضم الْمِيم فِي قَوْلك: مد الْحَبل لانضمامه فِي قَوْلك: يمد، وتكسر الْخَاء فِي قَوْلك خف فِي الْعَمَل لانكسارها فِي قَوْلك: يخف. وَإِنَّمَا اعْتبر بحركة ثَانِيه دون أَوله لِأَن أَوله زَائِد وَالزَّائِد لَا اعْتِبَار بِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يسكن ثَانِي الْفِعْل الْمُضَارع كالضاد من يضْرب، وَالسِّين من يسْتَخْرج، فتجتلب همزَة الْوَصْل لفعل الْأَمر المصوغ مِنْهُ، ليمكن افْتِتَاح النُّطْق بِهِ، كَقَوْلِك: اضْرِب، استخرج، وَهَذَا الحكم مطرد فِي جَمِيع أَمْثِلَة الْأَمر المصوغة من الْأَفْعَال المضارعة وَإِنَّمَا صِيغ مِثَال الْأَمر من الْفِعْل الْمُضَارع دون الْمَاضِي لتماثلهما فِي الدّلَالَة على الزَّمَان الْمُسْتَقْبل، وَأما جنس حَرَكَة آخر الْفِعْل المضعف فِي الْأَمر والجزم كبيت جرير: (فغض الطّرف إِنَّك من نمير ... فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلابا)

[33] ويقولون: فلان أشر من فلان، والصواب أن يقال: هو شر من فلان بغير ألف، كما قال الله تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم} ، وعليه قول الراجز:

فقد جوز كسر الضَّاد من غض لالتقاء الساكنين وَفتحهَا لخفة الفتحة، وَضمّهَا على اتِّبَاع الضمة قبلهَا وَهُوَ أضعفها. [33] وَيَقُولُونَ: فلَان أشر من فلَان، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هُوَ شَرّ من فلَان بِغَيْر ألف، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم} ، وَعَلِيهِ قَول الراجز: (إِن بنيّ لَيْسَ فيهم برّ وأمهم مثلهم أَو شرّ إِذا رأوها نبحتني هرواً) وَفِي الْبَيْت الْأَخير شَاهد على أَن المسموع: نبحته الْكلاب، لَا كَمَا تَقول الْعَامَّة: نبحت عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُقَال: فلَان خير من فلَان بِحَذْف الْهمزَة، لِأَن هَاتين اللفظتين كثر استعمالهما فِي الْكَلَام، فحذفت همزتاهما للتَّخْفِيف، وَلم يلفظوا بهما إِلَّا فِي فعل التَّعَجُّب خَاصَّة، كَمَا صححوا فِيهِ المعتل فَقَالُوا: مَا أخير زيدا وَمَا اشر عمرا، كَمَا قَالُوا: مَا أَقُول زيدا وَكَذَلِكَ أَثْبَتَت الْهمزَة فِي لفظ الْأَمر فَقَالُوا: أخير بزيد، وأشرر بِعَمْرو، كَمَا قَالُوا: أَقُول بِهِ، وَالْعلَّة فِي إِثْبَاتهَا فِي فعلي التَّعَجُّب وَالْأَمر أَن اسْتِعْمَال هَاتين اللفظتين اسْما أَكثر من استعمالهما فعلا، فحذفت فِي مَوضِع الْكَثْرَة، وَبقيت على أَصْلهَا فِي مَوضِع الْقلَّة، فَأَما قِرَاءَة أبي قلَابَة: {سيعلمون غَدا من الْكذَّاب الأشر} ،

[34] ويقولون: هبت الارياح، مقايسة على قولهم: رياح وهو خطأ بين ووهم مستهجن، والصواب أن يقال: هبت الأرواح، كما قال ذو الرمة:

فقد لحن فِيهَا وَلم يطابقه أحد عَلَيْهَا. [34] وَيَقُولُونَ: هبت الارياح، مقايسة على قَوْلهم: ريَاح وَهُوَ خطأ بَين وَوهم مستهجن، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هبت الْأَرْوَاح، كَمَا قَالَ ذُو الرمة: (إِذا هبت الارواح من نَحْو جَانب ... بِهِ أهل ميّ هاج قلبِي هبوبها) (هوى تذرف العينان مِنْهُ وَإِنَّمَا ... هوى كل نفس حَيْثُ كَانَ حبيبها) وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن أصل ريح روح لاشتقاقها من الرّوح، وَإِنَّمَا أبدلت الْوَاو يَاء فِي ريح للكسرة الَّتِي قبلهَا، فَإِذا جمعت على أَرْوَاح فقد سكن مَا قبل الْوَاو، وزالت الْعلَّة الَّتِي توجب قَلبهَا يَاء فَلهَذَا وَجب أَن تُعَاد إِلَى أَصْلهَا، كَمَا أُعِيدَت لهَذَا السَّبَب فِي التصغير فَقيل: رويحة. وَنَظِير قَوْلهم: ريح وأرواح قَوْلهم فِي جمع ثوب وحوض: ثِيَاب وحياض، فَإِذا جمعوها على أَفعَال قَالُوا: أَثوَاب وأحواض.

[35] ويقولون: باقلاء مدود، وطعام مسوس، وخبر مكرج، ومتاع مقارب، ورجل موسوس.

فَإِن قيل: فَلم جمع عيد على أعياد وَأَصله الْوَاو بِدلَالَة اشتقاقه من عَاد يعود فَالْجَوَاب عَنهُ أَن يُقَال: أَنهم فعلوا ذَلِك لِئَلَّا يلتبس جمع عيد بِجمع عود، كَمَا قَالُوا: هُوَ أليط بقلبي مِنْك، وَأَصله من الْوَاو ليفرقوا بَينه وَبَين قَوْلهم: هُوَ ألوط من فلَان. وكما قَالُوا أَيْضا: هُوَ نشيان للْخَبَر ليفرقوا بَينه وَبَين نشوان من السكر. وَمِمَّا يعضد أَن جمع ريح على أَرْوَاح مَا رُوِيَ أَن مَيْسُونُ بنت بَحْدَل لما اتَّصَلت بِمُعَاوِيَة، ونقلها من البدو إِلَى الشأم كَانَت تكْثر الحنين إِلَى أناسها والتذكر لمسقط رَأسهَا، فاستمع إِلَيْهَا ذَات يَوْم وَهِي تنشد: (لبيت تخفق الْأَرْوَاح فِيهِ ... أحب إليّ من قصر منيف) (وَلبس عباءة وتقر عَيْني ... أحب إليّ من لبس الشفوف) (وَأكل كسيرة فِي كسر بَيْتِي ... أحب إِلَيّ من أكل الرَّغِيف) (وأصوات الرِّيَاح بِكُل فج ... أحب إليّ من نقر الدفوف) (وكلب ينبح الطراق دوني ... أحب إليّ من قطّ أُلُوف) (وَبكر يتبع الأظعان صَعب ... أحب إليّ من بغل زفوف) (وخرق من بني عمي نجيف ... أحب إِلَيّ من علج عليف) فَلَمَّا سمع مُعَاوِيَة الأبيات قَالَ لَهَا: مَا رضيت ابْنة بَحْدَل حَتَّى جَعَلتني علجا عليفا. [35] وَيَقُولُونَ: باقلاء مدود، وَطَعَام مسوس، وَخبر مكرج، ومتاع مقارب، وَرجل موسوس. فيفتحون مَا قبل الْحَرْف الْأَخير من كل كلمة، وَالصَّوَاب كَسره،

فَيُقَال: طَعَام مسوس وَرجل موسوس ونظائرهما. وَيُقَال فِي فعل من المدود: قد داد وأداد ودود وديد. وَمن هَذَا النَّوْع قَوْلهم للبسرة إِذا بدا الأرطاب فِي أَسْفَلهَا: مذنبة بِفَتْح النُّون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا مذنبة بِكَسْر النُّون. ويحكى أَن الرشيد رَحمَه الله لما جمع بَين أبي الْحسن الْكسَائي وَأبي مُحَمَّد اليزيدي ليتناظرا عِنْده، علم اليزيدي أَنه يقصر عَنهُ فِي النَّحْو فَابْتَدَرَهُ وَقَالَ: كَيفَ تَقول: تَمْرَة مذنّبة أَو مذنبّة فَلم يأبه الْكسَائي لقَوْله: بل ظن أَنه قَالَ: بسرة، فَقَالَ: أَقُول مذنبة، فَقَالَ لَهُ: إِذا كَانَ مَاذَا قَالَ: إِذا بدا الأرطاب من أَسْفَلهَا. فَضرب اليزيدي بقلنسوته الأَرْض، وَقَالَ: أَنا أَبُو مُحَمَّد اليزيدي وَقد أَخْطَأت يَا شيخ، التمرة لَا تذنب وَإِنَّمَا البسرة تذنب، فَغَضب عَلَيْهِ الرشيد، وَقَالَ: أتكتني بمجلسي وتسفه على الشَّيْخ وَالله إِن

[36] ويقولون: فعل الغير ذلك، فيدخلون على غير آلة التعريف، والمحققون من النحويين يمنعون من إدخال الألف واللام عليه، لأن المقصود في إدخال آلة التعريف على الاسم النكرة أن تخصصه بشخص بعينه، فإذا قيل: الغير، اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى كثرة، ولم يتعرف بآلة التعريف، كما أنه لا يتعرف بالإضافة، فلم يكن لإدخال الألف واللام عليه فائدة، ولهذا السبب لم تدخل الألف واللام على المشاهير من المعارف مثل دجلة وعرفة وذكاء ومحوة لوضوح اشتهارها والاكتفاء عن تعريفها بعرفان ذواتها.

خطأ الْكسَائي وَحسن أدبه أحب إِلَيّ من صوابك مَعَ قبح أدبك، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ، فَأمر بِإِخْرَاجِهِ. قَالَ الْمُؤلف: وَلَيْسَ سَهْو الْكسَائي فِيمَا أزلقه فِيهِ اليزيدي مِمَّا يقْدَح فِي فَضله، أَو يُنبئ عَن قُصُور علمه، إِذْ لَا خَفَاء باشتمال علمه، على أَن البسرة إِذا ارطبت من قبل ذنبها قيل لَهَا: مذنبة، فَإِذا بلغ الارطاب نصفهَا قيل لَهَا مجزعة، فَإِذا بلغ تلثيها الإرطاب قيل لَهَا: حلقانة ومحلقنة، وَإِذا أرطبت جَمِيعهَا قيل لَهَا: معوة. [36] وَيَقُولُونَ: فعل الْغَيْر ذَلِك، فَيدْخلُونَ على غير آلَة التَّعْرِيف، والمحققون من النَّحْوِيين يمْنَعُونَ من إِدْخَال الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، لِأَن الْمَقْصُود فِي إِدْخَال آلَة التَّعْرِيف على الِاسْم النكرَة أَن تخصصه بشخص بِعَيْنِه، فَإِذا قيل: الْغَيْر، اشْتَمَلت هَذِه اللَّفْظَة على مَا لَا يُحْصى كَثْرَة، وَلم يتعرف بِآلَة التَّعْرِيف، كَمَا أَنه لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، فَلم يكن لإدخال الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ فَائِدَة، وَلِهَذَا السَّبَب لم تدخل الْألف وَاللَّام على الْمَشَاهِير من المعارف مثل دجلة وعرفة وذكاء ومحوة لوضوح اشتهارها والاكتفاء عَن تَعْرِيفهَا بعرفان ذواتها.

وَنَظِير هَذَا الْوَهم قَوْلهم: حضرت الكافة، فيوهمون فِيهِ أَيْضا على مَا حَكَاهُ ثَعْلَب فِيمَا فسره من مَعَاني الْقُرْآن، كَمَا وهم القَاضِي أَبُو بكر بن قريعة حِين استثبت عَن شَيْء حَكَاهُ، فَقَالَ: هَذَا ترويه الكافة عَن الكافة والحافة عَن الحافة، والصافة عَن الصافة، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: حضر النَّاس كَافَّة، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة} لِأَن الْعَرَب لم تلْحق لَام التَّعْرِيف بكافة كَمَا لم تلحقها بِلَفْظَة مَعًا وَلَا بِلَفْظَة طرا. وَمن حكم لَفْظَة كَافَّة أَن تَأتي متعقبة، فَأَما تصديرها فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} فَقيل: أَنه مِمَّا قدم لَفظه وَآخر مَعْنَاهُ وَأَن تَقْدِير الْكَلَام: وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا جَامعا بالإنذار، والبشارة للنَّاس كَافَّة، كَمَا حمل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وغرابيب سود} على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، لِأَن الْعَرَب تقدم فِي هَذَا النَّوْع لفظ الْأَشْهر على الأغرب، كَقَوْلِهِم: أَبيض يقق، وأصفر فَاقِع، وأسود حالك. وَقيل أَن كَافَّة فِي الْآيَة بِمَعْنى كَاف، وإلحاق الْهَاء بِهِ للْمُبَالَغَة كالهاء فِي عَلامَة ونسابة. وَمن أوهامهم مِمَّا يدْخلُونَ عَلَيْهِ لَام التَّعْرِيف وَالْوَجْه تنكيره قَوْلهم: فعل ذَلِك من

[37] ويقولون: هذه كبرى وتلك صغرى، فيستعملونهما نكرتين، وهما من قبيل ما لم تنكره العرب بحال، ولا نطقت به إلا معرفا حيثما وقعا في الكلام، والصواب أن يقال فيهما: هذه الكبرى وتلك الصغرى، أو هذه كبرى اللآليء وتلك صغرى الجواري كما ورد في الأثر: إذا اجتمعت الحرمتان طرحت الصغرى للكبرى أي إذا اجتمع أمران في أحدهما مصلحة تخص وفي الآخر مصلحة تعم، قدم الذي تعم مصلحته على الذي تخص منفعته.

الرَّأْس لِأَن الْعَرَب تَقول: فعله من راس، من غير أَن تلْحق بِهِ الْألف وَاللَّام. [37] وَيَقُولُونَ: هَذِه كبرى وَتلك صغرى، فيستعملونهما نكرتين، وهما من قبيل مَا لم تنكره الْعَرَب بِحَال، وَلَا نطقت بِهِ إِلَّا مُعَرفا حَيْثُمَا وَقعا فِي الْكَلَام، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فيهمَا: هَذِه الْكُبْرَى وَتلك الصُّغْرَى، أَو هَذِه كبرى اللآليء وَتلك صغرى الْجَوَارِي كَمَا ورد فِي الْأَثر: إِذا اجْتمعت الحرمتان طرحت الصُّغْرَى للكبرى أَي إِذا اجْتمع أَمْرَانِ فِي أَحدهمَا مصلحَة تخص وَفِي الآخر مصلحَة تعم، قدم الَّذِي تعم مصْلحَته على الَّذِي تخص منفعَته. وَذكر شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم بن الْفضل النَّحْوِيّ رَحمَه الله أَن فعلى بِضَم الْفَاء تَنْقَسِم إِلَى خَمْسَة أَقسَام: أَحدهَا: أَن تَأتي اسْما علما نَحْو حزوي. وَالثَّانِي: أَن تَأتي مصدرا نَحْو رَجْعِيّ. وَالثَّالِث أَن تَأتي اسْم جنس مثل بهمى، وَهُوَ نبت. وَالرَّابِع: أَن تَأتي تَأْنِيث أفعل نَحْو الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى.

وَالْخَامِس: أَن تَأتي صفة مَحْضَة لَيست بتأنيث أفعل نَحْو حُبْلَى، وَمن هَذَا الْقسم قَوْله تَعَالَى: {قسْمَة ضيزى} لِأَن الأَصْل فِيهَا ضِوزى، وَإِذا كَانَت لتأنيث أفعل تعاقب عَلَيْهَا لَام التَّعْرِيف وَالْإِضَافَة وَلم يجز أَن تعرى من أَحدهمَا، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وطولى القصائد وصغرى الأراجيز، قَالَ: وَلم يشذ من ذَلِك إِلَّا دنيا وَأُخْرَى، فَإِنَّهُمَا لِكَثْرَة مجالهما فِي الْكَلَام ومدارهما فِيهِ، استعملتا نكرتين، كَمَا قَالَت خرقَة بنت النُّعْمَان: (فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم نعيمها ... تنقل تارات بِنَا وَتصرف) وَأما طُوبَى فِي قَوْلهم: طُوبَى لَك وجلي فِي قَول النَّهْشَلِي: (وَإِن دَعَوْت إِلَى جلى ومكرمة ... يَوْمًا سراة كرام النَّاس فادعينا) فانهما مصدران كالرجعى. وفعلى المصدرية لَا يلْزم تَعْرِيفهَا، وَأما طُوبَى فِي قَوْله تَعَالَى: {طُوبَى لَهُم وَحسن مآب} فَقيل: إنَّهُمَا من أَسمَاء الْجنَّة، وَقيل: بل هِيَ شَجَرَة

[38] ويقولون لمن أخذ يمينا في سعيه: قد تيامن ولمن أخذ شمالا: قد

تظل الْجنان كلهَا. وَقيل: بل هِيَ مصدر مُشْتَقّ من الطّيب. وعَلى اخْتِلَاف هَذَا التَّفْسِير لَا تحْتَاج إِلَى التَّعْرِيف. وَقد عيب على أبي نواس قَوْله: (كَأَن كبرى وصغرى من فواقعها ... حَصْبَاء در على أَرض من الذَّهَب) وَمن تَأَول لَهُ فِيهِ قَالَ: جعل من فِي الْبَيْت زَائِدَة، على مَا أجَازه أَبُو الْحسن الْأَخْفَش من زيادتها فِي الْكَلَام الْوَاجِب وَأول عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {من جبال فِيهَا من برد} وَقَالَ: تَقْدِيره فِيهَا برد. وَقد اتّفق بِحَضْرَة الْمَأْمُون تَحْقِيق هَذَا التَّشْبِيه الْمُودع بَيت أبي نواس على وَجه الْمجَاز وَذَاكَ أَنه حِين بنى على بوران بنت الْحسن بن سهل، فرش لَهُ حَصِير منسوج بِالذَّهَب، ثمَّ نثر على قَدَمَيْهِ لآلئ كَثِيرَة، فَلَمَّا رأى تساقط اللالئ الْمُخْتَلفَة على الْحَصِير النسيج، قَالَ: قَاتل الله أَبَا نواس كَأَنَّهُ شَاهد هَذِه الْحَال حَتَّى شبه بهاحباب كأسه، وَأنْشد الْبَيْت المستطرد بِهِ. ويضاهي هَذِه الْحِكَايَة فِي طرفَة اتفاقها وملحة مساقها مَا حكى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان حِين أزمع النهود إِلَى محاربة مُصعب بن الزبير ناشدته عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة أَلا يخرج بِنَفسِهِ، وَأَن يَسْتَنِيب غَيره فِي حربه، وَلم تزل تلج عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة وَهُوَ يمْتَنع من الْإِجَابَة، فَلَمَّا يئست مِنْهُ أخذت فِي بكائهاحتى أعول حشمها لاعوالها، فَقَالَ عبد الْملك: قَاتل الله ابْن أبي جُمُعَة - يَعْنِي كثيرا - كَأَنَّهُ رأى موقفنا هَذَا حِين قَالَ: (إِذا مَا أَرَادَ الْغَزْو لم يثن عزمه ... حصان عَلَيْهَا نظم در يزينها) (نهته فَلَمَّا لم تَرَ النهى عاقه ... بَكت فَبكى مِمَّا شَجَّاهَا قطينها) ثمَّ عزم عَلَيْهَا أَن تقصر، وَخرج. [38] وَيَقُولُونَ لمن أَخذ يَمِينا فِي سَعْيه: قد تيامن وَلمن أَخذ شمالا: قد

[39] ويقولون: هو مشؤم، والصواب أن يقال: مشؤوم بالهمز، وقد شئم إذا صار مشؤوما، وشأم أصحابه إذا مسهم شؤم من قبله، كما يقال في نقيضه يمن، إذا صار ميمونا، ويمن أصحابه إذا أصابهم يمنه.

تشاءم، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فيهمَا: يامن وشاءم، وَأَن يُقَال للمسترشد: يامن يَا هَذَا وشائم، أَي خُذ يَمِينا وَشمَالًا، فَأَما معنى تيامن وتشاءم فَأن يَأْخُذ نَحْو الْيمن والشأم، فَإِذا أتاهما قيل: أَيمن وأشأم، كَمَا يُقَال: انجد واتهم، إِذا أَتَى نجداً وتهامة، وَقد يُقَال فِي معنى آخر: تيمن الرجل إِذا توسد يَمِينه. ويكنى بِهِ أَيْضا عَمَّن مَاتَ لِأَنَّهُ إِذا مَاتَ اضجع على يَمِينه، وَمِنْه مَا أنْشدهُ ثَعْلَب فِي مَعَانِيه: (إِذا الْمَرْء علبى ثمَّ أصبح جلده ... كرحض غسيل فالتيمن أروح) وَمعنى علبى تشنجت علباؤه. وَهِي الْعصبَة فِي الْعُنُق، وَأَرَادَ هَذَا الشَّاعِر أَنه إِذا انْتهى فِي الْهَرم إِلَى هَذَا الْحَد فالموت أروح لَهُ. [39] وَيَقُولُونَ: هُوَ مشؤم، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مشؤوم بِالْهَمْز، وَقد شئم إِذا صَار مشؤوما، وشأم أَصْحَابه إِذا مسهم شُؤْم من قبله، كَمَا يُقَال فِي نقيضه يمن، إِذا صَار ميموناً، ويمن أَصْحَابه إِذا أَصَابَهُم يمنه. واشتقاق الشؤم من الشأمة وَهِي الشمَال، وَذَاكَ أَن الْعَرَب تنْسب الْخَيْر إِلَى الْيَمين وَالشَّر إِلَى الشمَال، وَلِهَذَا تخْتَار أَن تُعْطى بِيَمِينِهَا وتمنع بشمالها، وَعَلِيهِ فسر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} ، أَي تصدوننا

عَن فعل الْخَيْر وتحولون بَيْننَا وَبَينه. وَمن كَلَام الْعَرَب فلَان عِنْدِي بِالْيَمِينِ، أَي بالمنزلة الْحَسَنَة، وَفُلَان عِنْدِي بالشمال أَي بالمنزلة الدنية. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ الشَّاعِر بقوله: (أبيني أَفِي يمنى يَديك جَعَلتني ... فَأَفْرَح أم صيرتني فِي شمالك) وَقيل: أَرَادَ بِهِ: أجعلتني مقدما عنْدك أم مُؤَخرا، لآن عَادَة الْعَرَب فِي الْعدَد أَن تبدأ بِالْيَمِينِ، فَإِذا أكملت عدَّة الْخَمْسَة وثنت عَلَيْهَا الْخمس من الْيَمين نقلت الْعدَد إِلَى الشمَال. وَمِمَّا يكنى عَنهُ بالشمال قَوْلهم للمنهزم: نظر عَن شِمَاله، وَمِنْه قَول الحطيئة: (وفتيان صدق من عديّ عَلَيْهِم ... صَفَائِح بصرى علقت بالعواتق) (إِذا فزعوا لم ينْظرُوا عَن شمالهم ... وَلم يمسكوا فَوق الْقُلُوب الخوافق) (وَقَامُوا إِلَى الجرد الْجِيَاد فألجموا ... وشدوا على أوساطهم بالمناطق) وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيل أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة، فَقيل: كنى بالفريقين عَن أهل السَّعَادَة وَأهل الشقاوة، وَقيل: بل المُرَاد بأصحاب الميمنة المسلوك بهم يمنة إِلَى الْجنَّة، وبأصحاب المشأمة المسلوك بهم شأمة إِلَى النَّار. وَقيل: أَن أَصْحَاب

[40] ويقولون: اتخذت سردابا بعشر درج، فيفتحون السين من سرداب، وهي مكسورة في كلام العرب، كما يقال: شمراخ وسربال وقنطار وشملال، وما أشبه ذلك مما جاء على فعلال بكسر الفاء.

الميمنة هم الميامين على أنفسهم، وَأَصْحَاب المشأمة هم المشائيم عَلَيْهَا. والمشائيم جمع مشؤوم، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (مشائيم لَيْسُوا مصلحين عشيرة ... وَلَا ناعب إِلَّا ببين غرابها) وللنحويين كَلَام فِي جر ناعب، وخلاصته أَن الشَّاعِر توهم دُخُول الْبَاء فِي مصلحين، ثمَّ عطف عَلَيْهِ، كَمَا أَخذ زُهَيْر بِمثل ذَلِك فِي قَوْله: (بدا لي أَنِّي لست مدرك مَا مضى ... وَلَا سَابق شَيْئا إِذا كَانَ جائياً) فجرّ لَفْظَة سَابق لتوهمه دُخُول الْبَاء فِي مدرك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ. [40] وَيَقُولُونَ: اتَّخذت سرداباً بِعشر درج، فيفتحون السِّين من سرداب، وَهِي مَكْسُورَة فِي كَلَام الْعَرَب، كَمَا يُقَال: شِمْرَاخ وسربال وقنطار وشملال، وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا جَاءَ على فعلال بِكَسْر الْفَاء. ثمَّ أَن الْعَرَب فرقت بَين مَا يرتقى فِيهِ وَمَا يحدر

[41] ويقولون في الاستخبار: كم عبيدا لك مقايسة على ما يقال في الخبر: كم عبيد لك فيوهمون فيه، إذ الصواب أن يوحد المستخبر عنه بكم، فيقال: كم عبدا لك، لأن كم لما وضعت للعدد المبهم أعطيت حكم نوعي العدد، فجر الاسم الواقع بعدها في الخبر تشبيها بالعدد المجرور في الإضافة، ونصب في الاستفهام تشبيها بالعدد المصنوب على التمييز، فلهذه العلة جاز أن يقع بعد كم الخبرية الواحد والجمع، كما يقال: ثلاثة عبيد وألف عبد، ولزم في الاستفهامية أن يقع بعدها الواحد كما يقع بعد أحد عشر إلى تسعة وتسعين، وامتنع أن يقع بعدها الجمع لأن العدد بعدها منصوب على التمييز والمميز بعد المقادير لا يكون جمعا.

مِنْهُ، فَسَمت مَا يرتقي فِيهِ إِلَى الْعُلُوّ درجاً وَمَا يتحدر فِيهِ إِلَى السّفل دركا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أَن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَجَاء فِي الْآثَار: أَن الْجنَّة دَرَجَات وَالنَّار دركات. [41] وَيَقُولُونَ فِي الاستخبار: كم عبيدا لَك مقايسة على مَا يُقَال فِي الْخَبَر: كم عبيد لَك فيوهمون فِيهِ، إِذْ الصَّوَاب أَن يوحد المستخبر عَنهُ بكم، فَيُقَال: كم عبدا لَك، لِأَن كم لما وضعت للعدد الْمُبْهم أَعْطَيْت حكم نَوْعي الْعدَد، فجر الِاسْم الْوَاقِع بعْدهَا فِي الْخَبَر تَشْبِيها بِالْعدَدِ الْمَجْرُور فِي الْإِضَافَة، وَنصب فِي الِاسْتِفْهَام تَشْبِيها بِالْعدَدِ المصنوب على التَّمْيِيز، فلهذه الْعلَّة جَازَ أَن يَقع بعد كم الخبرية الْوَاحِد وَالْجمع، كَمَا يُقَال: ثَلَاثَة عبيد وَألف عبد، وَلزِمَ فِي الاستفهامية أَن يَقع بعْدهَا الْوَاحِد كَمَا يَقع بعد أحد عشر إِلَى تِسْعَة وَتِسْعين، وَامْتنع أَن يَقع بعْدهَا الْجمع لِأَن الْعدَد بعْدهَا مَنْصُوب على التَّمْيِيز والمميز بعد الْمَقَادِير لَا يكون جمعا. [42] وَيَقُولُونَ فِي جمع أَرض أراض فيخطئون فِيهِ لِأَن الأَرْض ثلاثية والثلاثي لَا يجمع على أفَاعِل، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِي جمعهَا: أرضون بِفَتْح الرَّاء، وَذَلِكَ أَن الْهَاء

مقدرَة فِي أَرض فَكَانَ أَصْلهَا أرضة، وَإِن لم ينْطق بهَا، وَلأَجل تَقْدِير هَذِه الْهَاء جمعت بِالْوَاو وَالنُّون على وَجه التعويض لَهَا عَمَّا حذف مِنْهَا، كَمَا قيل فِي جمع عضة: عضون، وَفِي جمع عزة: عزون، وَفتحت الرَّاء فِي الْجمع لتؤذن الفتحة بِأَن أصل جمعهَا أرضات، كَمَا يُقَال: نَخْلَة ونخلات. وَقيل: بل فتحت ليدخلها ضرب منع التَّغْيِير كَمَا كسرت السِّين فِي جمع سنة، فَقيل: سنُون. وَهَذَا الْجمع الَّذِي بِالْوَاو وَالنُّون وضع فِي الأَصْل لمن يعقل من الذُّكُور، إِلَّا أَنه قد جمع عَلَيْهِ عدَّة من الْأَسْمَاء الْمَحْذُوف مِنْهَا على وَجه جبرها والتعويض لَهَا، فَقَالُوا: سنة وسنون وَعشرَة وَعِشْرُونَ وثبة وثبون وكرة وكرون وعضة وعضون، وَفِي الْقُرْآن: {الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين} . وَقد اخْتلف فِي الْمَحْذُوف، فَقيل أَنه الْهَاء لاشتقاقه من العضيهة وَهُوَ الْبُهْتَان، وَقيل: بل الْوَاو لاشتقاقه من التعضية الَّتِي هِيَ بِمَعْنى التجزئة، أَي عضوا الْقُرْآن أَعْضَاء فآمنوا مِنْهُ بِبَعْض وَكَفرُوا بِبَعْض، ونسبوا بعضه إِلَى سحر وَبَعضه إِلَى شعر.

[43] ويقولون: قد حدث أمر، فيضمون الدال من حدث مقايسة على ضمها في قولهم: أخذه ما حدث وما قدم، فيحرفون بنية الكلمة المقولة ويخطئون في المقايسة المعقولة، لأن أصل بنية هذه الكلمة حدث على وزن فعل، فتح العين، كما أنشدني بعض أدباء خراسان لأبي الفتح البستي:

[43] وَيَقُولُونَ: قد حدث أَمر، فيضمون الدَّال من حدث مقايسة على ضمهَا فِي قَوْلهم: أَخذه مَا حدث وَمَا قدم، فيحرفون بنية الْكَلِمَة المقولة ويخطئون فِي المقايسة المعقولة، لِأَن أصل بنية هَذِه الْكَلِمَة حدث على وزن فعل، فتح الْعين، كَمَا أَنْشدني بعض أدباء خُرَاسَان لأبي الْفَتْح البستي: (جزعت من أَمر فظيع قد حدث أَبُو تَمِيم وَهُوَ شيخ لَا حدث قد حبس الأصلع فِي بَيت الْحَدث) وَإِنَّمَا ضمت الدَّال من حدث حِين قرن بقدم لأجل الْمُجَاورَة والمحافظة على الموازنة، فَإِذا أفردت لَفْظَة حدث زَالَ السَّبَب الَّذِي أوجب ضم دالها فِي الازدواج، وَوَجَب أَن ترد إِلَى أصل حركتها وأولية صيغتها. وَقد نطقت الْعَرَب بعدة أَلْفَاظ غيرت مبانيها لأجل الازدواج وأعادتها إِلَى أُصُولهَا عِنْد الِانْفِرَاد فَقَالُوا: الغدايا والعشايا إِذا قرنوا بَينهمَا، فَإِن أفردوا الغدايا ردوهَا إِلَى أَصْلهَا فَقَالُوا: الغدوات. وَقَالُوا: هنأني الشَّيْء ومرأني، فَإِن أفردوا مرأني قَالُوا: أمرأني. وَقَالُوا: فعلت بِهِ مَا سَاءَهُ وناءه، فَإِن أفردوا قَالُوا: أناءه، وَقَالُوا أَيْضا: هُوَ رِجْس نجس، فَإِن أفردوا لَفْظَة نجس ردوهَا إِلَى أَصْلهَا فَقَالُوا: نجس، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} . وَكَذَلِكَ قَالُوا للشجاع الَّذِي لَا يزايل مَكَانَهُ: اهيس الْيَسْ، وَالْأَصْل فِي الاهيس الاهوس لاشتقاقه من

[44] ويقولون: هم عشرون نفرا وثلاثون نفرا، فيوهمون فيه لأن النفر إنما

هاس يهوس، إِذا دق فعدلوا بِهِ إِلَى الْيَاء ليُوَافق لَفْظَة الْيَسْ. وَقد نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلْفَاظ رَاعى فِيهَا حكم الموازنة وتعديل الْمُقَارنَة، فَروِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ للنِّسَاء المتبرزات فِي الْعِيد: ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات. وَقَالَ فِي عوذته لِلْحسنِ وَالْحُسَيْن كرم الله وجههما: أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وهامه وَمن كل عين لامه، وَالْأَصْل فِي مَأْزُورَات، موزورات لاشتقاقها من الْوزر، كَمَا أَن الأَصْل فِي لَامة ملمة لِأَنَّهَا فَاعل من ألمت إِلَّا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد أَن يعادل بِلَفْظ مَأْزُورَات لفظ مَأْجُورَات، وَأَن يوازن بِلَفْظ لَامة لفظتي تَامَّة وهَامة. وَمثله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: من حفنا أَو رفنا فليقتصد أَي من خدمنا أَو أطعمنَا، وَكَانَ الأَصْل اتحفنا فأتبع حفنا رفنا. ويروى فِي قضايا عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قضى فِي القارصة والقامصة والواقصة بِالدِّيَةِ اثلاثا وَتَفْسِيره أَن ثَلَاث جوَار ركبت إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى، فقرصت الثَّالِثَة المركوبة فقمصت، فَسَقَطت الراكبة ووقصت، فقضي للَّتِي وقصت، أَي اندق عُنُقهَا بِثُلثي الدِّيَة على صاحبتيها، وَأسْقط الثُّلُث باشتراك فعلهَا فِيمَا أفْضى إِلَى وقصها، والواقصة هَاهُنَا، بِمَعْنى الموقوصة، وَأنْشد الْفراء فِي هَذَا النَّوْع: (هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخلط بالجد مِنْهُ الْبر واللينا) فَجمع الْبَاب على أبوبة ليزاوج لَفْظَة أخبية. [44] وَيَقُولُونَ: هم عشرُون نَفرا وَثَلَاثُونَ نَفرا، فيوهمون فِيهِ لِأَن النَّفر إِنَّمَا

يَقع على الثَّلَاثَة من الرِّجَال إِلَى الْعشْرَة، فَيُقَال: هم ثَلَاثَة نفر، وَهَؤُلَاء عشرَة نفر، وَلم يسمع عَن الْعَرَب اسْتِعْمَال النَّفر فِيمَا جَاوز الْعشْرَة بِحَال. وَمن كَلَامهم فِي الدُّعَاء الَّذِي لَا يُرَاد وُقُوعه بِمن قصد بِهِ: (لَا عدّ من نفره ) كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فَهُوَ لَا تنمى رميته ... مَا لَهُ لَا عدّ من نفره) فَظَاهر كَلَامه أَنه دَعَا عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ الَّذِي بِهِ يخرج عَن أَن يعد من قومه، ومخرج هَذَا القَوْل مخرج الْمَدْح لَهُ والإعجاب بِمَا بدا مِنْهُ لِأَنَّهُ وَصفه بسداد الرماية وإصماء الرَّمية، وَهُوَ معنى قَوْله: لَا تنمي رميته لأَنهم قَالُوا فِي الصَّيْد: رَمَاه فأصماه، إِذا قَتله مَكَانَهُ، ورماه فأنماه، إِذا غَابَ عَن عَيْنَيْهِ ثمَّ وجده مَيتا. وَفِي الحَدِيث: إِن رجلا أَتَاهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي أرمي الصَّيْد فأصمى وأنمى، فَقَالَ لَهُ: مَا أصميت فَكل، وَمَا أنميت فَلَا تَأْكُل، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَن أكل مَا أنماه لجَوَاز أَن يكون مَاتَ من غير مرماه. وَنَظِير قَوْلهم: لَا عد من نفره قَوْلهم للشاعر المفلق:

[45] ويقولون في جمع حاجة: حوائج، فيوهمون فيه كما وهم بعض

قَاتله الله وللفارس المحرب: لَا أَب لَهُ وعَلى هَذَا فسر أَكْثَرهم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن استشاره فِي النِّكَاح: عَلَيْك بِذَات الدَّين تربت يداك، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ الْقَائِل بقوله: (أسب إِذا أَجدت القَوْل ظلما ... كَذَاك يُقَال للرجل الْمجِيد) يَعْنِي أَنه يُقَال لَهُ عِنْد إجادته واستحسان براعته: قَاتله الله، فَمَا أشعره وَلَا أَب لَهُ فَمَا أمهره وَعند أَكثر أهل اللُّغَة أَن الرَّهْط بِمَعْنى النَّفر فِي أَنه لَا يتَجَاوَز الْعشْرَة كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط} إِلَّا أَن الرَّهْط يرجعُونَ إِلَى أَب وَاحِد بِخِلَاف النَّفر، وَإِنَّمَا أضيف الْعدَد إِلَى النَّفر والرهط، لِأَنَّهُمَا اسمان للْجَمَاعَة فَكَأَن تَقْدِير قَوْله تَعَالَى: {تِسْعَة رَهْط} أَي تِسْعَة رجال، وَلَو كَانَ بِمَعْنى الْوَاحِد لما جَازَت الْإِضَافَة إِلَيْهِ، كَمَا لَا يُقَال: تِسْعَة رجل. وَذكر ابْن فَارس فِي كِتَابه الْمُجْمل أَن الرَّهْط يُقَال إِلَى الْأَرْبَعين كالعصبة. [45] وَيَقُولُونَ فِي جمع حَاجَة: حوائج، فيوهمون فِيهِ كَمَا وهم بعض

[46] ويقولون لما يكثر ثمنه: مثمن، فيوهمون فيه لأن المثمن على قياس كلام العرب هو الذي صار له ثمن ولو قل كما يقال غصن مورق، إذا بدا فيه الورق، وشجر مثمر إذا أخرج الثمرة، والمراد به غير هذا المعنى ووجه الكلام أن يقال فيه: ثمين، كما يقال: رجل لحيم، إذا كثر لحمه، وكبش شحيم، إذا كثر شحمه.

الْمُحدثين فِي قَوْله: (إِذا مَا دخلت الدَّار يَوْمًا وَرفعت ... ستورك لي فَانْظُر بِمَا أَنا خَارج) (فسيان بَيت العنكبوت وجوسق ... رفيع إِذا لم تقض فِيهِ الْحَوَائِج) وَالصَّوَاب أَن يجمع فِي أقل الْعدَد على حاجات، كَقَوْل الشَّاعِر: وَقد تخرج الْحَاجَات يَا أم مَالك كرائم من رب بِهن ضنين) وَأَن يجمع فِي أَكثر الْعدَد على حَاج، مثل هَامة وهام، وَعَلِيهِ قَول الرَّاعِي: (ومرسل وَرَسُول غير مُتَّهم ... وحاجة غير مزجاة من الْحَاج) وأنشدت لأبي الْحُسَيْن بن فَارس اللّغَوِيّ: (وَقَالُوا كَيفَ أَنْت فَقلت خير ... تقضي حَاجَة وتفوت حَاج) (إِذا ازدحمت هموم الصَّدْر قُلْنَا: ... عَسى يَوْمًا يكون لَهَا انفراج) (نديمي هرتي، وسرور قلبِي ... دفاتر لي، ومعشوقي السراج) [46] وَيَقُولُونَ لما يكثر ثمنه: مثمن، فيوهمون فِيهِ لِأَن الْمُثمن على قِيَاس كَلَام الْعَرَب هُوَ الَّذِي صَار لَهُ ثمن وَلَو قل كَمَا يُقَال غُصْن مُورق، إِذا بدا فِيهِ الْوَرق، وَشَجر مثمر إِذا أخرج الثَّمَرَة، وَالْمرَاد بِهِ غير هَذَا الْمَعْنى وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال فِيهِ: ثمين، كَمَا يُقَال: رجل لحيم، إِذا كثر لَحْمه، وكبش شحيم، إِذا كثر شحمه. وَفِي كَلَام بعض

[47] ويقولون: هو قرابتي، والصواب: أن يقال: ذو قرابتي كما قال

البلغاء، قدر الْأمين ثمين. وَقد فرق أهل اللُّغَة بَين الْقيمَة وَالثمن، فَقَالُوا: الْقيمَة مَا يُوَافق مِقْدَار الشَّيْء ويعادله، وَالثمن مَا يَقع بِهِ التَّرَاضِي مِمَّا يكون وفقا لَهُ أَو أَزِيد عَلَيْهِ، أَو أنقص مِنْهُ، فَأَما قَول الشَّاعِر: (وألقيت سهمي وَسطهمْ حِين أوخشوا ... فَمَا صَار لي فِي الْقسم إِلَّا ثمينها) فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الثّمن، كَمَا يُقَال فِي النّصْف نصيف، وَفِي الْعشْر عشير. [47] وَيَقُولُونَ: هُوَ قَرَابَتي، وَالصَّوَاب: أَن يُقَال: ذُو قَرَابَتي كَمَا قَالَ

الشَّاعِر: (يبكي الْغَرِيب عَلَيْهِ لَيْسَ يعرفهُ ... وَذُو قرَابَته فِي الْحَيّ مسرور) وَأورد أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي هَذَا الْبَيْت فِي مساق حِكَايَة هِيَ من طرف الْأَعَاجِيب وَعبر التجاريب فروى بِإِسْنَادِهِ إِلَى هِشَام بن الْكَلْبِيّ قَالَ: عَاشَ عبيد بن شرية الجرهمي ثَلَاثمِائَة سنة، وَأدْركَ الْإِسْلَام فَأسلم، وَدخل على مُعَاوِيَة بِالشَّام وَهُوَ خَليفَة، فَقَالَ لَهُ: حَدثنِي بِأَعْجَب مَا رَأَيْت، فَقَالَ: مَرَرْت ذَات يَوْم بِقوم يدفنون مَيتا لَهُم، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَيْهِم، اغرورقت عَيْنَايَ بالدموع، فتمثلت بقول الشَّاعِر: (يَا قلب إِنَّك من أَسمَاء مغرور ... فاذكر وَهل ينفعنك الْيَوْم تذكير) (قد بحت بالحب مَا تخفيه من أحد ... حَتَّى جرت لَك إطلاقا محاضير) (فلست تَدْرِي وَمَا تَدْرِي، أعاجلها ... أدنى لرشدك أم مَا فِيهِ تَأْخِير) (فاستقدر الله خيرا وارضين بِهِ ... فَبَيْنَمَا الْعسر إِذْ دارت مياسير) (وبينما الْمَرْء فِي الْأَحْيَاء مغتبط ... إِذْ صَار فِي الرمس تعفوه الأعاصير) (يبكي الْغَرِيب عَلَيْهِ لَيْسَ يعرفهُ ... وَذُو قرَابَته فِي الْحَيّ مسرور) قَالَ: فَقَالَ لي رجل: أتعرف من يَقُول هَذَا الشّعْر قلت: لَا، قَالَ: إِن قَائِله هَذَا

[48] ويقولون في جمع رحى وقفا: أرحية وأقفية، والصواب فيهما أرحاء وأقفاء كما روى الأصمعي أن أعرابيا ذم قوما، فقال: أولئك قوم سلخت أقفاؤهم بالهجو، ودبغت جلودهم باللؤم، وأنشد ابن حبيب:

الَّذِي دفناه السَّاعَة وَأَنت الْغَرِيب الَّذِي يبكي عَلَيْهِ وَلست تعرفه وَهَذَا الَّذِي خرج من قَبره هُوَ أمس النَّاس رحما بِهِ، وأسرهم بِمَوْتِهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: لقد رَأَيْت عجبا، فَمن الْمَيِّت قَالَ: عثير بن لبيد العذري، وَقيل: عُثْمَان بن لبيد العذري، وَفِي كتاب المعمرين أَن الْمَيِّت حُرَيْث بن جبلة. [48] وَيَقُولُونَ فِي جمع رحى وَقفا: أرحية وأقفية، وَالصَّوَاب فيهمَا أرحاء وأقفاء كَمَا روى الْأَصْمَعِي أَن أَعْرَابِيًا ذمّ قوما، فَقَالَ: أُولَئِكَ قوم سلخت أقفاؤهم بالهجو، ودبغت جُلُودهمْ باللؤم، وَأنْشد ابْن حبيب: (دعتني النِّسَاء الهاملات عيونها ... وَمَالِي من بعد النِّسَاء بَقَاء) (على حَالَة لَا يعرف الْكَلْب أَهله ... لَهُنَّ أَنِين تَارَة وعواء) (فَقلت لَهُم خلوا سَبِيل نسائنا ... فَقَالُوا: وَإِنِّي للذليل نسَاء) (فَقلت: أَبينَا مَا تَقولُونَ إننا ... بَنو الْحَرْب فِينَا للإباء إباء) (إِذا الجحفات السمركن وقاءكم ... فَلَيْسَ لنا إِلَّا الصُّدُور وقاء) (فَوَلوا بأقفاء الْإِمَاء كَأَنَّهُمْ ... لَدَى الروع معزى مَا لَهُنَّ رعاء) وَإِنَّمَا جمع رحى وَقفا على أرحاء وأقفاء لِأَنَّهُمَا ثلاثيان والثلاثية على اخْتِلَاف صيغها تجمع على أَفعَال لَا على أفعلة، وَإِنَّمَا فعال على اخْتِلَاف فائه يجمع على أفعلة نَحْو قبَاء وأقبية وغراب وأغربة وَكسَاء وأكسية، وعَلى مقاد هَذَا الأَصْل يجمع ندى على أندية فَأَما قَول ابْن محكان:

[49] ويقولون في جمع أوقية: أواق على وزن أفعال، فيغلطون فيه لأن ذلك

(فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أندية ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا) فقد حمله بَعضهم على الشذوذ وَبَعْضهمْ على وَجه ضَرُورَة الشّعْر. وَقَالَ آخَرُونَ: بل هُوَ جمع الْجمع فَكَأَنَّهُ جمع ندى على نِدَاء مثل جمل وجمال ثمَّ جمع نِدَاء على أندية، مثل رشاء وأرشية. وَجوز أَبُو عَليّ الْفَارِسِي أَن يكون جمع ندى على أند كَمَا يجمع فعل على أفعل، نَحْو زمن وأزمن ثمَّ ألحقهُ عَلامَة التَّأْنِيث الَّتِي تلْحق الْجمع فِي مثل قَوْلك: ذكورة وجمالة، فَصَارَ حِينَئِذٍ أندية. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد يرى أَنه جمع نديّ وَهُوَ الْمجْلس، لَا جمع ندى، وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن من عَادَة الْعَرَب عِنْد اخْتِلَاف الأنواء وإمحال السّنة الشَّهْبَاء أَن يبرز أماثل كل قَبيلَة إِلَى ناديهم، فيواسوا بفضلات الزَّاد، ويصرفوا مَا يقمر فِي الميسر إِلَى محاويج الحيّ، وَهَذَا هُوَ نفع الميسر المقرون بنفع الْخمر فِي قَوْله تَعَالَى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [49] وَيَقُولُونَ فِي جمع أُوقِيَّة: أَوَاقٍ على وزن أَفعَال، فيغلطون فِيهِ لِأَن ذَلِك

[50] ويقولون لما يصان: هو مصان، والصواب فيه مصون، كما قال الشاعر:

جمع أوق وَهُوَ الثّقل، فَأَما أُوقِيَّة فتجمع على أواقيّ بتَشْديد الْيَاء، كَمَا تجمع امنية على أمانيّ. وَقد خفف بَعضهم فِيهَا التَّشْدِيد، فَقَالَ: أَوَاقٍ كَمَا قيل فِي تَخْفيف صحارى: صحار. [50] وَيَقُولُونَ لما يصان: هُوَ مصان، وَالصَّوَاب فِيهِ مصون، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (بلَاء لَيْسَ يُشبههُ بلَاء ... عَدَاوَة غير ذِي حسب وَدين) (يبيحك مِنْهُ عرضا لم يصنه ... ويرتع مِنْك فِي عرض مصون) وَالْأَصْل فِي مصون مصوون على وزن مفعول، فنقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا، فاجتمعت واوان ساكنتان، فحذفت إِحْدَاهمَا. وَعند سِيبَوَيْهٍ أَن المحذوفة هِيَ الْوَاو الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ وَاو الْمَفْعُول الزَّائِدَة، وَأَن الْبَاقِيَة هِيَ الْوَاو الْأَصْلِيَّة المجتلبة من الصون. وَعند أبي الْحسن الْأَخْفَش أَن المحذوفة هِيَ الأولى وَأَن الْبَاقِيَة هِيَ وَاو الْمَفْعُول الَّتِي تدل على الْمَعْنى. فَإِن قيل: لأي معنى فعلوا ذَلِك فَالْجَوَاب أَنهم قصدُوا إعلال الْمَفْعُول كَمَا أعل الفعلان وَالْفَاعِل وَذَلِكَ أَن الأَصْل فِي صان صون بِفَتْح الْعين، فقلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، كَمَا فعل فِي قَالَ الَّذِي أَصله قَول، وَالدَّلِيل على أَن الأَصْل فِيهِ فعل بِفَتْح الْعين أَنَّك تَقول: صنت الثَّوْب، فتعديه إِلَى الْمَفْعُول يدل على أَنه فعلت لِأَن فعلت بِضَم الْعين لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول بِحَال، إِذْ لَا يُقَال: كرمت زيدا. ثمَّ إِنَّهُم قَالُوا فِي مضارعه يصون وَالْأَصْل فِيهِ يصون، على وزن يحزن، فنقلوا حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا. ثمَّ إِنَّهُم

أعلوا الْفَاعِل مِنْهُ، فَقَالَ: صائن، وَالْأَصْل فِيهِ صاون فَلَمَّا أعلوا الْفِعْلَيْنِ وَالْفَاعِل أعلوا الْمَفْعُول بِهِ أَيْضا، ليلحق فِي الاعتلال بحيزه. وَمن هَذَا الْبَاب قَوْلهم: رجل مأووف الْعقل فيلفظون بِهِ على الأَصْل، وَوجه القَوْل أَن يُقَال: مئوف الْعقل على وزن مخوف، وَكَذَلِكَ يُقَال: زرع مئوف، وَكِلَاهُمَا مَأْخُوذ من الآفة، ونقلت الْكَلِمَة فِي مخوف على مَا بَيناهُ فِي مصون. وشذ من هَذَا الْبَاب قَوْلهم: مسك مدووف وثوب مصوون، فلفظوا بهما على الأَصْل، وَهُوَ مِمَّا لَا يعبأ بِهِ وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ. وَمن شجون هَذَا النَّوْع قَوْلهم: فرس مقاد وَشعر مقَال وَخَاتم مصاغ وَبَيت مَزَار، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا: مقود ومقول ومصوغ ومزور، كَمَا حُكيَ أَن الْخَلِيل بن أَحْمد عَاد تلميذا لَهُ، فَقَالَ لَهُ تِلْمِيذه: إِن زرتنا فبفضلك وَإِن زرناك فلفضلك، فلك الْفضل زَائِرًا ومزوراً، وَمثله قَول جميل: (زوروا بثينة والحبيب مزور ... إِن الزِّيَارَة للحبيب يسير) فَأَرَادَ بالزيارة المزار، فَلهَذَا ذكر الْخَبَر على الْمَعْنى، كَمَا ذكر آخر الْحَوَادِث حِين أَرَادَ بهَا الْحدثَان فَقَالَ: (فَإِن تسأليني عَن لمتي ... فَإِن الْحَوَادِث أودى بهَا) وَمن هَذَا النمط قَوْلهم: مبيوع ومعيوب، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فيهمَا: مَبِيع ومعيب على الْحَذف، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن فِي نظائرهما: {وَقصر مشيد} ، {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} فَقَالَ: مشيد ومهيل على الْحَذف، وَالْأَصْل فيهمَا مشيود ومهيول. وَعند

[51] ويقولون: المال بين زيد وبين عمرو، بتكرير لفظة بين فيوهمون فيه.

سِيبَوَيْهٍ أَن الْمَحْذُوف هُوَ الْوَاو، ثمَّ كسر مَا قبل الْيَاء للتجانس، وَقد شَذَّ من ذَلِك قَوْلهم: رجل مَدين ومديون ومعين ومعيون، أَي أَصَابَته الْعين، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (نبئت قَوْمك يزعمونك سيدا ... وأخال أَنَّك سيد معيون) وَجَمِيع ذَلِك مِمَّا يهجن اسْتِعْمَاله إِلَّا فِي ضَرُورَة الشّعْر الَّتِي يجوز فِيهَا مَا حظر لإِقَامَة الْوَزْن. [51] وَيَقُولُونَ: المَال بَين زيد وَبَين عَمْرو، بتكرير لَفْظَة بَين فيوهمون فِيهِ. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: بَين زيد وَعَمْرو كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {من بَين فرث وَدم} وَالْعلَّة فِيهِ أَن لَفْظَة بَين تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك، فَلَا تدخل إِلَّا على مثنى أَو مَجْمُوع، كَقَوْلِك: المَال بَينهمَا وَالدَّار بَين الاخوة، فَأَما قَوْله تَعَالَى: {مذبذبين بَين ذَلِك} ، فَإِن لَفْظَة ذَلِك تُؤَدّى عَن شَيْئَيْنِ، وتنوب مناب لفظتين، وَإِن كَانَت مُفْردَة، أَلا ترى أَنَّك تَقول: ظَنَنْت ذَلِك، فتقيم لَفْظَة ذَلِك مقَام مفعولي ظَنَنْت، وَكَأن تَقْدِير الْكَلَام فِي الْآيَة: مذبذبين بَين الْفَرِيقَيْنِ، وَقد كشف سُبْحَانَهُ هَذَا التَّأْوِيل بقوله: {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} . وَنَظِيره لَفْظَة أحد فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {لَا نفرق بَين أحد من رسله} ، وَذَلِكَ أَن لَفْظَة أحد تستغرق الْجِنْس الْوَاقِع على الْمثنى وَالْجمع وَلَيْسَت بِمَعْنى وَاحِد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} ، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: مَا

جَاءَنِي أحد، فقد اشْتَمَل هَذَا النَّفْي على استغراق الْجِنْس من الْمُذكر والمؤنث والمثنى وَالْمَجْمُوع. فَإِن اعْترض معترض بقول امْرِئ الْقَيْس: بَين الدُّخُول فحومل، فَالْجَوَاب أَن الدُّخُول اسْم وَاقع على عدَّة أمكنة، فَلهَذَا جَازَ أَن يعقب بِالْفَاءِ، كَمَا يُقَال: المَال بَين الاخوة فزيد، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يزجى سحابا ثمَّ يؤلف بَينه} وَإِنَّمَا ذكر السَّحَاب وَهُوَ جمع، لِأَنَّهُ من قبيل الْجمع بَينه وَبَين واحده الْهَاء، وَهَذَا النَّوْع من الْجمع مثل الشّجر والسحاب وَالنَّخْل والنبات بجوز تذكيره وتأنيثه، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَة الْقَمَر: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل منقعر} ، وَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى فِي سُورَة الحاقة: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} . قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: وأظن أَن الَّذِي أوهمهم تَكْرِير لَفْظَة بَين مَعَ الظَّاهِر مَا رَأَوْهُ من وجوب تكريرها مَعَ الْمُضمر فِي مثل قَوْله عز وَجل: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} وَقد وهموا فِي الْمُمَاثلَة بَين الموطنين وخفي عَلَيْهِم الْفرق الْوَاضِح بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَن الْمَعْطُوف فِي الْآيَة قد عطف على الْمُضمر الْمَجْرُور الَّذِي من شَرط جَوَاز الْعَطف عَلَيْهِ عِنْد النَّحْوِيين من أهل الْبَصْرَة، تَكْرِير الْجَار فِيهِ كَقَوْلِك: مَرَرْت بِهِ وبزيد وَلِهَذَا لحنوا حَمْزَة فِي قِرَاءَته: {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام} حَتَّى قَالَ أَبُو الْعَبَّاس

[52] ويقولون للمتوسط الصفة: هو بين البينين، والصواب أن يقال: هو بين بين، كما قال عبيد بن الأبرص:

الْمبرد: لَو أَنِّي صليت خلف إِمَام فَقَرَأَ بهَا لَقطعت صَلَاتي. وَمن تَأَول فِيهَا لِحَمْزَة جعل الْوَاو الدَّاخِلَة على لَفْظَة الْأَرْحَام وَاو الْقسم لَا وَاو الْعَطف وَإِنَّمَا لم يجز البصريون تَجْرِيد الْعَطف على الْمُضمر الْمَجْرُور لِأَنَّهُ لشدَّة اتِّصَاله بِمَا جَرّه يتنزل منزلَة أحد حُرُوفه أَو التَّنْوِين مِنْهُ، فَلهَذَا لم يجز الْعَطف عَلَيْهِ كَمَا لَا يجوز الْعَطف على التَّنْوِين، وَلَا على أحد حُرُوف الْكَلِمَة. فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ الْعَطف على المضمرين الْمَرْفُوع والمنصوب بِغَيْر تَكْرِير، وَامْتنع الْعَطف فِي الْمُضمر الْمَجْرُور إِلَّا بالتكرير فَالْجَوَاب عَنهُ انه لما جَازَ أَن يعْطف ذَانك الضميران على الِاسْم الظَّاهِر فِي مثل قَوْلك: قَامَ زيد وَهُوَ، وزرت عمرا وَإِيَّاك جَازَ أَن يعْطف الظَّاهِر عَلَيْهِمَا فَيُقَال: قَامَ هُوَ وَزيد، وزرتك وعمرا وَلما لم يجز أَن يعْطف الْمُضمر الْمَجْرُور على الظَّاهِر إِلَّا بتكرير الْجَار فِي مثل قَوْلك: مَرَرْت بزيد وَبِك، لم يجز أَن يعْطف الظَّاهِر على الْمُضمر إِلَّا بتكريره أَيْضا، نَحْو: مَرَرْت بك وبزيد. وَهَذَا من لطائف علم الْعَرَبيَّة ومحاسن الفروق النحوية. [52] وَيَقُولُونَ للمتوسط الصّفة: هُوَ بَين البينين، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هُوَ بَين بَين، كَمَا قَالَ عبيد بن الأبرص: (إِنَّا إِذا عض الثقاف ... بِرَأْس صعدتنا لوينا) (نحمي حقيقتنا وَبَعض ... الْقَوْم يسْقط بَين بَينا)

أَي بَين العالي والمنخفض وَقد كَانَ الأَصْل فِي هَذَا الْكَلَام أَن يُضَاف بَين فَلَمَّا قطع عَن الْإِضَافَة وَضم أحد الاسمين إِلَى الآخر وحذفت وَاو الْعَطف المعترضة بَينهمَا بنيا كَمَا بنى الْعدَد الْمركب نَحْو أحد عشر ونظائره، واختيرت لَهُ عِنْد بنائِهِ الفتحة، لِأَنَّهَا أخف الحركات وَلَيْسَت هَذِه الفتحة الَّتِي فِي قَوْلك: بَين بَين من جنس الفتحة الَّتِي فِي لَفظه بَين عِنْد الْإِضَافَة لِأَن هَذِه فَتْحة إِعْرَاب بِدلَالَة اعتقاب الْجَرّ عَلَيْهَا فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {من بَين فرث وَدم} وَمن خَصَائِص بَين الظَّرْفِيَّة أَن الضَّم لَا يدْخل عَلَيْهَا بِحَال، وَأما من قَرَأَ: {لقد تقطع بَيْنكُم} بِالرَّفْع فَإِنَّهُ عَنى بالبين الْوَصْل، كَمَا عَنى الشَّاعِر بِهِ الْبعد فِي قَوْله:

[53] ويقولون: بينا زيد قام إذ جاء عمرو، فيتلقون بينا بإذ، والمسموع عن العرب: بينا زيد قام جاء عمرو، بلا إذ لأن المعنى فيه: بين أثناء الزمان جاء عمرو، وعليه قول أبي ذؤيب:

(لقد فرق الواشين بيني وَبَينهَا ... فقرت بِذَاكَ الْوَصْل عَيْني وعينها) لِأَن لَفْظَة بَين من الأضداد. [53] وَيَقُولُونَ: بَينا زيد قَامَ إِذْ جَاءَ عَمْرو، فيتلقون بَينا بإذ، والمسموع عَن الْعَرَب: بَينا زيد قَامَ جَاءَ عَمْرو، بِلَا إِذْ لِأَن الْمَعْنى فِيهِ: بَين أثْنَاء الزَّمَان جَاءَ عَمْرو، وَعَلِيهِ قَول أبي ذُؤَيْب: (بَينا تعانقه الكمأة وروغه ... يَوْمًا أتيح لَهُ جريء سلفع) فَقَالَ: أتيح، وَلم يقل: إِذْ أتيح، وَهَذَا الْبَيْت ينشد بجر تعانقه وَرَفعه، فَمن جَرّه جعل الْألف فِي بَينا ملتحقة لإشباع الفتحة كالألف فِي قَول الشَّاعِر: (فَأَنت من الغواية حِين تدعى ... وَمن ذمّ الرِّجَال بمنتزاح)

لِأَن الأَصْل فِيهَا بَين، وجر تعانقه على الْإِضَافَة، وَمن رفع رَفعه على الِابْتِدَاء، وَجعل الْألف زِيَادَة ألحقت ببين لتوقع بعْدهَا الْجُمْلَة، كَمَا زيدت مَا فِي بَيْنَمَا لهَذِهِ الْعلَّة. وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة قَالَ: سَأَلت الرياشي عَن هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَ: إِذا ولي لَفْظَة بَين الِاسْم الْعلم رفعت فَقلت: بَينا زيد قَامَ جَاءَ عَمْرو، وَإِن وَليهَا الْمصدر فالأجود الْجَرّ كهذه الْمَسْأَلَة. وَحكى أَبُو الْقَاسِم الْآمِدِيّ فِي أَمَالِيهِ عَن أبي عُثْمَان الْمَازِني قَالَ: حضرت أَنا وَيَعْقُوب بن السّكيت مجْلِس مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات، فأفضنا فِي شجون الحَدِيث، إِلَى أَن قلت: كَانَ الْأَصْمَعِي يَقُول: بَينا أَنا جَالس إِذْ جَاءَ عَمْرو، محَال. فَقَالَ ابْن السّكيت: أَهَذا كَلَام النَّاس قَالَ: فَأخذت فِي مناظرته عَلَيْهِ وإيضاح الْمَعْنى لَهُ، فَقَالَ لي مُحَمَّد ابْن عبد الْملك: دَعْنِي حَتَّى أبين لَهُ مَا اشْتبهَ عَلَيْهِ، ثمَّ الْتفت إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا معنى بَينا فَقَالَ: حِين، قَالَ: أفيجوز أَن يُقَال: حِين جلس زيد إِذْ جَاءَ عَمْرو فَسكت. فَهَذَا حكم بَينا، وَأما بَيْنَمَا فأصلها أَيْضا بَين، فزيدت عَلَيْهِ مَا لتؤذن بِأَنَّهَا خرجت عَن بَابهَا بِإِضَافَة مَا إِلَيْهَا. وَقد جَاءَت فِي الْكَلَام تَارَة غير مُتَلَقَّاة بإذ مثل بَينا واستعملت تَارَة مُتَلَقَّاة بإذ وَإِذا اللَّذين للمفاجأة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (فَبَيْنَمَا الْعسر إِذْ دارت مياسير ) وَكَقَوْلِه فِي هَذِه الْقطعَة: (وبينما الْمَرْء فِي الْأَحْيَاء مغتبط ... إِذْ صَار فِي الرمس تعفوه الأعاصير) فَتلقى هَذَا الشَّاعِر بَيْنَمَا فِي الْبَيْت الأول بإذ وَفِي الثَّانِي بإذا، وَلَيْسَ ببدع أَن يتَغَيَّر حكم بَين بِضَم مَا إِلَيْهِ لِأَن التَّرْكِيب يزِيل الْأَشْيَاء عَن أُصُولهَا ويحيلها عَن أوضاعها ورسومها أَلا ترى أَن رب لَا تدخل إِلَّا على الِاسْم، فَإِذا اتَّصَلت بهَا مَا، غيرت حكمهَا

[54] ويقولون: ثفل في عينه بثاء معجمة بثلاث، فيصحفون فيه لأن المنقول عن العرب تفل باعجام اثنتين من فوق.

وَأَوَّلْتهَا الْفِعْل كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا} ، وَكَذَلِكَ حرف لم فَإِذا زيدت عَلَيْهَا مَا - وَهِي أَيْضا حرف - صَارَت لمّا اسْما فِي بعض المواطن بِمَعْنى حِين ووليها الْفِعْل الْمَاضِي نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَت رسلنَا لوطا} وَهَكَذَا قل وَطَالَ لَا يجوز أَن يليهما الْفِعْل، فَإِن وصلا بِمَا وليهما الْفِعْل، كَقَوْلِك: طالما زرتك وقلما هجرتك. [54] وَيَقُولُونَ: ثفل فِي عينه بثاء مُعْجمَة بِثَلَاث، فيصحفون فِيهِ لِأَن الْمَنْقُول عَن الْعَرَب تفل باعجام اثْنَتَيْنِ من فَوق. وَحكى الْفراء عَن الْكسَائي أَن الْعَرَب تَقول: تفل فِي عَيْني وَنَفث، فالتفل مَا صَحبه شَيْء من الرِّيق، والنفث النفخ بِلَا ريق، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ان روح الْقُدس نفث فِي روعي، ان نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب. وَنَظِير هَذَا التَّصْحِيف قَوْلهم فِي الفرصاد: توث، بالثاء الْمُعْجَمَة بِثَلَاث، كَمَا قَالَ النَّهْشَلِي: (لروضة من رياض الْحزن أَو طرق ... من الْقرْيَة خزن غير محروث)

[55] ويقولون: أزمعت على المسير ووجه الكلام: أزمعت المسير كما قال عنترة:

(أحلى وأشهى لعَيْنِي إِن مَرَرْت بِهِ ... من كرخ بغداذ ذِي الرُّمَّان والتوت) وَالصَّحِيح أَنَّهَا بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق. وَعند بعض أهل اللُّغَة أَن الفرصاد اسْم للثمرة والتوث اسْم للشجرة. ونقيض هذَيْن التصحيفين قَوْلهم لثفل مَا يعصر تجير باعجام اثْنَتَيْنِ من فَوق وَهُوَ بالثاء الْمُعْجَمَة بِثَلَاث. وَقَوْلهمْ أَيْضا للوعل المسن: تيتل بتائين تكتنفان الْيَاء كلتاهما مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق، وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب الثيتل باعجام الأولى مِنْهُمَا بِثَلَاث، فَأَما قَول الشَّاعِر الْأَشْجَعِيّ: (وعدت فَكَانَ الْخلف مِنْك سجية ... مواعيد عرقوب أَخَاهُ بيترب) فَأكْثر الروَاة يَرْوُونَهُ بِيَثْرِب، ويعنون بِهِ الْمَدِينَة، وَأنكر ابْن الْكَلْبِيّ ذَلِك، وحقق ان الرِّوَايَة بيترب بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق، وَهُوَ مَوضِع يقرب من الْيَمَامَة ويتاخم منَازِل العمالقة. وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن عرقوبا كَانَ من العمالقة الَّذين لم ينزلُوا الْمَدِينَة. [55] وَيَقُولُونَ: أزمعت على الْمسير وَوجه الْكَلَام: أزمعت الْمسير كَمَا قَالَ عنترة: (إِن كنت أزمعت الْمسير فَإِنَّمَا ... رمت ركابكم بلَيْل مظلم) وَفِي معنى أزمعت لَفْظَة أَجمعت إِلَّا أَنه يجوز فِي أَجمعت خَاصَّة تعديتها بِنَفسِهَا وبلفظة على، فَيُقَال: أَجمعت الْأَمر وأجمعت عَلَيْهِ. وَفِي الْقُرْآن: {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم} وَيسْأل عَن وَجه انتصاب لَفْظَة

[56] ويقولون: أحدرت السفينة وقد آن إحدارها، ووجه الكلام أن يقال:

{وشركاءكم} إِذْ الْعَطف مُمْتَنع هَاهُنَا، لِأَنَّهُ لَا يُقَال: أَجمعت شركائي، وَأجِيب عَنهُ بجوابين. أَحدهمَا: أَنه انتصب انتصاب الْمَفْعُول مَعَه، فَتكون الْوَاو بِمَعْنى مَعَ لَا أَنَّهَا وَاو الْعَطف، وَيكون تَقْدِير الْكَلَام: اجْتَمعُوا مَعَ شركائكم على تَدْبِير أَمركُم. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه انتصب على إِضْمَار فعل حذف لدلَالَة الْحَال عَلَيْهِ وَتَقْدِيره لَو ظهر: وَادعوا شركاءكم، فَتكون الْوَاو على هَذَا القوله قد عطفت فعلا مضمرا على فعل مظهر كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) وَالرمْح لَا يتقلد بِهِ، وَإِنَّمَا تَقْدِيره: وحاملا رمحا. ويضاهي لَفْظَة أَجمعت فِي تعديتها بِنَفسِهَا تَارَة وبحرف الْجَرّ أُخْرَى لَفْظَة عزمت، فَيُقَال عزمت على الْأَمر وعزمته، كَمَا قَالَ عز وَجل: {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} . [56] وَيَقُولُونَ: أحدرت السَّفِينَة وَقد آن إحدارها، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال:

[57] ويقولون في جمع فم أفمام وهو من أوضح الأوهام، والصواب أن يقال: أفواه، كما قال سبحانه: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} ، وذلك أن الأصل في فم فوه على وزن سوط، فحذفت الهاء تخفيفا لشبهها بحروف اللين فبقي الاسم على حرفين: الثاني منهما حرف لين، فلم يروا إيقاع الاعراب عليه لئلا تثقل اللفظة ولم يروا حذفه لئلا يجحفوا به، فأبدلوا من الواو ميما، فقالوا: فم لأن مخرجهما من الشفة.

حدرتها، وَقد آن حدرها، وَهِي فِي غَد محدورة. وَكَذَا يَقُولُونَ: أعلفت الدَّابَّة وَالصَّوَاب علفت قَالَ الشَّاعِر: (إِذا كنت فِي قوم عدا لست مِنْهُم ... فَكل مَا علفت من خَبِيث وَطيب) [57] وَيَقُولُونَ فِي جمع فَم أفمام وَهُوَ من أوضح الأوهام، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أَفْوَاه، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} ، وَذَلِكَ أَن الأَصْل فِي فَم فوه على وزن سَوط، فحذفت الْهَاء تَخْفِيفًا لشبهها بحروف اللين فَبَقيَ الِاسْم على حرفين: الثَّانِي مِنْهُمَا حرف لين، فَلم يرَوا إِيقَاع الاعراب عَلَيْهِ لِئَلَّا تثقل اللَّفْظَة وَلم يرَوا حذفه لِئَلَّا يجحفوا بِهِ، فأبدلوا من الْوَاو ميما، فَقَالُوا: فَم لِأَن مخرجهما من الشّفة. وَالدَّلِيل على أَن الأَصْل فِي فَم الْوَاو قَوْلهم: تفوهت بِكَذَا، وَرجل أفوه، وَلم يَقُولُوا تفممت وَلَا رجل أفم وَأكْثر مَا يسْتَعْمل بِالْمِيم عِنْد الْأَفْرَاد، فَأَما قَول العجاج: (خالط من سلمى خياشيم وفا )

فَقيل: أَنه أَرَادَ وفاها، فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ. وَقيل: عني وفما. وَقَوْلهمْ فِي تصغيره فويه، لِأَن التصغير يرد الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا كَمَا يُقَال فِي تَصْغِير حر حريح لِأَن أَصله حرح، وَيُقَال فِي تَصْغِير السِّت من الْعدَد: سديسة، لِأَن أَصْلهَا سدس لاشتقاقه من التسديس كَمَا أَن اشتقاق خَمْسَة من التخميس وألحقت الْهَاء بهَا عِنْد التصغير، لِأَنَّهَا من الْمُؤَنَّث الثلاثي. ثمَّ إِن الْعَرَب قصرت اسْتِعْمَال فَم عِنْد إِفْرَاده، واختارت رده إِلَى أَصله عِنْد إِضَافَته، فَقَالُوا عِنْد الْإِضَافَة: نطق فوه، وَقبل فَاه، وَأدْخل إصبعه فِي فِيهِ، كَمَا قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه: (هَذَا جناي وخياره فِيهِ ... إِذْ كل جَان يَده إِلَى فِيهِ) إِلَّا أَنه قد سمع عَنْهُم الْإِضَافَة إِلَى الْمِيم كَقَوْل الراجز: (يصبح عطشان وَفِي الْبَحْر فَمه ) وَأما قَول الفرزدق: (هما نفثا فِي فِي من فمويهما ... على النابح العاوي أَشد رجام) فَإِنَّهُ جمع للضَّرُورَة بَين الْعِوَض والمعوض عَنهُ كَمَا فعل الراجز فِي قَوْله: (إِن إِذا مَا حدث ألما ... أَقُول يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّ)

[58] ويقولون في تصغير عقرب عقيربة، فيوهمون فيه وهم من لم يستقر كلام العرب، ولا عشا إلى جذوة الأدب لأن العرب تصغرها على عقيرب، كما تصغر زينب على زيينب، وذلك أن الهاء إنما ألحقت في تصغير الثلاثي، نحو قدر وقديرة وشمس وشميسة، فأما الرباعي فإنه لما ثقل بكثرة حروفه نزل الحرف الأخير منه منزلة هاء التأنيث، والدليل عليه منع سعاد من الصرف كما منع ما فيه الهاء، فلما حل الحرف الأخير من الرباعي المؤنث محل الهاء من الثلاثي لم يجز أن تدخل عليه الهاء، كما لا تدخل على هاء التأنيث هاء أخرى.

فَجمع بَين يَاء النداء وَالْمِيم الْمُشَدّدَة الَّتِي هِيَ عِنْد الْخَلِيل بدل من يَاء المناداة. [58] وَيَقُولُونَ فِي تَصْغِير عقرب عقيربة، فيوهمون فِيهِ وهم من لم يسْتَقرّ كَلَام الْعَرَب، وَلَا عشا إِلَى جذوة الْأَدَب لِأَن الْعَرَب تصغرها على عقيرب، كَمَا تصغر زَيْنَب على زيينب، وَذَلِكَ أَن الْهَاء إِنَّمَا ألحقت فِي تَصْغِير الثلاثي، نَحْو قدر وقديرة وشمس وشميسة، فَأَما الرباعي فَإِنَّهُ لما ثقل بِكَثْرَة حُرُوفه نزل الْحَرْف الْأَخير مِنْهُ منزلَة هَاء التَّأْنِيث، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ منع سعاد من الصّرْف كَمَا منع مَا فِيهِ الْهَاء، فَلَمَّا حل الْحَرْف الْأَخير من الرباعي الْمُؤَنَّث مَحل الْهَاء من الثلاثي لم يجز أَن تدخل عَلَيْهِ الْهَاء، كَمَا لَا تدخل على هَاء التَّأْنِيث هَاء أُخْرَى. وَمن أوهامهم أَيْضا فِي التصغير قَوْلهم فِي تَصْغِير ذِي الْمَوْضُوعَة للْإِشَارَة إِلَى الْمُؤَنَّث: ذيا، فيخطئون فِيهِ، لِأَن الْعَرَب جعلت تَصْغِير ذيا لذا الْمَوْضُوعَة للْإِشَارَة إِلَى

[59] ويقولون رجل دنيائي، بهمزة قبل ياء النسب، فيلحنون فيه، لأن المسموع عن العرب في النسب إلى دنيا دنيي ودنيوي، وفيهم من شبه ألفها بألف بيضاء لكونهما علامتي التأنيث، فقالوا فيها: دنياوي، كما قيل في بيضاء: بيضاوي، فأما إلحاق الهمزة بها فلا وجه له، لأنه اسم مقصور غير مصروف والهمزة إنما تلحق بالممدود

الْمُذكر وَلم تصغر ذِي الْمَوْضُوعَة للْإِشَارَة إِلَى الْمُؤَنَّث على لَفظهَا، لِئَلَّا تَلْتَبِس بتصغير ذَا بل عدلت فِي تَصْغِير الِاسْم الْمَوْضُوع للْإِشَارَة إِلَى الْمُؤَنَّث عَن ذِي إِلَى تا، فصغرته على تيا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: (أتشفيك تيا أم تركت بدائكا ... وَكَانَت قتولا للرِّجَال كذلكا) [59] وَيَقُولُونَ رجل دنيائي، بِهَمْزَة قبل يَاء النّسَب، فيلحنون فِيهِ، لِأَن المسموع عَن الْعَرَب فِي النّسَب إِلَى دنيا دنيي ودنيوي، وَفِيهِمْ من شبه ألفها بِأَلف بَيْضَاء لِكَوْنِهِمَا علامتي التَّأْنِيث، فَقَالُوا فِيهَا: دنياوي، كَمَا قيل فِي بَيْضَاء: بيضاوي، فَأَما إِلْحَاق الْهمزَة بهَا فَلَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ اسْم مَقْصُور غير مَصْرُوف والهمزة إِنَّمَا تلْحق بالممدود

[60] ويقولون: ما آليت جهدا في حاجتك، فيخطئون فيه، لأن معنى ما آليت، ما حلفت، وتصحيح الكلام فيه أن يقال: ما ألوت، أي ما قصرت لأن العرب تقول: ألا الرجل يألو، إذا قصر وفتر.

المنصرف، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى سَمَاء وحرباء: سمائي وحربائي، على أَنه قد جوز فيهمَا سماوي وجرباوي. وَمن أوهامهم فِي لَفْظَة دنيا أَيْضا تنوينهم إِيَّاهَا فَيَقُولُونَ: هَذِه دنيا متعبة، وَهُوَ من شائن الْوَهم ومقابح اللّحن، لِأَن دنيا وَمَا هُوَ على وَزنهَا، مِمَّا لَا ينْصَرف فِي معرفَة وَلَا نكرَة لَا يدْخلهُ التَّنْوِين بِحَال، وَإِنَّمَا لم ينْصَرف مَا أنث بِالْألف فِي معرفَة وَلَا نكرَة، وَانْصَرف مَا أنث بِالْهَاءِ فِي النكرَة، وكلتاهما عَلامَة للتأنيث لِأَن التَّأْنِيث بِالْألف أقوى من التَّأْنِيث بِالْهَاءِ، بِدَلِيل أَن الْكَلِمَة المؤنثة بِالْألف نَحْو حُبْلَى وسكرى وحمراء وخضراء صيغت فِي بدئها، وَأول وَضعهَا على التَّأْنِيث، فقوى تخصصها بالأنوثة ونابت هَذِه الْعلَّة مناب علتين، فمنعت الصّرْف بالواحدة، والتأنيث بِالْهَاءِ ملتحق بِالْكَلِمَةِ بعد اسْتِعْمَالهَا فِي الْمُذكر نَحْو قَوْلك: عائش وَعَائِشَة وخديج وَخَدِيجَة فَلهَذَا حط من دَرَجَة مَا أنث بِالْألف وَصرف فِي النكرَة. [60] وَيَقُولُونَ: مَا آلَيْت جهداً فِي حَاجَتك، فيخطئون فِيهِ، لِأَن معنى مَا آلَيْت، مَا حَلَفت، وَتَصْحِيح الْكَلَام فِيهِ أَن يُقَال: مَا ألوت، أَي مَا قصرت لِأَن الْعَرَب تَقول: أَلا الرجل يألو، إِذا قصر وفتر. وَحكى الْأَصْمَعِي قَالَ: إِذا قيل لَك: مَا ألوت فِي حَاجَتك. فَقل، بلَى أَشد الألو. وَقد أجَاز بَعضهم أَن يُقَال: مَا أليت فِي حَاجَتك بتَشْديد اللَّام، وَاسْتشْهدَ عَلَيْهِ بقول زُهَيْر بن جناب: (وَإِن كنائني لمكرمات ... وَمَا ألى بني وَلَا أساءوا)

وَلَفْظَة ألوت لَا تسْتَعْمل فِي الْوَاجِب الْبَتَّةَ مثل لَفْظَة أحد وقط وصافر وديار وكمثل لَا جرم وَلَا بُد ونظائره، وَكَذَلِكَ لَفْظَة الرَّجَاء الَّذِي بِمَعْنى الْخَوْف، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} ، أَي لَا تخافون وكما قَالَ أَبُو ذُؤَيْب: (إِذا لسعته النَّحْل لم يرج لسعها ... وحالفها فِي بَيت نوب عوامل) يَعْنِي لم يخف لسعها، وَأَرَادَ بالنوب الَّتِي قد شابهت بسوادها النّوبَة. وَقيل بل أَرَادَ بِهِ جمع نَائِب. وَمِمَّا لَا يسْتَعْمل أَيْضا إِلَّا فِي الْجحْد قَوْلهم: مَا زَالَ وَمَا برح وَمَا فتئ وَمَا انْفَكَّ، وَمَا دَامَ، بِمَعْنى مَا برح فِي أَكثر الْأَحْوَال وَعَلِيهِ قَول الْأَعْشَى: (أيا أبتا لَا ترم عندنَا ... فانا بِخَير إِذا لم ترم) وَبِهَذَا الْبَيْت استعطف أَبُو عُثْمَان الْمَازِني الواثق بِاللَّه حِين أشخصه من الْبَصْرَة إِلَى حَضرته حَتَّى اهتز لاحسان صلته، وَعجل تسريحه إِلَى ابْنَته. وَخَبره يشْهد بفضيلة الْأَدَب ومزيته، ويرغب الرَّاغِب عَنهُ فِي اقتباسه ودراسته. ومساقة الْخَبَر مَا رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد، قَالَ: قصد بعض أهل الذِّمَّة أَبَا عُثْمَان الْمَازِني ليقْرَأ عَلَيْهِ كتاب سِيبَوَيْهٍ، وبذل لَهُ مائَة دِينَار عَن تدريسه إِيَّاه، فَامْتنعَ أَبُو عُثْمَان من قبُول بذله وأصر على رده، قَالَ: فَقلت لَهُ: جعلت فدَاك أترد هَذِه النَّفَقَة مَعَ فاقتك وَشدَّة

اضاقتك فَقَالَ: إِن هَذَا الْكتاب يشْتَمل على ثَلَاثمِائَة وَكَذَا آيَة من كتاب الله عز وَجل، وَلست أرى إِن أمكن مِنْهَا ذِمِّيا، غَيره على كتاب الله تَعَالَى وحمية لَهُ، قَالَ: فاتفق أَن غنت جَارِيَة بِحَضْرَة الواثق بقول العرجي: (أظلوم إِن مصابكم رجلا ... أهْدى السَّلَام إِلَيْكُم ظلم) فَاخْتلف من بالحضرة فِي إِعْرَاب رجل فَمنهمْ من نَصبه، وَجعله اسْم إِن، وَمِنْهُم من رَفعه على أَنه خَبَرهَا، وَالْجَارِيَة مصرة على أَن شيخها أَبَا عُثْمَان الْمَازِني لقنها إِيَّاه بِالنّصب، فَأمر الواثق بِاللَّه باشخاصه. قَالَ أَبُو عُثْمَان: فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ قَالَ: مِمَّن الرجل قلت: من بني مَازِن، قَالَ: أَي الموازن أمازن تَمِيم أم مَازِن قيس، أم مَازِن ربيعَة قلت: من مَازِن ربيعَة، فكلمني بِكَلَام قومِي، وَقَالَ لي: با اسْمك لأَنهم يقلبون الْمِيم بَاء وَالْبَاء ميما إِذا كَانَت فِي أول الْأَسْمَاء، قَالَ: فَكرِهت أَن أُجِيبهُ على لُغَة قومِي لِئَلَّا أواجهه بالمكر، فَقلت: بكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَفطن لما قصدته وأعجب بِهِ، ثمَّ قَالَ مَا تَقول فِي قَول الشَّاعِر: (أظلوم إِن مصابكم رجلا ) أترفع رجلا أم تنصبه فَقلت: بل الْوَجْه النصب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: وَلم ذَلِك فَقلت: إِن مصابكم مصدر بِمَعْنى أَصَابَتْكُم، فَأخذ اليزيدي فِي معارضتي، فَقلت: هُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك: إِن ضربك زيدا ظلم، فرجلاً مفعول مصابكم، ومنصوب بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْكَلَام مُعَلّق إِلَى أَن تَقول: ظلم، فَيتم الْكَلَام. فَاسْتَحْسَنَهُ الواثق وَقَالَ: هَل لَك من ولد قلت: نعم، بنية يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: مَا قَالَت لَك عِنْد مسيرك قلت: أنشدت قَول الْأَعْشَى: (أيا أبتا لَا ترم عندنَا ... فانا بِخَير إِذا لم ترم) (أرانا إِذا أضمرتك الْبِلَاد ... نجفى وتقطع منا الرَّحِم) قَالَ: فَمَا قلت لَهَا قلت: قَول جرير:

[61] ويقولون: الضبعة العرجاء، وهو غلط، ووجه الكلام أن يقال: الضبع العرجاء لأن الضبع اسم يختص بأنثى الضباع، والذكر منها ضبعان، ومن أصول العربية أن كل اسم يختص بجنس المؤنث مثل حجر واتان وضبع وعناق، لا تدخل عليه هاء التأنيث بحال، وعلى هذا جميع ما يستقرى من كلام العرب، وحكى ثعلب قال: أنشدني ابن الأعرابي في أماليه:

(ثقي بِاللَّه لَيْسَ لَهُ شريك ... وَمن عِنْد الْخَلِيفَة بالنجاح) قَالَ: أَنْت عليّ النجاح إِن شَاءَ الله، ثمَّ أَمر لي بِأَلف دِينَار، وردني مكرما. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: فَلَمَّا عَاد إِلَى الْبَصْرَة قَالَ لي: كَيفَ رَأَيْت يَا أَبَا الْعَبَّاس رددنا لله مائَة فعوضنا ألفا [61] وَيَقُولُونَ: الضبعة العرجاء، وَهُوَ غلط، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: الضبع العرجاء لِأَن الضبع اسْم يخْتَص بأنثى الضباع، وَالذكر مِنْهَا ضبعان، وَمن أصُول الْعَرَبيَّة أَن كل اسْم يخْتَص بِجِنْس الْمُؤَنَّث مثل حجر واتان وضبع وعناق، لَا تدخل عَلَيْهِ هَاء التَّأْنِيث بِحَال، وعَلى هَذَا جَمِيع مَا يستقرى من كَلَام الْعَرَب، وَحكى ثَعْلَب قَالَ: أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي فِي أَمَالِيهِ: (تَفَرَّقت غنمي يَوْمًا فَقلت لَهَا ... يارب سلط عَلَيْهَا الذِّئْب والضبعا) فَسَأَلته حِين أنشدنيه: أدعا لَهَا أم عَلَيْهَا فَقَالَ: إِن أَرَادَ أَن يسلطها عَلَيْهَا فِي وَقت وَاحِد فقد دَعَا لَهَا، لِأَن الذِّئْب يمْنَع الضبع والضبع تدفع الذِّئْب فتنجو هِيَ، وَإِن أَرَادَ أَن يُسَلط عَلَيْهَا الذِّئْب فِي وَقت والضبع فِي وَقت آخر فقد دَعَا عَلَيْهَا. وَفِي مسَائِل الضبع مَسْأَلَة لَطِيفَة قل من اطلع على خبئها وانكشف لَهُ قناع سرها وَهِي أَن من أصُول الْعَرَبيَّة الَّتِي يطرد حكمهَا، وَلَا ينْحل نظمها أَنه مَتى اجْتمع الْمُذكر والمؤنث غلب حكم الْمُذكر على الْمُؤَنَّث لِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل، والمؤنث فرع عَلَيْهِ إِلَّا فِي موضِعين: أَحدهمَا أَنَّك مَتى أردْت تَثْنِيَة الذّكر وَالْأُنْثَى من الضباع، قلت: ضبعان، فأجريت التَّثْنِيَة على لفظ الْمُؤَنَّث الَّذِي هُوَ ضبع لَا على لفظ الْمُذكر الَّذِي هُوَ ضبعان

[62] ويقولون لأول يوم من الشهر مستهل الشهر، فيغلطون فيه على ما ذكره أبو علي الفارسي في تذكرته، واحتج فيه على ذلك بأن الهلال إنما يرى بالليل، فلا يصلح إلا ما يكتب فيها، ومنع أن يؤرخ ما يكتب فيها بليلة خلت، لأن الليلة ما انقضت بعد، كما منع أن يؤرخ ما يكتب في صبيحتها بمستهل الشهر، لأن الاستهلال قد انقضى.

وَإِنَّمَا فعل ذَلِك فِرَارًا مِمَّا كَانَ يجْتَمع من الزَّوَائِد لَو ثنى على لفظ الْمُذكر. والموضع الثَّانِي أَنهم فِي بَاب التَّارِيخ أَرخُوا بالليالي الَّتِي هِيَ مُؤَنّثَة دون الْأَيَّام الَّتِي هِيَ مذكرة وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك مُرَاعَاة للأسبق، والأِسبق من الشَّهْر ليلته. وَمن كَلَامهم: سرنا عشرا من بَين يَوْم وَلَيْلَة. [62] وَيَقُولُونَ لأوّل يَوْم من الشَّهْر مستهل الشَّهْر، فيغلطون فِيهِ على مَا ذكره أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فِي تَذكرته، وَاحْتج فِيهِ على ذَلِك بِأَن الْهلَال إِنَّمَا يرى بِاللَّيْلِ، فَلَا يصلح إِلَّا مَا يكْتب فِيهَا، وَمنع أَن يؤرخ مَا يكْتب فِيهَا بليلة خلت، لِأَن اللَّيْلَة مَا انْقَضتْ بعد، كَمَا منع أَن يؤرخ مَا يكْتب فِي صبيحتها بمستهل الشَّهْر، لِأَن الاستهلال قد انْقَضى. وَنَصّ على أَن يؤرخ بِأول الشَّهْر أَو بغرته أَو بليلة خلت مِنْهُ. وَمن أوهامهم فِي التَّارِيخ أَنهم يؤرخون بِعشْرين لَيْلَة خلت وبخمس وَعشْرين خلون، وَالِاخْتِيَار أَن يُقَال: من أول الشَّهْر إِلَى منتصفه: خلت وخلون، وَأَن يسْتَعْمل فِي النّصْف الثَّانِي بقيت وبقين على أَن الْعَرَب تخْتَار أَن تجْعَل النُّون للقليل وَالتَّاء للكثير، فَيَقُولُونَ: لأَرْبَع خلون ولإحدى عشرَة خلت. نعم، لَهُم اخْتِيَار آخر أَيْضا، وَهُوَ أَن يَجْعَل ضمير الْجمع الْكثير الْهَاء وَالْألف، وَضمير الْجمع الْقَلِيل الْهَاء وَالنُّون الْمُشَدّدَة، كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدَّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} ، فَجعل ضمير الْأَشْهر الْحرم بِالْهَاءِ وَالنُّون لقلتهن وَضمير شهور السّنة الْهَاء وَالْألف لكثرتها. وَكَذَلِكَ اخْتَارُوا أَيْضا أَن ألْحقُوا بِصفة الْجمع الْكثير الْهَاء، فَقَالُوا: أَعْطيته دَرَاهِم كَثِيرَة وأقمت أَيَّامًا مَعْدُودَة، وألحقوا بِصفة الْجمع الْقَلِيل الْألف وَالتَّاء، فَقَالُوا: أَقمت أَيَّامًا معدودات، وَكسوته أثوابا رفعيات، وأعطيته دَرَاهِم يسيرات وعَلى هَذَا جَاءَ فِي

[63] ويقولون: خرمش الكتاب، بالميم، أي أفسده، والصواب أن يقال: خربش بالباء، وجاء في بعض الحديث: وكان كتاب فلان مخربشا.

سُورَة الْبَقَرَة: {وَقَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة} وَفِي سُورَة آل عمرَان: {إِلَّا أَيَّامًا معدودات} كَأَنَّهُمْ قَالُوا أَولا بطول الْمدَّة الَّتِي تمسهم فِيهَا النَّار، ثمَّ تراجعوا عَنهُ فقصروا تِلْكَ الْمدَّة. [63] وَيَقُولُونَ: خرمش الْكتاب، بِالْمِيم، أَي أفْسدهُ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: خربش بِالْبَاء، وَجَاء فِي بعض الحَدِيث: وَكَانَ كتاب فلَان مخربشا.

[64] ويقولون: ما رأيته من أمس والصواب أن يقال: منذ أمس، لأن من تختص بالمكان ومذ ومنذ يختصان بالزمان، وأما قوله عز وجل: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} فإن من هاهنا بمعنى في الدالة على الظرفية، بدليل أن النداء للصلاة المشار إليها يوقع في وسط يوم الجمعة، ولو كانت من ها هنا هي التي تختص بابتداء الغاية لكان مقتضى الكلام أن يوقع النداء في أول يوم الجمعة.

[64] وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْته من أمس وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مُنْذُ أمس، لِأَن من تخْتَص بِالْمَكَانِ ومذ ومنذ يختصان بِالزَّمَانِ، وَأما قَوْله عز وَجل: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} فَإِن من هَاهُنَا بِمَعْنى فِي الدَّالَّة على الظَّرْفِيَّة، بِدَلِيل أَن النداء للصَّلَاة الْمشَار إِلَيْهَا يُوقع فِي وسط يَوْم الْجُمُعَة، وَلَو كَانَت من هَا هُنَا هِيَ الَّتِي تخْتَص بابتداء الْغَايَة لَكَانَ مُقْتَضى الْكَلَام أَن يُوقع النداء فِي أول يَوْم الْجُمُعَة. وَأما قَوْله تَعَالَى: {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} فَهُوَ على إِضْمَار مصدر حذف لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَتَقْدِيره: من تأسيس أول يَوْم، وَأما قَوْلهم: مَا رَأَيْته مذ خلق ومذ كَانَ، فَفِي الْكَلَام حذف، تَقْدِيره مذ يَوْم خلق ومذ يَوْم كَانَ. وعَلى هَذَا قَول زُهَيْر: (لمن الديار بقنة الْحجر ... أقوين من حجج وَمن دهر) فَقَالَ: من حجج وَمن دهر. وَقيل أَن من فِي هَذَا الْبَيْت زَائِدَة على مَا يرَاهُ الْأَخْفَش من زيادتها فِي الْكَلَام الْوَاجِب، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أقوين حجَجًا ودهرا. [65] وَيَقُولُونَ: تَتَابَعَت النوائب على فلَان، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: تتايعت، بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ من تَحت لِأَن التَّتَابُع يكون فِي الصّلاح وَالْخَيْر، والتتايع يخْتَص

بالمنكر وَالشَّر، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر: مَا يحملكم على أَن تتايعوا فِي الْكَذِب كَمَا تتايع الْفراش فِي النَّار. وكما روى أَنه لما كثر شرب الْخمر فِي عهد عمر رَضِي الله عَنهُ جمع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، وَقَالَ: إِنِّي أرى النَّاس قد تتايعوا فِي شرب الْخمر واستهانوا بحدها، فَمَاذَا ترَوْنَ فَقَالَ لَهُ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: أرى أَن أحده ثَمَانِينَ، لِأَنِّي أرَاهُ إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، فأحده حد المفتري. فاستصوب عمر رَأْيه، واخذ بِهِ. وَقد جَاءَ فِي لُغَة الْعَرَب أَلْفَاظ خصت بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرّ دون الْخَيْر، كلفظة تهافت، الَّتِي لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي الْمَكْرُوه والحزن، وكلفظة أشفى الَّتِي لَا تقال إِلَّا لمن أشرف على الهلكة، وكالأرق الَّذِي لَا يكون إِلَّا فِي الْمَكْرُوه لِأَن السهر يكون فِي الْمَكْرُوه والمحبوب، وكقولهم فِي مدح الْمَيِّت: التأبين، وَلكُل مَا يثور للضَّرَر: هاج. ولأخبار السوء: صَارُوا أَحَادِيث، وللمذموم مِمَّن تخلف: خلف، وللمتساويين فِي الشَّرّ: سواس وسواسية، كَمَا جَاءَ فِي الْمثل: سواسية كأسنان الْحمار، وكما قَالَ الشَّاعِر: (سود سواسية كَأَن أنوفهم ... بعر ينظمه الصَّبِي بملعب) (لَا يخطبون إِلَى الْكِرَام بناتهم ... وتشيب أيمهم وَلما تخْطب)

وَقد اخْتلف فِي سواسية، فَقيل: هُوَ جمع سَوَاء، وَقيل: بل وضعت مَوضِع سَوَاء. وَمِمَّا يَنْتَظِم فِي هَذَا السلك استعمالهم لَفْظَة أزننته بِمَعْنى اتهمته بالمفاضح دون المحاسن، واستعمالهم الهنات والهنوات فِي الْكِنَايَة عَن الْمُنْكَرَات، كَقَوْل الشَّاعِر: (فَنعم الحيّ كلب غير أَنا ... وجدنَا فِي جوارهم هَنَات) وكقول الآخر: (يزِيد هَنَات من هنين فتلتوي ... علينا وَتَأْتِي من هنين هَنَات) قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: وأنشدني وَالِدي رَحمَه الله، قَالَ: أَنْشدني أَبُو الْحسن بن زنجي اللّغَوِيّ، قَالَ: أَنْشدني أَبُو عبد الله النمري لنَفسِهِ يرثي أَبَا عبد الله الْأَزْدِيّ، وَكَانَت بَينهمَا ملاحاة فِي عهد الْحَيَاة: (مضى الأزديّ والنمريّ يمْضِي ... وَبَعض الْكل مقرون بِبَعْض) (أخي والمجتنى ثَمَرَات ودي ... وَإِن لم يجزني قرضي وفرضي)

(وَكَانَت بَيْننَا أبدا هَنَات ... توفرث عرضه فِيهَا وعرضي) (وَمَا هَانَتْ رجال الأزد عِنْدِي ... وَإِن لم تدن أَرضهم من أرضي) وَحكي أَن أَبَا الْحسن بن وهب، كتب إِلَى أَخ لَهُ يداعبه: (ظبيك هَذَا حسن وَجهه ... وَمَا سوى ذَاك جَمِيعًا يعاب) (فَافْهَم كَلَامي يَا أَبَا عَامر ... مَا يشبه العنوان مَا فِي الْكتاب) فَأَجَابَهُ: (وراقه مَا راقك من حسنه ... مَنَافِع مخبرها مستطاب) (من طيب مسموع إِذا مَا شدا ... يحلو بِهِ الْعَيْش ويصفوا الشَّرَاب) (وَعشرَة محمودة حفها ... مساعدات وهنات عَذَاب) قَالَ الشَّيْخ السعيد رَحمَه الله: وَلَيْسَ وَصفه الهنات بالعذوبة يُخرجهَا عَن وصفهَا بالذم كَمَا أوهم بَعضهم، بل كَمَا تسمى الْخمر اللَّذَّة مَعَ كَونهَا إِحْدَى الْكَبَائِر وَأم الْخَبَائِث. وَمِمَّا لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الشَّرّ قَوْلهم: ندد بِهِ وَسمع بِهِ، وَقَوْلهمْ: قيض لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمثله: {وباؤوا بغضب من الله} أَي رجعُوا. وَذكر أهل التَّفْسِير أَنه لم يَأْتِ فِي الْقُرْآن لفظ الأمطار وَلَا لفظ الرّيح إِلَّا فِي الشَّرّ، كَمَا لم يَأْتِ لفظ الرِّيَاح إِلَّا فِي الْخَيْر، قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الأمطار: {وأمطرنا عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل} ، وَقَالَ عز اسْمه فِي الرِّيَاح وَفِي عَاد: {إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم}

[66] ويقولون في ضمن أقسامهم: وحق الملح، إشارة إلى ما يؤتدم به فيحرفون المكنى عنه لأن الإشارة إلى الملح فيما تقسم به العرب، هو إلى الرضاع لا غير، والدليل عليه قول وفد هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كنا ملحنا للحارث أو للنعمان لحفظ ذلك فينا، أي لو أرضعنا له.

) وَقَالَ فِي الرِّيَاح: {وَمن آيَاته أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات} وَهَذَا هُوَ معنى دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد عصوف الرِّيَاح: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا. أَخْبرنِي أَبُو الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْمعدل قِرَاءَة عَلَيْهِ، قَالَ: حَدثنَا القَاضِي الشريف أَبُو عمر الْقَاسِم بن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَثْرَم، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد ابْن يحيى - وَهُوَ السُّوسِي - قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو عَليّ الرَّحبِي قَالَ: حَدثنَا عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَحمَه الله قَالَ: هَاجَتْ ريح أشْفق مِنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتَقْبلهَا، وَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ وَمد يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تجعلها عذَابا. وَذكر ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن الرِّيَاح الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن: ثَمَان. أَربع رَحْمَة، وَأَرْبع عَذَاب، فَأَما الَّتِي للرحمة فالمبشرات والمرسلات والذاريات والناشرات، وَأما الَّتِي للعذاب فالصرصر والعقيم، وهما فِي الْبر، والعاصف والقاصف وهما فِي الْبَحْر. [66] وَيَقُولُونَ فِي ضمن أقسامهم: وَحقّ الْملح، إِشَارَة إِلَى مَا يؤتدم بِهِ فيحرفون المكنى عَنهُ لِأَن الْإِشَارَة إِلَى الْملح فِيمَا تقسم بِهِ الْعَرَب، هُوَ إِلَى الرَّضَاع لَا غير، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول وَفد هوَازن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو كُنَّا ملحنا لِلْحَارِثِ أَو للنعمان لحفظ ذَلِك فِينَا، أَي لَو أرضعنا لَهُ. وَعَلِيهِ قَول أبي الطمحان فِي قوم أضافهم، فَلَمَّا أجنهم اللَّيْل استاقوا نعمه:

[67] ويقولون: هو ذا يفعل وهو ذا يصنع وهو خطأ فاحش ولحن شنيع، والصواب فيه أن يقال فيه: ها هو ذا يفعل وكأن أصل القول: هو هذا يفعل، فتفرع حرف التنبيه الذي هو ها من اسم الإشارة الذي هو ذا، وصدر في الكلام وأقحم بينهما الضمير ويسمى هذا التقريب، إلا أنه إذا قيل: ها هو ذا، كتب حرف التنبيه

(وَإِنِّي لأرجو ملحها فِي بطونكم ... وَمَا بسطت من جلد أَشْعَث أغبرا) والقطعة مجرورة، وأولها: (أَلا حنت المرقال واشتاق رَبهَا ... تذكر أرماما وَاذْكُر معشري) يُرِيد أَنِّي لأرجو أَن تؤاخذوا بغدركم فِي مُقَابل مَا شربتم من لَبنهَا الَّذِي أسمنكم وَحسن بدنكم. وَأما قَوْلهم: ملحه على رُكْبَتَيْهِ، فَقيل: المُرَاد بِهِ أَنه مِمَّن يضيع حق الرَّضَاع كَمَا يضيع الْملح من يَضَعهُ على ركبته. وَقيل: الْمَعْنى بِهِ السَّيئ الْخلق الَّذِي تطيشه أقل كلمة، كَمَا أَن الْملح الْمَوْضُوع فَوق الرّكْبَة بتبدد بِأَدْنَى حَرَكَة وَأما قَول مِسْكين الدَّارمِيّ: (لَا تلمها إِنَّهَا من نسْوَة ... ملحها مَوْضُوعَة فَوق الركب) فَقيل: عَنى بِهِ أَنَّهَا من قوم هم فِي الْغدر وَسُوء الْعَهْد كمن ملحه فَوق ركبته. وَقيل أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّهَا سَوْدَاء زنجية كَقَوْلِهِم: ملح الزنْجِي على ركبته، وَالْملح مُؤَنّثَة فِي أَكثر الْكَلَام فَلهَذَا قَالَ: ملحها مَوْضُوعَة وَقد نطق فِي بعض اللُّغَات بتذكيره. [67] وَيَقُولُونَ: هُوَ ذَا يفعل وَهُوَ ذَا يصنع وَهُوَ خطأ فَاحش ولحن شنيع، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال فِيهِ: هَا هُوَ ذَا يفعل وَكَأن أصل القَوْل: هُوَ هَذَا يفعل، فتفرع حرف التَّنْبِيه الَّذِي هُوَ هَا من اسْم الْإِشَارَة الَّذِي هُوَ ذَا، وَصدر فِي الْكَلَام وأقحم بَينهمَا الضَّمِير وَيُسمى هَذَا التَّقْرِيب، إِلَّا أَنه إِذا قيل: هَا هُوَ ذَا، كتب حرف التَّنْبِيه

[68] ويقولون: رجل متعوس، ووجه الكلام أن يقال: تاعس، وقد تعس، كما يقال: عاثر، وقد عثر.

بِإِثْبَات الْألف لِئَلَّا يبْقى على حرف وَاحِد، وَالْعرب تكْثر الْإِشَارَة والتنبيه فِيمَا تقصد بِهِ التفخيم. وَفِيمَا رَوَاهُ النحويون أَن غُلَاما مر بصفية بنت عبد الْمطلب فَقَالَ لَهَا: أَيْن الزبير قَالَت: مَا تُرِيدُ مِنْهُ قَالَ: أُرِيد أَن أباطشه، فَقَالَت لَهُ: هَا هُوَ ذَاك، فَصَارَ إِلَيْهِ فباطشه فغلبه الزبير، فَرجع الْغُلَام مغلولا، فَلَمَّا مر بصفية، قَالَت لَهُ: (كَيفَ وجدت زبرا أأقطا أم تَمرا أم قرشيا صقرا) أَرَادَت: أوجدته طَعَاما تَأْكُله أم صقرا يَأْكُلك [68] وَيَقُولُونَ: رجل متعوس، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: تاعس، وَقد تعس، كَمَا يُقَال: عاثر، وَقد عثر. والتعس الدُّعَاء على العاثر بألا ينتعش من صرعته، وَعَلِيهِ فسر قَوْله تَعَالَى: {فتعسا لَهُم} . وَالْعرب تَقول فِي الدُّعَاء على العاثر: تعسا لَهُ وَفِي الدُّعَاء لَهُ: لعا لَهُ، كَمَا قَالَ الاعشى: (بِذَات لوث عفرناة إِذا عثرت ... فالتعس أدنى لَهَا من أَن أَقُول لعا)

يَعْنِي أَنَّهَا تسْتَحقّ أَن يدعى عَلَيْهَا لالها. وَاخْتَارَ الْفراء أَن يُقَال للْغَائِب: تعس بِكَسْر الْعين، وللمخاطب تعست بِفَتْح الْعين، فَأَما فِي التَّعْدِيَة فَيُقَال: أتعسه الله، وَعَلِيهِ قَول مجمع بن هِلَال: (تَقول وَقد أفردتها عَن خليلها ... تعست كَمَا أتعستني يَا مجمع) وعَلى ذكر التعس فَإِنِّي رويت فِي أَخْبَار أبي أَحْمد العسكري عَن أبي عَليّ الْأَعرَابِي قَالَ: حَدثنِي بعض الأدباء، قَالَ: وقف علينا إعرابي فِي طَرِيق الْحَج، وَقد عَن لنا سرب ظباء، فَقَالَ: بكم تشترون وَاحِدَة مِنْهُنَّ فَقُلْنَا: بأَرْبعَة دَرَاهِم قَالَ: فتركنا وسعى نحوهن، فَمَا كذب أَن جَاءَ وعَلى عَاتِقه ظَبْيَة وَهُوَ يَقُول: (وَهِي على الْبعد تلوي خدها تقيس شدي وأقيس شدها كَيفَ ترى عَدو غُلَام ردهَا) فَقلت: (أرَاهُ قد أتعبها وكدها وأتعس الله لَدَيْهِ جدها أَنْت أَشد النَّاس عدوا بعْدهَا)

[69] ويقولون ما شعرت بالخبر، بضم العين، فيحيلون المعنى فيه، لأن معنى ما شعرت بضم العين، ما صرت شاعرا، فأما الفعل الذي بمعنى علمت، فهو شعرت بفتح العين.

قَالَ: فَتَركهَا وَانْصَرف، فَقلت لَهُ خُذ حَقك، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله أتمدحني وآخذ مِنْك [69] وَيَقُولُونَ مَا شَعرت بالْخبر، بِضَم الْعين، فيحيلون الْمَعْنى فِيهِ، لِأَن معنى مَا شَعرت بِضَم الْعين، مَا صرت شَاعِرًا، فَأَما الْفِعْل الَّذِي بِمَعْنى علمت، فَهُوَ شَعرت بِفَتْح الْعين. وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري، أَي لَيْت علمي. وَعند الْفراء أَن لَفْظَة شعري مصدر مثل علمي، وَفِي الْكَلَام مَحْذُوف ترك إِظْهَاره لِكَثْرَة اسْتِعْمَال هَذِه اللَّفْظَة، وَتَقْدِير الْكَلَام: لَيْت علمي، بلغه خبر فلَان. وَقَالَ ثَعْلَب: بل الْمصدر، من شَعرت هُوَ شَعْرَة مثل فطنة، فحذفت الْهَاء مِنْهُ للإضافة، كَمَا حذفت فِي قَوْلهم للزَّوْج الأول: هُوَ أَبُو عذرا وَالْأَصْل أَبُو عذرتها، وَمثله قَوْله تَعَالَى {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله وإقام الصَّلَاة} لِأَن الأَصْل إِقَامَة، فحذفت مِنْهُ الْهَاء للإضافة. [70] وَيَقُولُونَ فِي الْمَنْسُوب إِلَى الْفَاكِهَة والباقلاء والسمسم: فاكهاني وباقلاني وسمسماني فيخطئون فِيهِ لِأَن الْعَرَب لم يلْحقُوا الْألف وَالنُّون فِي النّسَب إِلَّا بأسماء محصورة زيدتا فِيهَا للْمُبَالَغَة كَقَوْلِهِم للعظيم الرَّقَبَة: رقباني وللكثيف اللِّحْيَة لحياني وللوافر

[71] ويقولون للذهب.

الجمة جماني وللمنسوب إِلَى الرّوح روحاني وَإِلَى من يرب الْعلم رباني، وَإِلَى بَائِع الصيدل والصيدن - وهما فِي الأَصْل حِجَارَة الْفضة، ثمَّ جعلا اسْمَيْنِ للعقاقير: صيدلاني وصيدناني، وَوجه الْكَلَام فِي الأول أَن يُقَال فِي الْمَنْسُوب إِلَى السمسم: سمسمي، كَمَا يُقَال فِي الْمَنْسُوب إِلَى ترمذ: ترمذي، وَأَن يُقَال فِي الْمَنْسُوب إِلَى الْفَاكِهَة: فاكهي، كَمَا ينْسب إِلَى السامرة سامري، فَأَما الْمَنْسُوب إِلَى الباقلى، فَمن قصره قَالَ فِي النّسَب إِلَيْهِ: باقلي لِأَن الْمَقْصُور إِذا تجَاوز الرباعي حذفت أَلفه فِي النّسَب، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى حبارى حباريّ وَإِلَى قبعثرى قبعثريّ. وَمن مد الباقلاء أجَاز فِي النّسَب إِلَيْهِ باقلاوي وباقلائي، كَمَا ينْسب إِلَى حرباء وعلباء حرباوي وحربائي وعلباوي وعلبائي. وَأما قَوْلهم فِي النّسَب إِلَى صنعاء وبهراء ودستوا: صنعاني وبهراني ودستواني فَهُوَ من شواذ النّسَب، والشاذ لَا يعاج إِلَيْهِ وَلَا تحمل نَظَائِره عَلَيْهِ. [71] وَيَقُولُونَ لِلذَّهَبِ. خلاص بِفَتْح الْخَاء. وَالِاخْتِيَار فِيهِ أَن يُقَال خلاص بِالْكَسْرِ، واشتقاقه من أخلصته النَّار بالسبك. وَكنت سَمِعت فِي روق الشبيبة ولدونة الحداثة القشيبة أديبا من أهل بست معجبا يَقُول أبي الْفَتْح البستي: إِذا اقْترن الْوَلَاء بالإخلاص، صَار

[72] ويقولون: سارر فلان فلانا وقاصصه وحاججه وشاققه فيبرزون التضعيف كما يظهرونه في مصادر هذه الأفعال أيضا، فيقولون المساررة والمقاصصة والمحاججة والمشاققة.

كالذهب الْخَلَاص. فارتجلت على البديهة وَقلت: من طلب جَانب الْخَلَاص، جَانب طلب الْخَلَاص، فثناه عَن استنانه، وَأغْرقَ فِي استحسانه. [72] وَيَقُولُونَ: سارر فلَان فلَانا وقاصصه وحاججه وشاققه فيبرزون التَّضْعِيف كَمَا يظهرونه فِي مصَادر هَذِه الْأَفْعَال أَيْضا، فَيَقُولُونَ المساررة والمقاصصة والمحاججة والمشاققة. ويغلطون فِي جَمِيع ذَلِك، لِأَن الْعَرَب اسْتعْملت الْإِدْغَام فِي هَذِه الْأَفْعَال ونظائرها، طلبا لاستخفاف اللَّفْظ، واستثقالا للنطق بالحرفين المتماثلين، وَرَأَتْ أَن إبراز الْإِدْغَام بِمَنْزِلَة اللَّفْظ المكرر، والْحَدِيث الْمعَاد. ثمَّ لم تفرق بَين ماضي هَذِه الْأَفْعَال ومستقبلها وتصاريف مصادرها، فَقَالُوا: ساره يسَاره، مسارة، وحاجه يحاجه مُحَاجَّة. وَقَالُوا فِي نوع آخر مِنْهُ: تصام عَن الْأَمر، أَي أرى أَنه أَصمّ، وتضام الْقَوْم، أَي انضموا، وتراص المصلون، أَي تلاصقوا، وعَلى هَذَا حكم قبيل هَذَا الْكَلَام، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {وحاجه قومه} ، وَورد فِيهِ: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} فاشتملت هَذِه الْآيَة على الْإِدْغَام فِي الْفِعْلَيْنِ: الْمَاضِي والمستقبل. وَهَذَا الحكم مطرد فِي كل مَا جَاءَ من الْأَفْعَال المضاعفة على وزن فعل وأفعل وفاعل وافتعل وتفاعل واستفعل، نَحْو مد الْحَبل وأمد وماد وامتد وتماد واستمد، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَّصل بِهِ ضمير الْمَرْفُوع، أَو يُؤمر فِيهِ جمَاعَة الْمُؤَنَّث، فَيلْزم حِينَئِذٍ فك الْإِدْغَام فِي هذَيْن الموطنين، لسكون آخر الحرفين المتماثلين، كَقَوْلِك: رددت ورددنا ونظائره، وكقولك فِي الْأَمر لجَماعَة الْمُؤَنَّث: ارددن وامددن، وَقد جوز الْإِدْغَام والإظهار فِي الْأَمر للْوَاحِد، كَقَوْلِك: رد، واردد، وَقاص وقاصص، واقتص واقتصص، وَكَذَلِكَ جوز الْأَمْرَانِ فِي المجزوم كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة: {من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

) ، وَفِي سُورَة أُخْرَى: {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر} ، وكما قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمن يشاق الله} وَفِي موطن آخر: {وَمن يُشَاقق الله} ، فَأَما فِيمَا عدا هَذِه المواطن الْمَذْكُورَة فَلَا يجوز إبراز التَّضْعِيف إِلَّا فِي ضَرُورَة الشّعْر، كَمَا قَالَ الراجز فِي الِاسْم: (إِن بني للئام زهده ... مَالِي فِي صُدُورهمْ من مودده) فأظهر التَّضْعِيف فِي مَوَدَّة لإِقَامَة الْوَزْن وَتَصْحِيح الْبَيْت وَمثله قَول قعنب بن أم صَاحب فِي الْأَفْعَال: (مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... إِنِّي أَجود لأقوام وَإِن ضننوا)

[73] ومن أوهامهم في التضعيف قولهم للاثنتين: ارددا، وهو من مفاحش اللحن، ووجه الكلام أن يقال لهما: ردا كما يقال للجميع: ردوا، والعلة فيه أن الألف التي هي ضمير المثنى، والواو التي هي ضمير الجمع تقتضيان لسكونهما تحريك آخر ما قبلهما، ومتى تحرك آخر الفعل حركة صحيحة وجب الإدغام، وهذه العلة مرتفعة في قولك

أَرَادَ ضنوا، ففك الْإِدْغَام للضَّرُورَة. وَقد شَذَّ مِنْهُ قَوْلهم: قطط شعره، من القطط ومششت الدَّابَّة من المشش، ولححت عينه، أَي التصقت، والل السقاء، إِذا تَغَيَّرت رِيحه، وضبب الْبَلَد إِذا كثر ضبابه، وصككت الدَّابَّة من الصكك فِي القوائم وكل ذَلِك مِمَّا لَا يعْتد بِهِ وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ. [73] وَمن أوهامهم فِي التَّضْعِيف قَوْلهم للاثنتين: ارددا، وَهُوَ من مفاحش اللّحن، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال لَهما: ردا كَمَا يُقَال للْجَمِيع: ردوا، وَالْعلَّة فِيهِ أَن الْألف الَّتِي هِيَ ضمير الْمثنى، وَالْوَاو الَّتِي هِيَ ضمير الْجمع تقتضيان لسكونهما تَحْرِيك آخر مَا قبلهمَا، وَمَتى تحرّك آخر الْفِعْل حَرَكَة صَحِيحَة وَجب الْإِدْغَام، وَهَذِه الْعلَّة مُرْتَفعَة فِي قَوْلك

[74] ويقولون: نقل فلان رحله، إشارة إلى أثاثه وآلاته وهو وهم ينافي الصواب، ويباين المقصود به في لغة الأعراب، إذ ليس في أجناس الآلات ما يسمونه رحلا إلا سرج البعير الذي عناه الشاعر بقوله:

للْوَاحِد: ارْدُدْ، فَلهَذَا امْتنع الْقيَاس عَلَيْهِ. [74] وَيَقُولُونَ: نقل فلَان رَحْله، إِشَارَة إِلَى أثاثه وآلاته وَهُوَ وهم يُنَافِي الصَّوَاب، ويباين الْمَقْصُود بِهِ فِي لُغَة الْأَعْرَاب، إِذْ لَيْسَ فِي أَجنَاس الْآلَات مَا يسمونه رحلا إِلَّا سرج الْبَعِير الَّذِي عناه الشَّاعِر بقوله: (مهما نسيت فَمَا أنسى مقالتها ... يَوْم الرحيل لأتراب لَهَا عرب) (سكن قلبِي بأيديكن أَن لَهُ ... وهجا يفوق ضرام النَّار واللهب) (لَيْت الْفِرَاق نعى روحي إِلَى بدني ... قبل التآلف بَين الرحل والقتب) وَإِنَّمَا رَحل الرجل منزله، بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا ابتلت النِّعَال فَالصَّلَاة فِي الرّحال، أَي صلوا فِي مَنَازِلكُمْ عِنْد ابتلال أحذيتكم من الْمَطَر. وَقيل أَن النِّعَال هُنَا جمع نعل وَهُوَ مَا صلب من الأَرْض. وَمن كَلَام الْعَرَب للمعشب: الرّيع، وللخصيب الرحل: هُوَ أَخْضَر النَّعْل. وَمِمَّا أنْشدهُ ابْن السّكيت فِي أَبْيَات مَعَانِيه:

[75] ويقولون لمن يكثر السؤال من الرجال: سائل ومن النساء سائلة، والصواب أن يقال لهما سأل وسألة، كما أنشد بعضهم في الخمر:

(نلقاهم وهم خضر النِّعَال كَأَن ... قد نشرت كتفيها فيهم الضبع) (لَو صاب وَادِيهمْ رسل فأترعه ... مَا كَانَ للضيف فِي تغميره طمع) أَرَادَ أَنهم لَو أخصبت أَرضهم حَتَّى سَالَ وَادِيهمْ لَبَنًا، لما سقوا الضَّيْف مذقة مِنْهُ، والتغمير أقل الشّرْب، لاشتقاقه من الْغمر وَهُوَ أَصْغَر الأقداح. [75] وَيَقُولُونَ لمن يكثر السُّؤَال من الرِّجَال: سَائل وَمن النِّسَاء سَائِلَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهما سَأَلَ وسألة، كَمَا أنْشد بَعضهم فِي الْخمر: (سألة للفتى مَا لَيْسَ فِي يَده ... ذهابة بعقول الْقَوْم وَالْمَال) (أَقْسَمت بِاللَّه أسقيها وأشربها ... حَتَّى تفرق ترب الأَرْض أوصالي) يَعْنِي: أَقْسَمت بِاللَّه لَا أسقيها، فاضمر لَا كَمَا أضمرت فِي قَوْله تَعَالَى: {تالله تفتأ تذكر يُوسُف} أَي لَا تفتأ. وَأكْثر مَا تضمر فِي الْأَقْسَام كَمَا قَالَت الخنساء: (فآليت آسى على هَالك ... واسأل نائحة مَالهَا) أَي لَا آسى وَلَا أسأَل. وَقد تضمر فِي غير الْقسم كَقَوْل الراجز لِابْنِهِ: (أوصيك أَن يحمدك الْأَقَارِب ... وَيرجع الْمِسْكِين وَهُوَ خائب) أَي وَلَا يرجع. وكما أَنهم أضمروا لَا فقد استعملوها زَائِدَة على وَجه الفصاحة وتحسين الْكَلَام، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} ، وَالْمرَاد بِهِ: مَا

مَنعك أَن تسْجد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى فِي السُّورَة الْأُخْرَى: {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} ، وَمِنْه قَول الراجز: (وَمَا ألوم الْبيض أَلا تسخرا ... إِذا رأين الشمط المنورا) أَي لَا ألوم الْبيض أَن تسخر إِذا رأين الشيب. وَالْأَصْل فِي مباني الأفاعيل مُلَاحظَة حفظ الْمعَانِي الَّتِي تتَمَيَّز باخْتلَاف صِيغ الْأَمْثِلَة فَبنى مِثَال من فعل الشَّيْء مرّة على فَاعل، نَحْو قَاتل وفاتك، وَبنى مِثَال من كرر الْفِعْل على فعال مثل قتال وفتاك، وَبنى مِثَال من بَالغ فِي الْفِعْل، وَكَانَ قَوِيا عَلَيْهِ على فعول، مثل صبور وشكور، وَبنى مِثَال من اعْتَادَ الْفِعْل على مفعال، مثل امْرَأَة مذكار إِذا كَانَ من عَادَتهَا أَن تَلد الذُّكُور، ومئناث إِذا كَانَ من عَادَتهَا أَن تَلد الْإِنَاث، ومعقاب إِذا كَانَ من عَادَتهَا أَن تَلد ذكرا نوبَة ذكرا ونوبة أُنْثَى وَبنى مِثَال من كَانَ آلَة للْفِعْل وعدة لَهُ، على مفعل نَحْو محرب ومرجم. وَحكى ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: دفع رجل رجلا من الْعَرَب فَقَالَ الْمَدْفُوع: لتجدني ذَا منْكب مزحم وركن مدعم وَرَأس مصدم ولسان مرجم وَوَطْء ميثم، أَي مكسر. وَسُئِلَ بعض أهل اللُّغَة عَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} ، لم ورد على وزن فعال الَّذِي صِيغ للتكثير وَهُوَ سُبْحَانَهُ منزه عَن الظُّلم الْيَسِير فَأجَاب عَنهُ: أَن أقل الْقَلِيل من الظُّلم لَو ورد مِنْهُ وَقد جلّ سُبْحَانَهُ عَنهُ لَكَانَ كثيرا لاستغنائه عَن فعله وتنزهه عَن قبحه، وَلِهَذَا يُقَال: زلَّة الْعَالم كَبِيرَة، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ المَخْزُومِي الشَّاعِر فِي قَوْله: (ألعيب فِي الْجَاهِل المغمور مغمور ... وعيب ذِي الشّرف الْمَذْكُور مَذْكُور) (كفوفة الظفر تخفي من حقارتها ... وَمثلهَا فِي سَواد الْعين مَشْهُور)

[76] ويقولون: يوشك أن يفعل كذا بفتح الشين، والصواب فيه كسرها، لأن الماضي منه أوشك، فكان مضارعه يوشك، كما يقال: أودع يودع وأورد يورد، ومعنى يوشك يسرع، لاشتقاقه من الوشيك وهو السريع إلى الشيء، وقد تستعمل هذه اللفظة باتصال أن بها وحذفها عنها، فيقال: يوشك يفعل، كما قال الشاعر:

[76] وَيَقُولُونَ: يُوشك أَن يفعل كَذَا بِفَتْح الشين، وَالصَّوَاب فِيهِ كسرهَا، لِأَن الْمَاضِي مِنْهُ أوشك، فَكَانَ مضارعه يُوشك، كَمَا يُقَال: أودع يودع وَأورد يُورد، وَمعنى يُوشك يسْرع، لاشتقاقه من الوشيك وَهُوَ السَّرِيع إِلَى الشَّيْء، وَقد تسْتَعْمل هَذِه اللَّفْظَة باتصال أَن بهَا وحذفها عَنْهَا، فَيُقَال: يُوشك يفعل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (يُوشك من فر من منيته ... فِي بعض غراته يُوَافِقهَا) وَيُقَال: يُوشك أَن يفعل، كَمَا قَرَأت على ذِي الرتبتين أبي الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد الْجَوْهَرِي الْكَاتِب رَحمَه الله، قَالَ: أَنْشدني القَاضِي أَبُو عبد الله الضَّبِّيّ لعمران بن حطَّان: (أَفِي كل عَام مرضة ثمَّ نهضة ... وتنعى وَلَا تنعى مَتى ذَا إِلَى مَتى) (فيوشك يَوْم أَن يُوَافق لَيْلَة ... يسوقان حتفا رَاح نَحْوك أَو غَدا) ويضاهي لَفْظَة يُوشك، لفظتا عَسى وَكَاد فِي جَوَاز إِيرَاد أَن بعدهمَا وإلغائها مَعَهُمَا إِلَّا أَن الْمَنْطُوق بِهِ فِي الْقُرْآن، وَالْمَنْقُول عَن فصحاء أولي الْبَيَان، إِيقَاع أَن بعد عَسى وإلغاؤها بعد كَاد، وَالْعلَّة فِيهِ أَن كَاد وضعت لمقاربة الْفِعْل، وَلِهَذَا قَالُوا: كَاد النعام

يطير، لوُجُود جُزْء من الطيران فِيهِ، وَإِن وضعت لتدل على تراخي الْفِعْل ووقوعه فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل، فَإِذا وَقعت بعد كَاد نافت مَعْنَاهَا الدَّال على اقتراب الْفِعْل، وَحصل فِي الْكَلَام ضرب من التَّنَاقُض، وَلَيْسَ كَذَلِك عَسى، لِأَنَّهَا وضعت للتوقع الَّذِي يدل وضع أَن على مثله، فوقوع أَن بعْدهَا يُفِيد تَأْكِيد الْمَعْنى، ويزيده فضل تَحْقِيق وَقُوَّة، وَقد نطقت الْعَرَب بعدة أَمْثَال فِي كَاد ألغيت أَن فِي جَمِيعهَا، فَقَالُوا: كَاد الْعَرُوس يكون ملكا، وَكَاد المنتعل يكون رَاكِبًا، وَكَاد الْحَرِيص يكون عبدا، كَاد النعام يكون طيرا، وَكَاد الْفقر يكون كفرا، وَكَاد الْبَيَان يكون سحرًا، وَكَاد الْبَخِيل يكون كَلْبا، كَاد السيء الْخلق يكون سبعا. وَفِيمَا يرْوى من خزعبلات الْعَرَب أَن امْرَأَة من الْجِنّ قصدت لمحاجاة الْعَرَب، فَكَانَت تقف على كل محجة، وتحاجي كل من تَلقاهُ فَلَا يثبت لمحاجاتها أحد، إِلَى أَن تعرض لَهَا أحد فتيَان الْعَرَب فَقَالَ لَهَا: حاجتتك، فَقَالَت: قل، فَقَالَ لَهَا: كَاد، قَالَت: كَاد الْعَرُوس يكون ملكا، فَقَالَ لَهَا: كَاد، قَالَت: كَاد المنتعل يكون رَاكِبًا، فَقَالَ لَهَا: كَاد، قَالَت: كَاد النعام يكون طيرا، ثمَّ أمسك. فَقَالَت لَهُ: حاجيتك، قَالَ لَهَا قولي: قَالَت: عجبت، قَالَت: عجبت للسبخة كَيفَ لَا يجِف ثراها وَلَا ينْبت مرعاها، فَقَالَت: عجبت، قَالَ: عجبت للحصى كَيفَ لَا يكبر صغاره، وَلَا يهرم كباره، قَالَت: عجبت: قَالَ: عجبت

[77] ويقولون لهذا النوع من الخضراوات المأكولة: ثلجم، وبعضهم يقول: شلجم بالشين المعجمة، وكلاهما خطأ على ما حكاه أبو عمر الزاهد عن ثعلب، ونص على أن الصواب فيه أن يقال: سلجم بالسين المغفلة، واستشهد عليه بقول الراجز:

لحفرة بَين فخذيك كَيفَ لَا يدْرك قعرها، وَلَا يمل حفرهَا، قَالَ: فخجلت من جَوَابه، وتولت عَنهُ وَلم تعد إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ. [77] وَيَقُولُونَ لهَذَا النَّوْع من الخضراوات المأكولة: ثلجم، وَبَعْضهمْ يَقُول: شلجم بالشين الْمُعْجَمَة، وَكِلَاهُمَا خطأ على مَا حَكَاهُ أَبُو عمر الزَّاهِد عَن ثَعْلَب، وَنَصّ على أَن الصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: سلجم بِالسِّين المغفلة، وَاسْتشْهدَ عَلَيْهِ بقول الراجز: (تَسْأَلنِي برامتين سلجما أَنَّك لَو سَأَلت شَيْئا أمما جَاءَ بِهِ الكري أَو تجشما) يَعْنِي أَنَّك لَو سَأَلت شَيْئا مَوْجُودا بالبادية لأتينك بِهِ، وَلَكِنَّك طلبت مَا يعوز وجدانه فِيهَا، والأمم من حُرُوف الأضداد، فيستعمل تَارَة بِمَعْنى عَظِيم، وَأُخْرَى بِمَعْنى يسير، وَبِمَعْنى الْقَصْد بَين الحقير والعظيم، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (يَا لهف نَفسِي على الشَّبَاب وَلم ... أفقد بِهِ إِذْ فقدته أمما) [78] وَيَقُولُونَ: جَلَست فِي فَيْء الشَّجَرَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: فِي ظلّ الشَّجَرَة، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثر مِمَّا أخبرنَا بِهِ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ السيرافي الْحَافِظ

فِيمَا قرأته عَلَيْهِ، قَالَ: حَدثنَا القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن بشر، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف البيع قَالَ: حَدثنَا سعيد ابْن عَامر الضبعِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن فِي الْجنَّة لشَجَرَة يسير الرَّاكِب فِي ظلها مائَة عَام، لَا يقطعهَا، اقرأوا إِن شِئْتُم: {وظل مَمْدُود} . وَالْعلَّة فِيمَا ذَكرْنَاهُ أَن الْفَيْء يُسمى بذلك لِأَنَّهُ فَاء عِنْد زَوَال الشَّمْس من جَانب إِلَى جَانب، أَي رَجَعَ، وَمعنى الظل، السّتْر وَمِنْه اشتقاق المظلة، لِأَنَّهَا تستر من الشَّمْس، وَبِه أَيْضا سمى سَواد اللَّيْل ظلا، لِأَنَّهُ يستر كل شَيْء، فَكَانَ اسْم الظل يَقع على مَا يستر من الشَّمْس، وعَلى مَالا تطلع عَلَيْهِ، وذرى الشَّجَرَة يَنْتَظِم هذَيْن الوصفين فانتظمه اسْم الظل واشتمل نطاقه عَلَيْهِ فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالسُّلْطَان ظلّ الله فِي أرضه فَالْمُرَاد بِهِ ستره السابغ على عباده، والمسندل على بِلَاده، وَمن سنة الْعَرَب أَن تضيف كل عَظِيم إِلَيْهِ جلت قدرته وعظمته، كَقَوْلِهِم للكعبة: بَيت الله، وللحاج: وَفد الله، فَأَما قَول الراجز: (كَأَنَّمَا وَجهك ظلّ من حجر ) وَقيل: المُرَاد بِهِ سَواد الْوَجْه، وَقبل: بل كني بِهِ عَن الوقاحة، وَقد فصل بَعضهم أَنْوَاع الاستظلال، فَقَالَ: يُقَال: استظل من الْحر، واستذرى من الْبرد، واستكن من الْمَطَر.

[79]- ويقولون: ما فعلت الثلاثة الأثواب فيعرفون الاسمين ويضيفون الأول منهما إلى الثاني، والاختيار أن يعرف الأخير من كل عدد مضاف، فيقال: ما فعلت ثلاثة الأثواب وفيم انصرفت ثلاثمائة الدرهم، وعليه قول ذي الرمة:

[79]- وَيَقُولُونَ: مَا فعلت الثَّلَاثَة الأثواب فيعرفون الاسمين ويضيفون الأول مِنْهُمَا إِلَى الثَّانِي، وَالِاخْتِيَار أَن يعرف الْأَخير من كل عدد مُضَاف، فَيُقَال: مَا فعلت ثَلَاثَة الأثواب وفيم انصرفت ثَلَاثمِائَة الدِّرْهَم، وَعَلِيهِ قَول ذِي الرمة: (وَهل يرجع التَّسْلِيم أَو يكْشف الْعَمى ... ثَلَاث الأثافي والرسوم البلاقع) قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: وَقد بَين شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم رَحمَه الله الْعلَّة فِي وجوب تَعْرِيف الثَّانِي، فَقَالَ: لما لم يكن بُد من دُخُول آلَة التَّعْرِيف فِي هَذَا الْعدَد أَو أَنهم لَو عرفوها جَمِيعًا فَقَالُوا: الثَّلَاثَة الأثواب لتعرف الِاسْم الأول بلام التَّعْرِيف وبالإضافة الْحَقِيقِيَّة، وَلَا يجوز أَن يتعرف الِاسْم من وَجْهَيْن، وَلَو أَنهم عرفُوا الِاسْم الأول وَحده لتناقض الْكَلَام، لِأَن إِدْخَال الْألف وَاللَّام على الِاسْم الأول يعرفهُ، وإضافته إِلَى النكرَة تنكره، فَلم يبْق إِلَّا أَن يعرف الثَّانِي ليتعرف هُوَ بلام التَّعْرِيف، ويتعرف الأول بإضافته إِلَيْهِ، فَيحصل لكل وَاحِد مِنْهُمَا التَّعْرِيف من طَرِيق غير طَرِيق صَاحبه. فَإِن اعْترض معترض وَقَالَ: كَيفَ عرف الِاسْم الأول فِي الْعدَد الْمركب، كَقَوْلِهِم:

[80] ويقولون في الثياب المنسوبة إلى ملك الروم ثياب ملكية بكسر اللام، والصواب فيه ملكية بفتح اللام، كما يقال في النسب إلى النمر نمري، والعلة فيه أنهم لو أفردوا الكسرة في ثاني هذه الكلمة لغلبت عليها الكسرات والياءات، ولم يسلم من ذلك إلا الحرف الأول والتلفظ بما هذه صيغته يستثقل، فلذلك عدل إلى إبدال الكسرة فتحة لتخف الكلمة، ويحسن النطق بها، وإنما لم يفعل ذلك في المنسوب إلى الرباعي، نحو مالكي وعامري، لأن الكسرات لم تغلب عليه من فصل الألف بين أوله وثالثه.

مَا فعل الْأَحَد عشر ثوبا فَالْجَوَاب عَنهُ أَن الاسمين إِذا ركبا تنزلا منزلَة الِاسْم الْوَاحِد، وَالِاسْم الْوَاحِد تلْحق لَام التَّعْرِيف بأوله، فَكَمَا يُقَال: مَا فعلت التِّسْعَة يُقَال مَا فعلت التِّسْعَة عشر وَقد ذهب بعض الْكتاب إِلَى تَعْرِيف الاسمين المركبين والمعدود والمميز، فَقَالُوا: الْأَحَد عشر الثَّوْب، وَهُوَ مِمَّا لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعرج عَلَيْهِ، لِأَن الْمُمَيز لَا يكون مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام، وَلَا نقل إِلَيْنَا فِي شجون الْكَلَام. [80] وَيَقُولُونَ فِي الثِّيَاب المنسوبة إِلَى ملك الرّوم ثِيَاب ملكية بِكَسْر اللَّام، وَالصَّوَاب فِيهِ ملكية بِفَتْح اللَّام، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى النمر نمريّ، وَالْعلَّة فِيهِ أَنهم لَو أفردوا الكسرة فِي ثَانِي هَذِه الْكَلِمَة لغلبت عَلَيْهَا الكسرات والياءات، وَلم يسلم من ذَلِك إِلَّا الْحَرْف الأول والتلفظ بِمَا هَذِه صيغته يستثقل، فَلذَلِك عدل إِلَى إِبْدَال الكسرة فَتْحة لتخف الْكَلِمَة، وَيحسن النُّطْق بهَا، وَإِنَّمَا لم يفعل ذَلِك فِي الْمَنْسُوب إِلَى الرباعي، نَحْو مالكي وعامري، لِأَن الكسرات لم تغلب عَلَيْهِ من فصل الْألف بَين أَوله وثالثه. [81] وَيَقُولُونَ: انساغ لي الشَّرَاب، فَهُوَ منساغ، وَالِاخْتِيَار فِيهِ سَاغَ، فَهُوَ سَائِغ كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (فساغ لي الشَّرَاب وَكنت قبلا ... أكاد أغص بِالْمَاءِ الْحَمِيم) وَفِي الْقُرْآن: {لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين} ، وَقد جَاءَ فِي تَفْسِيره أَنه لم يغص بِهِ

[82] ويقولون للند المتخذ من ثلاثة أنواع من الطيب: مثلث، والصواب أن يقال فيه: مثلوث، كما قالت العرب: حبل مثلوث إذا أبرم على ثلاث قوى، وكساء مثلوث إذا نسج من صوف ووبر وشعر، ومزادة مثلوثة إذا اتخذت من ثلاثة جلود.

أحد قطّ، وَمن حكى أَنه سمع فِي بعض اللُّغَات انساغ لي الشَّيْء، أَي جَازَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يعْتد بِهِ، وَلَا يعْذر من اسْتَعْملهُ فِي أَلْفَاظه وَكتبه. [82] وَيَقُولُونَ للند الْمُتَّخذ من ثَلَاثَة أَنْوَاع من الطّيب: مثلث، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: مثلوث، كَمَا قَالَت الْعَرَب: حَبل مثلوث إِذا أبرم على ثَلَاث قوى، وَكسَاء مثلوث إِذا نسج من صوف ووبر وَشعر، ومزادة مثلوثة إِذا اتَّخذت من ثَلَاثَة جُلُود. وأصل هَذَا الْكَلَام مَأْخُوذ من قَوْلك: ثلثت الْقَوْم فَأَنا ثَالِث، وهم مثلوثون. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: وقرأت فِي بعض النَّوَادِر أَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وصف لنديم لَهُ طيب ند اتَّخذهُ، ثمَّ أَتَاهُ بِقِطْعَة مِنْهُ، فألقاها على مجمرة، ووضعها تَحْتَهُ، فَخرجت مِنْهُ ريح فِي أثْنَاء تجمره، فَقَالَ: مَا أجد هَذِه الْمُثَلَّثَة طيبَة، فَقَالَ لَهُ: فديتك قد كَانَت طيبَة حِين كَانَت مُثَلّثَة، فَلَمَّا ربعتها خبثت. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: وَإِنَّمَا قلت مُثَلّثَة لِأَن النادرة تحكى على الأَصْل وَلَا يُغير مَا فِيهَا من اللّحن وَلَا من سخافة اللَّفْظ، وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: إِن ملحة النادرة فِي لحنها وحرارتها فِي حلاوة مقطعها.

[83] ويقولون: قمئ الرجل ودفئ اليوم، والصواب أن يقال فيهما: قمؤ ودفؤ لينتظما في سلك حيزهما من أفعال الطبائع التي تأتي على فعل بضم العين مثل:

وَنَظِير وهمهم فِي هَذِه اللَّفْظَة قَوْلهم: صبيي مجدر وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مجدور، لِأَنَّهُ دَاء يُصِيب الْإِنْسَان مرّة فِي عمره من غير أَن يتَكَرَّر عَلَيْهِ، فَلَزِمَ أَن يَبْنِي الْمِثَال مِنْهُ على مفعول، فَيُقَال: مجدور، كَمَا يُقَال: مقتول، وَلَا وَجه لبنائه على مفعل الْمَوْضُوع للتكرير، كَمَا يُقَال لمن: يجرح جرحا على جرح مجرح، وَلما يضْرب نوبَة بعد نوبَة: مضرب، والأفصح أَن يُقَال: جدري بِضَم الْجِيم، واشتقاقه من الْجدر وَهُوَ آثَار الكدم فِي عنق الْحمار. [83] وَيَقُولُونَ: قمئ الرجل ودفئ الْيَوْم، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فيهمَا: قمؤ ودفؤ لينتظما فِي سلك حيزهما من أَفعَال الطبائع الَّتِي تَأتي على فعل بِضَم الْعين مثل:

[84] ويقولون للأنثى من ولد الضأن: رخلة، وهي في اللغة الفصحى رخل بفتح الراء وكسر الخاء، وقد قيل فيها: رخل بكسر الراء وإسكان الخاء، وعلى كلتا اللغتين لا يجوز إلحاق الهاء بها، لأن الذكر لا يشركها في هذا الاسم وإنما يقال له: حمل، فجرت

بدن وسخن وضخم وَعظم، وَمثله وضؤ وَجهه إِذا صَار وضيئا، ووطؤ مركبه إِذا صَار وطيئا، ومرؤ الطَّعَام إِذا صَار مريئا ومرؤ الانسان إِذا صَار ذَا مُرُوءَة، ودنؤ عرض فلَان، أَي صَار دنيئا، وردؤ الطَّعَام، إِذا صَار رديئا. وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب قَوْلهم: تبريت من فلَان، بِمَعْنى بَرِئت مِنْهُ، فيخطئون فِيهِ، لِأَن معنى تبريت تعرضت مثل انبريت، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وأهلة ود قد تبريت ودهم ... وأبليتهم فِي الْحَمد جهدي ونائلي) أَي تعرضت لودهم، فَأَما مَا هُوَ بِمَعْنى الْبَرَاءَة، فَقَالَ فِيهِ: قد تبرأت كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل: {تبرأنا إِلَيْك} . وَنَظِير هَذَا قَوْلهم: هديت من غَضَبي أَي سكنت، وَالصَّوَاب، أَن يُقَال: هدأت، لاشتقاقه من الهدوء، فَأَما هديت فمشتقة من الْهِدَايَة وَالْهدى. وَمن أوهامهم أَيْضا فِي هَذَا النَّوْع قَوْلهم: التباطي والتوضي والتبري والتهزي: وَالصَّوَاب أَن يُقَال: التباطؤ والتوضؤ والتبرؤ والتهزؤ. وَعقد هَذَا الْبَاب أَن كل مَا كَانَ على وزن تفعل أَو تفَاعل مِمَّا آخِره مَهْمُوز كَانَ مصدره على التفعل والتفاعل وهمز آخِره وَلِهَذَا قيل: التَّوَضُّؤ والتبرؤ، لِأَن تصريف الْفِعْل مِنْهُمَا تَوَضَّأ وتبرأ. وَقيل: التباطؤ والتمالؤ والتكافؤ والتطأطؤ، لِأَن أصل الْفِعْل مِنْهَا تباطأ وتطأطأ وتمالأ وتكافأ، وَهَذَا الأَصْل مطرد حكمه، وَغير منحل من هَذَا السمط نظمه. [84] وَيَقُولُونَ للْأُنْثَى من ولد الضَّأْن: رخلة، وَهِي فِي اللُّغَة الفصحى رخل بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْخَاء، وَقد قيل فِيهَا: رخل بِكَسْر الرَّاء وَإِسْكَان الْخَاء، وعَلى كلتا اللغتين لَا يجوز إِلْحَاق الْهَاء بهَا، لِأَن الذّكر لَا يشركها فِي هَذَا الِاسْم وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: حمل، فجرت

[85] ويقولون سررت برؤيا فلان إشارة إلى مرآه، فيوهمون فيه، كما وهم أبو الطيب في قوله لبدر بن عمار، وقد سامره ذات ليلة إلى قطع من الليل:

مجْرى عَجُوز واتان وعنز وناب فِي منع إِلْحَاق الْهَاء بهَا لاختصاصها بالمؤنث، وَقد جمع رخل على رخال بِضَم الرَّاء وَهُوَ مِمَّا جمع على غير قِيَاس كماقالوا فِي الْمُرْضع: ظئر وظؤار، وَفِي ولد الْبَقَرَة الوحشية: فرير وفرار، وللشاة الحديثة الْعَهْد بالنتاج: ربى ورباب، وللعظم الَّذِي عَلَيْهِ بَقِيَّة من اللَّحْم: عرق وعراق وللمولود مَعَ قرينه توأم وتؤام، وَعَلِيهِ قَول الراجز: (قَالَت لَهَا ودمعها تؤام كالدر إِذْ أسلمه النظام على الَّذين ارتحلوا السَّلَام) فَأَرَادَ بقوله: ودمعها تؤام أَي تنزل قطرتين قطرتين. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله تَعَالَى: وقرأت على أبي عمر الْحسن بن عَليّ بن غَسَّان، قَالَ: قَرَأت على أبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الزنْجِي اللّغَوِيّ، قَالَ: قَرَأت على أبي عبد الله النمري فِي كِتَابه سَمَّاهُ الاختراع أَن أَبَا زيد حكى أَن الْعَرَب تَقول فِي ملحها: قيل للضأن: مَا أَعدَدْت للشتاء قَالَت: أجز جفالا، وانتج رخالا، واحلب كثبا ثقالا، وَلنْ يرى مثلي مَالا، وَفسّر أَن الجفال الْكثير، والرخال جمع رخل والكثب جمع كثبة. وَهُوَ مَا انصب ومار، وَمِنْه سمي الْكَثِيب من الرمل. [85] وَيَقُولُونَ سررت برؤيا فلَان إِشَارَة إِلَى مرآه، فيوهمون فِيهِ، كَمَا وهم أَبُو الطّيب فِي قَوْله لبدر بن عمار، وَقد سامره ذَات لَيْلَة إِلَى قطع من اللَّيْل: (مضى اللَّيْل وَالْفضل الَّذِي لَك لَا يمْضِي ... ورؤياك أحلى فِي الْعُيُون من الغمض)

[86] ويقولون: قال فلان كيت وكيت، فيوهمون فيه، لأن العرب تقول: كان من الأمر كيت وكيت، وقال فلان: ذيت وذيت، فيجعلون كيت وكيت كناية عن

وَالصَّحِيح أَن يُقَال: سررت برؤيتك، لِأَن الْعَرَب تجْعَل الرُّؤْيَة لما يرى فِي الْيَقَظَة، والرؤيا لما يرى فِي الْمَنَام، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِخْبَارًا عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: {هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل} . ويجانس هَذَا الْوَهم قَوْلهم: أَبْصرت هَذَا الْأَمر قبل حُدُوثه. وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: بصرت بِهَذَا الْأَمر لِأَن الْعَرَب تَقول: أَبْصرت بِالْعينِ، وبصرت من البصيرة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ} وَعَلِيهِ فسر قَوْله تَعَالَى: {فبصرك الْيَوْم حَدِيد} ، أَي علمك بِمَا أَنْت فِيهِ الْيَوْم نَافِذ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى يشار بقَوْلهمْ: هُوَ بَصِير بِالْعلمِ. [86] وَيَقُولُونَ: قَالَ فلَان كَيْت وَكَيْت، فيوهمون فِيهِ، لِأَن الْعَرَب تَقول: كَانَ من الْأَمر كَيْت وَكَيْت، وَقَالَ فلَان: ذيت وذيت، فيجعلون كَيْت وَكَيْت كِنَايَة عَن

[87] ويقولون في مضارع ذخر يدخر بضم الخاء، والصواب فتحها، كما يقال: فخر يفخر وزخر البحر يزخر، ومن أصول العربية أنه إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق التي هي الهمزة والهاء والعين والحاء الغين والخاء، كان الأغلب فتحها في المضارع، نحو سأل يسأل وذهب يذهب ونعب ينعب وسحر يسحر، وفغر فاه يفغر، وفخر يفخر، فإن نطق في بعضها بالكسر أو بالضم فهو مما شذ عن أصله، وندر عن رسمه.

الْأَفْعَال، وذيت وذيت كِنَايَة عَن الْمقَال كَمَا أَنهم يكنون عَن مِقْدَار الشَّيْء وعدته بِلَفْظَة كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُونَ: قَالَ فلَان من الشّعْر كَذَا وَكَذَا بَيْتا، وَاشْترى الْأَمِير كَذَا وَكَذَا عبدا، وَالْأَصْل فِي هَذِه اللَّفْظَة ذَا فَأدْخل عَلَيْهَا كَاف التَّشْبِيه إِلَّا أَنه قد انخلع من ذَا معنى الْإِشَارَة، وَمن الْكَاف معنى التَّشْبِيه بِدلَالَة أَنَّك لست تُشِير إِلَى شَيْء وَلَا تشبه شَيْئا بِشَيْء وَإِنَّمَا تكنى بهَا عَن عدد مَا، فتنزل الْكَاف فِي هَذَا الموطن منزلَة الزَّائِدَة اللَّازِمَة، وَصَارَت كَقَوْلِهِم: فعله إثرا مَا أَي أَولا، وَيُقَال: آثرتك بِهَذَا فَخذه، وَلَفْظَة ذَا مجرورة بهَا إِلَّا أَن الْكَاف لما امتزجت بذا، وَصَارَت مَعَه كالجزء الْوَاحِد مِنْهُ، ناسب لَفْظهمَا لَفْظَة حبذا الَّتِي لَا يجوز أَن تلحقها عَلامَة التَّأْنِيث، فَتَقول: عِنْده كَذَا وَكَذَا جَارِيَة، وَلَا يجوز أَن تَقول كذه، كَمَا لَا يُقَال: حبذه هِنْد. وَعند الْفُقَهَاء أَنه إِذا قَالَ من لَهُ معرفَة بِكَلَام الْعَرَب: لفُلَان عَليّ كَذَا كَذَا درهما. إلزم لَهُ أحد عشر درهما، لِأَنَّهُ أقل الْأَعْدَاد المركبة، وَإِن قَالَ: لَهُ عَليّ كَذَا وَكَذَا درهما ألزم وَاحِدًا وَعشْرين درهما لكَونه أول مَرَاتِب الْأَعْدَاد المعطوفة، وَذَاكَ ان الْمقر بالشي الْمُبْهم لَا يلْزم إِلَّا أقل مَا يحْتَملهُ إِقْرَاره، ويشتمل عَلَيْهِ اعترافه كَمَا أَنه إِذا قَالَ: لَهُ عَليّ دَرَاهِم لزمَه ثَلَاثَة لِأَنَّهَا أدنى الْجمع. [87] وَيَقُولُونَ فِي مضارع ذخر يدّخر بِضَم الْخَاء، وَالصَّوَاب فتحهَا، كَمَا يُقَال: فَخر يفخر وزخر الْبَحْر يزخر، وَمن أصُول الْعَرَبيَّة أَنه إِذا كَانَت عين الْفِعْل أحد حُرُوف الْحلق الَّتِي هِيَ الْهمزَة وَالْهَاء وَالْعين والحاء الْغَيْن وَالْخَاء، كَانَ الْأَغْلَب فتحهَا فِي الْمُضَارع، نَحْو سَأَلَ يسْأَل وَذهب يذهب ونعب ينعب وسحر يسحر، وفغر فَاه يفغر، وفخر يفخر، فَإِن نطق فِي بَعْضهَا بِالْكَسْرِ أَو بِالضَّمِّ فَهُوَ مِمَّا شَذَّ عَن أَصله، وندر عَن رسمه.

[88] ويقولون في تصغير مختار مخيتير، والصواب فيه مخير، لأن الأصل في

[88] وَيَقُولُونَ فِي تَصْغِير مُخْتَار مخيتير، وَالصَّوَاب فِيهِ مُخَيّر، لِأَن الأَصْل فِي

[89] ويقولون: دستور، بفتح الدال، وقياس كلام العرب فيه أن يقال بضم الدال، كما يقال: بهلول وعرقوب وخرطوم وجمهور ونظائرها، مما جاء على فعلول، إذ لم يجيء في كلامهم فعلول بفتح الفاء إلا صعفوق وهو اسم قبيلة باليمامة قال فيهم العجاج:

مُخْتَار مختير، فالتاء فِيهِ تَاء مفتعل الَّتِي لَا تكون إِلَّا زَائِدَة، وَيدل على زيادتها فِي هَذَا الِاسْم اشتقاقه من الْخَيْر، وَمن حكم التصغير حذف هَذِه التَّاء، فَلهَذَا قيل: مُخَيّر، وَمن عوض من الْمَحْذُوف قَالَ مخيير. وَقد غلط الْأَصْمَعِي فِي تَصْغِير هَذَا الِاسْم غَلطا أودع بطُون الأوراق، وتناقلته الروَاة فِي الْآفَاق ذَاك أَن أَبَا عمر الْجرْمِي حِين شخص إِلَى بَغْدَاد ثقل مَوْضِعه على الْأَصْمَعِي اشفاقا من أَن يصرف وُجُوه أَهلهَا عَنهُ، وَيصير السُّوق لَهُ، فاعمل الْفِكر فِيمَا يغض مِنْهُ، فَلم ير إِلَّا أَن يرهقه فِيمَا يسْأَله عَنهُ، فَأَتَاهُ فِي حلقته، وَقَالَ لَهُ: كَيفَ تنشد قَول الشَّاعِر: (قد كن يخبأن الْوُجُوه تسترا ... فاليوم حِين بدان للنظار) أَو حِين بدين فَقَالَ لَهُ: بدأن، قَالَ: أَخْطَأت، فَقَالَ: بدين، قَالَ: غَلطت إِنَّمَا هُوَ حِين بِدُونِ أَي ظهرن. فأسرها أَبُو عمر فِي نَفسه، وفطن لما قَصده بِهِ، واستأنى بِهِ إِلَى أَن تصدر الْأَصْمَعِي فِي حلقته، واحتف الْجمع بِهِ، فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: كَيفَ تَقول فِي تَصْغِير مُخْتَار فَقَالَ: مخيتير، قَالَ: أنفت لَك من هَذَا القَوْل، أما تعلم أَن اشتقاقه من الْخَيْر، وَأَن التَّاء فِيهِ زَائِدَة وَلم يزل يندد بغلطه، ويشنع بِهِ، إِلَى أَن انفض النَّاس من حوله. [89] وَيَقُولُونَ: دستور، بِفَتْح الدَّال، وَقِيَاس كَلَام الْعَرَب فِيهِ أَن يُقَال بِضَم الدَّال، كَمَا يُقَال: بهْلُول وعرقوب وخرطوم وَجُمْهُور ونظائرها، مِمَّا جَاءَ على فعلول، إِذْ لم يَجِيء فِي كَلَامهم فعلول بِفَتْح الْفَاء إِلَّا صعفوق وَهُوَ اسْم قَبيلَة بِالْيَمَامَةِ قَالَ فيهم العجاج: (من آل صعفوق وَاتِّبَاع آخر )

ويشاكل هَذَا الْوَهم قَوْلهم: أطروش بِفَتْح الْهمزَة، وَالصَّوَاب ضمهَا كَمَا يُقَال اسكوب واسلوب، على أَن الطرش لم يسمع فِي كَلَام الْعَرَب العرباء، وَلَا تضمنته أشعار فحول الشُّعَرَاء. ونقيض هَذِه الأوهام قَوْلهم لما يلعق: لعوق، وَلما يستف سفوف، وَلما يمص مصوص، فيضمون أَوَائِل هَذِه الْأَسْمَاء، وَهِي مَفْتُوحَة فِي كَلَام الْعَرَب، كَمَا يُقَال: برود وسعوط وغسول. وَمِمَّا يشاكل هَذَا قَوْلهم: تلميذ وطنجير وبرطيل وجرجير بِفَتْح أوائلها، وَهِي على قِيَاس كَلَام الْعَرَب بِالْكَسْرِ إِذْ لم ينْطق فِي هَذَا الْمِثَال إِلَّا بفعليل بِكَسْر الْفَاء، كَمَا قَالُوا: صنديد وقطمير وغطريف ومنديل. وَذكر ثَعْلَب فِي بعض أَمَالِيهِ أَن قَول الْكتاب لكيس الْحساب: تليسة بِفَتْح التَّاء مِمَّا وهموا فِيهِ، وَأَن الصَّوَاب كسرهَا كَمَا يُقَال: سكينَة وعريسة. وعَلى مقاد هَذِه الْقَضِيَّة يجب أَن يُقَال فِي اسْم الْمَرْأَة: بلقيس بِكَسْر الْبَاء، كَمَا قَالُوا فِي تعريب برجيس وَهُوَ اسْم النَّجْم الْمَعْرُوف بالمشتري: برجيس بِكَسْر الْبَاء، لِأَن كل مَا يعرب يلْحق بنظائره فِي أَمْثِلَة الْعَرَب وأوزان اللُّغَة. وعَلى ذكر بلقيس فَإِنِّي قَرَأت فِي أَخْبَار سيف الدولة ابْن حمدَان أَنه لما امتدحه الخالديان بعث إِلَيْهِمَا وصيفا ووصيفة، وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بدرة وتخت

[90] ويقولون: كلا الرجلين خرجا وكلتا المرأتين حضرتا، والاختيار أن يوحد الخبر فيهما، فيقال: كلا الرجلين خرج، وكلتا المرأتين حضرت، لأن كلا وكلتا

من ثِيَاب مصر والشأم فكتبا إِلَيْهِ فِي الْجَواب: (لم يغد شكرك فِي الْخَلَائق مُطلقًا ... الا وَمَالك فِي النوال حبيس) (خولتنا بَدْرًا وشمسا أشرقت ... بهما لدينا الظلمَة الحنديس) (رشأ أَتَانَا وَهُوَ حسنا يُوسُف ... وغزالة هِيَ بهجة بلقيس) (هَذَا وَلم تقنع بِذَاكَ وَهَذِه ... حَتَّى بعثت المَال وَهُوَ نَفِيس) (أَتَت الوصيفة وَهِي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الْكيس) (وكسوتنا مِمَّا أجادت حوكه ... مصر وزادت حسنه تنيس) (فغدا لنا من جودك الْمَأْكُول والمشروب ... والمنكوح والملبوس) فَلَمَّا قَرَأَهَا سيف الدولة قَالَ: لقد أحسنا إِلَّا فِي لَفْظَة المنكوح، إِذا لَيست مِمَّا يُخَاطب بهَا الْمُلُوك، وَهَذَا من بَدَائِع نَقده الْمليح، وشواهد ذكائه الصَّرِيح. [90] وَيَقُولُونَ: كلا الرجلَيْن خرجا وكلتا الْمَرْأَتَيْنِ حضرتا، وَالِاخْتِيَار أَن يوّحد الْخَبَر فيهمَا، فَيُقَال: كلا الرجلَيْن خرج، وكلتا الْمَرْأَتَيْنِ حضرت، لِأَن كلا وكلتا

[91] ويقولون: أنت تكرم علي: بضم التاء وفتح الراء، والصواب فيه تكرم، بفتح التاء وضم الراء لأن فعله الماضي كرم ومن أصول العربية أن كل ما جاء من الأفعال الماضية على مثال فعل بضم العين كان مضارعه على يفعل، نحو حسن يحسن وظرف يظرف وإنما ضمت عين المستقبل من هذا النوع ولم يخالف فيه بناء الماضي

اسمان مفردان وضعا لتأكيد الاثنثن والاثنين، وليسا فِي ذاتهما مثنيين. وَلِهَذَا وَقع الْإِخْبَار عَنْهُمَا كَمَا يخبر عَن الْمُفْرد. وَبِهَذَا نطق الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {كلتا الجنتين آتت أكلهَا} ، وَلم يقل: آتتا، وَعَلِيهِ قَول الشَّاعِر: (كِلَانَا يُنَادي يَا نزار وبيننا ... قِنَا من قِنَا الخطي أَو من قِنَا الْهِنْد) وَمثله قَول الآخر: (كِلَانَا غنى عَن أَخِيه حَيَاته ... وَنحن إِذا متْنا أَشد تَغَانِيًا) فَقَالَ الأول: كِلَانَا يُنَادي، وَلم يقل: يناديان، وَقَالَ الآخر: كِلَانَا غنى وَلم يقل: غنيان، فَإِن وجد فِي بعض الْأَخْبَار تَثْنِيَة خبر عَن كلا وكلتا فَهُوَ مِمَّا حمل على الْمَعْنى أَو لضَرُورَة الشّعْر. [91] وَيَقُولُونَ: أَنْت تكرم عَليّ: بِضَم التَّاء وَفتح الرَّاء، وَالصَّوَاب فِيهِ تكرم، بِفَتْح التَّاء وَضم الرَّاء لِأَن فعله الْمَاضِي كرم وَمن أصُول الْعَرَبيَّة أَن كل مَا جَاءَ من الْأَفْعَال الْمَاضِيَة على مِثَال فعل بِضَم الْعين كَانَ مضارعه على يفعل، نَحْو حسن يحسن وظرف يظرف وَإِنَّمَا ضمت عين الْمُسْتَقْبل من هَذَا النَّوْع وَلم يُخَالف فِيهِ بِنَاء الْمَاضِي

[92] ويقولون: فيه شغب بفتح الغين، وهو تهيج الشر والفتنة والخصام، فيوهمون فيه كما وهم بعض المحدثين في قوله:

للمحافظة على الْمَعْنى الْمَوْضُوع على هَذَا الْمِثَال، وَذَلِكَ أَن ضمة الْعين جعلت دَلِيلا على فعل الطبيعة، فَلَو كسرت أَو فتحت، لذهب ذَلِك الْمَعْنى. [92] وَيَقُولُونَ: فِيهِ شغب بِفَتْح الْغَيْن، وَهُوَ تهيج الشَّرّ والفتنة وَالْخِصَام، فيوهمون فِيهِ كَمَا وهم بعض الْمُحدثين فِي قَوْله: (يَا ظَالِما يتجنى جِئْت بالعجب ... شغبت كَيْمَا تغطي الذَّنب بالشغب) (ظلمت سرا وتستعدي عَلَانيَة ... أضرمت نَارا وتستعفي من اللهب) وَالصَّوَاب فِيهِ شغب باسكان الْغَيْن، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (رَأَيْتُك لما نلْت مَالا وعضنا ... زمَان ترى فِي حد أنيابه شغبا) (جعلت لنا ذَنبا لتمنع نائلا ... فَأمْسك وَلَا تجْعَل غناك لنا ذَنبا) وَنَظِير هَذَا الْوَهم قَوْلهم للداء الْمُعْتَرض فِي الْبَطن: المغص بِفَتْح الْغَيْن، فيغلطون فِيهِ، لِأَن المغص بِفَتْح الْغَيْن هُوَ خِيَار الْإِبِل، يدل عَلَيْهِ قَول الراجز: (أَنْت وهبت هجمة جرجورا ... ادما وحمرا مغصا خبورا)

[93] ويقولون: هو سداد من عوز، فيلحنون في فتح السين كما لحن هشيم المحدث فيها، والصواب أن يقال بالكسر.

الجرجور: الْعِظَام من الْإِبِل، والخبور الغزيرات الدّرّ، فَأَما اسْم الدَّاء فَهُوَ المغص بِإِسْكَان الْغَيْن، وَقد يُقَال بِالسِّين، وَأما المعص بِفَتْح الْعين المغفلة فَهُوَ وجع يُصِيب الانسان فِي عصبه من الْمَشْي، وَفِي الحَدِيث: أَن عمرا بن معدي كرب شكا إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ المعص، فَقَالَ: كذب عَلَيْك الْعَسَل، أَي عَلَيْك بِسُرْعَة الْمَشْي، إِشَارَة إِلَى اشتقاقه من عسلان الذِّئْب. [93] وَيَقُولُونَ: هُوَ سداد من عوز، فيلحنون فِي فتح السِّين كَمَا لحن هشيم الْمُحدث فِيهَا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال بِالْكَسْرِ. وَجَاء فِي أَخْبَار النَّحْوِيين أَن النَّضر بن شُمَيْل الْمَازِني اسْتَفَادَ بإفادة هَذِه الْحَرْف ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم. ومساق خَبره مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو عَليّ بن أَحْمد التسترِي عَن حميد القَاضِي أبي الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد العسكري عَن أبي أَحْمد بن الْحسن بن سعيد العسكري اللّغَوِيّ عَن أَبِيه، عَن إِبْرَاهِيم بن حَامِد، عَن مُحَمَّد بن نَاصح الْأَهْوَازِي، قَالَ: حَدثنِي النَّضر بن شُمَيْل، قَالَ: كنت أَدخل على الْمَأْمُون فِي سمره، فَدخلت عَلَيْهِ ذَات لَيْلَة، وعليّ قَمِيص مرقوع، فَقَالَ: يَا نضر، مَا هَذَا التقشف حَتَّى تدخل على أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي هَذِه الخلقان قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا شيخ ضَعِيف، وحر مرو شَدِيد، فأتبرد بِهَذِهِ الخلقان، قَالَ لَا وَلَكِنَّك قشف. ثمَّ أجرينا الحَدِيث فَأجرى هُوَ ذكر النِّسَاء، فَقَالَ: حَدثنَا هشيم عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها كَانَ فِيهَا سداد من عوز، فَأوردهُ بِفَتْح السِّين، قَالَ: فَقلت: صدق يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هشيم، حَدثنَا عَوْف بن أبي جميلَة عَن الْحسن عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها، كَانَ فِيهَا سداد من عوز. قَالَ: وَكَانَ الْمَأْمُون مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا، وَقَالَ: يَا نضر، كَيفَ قلت سداد قلت: لِأَن السداد هَاهُنَا لحن، قَالَ: أَو تلحنني قلت: إِنَّمَا لحن هشيم - وَكَانَ لحانة - فتبع أَمِير الْمُؤمنِينَ لَفظه، قَالَ: فَمَا الْفرق بَينهمَا قلت: السداد بِفَتْح السِّين، الْقَصْد فِي الدَّين والسبيل، والسداد بِالْكَسْرِ الْبلْغَة، وكل مَا سددت بِهِ شَيْئا فَهُوَ سداد،

قَالَ: أَو تعرف الْعَرَب ذَلِك قلت: نعم، هَذَا العرجيّ يَقُول: (أضاعوني وأيّ فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر) فَقَالَ الْمَأْمُون: قبح الله من لَا أدب لَهُ وأطرق مليأً، ثمَّ قَالَ لَهُ: مَا مَالك يَا نضر قَالَ: أريضة لي بمرو اتصابها واتمززها - أَي أشْرب صبابتها - قَالَ: أَفلا نفيدك مَالا مَعهَا قلت: إِنِّي إِلَى ذَلِك لمحتاج، قَالَ: فَأخذ القرطاس وَأَنا لَا أَدْرِي مَا يكْتب، ثمَّ قَالَ: كَيفَ تَقول إِذا أمرت أَن يترب الْكتاب قلت: أتربه قَالَ: فَهُوَ مَاذَا قلت: مترب، قَالَ: فَمن الطين قلت: طنه، قَالَ: فهوع مَاذَا قلت: مطين، قَالَ: هَذِه أحسن من الأولى، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام أتربه وَطنه، ثمَّ صلى بِنَا الْعشَاء وَقَالَ لِخَادِمِهِ: تبلغ مَعَه إِلَى الْفضل بن سهل. قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَ الْفضل الْكتاب، قَالَ: يَا نضر أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمر لَك بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، فَمَا كَانَ السَّبَب فِيهِ فَأَخْبَرته وَلم أكذبه، فَقَالَ: ألحنت أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقلت: كلا إِنَّمَا لحن هشيم - وَكَانَ لحانة، فتبع أَمِير الْمُؤمنِينَ لَفظه - وَقد تتبع أَلْفَاظ الْفُقَهَاء ورواة الْآثَار. ثمَّ أَمر لي الْفضل من خاصته بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. فَأخذت ثَمَانِينَ ألف دِرْهَم بِحرف اسْتُفِيدَ مني. قَالَ الْمُؤلف: قلت: وَقد اذْكُرْنِي هَذَا الْمثل أبياتا أنشدنيها أحدث أشياخي رَحِمهم الله لأبي الهيذام: (لي صديق هُوَ عِنْدِي فِي عوز ... من سداد لَا سداد من عوز) (وَجهه يذكرنِي دَار البلى ... كلما أقبل نحوي وضمز) (وَإِذا جالسني جرعني ... غصص الْمَوْت بكرب وعلز) (يصف الود إِذا شاهدني ... فَإِذا غَابَ وشى بِي وهمز) (كخمار السوء يُبْدِي مرحا ... فَإِذا سيق إِلَى الْحمل غمز) (لَيْتَني أَعْطَيْت مِنْهُ بَدَلا ... بنصيبي شَرّ أَوْلَاد الْمعز) (قد رَضِينَا بَيْضَة فَاسِدَة ... عوضا مِنْهُ إِذا البيع نجز)

[94] ويقولون: اقطعه من حيث رق، وكلام العرب اقطعه من حيث رك، أي من حيث ضعف، ومنه قيل للضعيف الرأي: ركيك، وفي الحديث: أن الله تعالى ليبغض السلطان الركاكة، والرككة.

[94] وَيَقُولُونَ: اقطعه من حَيْثُ رق، وَكَلَام الْعَرَب اقطعه من حَيْثُ رك، أَي من حَيْثُ ضعف، وَمِنْه قيل للضعيف الرَّأْي: رَكِيك، وَفِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى ليبغض السُّلْطَان الركاكة، والرككة. [95] وَيَقُولُونَ لمن تَعب: هُوَ عيان، وَالصَّوَاب هُوَ أَن يُقَال: هُوَ معي، لِأَن الْفِعْل مِنْهُ أعيا، فَكَانَ الْفَاعِل مِنْهُ على وزن مفعل، كَمَا يُقَال: أرْخى السّتْر فَهُوَ مرخ، وأغلى فَهُوَ مغل، وَعند أهل اللُّغَة أَن كل مَا كَانَ من حَرَكَة وسعي قيل فِيهِ: اعيا، وَمَا كَانَ من قَول ورأي قيل فِيهِ عيي وعي، وَالِاسْم مِنْهُمَا عيي على وزن شجي. وَقيل فِيهِ: عي على وزن شج وَعم، وَنَظِير هَاتين اللفظتين فِي قَوْلهم: عيي وعيّ، قَوْلهم: حييّ وَحي، وَقُرِئَ بهما قَوْله تَعَالَى: {ويحيي من حيّ عَن بَيِّنَة} وحيي.

[96] ويقولون: قاما الرجلان وقاموا الرجال فيلحقون الفعل علامة التثنية، والجمع، وما سمع ذلك إلا في لغة ضعيفة لم ينطق بها القرآن ولا اخبار الرسول عليه السلام، ولا نقل أيضا عن الفصحاء، ووجه الكلام توحيد الفعل، كما قال سبحانه في المثنى: {قال رجلان} ، وفي الجمع: {إذا جاءك المنافقون} .

[96] وَيَقُولُونَ: قاما الرّجلَانِ وَقَامُوا الرِّجَال فيلحقون الْفِعْل عَلامَة التَّثْنِيَة، وَالْجمع، وَمَا سمع ذَلِك إِلَّا فِي لُغَة ضَعِيفَة لم ينْطق بهَا الْقُرْآن وَلَا اخبار الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا نقل أَيْضا عَن الفصحاء، وَوجه الْكَلَام تَوْحِيد الْفِعْل، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمثنى: {قَالَ رجلَانِ} ، وَفِي الْجمع: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} . فَأَما قَوْله تَعَالَى: {وأسرّوا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} فَالَّذِينَ بدل من الضَّمِير الَّذِي فِي لَفْظَة أسرّوا، وَقيل: بل مَوْضِعه نصب على الذَّم، أَي أَعنِي الَّذين كفرُوا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم} ، فكثير بدل من الضَّمِير الَّذِي فِي لفظتي {عموا وصموا} فَإِن تَأَخّر الْفِعْل الْحق عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَقيل: الرّجلَانِ قاما، وَالرِّجَال قَامُوا، وَيكون الْألف فِي قاما وَالْوَاو فِي قَامُوا اسْمَيْنِ مضمرين، وَالْفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّك إِذا قدمت الْفِعْل كَانَت عَلامَة تَثْنِيَة الْفَاعِل وَجمعه تغني عَن الحاق عَلامَة فِي الْفِعْل، وَإِذا أخرت الْفِعْل صَار الْفَاعِل بتقدمه مُبْتَدأ، فَلَو أفرد الْفِعْل فَقيل: النَّاس خرج لجَاز أَن يتَوَهَّم أَنَّك تُرِيدُ مِنْهُم جُزْءا، لجَوَاز أَن يُقَال: النَّاس خرج سيدهم. [97] وَيَقُولُونَ: أجد حمى، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أجد حميا أَو حموا، لِأَن

[98] ويقولون: جاءني القوم إلاك وإلاه، فيوقعون الضمير المتصل بعد إلا كما

الْعَرَب تَقول لكل مَا سخن: حمى يحمي حميا، فَهُوَ حام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فِي عين حمئة} . وَيَقُولُونَ أَيْضا: اشْتَدَّ حمى الشَّمْس وحموها، إِذا عظم وهجها، وَمِنْه مَا أنْشدهُ الْمفضل: (تجيش علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عَنَّا إِذا حميها غلا) يَعْنِي أَنه مَتى جَاشَتْ قدرهم للشر سكنوها، وَهُوَ معنى نديمها، وَأَنه مَتى غلت فثؤوها، أَي كسروا غليانها. وكنى بِالْقدرِ عَن تهيج الْحَرْب كَمَا يكنى بفور الْمرجل عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَليّ الحريري رَحمَه الله: وَحكى لي أَبُو الْفَتْح عَبدُوس بن مُحَمَّد الهمذاني حِين قدم الْبَصْرَة علينا حَاجا سنة نَيف وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة أَن الصاحب أَبَا الْقَاسِم بن عباد رأى أحد ندمائه متغير السحنة فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بك قَالَ: حما، فَقَالَ لَهُ الصاحب: قه، فَقَالَ النديم: وه، فَاسْتحْسن الصاحب ذَلِك مِنْهُ وخلع عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: ولعمري لقد أحسن الصاحب فِي تعقيب لفظ حما بِمَا صَارَت بِهِ إِلَى حَمَاقَة، ولطف النديم فِي صلَة تعقيبه بِمَا جعله قهوه، وَهَكَذَا فلتكن مداعبة الْفُضَلَاء ومفاكهة الأدباء الأذكياء [98] وَيَقُولُونَ: جَاءَنِي الْقَوْم إلاك وإلاه، فيوقعون الضَّمِير الْمُتَّصِل بعد إِلَّا كَمَا

يُوقع بعد غير فِي مثل قَوْلك: جَاءَ الْقَوْم غَيْرك فيوهمون كَمَا وهم أَبُو الطّيب فِي قَوْله: (لَيْسَ إلاك يَا عَليّ همام ... سَيْفه دون عرضه مسلول) وَالصَّوَاب: أَلا يُوقع بعد إِلَّا إِلَّا الضَّمِير الْمُنْفَصِل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} ، وَالْفرق هَاهُنَا بَين الا وَغير أَن الِاسْم الْوَاقِع بعد غير لَا يَقع أبدا إِلَّا مجرورا بِالْإِضَافَة، وَضمير الْمَجْرُور لَا يكون إِلَّا مُتَّصِلا، وَلِهَذَا امْتنع أَن يفصل بَينهمَا، وَلَيْسَ كَذَلِك الِاسْم الْوَاقِع بعد إِلَّا، لِأَنَّهُ يَقع إِمَّا مَنْصُوبًا وَإِمَّا مَرْفُوعا، وَكِلَاهُمَا يجوز أَن يفصل بَينه وَبَين الْعَامِل فِيهِ وَلِهَذَا جعل لَهُ ضميران: مُتَّصِل ومنفصل، إِلَّا أَنه لما اعترضت إِلَّا فِي الْكَلَام وفصلت بَين الْعَامِل والمعمول، أوقع بعْدهَا الضَّمِير الْمُنْفَصِل، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ضير الْمَنْصُوب: {ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه} ، وكما قَالَ عَمْرو بن معدي كرب فِي ضمير الْمَرْفُوع: (قد علمت سلمى وجاراتها ... مَا قطر الْفَارِس إِلَّا أَنا) فَأَما قَول الْقَائِل:

[99] ويقولون: هب أني فعلت، وهب أنه فعل، والصواب إلحاق الضمير المتصل به، فيقال: هبني فعلت وهبه فعل، كما قال أبو دهبل الجمحي:

(فَمَا نبالي إِذا مَا كنت جارتنا ... أَلا يجاورنا إلاك ديار) فَلم يَأْتِ فِي أشعار الْمُتَقَدِّمين سواهُ، والنادر لَا يعْتد بِهِ، وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ. [99] وَيَقُولُونَ: هَب أَنِّي فعلت، وهب أَنه فعل، وَالصَّوَاب إِلْحَاق الضَّمِير الْمُتَّصِل بِهِ، فَيُقَال: هبني فعلت وهبه فعل، كَمَا قَالَ أَبُو دهبل الجُمَحِي: (هبوني امْرأ مِنْكُم أضلّ بعيره ... لَهُ ذمَّة إِن الذمام كثير) وَمثله قَول عُرْوَة بن أذينة: (إِذا وجدت أوار الْحبّ فِي كَبِدِي ... أَقبلت نَحْو سقاء الْقَوْم أبترد) (هبني بردت بِبرد المَاء ظَاهره ... فَمن لنار على الأحشاء تتقد) وَكَانَ عُرْوَة هَذَا مَعَ تغزله نقي الدخلة ظَاهر الْعِفَّة. وَرُوِيَ أَن سكينَة بنت الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا: وقفت عَلَيْهِ ذَات يَوْم، فَقَالَت لَهُ: أَأَنْت الْقَائِل، وأنشدت: (قَالَت وأبثثتها وجدي فبحت بِهِ ... قد كنت عِنْدِي تحب السّتْر فاستتر) (أَلَسْت تبصر من حَولي فَقلت لَهَا ... غطى هَوَاك وَمَا القى على بَصرِي) قَالَ: نعم، فَقَالَت وَأَنت الْقَائِل: (إِذا وجدت أوار الْحبّ فِي كَبِدِي ) وأنشدته الْبَيْتَيْنِ الْمُقدم ذكرهمَا، قَالَ: نعم، فالتفتت إِلَى جوَار كن حولهَا، وَقَالَت: هن حرائر إِن كَانَ خرج هَذَا من قلب سليم. وَمعنى هبني، أَي عدني واحسبني، فَكَانَ فِيهِ معنى الْأَمر من وهب.

[100] ويقولون: امرأة شكورة ولجوجة وصبورة وخؤونة، فيلحقون هاء التأنيث بها، فيوهمون فيه لأن هذه التاء إنما تدخل على فعول إذا كان بمعنى مفعول كقولك: ناقة ركوبة وشاة حلوبة، لأنهما بمعنى مركوبة ومحلوبة، فأما إذا كان فعول بمعنى فاعل، نحو صبور الذي بمعنى صابر ونظائره، فيمتنع من إلحاق التاء به، وتكون صفة مؤنثة على لفظ مذكره، قال الشاعر:

[100] وَيَقُولُونَ: امْرَأَة شكورة ولجوجة وصبورة وخؤونة، فيلحقون هَاء التَّأْنِيث بهَا، فيوهمون فِيهِ لِأَن هَذِه التَّاء إِنَّمَا تدخل على فعول إِذا كَانَ بِمَعْنى مفعول كَقَوْلِك: نَاقَة ركوبة وشَاة حلوبة، لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى مركوبة ومحلوبة، فَأَما إِذا كَانَ فعول بِمَعْنى فَاعل، نَحْو صبور الَّذِي بِمَعْنى صابر ونظائره، فَيمْتَنع من إِلْحَاق التَّاء بِهِ، وَتَكون صفة مُؤَنّثَة على لفظ مذكره، قَالَ الشَّاعِر: (وَلنْ يمْنَع النَّفس اللجوج عَن الْهوى ... من النَّاس إِلَّا وَاحِد الْفضل كَامِله) وَقد ذكر النحويون فِي امْتنَاع الْهَاء من هَذِه الصِّفَات عللا، أَجودهَا أَن الصِّفَات الْمَوْضُوعَة للْمُبَالَغَة نقلت عَن بَابهَا لتدل على الْمَعْنى الَّذِي تخصصت بِهِ، فَأسْقطت هَاء التَّأْنِيث فِي قَوْلهم: امْرَأَة صبور وشكور وقبيله، وَفِي قَوْلهم: فتاة معطار ونظائره، كَمَا ألحقت بِصفة الْمُذكر فِي قَوْلهم: رجل عَلامَة ونسابة، ليدل مَا فَعَلُوهُ على تَحْقِيق الْمُبَالغَة، وَيُؤذن بحدوث معنى زَائِد فِي الصّفة، وَامْتِنَاع الْهَاء من فعول بِمَعْنى فَاعل أصل مطرد لم يشذ مِنْهُ إِلَّا قَوْلهم: عدوة الله، فَإِنَّهُم ألْحقُوا بهَا الْهَاء، فَقَالُوا: عَدو وعدوة،

ليماثل قَوْلهم: صديق وصديقة لِأَن الشَّيْء فِي أصُول الْعَرَبيَّة قد يحمل على ضِدّه ونقيضه كَمَا يحمل على نَظِيره ورسيله. وَفِي أَخْبَار النَّحْوِيين أَن أَبَا عُثْمَان الْمَازِني سُئِلَ بِحَضْرَة المتَوَكل على الله عَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَت أمك بغيا} فَقيل لَهُ: كَيفَ حذفت الْهَاء من بغيّ، وفعيل إِذا كَانَ بِمَعْنى فَاعل لحقته الْهَاء نَحْو فتيّ وفتية وغنيّ وغنية فَقَالَ: إِن لَفْظَة بغي لَيست بفعيل، وَإِنَّمَا هِيَ فعول الَّذِي بِمَعْنى فاعلة، لِأَن الأَصْل فِيهَا بغوي، وَمن أصُول التصريف أَنه مَتى اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء فِي كلمة وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ قلبت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، كَمَا قَالُوا: شويت اللَّحْم شيا، وكويت الدَّابَّة كيا، وَالْأَصْل فيهمَا شوبا وكويا، وكما قيل: يَوْم وَأَيَّام، وَالْأَصْل أيوام فعلى هَذِه الْقَضِيَّة قيل: بغي، وَوَجَب حذف الْهَاء مِنْهَا، لِأَنَّهَا بِمَعْنى باغية، كَمَا تحذف من صبور الَّتِي بِمَعْنى صابرة. وَهَذَا العقد الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي قلب الْوَاو يَاء إِذا اجتمعتا، وَكَانَ السَّابِق مِنْهُمَا سَاكِنا أصل مطرد لم يشذ مِنْهُ إِلَّا حَيْوَة اسْم رجل، وضيون، وَهُوَ اسْم للهر. وَحكى الْفراء أَنهم قَالُوا: عوى الْكَلْب عوية، وَلَيْسَ الشاذ مِمَّا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَلَا يعاج عَلَيْهِ.

[101] ويقولون لمن يأتي الذنب متعمدا: قد اخطأ، فيحرفون اللفظ والمعنى لأنه لا يقال: اخطأ إلا لمن لم يتعمدالفعل أو لمن اجتهد، فلم يوافق الصواب، وإياه عنى صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإنما أوجب له الأجر عن اجتهاده في إصابة الحق الذي هو نوع من أنواع العبادة، لا عن الخطأ الذي يكفي صاحبه أن يعذر فيه ويرفع مأثمه عنه، والفاعل من هذا النوع مخطيء، والاسم منه الخطأ، ومنه قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} ، أما المتعمد الشيء فيقال فيه: خطئ فهو خاطئ، والاسم منه الخطيئة، والمصدر الخطء بكسر الخاء وإسكان الطاء، كما قال تعالى: {إن قتلهم كان خطأ كبيرا} قال الإمام أبو محمد رحمه الله: ولى فيما انتظم هاتين اللفظتين واحتضن معنييهما المتنافيين:

[101] وَيَقُولُونَ لمن يَأْتِي الذَّنب مُتَعَمدا: قد اخطأ، فيحرفون اللَّفْظ وَالْمعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُقَال: اخطأ إِلَّا لمن لم يتعمدالفعل أَو لمن اجْتهد، فَلم يُوَافق الصَّوَاب، وإياه عَنى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَإِنَّمَا أوجب لَهُ الْأجر عَن اجْتِهَاده فِي إِصَابَة الْحق الَّذِي هُوَ نوع من أَنْوَاع الْعِبَادَة، لَا عَن الْخَطَأ الَّذِي يَكْفِي صَاحبه أَن يعْذر فِيهِ وَيرْفَع مأثمه عَنهُ، وَالْفَاعِل من هَذَا النَّوْع مخطيء، وَالِاسْم مِنْهُ الْخَطَأ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ} ، أما الْمُتَعَمد الشَّيْء فَيُقَال فِيهِ: خطئَ فَهُوَ خاطئ، وَالِاسْم مِنْهُ الْخَطِيئَة، والمصدر الخطء بِكَسْر الْخَاء وَإِسْكَان الطَّاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا} قَالَ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله: ولى فِيمَا انتظم هَاتين اللفظتين واحتضن معنييهما المتنافيين: (لَا تخطون إِلَى خطء وَلَا خطأ ... من بَعْدَمَا الشيب فِي فوديك قد وخطا) (فأيّ عذر لمن شابت مفارقه ... إِذا جرى فِي ميادين الْهوى وخطا) الْخَطِيئَة تقع على الصَّغِيرَة كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِخْبَارًا عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ وعَلى نَبينَا وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ السَّلَام: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدَّين} وَيَقَع على الْكَبِيرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بلَى من كسب سَيِّئَة وأحاطت بِهِ خطيئته فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} . [102] يَقُولُونَ لمن بَدَأَ فِي إثارة شَرّ أَو فَسَاد أَمر: قد نشب فِيهِ، وَوجه الْكَلَام أَن

يُقَال: قد نَشُمُّ بِالْمِيم لاشتقاقه من قَوْلك: نَشُمُّ اللَّحْم، إِذا بدا التَّغَيُّر والأرواح فِيهِ، وعَلى هَذَا جَاءَ فِي حَدِيث مقتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: فَلَمَّا نَشُمُّ النَّاس فِي الْأَمر، أَي ابتدأوا فِي التوثب على عُثْمَان، والنيل مِنْهُ. وَكَانَ الْأَصْمَعِي يرى أَن لَفْظَة نَشُمُّ لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي الشَّرّ، وان مِنْهَا اشتقاق قَوْلهم: دقوا بَينهم عطر منشم، لَا أَن هُنَاكَ عطرا يدق حَقِيقَة. وَقَالَ غَيره: بل منشم عطارة، مَا تطيب بعطرها أحد فبرز لقِتَال إِلَّا وَقتل أَو جرح، وَقيل: بل الْإِشَارَة فِي الْمثل إِلَى عطارة أغار عَلَيْهَا قوم، وَأخذُوا عطرا كَانَ مَعهَا، فَأقبل قَومهَا إِلَيْهَا فَمن شموا مِنْهُ رَائِحَة الْعطر قَتَلُوهُ. وَمن أَوله على هَذَا قَالَ: هُوَ عطر من شم، فَجعله مركبا من كَلِمَتَيْنِ. وَقيل: الْكِنَايَة فِيهِ عَن قُرُون السنبل الَّذِي يُقَال انه سم سَاعَة. وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ أَنَّهَا امْرَأَة من خُزَاعَة كَانَت تبيع الْعطر، فتطيب بعطرها قوم، وتحالفوا عى الْمَوْت فتفانوا. وَقَالَ غَيره: بل هِيَ صَاحِبَة يسَار الكواعب، وَكَانَ يسَار هَذَا عبدا أسود يرْعَى الْإِبِل، إِذا رَأَتْهُ النِّسَاء ضحكن مِنْهُ، فيتوهم أَنَّهُنَّ يضحكن من حسنه، فَقَالَ يَوْمًا لرفيق لَهُ: أَنا يسَار الكواعب مَا رأتني حرَّة إِلَّا وعشقتني، فَقَالَ لَهُ رَفِيقه: يَا يسَار، اشرب لبن العشار، وكل لحم الحوار، وَإِيَّاك وَبَنَات الْأَحْرَار. فَأبى وراود مولاته عَن نَفسهَا، فَقَالَت لَهُ: مَكَانك حَتَّى آتِيك بِطيب أشمك إِيَّاه، فَأَتَتْهُ بمُوسَى، فَلَمَّا أدنى أَنفه إِلَيْهَا لتشمه الطّيب جدعته.

[103] ويقولون في الأمر للغائب والتوقيع إليه: يعتمد ذلك، بحذف لام الأمر من الفعل، والصواب اثباتها فيه، وجزمه بها لئلا تلتبس الكلمة بصيغة الخبر، وتخرج عن حيز الأمر، على ذلك جاءت الأوامر في القرآن وفصيح الكلام والأشعار، فأما قول الشاعر:

وَفِي الشين من منشم رِوَايَتَانِ: الْكسر وَالْفَتْح، وَإِن كَانَ الْكسر أَكثر وَأشهر. وَنَظِير وهمهم فِي هَذِه اللَّفْظَة قَوْلهم: مَا عتب أَن فعل كَذَا، وَوجه الْكَلَام مَا عتم، أَي مَا أَبْطَأَ، وَمِنْه اشتقاق صَلَاة الْعَتَمَة لتأخير الصَّلَاة فِيهَا. ومدح بعض الْأَعْرَاب رجلا فَقَالَ: وَالله مَا مَاء وَجهك بقاتم وَلَا زادك بعاتم. [103] وَيَقُولُونَ فِي الْأَمر للْغَائِب والتوقيع إِلَيْهِ: يعْتَمد ذَلِك، بِحَذْف لَام الْأَمر من الْفِعْل، وَالصَّوَاب اثباتها فِيهِ، وجزمه بهَا لِئَلَّا تَلْتَبِس الْكَلِمَة بِصِيغَة الْخَبَر، وَتخرج عَن حيّز الْأَمر، على ذَلِك جَاءَت الْأَوَامِر فِي الْقُرْآن وفصيح الْكَلَام والأشعار، فَأَما قَول الشَّاعِر: (مُحَمَّد تفد نَفسك كل نفس ... إِذا مَا خفت من أَمر زيالا) فَهُوَ عِنْد الْبَصرِيين من ضرورات الشّعْر الملجئة إِلَى تَصْحِيح النّظم، وَإِقَامَة الْوَزْن. وَأما قَوْله تَعَالَى: {قل لعبادي الَّذين آمنُوا يقيموا الصَّلَاة} ، فَإِنَّمَا جزم يقيموا لوُقُوعه موقع جَوَاب الْأَمر الْمَحْذُوف الَّذِي تَقْدِيره لَو ظهر: قل لعبادي الَّذين آمنُوا: أقِيمُوا الصَّلَاة يقيموا وَجَوَاب الْأَمر مجزوم لتلمح معنى الْجَزَاء فِيهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:

[104] ويقولون لمركز الضرائب: المأصر بفتح الصاد والصواب كسرها، لأن معناه الموضع الحابس للمار عليه والعاطف للمجتاز به، ومن ذلك اشتقاق أواصر القرابة والعهد لأنها تعطف على ما تجب رعايته من الرحم والمودة.

{فَادع لنا رَبك يخرج لنا} ، وأصل هَذِه اللَّام الْكسر كَمَا كسرت لَام الْجَرّ مَعَ الظَّاهِر. فَإِن دخلت عَلَيْهَا الْوَاو أَو الْفَاء أَو ثمَّ جَازَ كسرهَا على الأَصْل وإسكانها لتخفيف، إِلَّا أَن الِاخْتِيَار أَن تسكن مَعَ الْفَاء وَالْوَاو لِكَوْنِهِمَا على حرف وَاحِد لَا يُمكن السُّكُوت عَلَيْهِ، وَأَن تكسر مَعَ ثمَّ لِأَنَّهَا كلمة بذاتها. وَبِهَذَا أَخذ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، فَقَرَأَ: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} بِإِسْكَان اللَّام مَعَ الْفَاء وَالْوَاو، وَقَرَأَ: {ثمَّ ليقطع} بِكَسْر اللَّام مَعَ ثمَّ. [104] وَيَقُولُونَ لمركز الضرائب: المأصر بِفَتْح الصَّاد وَالصَّوَاب كسرهَا، لِأَن مَعْنَاهُ الْموضع الحابس للمار عَلَيْهِ والعاطف للمجتاز بِهِ، وَمن ذَلِك اشتقاق أواصر الْقَرَابَة والعهد لِأَنَّهَا تعطف على مَا تجب رعايته من الرَّحِم والمودة. وَحكى عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، قَالَ: اجْتمع عندنَا أَبُو نصر أَحْمد بن حَاتِم

[105] ويقولون: هذا أمر يعرفه الصادر والوارد، ووجه الكلام أن يقال.

وَابْن الْأَعرَابِي فتجاريا الحَدِيث إِلَى أَن حكى أَبُو نصر: أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي دخل على عبيد الله بن زِيَاد، وَعَلِيهِ ثباب رثَّة، فَكَسَاهُ ثيابًا جددا، من غير أَن عرض لَهُ بسؤال، أَو أَلْجَأَهُ إِلَى استكساء، فَخرج وَهُوَ يَقُول: (كساك وَلم تستكسه فحمدته ... أَخ لَك يعطيك الجزيل ويأصر) (وان أَحَق النَّاس إِن كنت مادحا ... بمدحك من أَعْطَاك وَالْعرض وافر) فَأَنْشد أَبُو نصر قافية الْبَيْت: وياصر يُرِيد بِهِ: ويعطف، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: بل هُوَ وناصر بالنُّون، فَقَالَ أَبُو نصر: دَعْنِي يَا هَذَا وياصري، وَعَلَيْك بناصرك. [105] وَيَقُولُونَ: هَذَا أَمر يعرفهُ الصَّادِر والوارد، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال. الْوَارِد والصادر لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْورْد والصدر، وَمِنْه قيل للخادع: يُورد وَلَا يصدر، وَلما كَانَ الْورْد تقدم الصَّدْر وَجب أَن تقدم لَفْظَة الْوَارِد على الصَّادِر. ويماثل قَوْلهم: الْوَارِد والصادر قَوْلهم: القارب والهارب، فالقارب الَّذِي

[106] ويقولون: أبنت بكسر الباء مع همزة الوصل، وهو من أقبح أوهامهم وأفحش لحن في كلامهم لأن همزة الوصل لا تدخل على متحرك، وإنما اجتلبت للساكن ليتوصل بإدخالها عليه إلى افتتاح النطق به، والصواب أن يقال فيها: ابنة أو بنت، لأن العرب نطقت فيها بهاتين الصيغتين، فمن قال: ابنة صاغها على لفظة ابن ثم ألحق بها هاء التأنيث التي تسمى الهاء الفارقة، وتصير في الوصل تاء، ومن قال فيها: بنت أنشأها نشأة مؤتنفة، وصاغها صيغة مفردة، وبناها على وزن جذع المتحرك أوله، فاستغنى بحركة بائها على اجتلاب الهمزة لها وإدخالها عليها، وهذه التاء المتطرفة في بنت وفي أخت أيضا هي تاء أصلية تثبت في الوصل والوقف، وليست للتأنيث على الحقيقة، لأن تاء التأنيث يكون ما قبلها مفتوحا، كالميم في فاطمة والراء في شجرة، إلا أن تكون ألفا كالألف في قطاة وقناة.

يطْلب المَاء، والهارب الَّذِي يصدر عَنهُ. [106] وَيَقُولُونَ: أبنت بِكَسْر الْبَاء مَعَ همزَة الْوَصْل، وَهُوَ من أقبح أوهامهم وأفحش لحن فِي كَلَامهم لِأَن همزَة الْوَصْل لَا تدخل على متحرك، وَإِنَّمَا اجتلبت للساكن ليتوصل بإدخالها عَلَيْهِ إِلَى افْتِتَاح النُّطْق بِهِ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا: ابْنة أَو بنت، لِأَن الْعَرَب نطقت فِيهَا بِهَاتَيْنِ الصيغتين، فَمن قَالَ: ابْنة صاغها على لَفْظَة ابْن ثمَّ ألحق بهَا هَاء التَّأْنِيث الَّتِي تسمى الْهَاء الفارقة، وَتصير فِي الْوَصْل تَاء، وَمن قَالَ فِيهَا: بنت أَنْشَأَهَا نشأة مؤتنفة، وصاغها صِيغَة مُفْردَة، وبناها على وزن جذع المتحرك أَوله، فاستغنى بحركة بائها على اجتلاب الْهمزَة لَهَا وإدخالها عَلَيْهَا، وَهَذِه التَّاء المتطرفة فِي بنت وَفِي أُخْت أَيْضا هِيَ تَاء أَصْلِيَّة تثبت فِي الْوَصْل وَالْوَقْف، وَلَيْسَت للتأنيث على الْحَقِيقَة، لِأَن تَاء التَّأْنِيث يكون مَا قبلهَا مَفْتُوحًا، كالميم فِي فَاطِمَة وَالرَّاء فِي شَجَرَة، إِلَّا أَن تكون ألفا كالألف فِي قطاة وقناة. وَلما كَانَ مَا قبل التَّاء فِي بنت وَأُخْت سَاكِنا وَلَيْسَ بِأَلف دلّ على أَن التَّاء فِيهَا أَصْلِيَّة. وَأكْثر اللغتين فيهمَا اسْتِعْمَالا ابْنة، وَبِه نطق الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَرْيَم ابْنة عمرَان} ، وَفِي قَوْله سُبْحَانَهُ إِخْبَارًا عَن خطاب شُعَيْب لمُوسَى

[107] ويقولون: ودعت قافلة الحاج، فينطقون بما يتضاد الكلام فيه لأن التوديع إنما يكون لمن يخرج إلى السفر، والقافلة اسم للرفقة الراجعة إلى الوطن، فكيف يقرن بين اللفظتين مع تنافي المعنيين ووجه الكلام أن يقال: تلقيت قافلة الحاج، أو استقبلت قافلة الحاج.

عَلَيْهِمَا وعَلى نَبينَا وَسَائِر النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ السَّلَام: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين} وَعَلِيهِ قَول أبي العميثل: (لقِيت ابْنة السَّهْمِي زَيْنَب عَن عفر ... وَنحن حرَام مسي عَاشر الْعشْر) (فكلمتها ثِنْتَيْنِ كَالْمَاءِ مِنْهُمَا ... وَأُخْرَى على لوح أحر من الْجَمْر) أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ الأولى تَحِيَّة الْقدوم، وبالأخرى سَلام الْوَدَاع. [107] وَيَقُولُونَ: ودعت قافلة الْحَاج، فينطقون بِمَا يتضاد الْكَلَام فِيهِ لِأَن التوديع إِنَّمَا يكون لمن يخرج إِلَى السّفر، والقافلة اسْم للرفقة الراجعة إِلَى الوطن، فَكيف يقرن بَين اللفظتين مَعَ تنَافِي الْمَعْنيين وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: تلقيت قافلة الْحَاج، أَو اسْتقْبلت قافلة الْحَاج. ويشاكل هَذَا التَّنَاقُض قَوْلهم: رب مَال كثير أنفقته، فينقضون أول كَلَامهم بِآخِرهِ، ويجمعون بَين الْمَعْنى وضده لِأَن رب للتقليل، فَكيف يخبر بهَا عَن المَال الْكثير

[108] ويقولون: فلان أنصف من فلان، إشارة إلى أنه يفضل في النصفة عليه، فيحيلون المعنى فيه، لأن المعنى هو أنصف منه، أي أقوم منه بالنصافة التي هي الخدمة لكونه مصدر نصفت القوم، أي خدمتهم فأما إذا أريد به التفضيل في الانصاف، فلا يقال إلا: هو أحسن انصافا منه، أو أكثر انصافا، وما أشبه ذلك.

[108] وَيَقُولُونَ: فلَان أنصف من فلَان، إِشَارَة إِلَى أَنه يفضل فِي النصفة عَلَيْهِ، فيحيلون الْمَعْنى فِيهِ، لِأَن الْمَعْنى هُوَ أنصف مِنْهُ، أَي أقوم مِنْهُ بالنصافة الَّتِي هِيَ الْخدمَة لكَونه مصدر نصفت الْقَوْم، أَي خدمتهم فَأَما إِذا أُرِيد بِهِ التَّفْضِيل فِي الانصاف، فَلَا يُقَال إِلَّا: هُوَ أحسن انصافاً مِنْهُ، أَو أَكثر انصافاً، وَمَا أشبه ذَلِك. وَالْعلَّة فِيهِ أَن الْفِعْل من الانصاف أنصف، وأفعل الَّذِي للتفضيل لَا يبْنى إِلَّا من الْفِعْل الثلاثي لتنتظم حُرُوفه فِيهِ، إِذْ لَو بنى مِمَّا جَاوز الثلاثي لاحتيج إِلَى حذف جُزْء مِنْهُ، وَلَو فعل ذَلِك لاستحال الْبناء هدما، وَالزِّيَادَة المجتلبة لَهُ ثلمًا، فَأَما قَول حسان بن ثَابت: (كلتاهما حلب الْعصير فعاطني ... بزجاجة ارخاهما للمفصل) فانما قَالَ: ارخاهما وَالْقِيَاس أَن يُقَال: أشدهما ارخاء، لِأَن أصل هَذَا الْفِعْل رخو فبناه مِنْهُ، كَمَا قَالُوا: مَا أحوجه إِلَى كَذَا، فبنوه من حوج، وَإِن كَانَ قِيَاسه أَن يُقَال: مَا أَشد حَاجته. وَلِهَذَا الْبَيْت حِكَايَة يحسن أَن نعقب بروايتها، ونصوع نشرة بنشر ملحتها، وَهِي مَا رَوَاهُ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الانباري عَن أَبِيه قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الربعِي، قَالَ: حَدثنَا احْمَد بن عبد الْملك بن أبي الشمَال السَّعْدِيّ قَالَ: حَدثنَا ابو ظبْيَان

الْحمانِي قَالَ: اجْتمع قوم على شراب لَهُم، فغناهم مغنيهم بِشعر حسان: (ان الَّتِي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل) (كلتاهما حلب الْعصير فعاطني ... بزجاجة ارخاهما للمفصل) فَقَالَ بَعضهم: امْرَأَته طَالِق، إِن لم أسأَل اللَّيْلَة عبيد الله ابْن الْحسن القَاضِي عَن عِلّة هَذَا الشّعْر، لم قَالَ: ان الَّتِي فَوحد ثمَّ قَالَ: كلتاهما فَثنى فأشفقوا على صَاحبهمْ وَتركُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ومضوا يتخطون الْقَبَائِل حَتَّى انْتَهوا إِلَى بني شقرة وَعبيد الله بن الْحسن يُصَلِّي عِنْدهم فَلَمَّا فرغ من صلَاته قَالُوا: قد جئْنَاك فِي أَمر دعتنا إِلَيْهِ ضَرُورَة وشرحوا لَهُ خبرهم، وسألوه الْجَواب، فَقَالَ: إِن الَّتِي ناولتني فرددتها، عني بهَا الْخمر الممزوجة بِالْمَاءِ، ثمَّ قَالَ من بعد: كلتاهما حلب الْعصير، يُرِيد الْخمر المتحلبة من الْعِنَب وَالْمَاء المتحلب من السَّحَاب المكنى عَنهُ بالمعصرات فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا} . قَالَ الْمُؤلف: هَذَا مَا فسره القَاضِي عبيد الله بن الْحسن القَاضِي، وَكَانَ مِمَّن يرمق بالمهابة، وَلَا يسمح بالدعابة، وَقد بَقِي فِي الشّعْر مَا يحْتَاج إِلَى كشف سره وتبيان نكته، أما قَوْله: ان الَّتِي ناولتني فرددتها، قتلت قتلت، إِنَّه خَاطب بِهِ الساقي الَّذِي كَانَ نَاوَلَهُ كأسا ممزوجة لِأَنَّهُ يُقَال: قتلت الْخمر إِذا مزجتها، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يُعلمهُ أَنه قد فطن لما فعله، ثمَّ مَا اقتنع بذلك مِنْهُ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فِي مُقَابلَة المزج. وَقد أحسن كل الاحسان فِي تجنيس اللَّفْظ، ثمَّ انه عقب الدُّعَاء عَلَيْهِ بِأَن استعطى مِنْهُ مَا لم يقتل، يَعْنِي الصّرْف الَّتِي لم تمزج، وَقَوله: ارخاهما للمفصل - يَعْنِي بِهِ اللِّسَان، وَسمي مفصلا بِكَسْر الْمِيم، لِأَنَّهُ يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَلَيْسَ مَا اعْتَمدهُ عبيد الله بن الْحسن من الاسماح وخفض الْجنَاح مِمَّا يقْدَح فِي نزاهته، أَو يغض من نبله ونباهته. ويضارع هَذِه الْحِكَايَة فِي وَطْأَة الْقُضَاة المتقشفين للمستفتين وتلاينهم فِي مَوَاطِن اللين مَا حُكيَ أَن حَامِد ابْن الْعَبَّاس سَأَلَ عَليّ بن عِيسَى فِي ديوَان الوازرة عَن دَوَاء الْخمار، وَقد علق بِهِ، فَأَعْرض عَن كَلَامه، وَقَالَ: مَا أَنا وَهَذِه الْمَسْأَلَة فَخَجِلَ حَامِد

[109] ويقولون لمن أصابته الجنابة: قد جنب، فيوهمون فيه، لأن معنى جنب أصابته ريح الجنوب، فأما من الجنابة، فيقال فيه: قد أجنب.

مِنْهُ، ثمَّ الْتفت إِلَى قَاضِي الْقُضَاة أبي عمر، فَسَأَلَهُ فتنحنح القَاضِي لاصلاح صَوته، ثمَّ قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعِينُوا فِي الصناعات بِأَهْلِهَا. والأعشى هُوَ الْمَشْهُور بِهَذِهِ الصِّنَاعَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَقد قَالَ: (وكأس شربت على لَذَّة ... وَأُخْرَى تداويت مِنْهَا بهَا) ثمَّ تلاه أَبُو نواس فِي الْإِسْلَام فَقَالَ: (دع عَنْك لومي فان اللوم إغراء ... وداوني بِالَّتِي كَانَت هِيَ الدَّاء) فأسفر حِينَئِذٍ وَجه حَامِد، وَقَالَ لعَلي بن عِيسَى: مَا ضرك يَا بَارِد أَن تجيب بِبَعْض مَا أجَاب بِهِ قَاضِي الْقُضَاة وَقد استظهر فِي جَوَاب الْمَسْأَلَة بقول الله تَعَالَى أَولا، ثمَّ بقول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم ثَانِيًا، وَبَين الْفتيا وَأدّى الْمَعْنى وتفصى من الْعهْدَة، فَكَانَ خجل عَليّ بن عِيسَى من حَامِد بِهَذَا الْكَلَام أَكثر من خجل حَامِد مِنْهُ لما ابتدأه بِالْمَسْأَلَة. [109] وَيَقُولُونَ لمن أَصَابَته الْجَنَابَة: قد جنب، فيوهمون فِيهِ، لِأَن معنى جنب أَصَابَته ريح الْجنُوب، فَأَما من الْجَنَابَة، فَيُقَال فِيهِ: قد أجنب. وَجوز أَبُو حَاتِم السجسْتانِي فِي جنب، واشتقاقه من الْجَنَابَة وَهِي الْبعد، فَكَأَنَّهُ

[110] ويقولون: عندي ثمان نسوة وثمان عشرة جارية وثمانمائة درهم.

سمى بذلك لتباعده عَن الْمَسَاجِد إِلَى أَن يغْتَسل، فَأَما قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ: الْإِنْسَان لَا يجنب، وَالثَّوْب لَا يجنب، فَأَرَادَ بِهِ أَن الْإِنْسَان لَا يجنب بمماسة الْجنب وَكَذَلِكَ الثَّوْب إِذا لبسه الْجنب. [110] وَيَقُولُونَ: عِنْدِي ثَمَان نسْوَة وثمان عشرَة جَارِيَة وَثَمَانمِائَة دِرْهَم. فيحذفون الْيَاء من ثَمَان فِي هَذِه المواطن الثَّلَاثَة، وَالصَّوَاب اثباتها فِيهَا، فَيُقَال: ثَمَانِي نسْوَة وثماني عشرَة جَارِيَة وثماني مائَة دِرْهَم، لِأَن الْيَاء فِي ثَمَان يَاء المنقوص وياء المنقوص تثبت فِي حَال الْإِضَافَة وَحَالَة النصب كالياء فِي قَاض، فَأَما قَول الْأَعْشَى: (وَلَقَد شربت ثمانيا وثمانيا ... وثمان عشرَة واثنتين وأربعا) فانه حذف الْيَاء لضَرُورَة الشّعْر، كَمَا حذفت من المنقوص الْمُعَرّف فِي قَول الشَّاعِر: (وطرت بمنصلى فِي يعملات ... دوامى الأيد يخبطن السريحا) يُرِيد الْأَيْدِي، وَقد جوز فِي ضرورات الشّعْر حذف الياءات من أَوَاخِر الْكَلم والاجتزاء عَنْهَا بالكسرة الدَّالَّة عَلَيْهَا، كَقَوْل الراجز:

[111] ويقولون: ابتعت عبدا وجارية أخرى، فيوهمون فيه لأن العرب لم تضف بلفظتي آخر وأخرى إلا ما يجانس المذكور قبله، كما قال سبحانه: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ، وكما قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ، فوصف جل اسمه مناة بالأخرى لما جانست العزى واللات، ووصف الأيام بالاخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة، وهو مذكر، فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظة أخرى، كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل افعل الذي تصحبه من، ويجانس المذكور بعده، يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال الفند الزماني، وقال آخر، كان تقدير الكلام: وقال آخر من الشعراء، وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها وكثرة استعمال آخر في النطق، وأما قول الشاعر:

(كَفاك: كف مَا تلِيق درهما ... جودا وَأُخْرَى تُعْطِي بِالسَّيْفِ الدما) [111] وَيَقُولُونَ: ابتعت عبدا وَجَارِيَة أُخْرَى، فيوهمون فِيهِ لِأَن الْعَرَب لم تضف بلفظتي آخر وَأُخْرَى إِلَّا مَا يجانس الْمَذْكُور قبله، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} ، وكما قَالَ تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} ، فوصف جلّ اسْمه مَنَاة بِالْأُخْرَى لما جانست الْعُزَّى وَاللات، وَوصف الْأَيَّام بالاخر لكَونهَا من جنس الشَّهْر، وَالْأمة لَيست من جنس العَبْد لكَونهَا مُؤَنّثَة، وَهُوَ مُذَكّر، فَلم يجز لذَلِك أَن يَتَّصِف بِلَفْظَة أُخْرَى، كَمَا لَا يُقَال: جَاءَت هِنْد وَرجل آخر، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن آخر من قبيل افْعَل الَّذِي تصحبه من، ويجانس الْمَذْكُور بعده، يدل على ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: قَالَ الفند الزماني، وَقَالَ آخر، كَانَ تَقْدِير الْكَلَام: وَقَالَ آخر من الشُّعَرَاء، وَإِنَّمَا حذفت لَفْظَة من لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهَا وَكَثْرَة اسْتِعْمَال آخر فِي النُّطْق، وَأما قَول الشَّاعِر: (صلى على عزة الرَّحْمَن وابنتها ... ليلى وَصلى على جاراتها الْأُخَر)

[112] يقولون: السبع الطول بكسر الطاء، فيلحنون فيه لأن الطول هو الحبل، ووجه الكلام أن يقال: السبع الطول، بضم الطاء، لأنها جمع الطولى،

فَمَحْمُول على أَنه جعل ابْنَتهَا جَارة لَهَا، لتَكون الآخر من جِنْسهَا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِير لما جَازَ أَن يعقب ذكر النبت بالجارات، بل كَانَ يَقُول: وَصلى على بناتها الْأُخَر. وَيَقُولُونَ فِي جمع بَيْضَاء وسوداء وخضراء: بيضاوات وسوداوات وخضراوات، وَهُوَ لحن فَاحش، لِأَن الْعَرَب لم تجمع فعلاء الَّتِي هِيَ مؤنث أفعل بِالْألف وَالتَّاء، بل جمعته على فعل، نَحْو خضر وسود وصفر وبيض، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {وَمن الْجبَال جدد بيض وحمر مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود} وَالْعلَّة فِيهِ انه لما كَانَ هَذَا النَّوْع من الْمُؤَنَّث على غير لفظ الْمُذكر ومبنيا على صِيغَة أُخْرَى قل تمكنه، وَامْتنع من الْجمع بِالْألف وَالتَّاء، كَمَا امْتنع مذكره من الْجمع بِالْوَاو وَالنُّون. فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِي الخضروات صَدَقَة فالخضروات هُنَا لَيست بِصفة بل هِيَ اسْم جنس للبقلة، وفعلاء فِي الْأَجْنَاس تجمع بِالْألف وَالتَّاء، نَحْو: بيداء وبيداوات وصحراء وصحراوات، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت صفة خَارِجَة عَن مؤنث أفعل نَحْو: نفسَاء ونفساوات. [112] يَقُولُونَ: السَّبع الطول بِكَسْر الطَّاء، فيلحنون فِيهِ لِأَن الطول هُوَ الْحَبل، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: السَّبع الطول، بِضَم الطَّاء، لِأَنَّهَا جمع الطُّولى،

[113] يقولون عند نداء الأبوين: يا أبتي ويا أمتي، فيثبتون ياء الإضافة فيهما مع إدخال تاء التأنيث عليهما، قياسا على قولهم: يا عمتي، وهو وهم يشين وخطأ مستبين، ووجه الكلام أن يقال: يا أبت ويا أمت، بحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسر، كما قال تعالى: {يا أبت لا تعبد الشيطان} ، {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} ، أو يقال: يا أبتا ويا أمتا بإثبات الألف، والاختيار أن يوقف عليهما بالهاء، فيقال: يا أبه ويا أمه.

وكل مَا كَانَ على وزن فعلى الَّتِي هِيَ مؤنث أفعل جمع على فعل كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} ، وَهِي جمع كبرى. [113] يَقُولُونَ عِنْد نِدَاء الْأَبَوَيْنِ: يَا أبتي وَيَا أمتِي، فيثبتون يَاء الْإِضَافَة فيهمَا مَعَ إِدْخَال تَاء التَّأْنِيث عَلَيْهِمَا، قِيَاسا على قَوْلهم: يَا عَمَّتي، وَهُوَ وهم يشين وَخطأ مستبين، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: يَا أَبَت وَيَا أمت، بِحَذْف الْيَاء والاجتزاء عَنْهَا بِالْكَسْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان} ، {يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} ، أَو يُقَال: يَا أبتا وَيَا أمتا بِإِثْبَات الْألف، وَالِاخْتِيَار أَن يُوقف عَلَيْهِمَا بِالْهَاءِ، فَيُقَال: يَا أبه وَيَا أمه.

[114] ويقولون: عيرته بالكذب، والأفصح أن يقال: عيرته الكذب بحذف الباء، كما قال أبو ذؤيب:

فَإِن قيل: فَكيف دخلت تَاء التَّأْنِيث على الْأَب، وَهُوَ مُذَكّر فَالْجَوَاب أَنه لَا غرو فِي ذَلِك، أَلا ترى أَنهم قَالُوا: رجل ربعَة وَرجل فروقة فوصفوا الْمُذكر بالمؤنث، وَقَالُوا: امْرَأَة حَائِض، فوصفوا الْمُؤَنَّث بالمذكر، وَإِنَّمَا يسْتَعْمل مَا ذَكرْنَاهُ فِي النداء خَاصَّة فَأَما قَوْلهم: عَمَّتي وخالتي، فَإِن التَّاء فيهمَا تثبت فِي غير موطن النداء. [114] وَيَقُولُونَ: عيرته بِالْكَذِبِ، والأفصح أَن يُقَال: عيرته الْكَذِب بِحَذْف الْبَاء، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْب: (وعيرني الواشون أَنِّي أحبها ... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها) وتمثل بعجز هَذَا الْبَيْت عبد الله بن الزبير حِين ناداه أهل الشأم لما حصر فِي الْمَسْجِد الْحَرَام: يَا بن ذَات النطاقين، فَقَالَ: إيه وَالله (وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها ) أَي زائل عَنْك، وَالْعرب تَقول: اللؤم ظَاهر عَنْك، وَالنعْمَة ظَاهِرَة عَلَيْك، أَي مُلَازمَة لَك. وَجَاء فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض أم بِظَاهِر من القَوْل}

[115] ويقولون ابدأ به أولا، والصواب أن يقال: ابدأ به أول بالضم، كما قال معن بن أوس:

) أَي بباطل من القَوْل، وَلم يسمع فِي كَلَام بليغ وَلَا شعر فصيح تَعديَة عيرته بِالْبَاء، فَأَما من روى بَيت الْمقنع الْكِنْدِيّ: (يعيرني بِالدّينِ قومِي وَإِنَّمَا ... تدينت فِي أَشْيَاء تكسبهم حمدا) فَهُوَ تَحْرِيف من الرَّاوِي فِي الرِّوَايَة، وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة: يعاتبني فِي الدَّين قومِي. [115] وَيَقُولُونَ ابدأ بِهِ أَولا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: ابدأ بِهِ أول بِالضَّمِّ، كَمَا قَالَ معن بن أَوْس: (لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على اينا تعدو الْمنية أول) وَإِنَّمَا بني أول هَاهُنَا لَان الْإِضَافَة مُرَادة فِيهِ، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام: ابدأ بِهِ أول النَّاس، فَلَمَّا اقتطع عَن الْإِضَافَة بنى كأسماء الغايات الَّتِي هِيَ قبل وَبعد ونظائرهما، وَمعنى تَسْمِيَة

[116] ويقولون لهذا النوع من المشموم: سوسن بضم السين، فيوهمون فيه، كما أن بعض المحدثين ضمها فتطير من اسمه حين أهدي إليه، وكتب من أهداه له:

هَذِه الْأَسْمَاء بالغايات، أَي قد جعلت غَايَة للنطق، بَعْدَمَا كَانَت مُضَافَة، ولهذه الْعلَّة اسْتَوْجَبت أَن تبنى، لِأَن آخرهَا حِين قطع عَن الْإِضَافَة صَار كوسط الْكَلِمَة، ووسط الْكَلِمَة لَا يكون إِلَّا مَبْنِيا، وَإِنَّمَا بنيت على الضمة لِأَنَّهَا فِي حَالَة الْإِضَافَة تعرف تَارَة بِالنّصب وَأُخْرَى بِالْجَرِّ، فخصت عِنْد الْبناء بِالضَّمِّ الَّذِي خَالف حركتي إعرابها، ليعلم بِهِ أَنَّهَا مَبْنِيَّة لَا معربة. على أَن أول إِذا أعرب لَا يصرف لِأَنَّهُ على وزن أفعل وَهُوَ صفة، وَلِهَذَا قَالُوا: كَانَ ذَلِك عَاما أول، وَمَا رَأَيْته مذ أول من أمس، وَلم يسمع صرفه إِلَّا فِي قَوْلهم: مَا تركت لَهُ أَولا وَلَا آخرا، فجعلوه فِي هَذَا الْكَلَام اسْم جنس، وأخرجوه عَن حكم الصّفة، واجروا هَذَا الْكَلَام بِمَعْنى مَا تركت لَهُ قَدِيما وَلَا حَدِيثا. وَمن مفاحش ألحان الْعَامَّة إلحاقهم هَاء التَّأْنِيث بِأول فَيَقُولُونَ الأولة كِنَايَة عَن الأولى، وَلم يسمع فِي لُغَات الْعَرَب إدخالها على أفعل الَّذِي هُوَ صفة، مثل أَحْمَر وأبيض، وَلَا على أفعل الَّذِي هُوَ للتفضيل نَحْو أفضل وَأول، وَالْعجب أَنهم فِي حَال صغرهم ومبدأ تعلمهمْ فِي مكاتبم، يَقُولُونَ: جُمَادَى الأولى فيلفظون بِالصَّحِيحِ، فَإِذا نبلوا ونبهوا أَتَوا باللحن الْقَبِيح. وَنَظِير أول فِي المبنيات على الضَّم أَنَّك تَقول: انحدر من فَوق، وَأَتَاهُ من قُدَّام واستردفه من وَرَاء، وَأَخذه من تَحت، فتبنى هَذِه الْأَسْمَاء على الضَّم، وَإِن كَانَت ظروف أمكنة، لاقتطاعها عَن الْإِضَافَة، وعَلى ذَلِك قَول الشَّاعِر: (ألبان إبل تعلة بن مساور ... مَا دَامَ يملكهَا عليّ حرَام) (لعن الْإِلَه تعلة بن مساور ... لعنا يصب عَلَيْهِ من قُدَّام) أَرَادَ من قدامه، فَلَمَّا حذف الضَّمِير مِنْهُ واقتطعه عَن الْإِضَافَة بناه على الضَّم. [116] وَيَقُولُونَ لهَذَا النَّوْع من المشموم: سوسن بِضَم السِّين، فيوهمون فِيهِ، كَمَا أَن بعض الْمُحدثين ضمهَا فتطير من اسْمه حِين أهدي إِلَيْهِ، وَكتب من أهداه لَهُ:

(لم يكفك الهجر فأهديت لي ... تفاؤلا بالسوء لي سوسنه) (أَولهَا سوء وَبَاقِي اسْمهَا ... يخبر أَن السوء يبْقى سنه) وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: سوسن بِفَتْح السِّين، وَكَذَلِكَ يُقَال: روشن بِفَتْح الرَّاء، ليلحقا بِمَا جَاءَ على وزن فوعل بِفَتْح الْفَاء، نَحْو جَوْهَر وجورب وكوثر وتولب، إِذْ مَا سمع فِي أَمْثِلَة الْعَرَب فوعل إِلَّا جؤذر فِي لُغَة بَعضهم. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: وَقد اذْكُرْنِي السوسن أبياتا أنشدنيها عَليّ بن عبد الْعَزِيز الأديب المعري لأبي بكر بن الْقُوطِيَّة الأندلسي، يصف فِيهَا السوسن مِمَّا أبدع فِيهِ وَأحسن، فأوردتها على وَجه التشذير لسمط هَذَا الْفَصْل، والتأبين لمن درج من أولي الْفضل، وَهِي: (قُم واسقنيها على الْورْد الَّذِي فعما ... وبادر السوسن الغض الَّذِي نجما) (كَأَنَّمَا ارتضعا خَلْفي سمائهما ... فأرضعت لَبَنًا هَذَا، وَذَاكَ دَمًا) (جسمان قد كفر الكافور ذَاك وَقد ... عق العقيق احمرارا ذَا وَمَا ظلما)

[117] ويقولون جرى الوادي فطم على القليب، والمسموع في هذا المثل: فطم على القري، وهو مجرى الماء إلى الروضة، ومعنى طم علا وقهر، ومنه سميت القيامة طامة، وهذا المثل يضرب في هجوم الخطب الهائل المصغر ما عداه من النوازل.

(كَأَن ذَا طلية نصت لمعترض ... وَذَاكَ خد غَدَاة الْبَين قد لطما) (أَولا فَذَاك أنابيب اللجين وَذَا ... جمر الغضا حركته الرّيح فاضطرما) [117] وَيَقُولُونَ جرى الْوَادي فطم على القليب، والمسموع فِي هَذَا الْمثل: فطم على القريّ، وَهُوَ مجْرى المَاء إِلَى الرَّوْضَة، وَمعنى طم علا وقهر، وَمِنْه سميت الْقِيَامَة طامة، وَهَذَا الْمثل يضْرب فِي هجوم الْخطب الهائل المصغر مَا عداهُ من النَّوَازِل. وَنَظِيره فِي التَّصْحِيف قَوْلهم: يَا حَامِل اذكر حلا، وَإِنَّمَا هُوَ: يَا حابل، أَي يَا من يشد الْحَبل اذكر وَقت حلّه. ويحكى أَن اللحياني أول من صحف هَذَا الْمثل. [118] وَيَقُولُونَ لمن نبت شَاربه: قد طر شَاربه بِضَم الطَّاء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: طر بِفَتْح الطَّاء، كَمَا يُقَال: طر وبر النَّاقة، إِذا بدا صغاره، وناعمه، وَمِنْه يُقَال: شَارِب طرير، وَعَلِيهِ قَول الشَّاعِر: (وَمَا زلت فِي ليلى لدن طر شاربي ... إِلَى الْيَوْم أبدي إحْنَة وأواحن) (وأضمر فِي ليلى لقوم ضغينة ... وتضمر فِي ليلى عَليّ الضغائن)

[119] ويقولون: ركض الفرس بفتح الراء وقد أقبلت الفرس تركض بفتح التاء، والصواب أن يقال: ركض بضم الراء، وأقبلت تركض بضم التاء، وأصل الركض في اللغة تحريك القوائم، ومنه قوله تعالى: {اركض}

فَأَما طر بِضَم الطَّاء فَمَعْنَاه قطع، وَمِنْه اشتقاق اسْم الطرار، وَبِه سميت الطرة لِأَنَّهَا تقطع. وَأما قَوْلهم: جَاءَ الْقَوْم طرا فَهُوَ بِمَعْنى جَاءَ الْقَوْم جَمِيعًا، وانتصابه على الْحَال أَو الْمصدر. ونقيض هَذَا الْوَهم قَوْلهم فِي النادم المتحير: سقط فِي يَده بِفَتْح السِّين، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: سقط فِي يَده بضَمهَا. وَقد سمع عَنْهُم: أسقط إِلَّا أَن الأول أفْصح، لقَوْله تَعَالَى: {وَلما سقط فِي أَيْديهم} . [119] وَيَقُولُونَ: ركض الْفرس بِفَتْح الرَّاء وَقد أَقبلت الْفرس تركض بِفَتْح التَّاء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: ركض بِضَم الرَّاء، وَأَقْبَلت تركض بِضَم التَّاء، وأصل الركض فِي اللُّغَة تَحْرِيك القوائم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {اركض}

برجلك) وَلِهَذَا قيل للجنين، إِذا اضْطربَ حَيا فِي بطن أمه: قد ارتكض. وَمن أَبْيَات الْمعَانِي المشكلة: (قد سبق الْجِيَاد وَهُوَ رابض ... وَكَيف لَا يسْبق وَهُوَ راكض) وَالْمرَاد بِهِ أَن أمه سبقت الْجِيَاد حِين أجريت وَهِي حَامِل بِهِ، وأضاف السَّبق إِلَيْهِ لاتصاله بِأُمِّهِ، وَأَشَارَ بركضه إِلَى تَحْرِيك قوائمه فِي مربضه ومقره، وَقد توهم بَعضهم أَن الركض لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْخَيل، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يُقَال: ركض الْبَعِير بِرَجُل، إِذا رمح، وركض الطَّائِر، إِذا حرك جناحيه، ثمَّ ردهما على جسده فِي الطيران، كَمَا قَالَ سَلامَة ابْن جندل: (أودى الشَّبَاب حميدا ذُو التعاجيب ... أودى وَذَلِكَ شَأْن غير مَطْلُوب) (ولى حثيثا وَهَذَا الشيب يَطْلُبهُ ... لَو كَانَ يُدْرِكهُ ركص اليعاقيب) يَعْنِي باليعاقيب ذكر الحجل، وَهُوَ جمع يَعْقُوب. ويروى: ركض اليعاقيب بِالضَّمِّ وَالْفَتْح، فَمن رَفعه جعله فَاعل يدْرك، وَأَرَادَ بِهِ أَن هَذَا الطَّائِر على سرعَة طيرانه لَا يدْرك الشَّبَاب إِذا ولى فَكيف يُدْرِكهُ غَيره، وَمن رَوَاهُ بِالنّصب نَصبه بِفعل مُضْمر تَقْدِيره ولى يرْكض ركض اليعاقيب، وَجعله من صلَة صفة الشَّبَاب، وَجعل فَاعل يُدْرِكهُ ضمير الشيب

[120] ويقولون أيضا: حكني جسدي فيجعلون الجسد هو الحاك، وعلى التحقيق هو المحكوك، والصحيح أن يقال: أحكني جسدي، أي ألجأني إلى الحك، كذلك يقولون: اشتكت عين فلان، والصواب أن يقال: اشتكى فلان عينه، لأنه هو المشتكي لا هي.

الْمُسْتَتر فِيهِ، وَيصير فِي الْبَيْت تَقْدِيم وَتَأْخِير، تَصْحِيحه ولى الشَّبَاب حثيثا يرْكض ركض اليعاقيب، هَذَا الشيب يَطْلُبهُ لَو كَانَ يُدْرِكهُ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الحريري: وللعامة وَبَعض الْخَاصَّة عدَّة أَوْهَام فِي إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى من فعل بِهِ، يماثل وهمهم فِي قَوْلهم: ركضت الْفرس، وَقَوْلهمْ: قد حلبت نَاقَته رسلًا كثيرا، وَلم تحلب شاته إِلَّا لَبَنًا يَسِيرا، فيسندون الْحَلب إِلَى المحلوبة، وَهُوَ موقع بهَا. وَوجه القَوْل: كم حلبت نَاقَتك، وَكم تحلب حلوبتك وَمَا أشبه ذَلِك. [120] وَيَقُولُونَ أَيْضا: حكني جَسَدِي فيجعلون الْجَسَد هُوَ الحاك، وعَلى التَّحْقِيق هُوَ المحكوك، وَالصَّحِيح أَن يُقَال: أحكني جَسَدِي، أَي ألجأني إِلَى الحك، كَذَلِك يَقُولُونَ: اشتكت عين فلَان، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: اشْتَكَى فلَان عينه، لِأَنَّهُ هُوَ المشتكي لَا هِيَ. [121] وَيَقُولُونَ: سَار ركاب السُّلْطَان، إِشَارَة إِلَى موكبه الْمُشْتَمل على الْخَيل وَالرجل وأجناس الدَّوَابّ. وَهُوَ وهم ظَاهر لِأَن الركاب اسْم يخْتَص بِالْإِبِلِ وَجَمعهَا ركائب، والراكب هُوَ رَاكب الْبَعِير خَاصَّة، وَجمعه ركبان، فَأَما الركب والأركوب

[122] ويقولون للعبة الهندية: الشطرنج، بفتح الشين، وقياس كلام العرب أن تكسر لأن من مذهبهم أنه إذا عرب الاسم العجمي رد إلى ما يستعمل من نظائره في لغتهم وزنا وصيغة، وليس في كلامهم فعلل بفتح الفاء، وإنما المنقول عنهم في هذا الوزن فعلل، بكسر الفاء فلهذا وجب كسر الشين من الشطرنج ليلحق بوزن جردحل، وهو الضخم من الإبل.

فقد جوز الْخَلِيل أَن يُطلق اسمهما على راكبي كل دَابَّة إِلَّا أَن الأركوب أَكثر من الركب عدَّة وأوفى جمَاعَة. [122] وَيَقُولُونَ للعبة الْهِنْدِيَّة: الشطرنج، بِفَتْح الشين، وَقِيَاس كَلَام الْعَرَب أَن تكسر لِأَن من مَذْهَبهم أَنه إِذا عرب الِاسْم العجمي رد إِلَى مَا يسْتَعْمل من نَظَائِره فِي لغتهم وزنا وَصِيغَة، وَلَيْسَ فِي كَلَامهم فعلل بِفَتْح الْفَاء، وَإِنَّمَا الْمَنْقُول عَنْهُم فِي هَذَا الْوَزْن فعلل، بِكَسْر الْفَاء فَلهَذَا وَجب كسر الشين من الشطرنج ليلحق بِوَزْن جردحل، وَهُوَ الضخم من الْإِبِل. وَقد جوز فِي الشطرنج أَن يُقَال بالشين الْمُعْجَمَة لجَوَاز اشتقاقه من المشاطرة، وَأَن يُقَال بِالسِّين الْمُهْملَة، لجَوَاز أَن يكون اشتق من التسطير عِنْد التعبية. وَمثله تَسْمِيَة الدُّعَاء للعاطس بالتسميت والتشميت، إِشَارَة بِالسِّين الْمُهْملَة أَن يرْزق السمت الْحسن، وبالشين الْمُعْجَمَة إِلَى جمع الشمل لِأَن الْعَرَب تَقول: تشممت الْإِبِل، إِذا اجْتمعت فِي المرعى. وَقيل أَن مَعْنَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة الدُّعَاء لشوامته، وَهِي اسْم الْأَطْرَاف. وَلِهَذَا نَظَائِر فِي كَلَام الْعَرَب كَقَوْلِهِم لنَوْع من التَّمْر، سهريز وشهريز، وَلما يخْتم بِهِ: الروسم والروشم. وكقولهم: انتشف لَونه وانتسف إِذا تغير وامتقع، وحمس الرجل وحمش إِذا اشْتَدَّ غَضَبه. وَقَالُوا تنشمت مِنْهُ علما وتنسمت، فَمن قَالَه بِالسِّين الْمُهْملَة جعل اشتقاقه من النسيم، وَشبه مَا يشدوه مِنْهُ حَالا بعد حَال، وَفِي الْوَقْت بعد الْوَقْت

باستنشاق النسيم، وَمن قَالَه بالشين الْمُعْجَمَة أَخذه من قَوْلهم: نَشُمُّ النَّاس فِي الْأَمر، أَي ابتدأوا بِهِ، إِلَّا أَن الْأَصْمَعِي يرى أَن هَذِه اللَّفْظَة لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي الشَّرّ على مَا تقدم ذكره عَنهُ. وَقد جَاءَ أَيْضا فِي الْآثَار والأشعار أَلْفَاظ رويت بِهَذَيْنِ الحرفين على اخْتِلَاف الْمَعْنيين، فَروِيَ فِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ منهوس الْقَدَمَيْنِ، أَي معروقهما. وَذكر ابْن الْأَعرَابِي فِي نوادره أَنه يُقَال: هوس النَّاس وهوشوا، إِذا وَقَعُوا فِي الْفساد، والنهش بإعجام الشين مَا كَانَ بالاضراس والنهس بإهمالها مَا كَانَ بأطراف الْأَسْنَان. وروى: محاش النِّسَاء حرَام بإعجام الشين وإهمالها، وَالْمرَاد بِهِ الدبر، وَوَاحِد المحاش محشة. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن الشَّهْر قد تسعسع فَلَو صمنا بَقِيَّته رُوِيَ بإعجام الشين وإهمالها، فَمن رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ ذهب بِهِ إِلَى دقة الْهلَال وَقلة مَا بَقِي من الشَّهْر كَمَا يُقَال: شعشعت الشَّرَاب بِالْمَاءِ إِذا رققته، وَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة - وَهُوَ أشهر الرِّوَايَتَيْنِ - فَالْمُرَاد بِهِ أَن الشَّهْر قد أدبر وفنى إِلَّا أَقَله.

وَجَاء فِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ ينس النَّاس بعد الْعشَاء الْآخِرَة بِالدرةِ، وَيَقُول: انصرفوا إِلَى مَنَازِلكُمْ فَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة عَنى بِهِ يسوقهم، وَمِنْه سميت الْعَصَا منسأة للسوق بهَا، وَمن رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاه يتناولهم، مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {وأنى لَهُم التناوش} . وَورد فِي الْآثَار أَن عليا كرم الله وَجهه خطب النَّاس على مِنْبَر الْكُوفَة، وَهُوَ غير مسكوك، فَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة، فَمَعْنَاه أَنه غير مسمور، لِأَن السك تضبيب الْبَاب. وَمن رَوَاهُ بإعجام الشين فَالْمَعْنى أَنه غير مشدود. وَنقل عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين سحرِي وَنَحْرِي، فَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة عَنى بِهِ الرئة، وَمن رَوَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة مَعَ الْجِيم فَقَالَ: شجري فَالْمَعْنى مجمع اللحيين. ويروي بَيت النَّابِغَة: (فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا ... فان مَطِيَّة الْجَهْل الشَّبَاب) فَمن رَوَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة فَالْمُرَاد بِهِ الشبيبة ومَطِيَّة الْجَهْل أَي مركبه، وَمن

رَوَاهُ: السباب بِالسِّين الْمُهْملَة فَالْمَعْنى بِهِ السب، كَمَا قد رُوِيَ أَيْضا فِي هَذَا الْبَيْت: فَإِن مَظَنَّة الْجَهْل أَي مَوْضِعه. وَقد روى أَيْضا من شعر الْأَعْشَى بيتان بِهَذَيْنِ الحرفين أَحدهمَا قَوْله: (نفى الذَّم عَن آل المحلق جَفْنَة ... كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق) فَمن روى: كجابية السيح بِالسِّين الْمُهْملَة عَنى بالجابية دجلة، وبالسيح المَاء السائح. وَمن رَوَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة جعل الإرشارة فِيهِ إِلَى كسْرَى لِأَنَّهُ صَاحب دجلة، وَأَرَادَ الْأَعْشَى بِهَذَا التَّشْبِيه أَن جَفْنَة آل المحلق تمد بِالطَّعَامِ بعد الطَّعَام كَمَا تمد دجلة بِالْمَاءِ بعد المَاء. وَالْبَيْت الآخر قَوْله فِي صفة الْخمر والخمار: (وأقبلها الرّيح فِي دنها ... وَصلى على دنها وارتشم) فَمن رَوَاهُ ارتشم بالشين الْمُعْجَمَة عَنى بِهِ أَنه دَعَا للدن ثمَّ ختم عَلَيْهِ، وَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة قَالَ: أَرَادَ أَنه دَعَا لَهَا وعوذ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الْقطَامِي يصف فلكا: (فِي ذِي جلول يقْضِي الْمَوْت صَاحبه ... إِذا الصراري من أهواله ارتسما) يَعْنِي أَن الصراري، وَهُوَ الملاح عوذ وَكبر حِين شَاهد عظم الْأَهْوَال، وعاين تلاطم الأمواج. الجلول: جمع جلّ، وَهُوَ شراع السَّفِينَة. ويروي بَيت أَوْس بن حجر: (مخلفون وَيَقْضِي النَّاس أَمرهم ... غس الْأَمَانَة صنبور بصنبور) فَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة، عَنى أَنهم ضعفاء الْأَمَانَة، وَمن رَوَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة، فاشتقاقه من الْغِشّ. وَحكى الْأَصْمَعِي قَالَ: أنشدنا أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: (فَمَا جبنوا انا نَشد عَلَيْهِم ... وَلَكِن رَأَوْا نَارا تحش وتسفع) قَالَ: فَذكرت ذَلِك لشعبة، فَقَالَ: وَيلك إِنَّمَا هُوَ تحس وتسفع، أَي تحرق وَتسود.

قَالَ الْأَصْمَعِي: وَقد أصَاب أَبُو عَمْرو لِأَن معنى تحش توقد، وَقد أصَاب شُعْبَة أَيْضا وَلم أر بالشعر أعلم مِنْهُ. وَحكى خلف الْأَحْمَر: قَالَ: أخذت عَليّ الْمفضل الضَّبِّيّ وَقد أنْشد لامرئ الْقَيْس: (نمس بأعراف الْجِيَاد اكْفِنَا ... إِذا نَحن قمنا عَن شواء مضهب) فَقلت: لَهُ إِنَّمَا هُوَ نمش لِأَن المش مسح الْيَد بالشَّيْء الخشن، وَبِه سمى منديل الْغمر مشوشا، وَأما قَول الشَّاعِر: (أعلمهُ الرماية كل يَوْم ... فَلَمَّا اشْتَدَّ ساعده رماني) فَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِيهِ استد بِالسِّين المبهمة، وَيكون المُرَاد بِهِ السداد فِي الرَّمْي، وَقد رَوَاهُ بَعضهم بالشين الْمُعْجَمَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى الْقُوَّة: وَمثله فِي اخْتِلَاف الرِّوَايَة قَول عُرْوَة بن أذينة: (لقد علمت وَمَا الْإِسْرَاف من خلقي ... إِن الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوف يأتيني) فروى أَكْثَرهم لَفْظَة الْإِسْرَاف بِالسِّين المغفلة، وَرَوَاهُ بَعضهم بالشين الْمُعْجَمَة، ليَكُون مَعْنَاهَا التطلع إِلَى الشَّيْء والاستشراف لَهُ، وَهُوَ اخْتِيَار المرتضى أبي الْقَاسِم الموسوي رَحمَه الله. وَلِهَذَا الْبَيْت حِكَايَة تحث على استشعار الْيَقِين، وإعلاق الأمل بالخالق دون المخلوقين فجنحته بهَا تحلية لعاطله، ومنبهة على صدق قَائِله، وَهِي مَا رويته من عدَّة طرق أَن عُرْوَة هَذَا وَفد على هِشَام بن عبد الْملك فِي جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ عرف عُرْوَة فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت الْقَائِل: (لقد علمت وَمَا الْإِسْرَاف من خلقي ... إِن الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوف يأتيني) (أسعى لَهُ فيعنيني تطلبه ... وَلَو أَقمت أَتَانِي لَا يعنيني) وأراك قد جبت تضرب من الْحجاز إِلَى الشأم فِي طلب الرزق: فَقَالَ لَهُ: لقد وعظت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فبالغت فِي الْوَعْظ، واذكرت مَا انسانيه الدَّهْر. وَخرج من فوره

[123] ويقولون في جواب من قال: سألت عنك: سأل عنك الخير فيستحيل المعنى بإسناد الفعل إليه، لأن الخير إذا سأل عنه فكأنه جاهل به أو متناه عنه، وصواب القول: سئل عنك الخير، أي كان من الملازمة لك والاقتران بك بحيث يسأل عنك.

إِلَى رَاحِلَته فركبها، ثمَّ نَصهَا رَاجعا نَحْو الْحجاز. فَمَكثَ هِشَام يَوْمه غافلا عَنهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل تعار على فرَاشه، فَذكره وَقَالَ فِي نَفسه: رجل من قُرَيْش قَالَ حِكْمَة، ووفد إِلَيّ فجبهته ووددته عَن حَاجته، وَهُوَ مَعَ هَذَا شَاعِر لَا آمن مَا يَقُول. فَلَمَّا اصبح سَأَلَ عَنهُ، فَأخْبر بانصرافه. فَقَالَ: لَا جرم ليعلمن أَن الرزق سيأتيه، ثمَّ دَعَا بمولى وَأَعْطَاهُ ألفي دِينَار، وَقَالَ لَهُ: الْحق بِهَذِهِ ابْن أذينة فأعطه إِيَّاهَا. قَالَ: فَلم أدْركهُ إِلَّا وَقد دخل بَيته، فقرعت الْبَاب عَلَيْهِ، فَخرج فأعطيته المَال، فَقَالَ: أبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّلَام، وَقل لَهُ: كَيفَ رَأَيْت قولي، سعيت فأكديت، وَرجعت إِلَى بَيْتِي فَأَتَانِي فِيهِ الرزق. وَمِمَّا يرْوى أَيْضا بِهَذَيْنِ الحرفين قَول أبي بكر بن دُرَيْد فِي مقصورته: (أرمق الْعَيْش على برض فَإِن ... رمت ارتشافا رمت صَعب المنتسى) فَمن رَوَاهُ بِالسِّين الْمُهْملَة فَمَعْنَاه المبتعد واشتقاقه من أنسأ الله أَجله، أَي باعده، وَمن رَوَاهُ بالشين الْمُعْجَمَة، فَمَعْنَاه استقصاء الشّرْب بالمشافير. [123] وَيَقُولُونَ فِي جَوَاب من قَالَ: سَأَلت عَنْك: سَأَلَ عَنْك الْخَيْر فيستحيل الْمَعْنى بِإِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهِ، لِأَن الْخَيْر إِذا سَأَلَ عَنهُ فَكَأَنَّهُ جَاهِل بِهِ أَو متناه عَنهُ، وصواب القَوْل: سُئِلَ عَنْك الْخَيْر، أَي كَانَ من الْمُلَازمَة لَك والاقتران بك بِحَيْثُ يسْأَل عَنْك.

[124] ويقولون للمتشبع بما ليس عنده: مطرمذ وبعضهم يقول: طرمذار، كما قال بعض المحدثين:

[124] وَيَقُولُونَ للمتشبع بِمَا لَيْسَ عِنْده: مطرمذ وَبَعْضهمْ يَقُول: طرمذار، كَمَا قَالَ بعض الْمُحدثين: (لَيْسَ للحاجات إِلَّا ... من لَهُ وَجه وقاح) (ولسان طرمذار ... وغدو ورواح) (إِن تكن أَبْطَأت الْحَاجة ... عني والسراح) (فعليّ السَّعْي فِيهَا ... وعَلى الله النجاح) وَالصَّوَاب فِيهِ: طرماذ على مَا حَكَاهُ أَبُو عمر الزَّاهِد فِي كتاب اليواقيت، وَأنْشد عَلَيْهِ لبَعض الرجاز: (سلمت فِي يومي على معَاذ ... سَلام طرماذ على طرماذ) [125] وَيَقُولُونَ للاثنين: هاتا بِمَعْنى أعطيا، فيخطئون فِيهِ، لِأَن هاتا اسْم للْإِشَارَة إِلَى المؤنثة الْحَاضِرَة، وَعَلِيهِ قَول عمرَان بن حطَّان: (وَلَيْسَ لعيشنا هَذَا مهاة ... وَلَيْسَت دَارنَا هاتا بدار) (وان قُلْنَا لَعَلَّ بهَا قرارا ... فَمَا فِيهَا لحي من قَرَار) وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهما: هاتيا بِكَسْر التَّاء لِأَن الْعَرَب تَقول للْوَاحِد الْمُذكر

[126] ويقولون: رأيت الأمير وذويه، فيوهمون فيه لأن العرب لم تنطق بذي الذي بمعنى صاحب إلا مضافا إلى اسم جنس، كقولك: ذو مال وذو نوال، فأما

هَات بِكَسْر التَّاء، وللجمع: هاتوا، لَا كَمَا تَقول الْعَامَّة: هاتم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قل هاتوا برهانكم} . وَيَقُولُونَ للمؤنث: هَاتِي ولجماعة الْإِنَاث هَاتين، وَتقول للاثنين من الْمُذكر والمؤنث: هاتيا من غير أَن يفرقُوا فِي الْأَمر لَهما، كَمَا لم يفرقُوا بَينهمَا فِي ضمير الْمثنى فِي مثل قَوْلك: غلامهما وضربهما، وَلَا فِي عَلامَة التَّثْنِيَة الَّتِي فِي قَوْلك: الزيدان والهندان، وَكَانَ الأَصْل فِي هَات آتٍ الْمَأْخُوذ من أَتَى، أَي أعْط، قلبت الْهمزَة هَاء، كَمَا قلبت فِي أرقت المَاء، وَفِي إياك فَقيل: هرقت وهياك. وَفِي ملح الْعَرَب أَن رجلا قَالَ لإعرابي: هَات، فَقَالَ: وَالله مَا أهاتيك، أَي أُعْطِيك. [126] وَيَقُولُونَ: رَأَيْت الْأَمِير وَذَوِيهِ، فيوهمون فِيهِ لِأَن الْعَرَب لم تنطق بِذِي الَّذِي بِمَعْنى صَاحب إِلَّا مُضَافا إِلَى اسْم جنس، كَقَوْلِك: ذُو مَال وَذُو نوال، فَأَما

[127] يقولون: الحوامل تطلقن والحادثات تطرقن، فيغلطون فيه، لأنه لا يجمع في هذا القبيل بين تاء المضارعة والنون، التي هي ضمير الفاعل، ووجه الكلام أن يلفظ فيه بياء المضارعة المعجمة باثنتين من تحت، كما قال الله تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه} وعلى هذا يقال: الغواني يمزحن والنوق يسرحن.

إِضَافَته إِلَى الْأَعْلَام وَإِلَى أَسمَاء الصِّفَات المشتقة من الْأَفْعَال فَلم يسمع فِي كَلَامهم بِحَال، وَلِهَذَا لحن من قَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نبيه مُحَمَّد وَذَوِيهِ، فَكَمَا لم يَقُولُوا: ذَوُو نَبِي لَا ذَوُو أَمِير، وَقصرُوا ذَا على إِضَافَته إِلَى الْجِنْس، وَلِهَذَا لم يرفع السَّبَب لِأَنَّهُ لَيْسَ بمشتق من فعل، فيرفع كَمَا ترفع الْأَفْعَال، فَلَا يجوز أَن يُقَال: مَرَرْت بِرَجُل ذِي مَال أَبوهُ، فَإِن أردْت تَصْحِيح هَذَا الْكَلَام جعلت الْجُمْلَة مُبْتَدأ بِهِ فَقلت: مَرَرْت بِرَجُل ذُو مَال أَبوهُ، فَيصح حِينَئِذٍ الْكَلَام، لِأَن النكرَة تخْتَص بِأَن تُوصَف بِالْجُمْلَةِ. [127] يَقُولُونَ: الْحَوَامِل تطلقن والحادثات تطرقن، فيغلطون فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يجمع فِي هَذَا الْقَبِيل بَين تَاء المضارعة وَالنُّون، الَّتِي هِيَ ضمير الْفَاعِل، وَوجه الْكَلَام أَن يلفظ فِيهِ بياء المضارعة الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ من تَحت، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ} وعَلى هَذَا يُقَال: الغواني يمزحن والنوق يسرحن. وَفِيمَا يحْكى أَن مُطِيع بن اياس وَيحيى بن زِيَاد وحمادا الراوية كَانُوا يشربون ذَات يَوْم، وَمَعَهُمْ نديم لَهُم، فبدرت مِنْهُ فلتة، فَخَجِلَ ونهض، وَلم يعد إِلَيْهِم، وَغَابَ أَيَّامًا عَنْهُم، فَكتب إِلَيْهِ مُطِيع بن اياس: (أَمن قلُوص غَدَتْ لم يؤذها أحد ... إِلَّا تذكرها بالرمل أوطانا) (خَان العقال لَهَا فانبت إِذْ نفرت ... وَإِنَّمَا الذَّنب فِيهَا للَّذي خَانا) (أوليتنا مِنْك هجرانا ومقلية ... وَلم تزرنا كَمَا قد كنت تغشانا) (خفض عَلَيْك فَمَا فِي النَّاس ذُو إبل ... إِلَّا وأينقه يشردن أَحْيَانًا)

[128] ويقولون: شلت الشيء، فيعدون اللازم بغير حرف التعدية، ووجه الكلام أن يقال: أشلت الشيء، أو شلت به، فيتعدى بهمزة النقل أو بالباء كما تقول العرب: شالت الناقة بذنبها، وأشالت ذنبها، والشائل عندهم هو المرتفع، ومنه قول الشاعر:

[128] وَيَقُولُونَ: شلت الشَّيْء، فيعدون اللَّازِم بِغَيْر حرف التَّعْدِيَة، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: أشلت الشَّيْء، أَو شلت بِهِ، فيتعدى بِهَمْزَة النَّقْل أَو بِالْبَاء كَمَا تَقول الْعَرَب: شالت النَّاقة بذنبها، وأشالت ذنبها، والشائل عِنْدهم هُوَ الْمُرْتَفع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (يَا قوم من يعْذر فِي عجرد ... الْقَاتِل الْمَرْء على الدانق) (لما رأى ميزاته شائلا ... وجاه بَين الْأذن والعاتق) وَحكى ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: حضرت أَبَا عُبَيْدَة فِي بعض الْأَيَّام، فَأَخْطَأَ فِي موضِعين: فَقَالَ: شلت الْحجر، وَإِنَّمَا هُوَ: شلت بِضَم الشين ثمَّ أنْشد: (شلت يدا فارية فرتها ) فضم الشين، إِنَّمَا هُوَ بِالْفَتْح. وَذكر بعض مَشَايِخ أهل اللُّغَة أَن من أفحش مَا تلحن فِيهِ الْعَامَّة قَوْلهم: شال الطير ذَنبه لأَنهم يلحنون فِيهِ ثَلَاث لحنات، إِذْ وَجه القَوْل: أشال الطَّائِر ذناباه. ذكر أَبُو عمر الزَّاهِد أَن أَصْحَاب الحَدِيث يخطئون فِي لَفْظَة ثلاثية فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، فَيَقُولُونَ فِي حراء (اسْم الْجَبَل) حرى فيفتحون الْحَاء وَهِي مَكْسُورَة، ويكسرون

[129] ويقولون لمن تناول شيئا: ها، بقصر الألف فيلحنون فيه لأن الألف ممدودة كما جاء في الحديث: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ويجوز فيه فتح الهمزة وكسرها مع مد الألف في كلتيهما، ولا تقصر هذه الألف إلا إذا اتصلت بها كاف الخطاب، فيقال: هاك، كما يروى أن عليا رضي الله عنه آب إلى فاطمة من بعض مواطن الحرب وسيفه يقطر من الدم، فقال:

الرَّاء وَهِي مَفْتُوحَة ويقصرون الْألف وَهِي ممدودة وحراء مِمَّا صرفته الْعَرَب وَلم تصرفه. [129] وَيَقُولُونَ لمن تنَاول شَيْئا: هَا، بقصر الْألف فيلحنون فِيهِ لِأَن الْألف ممدودة كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء وَيجوز فِيهِ فتح الْهمزَة وَكسرهَا مَعَ مد الْألف فِي كلتيهما، وَلَا تقصر هَذِه الْألف إِلَّا إِذا اتَّصَلت بهَا كَاف الْخطاب، فَيُقَال: هاك، كَمَا يرْوى أَن عليا رَضِي الله عَنهُ آب إِلَى فَاطِمَة من بعض مَوَاطِن الْحَرْب وسيفه يقطر من الدَّم، فَقَالَ: (أفاطم هاك السَّيْف غير مذمم ) وَعند النَّحْوِيين أَن الْمدَّة فِي قَوْلك. هَاء جعلت بَدَلا من كَاف الْخطاب، لِأَن أصل وَضعهَا أَن تقرن بهَا كَاف الْخطاب.

[130] ويقولون: حسد حاسدك بضم الحاء، فيعكسون المراد به، ويجعلون المدعو عليه مدعوا له، والصواب أن يقال: حسد حاسدك، بفتح الحاء، أي لا أنفك حسودا ولا زلت محسودا، وإلى هذا أشار الشاعر في قوله:

[130] وَيَقُولُونَ: حسد حاسدك بِضَم الْحَاء، فيعكسون المُرَاد بِهِ، ويجعلون الْمَدْعُو عَلَيْهِ مدعوا لَهُ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: حسد حاسدك، بِفَتْح الْحَاء، أَي لَا أَنْفك حسودا وَلَا زلت محسودا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّاعِر فِي قَوْله: (إِن يحسدوني فَإِنِّي غير لائمهم ... قبلي من النَّاس أهل الْفضل قد حسدوا) (فدام لي وَلَهُم مَا بِي وَمَا بهم ... وَمَات أكثرنا غيظا بِمَا يجد) [131] وَيَقُولُونَ أعطَاهُ الْبشَارَة، وَالصَّوَاب فِيهِ ضم الْبَاء لِأَن الْبشَارَة بِكَسْر الْبَاء مَا بشرت بِهِ، وَبِضَمِّهَا حق مَا يعْطى عَلَيْهَا، فَأَما الْبشَارَة بِفَتْح الْبَاء فَإِنَّهَا الْجمال، وَمِنْه قَوْلهم: فلَان بشير الْوَجْه، أَي حسنه، وَعند أَكْثَرهم أَن لَفْظَة بَشرته لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي الْإِخْبَار بِالْخَيرِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قد تسْتَعْمل فِي الْإِخْبَار بِالشَّرِّ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:

{فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} وَالْعلَّة فِيهِ أَن الْبشَارَة، إِنَّمَا سميت بذلك لاستبانة تَأْثِير خَبَرهَا فِي بشرة المبشر بهَا، وَقد تَتَغَيَّر الْبشرَة للمساءة بالمكروه، كَمَا تَتَغَيَّر عِنْد المسرة بالمحبوب، إِلَّا أَنه إِذا أطلق لَفظهَا وَقع على الْخَيْر كَمَا أَن النذارة تكون عِنْد إِطْلَاق لَفظهَا فِي الشَّرّ، وعَلى ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} . ونظيرها لَفْظَة وعد تسْتَعْمل فِي الْخَيْر كَمَا قَالَ عز اسْمه: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض} ، وتستعمل أَيْضا فِي الشَّرّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {النَّار وعدها الله الَّذين كفرُوا} ، فَإِن أطلق لَفْظَة الْوَعْد أَو لفظ وعد انْصَرف إِلَى الْخَيْر، كَمَا تَقول الْعَرَب فِي الشّجر المورق: شجر وَاعد، تومئ إِلَى أَنه وعد بالإثمار، وكقولهم فِي الْمثل: أنْجز حر مَا وعد، فَأَما الْوَعيد والإيعاد فَلَا يستعملان إِلَّا فِي الشَّرّ كَقَوْل الشَّاعِر: (وَإِنِّي وان أوعدته أَو وعدته ... لمخلف ايعادي ومنجز موعدي) ونقيض لَفْظَة الْبشَارَة لَفْظَة المأتم، يتَوَهَّم أَكثر الْخَاصَّة أَنَّهَا مجمع المناحة، وَهِي

[132] ويقولون تفرقت الأهواء والآراء، والاختيار في كلام العرب أن يقال في مثله: افترقت، كما جاء في الخبر: تفترق أمتي كذا وكذا فرقة أي تختلف، فأما لفظة التفرق فتستعمل في الأشخاص والأجسام فإذا قيل: إن لزيد ثلاثة اخوة متفرقين، كان المعنى أن كل واحد منهم ببقعة، وان قيل في وصفهم: مفترقين كان المعنى أن أحدهم لأبيه وأمه والآخر لأبيه، والثالث لأمه، وكذلك يقال: فرق بتشديد الراء فيما كان من قبيل الجمع، وفرق بالتخفيف فيما يراد به التمييز كقولك: فرق بين الحق والباطل والحالي والعاطل.

عِنْد الْعَرَب النِّسَاء يجتمعن فِي الْخَيْر وَالشَّر بِدلَالَة قَول الشَّاعِر: (رمته أَنَاة من ربيعَة عَامر ... نؤوم الضُّحَى فِي مأتم أَي مأتم) أَي فِي نسَاء أَي نسَاء، ويروي أَي مأتم بِالرَّفْع على حذف الْخَبَر، وَيكون تَقْدِير الْكَلَام أيّ مأتم هُوَ. [132] وَيَقُولُونَ تَفَرَّقت الْأَهْوَاء والآراء، وَالِاخْتِيَار فِي كَلَام الْعَرَب أَن يُقَال فِي مثله: افْتَرَقت، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر: تفترق أمتِي كَذَا وَكَذَا فرقة أَي تخْتَلف، فَأَما لَفْظَة التَّفَرُّق فتستعمل فِي الْأَشْخَاص والأجسام فَإِذا قيل: إِن لزيد ثَلَاثَة اخوة مُتَفَرّقين، كَانَ الْمَعْنى أَن كل وَاحِد مِنْهُم ببقعة، وان قيل فِي وَصفهم: مفترقين كَانَ الْمَعْنى أَن أحدهم لِأَبِيهِ وَأمه وَالْآخر لِأَبِيهِ، وَالثَّالِث لأمه، وَكَذَلِكَ يُقَال: فرق بتَشْديد الرَّاء فِيمَا كَانَ من قبيل الْجمع، وَفرق بِالتَّخْفِيفِ فِيمَا يُرَاد بِهِ التَّمْيِيز كَقَوْلِك: فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل والحالي والعاطل. [133] وَيَقُولُونَ فِي مصدر ذكر الشَّيْء: تذكار بِكَسْر التَّاء، وَالصَّوَاب فتحهَا، كَمَا تفتح فِي تسآل وتسيار وتسكاب وتهيام، وَعَلِيهِ قَول كثير عزة: (وَإِنِّي وتهيامي بعزة بَعْدَمَا ... تخليت مِمَّا بَيْننَا وتخلت) (لكا لمرتجي ظلّ الغمامة كلما ... تبوأ مِنْهَا للمقيل اضمحلت)

[134] ويقولون للقائم: اجلس، والاختيار على ما حكاه الخليل بن أحمد أن يقال لمن كان قائما: اقعد، ولمن كان نائما أو ساجدا: اجلس، وعلل بعضهم لهذا الاختيار، بان القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجله: مقعد، وأن الجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو، ومنه سميت نجد جلسا لارتفاعها وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس، ومنه قول عمر بن عبد العزيز للفرزدق.

وَذكر أهل الْعَرَبيَّة أَن جَمِيع المصادر الَّتِي جَاءَت على تفعال هِيَ بِفَتْح التَّاء إِلَّا مصدرين: تبيان، وتلقاء، وَقَالَ بَعضهم: تنضال أَيْضا. وَأما أَسمَاء الْأَجْنَاس وَالصِّفَات فقد جَاءَت مِنْهَا عدَّة أَسمَاء على تفعال بِكَسْر التَّاء: تجفاف، وتمثال وتمساح وتقصار، وَهِي المخنقة القصيرة، وتمراد، وَهُوَ بَيت صَغِير يتَّخذ للحمام، وَرجل تيتاء، وَهُوَ العذيوط وتبراك، وتعشار، وترباع، وَهِي أَسمَاء أمكنة. وَقَالُوا: مر تهواء من اللَّيْل بِمَعْنى هوى، وَرجل تنبال، أَي قصير، وتلعاب أَي كثير اللّعب، وتلقام، أَي سريع اللقم. وَقَالُوا أَيْضا: نَاقَة تضراب، إِذا ضربهَا الْفَحْل، وثوب تلفاق، أَي لفقان. [134] وَيَقُولُونَ للقائم: اجْلِسْ، وَالِاخْتِيَار على مَا حَكَاهُ الْخَلِيل بن أَحْمد أَن يُقَال لمن كَانَ قَائِما: اقعد، وَلمن كَانَ نَائِما أَو سَاجِدا: اجْلِسْ، وَعلل بَعضهم لهَذَا الِاخْتِيَار، بَان الْقعُود هُوَ الِانْتِقَال من علو إِلَى سفل، وَلِهَذَا قيل لمن أُصِيب بِرجلِهِ: مقْعد، وَأَن الْجُلُوس هُوَ الِانْتِقَال من سفل إِلَى علو، وَمِنْه سميت نجد جلسا لارتفاعها وَقيل لمن أَتَاهَا: جَالس، وَقد جلس، وَمِنْه قَول عمر بن عبد الْعَزِيز للفرزدق. (قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... ان كنت تَارِك مَا أَمرتك فاجلس)

[135]- ويقولون في جواب من مدح رجلا أو ذمه: نعم من مدحت، وبئس من ذممت، والصواب أن يقال: نعم الرجل من مدحت، وبئس الشخص من ذممت، كما قال عمرو بن معدي كرب، وقد سئل عن قومه: نعم القوم قومي عند السيف المسلول، والمال المسؤول.

أَي اقصد نجدا. وَمُوجب هَذَا الْبَيْت أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما كَانَ واليا على الْمَدِينَة قَالَ للفرزدق: إِن كنت تلْزم العفاف وَإِلَّا فَاخْرُج إِلَى نجد، فان الْمَدِينَة لَيست بدار مقامة لَك. وَحكى أَبُو عبد الله بن خالويه قَالَ: دخلت يَوْمًا على سيف الدولة بن حمدَان، فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ قَالَ لي: اقعد وَلم يقل: اجْلِسْ، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الْأَدَب، واطلاعه على أسرار كَلَام الْعَرَب. [135]- وَيَقُولُونَ فِي جَوَاب من مدح رجلا أَو ذمه: نعم من مدحت، وَبئسَ من ذممت، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: نعم الرجل من مدحت، وَبئسَ الشَّخْص من ذممت، كَمَا قَالَ عَمْرو بن معدي كرب، وَقد سُئِلَ عَن قومه: نعم الْقَوْم قومِي عِنْد السَّيْف المسلول، وَالْمَال المسؤول. وَيكون تَقْدِير الْكَلَام فِي قَوْلك: نعم الرجل زيد، أَي الممدوح من الرِّجَال زيد. وَقد يجوز أَن يقْتَصر على ذكر الْجِنْس ويضمر الْمَقْصُود بالمدح والذم اكْتِفَاء بتقدم ذكره فَيُقَال: نعم الرجل وَبئسَ العَبْد، كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل: {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد} ، أَي نعم العَبْد سُلَيْمَان، فَحذف اسْمه لتقدم ذكره وَعلم الْمُخَاطب بِهِ، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن نعم وَبئسَ فعلان وضعا للمدح والذم بعد مَا نقلا عَن أصليهما، وهما النعم والبؤس، وفاعلهما لَا يكون إِلَّا مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام اللَّتَيْنِ هما للْجِنْس، أَو مَا أضيف إِلَى مَا هما فِيهِ، كَقَوْلِك: نعم الرجل زيد، وَنعم صَاحب الْعَشِيرَة عَمْرو، أَو يضمر هَذَا الِاسْم على أَن تفسره نكرَة من جنسه، فينصب على

التَّمْيِيز كَقَوْلِه تَعَالَى: {بئس للظالمين بَدَلا} ، أَي بئس الْبَدَل بَدَلا، فأضمره وَفَسرهُ بالنكرة المنصوبة من جنسه، وَمنع أهل الْعَرَبيَّة أَن يكون فَاعل هذَيْن الْفِعْلَيْنِ مَخْصُوصًا، وَلِهَذَا لم يجيزوا أَن يُقَال: نعم زيد وَلَا نعم أَبُو عَليّ حَتَّى يُقَال: نعم الرجل زيد، وَنعم الرجل أَبُو عَليّ، وَيكون تَقْدِير الْكَلَام: الممدوح فِي الرِّجَال زيد، وَإِنَّمَا جوز نعم مَا صنعت، لدلَالَة الْفِعْل الْمَوْجُود على الِاسْم الْمَحْذُوف، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام نعم الْفِعْل مَا فعلت، فَكَأَن الضَّمِير الْمَحْذُوف بِمَنْزِلَة المتلفظ بِهِ. وَمنع عَليّ بن عِيسَى الربعِي من جَوَاز ذَلِك، وَقَالَ: تَصْحِيح الْكَلَام: نعم مَا مَا فعلت، لتَكون مَا الأولى بِمَعْنى شَيْء، كَمَا أَنَّهَا فِي التَّعَجُّب بِمَعْنَاهُ، وَيصير تَقْدِير الْكَلَام: نعم شَيْء شَيْئا صنعت، فيناسب قَوْلهم: نعم رجلا زيد. وَكَذَلِكَ امْتَنعُوا أَن يَقُولُوا: نعم هَذَا الرجل لِأَن الرجل هَاهُنَا صفة لهَذَا، وَاللَّام فِيهِ لتعريف الْإِشَارَة وَالْخُصُوص، وَمن شريطة لَام التَّعْرِيف الدَّاخِلَة على فَاعل نعم وَبئسَ أَن تكون للْجِنْس الْمُحِيط بِالْعُمُومِ، فَتكون مَعَ إِفْرَاد لَفظهَا فِي معنى الْجمع، كاللام الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} ، أَي إِن النَّاس، بِدَلِيل أَنه تَعَالَى اسْتثْنى مِنْهُم {الَّذين آمنُوا} ، وَلَا يجوز استنثاء الْجمع من الْمُفْرد.

[136]- ويقولون لضد الذكر: النسيان بفتح النون والسين فيوهمون فيه، لأن النسيان تثنية النسا، وهو العرق الذي في الفخذ، فأما المصدر من نسي فهو النسيان على وزن فعلان مثل العرفان والكتمان، فإن جاءت مصادر في كلام العرب على فعلان بفتح الفاء والعين، فهي مما يختص بالحركة والاضطراب، كالوخدان والذملان واللمعان والضربان.

وَعند قوم أَن وضع نعم وَبئسَ للاقتصار فِي الْمَدْح والذم، وَلَيْسَ كَذَلِك بل وضعهما للْمُبَالَغَة، أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي تمجيد ذَاته وتعظيم صِفَاته: {واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير} وَإِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ فِي صفة النَّار توعد بهَا الْكفَّار: {ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ المهاد} . وَحكى أَبُو الْقَاسِم بن برهَان النَّحْوِيّ أَنه كَانَ لِشَرِيك بن عبد الله النَّخعِيّ جليس من بني أُميَّة فَذكر شريك فِي بعض الْأَيَّام فَضَائِل عليّ رضوَان الله عَلَيْهِ، فَقَالَ ذَلِك الْأمَوِي: نعم الرجل عليّ، فأغضبه ذَلِك، وَقَالَ لَهُ: ألعليّ يُقَال: نعم الرجل فَأمْسك حَتَّى سكن غَضَبه، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الله، ألم يقل الله تَعَالَى فِي الْإِخْبَار عَن نَفسه: {فقدرنا فَنعم القادرون} ، وَقَالَ فِي أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب} ، وَقَالَ فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب} ، أَفلا ترْضى لعَلي بِمَا رَضِي الله تَعَالَى لنَفسِهِ ولأنبيائه فَتنبه شريك عِنْد ذَلِك لوهمه، وزادت مكانة ذَلِك الْأمَوِي من قلبه. [136]- وَيَقُولُونَ لضد الذّكر: النسْيَان بِفَتْح النُّون وَالسِّين فيوهمون فِيهِ، لِأَن النسْيَان تَثْنِيَة النسا، وَهُوَ الْعرق الَّذِي فِي الْفَخْذ، فَأَما الْمصدر من نسي فَهُوَ النسْيَان على وزن فعلان مثل الْعرْفَان والكتمان، فَإِن جَاءَت مصَادر فِي كَلَام الْعَرَب على فعلان بِفَتْح الْفَاء وَالْعين، فَهِيَ مِمَّا يخْتَص بالحركة وَالِاضْطِرَاب، كالوخدان والذملان واللمعان والضربان. وَمن غَرِيب مَا جَاءَ على فعلان قَوْلهم فِي جمع كروان: كروان

[137]- ويقولون: هو بين ظهرانيهم بكسر النون، والصواب أن يقال: بين ظهرانيهم، بفتح النون، وأجاز أبو حاتم أن يقال: بين ظهريهم.

كَمَا قَالَ ذُو الرمة. (من آل أبي مُوسَى ترى الْقَوْم حوله ... كَأَنَّهُمْ الكروان أبصرن بازيا) وَذكر بَعضهم أَنه يجمع صَفْوَان على صَفْوَان، وَهُوَ من الشاذ. [137]- وَيَقُولُونَ: هُوَ بَين ظهرانيهم بِكَسْر النُّون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: بَين ظهرانيهم، بِفَتْح النُّون، وَأَجَازَ أَبُو حَاتِم أَن يُقَال: بَين ظهريهم. وَحكى الْفراء قَالَ: قَالَ أَعْرَابِي وَنحن فِي حَلقَة يُونُس بن حبيب بِالْبَصْرَةِ: أَيْن مسكنك فَقلت: الْكُوفَة، فَقَالَ لي: يَا سُبْحَانَ الله هَذِه بَنو أَسد بَين ظهرانيكم وَأَنت تطلب اللُّغَة بِالْبَصْرَةِ قَالَ: فاستفدت من كَلَامه فائدتين: إِحْدَاهمَا أَنه قَالَ: هَذِه، وَلم يقل: هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْقَبِيلَة فأنث، وَالثَّانيَِة أَنه قَالَ: ظهرانيكم بِفَتْح النُّون وَلم يقل بِكَسْرِهَا. ويحكى أَن المغربي وقف على الْجُنَيْد فَسَأَلَهُ عَن قَوْله تَعَالَى: {سنقرئك فَلَا تنسى} ، فَقَالَ: سنقرئك التِّلَاوَة فَلَا تنس الْعَمَل بِهِ، ثمَّ سَأَلَهُ عَن قَوْله عز وَجل: {ودرسوا مَا فِيهِ} فَقَالَ: تركُوا الْعَمَل بِهِ، فَقَالَ: حرجت أمة أَنْت بَين ظهرانيها لَا تفوض أمرهَا إِلَيْك.

[138] ويقولون: دخلت الشأم، وهو غلط قبيح وخطأ صريح، لأن اسم البلد الشأم، ولفظه مذكر والدليل على هذين الأمرين قول الشاعر:

[138] وَيَقُولُونَ: دخلت الشأم، وَهُوَ غلط قَبِيح وَخطأ صَرِيح، لِأَن اسْم الْبَلَد الشأم، وَلَفظه مُذَكّر وَالدَّلِيل على هذَيْن الْأَمريْنِ قَول الشَّاعِر: (يَقُولُونَ إِن الشأم يقتل أَهله فَمن لي إِن لم آته بخلود وَيجوز فِي الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ثَلَاثَة أوجه: شأمي وَهُوَ الْقيَاس، وشآمي بياء مُخَفّفَة مثل يَاء المنقوص، وشآمي وَهُوَ شَاذ لِأَنَّهُ يصير بِمَنْزِلَة الْمَنْسُوب إِلَى الْمَنْسُوب، وَكَذَلِكَ جوز فِي الْمَنْسُوب إِلَى الْيمن هَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة، وعَلى الشاذ مِنْهَا قَول عمر بن أبي ربيعَة: (إِنِّي أتيحت لي يَمَانِية ... إِحْدَى بني الْحَارِث من مذْحج) [139] وَيَقُولُونَ: قدم الْحَاج وَاحِدًا وَاحِدًا، واثنين اثْنَيْنِ، وَثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِي مثله: جَاءُوا أحاد وثناء وَثَلَاث وَربَاع، أَو يُقَال: جاؤوا موحد ومثنى ومثلث ومربع، لِأَن الْعَرَب عدلت بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ إِلَى هَذِه الصِّيَغ لتستغني بهَا

عَن تَكْرِير الِاسْم، وَيدل مَعْنَاهَا على مَا يدل مَجْمُوع الاسمين عَلَيْهِ، وَلِهَذَا امْتنع أَن يَقُولُوا للْوَاحِد: هَذَا أحاد وللاثنين: هما مثنى، وَلم يمتنعوا عَن ذَلِك إِلَّا لزِيَادَة معنى فِي أحاد على وَاحِد، وَفِي ثَنَاء على اثْنَيْنِ. وَفسّر قَوْله تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} أَي لينكح كل مِنْكُم مَا طَابَ لَهُ من النِّسَاء إِن شَاءَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، أَو ثَلَاثًا ثَلَاثًا، أَو أَرْبعا أَرْبعا وَلَيْسَ انعطاف بعض هَذِه الْأَعْدَاد على بعض انعطاف جمع، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قَوْله سُبْحَانَهُ: {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} . أَي مِنْهُم من لَهُ جَنَاحَانِ وَمن لَهُ ثَلَاثَة أَجْنِحَة، وَمن لَهُ أَرْبَعَة. وَقد اخْتلف أهل الْعَرَبيَّة فِيمَا نطقت بِهِ الْعَرَب من هَذَا الْبناء، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنهم لم يتجاوزوا رباع إِلَّا إِلَى صِيغَة عشار لَا غير، كَمَا جَاءَ فِي شعر الْكُمَيْت: (فَلم يستر يثوك حَتَّى رميت ... فَوق النصال خِصَالًا عشارا) وروى خلف الْأَحْمَر أَنهم صاغوا هَذَا الْبناء منسقا إِلَى عشار، وَأنْشد عَلَيْهِ مَا عزي إِلَى أَنه مَوْضُوع فِيهِ: (قل لعَمْرو: يَا بن هِنْد ... لَو رَأَيْت الْيَوْم شنا) (لرأت عَيْنَاك مِنْهُم ... كل مَا كنت تمنى) (إِذْ أتتنا فيلق شهباء ... من هُنَا وَهنا) (وَأَتَتْ دوسر والملحاء ... سيرا مطمئنا) وَمَشى الْقَوْم إِلَى الْقَوْم آحادا وَأثْنى)

(وَثَلَاثًا ورباعا ... وخماسا فأطعنا) (وسداسا وسباعا ... وثمانا فاجتلدنا) (وتساعا وعشارا ... فأصبنا وأصبنا) (لَا ترى إِلَّا كميا ... قَاتلا مِنْهُم وَمنا) وَقد عيب على أبي الطّيب قَوْله: (آحَاد أم سداس فِي احاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد) وَنسب إِلَى أَنه وهم فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع فِي هَذَا الْبَيْت: أَحدهَا أَنه أَقَامَ احاد مقَام وَاحِدَة، وسداس مقَام سِتّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أليلتنا هَذِه وَاحِدَة أم وَاحِدَة فِي سِتّ والموضع الثَّانِي أَنه عدل بِلَفْظَة سِتّ إِلَى سداس وَهُوَ مَرْدُود عِنْد أَكثر أهل اللُّغَة، الْموضع الثَّالِث أَنه صغر لَيْلَة على لييلة، والمسموع فِي تصغيرها: لييلية، وَالرَّابِع أَنه نَاقض كَلَامه، لِأَنَّهُ كنى بتصغير اللَّيْلَة عَن قصرهَا، ثمَّ عقب تصغيرها بَان وصفهَا بالامتداد إِلَى التناد.

[140] ويقولون لما يتعجل من الزروع والثمار: هرف، وهي من ألفاظ الأنباط ومفاضح الأغلاط، والصواب أن يقال فيه: بكر، لأن العرب تقول لكل ما يتقدم على وقته: بكر، فيقولون: بكر الحر وبكر البرد وبكرت النخلة، إذا أثمرت أول ما تثمر النخل فهي بكور، والثمرة المعجلة باكورة.

[140] وَيَقُولُونَ لما يتعجل من الزروع وَالثِّمَار: هرف، وَهِي من أَلْفَاظ الأنباط ومفاضح الأغلاط، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: بكر، لِأَن الْعَرَب تَقول لكل مَا يتَقَدَّم على وقته: بكر، فَيَقُولُونَ: بكر الْحر وَبكر الْبرد وبكرت النَّخْلَة، إِذا أثمرت أول مَا تثمر النّخل فَهِيَ بكور، وَالثَّمَرَة المعجلة باكورة. وَيَقُولُونَ أَيْضا فِي كل شَيْء يخف فِيهِ فَاعله ويعجل إِلَيْهِ: قد بكر إِلَيْهِ، وَلَو أَنه فعل ذَلِك آخر النَّهَار أَو فِي أثْنَاء اللَّيْل، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: عجل. قد يسْتَعْمل بكر بِمَعْنى عجل، يدل عَلَيْهِ قَول ضَمرَة ابْن ضَمرَة النَّهْشَلِي. (بكرت تلومك بعد وَهن فِي الدجى ... بسل عَلَيْك ملامتي وعتابي) أَرَادَ بقوله: بكرت تلومك أَي عجلت، لَا أَنه أَرَادَ بِهِ وَقت البكرة لإفصاحه بِأَنَّهَا لامته فِي اللَّيْل. وَنَظِير استعمالهم لَفْظَة بكر بِمَعْنى عجل استعمالهم لَفْظَة رَاح بِمَعْنى سارع وخف، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من رَاح إِلَى الْجُمُعَة فِي السَّاعَة الأولى فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة،

[141] ويقولون عند الحرقة ولذع الحرارة الممضة أخ: بالخاء المعجمة من فوق، والعرب تنطق بهذه اللفظة بالحاء المغفلة، وعليه فسر قول عبد الشارق الجهني:

أَي من خف إِلَيْهَا إِذْ لَا يجوز إتيانها آخر النَّهَار. [141] وَيَقُولُونَ عِنْد الحرقة ولذع الْحَرَارَة الممضة أَخ: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من فَوق، وَالْعرب تنطق بِهَذِهِ اللَّفْظَة بِالْحَاء المغفلة، وَعَلِيهِ فسر قَول عبد الشارق الْجُهَنِيّ: (فَبَاتُوا بالصعيد لَهُم احاح ... وَلَو خفت لنا الكلمى سرينا) أَي بَات الكلمى يَقُولُونَ: أح لما وجدوا من حرق الْجِرَاحَات، وحز الكلوم. وَحكي أَن الْحجَّاج لما نازله شبيب الْخَارِجِي ابرز إِلَيْهِ فِي بعض أَيَّام محاربته غُلَاما لَهُ، فألبسه سلاحه الْمَعْرُوف بِهِ، واركبه فرسه الَّذِي لم يكن يُقَاتل إِلَّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ شبيب غمس نَفسه فِي الْحَرْب إِلَى أَن خلص إِلَيْهِ فَضَربهُ بعمود كَانَ فِي يَده، وَهُوَ يَظُنّهُ الْحجَّاج، فَلَمَّا أحس الغلأام حرارة الضَّرْبَة، قَالَ: أَخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، فَعلم شبيب بِهَذِهِ اللَّفْظَة مِنْهُ أَنه عبد، فانثنى عَنهُ، وَقَالَ: قبحك الله يَا بن أم الْحجَّاج. أتتقي الْمَوْت بالعبيد قَالَ الشَّيْخ الرئيس أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله: وَمن الْعَرَب من يَقُول فِي هَذَا الْمَعْنى: حس، كَمَا جَاءَ فِي بعض الْأَخْبَار أَن طَلْحَة رَضِي الله عَنهُ لما أُصِيبَت إصبعه يَوْم أحد، قَالَ: لَوْلَا أَن طَلْحَة قَالَ: حس لطار مَعَ الْمَلَائِكَة. وَمن كَلَامهم: ضرب فلَان فَمَا قَالَ: حس وَلَا بس. وَمِنْهُم من ينونهما، فَأَما قَوْلهم: جِيءَ بِهِ من حسك وبسك، فَالْمُرَاد بِهِ

[142] ويقولون من التأوه: أوه، والأفصح أن يقال: أوه، بكسر الهاء وضمها وفتحها، والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر:

جِيءَ بِهِ من رفقك وصعوبتك لَان الْحس الِاسْتِقْصَاء، والبس الرِّفْق فِي الْحَلب. [142] وَيَقُولُونَ من التأوه: أوه، والأفصح أَن يُقَال: أوه، بِكَسْر الْهَاء وَضمّهَا وَفتحهَا، وَالْكَسْر أغلب، وَعَلِيهِ قَول الشَّاعِر: (فأوه لذكراها إِذا مَا ذكرتها ... وَمن بعد أَرض بَيْننَا وسماء) وَقد قلب بَعضهم الْوَاو ألفا فَقَالَ: آه، وشدد بَعضهم الْوَاو واسكن الْهَاء فَقَالَ: أوه. وَفِيهِمْ من حذف الْهَاء وَكسر الْوَاو فَقَالَ: أَو. وَقَالَ آخَرُونَ: آواه، بِالْمدِّ وَغَيره، وتصريف الْفِعْل مِنْهَا أوه وتأوه، والمصدر الآهة والآهة، وَمِنْه قَول المثقب الْعَبْدي: (إِذا مَا قُمْت أرحلها بلَيْل ... تأوه آهة الرجل الحزين) وَفسّر بَعضهم الاواه بِأَنَّهُ الَّذِي يتأوه من الذُّنُوب، وَقيل: هُوَ المتضرع فِي الدُّعَاء، وَقيل انه الْمُؤمن الموقن.

[143] ويقولون: لقيته لقاة واحدة، فيخطئون فيه، لأن العرب تقول: لقيته لقية ولقاءة ولقيانة، اذا ارادوا به المرة الواحدة، فإن ارادوا المصدر قالوا: لقيته لقاء ولقيا ولقيانا ولقي على وزن هدى، وعليه أنشد الكسائي:

[143] وَيَقُولُونَ: لَقيته لقاة وَاحِدَة، فيخطئون فِيهِ، لِأَن الْعَرَب تَقول: لَقيته لقية ولقاءة ولقيانة، اذا ارادوا بِهِ الْمرة الْوَاحِدَة، فَإِن ارادوا الْمصدر قَالُوا: لَقيته لِقَاء ولقيا ولقيانا وَلَقي على وزن هدى، وَعَلِيهِ أنْشد الْكسَائي: (وَأَن لقاها فِي الْمَنَام وَغَيره ... وان لم تَجِد بالبذل عِنْدِي لرابح) وأنشدني بعض شُيُوخنَا رَحِمهم الله لبَعض الْعَرَب فِي الشيب: (وَلَوْلَا اتقاء الله مَا قلت مرْحَبًا ... لأوّل شيبات طلعن وَلَا أَهلا) (وَقد زَعَمُوا حلما لقاك وَلم أرد ... بِحَمْد الَّذِي أَعْطَاك حلما وَلَا عقلا) [144] وَيَقُولُونَ: فلَان يكدف، بِمَعْنى يسْتَقلّ مَا أعطي، وَالصَّوَاب فِيهِ يجدف بِالْجِيم، لِأَن التجديف فِي اللُّغَة هُوَ اسْتِقْلَال النِّعْمَة وسترها، وَبِه فسر: لَا تجدفوا بنعم الله تَعَالَى.

[145] ويقولون: بالرجل عنة ولا وجه لذلك، لأن العنة الحظيرة من الخشب، والصواب أن يقال: به عنينة أو عنانة أي تعنين، وأصله من عن، أي اعترض، فكأنه يتعرض للنكاح ولا يقدر عليه، والعرب تسمي العنين السريس كما قال الشاعر:

ويماثل هَذِه اللَّفْظَة فِي إِبْدَال جيمها كافا قَوْلهم لمن يكثر السُّؤَال: مكد وَأَصله مجد لاشتقاقه من الاجتداء، وَكَانَ الأَصْل فِي المجدي المجتدي فأدغمت التَّاء فِي الدَّال، ثمَّ ألقيت حَرَكَة الْحَرْف المدغم على مَا قبله، كَمَا فعل ذَلِك من قَرَأَ: / < أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدي > /، وَالْأَصْل فِيهِ يَهْتَدِي. [145] وَيَقُولُونَ: بِالرجلِ عنة وَلَا وَجه لذَلِك، لِأَن الْعنَّة الحظيرة من الْخشب، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: بِهِ عنينة أَو عنانة أَي تعنين، وَأَصله من عنّ، أَي اعْترض، فَكَأَنَّهُ يتَعَرَّض للنِّكَاح وَلَا يقدر عَلَيْهِ، وَالْعرب تسمي الْعنين السريس كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (أَلا حييت عَنَّا يالميس ... عَلَانيَة فقد بلغ النسيس) (رغبت إِلَيْك كَيْمَا تنكحيني ... فَقلت بِأَنَّهُ رجل سريس) (وَلَو جربتني فِي ذَاك يَوْمًا ... رضيت وَقلت أَنْت الدردبيس)

[146] ويقولون لمن يقتبس من الصحف: صحفي، مقايسة على قولهم في النسب إلى الأنصار: أنصاري، وإلى الأعراب أعرابي، والصواب عند النحويين البصريين أن يوقع النسب إلى واحدة الصحف وهي صحيفة، فيقال: صحفي، كما يقال في النسب إلى حنيفة: حنفي، لأنهم لا يرون النسب إلا إلى واحد الجموع، كما يقال في النسب إلى الفرائض: فرضي، وإلى المقاريض: مقراضي، اللهم إلا أن يجعل الجمع إسما علما للمنسوب إليه، فيوقع النسب حينئذ إلى صيغته، كقولهم في النسب إلى قبيلة هوازن: هوازني، وإلى حي كلاب: كلابي، وإلى مدينة الأنبار: أنباري، وإلى بلدة المدائن مدائني.

[146] وَيَقُولُونَ لمن يقتبس من الصُّحُف: صحفيّ، مقايسة على قَوْلهم فِي النّسَب إِلَى الْأَنْصَار: أَنْصَارِي، وَإِلَى الْأَعْرَاب أَعْرَابِي، وَالصَّوَاب عِنْد النَّحْوِيين الْبَصرِيين أَن يُوقع النّسَب إِلَى وَاحِدَة الصُّحُف وَهِي صحيفَة، فَيُقَال: صحفيّ، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى حنيفَة: حنفيّ، لأَنهم لَا يرَوْنَ النّسَب إِلَّا إِلَى وَاحِد الجموع، كَمَا يُقَال فِي النّسَب إِلَى الْفَرَائِض: فرضيّ، وَإِلَى المقاريض: مقراضيّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَجْعَل الْجمع إسما علما للمنسوب إِلَيْهِ، فيوقع النّسَب حِينَئِذٍ إِلَى صيغته، كَقَوْلِهِم فِي النّسَب إِلَى قَبيلَة هوَازن: هوازني، وَإِلَى حَيّ كلاب: كلابي، وَإِلَى مَدِينَة الأنبار: أنباري، وَإِلَى بَلْدَة الْمَدَائِن مدائني. فَأَما قَوْلهم فِي النّسَب إِلَى الْأَنْصَار أَنْصَارِي فَإِنَّهُ شَذَّ عَن أَصله والشاذ لَا يُقَاس عَلَيْهِ، وَلَا يعْتد بِهِ. وَأما قَوْلهم فِي النّسَب إِلَى الْأَعْرَاب: أَعْرَابِي فَإِنَّهُم فعلوا ذَلِك لإِزَالَة اللّبْس وَنفي الشُّبْهَة، إِذْ لَو قَالُوا فِيهِ: عَرَبِيّ لاشتبه بالمنسوب إِلَى الْعَرَب، وَبَين المنسوبين فرق ظَاهر لِأَن الْعَرَبِيّ هُوَ الْمَنْسُوب إِلَى الْعَرَب، وَإِن تكلم بلغَة الْعَجم، والأعرابي هُوَ النَّازِل بالبادية، وَإِن كَانَ عجمي النّسَب. [147] وَيَقُولُونَ فِي النّسَب أَيْضا إِلَى رامهرمز رامهرمزي، فينسبون إِلَى مَجْمُوع

الاسمين المركبين، وَوجه الْكَلَام أَن ينْسب إِلَى الصَّدْر مِنْهُمَا، فَيُقَال: رامي، لِأَن الِاسْم الثَّانِي من الاسمين المركبين ينزل منزلَة تَاء التَّأْنِيث الَّتِي تقع طارفة، وتلتحق بعد تَمام الْكَلَام، فَوَجَبَ لذَلِك أَن تسْقط فِي النّسَب كَمَا تسْقط تَاء التَّأْنِيث فِيهِ، وعَلى هَذِه الْقَضِيَّة قيل فِي النّسَب إِلَى آذربيجان: آذري، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لتأملن النّوم على الصُّوف الآذري كَمَا يألم أحدكُم النّوم على حسك السعدان. وَقد رَوَاهُ بَعضهم الأذربي، وَالصَّحِيح الأول. وَأَجَازَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي أَن ينْسب إِلَى الاسمين جَمِيعًا، وَاحْتج فِيهِ بقول الشَّاعِر: (تَزَوَّجتهَا رامية هرمزية ... بِفضل الَّذِي أعْطى الْأَمِير من الْوَرق) وَلم يطابقه على هَذَا القَوْل غَيره بل منع سَائِر النَّحْوِيين مِنْهُ لِئَلَّا تَجْتَمِع علامتا النّسَب فِي الِاسْم الْمَنْسُوب، وحملوا الْبَيْت الَّذِي احْتج بِهِ على الشذوذ. وَاعْتِرَاض الشاذ لَا ينْقض مباني الْأُصُول، نعم وَعِنْدهم أَنه مَتى وَقع لبس فِي النّسَب إِلَى الِاسْم الْمركب لم ينْسب إِلَيْهِ، ولهذه الْعلَّة منعُوا من النّسَب إِلَى أحد عشر ونظائره إِذْ لَا يجوز النّسَب إِلَى مَجْمُوع الاسمين فَيُقَال: أحد عشريّ، كَمَا تَقول الْعَامَّة فِي النّسَب إِلَى الثَّوْب الَّذِي طوله أحد عشر شبْرًا، وَلَا يجوز أَن ينْسب إِلَى أَوله لاشتباهه

[148] ويقولون لما يغسل به الرأس: غسلة بفتح الغين، فيخطئون فيه لأن الغسلة بالفتح كناية عن المرة الواحدة من الغسل، فأما الغسول فهو الغسلة بكسر الغين، وعليه قول علقمة ابن عبدة:

بِالنّسَبِ إِلَى أحد، وَلَا إِلَى الثَّانِي لاشتباهه بِالنّسَبِ إِلَى عشر، فَامْتنعَ النّسَب إِلَيْهِ من كل وَجه. وَنَظِير هَذَا الْوَهم مِنْهُم، انهم ينسبون إِلَى مَجْمُوع الاسمين المضافين فَيَقُولُونَ فِي النّسَب إِلَى تَاج الْملك ونظائره: التاجملكي، وَقِيَاس كَلَام الْعَرَب أَن ينْسب إِلَى الأول مِنْهُمَا، فَيُقَال: التاجي كَمَا قَالُوا فِي النّسَب إِلَى تيم اللات: تيمي وَإِلَى سعد الْعَشِيرَة: سعدي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يعْتَرض لبس فِي الْمَنْسُوب فينسب إِلَى الثَّانِي، كَمَا قَالُوا فِي النّسَب إِلَى عبد منَاف: منافي، وَلم يَقُولُوا عَبدِي لِئَلَّا يلتبس بالمنسوب إِلَى عبد الْقَيْس، وَقَالُوا فِي النّسَب إِلَى أبي بكر: بكري، لأَنهم لَو قَالُوا: أَبَوي لاستبهم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ، وَقد سلكوا فِي هَذَا النَّوْع أسلوبا آخر، فَرَكبُوا من حُرُوف الاسمين اسْما على وزن جَعْفَر، ونسبوا إِلَيْهِ، وَأكْثر مَا استعملوا ذَلِك فِيمَا أَوله عبد، فَقَالُوا فِي النّسَب إِلَى عبد شمس: عبشمي، وَإِلَى عبد الدَّار عبدري وَإِلَى عبد الْقَيْس: عبقسي، وكل ذَلِك مِمَّا يقصر على السماع، وَلم يقْصد بِهِ إِلَّا الرياضة فِي تصريف الْكَلَام. [148] وَيَقُولُونَ لما يغسل بِهِ الرَّأْس: غسلة بِفَتْح الْغَيْن، فيخطئون فِيهِ لِأَن الغسلة بِالْفَتْح كِنَايَة عَن الْمرة الْوَاحِدَة من الْغسْل، فَأَما الغسول فَهُوَ الغسلة بِكَسْر الْغَيْن، وَعَلِيهِ قَول عَلْقَمَة ابْن عَبدة: (كَأَن غسلة خطميّ بمشفرها ... فِي الخد مِنْهَا وَفِي اللحيين تلغيم) وَأما الْغسْل فمصدر غسلت وَالِاسْم مِنْهُ الْغسْل بِضَم الْغَيْن، وَأما

[149] ويقولون: دابة لا تردف، ووجه القول: لا ترادف، أي لا تقبل المرادفة، لأن مبنى المفاعلة على الاشتراك في الفعل، فهو بهذا الكلام أليق وبالمعنى المراد أعلق، والعرب تقول: ترادفت الأشياء، إذا تتابعت، وأهل المعرفة بالقوافي يسمون الشعر الذي تتوالى الحركة في قافيته المترادف.

الغسلين فَهُوَ مَا يسيل من صديد أهل النَّار. وَذكر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: كل مَا فِي الْقُرْآن قد عَلمته إِلَّا أَرْبَعَة أحرف: لَا أَدْرِي مَا الأواه، والحنان - مُخَفّفَة - والغسلين، والرقيم، وَقد فَسرهَا غَيره، فَقَالَ: الحنان الرَّحْمَة، وَمِنْه قَوْلهم: حنانيك، أَي رَحْمَة مِنْك بعد رَحْمَة، وَقَالُوا: الأواه الْكثير التأوه من الذُّنُوب. وَقيل أَنه المتضرع فِي الدُّعَاء، وَقيل فِيهِ: أَنه الْمُؤمن الموقن، وَفسّر الغسلين على مَا بَيناهُ. وَقيل فِي الرقيم أَنه الْقرْيَة الَّتِي خرج مِنْهَا أهل الْكَهْف، وَقيل: بل هُوَ اسْم الْكَلْب، وَقيل: بل هُوَ الْوَادي الَّذِي فِيهِ أهل الْكَهْف. وَذكر الْفراء أَنه لوح من رصاص، كتب فِيهِ أَسمَاؤُهُم وأنسابهم. [149] وَيَقُولُونَ: دَابَّة لَا تردف، وَوجه القَوْل: لَا ترادف، أَي لَا تقبل المرادفة، لِأَن مبْنى المفاعلة على الِاشْتِرَاك فِي الْفِعْل، فَهُوَ بِهَذَا الْكَلَام أليق وبالمعنى المُرَاد أعلق، وَالْعرب تَقول: ترادفت الْأَشْيَاء، إِذا تَتَابَعَت، وَأهل الْمعرفَة بالقوافي يسمون الشّعْر الَّذِي تتوالى الْحَرَكَة فِي قافيته المترادف. وَيُقَال: ردفت زيدا، أَي ركبت خَلفه،

[150] ويقولون: مطرد ومبرد ومبضع ومنجل، كما يقولون: مقرعة، ومقنعة، ومنطقة، ومطرقة، فيفتحون الميم من جميع هذه الأسماء وهو من أقبح الأوهام وأشنغ معايب الكلام، لأن كل ما جاء على وزن مفعل ومفعلة من الآلات المستعملة المتداولة فهو بكسر الميم كالأسماء المذكورة ونظائرها، وعليه قول الفرزدق في مرثية سائس:

ورادفته، أَي أركبته ورائي، وَإِنَّمَا سمي الردف ردفا لمجاورته الردف، وَهُوَ الْعَجز، وَيُقَال أَيْضا: جمل مرداف، أَي عَلَيْهِ رَدِيف، وَقُرِئَ فِي التَّنْزِيل: {بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا، فَمن كسرهَا أَرَادَ بِهِ متتالين فِي الْعدَد، وَمن فتحهَا أَرَادَ انهم أردفوا بغيرهم من المدد. [150] وَيَقُولُونَ: مطرد ومبرد ومبضع ومنجل، كَمَا يَقُولُونَ: مقرعة، ومقنعة، ومنطقة، ومطرقة، فيفتحون الْمِيم من جَمِيع هَذِه الْأَسْمَاء وَهُوَ من أقبح الأوهام وأشنغ معايب الْكَلَام، لِأَن كل مَا جَاءَ على وزن مفعل ومفعلة من الْآلَات المستعملة المتداولة فَهُوَ بِكَسْر الْمِيم كالأسماء الْمَذْكُورَة ونظائرها، وَعَلِيهِ قَول الفرزدق فِي مرثية سائس: (ليبك أَبَا الخنساء بغل وَبغلة ... ومخلاة سوء قد أضيع شعيرها)

(ومجرفة مطروحة ومحسة ... ومقرعة صفراء بَال سيورها) وَإِنَّمَا كسر الْمِيم من محسة لِأَن الأَصْل فِيهَا محسسة، فادغم أحد الحرفين المتماثلين فِي الآخر وشدده، والمشدد يقوم مقَام حرفين كَمَا فعل فِي نظائرها، مثل محفة ومخدة ومظلة ومسلة. من وهمهم أَيْضا فِي هَذَا النَّوْع قَوْلهم لما يروح بِهِ: مروحة بِفَتْح الْمِيم، وَالصَّوَاب كسرهَا. وَأَخْبرنِي أَبُو الْقَاسِم الْحُسَيْن بن مُحَمَّد التَّمِيمِي الْمَعْرُوف بالباقلاوي قِرَاءَة عَلَيْهِ، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَمْرو الهزاني عَن عَمه أبي روق عَن الرياشي عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: بلغنَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ ينشد فِي طَرِيق مَكَّة: (كَأَن راكبها غُصْن بمروحة ... إِذا تدلت بِهِ أَو شَارِب ثمل) ثمَّ قَالَ لنا أَبُو عَمْرو: المروحة بِفَتْح الْمِيم: الْموضع الْكثير الرّيح، والمروحة بِالْكَسْرِ مَا يتروح بِهِ. وَهَذَا الَّذِي أَصله أهل اللُّغَة من كسر الْمِيم فِي أَوَائِل أَسمَاء الْآلَات المتناقلة المصوغة على مفعل ومفعلة، هُوَ عِنْدهم كالقضية الملتزمة وَالسّنة المحكمة، إِلَّا انهم أشذوا أحرفا يسيرَة مِنْهُ، ففتحوا الْمِيم من منقبة البيطار، وضموها فِي مدهن ومسعط ومنخل ومنصل ومكحل ومدق، وَقيل فِيهِ مدق بِالْكَسْرِ على الأَصْل،

[151]- ويقولون: اعمل بحسب ذلك بإسكان السين، والصواب فتحها لتطابق معنى الكلام، لأن الحسب بفتح السين هو الشيء المحسوب المماثل معنى المثل والقدر، وهو المقصود في هذا الكلام، فأما الحسب.

ونطقوا فِي مسقاة ومرقاة ومطهرة بِالْكَسْرِ، قِيَاسا على الأَصْل، وبالفتح لكَونهَا مِمَّا لَا يتناقل بِالْيَدِ. [151]- وَيَقُولُونَ: اعْمَلْ بِحَسب ذَلِك بِإِسْكَان السِّين، وَالصَّوَاب فتحهَا لتطابق معنى الْكَلَام، لِأَن الْحسب بِفَتْح السِّين هُوَ الشَّيْء المحسوب المماثل معنى الْمثل وَالْقدر، وَهُوَ الْمَقْصُود فِي هَذَا الْكَلَام، فَأَما الْحسب. بِإِسْكَان السِّين، فَهُوَ الْكِفَايَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {عَطاء حسابا} أَي كَافِيا، وَلَيْسَ الْمَقْصُود بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا المُرَاد: اعْمَلْ على قدر ذَلِك. ويناسب هَاتين اللفظتين فِي اخْتِلَاف معنييهما باخْتلَاف هَيْئَة أوسطهما قَوْلهم: الْغبن والغبن، والميل والميل، وَالْوسط وَالْوسط، وَالْقَبْض وَالْقَبْض وَالْخلف وَالْخلف، وَبَين كل لفظتين من هَذِه الْأَلْفَاظ المتجانسة فرق يمتاز مَعْنَاهَا فِيهِ بِحَسب إسكان وَسطهَا وفتحه، فالغبن بِإِسْكَان الْبَاء يكون فِي المَال، وبالفتحة يَقع فِي الْعقل والرأي، والميل بِإِسْكَان الْيَاء من الْقلب وَاللِّسَان وَبِفَتْحِهَا يَقع فِيمَا يُدْرِكهُ العيان، وَالْوسط بِالسُّكُونِ ظرف مَكَان يحل مَحل لَفْظَة بَين، وَبِه يعْتَبر، وَالْوسط بِفَتْح السِّين: اسْم يتعاقب عَلَيْهِ الْإِعْرَاب، وَلِهَذَا مثل النحويون، فَقَالُوا: يُقَال: وسط رَأسه دهن. ووسط رَأسه صلب، وَالْقَبْض بِإِسْكَان الْبَاء مصدر قبض وَبِفَتْحِهَا اسْم الشَّيْء الْمَقْبُوض، وَأما الْخلف وَالْخلف

فَعِنْدَ أَكثر أهل اللُّغَة أَن الْخلف بِإِسْكَان اللَّام يكون من الطالحين، وَبِفَتْحِهَا من الصَّالِحين. وأنشدت لأبي الْقَاسِم الْآمِدِيّ فِي مرثية غرَّة خلف عرة: (خلفت خلفا وَلم تدع خلفا ... لَيْت بهم كَانَ لَا بك التّلف) وَقيل فيهمَا: أَنَّهُمَا يتداخلان فِي الْمَعْنى، ويشتركان فِي صفة الْمَدْح والذم، فَيُقَال: خلف صدق وَخلف سوء، وَخلف صدق وَخلف سوء، وَالشَّاهِد عَلَيْهِ قَول الْمُغيرَة ابْن حبناء التَّمِيمِي: (فَنعم الْخلف كَانَ أَبوك فِينَا ... وَبئسَ الْخلف خلف أَبِيك فِينَا) وَقَالَ بَعضهم: إِن الْخلف بِفَتْح اللَّام من يخلف فِي أثر من مضى، وَالْخلف بِإِسْكَان اللَّام اسْم لكل قرن مستخلف، وَعَلِيهِ فسر قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة} وَعَلِيهِ يؤول قَول لبيد: (وَبقيت فِي خلف كَجلْد الأجرب ) يَعْنِي بِهِ الْقرن الَّذِي عاصره آخر عمره. وَحكى أَبُو بكر بن دُرَيْد، قَالَ: سَمِعت الرياشي يفصل بَين قَوْلهم: أَصَابَهُ سهم غرب بِفَتْح الرَّاء، وَغرب بِإِسْكَان الرَّاء، وَقَالَ: الْمَعْنى فِي الفتحة انه لم يدر من رَمَاه، وَفِي الإسكان أَنه رمى غَيره فَأَصَابَهُ، وَلم يُمَيّز بَين معنى اللفظتين سواهُ.

[152]- ويقولون: قد كثرت عيلة فلان، إشارة إلى عياله، فيخطئون فيه، لأن العيلة هي الفقر، بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} وتصريف الفعل منها عال يعيل فهو عائل، والجمع عالة، وجاء في التنزيل: {ووجدك عائلا فأغنى} وفي الحديث: لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.

[152]- وَيَقُولُونَ: قد كثرت عيلة فلَان، إِشَارَة إِلَى عِيَاله، فيخطئون فِيهِ، لِأَن الْعيلَة هِيَ الْفقر، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله} وتصريف الْفِعْل مِنْهَا عَال يعيل فَهُوَ عائل، وَالْجمع عَالَة، وَجَاء فِي التَّنْزِيل: {ووجدك عائلا فأغنى} وَفِي الحَدِيث: لِأَن تدع وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تَدعهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس. فَأَما الَّذين يعالون فهم عِيَال، واحدهم عيل، كَمَا أَن وَاحِد جِيَاد جيد، وَقد جمع عِيَال على عيائل، كَمَا قيل: ركاب وركائب. وَيُقَال لمن كثر عِيَاله: أعال فَهُوَ معيل، وَقد عالهم يعولهم، وَمِنْه الْخَبَر: ابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول. وَفِي كَلَام بعض الْعَرَب: وَالله لقد علت حَتَّى علت، أَي منت عيالي حَتَّى افْتَقَرت. وَقد يُقَال: عَال يعول إِذا جَار، وَأما قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا} فَمَعْنَاه: أَلا تَجُورُوا، وَمِنْه قَول بعض الْعَرَب لحَاكم حكم عَلَيْهِ بِمَا لم يُوَافقهُ: وَالله لقد علت عليّ فِي الحكم. وَمن ذهب فِي تَفْسِير الْآيَة إِلَى أَن معنى تعولُوا يكثر من تعولون، فقد وهم فِيهِ. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَإِن من القَوْل ... ... .

[153] ويقولون: فلان في رفهة، والمسموع عن العرب في رفاهة ورفاهية، كما قالوا: طماعة وطماعية، وكراهة وكراهية.

عيالا، فَمَعْنَاه إِن من الحَدِيث مَا يستثقل السَّامع أَن يعرض عَلَيْهِ ويستشق الانصات إِلَيْهِ. [153] وَيَقُولُونَ: فلَان فِي رفهة، والمسموع عَن الْعَرَب فِي رفاهة ورفاهية، كَمَا قَالُوا: طماعة وطماعية، وَكَرَاهَة وكراهية. وَقد قيل فِيهَا: رفهنية، كَمَا قَالُوا: بلهنية، واشتقاق لفظ الرَّفَاهِيَة من الرفه، وَهُوَ أَن تورد الْإِبِل كلما شَاءَت كل يَوْم، فكأنهم قصدُوا بهَا التَّوَسُّع، فَأَما الرفة فَهِيَ أصل لَفْظَة الرفه الَّتِي هِيَ دقاق التِّبْن فِي لُغَة من قَالَهَا بتَخْفِيف الْفَاء، فَهِيَ تجْرِي مجْرى شفة الَّتِي أَصْلهَا شفهة، وَقد حذفت إِحْدَى الهائين مِنْهَا، بِدَلِيل تصغيرها على شفيهة. وَيُقَال فِي الْمثل: فلَان أغْنى من التفة عَن الرفة،

[154] ويقولون لرضيع الإنسان: قد ارتضع بلبنه، وصوابه ارتضع بلبانه، لأن اللبن هو المشروب واللبان هو مصدر لابنه، أي شاركه في شرب اللبن، وهذا هو معنى كلامهم الذي نحوا إليه، ولفظوا به، واليه أشار الأعشى في قوله في صفة النار:

وَالْمرَاد بالتفة عنَاق الأَرْض لِأَنَّهَا تقتات اللَّحْم وتستغني عَن دقاق التِّبْن. وَقد شدد بَعضهم الْفَاء من التفه وَجعل أَصْلهَا التففه، ثمَّ أدغم إِحْدَى الفائين فِي الْأُخْرَى كَمَا يفعل ذَلِك فِي الحرفين المتماثلين الواقعين فِي الْأَسْمَاء المضعفة. [154] وَيَقُولُونَ لرضيع الْإِنْسَان: قد ارتضع بلبنه، وَصَوَابه ارتضع بلبانه، لِأَن اللَّبن هُوَ المشروب واللبان هُوَ مصدر لِابْنِهِ، أَي شَاركهُ فِي شرب اللَّبن، وَهَذَا هُوَ معنى كَلَامهم الَّذِي نَحوا إِلَيْهِ، ولفظوا بِهِ، واليه أَشَارَ الْأَعْشَى فِي قَوْله فِي صفة النَّار: (تشب لمقرورين يصطليانها ... وَبَات على النَّار الندى والمحلق) (رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... باسحم داج عوض لَا نتفرق) يَعْنِي أَن المحلق الممدوح والندى ارتضعا ثدي أم، تحَالفا على أَنَّهُمَا لَا يتفرقان أبدا، لِأَن عوض من أَسمَاء الدَّهْر وَهُوَ مِمَّا يبْنى على الضَّم وَالْفَتْح، وعنى بالأسحم الداجي ظلمَة الرَّحِم الْمشَار إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق فِي ظلمات ثَلَاث} . وَقيل: بل عَنى بِهِ اللَّيْل، وعَلى كلا هذَيْن التفسيرين فَمَعْنَى تقاسما فيهمَا، أَي تحَالفا، وَقد قيل: أَن المُرَاد بِلَفْظَة تقاسما اقْتَسمَا، وَأَن المُرَاد بالأسحم الداجي الدَّم، وَقيل: بل المُرَاد بالأسحم اللَّبن لاعتراض السمرَة فِيهِ، وبالداجي الدَّائِم. وَحكى ابْن نصر الْكَاتِب فِي كتاب الْمُفَاوضَة، قَالَ: دخل عَليّ أبي الْعَبَّاس بن ماسرجس رجل نَصْرَانِيّ، وَمَعَهُ فَتى من أهل مِلَّته حسن الْوَجْه، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: من

[155] ويقولون: لدغته العقرب، والاختيار أن يقال لكل ما يضرب بمؤخره كالزنبور والعقرب: لسع، ولما يقبض بأسنانه كالكلب والسباع: نهش، ولما يضرب بفيه كالحية: لدغ، ومنه قول بعض الرجاز:

هَذَا الْفَتى قَالَ: بعض إخْوَانِي، فَأَنْشد أَبُو الْعَبَّاس: (دعتني أخاها أم عَمْرو وَلم أكن ... أخاها وَلم أرضع لَهَا بلبان) (دعتني أخاها بَعْدَمَا كَانَ بَيْننَا ... من الْأَمر مَا لَا يصنع الإخوان) [155] وَيَقُولُونَ: لدغته الْعَقْرَب، وَالِاخْتِيَار أَن يُقَال لكل مَا يضْرب بمؤخره كالزنبور وَالْعَقْرَب: لسع، وَلما يقبض بِأَسْنَانِهِ كَالْكَلْبِ وَالسِّبَاع: نهش، وَلما يضْرب بِفِيهِ كالحية: لدغ، وَمِنْه قَول بعض الرجاز: (إِن الْعَجُوز حِين شَاب صدغها ... كالحية الصماء طَال لدغها)

[156] ويقولون: الحمد لله الذي كان كذا وكذا.

[156] وَيَقُولُونَ: الْحَمد لله الَّذِي كَانَ كَذَا وَكَذَا. فيحذفون الضَّمِير الْعَائِد إِلَى اسْم الله تَعَالَى الَّذِي بِهِ يتم الْكَلَام، وتنعقد الْجُمْلَة، وتنتظم الْفَائِدَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: الْحَمد لله، إِذْ كَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْهُ، أَو يُقَال: الْحَمد لله الَّذِي كَانَ كَذَا وَكَذَا بِلُطْفِهِ أَو بعونه أَو من فَضله، وَمَا أشبه ذَلِك، مِمَّا يتم الْكَلَام المبتور، ويربط الصِّلَة بالموصول. وَفِي نَوَادِر النَّحْوِيين أَن رجلا قرع الْبَاب على رجل نحوي فَقَالَ لَهُ: من أَنْت قَالَ: الَّذِي اشتريتم الْآجر، فَقَالَ لَهُ: أَمنه قَالَ لَا: قَالَ: أَله قَالَ: لَا، قَالَ: اذْهَبْ، فمالك فِي صلَة الَّذِي شَيْء. وَقد شبه الصاحب أَبُو الْقَاسِم بن عباد الرَّقِيب والمحبوب بِالَّذِي وصلته، فَقَالَ وأبدع:

[157] ويقولون: فلان شحاث بالثاء المعجمة بثلاث من فوق، والصواب فيه شحاذ بالذال المعجمة، لاشتقاق هذا الاسم من قولك: شحذت السيف، إذا بالغت في إحداده، فكأن الشحاذ الملح في المسألة والمبالغ في طلب الصدقة.

(ومهفهف ذِي وجنة كالجنبذ ... وسهام لحظ كالسهام النقذ) (قد نلْت مِنْهُ مُرَاد قلبِي فِي الْهوى ... وملكته لَو لم يكن صلَة الَّذِي) [157] وَيَقُولُونَ: فلَان شحاث بالثاء الْمُعْجَمَة بِثَلَاث من فَوق، وَالصَّوَاب فِيهِ شحاذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، لاشتقاق هَذَا الِاسْم من قَوْلك: شحذت السَّيْف، إِذا بالغت فِي إحداده، فَكَأَن الشحاذ الْملح فِي الْمَسْأَلَة والمبالغ فِي طلب الصَّدَقَة. [158] وَيَقُولُونَ لما يخرج من الكرش: الفرث، فيوهمون فِيهِ، لِأَنَّهُ يُسمى فرثا مَا دَامَ فِي الكرش، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {من بَين فرث وَدم} فَإِذا لفظ مِنْهَا سمي السرجين. وَمن أَمْثَال الْعَرَب فِيمَن يحفظ الحقير ويضيع الْجَلِيل: يحفظ الفرث، وَيفْسد الْحَرْث. [159] وَيَقُولُونَ: جُبَّة خلقَة، فيوهمون فِيهِ لِأَن الْعَرَب ساوت فِيهِ بَين نعت الْمُذكر والمؤنث فَقَالَت: ملحفة خلق، كَمَا قَالَت: ثوب خلق، وَبَين بَعضهم الْعلَّة فِيهِ، فَقَالَ: كَانَ أصل الْكَلَام: أَعْطِنِي خلق جبتك، فَلَمَّا أفرد من الْإِضَافَة بَقِي على مَا كَانَ

[160] ويقولون ثلاثة شهور وسبعة بحور، والاختيار أن يقال: ثلاثة أشهر وسبعة أبحر، ليتناسب نظم الكلام، ويتطابق العدد والمعدود، كما جاء في القرآن: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} وفيه أيضا: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} ، والعلة في هذا الاختيار أن العدد من الثلاثة إلى العشرة وضع للقلة، فكانت إضافته إلى مثال الجمع القليل المشاكل له أليق به، وأشبه بالملاءمة له.

عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُقَال: جبتان خلقان، وَلَا يُقَال: خلقتان وَأنْشد ثَعْلَب شَاهدا عَلَيْهِ لأبي الْعَالِيَة: (كفى حزنا إِنِّي تطاللت كي أرى ... ذرى قلتي دمخ فَمَا تريان) يُقَال: تطاول، إِذا مد قامته، وتطالل إِذا مد عُنُقه، مَأْخُوذ من الطلل وَهُوَ الشَّخْص (كَأَنَّهُمَا والآل يجْرِي عَلَيْهِمَا ... من الْبعد عينا برقع خلقان) [160] وَيَقُولُونَ ثَلَاثَة شهور وَسَبْعَة بحور، وَالِاخْتِيَار أَن يُقَال: ثَلَاثَة أشهر وَسَبْعَة أبحر، ليتناسب نظم الْكَلَام، ويتطابق الْعدَد والمعدود، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن: {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} وَفِيه أَيْضا: {وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر} ، وَالْعلَّة فِي هَذَا الِاخْتِيَار أَن الْعدَد من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وضع للقلة، فَكَانَت إِضَافَته إِلَى مِثَال الْجمع الْقَلِيل المشاكل لَهُ أليق بِهِ، وأشبه بالملاءمة لَهُ.

[161] ويقولون للعليل: هو معلول، فيخطئون فيه لأن المعلول هو الذي سقى

وأمثلة الْجمع الْقَلِيل أَرْبَعَة: أَفعَال، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} ، وأفعل: كَمَا ورد فِي التَّنْزِيل أَيْضا {سَبْعَة أبحر} ، وأفعلة: كَقَوْلِك: تِسْعَة أحمرة وفعلة، كَقَوْلِك: عشرَة غلمة. وَهَذَا الِاخْتِيَار فِي إِضَافَة الْعدَد إِلَى جمع الْقلَّة مطرد فِي هَذَا الْبَاب، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْمَعْدُود مِمَّا لم يبن لَهُ جمع قلَّة، فيضاف إِلَى مَا صِيغ لَهُ من الْجمع على تَقْدِير إِضْمَار من البعضية فِيهِ، كَقَوْلِك: عِنْدِي ثَلَاثَة دَرَاهِم، وَصليت فِي عشرَة مَسَاجِد، أَي ثَلَاثَة من دَرَاهِم وَعشرَة من مَسَاجِد. ولسائل أَن يعْتَرض بقوله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} فَيَقُول: كَيفَ أضَاف الثَّلَاثَة إِلَى قُرُوء، وَهِي جمع الْكَثْرَة، وَلم يضفها إِلَى الاقراء الَّتِي هِيَ جمع الْقلَّة. وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} أَي ليتربص كل وَاحِدَة من المطلقات ثَلَاثَة اقراء، فَلَمَّا أسْند إِلَى جماعتهن ثَلَاثَة، وَالْوَاجِب على كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ ثَلَاثَة، أَتَى بِلَفْظَة قُرُوء، لتدل على الْكَثْرَة والمرادة وَالْمعْنَى الملموح. [161] وَيَقُولُونَ للعليل: هُوَ مَعْلُول، فيخطئون فِيهِ لِأَن الْمَعْلُول هُوَ الَّذِي سقى

[162] ويقولون في مثله: مالي فيه منفوع ولا منفعة، فيغلطون فيه، لأن المنفوع

الْعِلَل، وهوالشرب الثَّانِي، وَالْفِعْل مِنْهُ عللته، فَأَما الْمَفْعُول من الْعلَّة فَهُوَ معل، وَقد أعله الله تَعَالَى. وَنَظِيره قَوْلهم: أَعْطِنِي على المقلول كَذَا وَكَذَا، يعنون بالمقلول القل أَو الْقلَّة، وَلَا وَجه لهَذَا الْكَلَام الْبَتَّةَ، لِأَن المقلول فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي ضربت قلته، وَهِي أَعْلَاهُ، كَمَا يكنى فِي المعاريض عَمَّن ضربت ركبته بالمركوب، وَعَمن قطع سرره بالمسرور، وَعَمن قطع ذكره بالمذكور. وَمن الأحاجي بِأَبْيَات الْمعَانِي: (نسرهم إِن هم أَقبلُوا ... وَإِن أدبروا فهم من نسب) أَي نطعنهم إِذا أَقبلُوا فِي السُّرَّة وَإِذا أدبروا فِي السبة، وَهِي الأست. وَمن هَذَا النَّوْع قَول الشَّاعِر: (ذكرت أَبَا عَمْرو فَمَاتَ مَكَانَهُ ... فيا عجبا هَل يهْلك الْمَرْء من ذكر) (وزرت عليا بعده فرأيته ... فَفَارَقَ دُنْيَاهُ وَمَات على صَبر) عَنى بذكرت قطعت ذكره، وَبِقَوْلِهِ: رَأَيْته قطعت رئته. [162] وَيَقُولُونَ فِي مثله: مَالِي فِيهِ منفوع وَلَا مَنْفَعَة، فيغلطون فِيهِ، لِأَن المنفوع

[163] ويقولون للمريض: به سل، ووجه القول أن يقال: به سلال، بضم السين، لأن معظم الأدواء جاء على فعال، نحو الزكام والصداع والفواق والسعال.

من أوصل إِلَيْهِ النَّفْع، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مَا لي فِيهِ نفع وَلَا مَنْفَعَة، فَإِن توهم متوهم أَنه مِمَّا جَاءَ على الْمصدر، فقد وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ لم يجِئ من المصادر على وزن مفعول إِلَّا أَسمَاء قَليلَة، وَهِي الميسور والمعسور، بِمَعْنى الْيُسْر والعسر. وَقَوْلهمْ: مَا لَهُ مَعْقُول وَلَا مجلود، أَي لَيْسَ لَهُ عقل وَلَا جلد، وَقَوْلهمْ: حلف محلوفا، وَقد ألحق بِهِ قوم الْمفْتُون، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {بأيكم الْمفْتُون} أَي الْفُتُون، وَقيل: بل هُوَ مفعول، وَالْبَاء زَائِدَة وَتَقْدِيره: أَيّكُم الْمفْتُون. [163] وَيَقُولُونَ للْمَرِيض: بِهِ سل، وَوجه القَوْل أَن يُقَال: بِهِ سلال، بِضَم السِّين، لِأَن مُعظم الأدواء جَاءَ على فعال، نَحْو الزُّكَام والصداع والفواق والسعال. [164] وَيَقُولُونَ: حلا الشَّيْء فِي صَدْرِي وبعيني فيخطئون فِيهِ لِأَن الْعَرَب تَقول: حلا فِي فمي، وحلي فِي عَيْني، وَلَيْسَ الثَّانِي من نوع الأول بل هُوَ من الْحلِيّ الملبوس، فَكَانَ الْمَعْنى: حسن فِي عَيْني كحسن الْحلِيّ الملبوس، فَهُوَ من ذَوَات الْيَاء، وَالْأول من ذَوَات الْوَاو إِلَّا أَن الْمصدر مِنْهُمَا جَمِيعًا الْحَلَاوَة، وَالِاسْم مِنْهُمَا حُلْو. وَلَا يجوز أَن يُقَال: حَال، لِأَن الحالي، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحلِيّ، وَهُوَ ضد العاطل.

[165] ويقولون في جمع مرآة: مرايا، فيوهمون فيه كما وهم بعض المحدثين حين قال:

[165] وَيَقُولُونَ فِي جمع مرْآة: مرايا، فيوهمون فِيهِ كَمَا وهم بعض الْمُحدثين حِين قَالَ: (قلت لما سترت لحيته ... بعض البلايا) (فتن زَالَت وَلَكِن ... بقيت مِنْهَا بقايا) (فَهَب اللِّحْيَة غطت ... مِنْهُ خدا كالمرايا) (من لعينيه الَّتِي تقسم ... فِي الْخلق المنايا) وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا: مراء على وزن مراع، فَأَما مرايا فَهِيَ جمع نَاقَة مري وَهِي الَّتِي تدر إِذا مري ضرْعهَا، وَقد جمعت على أَصْلهَا الَّذِي هُوَ مرية، وَإِنَّمَا حذفت الْهَاء مِنْهَا عِنْد إفرادها لكَونهَا صفة، لَا يشاركها الْمُذكر فِيهَا. [166] وَيَقُولُونَ لفم المزادة: عزلة، وَهِي فِي كَلَام الْعَرَب عزلاء، وَجَمعهَا عزالى، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:

[167] ويقولون: جاء القوم بأجمعهم، لتوهمهم أنه أجمع، الذي يؤكد به في مثل قولهم: هو لك أجمع، والاختيار أن يقال: جاء القوم بأجمعهم بضم الميم لأنه مجموع جمع، فكان على أفعل، كما يقال: فرخ وأفرخ وعبد وأعبد.

(سَقَاهَا من الوسمي كل مجلجل ... سكوب العزالى صَادِق الْبَرْق والرعد) فَأَما قَول الْأَعرَابِي فِي خبر الاسْتِسْقَاء: (دفاق العزائل جم البعاق ... أغاث بِهِ الله عليا مُضر) فَإِنَّهُ جَاءَ على الْقلب كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل: {على شفا جرف هار} ، أَي هائر، فاخر الْقلب. [167] وَيَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْم بأجمعهم، لتوهمهم أَنه أجمع، الَّذِي يُؤَكد بِهِ فِي مثل قَوْلهم: هُوَ لَك أجمع، وَالِاخْتِيَار أَن يُقَال: جَاءَ الْقَوْم بأجمعهم بِضَم الْمِيم لِأَنَّهُ مَجْمُوع جمع، فَكَانَ على أفعل، كَمَا يُقَال: فرخ وأفرخ وَعبد وأعبد. وَيدل على ذَلِك أَيْضا إِضَافَته إِلَى الضَّمِير وَإِدْخَال حرف الْجَار عَلَيْهِ، وَأجْمع الْمَوْضُوع للتوكيد لَا يُضَاف وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْجَار بِحَال. وَنَظِير أجمع قَوْلهم فِي الْمثل الْمَضْرُوب لمن كَانَ فِي خصب ثمَّ صَار إِلَى أمرع مِنْهُ: وَقع الرّبيع على أَربع، يَعْنِي بِأَرْبَع جمع ربيع. [168] وَيَقُولُونَ لمن انْقَطَعت حجَّته: مقطع، بِفَتْح الطَّاء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال

بِكَسْرِهَا، لِأَن الْعَرَب تَقول للمحجوج: أقطع الرجل فَهُوَ مقطع وَأما المقطع بِفَتْح الطَّاء فَيَقَع على الْعنين وعَلى من أقطع قطيعة، وعَلى المحروم دون نظرائه، وَيُقَال: رجل مَقْطُوع بِهِ، إِذا قطع عَلَيْهِ الطَّرِيق، ومنقطع بِهِ، إِذا عجز عَن السّفر. وَحكى الْمَدَائِنِي قَالَ: دخلت على صديق لي، وَعِنْده رجل، فَقلت: من هَذَا فَقَالَ مُنْقَطع إليّ وَأَنا مُنْقَطع بِهِ. وَنَظِير تحريفهم فِي المقطع قَوْلهم: جَاءُوا كالجراد المشعل بِفَتْح الْعين. وَالْعرب تَقول: جَاءُوا كالجراد المشعل، بكسره الْعين، وَمعنى المشعل الْمُنْتَشِر، وَمِنْه قَوْلهم: كَتِيبَة مشعلة أَي مُتَفَرِّقَة. وَإِلَى هَذَا ذهب جرير بقوله فِيمَا يهجو بِهِ الأخطل: (أفبالصليب وَمَاء رِجْس تبتغي ... شهباء ذَات مناكب جمهورا) (عَايَنت مشعلة الرعال كَأَنَّهَا ... طير يحاول فِي شمام وكورا)

[169] ويقولون: كلمت فلانا فاختلط، أي اختل رأيه وثار غضبه، فيحرفون فيه، لأن القول فاحتلط بالحاء المغفلة لاشتقاقه من الاحتلاط، وهو الغضب، ومنه المثل المضروب: إن أول العي الاحتلاط، وأسوأ القول الإفراط.

[169] وَيَقُولُونَ: كلمت فلَانا فاختلط، أَي اخْتَلَّ رَأْيه وثار غَضَبه، فيحرفون فِيهِ، لِأَن القَوْل فاحتلط بِالْحَاء المغفلة لاشتقاقه من الاحتلاط، وَهُوَ الْغَضَب، وَمِنْه الْمثل الْمَضْرُوب: إِن أول العي الاحتلاط، وأسوأ القَوْل الإفراط. [170] وَيَقُولُونَ فِي الْكِنَايَة عَن العربيّ والعجميّ: الْأسود والأبيض، وَالْعرب تَقول فيهمَا: الْأسود والأحمر، تَعْنِي الْعَرَب والعجم لِأَن الْغَالِب على ألوان الْعَرَب الأدمة والسمرة، وَالْغَالِب على ألوان الْعَجم الْبيَاض والحمرة، وَالْعرب تسمي الْبَيْضَاء حَمْرَاء كَمَا تسمي السَّوْدَاء خضراء. وَفِي الْأَخْبَار المأثورة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُسَمِّي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْحُمَيْرَاء. وَأما قَوْلهم: الْحسن أَحْمَر، فَمَعْنَاه أَنه لَا يكْتَسب مَا فِيهِ الْجمال إِلَّا بتحمل مشقة يحمار مِنْهَا الْوَجْه كَمَا قَالُوا للسّنة المجدبة: حَمْرَاء، وكنوا عَن الْأَمر المستصعب بِالْمَوْتِ الْأَحْمَر، وَأما قَول الشَّاعِر: (هجان عَلَيْهَا حمرَة فِي بياضها ... تروق بِهِ العينان وَالْحسن أَحْمَر)

[171] ويقولون للمعرس: قد بنى بأهله، ووجه الكلام بنى على أهله، والأصل فيه أن الرجل كان إذا أراد أن يدخل على عرسه بنى عليها قبة، فقيل لكل من عرس: بان، وعليه فسر أكثرهم قول الشاعر:

فَإِنَّهُ عَنى بِهِ أَن الْحسن فِي حمرَة اللَّوْن مَعَ الْبيَاض دون غَيره من الألوان. [171] وَيَقُولُونَ للمعرس: قد بنى بأَهْله، وَوجه الْكَلَام بنى على أَهله، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يدْخل على عرسه بنى عَلَيْهَا قبَّة، فَقيل لكل من عرس: بَان، وَعَلِيهِ فسر أَكْثَرهم قَول الشَّاعِر: (أَلا يَا من لذا الْبَرْق الْيَمَانِيّ ... يلوح كَأَنَّهُ مِصْبَاح بَان) وَقَالُوا: أَنه شبه لمعان الْبَرْق بمصباح الْبَانِي على أَهله، لِأَنَّهُ لَا يطفأ تِلْكَ اللَّيْلَة، على أَن بَعضهم قَالَ: عَنى بالبان الضَّرْب من الشّجر، فَشبه سنا برقه بضياء الْمِصْبَاح المتقد بدهنه. ويجانس هَذَا الْوَهم قَوْلهم للجالس بِفنَاء بَابه: جلس على بَابه، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن

[172] ويقولون حتى، فيميلونها مقايسة على إمالة متى، فيخطئون فيه لأن

يُقَال: جلس بِبَابِهِ، لِئَلَّا يتَوَهَّم السَّامع أَن المُرَاد بِهِ: استعلى على الْبَاب وَجلسَ فَوْقه. قَالَ الشَّيْخ الرئيس أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله: وَقد أذكرني مَا أوردته نادرة تلِيق بِهَذَا الموطن، حَكَاهَا لي الشريف أَبُو الْحسن النسابة الْمَعْرُوف بالصوفي رَحمَه الله، قَالَ: اجتاز البستي بِابْن البواب وَهُوَ جَالس على عتبَة بَابه، فَقَالَ: أَظن الْأُسْتَاذ يقْصد حفظ النّسَب، بِالْجُلُوسِ على العتب. وَمِمَّا يوهمون فِيهِ أَيْضا: قَوْلهم: خرج عَلَيْهِ خراج وَوجه القَوْل أَن يُقَال: خرج بِهِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: رميت بِالْقَوْسِ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: رميت عَن الْقوس أَو على الْقوس، كَمَا قَالَ الراجز: (ارمي عَلَيْهَا وَهِي فرع أجمع ... وَهِي ثَلَاث أَذْرع وإصبع) فَإِن قيل: هلا أجزتم أَن تكون الْبَاء فِي هَذَا الموطن قَائِمَة مقَام عَن أَو على، كَمَا جَاءَت بِمَعْنى عَن فِي قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} وَبِمَعْنى على فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} . فَالْجَوَاب عَنهُ أَن إِقَامَة بعض حُرُوف الْجَرّ مقَام بعض إِنَّمَا جوز فِي المواطن الَّتِي يَنْتَفِي فِيهَا اللّبْس وَلَا يَسْتَحِيل الْمَعْنى الَّذِي صِيغ لَهُ اللَّفْظ. وَلَو قيل هَاهُنَا: رمى بِالْقَوْسِ لدل ظَاهر الْكَلَام على انه نبذها من يَده، وَهُوَ ضد المُرَاد بِلَفْظِهِ: فَلهَذَا لم يجز التأول للباء فِيهِ. [172] وَيَقُولُونَ حَتَّى، فيميلونها مقايسة على إمالة مَتى، فيخطئون فِيهِ لِأَن

[173] ويقولون: قتله شر قتلة، بفتح القاف، والصواب كسرها، لأن المراد به الإخبار عن هيئة القتلة التي صيغ مثالها على فعلة، بكسر الفاء، كقولك: ركب ركبة

مَتى إسم وَحَتَّى حرف، وَحكم الْحُرُوف أَلا تمال، كَمَا لم يميلوا إِلَّا وَأما وَلَكِن وعَلى ونظائرها، وَلم يشذ من هَذَا الأَصْل إِلَّا ثَلَاثَة أحرف أميلت لعلل فِيهَا، وَهِي: يَا، وبلى وَلَا، فِي قَوْلهم: افْعَل هَذَا أما لَا، وَالْعلَّة فِي يَا أَنَّهَا نابت عَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ أنادي، وَفِي بلَى أَنَّهَا قَامَت بِنَفسِهَا واستقامت بذاتها، وَفِي أما لَا أَن هَذِه الْكَلِمَة على الْحَقِيقَة ثَلَاثَة أحرف وَهِي أَن وَمَا وَلَا، جعلت كالشيء الْوَاحِد، وَصَارَت الْألف فِي آخرهَا شَبيهَة بِأَلف حبارى، فأميلت كإمالتها. وَمعنى قَوْلهم: افْعَل هَذَا اما لَا، أَي: أَن لَا تفعل كَذَا فافعل كَذَا. وَمن وهمهم أَيْضا فِي الإمالة أَنهم يَقُولُونَ: هَذِه بِكَسْر الْهَاء الأولى، والأفصح أَن تفخم الْهَاء وَلَا تمال. وَحكي أَن أعرابية سَمِعت بنياً لَهَا يَقُول: هَذِه النَّاقة، فزجرته، وَقَالَت لَهُ: أَتَقول هَذِه أَلا قلت: هَذِه [173] وَيَقُولُونَ: قَتله شَرّ قتلة، بِفَتْح الْقَاف، وَالصَّوَاب كسرهَا، لِأَن المُرَاد بِهِ الْإِخْبَار عَن هَيْئَة القتلة الَّتِي صِيغ مثالها على فعلة، بِكَسْر الْفَاء، كَقَوْلِك: ركب ركبة

[174] ويقولون: هذا واحد اثنان ثلاثة أربعة.

أنيقة، وَقعد قعدة ركينة، وَمِنْه الْمثل الْمَضْرُوب فِي الحاذق: (أَن الْعوَان لَا تعلم الْخمْرَة) من الاختمار. وَمن شَوَاهِد حِكْمَة الْعَرَب فِي تصريف كَلَامهَا أَنَّهَا جعلت فعلة بِفَتْح الْفَاء كِنَايَة عَن الْمرة الْوَاحِدَة، وبكسرها كِنَايَة عَن الْهَيْئَة، وَبِضَمِّهَا كِنَايَة عَن الْقدر لتدل كل صِيغَة على معنى تخْتَص بِهِ، وتمتنع من الْمُشَاركَة فِيهِ. وَقُرِئَ: {إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} ، بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا، فَمن قَرَأَهَا بالفتحة أَرَادَ بهَا الْمرة الْوَاحِدَة فَيكون قد حذف الْمَفْعُول بِهِ الَّذِي تَقْدِيره: إِلَّا من اغترف مَاء مرّة وَاحِدَة، وَمن قَرَأَهَا بِالضَّمِّ أَرَادَ بهَا مِقْدَار ملْء الرَّاحَة من المَاء. [174] وَيَقُولُونَ: هَذَا وَاحِد اثْنَان ثَلَاثَة أَرْبَعَة. فيعربون أَسمَاء الْأَعْدَاد الْمُرْسلَة، وَالصَّوَاب أَن تبنى على السّكُون فِي حَالَة الْعدَد، فَيُقَال: وَاحِد بِسُكُون الدَّال، وَكَذَلِكَ اثْنَان ثَلَاثَة أَرْبَعَة، وَكَذَلِكَ حكم نَظَائِره اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تُوصَف أَو يعْطف بَعْضهَا على بعض،

فتعرب حِينَئِذٍ بِالْوَصْفِ كَقَوْلِك: تِسْعَة أَكثر من ثَمَانِيَة، وَثَلَاثَة نصف السِّتَّة، والعطف كَقَوْلِك: وَاحِد وَاثْنَانِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، لِأَنَّهَا بِالصّفةِ وبالعطف صَارَت متمكنة، فاستحقت الْإِعْرَاب، وعَلى هَذَا الحكم تجْرِي أَسمَاء حُرُوف الهجاء، فتبنى على السّكُون إِذا تليت مقطعَة وَلم يخبر عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كهيعص} و {حم} و {عسق} ، وتعرب إِذا عطف بَعْضهَا على بعض، كَمَا حكى الْأَصْمَعِي قَالَ: أَنْشدني عِيسَى بن عمر بَيْتا هجا بِهِ النَّحْوِيين قَالَ: (إِذا اجْتَمعُوا على ألف وباء ... وتاء، هاج بَينهم قتال) فَإِن عورض ذَلِك بِفَتْح الْمِيم من قَوْله تَعَالَى فِي مفتتح سُورَة آل عمرَان {آلم الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} ، فَالْجَوَاب عَنهُ أَن أصل الْمِيم السّكُون، وَإِنَّمَا فتحت لالتقاء الساكنين وهما الْمِيم وَاللَّام من اسْم الله تَعَالَى. وَكَانَ الْقيَاس أَن تكسر على مَا يُوجِبهُ

[175] ويقولون: ما أحسن لبس الفرس إشارة إلى تجفافها، فيضمون اللام من لبس، والصواب كسرها، كما يقال لكسوة البيت: لبس، ولغشاء الهودج: لبس، ومنه قول حميد بن ثور.

التقاء الساكنين، إِلَّا أَنهم كَرهُوا الْكسر لِئَلَّا يجْتَمع فِي الْكَلِمَة كسرتان بَينهمَا يَاء هِيَ أصل الكسرة، فتثقل الْكَلِمَة. فَلذَلِك عدل إِلَى الفتحة الَّتِي هِيَ أخف كَمَا بنى لهَذِهِ الْعلَّة كَيفَ، وَأَيْنَ، على الْفَتْح. [175] وَيَقُولُونَ: مَا أحسن لبس الْفرس إِشَارَة إِلَى تجفافها، فيضمون اللَّام من لبس، وَالصَّوَاب كسرهَا، كَمَا يُقَال لكسوة الْبَيْت: لبس، ولغشاء الهودج: لبس، وَمِنْه قَول حميد بن ثَوْر. (فَلَمَّا كشفن اللّبْس عَنهُ مسحنه ... بأطراف طِفْل زَان غيلا موشما) [176] وَيَقُولُونَ: مائَة ونيف، بِإِسْكَان الْيَاء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: نَيف بتشديدها، وَهُوَ مُشْتَقّ من قَوْلهم: أناف ينيف على الشَّيْء إِذا أشرف عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لما زَاد على الْمِائَة صَار بِمَثَابَة المشرف عَلَيْهَا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (حللت برابية، رَأسهَا ... على كل رابية نَيف) وَقد اخْتلف فِي مِقْدَار النيف، فَذكر أَبُو زيد أَنه مَا بَين الْعقْدَيْنِ وَقَالَ غَيره: هُوَ من الْوَاحِد إِلَى الثَّلَاثَة. فَأَما الْبضْع فَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِيمَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر. وَقيل: بل هُوَ دون

[177] ويقولون لمن يصغر عن فعل شيء: هو يصبو عنه، والصواب أن يقال: هو يصبى عنه، لأن العرب تقول: صبا من اللهو يصبو صبوا والفعلة منه صبوة، وصبى من فعل الصبى يصبى صبى بكسر الصاد والقصر، وصباء بفتحها والمد، والفعلة منه صبية، ومنه قول الراجز:

نصف العقد، وَقد أثر القَوْل الأول إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين كَانُوا يحبونَ أَن تظهر الرّوم على فَارس، لأَنهم أهل كتاب، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يميلون إِلَى أهل فَارس لأَنهم أهل أوثان، فَلَمَّا بشر الله تَعَالَى الْمُسلمين بِأَن الرّوم سيغلبون فِي بضع سِنِين، سر الْمُسلمُونَ بذلك حَتَّى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ بَادر إِلَى مُشْركي قُرَيْش، فَأخْبرهُم بِمَا نزل عَلَيْهِم فِيهِ، فَقَالَ لَهُ أبيّ بن خلف: خاطرني على ذَلِك، فخاطره على خمس قَلَائِص، وَقدر لَهُم مُدَّة ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلَهُ: كم الْبضْع فَقَالَ: مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، فَأخْبرهُ بِمَا خاطر فِيهِ أبيّ بن خلف، فَقَالَ: مَا حملك على تقريب الْمدَّة قَالَ: الثِّقَة بِاللَّه وَرَسُوله، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عد إِلَيْهِم فزدهم فِي الْخطر وازدد فِي الْأَجَل، فَزَادَهُم قلوصين، وازداد مِنْهُم فِي الْأَجَل سنتَيْن، فأظفر الله تَعَالَى الرّوم بِفَارِس قبل انْقِضَاء الْأَجَل الثَّانِي تَصْدِيقًا لتقدير أبي بكر رَضِي الله عَنهُ. [177] وَيَقُولُونَ لمن يصغر عَن فعل شَيْء: هُوَ يصبو عَنهُ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هُوَ يصبى عَنهُ، لِأَن الْعَرَب تَقول: صبا من اللَّهْو يصبو صبوا والفعلة مِنْهُ صبوة، وصبى من فعل الصبى يصبى صبى بِكَسْر الصَّاد وَالْقصر، وصباء بِفَتْحِهَا وَالْمدّ، والفعلة مِنْهُ صبية، وَمِنْه قَول الراجز: (أَصبَحت لَا يحمل بَعْضِي بَعْضًا ... كَأَنَّمَا كَانَ صبائي قرضا)

[178] ويقولون: فعلته مجراك، فيحيلونه في بنيته ويحرفونه عن صيغته، لأن كلام العرب: فعلته من جراك، وفي الحديث: أن امرأة دخلت النار من جرا هرة، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.

فالفعل الأول من الْوَاو وَالثَّانِي من الْيَاء. وَمثله قَوْلهم للمعرض عَنْك: هُوَ يلهو عَن شغلي، وَوجه الْكَلَام يلهي لِأَن الْعَرَب تَقول: لَهَا يلهو من اللَّهْو، ولهى عَن الشَّيْء يلهى إِذا شغل عَنهُ، وَمِنْه الحَدِيث: إِذا اسْتَأْثر الله بِشَيْء فالهَ عَنهُ وَجَاء فِي الْأَثر أَيْضا: إِذا وجدت البلل بعد الْوضُوء فالهَ عَنهُ، أَي أعرض عَنهُ. [178] وَيَقُولُونَ: فعلته مجراك، فيحيلونه فِي بنيته ويحرفونه عَن صيغته، لِأَن كَلَام الْعَرَب: فعلته من جرّاك، وَفِي الحَدِيث: أَن امْرَأَة دخلت النَّار من جرّا هرة، ربطتها فَلم تطعمها وَلم تدعها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض. وَمعنى قَوْلهم: فعلته من جرّاك أَي من جريرتك، كَمَا أَن معنى قَوْلهم: من أَجلك، أَي من كسبك وجنايتك، وَعَلِيهِ فسر قَوْله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل} ، وَالْعرب تَقول: فعلته من أَجلك وإجلك، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا، وفعلته من أَجلك وجرّاك وجرائك بِالْقصرِ وَالْمدّ، وَأنْشد اللحياني شَاهدا على هَاتين اللغتين فِيهِ: (أَمن جرّا بني أَسد غضبتم ... وَلَو شِئْتُم لَكَانَ لكم جوَار) (وَمن جرائنا صرتم عبيدا ... لقوم بَعْدَمَا وطئ الخبار)

[179] ويقولون للرجل المضيع لأمره، المتعرض لاستدراكه بعد فوته: الصيف ضيعت اللبن، وبفتح التاء، والصواب أن يخاطب بكسرها، وإن كان مذكرا، لأنه مثل والأمثال تحكى على أصل صيغتها وأولية وضعها، وهذا المثل وضع في الابتداء بكسر التاء لمخاطبة المؤنث به، وأصله أن عمرا ابن عمرو بن عدس كان تزوج ابنة عم أبيه دختنوس بنت لقيط بن زرارة بعدما أسن، وكان أكثر قومه مالا، ففركته ولم تزل تسأله الطلاق حتى طلقها، فتزوجها عمير بن معبد ابن زرارة، وكان شابا مملقا، فمرت بها ذات يوم إبل عمرو، وكانت في ضر، فقالت لخادمتها: قولي له: ليسقنا من اللبن، فلما أبلغته قال لها: الصيف ضيعت اللبن، فلما أدت جوابه إليها ضربت بيدها على كتف زوجها وقالت: هذا ومذقه خير، وإنما خص الصيف بالذكر لأنها كانت سألته الطلاق فيه، فكأنها يومئذ ضيعت اللبن.

[179] وَيَقُولُونَ للرجل المضيع لأَمره، المتعرض لاستدراكه بعد فَوته: الصَّيف ضيعت اللَّبن، وبفتح التَّاء، وَالصَّوَاب أَن يُخَاطب بِكَسْرِهَا، وَإِن كَانَ مذكرا، لِأَنَّهُ مثل والأمثال تحكى على أصل صيغتها وأولية وَضعهَا، وَهَذَا الْمثل وضع فِي الِابْتِدَاء بِكَسْر التَّاء لمخاطبة الْمُؤَنَّث بِهِ، وَأَصله أَن عمرا ابْن عَمْرو بن عدس كَانَ تزوج ابْنة عَم أَبِيه دختنوس بنت لَقِيط بن زُرَارَة بَعْدَمَا أسنّ، وَكَانَ أَكثر قومه مَالا، ففركته وَلم تزل تسأله الطَّلَاق حَتَّى طَلقهَا، فَتَزَوجهَا عُمَيْر بن معبد ابْن زُرَارَة، وَكَانَ شَابًّا مملقا، فمرت بهَا ذَات يَوْم إبل عَمْرو، وَكَانَت فِي ضرّ، فَقَالَت لخادمتها: قولي لَهُ: ليسقنا من اللَّبن، فَلَمَّا أبلغته قَالَ لَهَا: الصَّيف ضيعت اللَّبن، فَلَمَّا أدَّت جَوَابه إِلَيْهَا ضربت بِيَدِهَا على كتف زَوجهَا وَقَالَت: هَذَا ومذقه خير، وَإِنَّمَا خص الصَّيف بِالذكر لِأَنَّهَا كَانَت سَأَلته الطَّلَاق فِيهِ، فَكَأَنَّهَا يَوْمئِذٍ ضيعت اللَّبن. وينخرط فِي هَذَا السلك مَا أنشدته فِي أَبْيَات الْمعَانِي. (قَالَت لَهُ وَهُوَ بعيش ضنك ... لَا تكثري لومي وخلي عَنْك) وَمَعْنَاهُ أَن هَذَا الرجل الْمُخَاطب كَانَ يبذر فِي مَاله، فَإِذا عذلته زَوجته على إسرافه قَالَ لَهَا: لَا تكثري لومي وخلي عَنْك، فَلَمَّا نفذ مَاله، وَسَاءَتْ حَاله، قَالَت لَهُ: أما تذكر قَوْلك عِنْد نصحي لَك: لَا تكثري لومي وخلي عَنْك وقصدت أَن تندمه على إِضَاعَة مَاله، وَتبين لَهُ فيالة رَأْيه. وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْفَنّ أَنهم ينشدون بَيت ذِي الرمة: (سَمِعت: النَّاس ينتجعون غيثا ... فَقلت لصيدح: انتجعي بِلَالًا)

[180] ويقولون طرده السلطان.

فَيَنْصبُونَ لَفْظَة النَّاس على الْمَفْعُول وَلَا يجوز ذَلِك لِأَن النصب يَجْعَل الانتجاع مِمَّا يسمع، وَمَا هُوَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَن ينشد بِالرَّفْع على وَجه الْحِكَايَة، لِأَن ذَا الرمة سمع قوما يَقُولُونَ: النَّاس ينتجعون غيثا، فَحكى مَا سمع على وَجه اللَّفْظ الْمَنْطُوق بِهِ. وَفسّر بَعضهم قَوْله تَعَالَى: {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلام على إِبْرَاهِيم} انه على الْحِكَايَة، وان المُرَاد بِهِ أَن يُقَال لَهُ فِي الآخرين: سَلام على إِبْرَاهِيم، وَتشهد الْآيَة باتقاق كَافَّة أهل الْملَل على الْإِيمَان بنبوته وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ عِنْد مَوته. وَذكر أَبُو الْفَتْح عُثْمَان بن جنى قَالَ: أَنْشدني شَيخنَا أَبُو عليّ الْفَارِسِي قَول الشَّاعِر: (تنادوا بالرحيل غَدا ... وَفِي ترحالهم نَفسِي) فَأجَاز فِي الرحيل ثَلَاثَة أوجه: الْجَرّ بِالْبَاء وَالرَّفْع وَالنّصب على الْحِكَايَة، فحكاية الرّفْع كَأَنَّهُمْ قَالُوا: الرحيل غَدا، وحكاية النصب على تَقْدِير قَوْلهم: اجعلوا الرحيل غَدا. [180] وَيَقُولُونَ طرده السُّلْطَان. وَوجه الْكَلَام اطرده، لِأَن معنى طرده أبعده بِيَدِهِ أَو بِآلَة فِي كَفه، كَمَا يُقَال: طردت الذُّبَاب عَن الشَّرَاب، وَمَا الْمَقْصُود هَذَا الْمَعْنى، بل المُرَاد بِهِ أَن السُّلْطَان أَمر بِإِخْرَاجِهِ عَن الْبَلَد، وَالْعرب تَقول فِي مثله: اطرده، كَمَا تَقول: أطْرد فلَان ابله، أَي أَمر بطردها، والطرد بتسكين الرَّاء: الْمصدر، وبالفتح: مطاردة الصَّيْد، والطريدة: هِيَ الصَّيْد. [181] وَيَقُولُونَ لما ينْبت من الزَّرْع بالمطر: بخس. فيلفظون بِمَا تلفظ بِهِ

[182] ويقولون هاون وراوق، فيوهمون فيهما إذ ليس في كلام العرب فاعل والعين منه واو، والصواب أن يقال فيهما: هاوون وراووق، لينتظما فيما جاء على فاعول مثل قارون وفاروق وماعون، وعليه قول زيد بن عدي العبادي:

الْعَجم وَلَا تعرفه الْعَرَب، وَوجه القَوْل أَن يُقَال فِيهِ: طَعَام عذيّ كَمَا يَقُولُونَ: أَرض عذاة وعذية، إِذا كَانَت لينَة تكتفي بِمَاء الْمَطَر. [182] وَيَقُولُونَ هاون وراوق، فيوهمون فيهمَا إِذْ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب فَاعل وَالْعين مِنْهُ وَاو، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فيهمَا: هاوون وراووق، لينتظما فِيمَا جَاءَ على فاعول مثل قَارون وفاروق وماعون، وَعَلِيهِ قَول زيد بن عدي العباديّ: (ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا ابريق) (فدمته على عقار كعين الديك ... صفى سلافها الراووق) ولهذه الْقطعَة حِكَايَة تنشر مآثر الأجواد، وترغب المتأدب فِي الازدياد، وَهِي مَا حَكَاهُ حَمَّاد الراوية قَالَ: كنت مُنْقَطِعًا إِلَى يزِيد بن عبد الْملك، وَكَانَ أَخُوهُ هِشَام يجفوني

لذَلِك فِي أَيَّامه، فَلَمَّا مَاتَ يزِيد، وأفضت الْخلَافَة إِلَى هِشَام خفته، فَمَكثت فِي بَيْتِي سنة لَا أخرج إِلَّا لمن أَثِق بِهِ من إخْوَانِي سرا، فَلَمَّا لم أسمع أحدا يذكرنِي فِي السّنة أمنت، وَخرجت فَصليت الْجُمُعَة فِي الرصافة، فَإِذا شرطيان قد وَقفا عليّ، فَقَالَا: يَا حَمَّاد اجب الْأَمِير يُوسُف بن عمر، فَقلت فِي نَفسِي: من هَذَا كنت أَخَاف، فَقلت: هَل لَكمَا أَن تدعاني حَتَّى آتِي أَهلِي فأودعهم وداع من لَا يرجع إِلَيْهِم أبدا، ثمَّ أصير مَعَكُمَا إِلَيْهِ فَقَالَا: مَا إِلَى ذَلِك من سَبِيل. فاستسلمت فِي أَيْدِيهِمَا وصرت إِلَى يُوسُف بن عمر، وَهُوَ فِي الإيوان الْأَحْمَر، فَسلمت عَلَيْهِ، فَرد عليّ السَّلَام وَرمى إليّ كتابا فِيهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. من عبد الله هَاشم أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى يُوسُف بن عمر، أما بعد، فَإِذا قَرَأت كتابي هَذَا فَابْعَثْ إِلَى حَمَّاد الراوية من يَأْتِيك بِهِ من غير تروع وَلَا تتعتع، وادفع إِلَيْهِ خَمْسمِائَة دِينَار وجملا مهريا يسير عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة إِلَى دمشق، فَأخذت الدَّنَانِير وَنظرت، فَإِذا جمل مرحول، فَجعلت رجْلي فِي الغرز وسرت اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة، حَتَّى وافيت دمشق، وَنزلت على بَاب هِشَام، فاستأذنت فَأذن لي، فَدخلت عَلَيْهِ فِي دَار قورآء، مفروشة بالرخام، وَبَين كل رخامتين قضيب من ذهب، وَهِشَام جَالس على طنفسة حَمْرَاء، وَعَلِيهِ ثِيَاب حمر من الْخَزّ، وَقد تضمخ بالمسك والعنبر، فَسلمت، فَرد عَليّ السَّلَام، واستدناني، فدنوت إِلَيْهِ حَتَّى قبلت رجله، فَإِذا جاريتان لم أر مثلهمَا قطّ، وَفِي أُذُنِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حلقتان، فيهمَا لؤلؤتان تتوقدان، فَقَالَ لي: كَيفَ أَنْت يَا حَمَّاد وَكَيف حالك قلت: بِخَير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي فيمَ بعثت إِلَيْك قلت: لَا، قَالَ: بعثت إِلَيْك لبيت خطر ببالي لم أدر من قَائِله، قلت وَمَا هُوَ فَقَالَ: (ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق) فَقلت: يَقُوله عدي بن زيد فِي قصيدة لَهُ، قَالَ: أنشدنيها، فَأَنْشَدته: (بكر العاذلون فِي وضح الصُّبْح ... يَقُولُونَ لي أما تستفيق) (ويلومون فِيك يَا ابْنة عبد الله ... وَالْقلب عنْدكُمْ موهوق) (لست أَدْرِي إِذْ أَكْثرُوا العذل فِيهَا ... أعدو يلومني أم صديق)

[183] ويقولون شفعت الرسولين بثالث، فيوهمون فيه، لأن العرب تقول: شفعت الرسول بآخر، أي جعلتهما اثنين، ليطابق هذا القول معنى الشفع الذي هو في

(ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق) (فدمته على عقار كعين الديك ... صفى سلافها الراووق) (مزة قبل مزجها فَإِذا مَا ... مزجت، لذ طعمها من يَذُوق) (وطفا فَوْقهَا فقاقيع كالياقوت ... حمر يزينها التصفيق) (ثمَّ كَانَ المزاج مَاء سَحَاب ... لَا صرى آجن وَلَا مطروق) قَالَ: فطرب، ثمَّ قَالَ: أَحْسَنت وَالله يَا حَمَّاد، يَا جَارِيَة اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بِثلث عَقْلِي، فَقَالَ: أعده، فاستخفه الطَّرب، حَتَّى نزل عَن فرشه، ثمَّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ الْأُخْرَى، اسقيه، فسقتني، فَذهب ثلث آخر من عَقْلِي، فَقلت إِن سقيت الثَّالِثَة افتضحت، ثمَّ قَالَ لي: سل حَاجَتك، فَقلت: كائنة مَا كَانَت قَالَ: نعم، قلت: إِحْدَى الجاريتين، قَالَ: هما جَمِيعًا لَك بِمَا عَلَيْهِمَا وَمَا لَهما، ثمَّ قَالَ للأولى: اسقيه فسقتني شربة سَقَطت مِنْهَا، فَلم أَعقل حَتَّى أَصبَحت، والجاريتان عِنْد رَأْسِي، وَإِذا عشرَة من الخدم مَعَ كل وَاحِدَة بدرة، فَقَالَ أحدهم: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول: خُذ هَذِه فَانْتَفع بهَا فِي سفرك، فأخذتها والجاريتين وعاودت أَهلِي. [183] وَيَقُولُونَ شفعت الرسولين بثالث، فيوهمون فِيهِ، لِأَن الْعَرَب تَقول: شفعت الرَّسُول بآخر، أَي جعلتهما اثْنَيْنِ، ليطابق هَذَا القَوْل معنى الشفع الَّذِي هُوَ فِي

[184] ويقولون للبلدة التي استحدثها المعتصم بالله سامرا، فيوهمون فيه كما وهم البحتري فيها إذ قال في صلب بابك:

كَلَامهم بِمَعْنى اثْنَيْنِ، فَأَما إِذا بعثت ثَالِثا، فَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: عززت الرسولين بثالث، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} وَالْمعْنَى فِي عززته قويته. وَمن كَلَام الْعَرَب: أعززت الرجل، أَي جعلته عَزِيزًا، وعززته، أَي جعلته قَوِيا، فَإِن واترت الرُّسُل فَالْأَحْسَن أَن تَقول: قفيت بالرسل، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ قفينا على آثَارهم برسلنا وقفينا بِعِيسَى ابْن مَرْيَم} . [184] وَيَقُولُونَ للبلدة الَّتِي استحدثها المعتصم بِاللَّه سامرا، فيوهمون فِيهِ كَمَا وهم البحتري فِيهَا إِذْ قَالَ فِي صلب بابك: (أخليت مِنْهُ البذ وَهِي قراره ... ونصبته علما بسامراء) وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا: سر من رأى على مَا نطق بهَا فِي الأَصْل، لِأَن الْمُسَمّى بِالْجُمْلَةِ يَحْكِي على صيغته الْأَصْلِيَّة، كَمَا يُقَال: جَاءَ تأبط شرا وَهَذَا ذرى حبا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (كَذبْتُمْ وَبَيت الله لَا تنكحونها ... بني شَاب قرناها تصر وتحلب) يَعْنِي بنى الَّتِي تسمى شَاب قرناها، وَلِهَذَا نَظَائِر فِي كَلَام الْعَرَب وأشعارهم ومحاوراتهم وأمثالهم. وحكاية الْمُسَمّى بِالْجُمْلَةِ من مقاييس أصولهم وأوضاعهم، فَلهَذَا وَجب أَن ينْطق باسم الْبَلدة الْمشَار إِلَيْهَا على صيغتها الْأَصْلِيَّة من غير تَحْرِيف فِيهَا، وَلَا تَغْيِير لَهَا وَذَلِكَ

[185] ويقولون لما يجمد من فرط البرد: قريض بالصاد، فيوهمون فيه كما وهم بعض المحدثين فيما كتب إلى صديق له يدعوه:

أَن المعتصم بِاللَّه حِين شرع فِي إنشائها ثقل ذَلِك على الْعَسْكَر، فَلَمَّا انْتقل بهم إِلَيْهَا سر كل مِنْهُم برؤيتها، فَقيل فِيهَا: سر من رأى، ولزمها هَذَا الِاسْم وَعَلِيهِ قَول دعبل فِي ذمها: (بَغْدَاد دَار الْمُلُوك كَانَت ... حَتَّى دهاها الَّذِي دهاها) (مَا سر من را بسر من رابل ... هِيَ بؤس لمن راها) وَعَلِيهِ أَيْضا قَول عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر فِي صفة الشعري: أَقُول لما هاج قلبِي الذكرى واعترضت وسط السَّمَاء الشعري) (كَأَنَّهَا ياقوتة فِي مدرى ... مَا أطول اللَّيْل بسر من را) فَنَطَقَ الشاعران باسمها على وَضعه، وسابق صيغته وَإِن كَانَا قد حذفا همزَة: رأى لإِقَامَة الْوَزْن وَتَصْحِيح النّظم. [185] وَيَقُولُونَ لما يجمد من فرط الْبرد: قريض بالصَّاد، فيوهمون فِيهِ كَمَا وهم بعض الْمُحدثين فِيمَا كتب إِلَى صديق لَهُ يَدعُوهُ: (عندنَا قبح مصوص ... وَلنَا جدي قريص) (وَمن الْحَلْوَاء لونان ... عقيد وخبيص) (ونبيذ لَو خرطناه ... أَتَت مِنْهُ فصوص)

وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: قريس بِالسِّين لاشتقاقه من القرس، وَهُوَ الْبرد، وَمِنْه الحَدِيث: قرسوا المَاء فِي الشنان أَي بردوه، وَيدل عَلَيْهِ قَول أبي زبيد: (وَقد تصليت حر حربهم ... كَمَا تصلى المقرور من قرس) وَقد يُقَال بِإِسْكَان الرَّاء وَالشَّاهِد عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر: (مطاعين فِي الهيجا مطاعيم فِي القوى ... إِذا اصفر آفَاق السَّمَاء من القرس) يَعْنِي بالقوى الْمَكَان القفر. وَقد رَوَاهُ بَعضهم مطاعيم فِي الْقرى وَالرِّوَايَة الأولى أفخم فِي الْمَعْنى وأبلغ فِي الْمَدْح، وَأما القارص بالصَّاد فَهُوَ الَّذِي يلذع اللِّسَان، وَيُقَال مِنْهُ: لبن قارص، ونبيذ قارص.

[186] ويقولون: قتله الحب، والصواب أن يقال فيه: اقتتله، كما قال ذو الرمة:

[186] وَيَقُولُونَ: قَتله الْحبّ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: اقتتله، كَمَا قَالَ ذُو الرمة: (إِذا مَا امْرُؤ حاولن أَن يقتتلنه ... بِلَا احنة بَين النُّفُوس وَلَا ذحل) (تبسمن عَن نور الأقاحي فِي الثرى ... وفترن من ابصار مضروجة كحل) وعنى بِهِ عين البرقع. وَيُقَال أَيْضا: اقتتل فلَان، إِذا قتلته عين النِّسَاء وَالْجِنّ. [187] وَيَقُولُونَ: مَا كَانَ ذَلِك يعرضك لهَذَا الْأَمر، بِضَم الْيَاء وَكسر الرَّاء وتشديدها. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مَا يعرضك لهَذَا الْأَمر بِفَتْح الْيَاء وَضم الرَّاء، أَي مَا ينصب عرضك، وَعرض الشَّيْء جَانِبه، وَمِنْه قَوْلهم: اضْرِب بِهِ عرض الْحَائِط، أَي جَانِبه، أَي أحد نواحيه، وَأما الْخَبَر: كل الْجُبْن

[188] ويقولون: ما كان ذلك في حسابي، أي في ظني، ووجه الكلام أن يقال: ما كان ذلك في حسباني، لأن المصدر من حسبت بمعنى ظننت محسبة وحسبان بكسر الحاء، فأما الحساب فهو اسم للشيء المحسوب.

عرضا، أَي مِمَّن يعْتَرض، وَلَا تفحص عَنهُ هَل جبنه مُسلم أَو مُشْرك. [188] وَيَقُولُونَ: مَا كَانَ ذَلِك فِي حسابي، أَي فِي ظَنِّي، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: مَا كَانَ ذَلِك فِي حسباني، لِأَن الْمصدر من حسبت بِمَعْنى ظَنَنْت محسبة وحسبان بِكَسْر الْحَاء، فَأَما الْحساب فَهُوَ اسْم للشَّيْء المحسوب. وَاسم الْمصدر من حسبت الشَّيْء بِمَعْنى عددته الحسبان، بِضَم الْحَاء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: و {الشَّمْس وَالْقَمَر بحسبان} وَقد جَاءَ الحسبان بِمَعْنى الْعَذَاب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَيُرْسل عَلَيْهَا حسبانا من السَّمَاء} وَأَصله السِّهَام الصغار، الْوَاحِدَة حسبانة. [189] وَيَقُولُونَ: تنوق فِي الشَّيْء. والأفصح أَن يُقَال: تأنق، كَمَا روى للمنصور رَحمَه الله:

[190] ويقولون للمخاطب: هم فعلت وهم خرجت، فيزيدون هم في افتتاح الكلام، وهو من أشنع الأغلاط والأوهام.

(تأنقت فِي الْإِحْسَان لم آل جاهدا ... إِلَى ابْن ليلى فصيره ذما) (فوَاللَّه مَا آسى على فَوت شكره ... وَلَكِن فَوت الرَّأْي أحدث لي هما) واشتقاق هَذِه اللَّفْظَة من الأنق، وَهُوَ الْإِعْجَاب بالشَّيْء. وَمن: أمثالهم: لَيْسَ الْمُتَعَلّق كالمتأنق، أَي لَيْسَ القانع بالعلقة، وَهِي الْبلْغَة، كَالَّذي يطْلب النقاوة والغاية. وَيضْرب أَيْضا للجاهل الَّذِي يدعى الحذق خرقاء ذَات نيقة [190] وَيَقُولُونَ للمخاطب: هم فعلت وهم خرجت، فيزيدون هم فِي افْتِتَاح الْكَلَام، وَهُوَ من أشنع الأغلاط والأوهام. وَحكى أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الْمعدل قَالَ: سَمِعت الْأَخْفَش يَقُول لتلامذته: جنبوني أَن تَقولُوا: بس، وَأَن تَقولُوا هم، وَأَن تَقولُوا: لَيْسَ لفُلَان بخت. وَالْمَنْقُول من لُغَات الْعَرَب أَن بعض أهل الْيمن يزِيدُونَ أم فِي كَلَامهم فَيَقُولُونَ: أم نَحن نضرب الْهَام، أم نَحن نطعم الطَّعَام، أَي نَحن نضرب ونطعم، وَأخذُوا فِي زِيَادَة أم مَأْخَذ زِيَادَة معكوسها، وَهُوَ مَا فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {فبمَا رَحْمَة من الله} ، و {عَمَّا قَلِيل} . وَقد روى عَن حمير أَنهم يجْعَلُونَ آلَة التَّعْرِيف أم، فَيَقُولُونَ طَابَ أمضرب، يُرِيدُونَ طَابَ الضَّرْب، وَجَاء فِي الْآثَار فِيمَا رَوَاهُ النمر بن تولب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطق بِهَذِهِ اللُّغَة فِي قَوْله: لَيْسَ

من أم برام صِيَام فِي أم سفر يُرِيد لَيْسَ من الْبر الصّيام فِي السّفر. وَحكى الْأَصْمَعِي أَن مُعَاوِيَة قَالَ ذَات يَوْم لجلسائه: من أفْصح النَّاس فَقَامَ رجل من السماط، فَقَالَ: قوم تباعدوا عَن عنعنة تَمِيم، وتلتلة بهراء، وكشكشة ربيعَة، وكسكسة بكر، لَيْسَ فيهم غمغمة قضاعة وَلَا طمطمانية حمير، فَقَالَ: من أُولَئِكَ قَالَ: قَوْمك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَأَرَادَ بعنعنة تَمِيم أَن تميما يبدلن من الْهمزَة عينا كَمَا قَالَ ذُو الرمة: (أعن ترسمت من خرقاء منزلَة ... مَاء الصبابة من عَيْنَيْك مسجوم) يُرِيد: أإن ترسمت. وَأما تلتلة بهراء فيكسرون حُرُوف المضارعة فَيَقُولُونَ: أَنْت تعلم. وحَدثني أحد شيوخي رَحمَه الله أَن ليلى الأخيلية كَانَت مِمَّن يتَكَلَّم بِهَذِهِ اللُّغَة، وَأَنَّهَا اسْتَأْذَنت ذَات يَوْم على عبد الْملك بن مَرْوَان، وبحضرته الشّعبِيّ، فَقَالَ لَهُ: أتأذن لي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَن أضْحك مِنْهَا قَالَ: افْعَل، فَلَمَّا اسْتَقر بهَا الْمجْلس قَالَ لَهَا الشّعبِيّ: يَا ليلى، مَا بَال قَوْمك لَا يكتنون، فَقَالَت لَهُ: وَيحك أما نكتني فَقَالَ: لَا وَالله وَلَو فعلت لاغتسلت، فخجلت عِنْد ذَلِك واستغرق عبد الْملك فِي الضحك. وَأما كشكشة ربيعَة فَإِنَّهُم يبدلون عِنْد الْوُقُوف كَاف المخاطبة شينا، فَيَقُولُونَ

[191] ويقولون: قرضته بالمقراض، وقصصته بالمقص، فيوهمون فيه، كما

للْمَرْأَة: وَيحك مالش فيقرون الْكَاف الَّتِي يدرجونها على هيئتها، ويبدلون الْكَاف الَّتِي يقفون عَلَيْهَا شينا. قَالَ راجزهم: (تضحك مني أَن رأتني أحترش لَو حرشت لكشفت عَن حرش عَن وَاسع يغرق فِيهِ القنفرش) وَفِيهِمْ من يجْرِي الْوَصْل مجْرى الْوَقْف، فيبدلون الْكَاف فِيهِ أَيْضا شينا، وَعَلِيهِ أنْشد بَيت الْمَجْنُون: (فعيناش عَيناهَا وجيدش جيدها ... وَلَكِن عظم السَّاق منش دَقِيق) أما كسكسة بكر فَإِنَّهُم يزيدن على كَاف الْمُؤَنَّث فِي الْوَقْف سينا، ليبينوا حَرَكَة الْكَاف فَيَقُولُونَ: مَرَرْت بكس. وَأما غمغمة قضاعة فصوت لَا يفهم تقطيع حُرُوفه. وَأما طمطمانية حمير، فقد مضى تَفْسِيرهَا فِيمَا تقدم. [191] وَيَقُولُونَ: قرضته بالمقراض، وقصصته بالمقص، فيوهمون فِيهِ، كَمَا

وهم بعض الْمُحدثين حِين قَالَ فِي صفة مزبون بالقيادة، وَإِن كَانَ قد أبدع فِي الإجادة: (الق ابْن إِسْحَاق تلاقي فَتى ... لَيْسَ كمن عَنهُ بمعتاض) (إِذا حبيب صد عَن إلفه ... تيها وأعيا كل رواض) (ألف فِيمَا بَين شخصيهما ... كَأَنَّهُ مِسْمَار مقراض) وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مقراضان، ومقصان، وجلمان، لِأَنَّهُمَا اثْنَان. وَنَظِير هَذَا الْوَهم قَوْلهم للاثنين: زوج وَهُوَ خطأ، لِأَن الزَّوْج فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْفَرد المزاوج لصَاحبه، فَأَما الِاثْنَان المصطحبان فَيُقَال لَهما: زوجان، كَمَا قَالُوا: عِنْدِي زوجان من النِّعَال، أَي نَعْلَانِ، وزوجان من الْخفاف، أَي خفان، وَكَذَلِكَ يُقَال للذّكر وَالْأُنْثَى من الطير زوجان، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} .

[192] ويقولون في تصغير شيء وعين: شوى وعوينة، فيقلبون الياء فيهما واوا، والأفصح أن يقال: شبيء وعيينة بإثبات الياء وضم أولهما.

وَمِمَّا يشْهد بِأَن الزَّوْج يَقع على الْفَرد المزاوج لصَاحبه قَوْله تَعَالَى: {ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ} ثمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَة الَّتِي تَلِيهَا: {وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} فَدلَّ التَّفْصِيل على أَن معنى الزَّوْج الْإِفْرَاد. [192] وَيَقُولُونَ فِي تَصْغِير شَيْء وَعين: شوى وعوينة، فيقلبون الْيَاء فيهمَا واوا، والأفصح أَن يُقَال: شبيء وعيينة بِإِثْبَات الْيَاء وَضم أَولهمَا. وَقد جوز كسر أَولهمَا فِي التصغير من أجل الْيَاء، ليتشاكل الْحَرْف وَالْحَرَكَة. وَمن هَذَا الْقَبِيل قَوْلهم فِي تَصْغِير ضَيْعَة: ضويعة، وَفِي تَصْغِير بَيت: بوبت، وَالِاخْتِيَار فيهمَا ضييعة وبييت، كَمَا أنشدت للخليل بن أَحْمد: (إِن لم يكن لَك جدى ... أَغْنَاك خل وزيت) (أَو لم يكن ذَا وَلَا ذَا ... فكسرة وبييت) [193] وَيَقُولُونَ: أشرف فلَان على الاياس من طلبه، فيوهمون فِيهِ، كَمَا وهم أَبُو سعيد السكرِي، وَكَانَ من أجلّ النَّحْوِيين وأعلام الْعلمَاء الْمَذْكُورين، فَقَالَ: إِن إياسا سمي بِالْمَصْدَرِ من أيس، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَوجه الْكَلَام أَن يُقَال: أشرف على الْيَأْس، لِأَن أصل الْفِعْل مِنْهُ يئس على وزن فعل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قد يئسوا من الْآخِرَة كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور} فَأَما قَوْلهم: أيس، بِتَقْدِيم الْهمزَة، فَإِنَّهُ مقلوب من يئس. وَاسْتدلَّ شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم على صِحَة ذَلِك بِأَن لَفْظَة يئس تَسَاوِي لَفْظَة الْيَأْس الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي نظم الصِّيغَة ونسق الْحُرُوف، لتَكون الْيَاء مبدوءا بهَا فيهمَا، والهمزة مثنى بهَا بِخِلَاف تنزلهما فِي لَفْظَة أيس، لِأَن الْهمزَة فِي أيس مبدوء بهَا وَالْيَاء مثنى بهَا، فلهذه

الْعلَّة حكم على لَفْظَة أيس بِأَنَّهَا مَقْلُوبَة من يئس، والمقلوب لَا يتَصَرَّف تصرف الأَصْل وَلَا يكون لَهُ مصدر، وَأما إِيَاس فَهُوَ عِنْد الْمُحَقِّقين مصدر أسته، أَي أَعْطيته، وَالِاسْم مِنْهُ الْأَوْس الَّذِي اشْتقت مِنْهُ الْمُوَاسَاة، فكأنهم سموا اياسا بِمَعْنى تسميتهم عَطاء. قَالَ شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الْفضل بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ رَحمَه الله: فَأَما قَوْلهم: جذب وجبذ، فَلَيْسَتْ هَاتَانِ اللفظتان عِنْد الْمُحَقِّقين من النَّحْوِيين من قبيل المقلوب، كَمَا ذكر أهل اللُّغَة، بل هما لُغَتَانِ، وكل وَاحِدَة مِنْهُمَا أصل فِي نَفسهَا، وَلها اشتق لكل مِنْهُمَا مصدر من لَفظه، فَقيل فِي مصدر: جبذ جبذ، كَمَا قيل فِي مصدر جذب: جذب. وَمِمَّا يوهمون فِيهِ أَيْضا من شجون هَذِه اللَّفْظَة قَوْلهم للقانط: هُوَ موئس من الشَّيْء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ: يائس، أَو آيس، وَالْأَصْل فِيهِ يائس، وَمِنْه قَول مقرون بن عمر الشَّيْبَانِيّ: (فَمَا أَنا من ريب الْمنون بجبأ ... وَمَا أَنا من سيب الإلة بيائس)

[194] ويقولون للقناة الجوفاء التي يرمى عنها بالبندق: زربطانة، والصواب أن يقال فيها: سبطانة، لاشتقاق اسمها من السبوطة وهو الطول والامتداد، ومنه سمي الساباط لامتداده بين الدارين.

فَأَما الموئس فَهُوَ الَّذِي عرض لليأس، وألجىء إِلَيْهِ. [194] وَيَقُولُونَ للقناة الجوفاء الَّتِي يرْمى عَنْهَا بالبندق: زربطانة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهَا: سبطانة، لاشتقاق اسْمهَا من السبوطة وَهُوَ الطول والامتداد، وَمِنْه سمي الساباط لامتداده بَين الدَّاريْنِ. [195] وَيَقُولُونَ: جرح الرجل فِي ثديه، فيوهمون فِيهِ وَالصَّوَاب أَن يُقَال: جرح فِي ثندوءته، لِأَن الثدي يخْتَص بِالْمَرْأَةِ، والثدوءة تخْتَص بِالرجلِ، وفيهَا لُغَتَانِ: ثندوءة بِضَم الثَّاء وَفتح الْهمزَة وثندوة بِفَتْح الثَّاء وَترك الْهَمْز، وَتجمع الثندوة على الثنادي. وَقد قيل فِيهَا: أَنَّهَا طرف الثدي، فَأَما تَسْمِيَة الْمَقْتُول من الْخَوَارِج بالنهروان: ذَا الثدية فَلَيْسَتْ الْإِشَارَة فِيهِ إِلَى أَن لَهُ ثديا، فأضيف إِلَيْهِ وَلَا التصغير وَاقع على الثدي أَيْضا، لِأَن الثدي مُذَكّر، والمذكر لَا تلْحقهُ الْهَاء إِذا صغر، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ أَن يَده كَانَت لنَقص خلقهَا

تشبه بالقطعة من ثدي الْمَرْأَة، فأنثت عِنْد التصغير، إسوة بالمؤنث المصغر. ويعضد هَذَا القَوْل أَنه قد سمى فِي بعض الرِّوَايَات ذَا اليدية تَنْبِيها على الْمَعْنى المنبوذ بِهِ. وَذكر بَعضهم أَن التصغير وَقع على لحْمَة كَانَت ملتصقة بالثندوة تشبه الحلمة، فجَاء التَّأْنِيث من قبل اللحمة، لَا من قبل الثدي، وَالدَّلِيل على تذكير الثدي قَول الشَّاعِر: (وَصدر مشرق النَّحْر ... كَأَن ثدييه حقان) ويروي: ثدياه بِالرَّفْع على تَقْدِير إِضْمَار الْهَاء، أَي كَأَنَّهُ. وَقد قيل: إِن كَانَ جَاءَت بِمَعْنى لَكِن فَلهَذَا رفع، وَرَوَاهُ الْمبرد: كَأَن ثدييه، فَقيل لَهُ: بِأَيّ شَيْء نصبته فَقَالَ: أَرَادَ كَأَن، فأعملها مَعَ التَّخْفِيف. وَمن أوهامهم أَيْضا فِي الثدي جمعهم إِيَّاه على ثدايا، وَالصَّوَاب جمعه على ثدي،

[196] ويقولون: نجزت القصيدة بفتح الجيم، إشارة إلى انقضائها، وليس كذلك لأن معنى نجز بالفتح حضر، ومنه قولهم: بعته ناجزا

وَكَانَ الأَصْل فِيهِ ثدوي على وزن فعول، فقلبت الْوَاو يَاء لسكونها قبل الْيَاء، ثمَّ أدغمت إِحْدَى اليائين فِي الْأُخْرَى. وَمن جلة أوهامهم أَنهم إِذا ألْحقُوا لَام التَّعْرِيف بالأسماء الَّتِي أَولهَا ألف وصل نَحْو ابْن وَابْنَة واثنين سكنوا لَام التَّعْرِيف، وَقَطعُوا ألف الْوَصْل احتجاجا بقول قيس بن الخطيم: (إِذا جَاوز الْإِثْنَيْنِ سر فَإِنَّهُ ... بنث وتكثير الوشاة قمين) وَالصَّوَاب فِي ذَلِك أَن تسْقط همزَة الْوَصْل وتكسر لَام التَّعْرِيف، وَالْعلَّة فِيهِ انه لما دخل لَام التَّعْرِيف على هَذِه الْأَسْمَاء صَارَت همزَة الْوَصْل حَشْوًا، والتقى فِي الْكَلِمَة ساكنان: لَام التَّعْرِيف والحرف السَّاكِن الَّذِي بعد همزَة الْوَصْل، فَلهَذَا وَجب كسر لَام التَّعْرِيف فَأَما الْبَيْت المستشهد بِهِ فَمَحْمُول على ضَرُورَة الشّعْر، على أَن أَبَا الْعَبَّاس الْمبرد ذكر أَن الرِّوَايَة فِيهِ إِذا جَاوز الخلين، وَإِن كَانَ الْأَشْهر الراوية الأولى، حَتَّى أَن بَعضهم أَشَارَ إِلَى أَنه عَنى بالاثنين الشفتين. وَكَذَلِكَ الحكم فِيمَا يلْحق بأسماء المصادر الَّتِي أَولهَا همزَة الْوَصْل من لَام التَّعْرِيف فِي إِسْقَاط الْهمزَة وَكسر لَام التَّعْرِيف كَقَوْلِك: الاقتدار والانطلاق والاحمرار، لِلْعِلَّةِ الَّتِي تقدم ذكرهَا، وأمثلة هَذَا الْقَبِيل من المصادر تِسْعَة: ثَلَاثَة خماسية، وَهِي افتعل نَحْو اقتدر، وانفعل نَحْو انْطلق، وافعلّ نَحْو احمرّ، وَسِتَّة سداسية، وَهِي استفعل نَحْو استخرج، وافعنلل نَحْو اقعنسس، وافعوعل نَحْو اخشوشن، وافعوّل نَحْو اجلوذ، وافعال نَحْو احمارّ، وافعلل نَحْو اقشعر. [196] وَيَقُولُونَ: نجزت القصيدة بِفَتْح الْجِيم، إِشَارَة إِلَى انْقِضَائِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن معنى نجز بِالْفَتْح حضر، وَمِنْه قَوْلهم: بِعته ناجزا

[197] ويقولون في جمع جوالق: جوالقات، فيخطئون فيه لأن القياس المطرد ألا تجمع أسماء الجنس المذكر بالألف والتاء، وإنما أشذت العرب عن هذا القياس أسماء جمعتها بالألف والتاء تعويضا لأكثرها عن تكسيره، وهي حمام وساباط وسرداق وإيوان وهارون وخيال وجواب وسجل ومكتوب ومقام ومصام واوان - وهو حديدة تكون مع الرائض - وبوان بكسر الباء وضمها - وهو عمود في الخباء - وقالوا في جمع شعبان ورمضان وشوال والمحرم: شعبانات ورمضانات وشوالات ومحرمات، وجميع ذلك مما شذ عن الأصول، ولا يستعمل فيه غير المحصور المنقول.

بناجز، أَي حَاضرا بحاضر، ونقدا بِنَقْد، فَأَما إِذا كَانَ بِمَعْنى الفناء والانقضاء فالفعل مِنْهُ نجز بِكَسْر الْجِيم، ذكر ذَلِك أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ فِي كتاب الغريبين، وَالشَّاهِد عَلَيْهِ قَول النَّابِغَة: (فَكَانَ ربيعا لِلْيَتَامَى وعصمة ... فَملك أبي قَابُوس أضحى وَقد نجز) [197] وَيَقُولُونَ فِي جمع جوالق: جوالقات، فيخطئون فِيهِ لِأَن الْقيَاس المطرد أَلا تجمع أَسمَاء الْجِنْس الْمُذكر بِالْألف وَالتَّاء، وَإِنَّمَا أشذت الْعَرَب عَن هَذَا الْقيَاس أَسمَاء جمعتها بِالْألف وَالتَّاء تعويضا لأكثرها عَن تكسيره، وَهِي حمام وساباط وسرداق وإيوان وَهَارُون وخيال وَجَوَاب وسجل ومكتوب ومقام ومصام واوان - وَهُوَ حَدِيدَة تكون مَعَ الرائض - وبوان بِكَسْر الْبَاء وَضمّهَا - وَهُوَ عَمُود فِي الخباء - وَقَالُوا فِي جمع شعْبَان ورمضان وشوال وَالْمحرم: شعبانات ورمضانات وشوالات ومحرمات، وَجَمِيع ذَلِك مِمَّا شَذَّ عَن الْأُصُول، وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ غير المحصور الْمَنْقُول. وَلِهَذَا عيب على أبي الطّيب جمعه بوقا على بوقات فِي قَوْله:

(فَإِن يَك بعض النَّاس سَيْفا لدولة ... فَفِي النَّاس بوقات لَهَا وطبول) فَأَما جمعهم سَرَاوِيل على سراويلات وطريقا على طرقات فَهُوَ من قبيل جمع الْمُؤَنَّث لتأنيثها فِي بعض اللُّغَات، فَأَما جوالق فَذكر سِيبَوَيْهٍ أَنه لم يسمع عَنْهُم فِي جمعه إِلَّا جواليق، وَأَجَازَ غَيره أَن يجمع على جوالق بِفَتْح الْجِيم، كَمَا قَالُوا فِي غرانق، وَهُوَ الشَّاب الْحسن الشَّبَاب: غرانق بِالْفَتْح، وَفِي حلاحل وَهُوَ السَّيِّد الوقور: حلاحل بِالْفَتْح، وَفِي عراعر وَهُوَ رَئِيس الْقَوْم: عراعر. فَإِن قيل: كَيفَ جمع المصغر بِالْألف وَالتَّاء نَحْو ثويبات وبويبات ودريهمات، فَالْجَوَاب عَنهُ أَن المصغر بِمَنْزِلَة الْمَوْصُوف إِذْ لَا فرق بَين قَوْلك: بويب وَبَاب صَغِير، وصفات الْمُذكر الَّذِي لَا يعقل تجمع بِالْألف وَالتَّاء نَحْو السيوف المرهفات وَالْجِبَال الشامخات وَالْأسود الضاريات. وَمن حكم هَذَا النَّوْع من الْمُذكر الْمَجْمُوع بِالْألف وَالتَّاء أَن يذكر فِي بَاب الْعدَد بِلَا هَاء، كالمؤنث، فَيُقَال: كتبت ثَلَاث سجلات، وبنيت ثَلَاث حمامات، لِأَن الِاعْتِبَار فِي بَاب الْعدَد بِاللَّفْظِ دون الْمَعْنى.

[198] ومن أوهامهم، الزارية على افهامهم العاكسة معنى كلامهم أنهم لا يفرقون بين معنى نعم ومعنى بلى، فيقيمون إحداهما مقام الأخرى، وليس كذلك، لأن نعم تقع في جواب الاستخبار المجرد من النفي، فترد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام: كما قال تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم} ، لأن تقديره: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وأما بلى فتستعمل في جواب الاستخبار عن النفي، ومعناها إثبات المنفي، ورد الكلام من الجحد إلى التحقيق فهي بمنزلة بل، حتى قال بعضهم: أن أصلها

وَأَجَازَ بَعضهم أَن تلْحق الْهَاء فِي عدده اعْتِبَارا بِمَعْنى واحده لَا بِلَفْظ جمعه، فَيُقَال: ثَلَاثَة سجلات وَخَمْسَة حمامات، لِأَن وَاحِدهَا سجل وحمام، وَكِلَاهُمَا مُذَكّر، كَمَا يُقَال: ثَلَاثَة طلحات وَخَمْسَة حمزات، فَأَما حكم بطات وحمامات، فَعِنْدَ أَكْثَرهم أَن الِاعْتِبَار فِيهَا بِاللَّفْظِ، فَيُقَال: عِنْدِي ثَلَاث بطات ذُكُور، لِأَن لَفْظَة البطة مُؤَنّثَة وَإِن وَقعت على مُذَكّر، فَلهَذَا وَجب أَن يجرد الْعدَد فِيهَا من الْهَاء وَكَذَلِكَ لما كَانَ الْغَالِب على الْمَجْمُوع بِالْألف وَالتَّاء أَن يكون مؤنث الَّذِي تجرد عدده من الْهَاء لحق بِهِ مَا جمع عَلَيْهِمَا من جنس الْمُذكر، ليطرد الحكم فِيهِ، وَيسلم أَصله المنعقد من نقض يَعْتَرِيه. وَذكر بَعضهم أَنه يُرَاعِي الأسبق من الْمُفَسّرين فَإِن قَالَ: عِنْدِي ثَلَاث بطات ذُكُور، جرد الْعدَد من الْهَاء لتقدم الْمُفَسّر الْمُؤَنَّث، وان قَالَ: عِنْدِي ثَلَاثَة ذُكُور من البط أَثْبَتَت الْهَاء لتقدم الْمُفَسّر الْمُذكر. [198] وَمن أوهامهم، الزارية على افهامهم العاكسة معنى كَلَامهم أَنهم لَا يفرقون بَين معنى نعم وَمعنى بلَى، فيقيمون إِحْدَاهمَا مقَام الْأُخْرَى، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن نعم تقع فِي جَوَاب الاستخبار الْمُجَرّد من النَّفْي، فَترد الْكَلَام الَّذِي بعد حرف الِاسْتِفْهَام: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} ، لِأَن تَقْدِيره: وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا، وَأما بلَى فتستعمل فِي جَوَاب الاستخبار عَن النَّفْي، وَمَعْنَاهَا إِثْبَات الْمَنْفِيّ، ورد الْكَلَام من الْجحْد إِلَى التَّحْقِيق فَهِيَ بِمَنْزِلَة بل، حَتَّى قَالَ بَعضهم: أَن أَصْلهَا

[199] ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين قولهم: زيد يأتينا صباح مساء على الإضافة، ويأتينا صباح مساء على التركيب، وبينهما فرق يختلف المعنى فيه، وهو أن

بل، وَإِنَّمَا زيدت عَلَيْهَا الْألف ليحسن السُّكُوت عَلَيْهَا. وَحكمهَا أَنَّهَا مَتى جَاءَت بعد أَلا وَأما وألم وأليس، رفعت حكم النَّفْي وأحالت الْكَلَام إِلَى الْإِثْبَات، وَلَو وَقع مَكَانهَا نعم لحققت النَّفْي وصدقت الْجحْد، وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} : لَو أَنهم قَالُوا: نعم لكفروا، وَهُوَ صَحِيح لِأَن حكم نعم أَن ترفع الِاسْتِفْهَام، فَلَو أَنهم قَالُوا: نعم لَكَانَ تَقْدِير قَوْلهم: لست رَبنَا، وَهُوَ كفر، وَإِنَّمَا دلّ على إِيمَانهم بلَى الَّتِي يدل مَعْنَاهَا على رفع النَّفْي، فكأنهم قَالُوا: أَنْت رَبنَا، لِأَن أَنْت بِمَنْزِلَة التَّاء الَّتِي فِي لست. ويحكى أَن أَبَا بكر بن الْأَنْبَارِي حضر مَعَ جمَاعَة من الْعُدُول ليشهدوا على إِقْرَار رجل، فَقَالَ أحدهم للْمَشْهُود عَلَيْهِ: أَلا نشْهد عَلَيْك فَقَالَ: نعم، فَشَهِدت الْجَمَاعَة عَلَيْهِ، وَامْتنع أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي، وَقَالَ: أَن الرجل منع أَن يشْهد عَلَيْهِ بقوله: نعم، لِأَن تَقْدِير جَوَابه بِمُوجب مَا بَيناهُ: لَا تشهدوا عليّ. وَفِي لَفْظَة نعم لُغَتَانِ: كسر الْعين وَفتحهَا، وَقد قرئَ بهما، وَجمع بَعضهم بَين اللغتين فِي بَيت فَقَالَ: (دَعَاني عبد الله نَفسِي فداؤه ... فيالك من دَاع دَعَاني نعم نعم) [199] وَمن ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين قَوْلهم: زيد يأتينا صباح مسَاء على الْإِضَافَة، ويأتينا صباح مسَاء على التَّرْكِيب، وَبَينهمَا فرق يخْتَلف الْمَعْنى فِيهِ، وَهُوَ أَن

[200] ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين الترجي والتمني، والفرق بينهما واضح، وهو أن التمني يقع على ما يجوز أن يكون، ويجوز ألا يكون، كقولهم: ليت الشباب

المُرَاد بِهِ مَعَ الْإِضَافَة أَنه يَأْتِي فِي الصَّباح وَحده، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام يأتينا فِي صباح مسَاء. وَالْمرَاد بِهِ عِنْد تركيب الاسمين وبنيتهما على الْفَتْح أَنه يَأْتِي فِي الصَّباح والمساء وَكَانَ الأَصْل هُوَ يأتينا صباحا وَمَسَاء فحذفت الْوَاو العاطفة، وَركب الاسمان وبنيا على الْفَتْح، لِأَنَّهُ أخف الحركات، كَمَا فعل فِي الْعدَد الْمركب من أحد عشر إِلَى تِسْعَة عشر [200] وَمن ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين الترجي وَالتَّمَنِّي، وَالْفرق بَينهمَا وَاضح، وَهُوَ أَن التَّمَنِّي يَقع على مَا يجوز أَن يكون، وَيجوز أَلا يكون، كَقَوْلِهِم: لَيْت الشَّبَاب

[201] ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين العر والعر، بفتح العين وضمها، وبينهما فرق في اللغة، وهو أن العر بالفتح الجرب، وبالضم قروح تخرج في مشافر الإبل وقوائمها، وكانت الجاهلية إذا رأتها ببعير كوت مشافر الصحاح، ويرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهبت القروح من إبلهم على ما أبدعوه من أضاليل سننهم وأحكامهم، وإلى هذا أشار النابغة في قوله:

يعود، والترجي يخْتَص بِمَا يجوز وُقُوعه، وَلِهَذَا لَا يُقَال: لَعَلَّ الشَّبَاب يعود، وَلأَجل افتراقهما فِي هَذَا الْمَعْنى فرق البصريون من النَّحْوِيين بَينهمَا فِي بَاب الْجَواب بِالْفَاءِ، وأجازوا أَن تقع الْفَاء جَوَابا لِلتَّمَنِّي فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما} ، وَمنعُوا أَن تقع الْفَاء جَوَابا للترجي، وضعفوا قِرَاءَة من قَرَأَ {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} بِنصب أطلع ورجحوا قِرَاءَة من قَرَأَ بِالرَّفْع. [201] وَمن ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين العرّ والعرّ، بِفَتْح الْعين وَضمّهَا، وَبَينهمَا فرق فِي اللُّغَة، وَهُوَ أَن العر بِالْفَتْح الجرب، وبالضم قُرُوح تخرج فِي مشافر الْإِبِل وقوائمها، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة إِذا رأتها بِبَعِير كوت مشافر الصِّحَاح، ويرون أَنهم إِذا فعلوا ذَلِك ذهبت القروح من إبلهم على مَا أبدعوه من أضاليل سُنَنهمْ وأحكامهم، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّابِغَة فِي قَوْله: (وحملتني ذَنْب امْرِئ وَتركته ... كذى العرّ يكوي غَيره وَهُوَ راتع) وَمن رَوَاهُ كذى العر بِالْفَتْح، فقد وهم فِيهِ لِأَن الجرب لَا تكوى الصِّحَاح مِنْهُ. [202] وَمن ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين قَوْلهم: بكم ثَوْبك مصبوغا وبكم ثَوْبك مصبوغ، وَبَينهمَا فرق يخْتَلف الْمَعْنى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّك إِذا نصبت مصبوغا كَانَ انتصابه على الْحَال وَالسُّؤَال وَاقع عَن ثمن الثَّوْب وَهُوَ مصبوغ، وَإِن رفعت مصبوغا رفعته على أَنه خبر

[203] وكذلك لا يفرقون أيضا بين قولهم: لا رجل في الدار، ولا رجل عندك.

الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ ثَوْبك وَكَانَ السُّؤَال وَاقعا عَن أُجْرَة الصَّبْغ لَا عَن ثمن الثَّوْب. [203] وَكَذَلِكَ لَا يفرقون أَيْضا بَين قَوْلهم: لَا رجل فِي الدَّار، وَلَا رجل عنْدك. وَالْفرق بَينهمَا أَنَّك إِذا قلت: لَا رجل فِي الدَّار بِالْفَتْح، فقد عممت جنس الرِّجَال بِالنَّفْيِ، وَكَانَ كلامك جَوَاب من قَالَ لَك: هَل من رجل فِي الدَّار وَإِذا قلت: لَا رجل فِي الدَّار بِالرَّفْع، فَالْمُرَاد بِالنَّفْيِ الْخُصُوص، وَكَأَنَّهُ جَوَاب من قَالَ: هَل رجل فِي الدَّار وَلِهَذَا يجوز أَن يُقَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: لَا رجل فِي الدَّار، بل رجلَانِ، لِأَن معنى الْكَلَام تَخْصِيص نفي الْوَاحِد، وَلَا يجوز أَن يُقَال: لَا رجل فِي الدَّار بِالْفَتْح بل رجلَانِ، لتناقض الْكَلَام فِيهِ لِأَن أول الْكَلَام يَقْتَضِي عُمُوم هَذَا النَّفْي فَكيف يعقب بالإثبات [204] وَكَذَلِكَ لَا يفرقون بَين قَوْلهم: خلف الله عَلَيْك واخلف الله عَلَيْك، وَالْفرق بَينهمَا أَن لَفْظَة خلف الله عَلَيْك، تقال لمن هلك لَهُ من لَا يستعيضه، وَيكون

[205] وكذلك لا يفرقون بين معنى مخوف ومخيف، والفرق بينهما أنك إذا قلت: الشيء مخوف كان إخبارا عما حصل الخوف منه، كقولك: الأسد مخوف والطريق مخوف، وإذا قلت: مخيف كان إخبارا عما يتولد الخوف منه، كقولك: مرض مخيف، أي يتولد الخوف لمن يشاهده.

الْمَعْنى: كَانَ الله لَك خَليفَة مِنْهُ، وَلَفْظَة أخلف الله عَلَيْك تسْتَعْمل فِيمَا يُرْجَى اعتياضه، ويؤمل استخلافه. [205] وَكَذَلِكَ لَا يفرقون بَين معنى مخوف ومخيف، وَالْفرق بَينهمَا أَنَّك إِذا قلت: الشَّيْء مخوف كَانَ إِخْبَارًا عَمَّا حصل الْخَوْف مِنْهُ، كَقَوْلِك: الْأسد مخوف وَالطَّرِيق مخوف، وَإِذا قلت: مخيف كَانَ إِخْبَارًا عَمَّا يتَوَلَّد الْخَوْف مِنْهُ، كَقَوْلِك: مرض مخيف، أَي يتَوَلَّد الْخَوْف لمن يُشَاهِدهُ. [206] وَمن هَذَا النمط أَيْضا انهم لَا يفرقون بَين أَو وَأم فِي الِاسْتِفْهَام، فينزلون إِحْدَاهمَا منزلَة الْأُخْرَى، فيوهمون فِيهِ، لِأَن الِاسْتِفْهَام بِأَو يكون عَن أحد شَيْئَيْنِ، فَينزل قَوْلهم: أَزِيد عنْدك أَو عَمْرو منزلَة قَوْلهم: أأحد هذَيْن الرجلَيْن عنْدك فَهَذَا أوجب أَن تجيب عَنهُ بنعم أَو بِلَا، كَمَا لَو قيل لَك: أاحدهما عنْدك والاستفهام بِأم وضع لطلب التَّعْيِين على أحد الشَّيْئَيْنِ، فتعادل أم مَعَ الْهمزَة لَفْظَة أَي، وَلذَلِك وَجب أَن يُجَاب بِأحد الاسمين، كَمَا لَو قيل: أَيهمَا عنْدك قَالَ شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الْفضل بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ: فَكَانَ تَرْتِيب الِاسْتِفْهَام أَن يستفهم الْإِنْسَان فِي مبدأ كَلَامه بِأَو، ثمَّ يعقب بِأم، لِأَن تَقْدِير قَوْلك: أَزِيد عنْدك أم عَمْرو أَي قد علمت أَن أَحدهمَا عنْدك، فَبين لي أَيهمَا هُوَ [207] وَمِمَّا يمتزج بِهَذَا الْفَصْل أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين قَوْلهم: مَا أَدْرِي أأذن أم أَقَامَ، وَأذن أَو أَقَامَ وَالْفرق بَينهمَا أَنَّك إِذا نطقت بِأم فِي هَذَا الْكَلَام كنت شاكا فِيمَا

[208] ومن هذا القبيل أيضا أنهم لا يفرقون بين الحث والحض، وقد فرق بينهما الخليل بن أحمد، فقال: الحث يكون في السير والسوق وفي كل شيء، والحض يكون فيما عدا السير والسوق، نحو قوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} .

أَتَى بِهِ من الْأَذَان أَو الْإِقَامَة، وَإِذا أتيت بِأَو فقد حققت أَنه أَتَى بالأمرين، إِلَّا انه لسرعة مَا قرب بَينهمَا صَار بِمَنْزِلَة من لم يُؤذن وَلم يقم، وَيكون مَجِيء أَو هَاهُنَا للتقريب. [208] وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين الْحَث والحض، وَقد فرق بَينهمَا الْخَلِيل بن أَحْمد، فَقَالَ: الْحَث يكون فِي السّير والسوق وَفِي كل شَيْء، والحض يكون فِيمَا عدا السّير والسوق، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} . [209] وَكَذَلِكَ لَا يفرقون بَين النعم والأنعام وَقد فرقت بَينهمَا الْعَرَب. فَجعلت النعم اسْما لِلْإِبِلِ خَاصَّة وللماشية الَّتِي فِيهَا الْإِبِل وَقد تذكر وتؤنث، وَجعلت الْأَنْعَام اسْما لأنواع الْمَوَاشِي من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، حَتَّى أَن بَعضهم أَدخل فِيهَا الظباء وحمر الْوَحْش، تعلقا بقوله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} . [210] وَمن ذَلِك توهمهم أَن معنى بَات فلَان، أَي نَام. وَلَيْسَ كَذَلِك بل معنى

[221] ومن ذلك توهمهم أن القينة المغنية خاصة، وهي في كلام العرب الأمة، مغنية كانت أو غير مغنية، وعلى ذلك قول زهير:

بَات أظلهُ الْمبيت، وأجنه اللَّيْل، سَوَاء نَام أم لم ينم، يدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما} ، وَيشْهد بِهِ أَيْضا قَول ابْن رميض. (باتوا نياما وَابْن هِنْد لم ينم بَات يقاسيها غُلَام كالزلم لَيْسَ براعي إبل وَلَا غنم) فَأخْبر عَنهُ أَنه بَات متصديا لحفظها مِمَّن هم بخرابتها أَي سرقتها لِأَن الخرابة اسْم يخْتَص بِسَرِقَة الْإِبِل، والخارب المتلصص عَلَيْهَا خَاصَّة. [221] وَمن ذَلِك توهمهم أَن الْقَيْنَة الْمُغنيَة خَاصَّة، وَهِي فِي كَلَام الْعَرَب الْأمة، مغنية كَانَت أَو غير مغنية، وعَلى ذَلِك قَول زُهَيْر: (رد القيان جمال الحيّ فاحتملوا ... إِلَى الظهيرة أَمر بَينهم لبك)

[212] ومن ذلك توهمهم أن الراحلة اسم يختص بالناقة النجيبة، وليس كذلك بل الراحلة تقع على الجمل والناقة، والهاء فيها هاء المبالغة، كالتي في داهية وراوية، وإنما سميت راحلة لأنها ترحل، أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كما

وَالْأَصْل فِي اشتقاق الْقَيْنَة من قنت الشَّيْء أقينه قينا إِذا لممته، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (ولي كبد مقروحة قد بدا بهَا ... صدوع الْهوى لَو كَانَ قين يقينها) وَمن هَذَا سمي الصواع والحداد قينا وَسميت الماشطة أَيْضا قينة. [212] وَمن ذَلِك توهمهم أَن الرَّاحِلَة اسْم يخْتَص بالناقة النجيبة، وَلَيْسَ كَذَلِك بل الرَّاحِلَة تقع على الْجمل والناقة، وَالْهَاء فِيهَا هَاء الْمُبَالغَة، كَالَّتِي فِي داهية وراوية، وَإِنَّمَا سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل، أَي يشد عَلَيْهَا الرحل فَهِيَ فاعلة بِمَعْنى مفعولة، كَمَا

[213] ومن هذا النمط أيضا توهمهم أن البهيم نعت يختص بالأسود، لاستماعهم: ليل بهيم، وليس كذلك، بل البهيم اللون الخالص الذي لا يخالطه لون آخر، ولا يمتزج به شية غير شيته، ولذلك لم يقولوا لليل المقمر: ليل بهيم، لاختلاط ضوء القمر به، فعلى مقتضى هذا الكلام يجوز أن يقال: أبيض بهيم وأشقر بهيم.

جَاءَ فِي التَّنْزِيل: {فِي عيشة راضية} بِمَعْنى مرضية. وَقد ورد فَاعل بِمَعْنى معفول فِي عدَّة مَوَاضِع من الْقُرْآن كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم} أَي لَا مَعْصُوم. وَكَقَوْلِه سُبْحَانَهُ: {من مَاء دافق} أَي مدفوق، وَكَقَوْلِه عز اسْمه {أَنا جعلنَا حرما آمنا} أَي مَأْمُونا فِيهِ. وَجَاء أَيْضا مفعول بِمَعْنى فَاعل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حِجَابا مَسْتُورا} ، أَي ساترا {كَانَ وعده مأتيا} أَي آتِيَا. وَقد يكنى عَن الْفِعْل بالراحلة لكَونهَا مَطِيَّة الْقدَم وإليها أَشَارَ الشَّاعِر الملغز بقوله: (رواحلنا سِتّ وَنحن ثَلَاثَة ... نجنبهن المَاء فِي كل مورد) [213] وَمن هَذَا النمط أَيْضا توهمهم أَن البهيم نعت يخْتَص بالأسود، لاستماعهم: ليل بهيم، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل البهيم اللَّوْن الْخَالِص الَّذِي لَا يخالطه لون آخر، وَلَا يمتزج بِهِ شية غير شيته، وَلذَلِك لم يَقُولُوا لِليْل المقمر: ليل بهيم، لاختلاط ضوء الْقَمَر بِهِ، فعلى مُقْتَضى هَذَا الْكَلَام يجوز أَن يُقَال: أَبيض بهيم وأشقر بهيم. وَجَاء فِي الْآثَار: يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة بهما، أَي على صفة وَاحِدَة من صِحَة الأجساد والسلامة من الْآفَات، ليتم لَهُم بذلك خُلُود الْأَبَد والبقاء السرمد.

[214] ومنه أيضا توهمهم أن السوقة اسم لأهل السوق، وليس كذلك، بل السوقة الرعية، سموا بذلك، لأن الملك يسوقهم إلى إرادته، ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه، فيقال: رجل سوقة وقوم سوقة، كما قالت الحرقة بنت النعمان:

[214] وَمِنْه أَيْضا توهمهم أَن السوقة اسْم لأهل السُّوق، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل السوقة الرّعية، سموا بذلك، لِأَن الْملك يسوقهم إِلَى إِرَادَته، وَيَسْتَوِي لفظ الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة فِيهِ، فَيُقَال: رجل سوقة وَقوم سوقة، كَمَا قَالَت الحرقة بنت النُّعْمَان: (فَبينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصف) فَأَما أهل السُّوق فهم السوقيون واحدهم سوقيّ، والسوق فِي كَلَام الْعَرَب تذكر وتؤنث. [215] وَمن أوهامهم أَن هوى لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الهبوط، وَلَيْسَ كَذَلِك بل مَعْنَاهُ الْإِسْرَاع الَّذِي قد يكون فِي الصعُود والهبوط، وَفِي حَدِيث الْبراق: فَانْطَلق يهوي بِهِ أَي يسْرع. وَذكر أهل اللُّغَة أَن مصدر الصعُود الْهوى بِضَم الْهَاء ومصدر الهبوط الْهوى بِفَتْحِهَا، فَأَما قَوْله تَعَالَى: {كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين} فَقيل فِيهِ: ذهبت بِهِ، وَقيل:

[216] فمن ذلك أنهم يكتبون بسم الله، بحذف الألف أينما وقع، وحيثما اعترض، فيوهمون فيه، لأن الألف إنما حذفت منه إذا كتب في فواتح السور وأوائل الكتب لكثرة استعماله في كل ما يبدأ به ويشرع فيه، وتقدير الكلام في البسملة المصدرة: أبدأ باسم الله وأفتتح باسم الله، فترك إظهار هذا الفعل إنما لدلالة الحال الحاضرة عليه، فإن أبرز وجب إثبات الألف كما أثبتت في قولك: إقرأ باسم ربك، فسبح باسم ربك.

استمالته بالإضلال واختلبته بالإغواء. قَالَ الشَّيْخ الرئيس أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَليّ رَحمَه الله: وَقد عثرت لجَماعَة من الكبراء على أَوْهَام فِي الهجاء عدلوا فِي بَعْضهَا عَن رسومه المقررة، وَلم يفرقُوا فِي بَعْضهَا بَين مواقع اللَّفْظَة المستطردة، فَرَأَيْت أَن أكشف عَن عوارها وأنبه على التعراي من عارها، لتتنوع فَوَائِد هَذَا الْكتاب، وتتجلى بِهِ أَكثر الشّبَه عَن الْكتاب. [216] فَمن ذَلِك أَنهم يَكْتُبُونَ بِسم الله، بِحَذْف الْألف أَيْنَمَا وَقع، وحيثما اعْترض، فيوهمون فِيهِ، لِأَن الْألف إِنَّمَا حذفت مِنْهُ إِذا كتب فِي فواتح السُّور وأوائل الْكتب لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله فِي كل مَا يبْدَأ بِهِ ويشرع فِيهِ، وَتَقْدِير الْكَلَام فِي الْبَسْمَلَة المصدرة: أبدأ باسم الله وأفتتح باسم الله، فَترك إِظْهَار هَذَا الْفِعْل إِنَّمَا لدلَالَة الْحَال الْحَاضِرَة عَلَيْهِ، فَإِن أبرز وَجب إِثْبَات الْألف كَمَا أَثْبَتَت فِي قَوْلك: إقرأ باسم رَبك، فسبح باسم رَبك. وَقد رَأَيْت أحد الْأَعْيَان المتشبعين بِدَعْوَى الْبَيَان كتب فِي صدر كِتَابه: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أستفتح، وَبِه أستنحج، فَحذف الْألف من باسم الله مَعَ إِظْهَار الْفِعْل، وَقد وهم فِي حذفه، وَأَبَان عَن قُصُور الاستبصار وَضَعفه، وَإِنَّمَا كَانَ يسوغ لَهُ حذف الْألف لَو أَنه عطف بِالْوَاو على الْبَسْمَلَة الْمُجَرَّدَة، كَمَا يكْتب قوم بعد الْبَسْمَلَة: وَبِه أستعين، فَيكون تَقْدِير الْكَلَام: أفْتَتح باسم الله وَبِه أستعين، نعم وَقد منع أَكثر الْعلمَاء بأوضاع الهجاء حذف هَذِه الْألف إِلَّا عِنْد الْإِضَافَة إِلَى اسْم الله تَعَالَى خَاصَّة، فَإِن أضيف إِلَى غَيره من أَسْمَائِهِ الْحسنى، نَحْو الرَّحْمَن والقهار وَجب إِثْبَات الْألف فِي كتبك باسم الرَّحْمَن وباسم القهار، وَعلل فِي ذَلِك بقلة مدَار هَاتين اللفظتين ونظائرهما فِي الْكَلَام، وَعند افْتِتَاح الْأَعْمَال.

[217] ومن ذلك أنهم يحذفون الألف من ابن في كل موضع يقع بعد اسم أو كنية أو لقب، وليس ذلك مطردا على ما توهموه، ولا يوجب حذف الألف ما تخيلوه، لأنه إنما تحذف الألف من ابن إذا وقع صفة بين علمين من أعلام الأسماء أو الكنى أو الألقاب ليؤذن بتنزله مع الاسم قبله بمنزلة الاسم الواحد لشدة اتصال الصفة بالموصوف، وحلوله محل الجزء منه ولهذه العلة حذف التنوين من الاسم قبله، فقيل علي بن محمد، كما يحذف من الأسماء المركبة في رامهرمز وبعلبك، فما عدا هذا الموطن وجب إثبات الألف فيه، وذلك في خمسة مواطن.

[217] وَمن ذَلِك أَنهم يحذفون الْألف من ابْن فِي كل مَوضِع يَقع بعد اسْم أَو كنية أَو لقب، وَلَيْسَ ذَلِك مطردا على مَا توهموه، وَلَا يُوجب حذف الْألف مَا تخيلوه، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تحذف الْألف من ابْن إِذا وَقع صفة بَين علمين من أَعْلَام الْأَسْمَاء أَو الكنى أَو الألقاب ليؤذن بتنزله مَعَ الِاسْم قبله بِمَنْزِلَة الِاسْم الْوَاحِد لشدَّة اتِّصَال الصّفة بالموصوف، وحلوله مَحل الْجُزْء مِنْهُ ولهذه الْعلَّة حذف التَّنْوِين من الِاسْم قبله، فَقيل عَليّ بن مُحَمَّد، كَمَا يحذف من الْأَسْمَاء المركبة فِي رامهرمز وبعلبك، فَمَا عدا هَذَا الموطن وَجب إِثْبَات الْألف فِيهِ، وَذَلِكَ فِي خَمْسَة مَوَاطِن. أَحدهمَا إِذا أضيف ابْن إِلَى مُضْمر كَقَوْلِك: هَذَا زيد ابْنك. وَالثَّانِي إِذا أضيف إِلَى غير أَبِيه كَقَوْلِك: المعتضد بِاللَّه ابْن أخي الْمُعْتَمد على الله. وَالثَّالِث إِذا نسب إِلَى الْأَب الْأَعْلَى، كَقَوْلِك أَبُو الْحسن ابْن الْمُهْتَدي بِاللَّه. وَالرَّابِع إِذا عدل بِهِ عَن الصّفة إِلَى الْخَبَر، كَقَوْلِك: إِن كَعْبًا ابْن لؤَي. وَالْخَامِس إِذا عدل بِهِ عَن الصّفة أَيْضا إِلَى الِاسْتِفْهَام، كَقَوْلِك: هَل تَمِيم ابْن مرّة وَذَلِكَ أَن ابْنا فِي الْخَبَر والاستفهام بِمَنْزِلَة الْمُنْفَصِل عَن الِاسْم الأول، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام أَن كَعْبًا هُوَ ابْن لؤَي وَهل تَمِيم هُوَ ابْن مرّة فأثبتت الْألف فِيهِ كَمَا أَثْبَتَت فِي حَالَة الِاسْتِئْنَاف بِهِ. وَكَذَلِكَ يَكْتُبُونَ الرَّحْمَن بِحَذْف الْألف فِي كل موطن، وأنما تحذف الْألف مِنْهُ عِنْد دُخُول لَام التَّعْرِيف عَلَيْهِ فَإِن تعرى مِنْهَا، كَقَوْلِك: يَا رحمان الدُّنْيَا وَرَحِيم الْآخِرَة أَثْبَتَت الْألف فِيهِ.

[218] ومن ذلك أنهم يكتبون كلما موصولة في كل موطن، والصواب أن تكتب موصولة إذا كانت بمعنى كل وقت، كقوله تعالى: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} .

ويماثل ذَلِك اختيارهم أَن يكْتب الْحَارِث بِحَذْف الْألف مَعَ لَام التَّعْرِيف وبإثباتها عِنْد التنكير لِئَلَّا يشْتَبه بحرث. وَمن قبيل مَا تثبت الْألف فِيهِ فِي موطن، وتحذف فِي موطن: صَالح وَمَالك وخَالِد، فَتثبت الْألف فِيهَا، إِذا وَقعت صِفَات كَقَوْلِك: زيد صَالح، وَهَذَا مَالك الدَّار، وَالْمُؤمن خَالِد فِي الْجنَّة. وتحذف الْألف مِنْهَا إِذا جعلت أَسمَاء مَحْضَة. وَمن شذور هَذَا السمط أَيْضا أَنهم يَكْتُبُونَ هاذاك وهاتاك بِحَذْف الْألف، مقايسة على حذفهَا فِي هَذَا وَهَذِه، ويوهمون فِيهِ، لِأَن هَا الَّتِي للتّنْبِيه لما وصلت بذا جعلا كالشيء الْوَاحِد، فحذفت الْألف من هَا لهَذِهِ الْعلَّة، فَإِذا اتَّصَلت بِالْكَلِمَةِ كَاف الْخطاب اسْتغنى بهَا عَن حرف التَّنْبِيه، فَوَجَبَ لذَلِك فَصله عَن اسْم الْإِشَارَة واثبات الْألف فِيهِ. فَأَما ثَلَاث، فَإِن أفرد كَقَوْلِك: بِعْت من النوق ثَلَاثًا كتب بِالْألف لاتقاء اللّبْس فِيهِ بِثلث، وَإِن أضيف أَو وصف كَقَوْلِك: حلبت ثلث نُوق، وَمَا فعلت النوق الثُّلُث، كتب بِحَذْف الْألف لارْتِفَاع اللّبْس فِيهِ، وَكَذَلِكَ تكْتب ثلثة وثلثين بِحَذْف الْألف لِأَن عَلامَة الْجمع الملتحقة بآخرهما منعت من إِيقَاع اللّبْس فيهمَا. وَمِمَّا يوهمون فِيهِ كتبهمْ الْحَيَاة وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة بِالْوَاو فِي كل موطن، وَلَيْسَ ذَلِك على عُمُومه لوُجُوب إِثْبَات الْألف فِيهَا عِنْد الْإِضَافَة وَمَعَ التَّثْنِيَة، كَقَوْلِك: حياتك وزكاتك وصلاتك وصلاتان وزكاتان، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِأَن الْإِضَافَة والتثنية فرعان على الْمُفْرد، وَقد يجوز فِي الأَصْل مَا لَا يجوز فِي الْفَرْع. [218] وَمن ذَلِك أَنهم يَكْتُبُونَ كلما مَوْصُولَة فِي كل موطن، وَالصَّوَاب أَن تكْتب مَوْصُولَة إِذا كَانَت بِمَعْنى كل وَقت، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} . وَإِن وَقعت مَا المقترنة بهَا موقع الَّذِي كتبت مفصولة، نَحْو كل مَا

عنْدك حسن، لِأَن تَقْدِيره: كل الَّذِي عنْدك حسن، وَكَذَلِكَ حكم إِن وَأَيْنَ وأيّ، إِذا اتَّصَلت بِهن مَا الَّتِي هِيَ بِمَعْنى الَّذِي كتبن مفصولة، كَقَوْلِك: إِن مَا عنْدك حسن، وَأَيْنَ مَا كنت تعدني وأيّ مَا عنْدك أفضل لِأَن تَقْدِير الْكَلَام: إِن الَّذِي عنْدك حسن، وَأَيْنَ الَّذِي كنت تعدني وأيّ الَّذِي عنْدك أفضل وَإِن وَقعت مَا موقع الصِّلَة، أَو كَافَّة لأنّ عَن الْعَمَل كتبت مَوْصُولَة، كَمَا كتبت فِي قَوْله تَعَالَى: {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت} {إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} ، لِأَن تَقْدِير الْكَلَام أَن الله إِلَه وَاحِد، وأيّ الْأَجَليْنِ قضيت، وَأَيْنَ تَكُونُوا. وَأما حَيْثُمَا فالاختيار أَن تكْتب مَوْصُولَة، لِأَن مَا لَا تقع بعْدهَا موقع الِاسْم، وَكَذَلِكَ طالما وقلما لِأَن مَا فيهمَا صلَة، بِدَلِيل شبههما بربما فِي أَن الْفِعْل لم يكن يَلِي إِحْدَاهمَا إِلَّا بعد اتصالهما بِمَا، وَقد جوز فِي نعما وبئسما أَن تكتبا مفصولتين وموصولتين إِلَّا أَن الِاخْتِيَار فِي نعما الْوَصْل، لالتقاءه الحرفين المتماثلين فِيهَا بِخِلَاف بئس مَا.

وَأما إِذا التحقت مَا بِلَفْظَة: فِي فَإِن كَانَت للاستفهام حذفت ألفها، وَكتب: فيمَ رغبت وفيم جِئْت. وَإِن كَانَت بِمَعْنى الَّذِي وصلت وَأثبت ألفها، فتكتب: رغبت فِيمَا رغبت. وتكتب عَمَّا مَوْصُولَة كَمَا كتبت فِي قَوْله تَعَالَى: {عَمَّا قَلِيل} إِلَّا أَن تكون استفهامية كمجيئها فِي قَوْله تَعَالَى: {عَم يتساءلون} فتكتب بِحَذْف الْألف. وتكتب كَيْمَا مَوْصُولَة، وكي لَا مفصولة لِأَن مَا الْمُتَّصِلَة بهَا لم تغير معنى الْكَلَام وَلَا الملتحقة بهَا غيرت مَعْنَاهَا. وَأما من إِذا اتَّصَلت بِلَفْظَة كل أَو بِلَفْظَة مَعَ لم تكْتب إِلَّا مفصولة، وَإِنَّمَا كتبت مَوْصُولَة فِي عَمَّن وَمِمَّنْ لأجل إدغام النُّون فِي الْمِيم، كَمَا أدغمت فِي عَمَّا، وَفِي أَن الشّرطِيَّة إِذا وصلت بِمَا فَصَارَت أما. وَمن ذَلِك أَنهم إِذا ألْحقُوا لَا بِأَن حذفوا النُّون فِي كل موطن، وَلَيْسَ ذَلِك على عُمُومه، بل الصَّوَاب أَن يعْتَبر موقع أَن، فان وَقعت بعد أَفعَال الرَّجَاء وَالْخَوْف والإرادة كتبت بإدغام النُّون، نَحْو رَجَوْت أَلا تهجر، وَخفت أَلا تفعل، وَأَرَدْت أَلا تخرج، وَإِنَّمَا أدغمت النُّون فِي هَذَا الموطن لاخْتِصَاص أَن المخففة فِي الأَصْل بِهِ ووقوعها عاملة فِيهِ، فاستوجبت إدغام النُّون بذلك، كَمَا تُدْغَم النُّون فِي أَن الشّرطِيَّة عِنْد دُخُول لَا عَلَيْهَا، وَثُبُوت حكم عَملهَا على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل دُخُولهَا. فتكتب: أَلا تفعل كَذَا يكن كَذَا. وَإِن وَقعت أَن بعد أَفعَال الْعلم وَالْيَقِين أظهرت النُّون لِأَن أَصْلهَا فِي هَذَا الموطن أَن الْمُشَدّدَة

[219] ومن أوهامهم في الهجاء أنهم لا يفرقون بين ما يجب أن يكتب بواو واحدة وما يكتب بواوين، ولا يميزون بين هذين النوعين.

وَقد خففت، وَذَلِكَ فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا} وَكَذَلِكَ إِن وَقع بعد لَا اسْم، نَحْو: علمت أَن لَا خوف عَلَيْهِ، لِأَن التَّقْدِير فِي الموطنين أَنه لَا يرجع إِلَيْهِم قولا، وانه لَا خوف عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ وُقُوعهَا بعد أَفعَال الظَّن والمخيلة جَازَ إِثْبَات النُّون وإدغامها لاحتمالها فِي هَذَا الموطن أَن تكون هِيَ الْخَفِيفَة فِي الأَصْل والمخففة من الثَّقِيلَة، وَلِهَذَا قرئَ: {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} بِالرَّفْع وَالنّصب، فَمن نصب بهَا أدغم النُّون فِي الْكِتَابَة، وَمن رفع أظهرها. وَكَذَلِكَ لَا يفرقون فِي الْكِتَابَة بَين موطني لَا الدَّاخِلَة على هَل وبل، وَقد فرق بَينهمَا الْعلمَاء بأصول الهجاء، فَقَالُوا: تكْتب هلا مَوْصُولَة وبل لَا مفصولة، وعللوا ذَلِك بِأَن لَا لم تغير معنى بل لما دخلت عَلَيْهَا، وغيرت معنى هَل، فنقلتها من أدوات الِاسْتِفْهَام إِلَى حيّز التحضيض، فَلذَلِك ركبت مَعهَا، وجعلتا بِمَنْزِلَة الْكَلِمَة الْوَاحِدَة. [219] وَمن أوهامهم فِي الهجاء أَنهم لَا يفرقون بَين مَا يجب أَن يكْتب بواو وَاحِدَة وَمَا يكْتب بواوين، وَلَا يميزون بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ. وَالِاخْتِيَار عِنْد أَرْبَاب هَذَا الْعلم أَن يكْتب دَاوُد وَطَاوُس وناوس بواو وَاحِدَة للتَّخْفِيف، وَكَذَلِكَ يكْتب مسؤول ومشؤوم ومسؤوم بواو وَاحِدَة للاستخفاف أَيْضا، وَأَن يكْتب ذَوُو بواوين لِئَلَّا يشْتَبه بِكِتَابَة

وَاحِدَة، وَهُوَ ذُو، وَأَن يكْتب بواوين مدعوون معزوون ونظائرهما مِمَّا لحقته وَاو الْجمع وَقبل الْوَاو الأولى مِنْهُ ضمة، فَأَما سؤول ويؤوس وشؤون ورؤوس وموؤودة، فَالْأَحْسَن أَن يكتبن بواوين، وَمِنْهُم من كتبهَا بواو وَاحِدَة. وَأما قبيل الْأَفْعَال فتكتب جاؤا وباؤا وشاؤا ونظائرها بواو وَاحِدَة، وَجوز أَن يكْتب {يلوون ألسنتهم} و {هَل يستوون} بواوين وواو وَاحِدَة، فان اجْتمع فِي الْكَلِمَة واوان وانفتحت الْوَاو الأولى مِنْهَا نَحْو احتووا واستووا واكتووا ولووا رؤوسهم فأووا إِلَى الْكَهْف كتبت بواوين لِأَن بَين الواوين ألفا محذوفة، إِذْ أصل الْكَلِمَة قبل التحاق ضمير الْجمع بهَا احتوى واستوى واكتوى، فَكتبت بواوين لتدل الْوَاو الثَّانِيَة على الْألف المحذوفة. وَنَظِير ذَلِك أَنه يكْتب فوعل من وارى وشاور وعاود وطاوع بواوين، نَحْو ووري وشوور وعوود وطووع، ليعلم بذلك أَن إِحْدَى الواوين أَصْلِيَّة وَالْأُخْرَى المنقلبة عَن ألف فَاعل، وَكَذَلِكَ يجب إبرازها فِي اللَّفْظ بِأَن يلبث على الأولى مِنْهَا لبثة مَا، ثمَّ يلفظ بِالثَّانِيَةِ، وعَلى هَذَا ينشد بَيت جرير: (بَان الخليط وَلَو طووعت مَا بانا ... وَقَطعُوا من جبال الْوَصْل أقرانا) وَمن أنْشدهُ وَلَو طوعت بِالْإِدْغَامِ كَانَ لاحنا كَمَا أَن من كتبهَا بواو وَاحِدَة فقد اخطأ خطأ فَاحِشا شائنا.

[220] ومن أوهامهم في الهجاء أنهم يخبطون خبط العشواء فيما يكتب من الأسماء المقصورة بالألف وفيما يكتب بالياء.

[220] وَمن أوهامهم فِي الهجاء أَنهم يخبطون خبط العشواء فِيمَا يكْتب من الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة بِالْألف وَفِيمَا يكْتب بِالْيَاءِ. وَالْحكم فِيهِ أَن تعْتَبر الْألف الَّتِي فِي الِاسْم الْمَقْصُور الثلاثي، فَإِن كَانَت منقلبة عَن وَاو كتب ذَلِك الِاسْم بِالْألف، وَإِن كَانَت من ذَوَات الْيَاء كتب بِالْيَاءِ، وَهَذَا الحكم أصل لَا ينكسر قِيَاسه، وَلَا يهي أساسه، وَالْمُعْتَبر فِيهِ بالتثنية وَالْجمع وبتصرف الْفِعْل الْمَأْخُوذ مِنْهُ، فعلى هَذَا يكْتب الْعَصَا والقفا بِالْألف لِقَوْلِك فِي الْفِعْل مِنْهُمَا: عصوت وقفوت، وَفِي تثنيتهما عصوان وقفوان، وَيكْتب الْحمى والحصى بِالْيَاءِ لِقَوْلِك فيهمَا: حميت وحصيت، ولقولك فِي تَثْنِيَة حمى: حميان، وَفِي جمع حَصى: حَصَيَات، وَإِن زَاد الْمَقْصُور على الثلاثي كتب بِالْيَاءِ على كل حَال، نَحْو ملهى ومرمى ومبنى وَمعلى ومعافى ومنادى ومثنى إِلَّا أَن يكون قبل آخِره يَاء، فَيكْتب بِالْألف لِئَلَّا يجمع بَين يائين وَذَلِكَ نَحْو الْعليا وَالدُّنْيَا والمحيا والرؤيا، وَلم يشذ مِنْهُ إِلَّا يحيى إِذا كَانَ اسْما فَإِنَّهُ يكْتب بِالْيَاءِ ليفرق بَينه ويبن يحيا الْوَاقِع فعلا. وَإِنَّمَا كتب جَمِيع الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة إِذا تجاوزت الثلاثي بِالْيَاءِ، وَلم يفرق فِيهَا بَين مَا أَصله الْوَاو نَحْو ملهى، وَمَا أَصله الْيَاء نَحْو مرمى لِأَن جمعيهما يثنى بِالْيَاءِ وَلم يشذ مِنْهُ إِلَّا

قَوْلهم للمتوعد: جَاءَ ينفض مذرويه، فثنوا مذرى وَهُوَ طرف الالية بِالْوَاو، لأجل أَنه حِين لم يلفظ بمفرده ميز عَن نَوعه. وَحكم مَا يكْتب من الْأَفْعَال المعتلة بِالْألف وَالْيَاء مثل حكم الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة، ومعتبره أَنه إِذا كَانَ الْفِعْل ثلاثيا رَددته إِلَى نَفسك، فَإِن وَقعت الْيَاء قبل تَاء الْمُتَكَلّم كتب بِالْيَاءِ نَحْو قضى وَحمى بِدَلِيل قَوْلك: قضيت وحميت، وَإِن وَقعت الْوَاو قبل تَاء الْمُتَكَلّم كتبت بِالْألف نَحْو رجا وَعدا، لِقَوْلِك: رَجَوْت وعدوت، ولهذه الْعلَّة كتب جَمِيع مَا زَاد من الْأَفْعَال المعتلة على الثلاثي بِالْيَاءِ، نَحْو أوفى وَاشْترى واستقصى، لِقَوْلِك فِيهَا: أوفيت واشتريت واستقصيت، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون قبل آخِره يَاء فَيكْتب بِالْألف، لِئَلَّا يوالى بَين يائين، وَذَلِكَ فِي مثل: هُوَ يعيا بِالْأَمر، وَقد استحيا الرجل. فَأَما كلا وكلتا فَعِنْدَ النَّحْوِيين أَن كلا تكْتب بِالْألف إِلَّا إِذا أضيفت إِلَى مُضْمر فِي حالتي النصب والجر كَقَوْلِك: رَأَيْت الرجلَيْن كليهمَا، ومررت بِالرجلَيْنِ كليهمَا، وَأَن كلتا

[221] ومما يجب أن يكتب موصولين ثلثمائة وستمائة، والعلة في ذلك أن ثلثمائة حذفت ألفها فجعل الوصل فيها عوضا من الحذف، وأن ستمائة كان أصلها سدسا فقلبت السين تاء، وجعل الوصل عوضا من الإدغام.

تكْتب بِالْيَاءِ إِلَّا أَن تُضَاف إِلَى مُضْمر فِي حَالَة الرّفْع، كَقَوْلِك: جَاءَت الهندان كلتاهما، وَإِنَّمَا فرق بَين كلا وكلتا، لِأَن كلتا ربَاعِية، وَأَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة سَاوَى بَينهمَا، وأجرى كِتَابَة كلتا مجْرى كِتَابَة كلا على مَا بَين من قبل. [221] وَمِمَّا يجب أَن يكْتب موصولين ثلثمِائة وسِتمِائَة، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن ثلثمِائة حذفت ألفها فَجعل الْوَصْل فِيهَا عوضا من الْحَذف، وَأَن سِتّمائَة كَانَ أَصْلهَا سدسا فقلبت السِّين تَاء، وَجعل الْوَصْل عوضا من الْإِدْغَام. [222] وَمِمَّا عدلوا فِيهِ عَن رسوم الْكِتَابَة وَسنَن الْإِصَابَة أنني وجدت كتابا أنشيء عَن ديوَان الْخلَافَة القادرية إِلَى أحد الْأُمَرَاء البويهية، وَقد كتب المنشئ فِي أَوله وَآخره: سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته بتنكير السَّلَام فِي الطَّرفَيْنِ والتسوية بَينهمَا فِي الموطنين، وَالِاخْتِيَار عِنْد جلة الْكتاب المبرزين وأعلام الْكِتَابَة المميزين أَن يكْتب فِي صدر الْكتاب مُنْكرا، وَفِي آخِره مُعَرفا لِأَن الِاسْم النكرَة إِذا أُعِيد ذكره وَجب تَعْرِيفه كَمَا فِي الْقُرْآن: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} ولهذه الْعلَّة اخْتَار بعض الْفُقَهَاء أَن يُتْلَى فِي تحيات الصَّلَاة السَّلَام الأول مُنْكرا وَالثَّانِي مُعَرفا. قَالَ الشَّيْخ الرئيس الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: فَهَذِهِ الأوهام فِي الهجاء أثبتها عَن العيان والتقطتها من كتب جمَاعَة من الْأَعْيَان، وَلَعَلَّ خواطرهم هفت

ملحق مفردات أوهام الخواص

بهَا نِسْيَانا، وأقلامهم خطرفت بهَا طغيانا، على أَنِّي لم أقصد بِمَا ألفته من هَذَا الْكتاب، وَفتحت بِهِ من مغالق الصَّوَاب، أَن أندد بهفوات الأوهام، وعثرات الأقلام، وأنى يعْتَمد ذَلِك لَبِيب، وَهل يتبع المعايب إِلَّا معيب (وَمن ظن مِمَّن يلاقي الحروب ... بِأَن لن يصاب فقد ظن عَجزا) وَأَنا أَرْجُو أَن يَقع هَذَا الْكتاب إِلَى من يستر المعيبة، ويدرأ بِالْحَسَنَة السَّيئَة، وَإِن أكفى إفراط من ينْطق عَن الْهوى، ويجهل أَن لكل امْرِئ مَا نوى. وَمن الله تَعَالَى أستلهم التَّوْفِيق للمقال، الْمُتَعَلّق بالإصابة للفعال، المجتلب حسن الإثابة، إِنَّه بكرمه ولي الْإِجَابَة. تمّ الْكتاب بِحَمْد الله تَعَالَى ويليه مُلْحق مُفْرَدَات أَوْهَام الْخَواص

باب الألف

بَاب الْألف [1] أرب: من قَبِيح أوهامهم أَنهم يجمعُونَ الإرب، وَهُوَ الْعُضْو، على إرب فَيَقُولُونَ: قطعته إربا إربا (بِفَتْح الرَّاء) ، أَي أَجزَاء، فيقعون فِي الْوَهم وَالصَّوَاب أَن يُقَال: قطعته إربا إربا (بتسكين الرَّاء) ، أَي عضوا عضوا، لِأَن الإرب يجمع على آرَاب وَلَيْسَ على إرب. ... وَمن أوهامهم أَنهم يطلقون على مَكَان عرض الْأَشْيَاء، معرض (بِفَتْح الرَّاء) ، وعَلى مَكَان اللِّقَاء، موعد (بِفَتْح الْعين) ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: معرض وموعد (بخفض الرَّاء وَالْعين) ، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن اسْم الزَّمَان وَالْمَكَان يُؤْتى بهما من الْفِعْل الثلاثي على وزن مفعل، إِذا كَانَ الْفِعْل صَحِيحا مكسور الْعين فِي الْمُضَارع، نَحْو: عرض يعرض معرض، أَو إِن كَانَ الْفِعْل مِثَالا واويا، نَحْو: وعد يعد موعد. [2] أم س: وَيَقُولُونَ: رَأَيْته أمسا، تَشْبِيها بقَوْلهمْ: رَأَيْته البارحة، فيوهمون لِأَن لَفْظَة أمس الَّتِي تَعْنِي

الْيَوْم الَّذِي قبل يَوْمك مُبَاشرَة لَا تبنى على الْفَتْح بِحَال إِن كَانَت بِهَذَا الْمَعْنى. وللعرب فِيهَا ثَلَاث لُغَات: أولاها: الْبناء على الْكسر مُطلقًا، وَهُوَ لُغَة أهل الْحجاز، فَيَقُولُونَ: مضى أمس بِمَا فِيهِ وزرته أمس، وَعَجِبت من أمس: أَي بِالرَّفْع وَالنّصب والجر على التوالي. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (منع الْبَقَاء تقلب الشَّمْس ... وطلوعها من حَيْثُ لَا تمسي) (الْيَوْم أعلم مَا يَجِيء بِهِ ... وَمضى بِفعل قَضَائِهِ أمس) وَالثَّانيَِة: إعرابه إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف فِي حَالَة الرّفْع فَقَط، وبناؤه على الْكسر فِي حالتي النصب والجر وَهِي لُغَة جُمْهُور بني تَمِيم، فَيَقُولُونَ: ذهب أمس (بِغَيْر تَنْوِين) ، وقابلته أمس، وَعَجِبت من أمس، فيكسرونه فيهمَا. وَالثَّالِثَة: إعرابه إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف مُطلقًا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمْسا) (يأكلن مَا فِي رحلهن همسا ... لَا ترك الله لَهُنَّ ضرسا) أما إِذا أُرِيد بأمس يَوْم من الْأَيَّام الْمَاضِيَة، أَو إِذا دَخلته أل التَّعْرِيف، أَو إِذا جمع، أَو إِذا أضيف أعرب بِإِجْمَاع، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فجعلناها حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس} . فالكسرة فِي أمس كسرة إِعْرَاب لدُخُول أل التَّعْرِيف عَلَيْهَا مَعَ وجود

باب الباء

حرف الْجَرّ. وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (مرت بِنَا أول من أموس ... تميس فِينَا ميسة الْعَرُوس) وأموس: جمع أمس، وَهِي مجرورة بالكسرة لهَذَا السَّبَب. وَقَول نصيب بن رَبَاح: (فَإِنِّي وقفت الْيَوْم والأمس قبله ... ببابك، حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب) وَالشَّاهِد فِي لَفْظَة أمس، أَنه ظرف مُعرب لدُخُول أل التَّعْرِيف عَلَيْهِ. بَاب الْبَاء [3] ب ل ط: وَمن أَوْهَام بعض المتحذلقين من الْخَواص أَنهم يفرقون بَين البلاط (بِفَتْح الْبَاء) والبلاط (بخفضها) فيوهمون بِأَن الأول هُوَ قصر الْملك وَالثَّانِي هُوَ مَا ترصف بِهِ الأَرْض من حِجَارَة وآجر. وَالصَّحِيح أَنه لَا وجود للفظة بلاط فِي الْعَرَبيَّة، فكلا اللَّفْظَيْنِ ورد فِي جَمِيع المعاجم بِفَتْح الْبَاء، وَمِنْه قَول أبي دَاوُد الْإِيَادِي: (وَلَقَد كَانَ والكتائب خضر ... وبلاط يشاد بالأجرون) وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا أَنهم يطلقون على الْمَكَان المتسع من الأَرْض لَفْظَة منْطقَة (بِفَتْح الْمِيم وخفض الطَّاء) ، وعَلى النطاق الَّذِي تنتطق بِهِ الْمَرْأَة لَفْظَة منْطقَة (بخفض الْمِيم وَفتح الطَّاء) ، فيوهمون، لِأَنَّهُ لَا وجود للفظة الأولى فِي الْعَرَبيَّة، فالمنطقة هِيَ الْمَكَان المتسع والنطاق مَعًا، وَالْجمع مناطق، وَقد ورد فِي اللِّسَان أَن المنطقة هِيَ شبه إِزَار فِيهِ تكة تنتطق بِهِ الْمَرْأَة. وَقيل: إِن هَاجر أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام هِيَ أول من اتَّخذت النطاق. وَيُقَال لأسماء بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا، ذَات النطاقين، لِأَنَّهَا كَانَت تطارق نطاقين، تلبس أَحدهمَا، وَتحمل فِي الآخر الزَّاد إِلَى سيدنَا رَسُول الله

باب التاء

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وهما فِي الْغَار. وَمِنْه قَول جرير فِي هجاء بني تغلب: (والتغلبيون، بئس الْفَحْل فحلهم ... قدما، وأمهم زلاء منطيق) (تَحت المناطق أشباه مصلبة ... مثل الدوي بهَا الأقلام والليق) بَاب التَّاء [4] ت أم: وَيَقُولُونَ: أنجبت زَوْجَة فلَان توأما فيغلطون، ذَلِك أَن التوأم هُوَ كل جَنِين ولد مَعَ غَيره من بطن وَاحِد، فِي الْإِنْسَان كَمَا فِي الْحَيَوَان، سَوَاء أكانا اثْنَيْنِ أَو أَكثر، وَالْجمع توائم وتؤام. فَإِن كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر أُنْثَى، قيل: هَذَا توأم تِلْكَ، وَتلك توأمة هَذَا، فهما مَعًا توأمان. وَالشَّاهِد على التَّذْكِير قَول عنترة: (بَطل كَأَن ثِيَابه فِي سرحه ... يحذى نعال السبت لَيْسَ بتوأم) وَشَاهد التَّأْنِيث قَول الأخطل بن ربيعَة: (وَلَيْلَة ذِي نصب بتها ... على ظهر توأمة ناحلة) أما شَاهد الْجمع على توائم، فَقَوْل المرقش: (يحلين ياقوتا وشذرا وصيعة ... وجزعا ظفاريا ودرا توائما)

باب الجيم

وَشَاهد الْجمع على تؤام مَا أنْشدهُ ابْن سيدة من قَول الشَّاعِر: (قَالَت لنا ودمعها تؤام ... على الَّذين ارتحلوا السَّلَام) بَاب الْجِيم [5] ج ر ر: وَمن أوهامهم الَّتِي لَا تغتفر، اسْتِعْمَال حُرُوف الْجَرّ الْوَاحِد مَكَان الآخر مِمَّا يشوه الْمَعْنى، فَيَقُولُونَ: خطب الْمَرْأَة من ذويها. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: خطب الْمَرْأَة إِلَى ذويها. وَيَقُولُونَ: أجَاب على سُؤَاله. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أجَاب عَن سُؤَاله. وَيَقُولُونَ: جلس على الْمَائِدَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: جلس إِلَى الْمَائِدَة. وَيَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: رَضِي الله عَلَيْك، والأفصح أَن يُقَال: رَضِي الله عَنْك. وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الإطار قَوْلهم: تَوَضَّأت وَمن ثمَّ صليت (بِضَم الثَّاء) ، ويعنون، بعد ذَلِك، فيقعون فِي الْوَهم، لأَنهم أدخلُوا حرف الْجَرّ على حرف الْعَطف، الْأَمر الَّذِي لَا تسمح بِهِ اللُّغَة. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: تَوَضَّأت وَمن ثمَّ صليت (بِفَتْح الثَّاء) ، لِأَن الظّرْف (ثمَّ) يسمح بِدُخُول حرف الْجَرّ عَلَيْهِ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (نعاقرهم من دنان الْخُمُور، وَمن ثمَّ يسكرهم من شدا) وَرب متسائل يَقُول: كَيفَ لَا تسمح اللُّغَة بِدُخُول الْحَرْف على الْحَرْف، فِي حِين أَدخل الشَّاعِر حرف الْجَرّ على، على الْحَرْف الْمُشبه بِالْفِعْلِ أَن فِي قَوْله: (فوَاللَّه لَا أنسى قَتِيلا رزئته ... بِجَانِب قوسي مَا بقيت على الأَرْض)

[6] ج ن ز:

(على أَنَّهَا تَعْفُو الكلوم، وَإِنَّمَا ... نوكل بالأدنى إِن جلّ مَا يمْضِي) لهَذَا المتسائل نقُول: إِن حرف الْجَرّ على هُوَ فِي هَذَا الشَّاهِد حرف جر شَبيه بِالزَّائِدِ، وبالتالي فَهُوَ غير مُتَعَلق بِشَيْء، وَقد أَتَى بِهِ الشَّاعِر بِقصد الِاسْتِدْرَاك أَي بِمَعْنى لَكِن، وَمثله فِي الشّعْر كثير، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (بِكُل تداوينا فَلم يشف مَا بِنَا ... على أَن قرب الدَّار خير من الْبعد) (على أَن قرب الدَّار لَيْسَ بِنَافِع ... إِذا كَانَ من تهواه لَيْسَ بِذِي ود) وَنَظِيره السماح بِإِدْخَال حرف الْجَرّ من على حرف الْجَرّ على بِحَيْثُ يصير الْأَخير اسْما للاستعلاء بِمَعْنى فَوق، كَأَن تَقول: خطب الْخَطِيب من على الْمِنْبَر، أَي من فَوْقه، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (غَدَتْ من عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمّ ظمؤها ) [6] ج ن ز: وَمن أوهامهم أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين الْجِنَازَة (بِالْفَتْح) والجنازة (بالخفض) ، وَقد تباينت آراء اللغويين حولهما، فَقَالَ بَعضهم: كِلَاهُمَا بِمَعْنى، وتعنيان الْمَيِّت. ... وَقَالَ بَعضهم الآخر: الْجِنَازَة (بالخفض) تَعْنِي الْمَيِّت على سَرِيره، فَإِن لم يكن عَلَيْهِ فَهُوَ النعش. وَقَالَ آخَرُونَ: الْجِنَازَة (بالخفض) هُوَ السرير الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْمَيِّت. ... وَالصَّوَاب أَن الْجِنَازَة (بالخفض) هِيَ الجثة، وَتقول الْعَرَب: ضرب الرجل حَتَّى ترك جَنَازَة، أَي جثة هامدة، وَمِنْه قولم الْكُمَيْت يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (كَانَ مَيتا جَنَازَة خير ميت ... غيبته حفائر الأقوام) واستعار بعض مجان الْعَرَب الْجِنَازَة لزق الْخمر الفارغ، فَقَالَ عَمْرو بن قعاس: (وَكنت إِذا أرى زقا مَرِيضا ... يناح على جنَازَته، بَكَيْت) وَأما الْجِنَازَة (بِالْفَتْح) فَتطلق على وجود الْمَيِّت دَاخل سَرِيره، فهما مَعًا جَنَازَة، فَإِن

[7] ج هـ ز:

انفصلا، فواحدهما جَنَازَة (بالخفض) وَالْآخر نعش وَهُوَ الْآلَة الحدباء الَّتِي كنى عَنْهَا كَعْب بن زُهَيْر بقوله: (كل ابْن أُنْثَى وَإِن طَالَتْ سَلَامَته ... يَوْمًا على آلَة حدباء مَحْمُول) وَجَمِيع مَا تقدم مَأْخُوذ من الْفِعْل جنز الشَّيْء يجنزه جنزا) أَي ستره. وَمِمَّا يذكر أَن النوار لما احتضرت أوصت أَن يُصَلِّي عَلَيْهَا الْحسن رَضِي الله عَنهُ، فَقيل لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: إِذا جنزتموها فآذنوني، وَالْمعْنَى: إِذا كفنتموها بعد الْغسْل وَوَضَعْتُمُوهَا فِي النعش بِحَيْثُ تصير جَنَازَة فارسلوا فِي طلبي. [7] ج هـ ز: وَيَقُولُونَ لما يحملهُ الْمُسَافِر، وَلما تحمله الْعَرُوس مَعهَا إِلَى بَيتهَا من مَتَاع مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ: جهاز (بخفض الْجِيم بدل فتحهَا) فيوهمون لِأَن الجهاز (بالخفض) هُوَ الْآلَة كالهاتف والمذياع والمرياء، بَيْنَمَا الصَّوَاب أَن يُقَال جهاز الْعَرُوس (بِالْفَتْح) . وَيَقُول اللَّيْث: سَمِعت أهل الْبَصْرَة يخطئون الجهاز بِالْكَسْرِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْقُرَّاء كلهم على فتح الْجِيم فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} وبالكسر لُغَة رَدِيئَة. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (تجهزي بجهاز تبلغين بِهِ ... يَا نفس قبل الردى، لم تخلقي عَبَثا) وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب من استبدالهم الفتحة بالكسرة، قَوْلهم للعرق الَّذِي يخرج من الورك فيستبطن الْفَخْذ ثمَّ يمر بالعرقوب حَتَّى يبلغ الْحَافِر أَو الْقدَم، عرق النسا (بخفض النُّون) ، وَهُوَ وهم ظَاهر لِأَن النسا وَالنِّسَاء تَعْنِي النسْوَة، وَهُوَ جمع امْرَأَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال عرف النسا (بِفَتْح النُّون) ، وَمِنْه قَول لبيد:

باب الحاء

(من نسا الناشط إِذْ ثورته ... أَو رَئِيس الأخدريات الأول) وَنَظِيره قَول فَرْوَة: (لما رَأَيْت مُلُوك كِنْدَة أَعرَضت ... كَالرّجلِ، خَان الرجل عرق نسائها) بَاب الْحَاء [8] ح ر ج: وَمن قَبِيح أوهامهم تسميتهم الْأَشْجَار الكثيفة الملتفة الضيقة المسالك، الحرش (بالشين) ، وَالصَّوَاب أَن يُقَال الْحَرج (بِالْجِيم) ، وَالْجمع أحراج، وحراج وحرجات وَمِنْه قَول ابْن ميادة: (أَلا طرقتنا أم أَوْس ودونها ... حراج من الظلماء يعشى غرابها) وَقَول الشَّاعِر: (أيا حرجات الْحَيّ يَوْم تحملوا ... بِذِي سلم، لَا جادكن ربيع) والحرج والحرجة والحراج، جَمِيعه مَأْخُوذ من الْفِعْل، حرج صَدره يحرج حرجا، أَي ضَاقَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} . أما الْفِعْل حرش الْكلاب (بالشين) ، يحرشها حرشا وتحريشا، فَهُوَ تهييج بَعْضهَا على بعض لحملها على الْقِتَال. وَفِي الحَدِيث أَنه نهى عَن التحريش بَين الْبَهَائِم، وَمِنْه قَول العجاج:

باب الخاء

(وَكَأن أصوات كلاب تحترش ... هَاجَتْ بولوال ولجت فِي حرش) ومثيله فِي الْوَهم تسميتهم الْمَكَان الَّذِي يَدُور فِيهِ الرقص والغناء والتمثيل: مسرحا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ: المرسح، وَالْجمع مراسح، لِأَن المسرح هُوَ الْمَكَان الَّذِي تقصده السارحة، أَي الْمَاشِيَة، بِالْغَدَاةِ للرعي وَمِنْه مَا جَاءَ فِي رِسَالَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أكيدر دومة الجندل: لَا تعدل سارحتكم وَلَا تعد فاردتكم. أَي لَا تصرف ماشيتكم عَن مرعى. أما المرسح، فَهُوَ الْمَكَان المستوي، وَلذَا سمي المرسح مرسحا، وَهُوَ مَأْخُوذ من الرسح، أَي خفَّة لحم الإليتين ولصوقهما، والرسحاء من النِّسَاء، هِيَ الزلاء الضامرة العجيزة بِحَيْثُ تصير مستوية مَعَ استقامة الظّهْر. وَفِي الحَدِيث: لَا تسترضعوا أَوْلَادكُم الرسح وَلَا العمش فَإِن اللَّبن يُورث الرسح. بَاب الْخَاء [9] خَ ط ب: وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الْخطْبَة (بِضَم الْخَاء) وَالْخطْبَة (بخفضها) ، فَالْأولى من قَوْلك: خطب الرجل على الْمِنْبَر يخْطب خطْبَة، وَالْجمع خطب، وَهُوَ اسْم كَلَام الخطباء. وَالثَّانيَِة من قَوْلك: خطب الرجل الْمَرْأَة إِلَى ذويها، يخطبها خطْبَة وخطيبى، أَي رغب فِي الاقتران بهَا، وَالْجمع خطاب. وَمِنْه قَول عدي بن زيد يذكر خطْبَة الزباء بجذيمة الأبرش الَّتِي أَجَابَتْهُ ثمَّ خاست بالعهد فَقتلته. (لخطيبى الَّتِي غدرت وخانت ... وَهن ذوأت غائلة لحينا) وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَنهم يطلقون على الْوَاحِدَة من عِظَام عَمُود الظّهْر،

باب السين

وَكَذَلِكَ على المقطع من صفحة الْكتاب لَفْظَة فقرة (بِفَتْح الْقَاف) فيوهمون، لِأَن الْفَقْرَة جمع فَقير نَحْو: بررة، وعجزة، وَعَبدَة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال فقرة (بتسكين الْقَاف) أَو فقرة (بخفض الْفَاء وتسكين الْقَاف) وَالْجمع فقر وفقار، وَمِنْه قَوْلهم: لَا فَتى إِلَّا عَليّ، لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار. بَاب السِّين [10] س وف: وَمن أقبح أَوْهَام جمهرة من كتاب الْعَصْر قَوْلهم: سَوف لن أفعل ذَلِك، وسوف لَا أفعل ذَلِك، فيفصلون بَين سَوف وَالْفِعْل ب لَا وَلنْ وسواهما، وَهَذَا مَالا تجيزه اللُّغَة. ذَلِك أَن السِّين وسوف حرفان يختصان بالمضارع ويمحضانه للاستقبال، وَلَا يجوز أَن يفصل بَينهمَا وَبَين الْفِعْل فاصل. فَإِذا أردْت الْحَال قلت: أَنا أسافر. وَإِذا أردْت الِاسْتِقْبَال قلت: أَنا سأسافر، أَو سَوف أسافر. وَإِذا أردْت النَّفْي قلت: لن أسافر غَدا. وَرب معترض على هَذِه الْقَاعِدَة بقوله تَعَالَى: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} . ونجيب هَذَا الْمُعْتَرض بالْقَوْل: إِن لَام التوكيد دخلت على الْفِعْل لَا على الْحَرْف، لِأَن الْعَرَب اشْتقت من سَوف فعلا فَقَالَت: سوفت الرجل تسويفا، أَي ماطلته وصبرته. وَمِنْه مَا ورد فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن المسوفة من النِّسَاء، وَهِي الَّتِي لَا تجيب زَوجهَا إِذا دَعَاهَا إِلَى فرَاشه. وَنَظِيره مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ لِابْنِ مقبل: (لَو سوفتنا بسوف من تجنبها ... سَوف العيوف، لراح الركب قد قنعوا) [11] س ي ح:

باب الشين

وَمن أوهامهم أَنهم يجمعُونَ سائحا على سواح، وهم الضاربون فِي الأَرْض للتفرج والنزهة. وَهَذَا وهم ظَاهر، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: سياح، لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْفِعْل: ساح المَاء يسيح سياحة، إِذا جرى على وَجه الارض. وَمِنْه قَول الفرزدق: (وَكم للْمُسلمين أسحت فيهم ... بِإِذن الله من نهر ونهر) وَنَظِيره فِي الِاشْتِقَاق قَوْلهم: هَذَا مكتب لتعليم السواقة، يعنون قيادة السيارات، فيخطئون. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: مكتب لتعليم السِّيَاقَة، لِأَنَّهَا من الْفِعْل: سَاق السيارة يَسُوقهَا سِيَاقَة، نَحْو: قاد يَقُود قيادة، وحاك يحوك حياكة، وصاغ يصوغ صياغة. وَفِي الْمثل قَوْلهم: إِلَيْك يساق الحَدِيث، وَقَوْلهمْ: هُوَ يَسُوق الحَدِيث أحسن سِيَاق. بَاب الشين [12] ش ر ب: وَيَقُولُونَ لشعر السبلة شَارِب، فيوهمون. وَالصَّحِيح أَن يُقَال: شاربان وَفِي ذَلِك يَقُول سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يُسَمِّي السبلة كلهَا شاربا وَاحِدًا، وَلَيْسَ بصواب، وَهُوَ من الْوَاحِد الَّذِي فرق فَجعل كل وَاحِد مِنْهُ شاربا، وَالْجمع شوارب. وَنَظِيره قَوْلهم: انتعل خفه وَنَعله وسبته، فيفردونها، وَالصَّوَاب أَن تثنى جَمِيعًا فَيُقَال: انتعل خفيه ونعليه وسبتيه، كَمَا قَالَ سيدنَا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْدَمَا شَاهد رجلا بَين الْقُبُور فِي سبتيه: يَا صَاحب السبتين اخلع سبتيك. وَنَظِيره مَا جَاءَ فِي تَثْنِيَة الْخُف قَوْلهم فِي الْمثل: عَاد بخفي حنين. وَمِنْه

قَول الشَّاعِر: (يَا لَيْت لي نَعْلَانِ من جلد الضبع ... وشركا من استها لَا يَنْقَطِع) وَمِمَّا يستطاب ذكره فِي هَذَا الْمقَام، أَن أَعْرَابِيًا دخل على معن بن زَائِدَة، وَكَانَ يَوْمئِذٍ أَمِيرا على الْعرَاق، وَهُوَ يَنْوِي أَن يختبر حلمه، فأنشده يذكرهُ بأيام فقره وَقلة مَاله قبل أَن يصير أَمِيرا: (أَتَذكر إِذْ لحافك جلد شَاة ... وَإِذ نعلاك من جلد الْبَعِير) فَلم يغْضب الْأَمِير من الْأَعرَابِي كَمَا توقع جُلَسَاؤُهُ، وَأجَاب الشَّاعِر بقوله: بلَى، أذكر ذَلِك وَلَا أنساه. فتابع الْأَعرَابِي قَوْله: (فسبحان الَّذِي أَعْطَاك ملكا ... وعلمك الْجُلُوس على السرير) فَقَالَ معن: يَا أَخا الْعَرَب، وشأنك فِي الْأَمِير فَقَالَ الْأَعرَابِي: (سأرحل عَن بِلَاد أَنْت فِيهَا ... وَلَو جَار الزَّمَان على الْفَقِير) فَقَالَ معن: يَا أَخا الْعَرَب: إِن جاورتنا فمرحبا بك، وَإِن رحلت فمصحوب بالسلامة، فَقَالَ الْأَعرَابِي: (فجد لي يَا ابْن نَاقِصَة بِشَيْء ... فَإِنِّي قد عزمت على الْمسير) فَقَالَ معن: اعطوه ألف دِينَار يَسْتَعِين بهَا على سَفَره، فَأَخذهَا الْأَعرَابِي وَقَالَ: (قَلِيل مَا أتيت بِهِ وَإِنِّي ... لأطمع مِنْك بِالْمَالِ الْكثير)

[12] ش ق ق:

فَقَالَ معن: اعطوه ألفا أُخْرَى، فَأَخذهَا الْأَعرَابِي وَقَالَ: (سَأَلت الله أَن يبقيك ذخْرا ... فَمَا لَك فِي الْبَريَّة نَظِير) فَقَالَ معن: اعطوه ألفا آخر. فَقَالَ الْأَعرَابِي: أَيهَا الْأَمِير: مَا جئْتُك إِلَّا مختبرا حلمك لما بَلغنِي عَنهُ، فقد جمع الله فِيك من الْحلم مَا لَو قسم على أهل الأَرْض لكفاهم. [12] ش ق ق: وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الشق (بِفَتْح الشين) ، وَيَعْنِي الصدع، والشق (بخفض الشين) ، وَيَعْنِي الْمَشَقَّة والعنت، فيضعون هَذَا مَكَان ذَاك ويقعون فِي الْوَهم، لِأَن الأول مَأْخُوذ من: شقّ الْجِدَار يشقه شقا، أَي صدعه وَجعل فِيهِ شقوقا. وَمِنْه قَوْلهم: شقّ الْخَوَارِج عَصا الْمُسلمين، أَي فرقوا جمعهم وكلمتهم، وصدعوا تلاحمهم ووحدتهم. أما الثَّانِي (بخفض الشين) فمأخوذ من شقّ عَلَيْهِ الْأَمر يشق شقا ومشقة، أَي ثقل وصعب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس} أَي بالتعب والجهد، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (وَالْخَيْل قد تجشم أَرْبَابهَا ... الشق، وَقد تعتسف الراوية) وَمثله من الْفِعْل قَول شوقي: (لحاها الله أنباء توالت ... على سمع الْوَلِيّ بِمَا يشق)

[14] ش ور:

[14] ش ور: وَمن أَوْهَام بعض الْخَواص قَوْلهم: خرجنَا فِي مشوار إِلَى منتزه، وهم يعنون: فِي نزهة إِلَى منزه، فيخطئون مرَّتَيْنِ. الأولى: تسميتهم النزهة بالمشوار، لِأَن المشوار هُوَ اسْم آلَة على وزن مفعال، نَحْو: مِفْتَاح ومنشار، وَهُوَ مُشْتَقّ من الْفِعْل: شار الْعَسَل واشتاره، أَي اجتناه من خلاياه. والمشوار هُوَ الْآلَة الَّتِي يشتار بهَا الْعَسَل، والشور هُوَ الْعَسَل نَفسه، وَمِنْه قَول سَاعِدَة بن جؤبة: (فَلَمَّا دنا الْإِفْرَاد حط بشوره ... إِلَى فضلات مستحير جمومها) والمشوار أَيْضا الْهَيْئَة وَالصُّورَة. يُقَال: فلَان حسن المشوار، أَي الْهَيْئَة، وَالْأُنْثَى شيرة. وَالثَّانيَِة من أوهامهم فِي هَذِه الْعبارَة قَوْلهم لمَكَان النزهة منتزها، وَهُوَ وهم وَاضح، لِأَن اسْم الْمَكَان يُؤْخَذ من الْفِعْل الثلاثي (نزه) على وزن مفعل، أَي منزه، وَمِنْه قَول أبي بكر بن زهر الأندلسي: (عَيْش يطيب ... ومنزه كالعروس عِنْدَمَا تجلى) أما إِذا كَانَ الْفِعْل مزيدا، فَإِن الزِّيَادَة فِيهِ تُضَاف إِلَى الْمَوْزُون، فَنَقُول فِي تعثر: متعثر، وَفِي تدرج: متدرج، وَفِي تنزه: متنزه، وَلَا نقُول: منتزه.

باب الصاد

بَاب الصَّاد [15] ص ل ح: وَيَقُولُونَ: صلح الْمعلم مَوْضُوع الْإِنْشَاء وَعمل الْحساب، ويريدون: صحّح، وَهَذَا وهم ظَاهر وَإِن تقَارب المعنيان، لِأَن التصليح يكون لما فسد أَو تعطل من الْآلَة وَالشَّيْء، فَتَقول: أصلحت السيارة وأعطالها وَكَذَلِكَ صلحتها. بَيْنَمَا التَّصْحِيح يكون لتصويب مَا فسد مساره، كتصحيح الْخَطَأ فِي الْكِتَابَة وَالْقِرَاءَة، وَتَصْحِيح المسار والنهج والفكرة. وَأما الْإِصْلَاح فَيكون فِي القضايا المعنوية الْمُتَعَلّقَة بِالنَّفسِ وَالْإِنْسَان وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} والإصلاح خلاف الْفساد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون} ، وَمِنْه: إصْلَاح ذَات الْبَين. وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الإطار قَوْلهم: ضعف الْمَرَض جسده، يُرِيدُونَ أضعفه، فيقلبون الْمَعْنى إِلَى ضِدّه، لِأَن الْفِعْل ضعف يضعف تضعيفا، وَكَذَلِكَ ضاعف يُضَاعف مضاعفة، وواحدها الضعْف (بخفض الضَّاد) وَالْجمع أَضْعَاف كلهَا تَعْنِي الزِّيَادَة وَالْكَثْرَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} . بَيْنَمَا أَضْعَف يضعف إضعافا وضعفا وضعفا، وضعفا وَالْوَاحد ضَعِيف، وَالْجمع ضِعَاف وضعفاء وَهِي جَمِيعًا تَعْنِي الْقلَّة وَالنُّقْصَان فِي الْقُوَّة الجسدية والعقلية، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا} . وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (وَلَا أشارك فِي رَأْي أَخا ضعف ... وَلَا أَلين لمن لَا يَبْتَغِي ليني) وأخا ضعف تَعْنِي: الضعْف فِي الرَّأْي وَالْعقل. وَأما قَول الشَّاعِر: (وَمن يلق خيرا يغمز الدَّهْر عظمه ... على ضعف من حَاله وفتور)

[16] ص م م:

فيعني الضعْف فِي الْجِسْم. [16] ص م م: وَيَقُولُونَ للفتحة الَّتِي تصل بَين الأذين والبطين دَاخل الْقلب، وَالَّتِي تنظم عملية مُرُور الدَّم فِي الأوردة والشرايين بانسدادها تلقائيا منعا لعودة الدَّم فِي الاتجاه المعاكس، صمام الْقلب (بِفَتْح الصَّاد وتضعيف الْمِيم) فيخطئون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال صمام (بخفض الصَّاد وَمنع التَّضْعِيف) لِأَن هَذَا اللَّفْظ هُوَ من الْفِعْل الثلاثي: صم رَأس القارورة، يصمه صمًّا، أَي سَده وَجعل لَهُ صماما، أَي سدادا. والصمام هُوَ مَا أَدخل فِي فَم القارورة. أما الصمام فَهُوَ صِيغَة الْمُبَالغَة للرجل الْكثير التصميم، وَهُوَ من الْفِعْل الرباعي: صمم على الْأَمر، أَي ذهب مِنْهُ على رَأْيه وَمضى، وَنَظِيره فِي صفة الْمُبَالغَة، علام وقتال وجرار، وَمِنْه قَول حميد: (وحصحص فِي صم الْحَصَى ثفناته ... وناء بسلمى نوأة ثمَّ صمما) وَقد أَكثر المحدثون من اسْتِخْدَام هَذَا اللَّفْظ لكل فَتْحة تمنع الانفجار كتلك الَّتِي تزَود بهَا طناجر الضغط، وَالَّتِي تسمح بمرور بخار المَاء من خلالها أثْنَاء الغليان منعا للإنفجار. وَمن الْمجَاز اسْتِخْدَام هَذَا اللَّفْظ كمانع لوُقُوع الْحَرْب، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (يَقُولُونَ لي: غامرت فِي كل محنة ... وَأَنت على العلات أقسى وأقدر) (فَإِن كَانَ صمام الْأمان رجوته ... وَإِن كَانَ تضليلا تعود فتنظر) وَيَأْتِي هَذَا اللَّفْظ بِالسِّين (سمام وسم وسم) بدل الصَّاد. وسمام كل شَيْء وسمه وسمه، هُوَ خرقه وثقبه، وَمِنْه سم الْخياط فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} أَي فَتْحة الإبرة. وسمة الْمَرْأَة: ثقبة فرجهَا. وَفِي حَدِيث الْوَطْء: فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم سماما وَاحِدًا. أَي من مَكَان وَاحِد، وَهُوَ الْفرج. وَرُوِيَ صماما وَاحِدًا، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى. وَمِنْهَا مسام الْجلد: أَي ثقبه الَّتِي يبرز مِنْهَا الْعرق.

باب الطاء

بَاب الطَّاء [17] ط ب ع: وَمن أَوْهَام بعض المتحذلقين أَنهم يفرقون بَين الطابع (بِفَتْح الْبَاء) والطابع (بخفضها) ، فيوهمون بِأَن الأول هُوَ الطَّبْع والسجية وَمَا فطر عَلَيْهِ الْإِنْسَان من الْخلال، بَيْنَمَا الثَّانِي هُوَ مَا يلصق على الرسَالَة. وَالصَّوَاب أَن كليهمَا بِمَعْنى، وَالْجمع طباع وطبائع وطوابع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (لَهُ طَابع يجْرِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ... تفاضل مَا بَين الرِّجَال الطبائع) والطابع والطابع أَيْضا يعنيان الْخَاتم، وَهُوَ ميسم الْفَرَائِض. وكل مَا طبع أَو ختم بِهِ. وَمِنْه مَا جَاءَ فِي حَدِيث الدُّعَاء: اختمه بآمين فَإِن آمين مثل الطابع على الصَّحِيفَة. وَمن أوهامهم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا، أَنهم يفرقون بَين الْخَاتم (بِفَتْح التَّاء) والخاتم (بخفضها) فيوهمون بِأَن الأول هُوَ مَا نختم بِهِ الرسَالَة على الطينة، وَالثَّانِي مَا يلبس فِي الإصبع. وَالصَّوَاب أَن كليهمَا بِمَعْنى. وَيُقَال مَا يلبس فِي الإصبع أَيْضا الْخَتْم والخيتام والخاتام، كَأَنَّهُ أول وهلة ختم بِهِ فَدخل لذَلِك بَاب الطابع. ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله لذَلِك وَإِن كَانَ أعد الْخَاتم لغير الطَّبْع، وَالْجمع خَوَاتِم وخواتيم. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن لبس الْخَاتم إِلَّا لذِي سُلْطَان، أَي إِذا لبسه لغير حَاجَة وَكَانَ للزِّينَة الْمَحْضَة فكره لَهُ ذَلِك ورخصها للسُّلْطَان لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا فِي ختم الْكتب والرسائل، وَقيل: لقد جَاءَهُ رجل وَعَلِيهِ خَاتم حَدِيد، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لي أرى عَلَيْك حلية أهل النَّار لِأَن الْخَاتم كَانَ من زِيّ الْكفَّار. وَمِنْه مَا قَالَه الشَّاعِر فِي الخيتام:

باب العين

(يَا هِنْد ذَات الجورب المنشق ... أخذت خيتامي بِغَيْر حق) وَنَظِيره فِي الخاتام قَول شَاعِر بني عقيل: (لَئِن كَانَ مَا حدثته الْيَوْم صَادِقا ... أَصمّ فِي نَهَار القيظ للشمس باديا) (وأركب حمارا بَين سرج وفروة ... وأعر من الخاتام صغرى شماليا) بَاب الْعين [18] ع ق ر: وَمن أوهامهم أَنهم يطلقون على الْبَيْت أَو الْبُسْتَان أَو الأَرْض وَمَا شابهها من الْأَمْلَاك لَفْظَة عقار (بخفض الْعين) فيوهمون، لِأَن الْعقار هُوَ جمع عقرى، وَهُوَ صفة الْأُنْثَى اللَّازِمَة لمكانها، تَقول: نَاقَة عقرى، ونوق عقار، نَحْو عطشى وعطاش، أَي الملازمات لمكانهن المحجوبات عَن الرَّعْي، وَالْأَصْل من الْعقر، أَي الْمَنْع وَالْحَبْس والملازمة للشَّيْء، وَهُوَ من الْفِعْل عَاقِر الشَّيْء معاقرة وعقارا، أَي لزمَه، وَبِه سميت الْخمر عقارا (بِضَم الْعين) لِأَنَّهَا تعاقر الْعقل والدن، أَي تلازمهما، وَمِنْه قَول أبي نواس: (منع الصَّوْم العقارا ... وذرى اللَّهْو فغارا) (أسقني حَتَّى تراني ... أَحسب الديك حمارا) وَالصَّوَاب أَن يُقَال للبيت وَالْأَرْض عقار (بِفَتْح الْعين) ، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي الحَدِيث: من بَاعَ دَارا أَو عقارا، أَي الضَّيْعَة وَالْبَيْت، وَالنَّخْل. وَمِنْه قَول طفيل: (عقار تظل الطير تخطف زهوه ... وعالين أعلاقا على كل مفأم) وَمن الْعقار والعقر بِمَعْنى الدَّار الْكَبِيرَة أَو الْقصر قَول لبيد بن ربيعَة:

[19] ع ق ص:

(كعقر الهاجري إِذا ابتناه ... بأشباه خذين على مِثَال) [19] ع ق ص: وَيَقُولُونَ: عقصته النحلة، فيوهمون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: لسعته النحلة، لِأَن العقص هُوَ لُغَة الالتواء والعطف. والعقصاء من المعزى، هِيَ الَّتِي التوى قرناها على أذنيها، والتيس أعقص. والعقصة والعقيصة: الضفيرة والخصلة من الشّعْر الملتوية، وَالْجمع عقص وعقاص وعقائص، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس يصف محبوبته: (غدائره مستشزرات إِلَى العلى ... تضل العقاص فِي مثنى ومرسل) حَيْثُ وصفهَا بكثافة الشّعْر والتفافه. والعقص: أَن تَأْخُذ الْمَرْأَة كل خصْلَة من شعرهَا فتلويها ثمَّ تعقدها حَتَّى يصير فِيهَا التواء ثمَّ ترسلها، وَرُبمَا اتَّخذت عقيصة من شعر غَيرهَا. وعقصت الْمَرْأَة شعرهَا تعقصه عقصا: شدته فِي قفاها. والعقص فِي لُغَة الشّعْر يَقع فِي زحاف الوافر، وَهُوَ إسكان الْخَامِس من مفاعلتن، فَيصير مفاعلتن، ثمَّ تحذف النُّون مِنْهُ مَعَ الخرم فَيصير الْجُزْء مفعول كَقَوْل الشَّاعِر:

[20] ع م د:

(لَوْلَا ملك رؤوف رَحِيم ... تداركني برحمته هَلَكت) والعقص من الرِّجَال: الألوى، الصعب الْأَخْلَاق، وَمِنْه حَدِيث ابْن عَبَّاس: لَيْسَ مثل الْحصْر العقص، يَعْنِي ابْن الزبير، تَشْبِيها لأخلاقه بالقرن الملتوي. [20] ع م د: وَمن أوهامهم المشينة أَنهم يزِيدُونَ حرفا أَو ينقصُونَ حرفا من الْكَلِمَة كَمَا يفعل الْعَوام. فَمن أَمْثِلَة الزِّيَادَة تسميتهم للخشبة الْقَائِمَة وسط الخباء، وَكَذَلِكَ للعصا ولدعامة الْمنزل وأشباهها مِمَّا يعْتَمد عَلَيْهِ عامودا، وَهَذَا وهم، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: عَمُود وعماد، وَالْجمع أعمدة وَعمد، وَمِنْه قَول الشَّاعِر يكنى عَن الخباء: (وَمَا أهل العمود لنا بِأَهْل ... وَلَا النعم السآم لنا بِمَال) وَقَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ بِمَعْنى الْعَصَا: (يهدي العمود لَهُ الطَّرِيق إِذا هم ... ظعنوا، ويعمد للطريق الأسهل) وَاسم الْجمع عمد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي رفع السَّمَاوَات بِغَيْر عمد ترونها ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} . والخباء المعمد: الْمقَام على أعمدة، وَمِنْه قَول طرفَة بن العَبْد: (وتقصير يَوْم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تَحت الخباء المعمد) وَمن أَمْثِلَة إنقاص حرف أَنهم يجمعُونَ خضرَة وخضراء على خضروات، ويعنون الْبُقُول الخضراء، فيوهمون. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: خضراوات، لِأَن الْعَرَب تَقول لهَذِهِ الْبُقُول خضراء، وَهِي لَا تُرِيدُ لَوْنهَا وَإِنَّمَا اسْمهَا، لذا صَار هَذَا اللَّفْظ اسْما لَهَا وَلَيْسَ صفة، وَلَو أَنه كَانَ صفة لَكَانَ جمعه على خضر بِإِسْكَان الضَّاد نَحْو أَزْرَق وأصفر

باب الغين

وأحمر، فَإِنَّهَا تجمع على زرق وصفر وحمر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال) وكل مَهْمُوز الآخر نَحْو صحراء وبطحاء وخضراء تقلب همزته فِي الْجمع واوا، فَيُقَال: صحراوات وبطحاوات وخضراوات، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة يَعْنِي بِهِ الْفَاكِهَة الرّطبَة والبقول. بَاب الْغَيْن [21] غ ر ق: وَيَقُولُونَ: أغرق الرجل فِي الضحك واستغرق، إِذا اشْتَدَّ ضحكه ولج فِيهِ. والأفصح أَن يُقَال: اسْتغْرب فِي الضحك، إِذا بلغ الْحَد والمنتهى. فَفِي الحَدِيث: ضحك حَتَّى اسْتغْرب، أَي بَالغ فِيهِ. وَفِي حَدِيث الْحسن رَضِي الله عَنهُ: إِذا اسْتغْرب الرجل ضحكا فِي الصَّلَاة، أعَاد الصَّلَاة. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، وَيزِيد عَلَيْهِ إِعَادَة الْوضُوء وَفِي حَدِيث ابْن هُبَيْرَة: أعوذ بك من كل شَيْطَان مستغرب: أَي المتناهي فِي الْخبث. وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (فَمَا يغربون الضحك إِلَّا تبسما ... وَلَا ينسبون القَوْل إِلَّا تخافيا)

باب الفاء

[22] غ ي ر: وَيَقُولُونَ: قبضت ألفا لَا غير، فيوهمون. وَالصَّوَاب أَن يُقَال: قبضت ألفا لَيْسَ غير، لِأَن الأَصْل: لَيْسَ الْمَقْبُوض غير ذَلِك، فأضمر اسْم لَيْسَ، وَحذف مَا أضيف إِلَيْهِ غير، وينيت غير على الضَّم تَشْبِيها لَهَا بقبل وَبعد لإبهامها. وَيرى ابْن هِشَام فِي شرح شذور الذَّهَب أَنه من الْمُحْتَمل أَن يكون التَّقْدِير: لَيْسَ غير ذَلِك مَقْبُوضا، ثمَّ حذف خبر لَيْسَ وَمَا أضيفت إِلَيْهِ غير، وَتَكون الضمة على هَذَا ضمة إِعْرَاب، وَلكنه رجح الْوَجْه الأول. وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه لَا يجوز حذف مَا أضيفت إِلَيْهِ غير إِلَّا بعد لَيْسَ فَقَط. وَأما مَا يردد على لِسَان بعض الْخَواص من قَوْلهم: لَا غير، فَلَا تَتَكَلَّم بِهِ الْعَرَب. بَاب الْفَاء [23] ف ج ج: وَمن أوهامهم أَنهم ينعتون مَا لم ينضج من الْفَاكِهَة بقَوْلهمْ: فَاكِهَة فجة (بِفَتْح الْفَاء) فيخطئون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: فَاكِهَة فجة (بخفض الْفَاء) ، لِأَن الْفَج من كل شَيْء هُوَ مَا لم ينضج، وَمِنْه مَا قَالَه رجل من الْعَرَب: الثِّمَار كلهَا فجة فِي الرّبيع حِين تَنْعَقِد حَتَّى ينضجها حر القيظ. وَأما الْفَج (بِفَتْح الْفَاء) فَهُوَ الطَّرِيق الْوَاسِع بَين جبلين، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {من كل فج عميق} وَالْجمع فجاج، وَالِاسْم الفجج، وَهُوَ تبَاعد الرُّكْبَتَيْنِ. وفج الرجل رجلَيْهِ،

باب القاف

وفاج: باعد مَا بَينهمَا. وَالرجل الأفج: الشَّديد التباعد بَين فَخذيهِ، وَهُوَ عيب فِي الْإِنْسَان، كالأعرج والأعور والأصك والأحدل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (الله أعطانيك غير أحد لَا ... وَلَا أصك أَو أفج فنجلا) بَاب الْقَاف [24] وَمن أقبح أوهامهم أَنهم يبدلون حَرَكَة حرف المضارعة فِي المضاعف فيغيرون الْمَعْنى ويقلبون المبنى، فَلَا يفرقون بَين يقل (بِضَم الْيَاء) ويقل (بِفَتْح الْيَاء) ، فَالْأول من الْفِعْل قل الشَّيْء يقلهُ قلا، أَي حمله وَرَفعه وَالثَّانِي من قل الشَّيْء يقل قلا، فَهُوَ قَلِيل، وَهُوَ خلاف كثر، وَمِنْه حَدِيث ابْن مَسْعُود: الرِّبَا وَإِن كثر فَهُوَ إِلَى قل. وَنَظِيره قَول خَالِد بن عَلْقَمَة الدَّارمِيّ: (قد يقصر القل الْفَتى دون همه ... وَقد كَانَ لَوْلَا القل طلاع أنجد) وَنَظِيره فِي استبدال حركات الْمُضَارع الْفِعْل يمد وَالْفِعْل يمد. فَالْأول من الامتداد والاستطالة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون} ، وَالثَّانِي من الْإِمْدَاد والمساعدة كَقَوْلِه تَعَالَى: {ألن يكفيكم أَن يمدكم ربكُم بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة} .

[25] ق ن ن:

وَمثله الفعلان يعد ويعد. فَالْأول من عد الشَّيْء، والنقود يعد عدا، بِمَعْنى أحصى وَحسب، وَمِنْه قَول أبي ذُؤَيْب: (رددنا إِلَى مولى بنيها فَأَصْبَحت ... يعد بهَا وسط النِّسَاء الأرامل) وَالثَّانِي من أعد الزَّاد يعد إعدادا وعدة. وَمِنْه قَوْلهم: يعد لِلْأَمْرِ عدته، أَي يستعد ويتهيأ لَهُ. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} . [25] ق ن ن: وَيَقُولُونَ لمحبس الدَّجَاج وقفص الدواجن وَالطير: الْقِنّ، فيوهمون، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ: الخم، لِأَن الْقِنّ هُوَ العَبْد الَّذِي ولد من أَب مَمْلُوك، وَالْجمع قنان وأقنة، وَمِنْه قَول جرير: (إِن سليطا فِي الخسار إِنَّه ... أَبنَاء قوم خلقُوا أقنه) وَمِنْه أَيْضا أَنهم يطلقون على الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ السروال والمنطق. اسْم الدكة، وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ التكة. وَيَقُولُونَ لموجودات الْمنزل ومتاعه: عفش وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهَا: شوار أَو أثاث. وَيَقُولُونَ للبلعوم: الحنجرة (بِضَم الْحَاء وَالْجِيم) ، وَالصَّوَاب الحنجرة (بفتحهما) ، وَالْجمع حناجر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} . وَمن أوهامهم أَنهم يسمون رجيع الْبَقر الفلط. وَالصَّوَاب أَن يُقَال لَهُ الثلط (بالثاء الْمُعْجَمَة وتسكين اللَّام) ، لِأَن الفلط والفلاط تعنيان الْأَمر المفاجئ، وَمِنْه قَول المنخل الْهُذلِيّ: (بِهِ أحمى الْمُضَاف إِذا دَعَاني ... وَنَفْسِي، سَاعَة الْفَزع الفلاط)

باب الميم

أَي سَاعَة الْفَزع المفاجئ. بَاب الْمِيم [26] م ن ذ: وَيَقُولُونَ فِي جَوَاب من يسالهم عَن صديق: مَا رَأَيْته مُنْذُ وَقت طَوِيل، فيهمون، لِأَن مجرور هَذَا الْحَرْف، وَكَذَلِكَ مذ، لَا يكون إِلَّا اسْم زمَان، وَلَا يكون ذَلِك الزَّمَان إِلَّا معينا لَا مُبْهما، فِي الْمَاضِي أَو الْحَاضِر وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَقْبل. وَالصَّوَاب أَن تَقول: مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْم الْجُمُعَة، ومذ يَوْم الْجُمُعَة وَلَا تقل: مذ غَد وَلَا مُنْذُ وَقت، لِأَن الأول يَقع فِي الْمُسْتَقْبل، وَالْآخر مُبْهَم. ومذ أَصْلهَا مُنْذُ، فخففت. ومنذ أَصْلهَا من الجارة وإِذْ الظَّرْفِيَّة، فجعلتا كلمة وَاحِدَة، وَلذَا كسرت ميمها فِي بعض اللُّغَات بِاعْتِبَار الأَصْل فَقَالُوا: مُنْذُ. وَأما مذ فقد حركوا آخرهَا بِالضَّمِّ عِنْد دُخُولهَا على معرفَة وَلم يحركوها بِالْكَسْرِ كعادتهم منعا من التقاء الساكنين لِأَن الذَّال مضموم فِي مُنْذُ. وللنحاة فِي هذَيْن الحرفين آراء. فَمنهمْ من يرى أَن الْخَفْض وَاجِب بعد مذ لما مضى وَمَا لم يمض وَبَعْضهمْ يرفع بمنذ مَا مضى وَمَا لم يمض. وَالصَّوَاب أَن يخْفض بمذ مَا لم يمض وَيرْفَع مَا مضى، ويخفض بمنذ مَا لم يمض مَا مضى. وَمعنى هذَيْن الحرفين ابْتِدَاء الْغَايَة مثل من إِن كَانَ الزَّمَان مَاضِيا، كَقَوْل زُهَيْر: (لمن الديار بقنة الْحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر) أَي: من حجج وَمن دهر. وَنَظِيره قَول امْرِئ الْقَيْس: (قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... وَربع عفت آثاره مُنْذُ أزمان) وَإِن كَانَ الزَّمَان حَاضرا فمعناهما الظَّرْفِيَّة، كَقَوْلِك: مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْمنَا. أما إِذا كَانَ الزَّمَان معدودا فهما بِمَعْنى (من وَإِلَى) نَحْو: مَا رَأَيْته مذ يَوْمَيْنِ، أَي من يَوْمَيْنِ وَإِلَى الْآن.

[27] م وت:

وَقد يدخلَانِ على اسْم مَرْفُوع أَو جملَة، فيكونان حِينَئِذٍ اسْمَيْنِ كَقَوْلِك: مَا رَأَيْته مذ يَوْمَانِ، أَو مُنْذُ يَوْم الْجُمُعَة، وَالشَّاهِد على الْجُمْلَة الفعلية قَول الشَّاعِر: (مَا زَالَ مذ عقدت يَدَاهُ إزَاره ... فسما فَأدْرك خَمْسَة الأشبار) وَالشَّاهِد على الْجُمْلَة الفعلية قَول الْأَعْشَى: (مَا زلت أبغي الْخَيْر مذ أَنا يافع ... وليدا وكهلا حِين شبت وأمردا) وَرب متسائل عَمَّا أوردهُ الزجاجي فِي بِنَاء مَا بعد مذ على الْفَتْح خلافًا لرأي النُّحَاة فِي قَول الشَّاعِر: (لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمْسا) (يأكلن مَا فِي رحلهن همسا ... لَا ترك الله لَهُنَّ ضرسا) ونجيب هَذَا المتسائل بِأَن لَفْظَة أمس فِي هَذَا الشَّاهِد هِيَ اسْم مجرور بمنذ وعلامة جَرّه الفتحة عوضا عَن الكسرة لِأَنَّهُ مَمْنُوع من الصّرْف لعلمية وَالْعدْل، وَهِي لُغَة بني تَمِيم، وَأَن الزجاجي وهم فِي إِيرَاد الشَّاهِد تَأْكِيدًا لزعمه أَن من الْعَرَب من يَبْنِي أمس على الْفَتْح. [27] م وت: وَيَقُولُونَ لمن قضى نحبه ميت (بتسكين الْيَاء) ، وَلمن لَا يزَال حَيا ميت (بِتَضْعِيف الْيَاء) ، فيوهمون فِي ذَلِك لِأَن اللَّفْظَيْنِ يحْملَانِ نفس الْمَعْنى، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي

التَّنْزِيل الْعَزِيز قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} . وَقد جمع الشَّاعِر بَين اللغتين فَقَالَ: (لَيْسَ من مَاتَ واستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) (إِنَّمَا الْمَيِّت من يعِيش شقيا ... كاسفا باله قَلِيل الرَّجَاء) (فأناس يمصصون ثمادا ... وأناس حُلُوقهمْ فِي المَاء) فقد جعل الْمَيِّت بالتضعيف كالميت بِالتَّخْفِيفِ. وَيَقُول الزّجاج: الْمَيِّت هُوَ الْمَيِّت، إِلَّا أَنه يُخَفف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} وَلم يقل ميتَة مَعَ أَن الْبَلدة مُؤَنّثَة. وَقَالَ بَعضهم: إِن أصل اللَّفْظ ميوت، على وزن فيعل، ثمَّ أدغموا الْوَاو فِي الْيَاء. وَقَالَ آخَرُونَ: أصل اللَّفْظ مويت نَحْو سيد وسُويد حَيْثُ أدغمت الْيَاء فِي الْوَاو. أما الْحَالة من هَذَا الْفِعْل فَهِيَ الْميتَة نَحْو: الجلسة والقعدة، وَمِنْه مَا جَاءَ فِي حَدِيث الْفِتَن: فقد مَاتَ ميتَة الْجَاهِلِيَّة. أَي كَمَا يَمُوت أهل الْجَاهِلِيَّة من الضَّلَالَة، وَالْجمع: ميت. وَالْعرب تسْتَعْمل هَذَا الْفِعْل كِنَايَة عَن النّوم والجهالة وَالْخَوْف والفقر وَسُكُون المتحركات. وَمِنْه بِمَعْنى النّوم مَا جَاءَ فِي حَدِيث دُعَاء الانتباه: الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانًا بعد مَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور. وَمِنْه بِمَعْنى الْجَهَالَة قَوْله تَعَالَى: {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} وَقَوله: {فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} وَمِنْه بِمَعْنى الْخَوْف قَوْله عز وَجل {ويأتيه الْمَوْت من كل مَكَان} . وَمِنْه بِمَعْنى الْفقر حَدِيث مُوسَى، على نَبينَا وَعَلِيهِ

باب النون

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: إِن هامان قد مَاتَ. فَلَقِيَهُ مُوسَى، فَسَأَلَ ربه، فَقَالَ لَهُ: أما تعلم أَن من أفقرته فقد أمته. وَمِنْه بِمَعْنى سُكُون المتحركات قَول الشَّاعِر: (إِنِّي لأرجوا أَن تَمُوت الرّيح ... فأسكن الْيَوْم واستريح) وَرب متسائل عَن معنى قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ: اللَّبن لَا يَمُوت. أَرَادَ أَن الصَّبِي إِذا رضع امْرَأَة ميتَة، حرم عَلَيْهِ من وَلَدهَا وقرابتها مَا يحرم عَلَيْهِ مِنْهُم كَمَا لَو كَانَت حَيَّة وَقد رضعها. وَقيل: مَعْنَاهُ إِذا فصل اللَّبن من الثدي وأسقيه الصَّبِي، فَإِنَّهُ يحرم بِهِ مَا يحرم بِالرّضَاعِ وَلَا يبطل عمله بمفارقة الثدي، فَإِن كل مَا انْفَصل من الْحَيّ ميت إِلَّا اللَّبن وَالشعر وَالصُّوف لضَرُورَة الِاسْتِعْمَال. وَيُقَال: أَمَاتَهُ الله وَمَوته، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (فعروة مَاتَ موتا مستريحا ... وَهَا أَنا ذَا أَمُوت كل يَوْم) وَقد تسْتَعْمل لَفْظَة ميت مَعَ تَاء التَّأْنِيث للدلالة على الْمُفْرد الْمُؤَنَّث فَيُقَال: امْرَأَة ميتَة وميتة. والعامة يَقُولُونَ: امْرَأَة ميتاء، على وزن حَمْرَاء، وَهُوَ وهم فَاحش، لِأَن الميتاء تَعْنِي الْمُحَاذَاة وَالطَّرِيق المسلوك، وَمِنْه حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي أَنه استفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللّقطَة، قَالَ: مَا وجدت فِي طَرِيق ميتاء فَعرفهُ سنة. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (إِذا اضطم ميتاء الطَّرِيق عَلَيْهِمَا ... مَضَت قدما موج الْجبَال زهوق) بَاب النُّون [28] ن ز ف: وَيَقُولُونَ لخُرُوج الدَّم الحاد من الْجرْح نزيفا، فيوهمون. وَالصَّوَاب أَن يُقَال نزفا لِأَن النزيف صفة لمن أُصِيب بالنزف، وَهُوَ على وزن فعيل نَحْو: قَتِيل وجريح ونزيف، وَالْمعْنَى: مقتول ومجروح ومنزوف، وَهُوَ من الْفِعْل نزف فلَان دَمه ينزفه نزفا، فَهُوَ نزيف ومنزوف إِذا استخرجه بحجامة أَو فصد. وَالْأَصْل فِي ذَلِك كُله: نزفت مَاء الْبِئْر، أَي نزحت وَذهب مَاؤُهَا. وَفِي الحَدِيث: زَمْزَم لَا تنزف وَلَا تذم، أَي لَا يفنى

[29] ن ش د:

مَاؤُهَا على كَثْرَة الاستقاء، وَقَوله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} أَي لَا يَنْقَطِع شرابهم. وَنَظِيره قَول العجاج: (وَصرح ابْن معمر لمن ذمر ... وأنزف الْعبْرَة من لَاقَى العبر) وَيُقَال للسكران أَيْضا النزيف والمنزوف، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لَا يصدعون عَنْهَا وَلَا ينزفون} أَي يسكرون. وَنَظِيره قَول الأبيرد فِي هجاء آل أبجر: (لعمري لَئِن أنزفتم أَو صحوتم ... لبئس الندامى كُنْتُم آل أبجر) (شربتم ومدرتم وَكَانَ أبوكم ... كذاكم إِذا مَا يشرب الكأس مدرا) وَيُقَال للرجل إِذا عَطش حَتَّى يَبِسَتْ عروقه وجف لِسَانه نزيف ومنزوف، وَمِنْه قَول جرير: (قَالَت: وعيش أبي وَحُرْمَة إخوتي ... لأنبهن الْحَيّ إِن لم تخرج) (فَخرجت خيفة أَهلهَا فتبسمت ... فَعلمت أَن يَمِينهَا لم تحرج) (فلثمت فاها آخِذا بقرونها ... شرب النزيف بِبرد مَاء الحشرج) [29] ن ش د: وَمن أوهامهم فِي غير المضاعف من الْمُضَارع أَنهم لَا يفرقون بَين ينشد (بِضَم الْيَاء وخفض الشين) ، وينشد (بِفَتْح الْيَاء وَضم الشين) . فَالْأول من أنْشد القصيدة ينشدها إنشادا: إِذا رفع صَوته فِي إلقائها. وَالثَّانِي من نَشد ضالته ينشدها نشدانا: إِذا طلبَهَا وَبحث عَنْهَا، وَمِنْه قَول النَّابِغَة الْجَعْدِي:

(أنْشد النَّاس وَلَا أنشدهم ... إِنَّمَا ينشد من كَانَ أضلّ) وَنَظِيره فِي الْمُضَارع أَنهم لَا يفرقون بَين يُشْرك (بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء) ويشرك (بِضَم الْيَاء وخفض الرَّاء) . فَالْأول من الْفِعْل شركه فِي الْأَمر يشركهُ مُشَاركَة، أَي صَار شَرِيكه، وَمِنْه الْأَمر الْمُشْتَرك والمتشرك الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ المتقاسمون، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (لَا يَسْتَوِي المرآن، هَذَا ابْن حرَّة ... وَهَذَا ابْن أُخْرَى ظهرهَا متشرك) وَالثَّانِي من أشرك بِاللَّه يُشْرك شركا وإشراكا، أَي جعل لَهُ شَرِيكا فِي ملكه، فَهُوَ كَافِر مُشْرك. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى عَن عَبده لُقْمَان أَنه قَالَ لِابْنِهِ: {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (أَمْرَانِ لَا يسلم الْإِنْسَان شرهما ... الشّرك بِاللَّه والإضرار بِالنَّاسِ) وَنَظِيره فِي هَذَا الْبَاب أَنهم لَا يفرقون بَين يهدي (بِفَتْح الْيَاء) وَيهْدِي (بِضَم الْيَاء) . فَالْأول من قَوْلك: هداه للدّين يهديه هدى وهديا وهداية، أَي بَين لَهُ طَرِيق الرشاد. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} . وَالْهَادِي: المرشد وَالدَّلِيل لِأَنَّهُ يتَقَدَّم الْقَوْم فيتبعونه، وَلذَا سميت الْعَصَا هاديا لِأَن الْأَعْمَى يمْسِكهَا فتتقدمه وترشده إِلَى طَرِيقه. وَمِنْه قَول طرفَة: (للفتى عقل يعِيش بِهِ ... حَيْثُ تهدي سَاقه قدمه) أَي ترشده وتدله: والهاديات: أَوَائِل الْوَحْش وَالْإِبِل وكل جمَاعَة، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس وَفِي وصف فرسه:

باب الهاء

(كَأَن دِمَاء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل) بَيْنَمَا الثَّانِي (يهدي) هُوَ من الْفِعْل أهْدى لَهُ وَإِلَيْهِ هَدِيَّة، أَي أتحفه بِشَيْء من غير مُقَابل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة الملكة بلقيس مَعَ نَبِي الله سُلَيْمَان عَلَيْهِ وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء السَّلَام: {وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} ، وَالْجمع هَدَايَا على الْقيَاس، وَأهل عليا معد يجمعونها على هداوى. وَيُقَال: تهادى الْقَوْم، إِذا تبادلوا الْهَدَايَا، وَفِي الحَدِيث: تهادوا تحَابوا، لِأَن الْهَدَايَا تؤلف الْقُلُوب. [30] ن وخَ: وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين المناخ (بِفَتْح الْمِيم) والمناخ (بِضَم الْمِيم) فَيَقُولُونَ: مناخ لبنان رائع، يُرِيدُونَ اعْتِدَال هوائه، وغزارة مياهه، واخضراره الدَّائِم، مِمَّا يَجعله مُوَافقا للصِّحَّة ومسرة للعين، فيوهمون، لِأَن المناخ (بِضَم الْمِيم) هُوَ مبرك الْإِبِل، وَالْمَكَان الَّذِي تنوخ فِيهِ، والنوخة: الْإِقَامَة. ... أما المناخ (بِفَتْح الْمِيم) فَهُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ لفظ لاتيني مُعرب أَصله الماناك، أَي التَّقْوِيم، وَهُوَ جدول زمني يحتوي على تعداد الْأَيَّام وَالْأَشْهر، مَعَ زمَان طُلُوع الشَّمْس وَالْقَمَر وغروبهما، وأوقات الأعياد، إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد. بَاب الْهَاء [31] هـ ر ع: وَيَقُولُونَ: هرع الرجل لنجدة أَخِيه (بِفَتْح الْهَاء) ، فيوهمون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: هرع الرجل (بِضَم الْهَاء) ، لِأَن هَذَا الْفِعْل لَا يَأْتِي إِلَّا على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمِنْه قَوْله

[32] هـ م م:

تَعَالَى {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} وَقَوله عز وَجل: {فهم على آثَارهم يهرعون} ، وَنَظِيره قَول الشَّاعِر: (فجاؤوا يهرعون وهم أُسَارَى ... يقودهمء على رغم الأنوف) وَقَول الآخر: (كَأَن حمولهم مُتَتَابِعَات ... رعيل يهرعون إِلَى رعيل) وأصل الْفِعْل من الهرع والهراع والإهراع، وَهُوَ سرعَة الْعَدو وَشدَّة السُّوق وَمَا يصحبهما من رعدة وفزع. [32] هـ م م: وَكَثِيرًا مَا تحملهم أوهامهم إِلَى عدم التَّمْيِيز بَين أَفعَال المضارعة ذَات الأَصْل الْوَاحِد، بِسَبَب اخْتِلَاف حركاتها، فيضعون هَذَا مَكَان ذَاك ويخلطون الحابل بالنابل، الْأَمر الَّذِي يخل بِالْمَعْنَى وَيُؤَدِّي إِلَى فَسَاد المبنى. فَمن أَمْثِلَة ذَلِك أَنهم لَا يفرقون بَين يهم (بِفَتْح الْيَاء وَضم الْمِيم) ويهم (بِضَم الْيَاء وخفض الْهَاء) ، ويهم (بِفَتْح الْيَاء وخفض الْهَاء) . فَالْأول من من الاهتمام، كَأَن تَقول: يهمني أَن أَرَاك ناجحا. وَالثَّانِي من الْهم أَي الْحزن، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (برا، يهمه أَن يرى أبناءه ... متعسرين بغصة أَو زَاد) وَالثَّالِث من الْفِعْل: هم بِالْأَمر يهم ويهم هما وهمة: أَي نَوَاه وأراده وعزم عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة زليخا وَالنَّبِيّ يُوسُف، على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه}

باب الواو

) ، وَقَوله تَعَالَى أَيْضا: {وهموا بِمَا لم ينالوا} . وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب أَنهم لَا يفرقون بَين يحل (بِفَتْح الْيَاء وَضم الْحَاء) وَيحل (بِضَم الْيَاء وخفض الْحَاء) وَيحل (بِفَتْح الْيَاء وخفض الْحَاء) ، فيشوهون الْمَعْنى. فَالْأول من قَوْلك: حل بِالْمَكَانِ يحل حلا وحللا وحلولا، أَي نزل بِهِ، وَهُوَ نقيض ارتحل. وَمِنْه قَول المثقب الْعَبْدي: (أكل الدَّهْر حل وارتحال ... أما تبقي عَليّ وَلَا تقيني) وَالثَّانِي من الْفِعْل: أحل البيع يحله حلا وإحلالا، فَهُوَ حَلَال خلاف الْحَرَام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} . وَقَوله أَيْضا: {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} . أما الثَّالِث فَهُوَ من الْفِعْل: حل الْهَدْي يحل، أَي وَجب، وَالْمحل (بخفض الْحَاء) مَكَان النَّحْر وزمانه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} . وَنَظِيره فِي الْمُضَارع قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} ، أَي يسْتَوْجب الْعَذَاب الدَّائِم. بَاب الْوَاو [33] وف ي: وَيَقُولُونَ لمن أَصَابَهُ الْمَوْت: المتوفي (بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَة) ، فيوهمون، لِأَن الْمُتَوفَّى

هُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ اسْم الْفَاعِل من غير الثلاثي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل الْحَكِيم {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} أَي يَسْتَوْفِي عدد آجالهم فِي الدُّنْيَا. أما الْمَيِّت الَّذِي توفاه الله، أَي أَمَاتَهُ فَيُقَال لَهُ الْمُتَوفَّى (بِالْألف الْمَقْصُورَة) وَهُوَ اسْم الْمَفْعُول من غير الثلاثي. ... وَمِمَّا يذكر فِي هَذَا السِّيَاق مَا رَوَاهُ أحد اللغويين، فَقَالَ: مَرَرْت فِي طريقي فَرَأَيْت جَنَازَة تشيع، وَسمعت رجلا يسْأَل: من المتوفي (بِالْيَاءِ) فَقلت لَهُ: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَضربت حَتَّى كدت أَمُوت. وَمِنْه قَول مَنْظُور الوبري: (إِن بني الأدرد لَيْسُوا من أحد ... وَلَا تَوَفَّاهُم قُرَيْش فِي الْعدَد) وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم} وَهُوَ من تَوْفِيَة الْعدَد، وَلَيْسَ من الْوَفَاة، أَي يقبض أرواحكم أَجْمَعِينَ بِأَمْر ربه، فَلَا ينقص وَاحِدًا مِنْكُم، كَأَن تَقول: توفيت من فلَان مَالِي واستوفيته، أَي لم يبْق لي عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ. وَيُقَال: ووفي الرجل، نَحْو ووري، إِذا أَصَابَته الْوَفَاة. وتوفاه الله، إِذا قبض نَفسه، وَمِنْه قَول عبيد الله بن قيس الرقيات: (لَيْت الْقِيَامَة يَوْم ووفي مُصعب ... قَامَت على مُضر وَحقّ قِيَامهَا) أَي: توفاه الله.

[34] وح د:

[34] وح د: وَمن أوهامهم أَنهم لَا يفرقون بَين الْوحدَة (بِفَتْح الْوَاو) والوحدة (بخفضها) فَيَقُولُونَ: الْوحدَة الْعَرَبيَّة ويعنون انصهار الدول الْعَرَبيَّة فِي دولة وَاحِدَة، فيوهمون، لِأَن الْوحدَة (بِالْفَتْح) تَعْنِي الِانْفِرَاد، بَيْنَمَا الْوحدَة (بالخفض) تَعْنِي الارتباط والانصهار وَجمع الْأَجْزَاء. وَمن الأولى مَا جَاءَ فِي الحَدِيث: شَرّ أمتِي الوحداني المعجب بِدِينِهِ الْمرَائِي بِعَمَلِهِ. يَعْنِي الْمُنْفَرد بِنَفسِهِ المفارق للْجَمَاعَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْوحدَة والانفراد بِزِيَادَة الْألف وَالنُّون للْمُبَالَغَة. وعَلى هَذَا تكون الْوحدَة من الِانْفِرَاد، وَتَكون الْوحدَة من الِاتِّحَاد. وَمِمَّا ينْدَرج فِي هَذَا الْبَاب قَوْلهم: اضْرِب بِهِ عرض الْحَائِط (بِفَتْح الْعين) وَعرض الْحَائِط (بخفضها) يقصدون ناحيته وجانبه، فيوهمون. ... وَالصَّوَاب أَن يُقَال: عرض الْحَائِط (بِضَم الْعين) ، لِأَن الْعرض هُوَ الْجَانِب والناحية، وَمِنْه حَدِيث ابْن الْحَنَفِيَّة: كل الْجُبْن عرضا. أَي اشتره وَكله وَلَا تسْأَل عَنهُ أَمن عمل أهل الْكتاب هُوَ أم من عمل الْمَجُوس أَي من ناحيتهم. وَالْجمع عرُوض وعراض، وَمِنْه قَول أبي ذُؤَيْب يصف برذونا: (أمنك برق أَبيت اللَّيْل أرقبه ... كَأَنَّهُ فِي عراض الشَّام مِصْبَاح) أما الْعرض (بِفَتْح الْعين) فَهُوَ خلاف الطول، وَالْجمع أَعْرَاض، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (يطوون أَعْرَاض الفجاج الغبر ... طي أخي التَّجر برود التَّجر) وَقَول ذِي الرمة: (فعال فَتى بنى، وَبنى أَبوهُ ... فَأَعْرض فِي المكارم واستطالا)

وَأما الْعرض (بخفض الْعين) فَهُوَ الْحسب وَمَوْضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان. وَمِنْه حَدِيث نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل الْمُسلم على الْمُسلم حرَام، دَمه وَمَاله وَعرضه. وَالْجمع أَعْرَاض. وَنَظِيره قَول حسان بن ثَابت يمدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء) وَمِمَّا يَقع فِي هَذَا الإطار أَيْضا أَنهم لَا يفرقون بَين الْحيرَة (بِفَتْح الْحَاء) والحيرة (بخفضها) . فَالْأولى مُشْتَقَّة من الْفِعْل حَار يحار حيرة، فَهُوَ حائر وحيران، أَي لم يهتد لسبيله، وَالْأُنْثَى حيرى، وَالْجمع حيارى، وَمِنْه قَول الطرماح: (يطوي الْبعيد كطي الثَّوْب هزته ... كَمَا تردد بالديمومة الْحَار) أَرَادَ الحائر، فَحذف الْهمزَة. أما الْحيرَة (بخفض الْحَاء) فَهِيَ بَلْدَة قرب الْكُوفَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا حيري على الْقيَاس، وحاري على غير قِيَاس، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (فَلَمَّا دخلناه أضفنا ظُهُورنَا ... إِلَى كل حاري قشيب مشطب) يَقُول: إِنَّهُم احتبوا بِالسُّيُوفِ.

§1/1