دراسة في نصوص العصر الجاهلي تحليل وتذوق

السيد أحمد عمارة

مقدمة

مقدمة مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وأستفتح بالذي هو خير. وبعد: فمنذ قدرلي الاتصال بالدراسات الأدبية أحسست في أعماقي هوى يشدني إلى الشعر الجاهلي، ويملي على إطالة الوقوف أمامه وإنعام النظر فيه، حتى غدا شغلي الشاغل، فوقفت عليه جهدي في أطروحتي الماجستير والدكتوراه، وما تزال الأواصر بيني وبينه موصولة، وما يزال شغفي به يزداد يوما بعد يوم. ولعل ذلك راجع إلى أن الشعر الجاهلي هو القاعدة الصلبة، والينبوع الثر الذي يستمد منه الأدب العربي -على اختلاف عصوره وتنائي دياره- أسباب حياته: لما فيه من قيم جمالية أخاذة، ولأنه تعبير صادق عما استكن في أعماق قائله، وتصوير دقيق للبيئة العربية آنذاك، فلم يعرف قائله زيف العواطف، ولا تمويه القول، ومن ثم غدا المنارة الهادية التي انبثقت أضواؤها لتخترق غياهب العصور والأزمان، فإذا الأدب العربي كله على اتساع وقعته، وامتداد آفاقه يقبس من هذا النور، ويتخذه الأ نموذج والمثل.

لهذا كله أشرب قلبي حب الشعر الجاهلي، وصارت القراءة فيه تحقق لي متعة فنية أجد معها نفسي، هذه القراءات المتواصلة رشحت لي فكرة انتخاب بعض قصائده، أطيل الوقوف أمام قيمها الجمالية المتعددة من خلال التحليل الفني والاستشفاف والتفسير، والتعرف على نفسيات قائليها وتطلعاتهم وآمالهم وآلامهم وسائر حيواتهم من خلال ذلك. وقد جاءت هذه القصائد المنتخبة تصور إنسان هذا العصر، إذ يصور بعضها خروج العربي على قومه ونفوره من جوارهم بسبب وجوده في وضع اجتماعي مهين لا دخل له فيه، ويصور بعضها خروج العربي على قومه كذلك من خلاله ذاته ويثبت جوده، كما يصور بعضها الآخر العربي في حرصه على سلامة قومه وتمسكه بالإنتماء إليهم مهما لقي في سبيل ذلك من العناء والهول الذي قد يسلمه للموت، فهذان اتجاهان متقابلان، وقد ختمت هذه القصائد بنموذج المديح الذي لم تدفع إليه رغبة أو رهبة، مما يكشف عن إنسان متحضر ذي قيم خلقية أصيلة. وقد حاولت من خلال معايشة هذه النصوص أن يكون منظوري لها شاملا يتمثل أولًا في الرجوع إلى المعاجم والاستئناس بالشواهد الشعرية كلما كان ذلك ميسورا بغية تجسيد المعنى وكشف مكنونه بالنسبة لبعض الألفاظ، ومن واقع المعرفة اللغوية كنت أتجه

إلى المعنى الذي يطلبه السياق ويستدعيه المقام، ويهدي إليه الذوق الفني، وأحيانا كنت أعرض المعاني الأخرى للكلمة التي لا يرفضها السياق، والتي تصح فيه بوجه من الوجوه، وإذا كانت هذه النظرة تبدو عليها سمة التقليدية ومسحتها فإنه لا مفر منها، إذ كنا نتعامل مع ألفاظ الشعر الجاهلي وبيننا وبين قائليه بون شاسع مع اختلاف الظروف والبيئات، على أن ربط هذه الألفاظ أو بعضها بأي من القرآن الكريم يسمو بالكلمة ويرطب من جفافها وييسر فهم مضمونها والمقصود منها. لذلك كنت أقرأ القصيدة وأتعرف على ظروفها وسيرة شاعرها ثم أوجه عنايتي إلى دراسة لغتها فالشعر فن متميز البنية متميز الشكل متميز الجمال مادته اللغة بكل ما تحويه اللغة من طبيعة دلالية أو وظيفة إيحائية. كما يتمثل ثانيًا في الاستعانة بالدراسة التحليلية التي تكشف عن نواحي الجمال الأدبي في النص كما يهدي إلى ذلك الذوق المتأمل، وذلك مثل دراسة الحالة النفسية للشاعر من خلال موسيقاه التي أفرغ في لحنها كلماته، والنفاذ من مدلول الكلمات أي إيماءاتها النفسية والفكرية، وغير ذلك مما يساعد في الوقوف على عناصر الإبداع في العمل الأدبي، تلك العناصر التي تتشابك وتتداخل.

في ضوء هذا المفهوم اتجه الباحث في معالجة هذه النصوص مؤملا أن يضيف -من خلال هذا العمل المتواضع- لبنه في صرح البحث العلمي الخالص خدمة لتراثنا وأدبنا، والله من وراء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير. السيد أحمد عمارة

الشنفرى بين نزعة التمرد والإعتصام بالكرامة الإنسانية

الشنفرى بين نزعة التمرد والإعتصام بالكرامة الإنسانية لمحة عن الشاعر ... الشنفرى بين نزعة التمرد والاعتصام بالكرامة الإنسانية لامية العرب للشنفرى

الشاعر1: اختلف الرواة في اسمه كما اختلفوا في نسبه وأغلب الروايات تذكر أنه الشنفرى بن الأواس بكسر الهمزة أو ضمها بن الحجر بن الهنو ابن الأزد2، فهو أزدي من أزد شنوءة التي كان موطنها جبال السراة، بين مكة والمدينة. وكان أبوه في قلة من المال، وأمه كانت سبية.3 وهو أحد أغربة العرب، ويصرح في شعره بأنه هجين4 يقول: ألا ليت شعري والتلهف ضلة ... بما ضربت كف الفتاة هجينا وكان هؤلاء الأغربة ينبذهم آباؤهم لعار ولادتهم لأنهم ليسوا بأولاد حرائر ومن معاني الشنفرى الغليظ الفتين، وغلظ الشفتني من سمات الجنس الأسود كما يقرر ذلك علماء الأجناس.

_ 1 راجع ترجمته: الأغاني جـ21صـ87 سمط اللآلي 414 وأسماء المغتالين 231 والخزانة جـ2 صـ16، والطرائف الأدبية 27. 2 الأغاني جـ21 صـ179. 3 ابن الأنباري شرح المفضليات 195. 4 الهجين: العربي الذي أمه أَمَةٌ.

قد اصطرع قوم الشنفرى مع بني شبابة إحدى قبائل فهم بن عدوان وقد هزموا، وقتل والد الشنفرى في هذه المعركة، وأخذ هو أسيرًا وظل فيهم، حتى زهدوا فيه، واستبدلوه بأسير منهم وقع في أيدي أعدائهم بني سلامان، فكان الشنفرى في بني سلامان مكان الفهمي وعاش في بني سلامان كأنه واحد منهم وعلى عينيه غشاوة عن حقيقة وضعه حتى ظن أنه ابن الرجل الذي تبناه فكن يعامله على أساس أنه والده ويناديه ياأبي، حتى حدث ما حدث من الأحداث التي جعلته ينقم على بني سلامان ويعود إلى بني فهم. وتختلف الروايات في سبب نقمته عليهم، وتذكر بعضها أن الرجل السلامي الذي كان يعيش عنده، الشنفرى ويرعى غنمه وإبله كانت له فتاة تسمى قعسوس وبينما هما يرعيان -وأبوها غائب- طلب منها الشنفرى أن تعينه في غسل رأسه فأنفت أن يستخدمها، ولطمته لطمة مدوية على خديه، طار لها لبه وفقد صوابه، واستشاط منها غضبا، وانتظر حتى حضر أبوها، وذهب له مغاضبا وسأله من أنا؟ فقال: من الأواس بن الحجر، فقال: أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استبعدتموني1. ثم قال للجارية التي لطمته وقالت له لست بأخي: آلا ليت شعري والتلهف ضلة ... بما ضربت كف الفتاة هجينها

_ 1 الأغاني جـ21صـ179.

ولو علمت قعسوس أنساب والدي ... ووالدها ظلت تقاصر دونها أنا ابن خيار الحجر بيتًا ومنصبًا ... وأما ابنة الأحرار لوتعرفينها وبعض الروايات تذكر أنه أحبها، وتمنى أن يتزوجها، وحاول أن يقبلها حين خلا بها، فصكت وجهه، ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليه ليقتله فوجده ينشد أبياتًا يأسف فيها على أن هذه الفتاة لا تعرف نسبه، وبعضها تذكر أنه تزوجها فعلًا، وأن بني سلامان استقبحوا أن يصهر إليهم رجل كالشنفرى، وأن أبا قعسوس خشي أن يقتله أهله أن أصهر إليه، فأقسم له الشنفرى إن قتلوك لأقتلن منهم مائة رجل بِكَ فأنكحه ابنته، وبعد أن تزوجها الشنفرى قتلت بنو سلامان أباها، فأخذ الشنفرى يوفي بوعده للرجل فيغزو بني سلامان وقتلهم. والذي يعنينا من ذاك أنه نشأ في غير قومه نشأة غير عادية، فلم يتمتع بما كان يتمتع به من نشأ بين قومه وفي أحضان عشيرته. ففقد توازنه الاجتماعي مع قبيلة الأزد، ثم انتقل إلى قبيلة فهم المشهورة بلصوصها، وهناك اتصل به تأبط شرًا، ووجد فيه تلميذًا ممتازًا، فلقنه دروس الصعلكة الأولى، ورأى الشنفرى أن فرصته في الانتقام من قبيلة الأزد قد سنحت له فصب عليها كل غزواته.1

_ 1 الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي د/ يوسف خليف 375

فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن معه من فهم، وكان يغير عليهم وحده أكثر من ذلك.1 وتذكر بعض الروايات أنه قتل منهم تسعة وتسعين رجلًا، وأنهم حاولوا أكثر من مرة أن يتمكنوا منه ولكنه كان يفر منهم وأخيرًا تمكنوا من قتله بعد أن أذاقوه صنوف العذاب2، فيمر رجل منهم بجمجمته فيضربها فتعقره فيموت، وتتم به المائة الذين كانت حلفة الشنفرى عليهم3. ففي قتله لبني سلامان قتل لعدوه الظاهر ولم تدر أن نفس الشنفرى ليست ككل النفوس في إبائها للضيم وشعورها بالهوان، يقول عن نفسه: ولكن نفسًا حرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحول وقد كانت نفسه شديدة الحساسية سريعة التأثير فقد سجل هذا الصراع الذي دار بينه وبين بني سلامان: تهديده لهم، تربصه بهم، أحاديث غاراته عليهم، أسلحته التي استخدمها، كما صور فقره وهزاله ونعليه الممزقتين، وتشرده في الصحراء، وغير ذلك من

_ 1 الأغاني جـ21صـ183. 2 وقد رثاه صديقه تأبط شرًا بأبيات شاكية الطرائف الأدبية 28. 3 السابق 186.

الأحداث التي لا ترجع أهميتها لذاتها بل لما تعسكه من آثار على نفسه وحياته. على أن الشنفرى من الشعراء البارزين في طائفة الصعاليك والذين كان لهم منهج خاص في حياتهم ومنهم عروة بن الورد والسليك بن السلكة وتأبط شرًا، وقد تميز هؤلاء الصعاليك باحتراف الغزو والغارات على الأغنياء والبخلاء ثم يوزعون ما غنموه على الفقراء والمعوزين، وكانت لهم صفات نفسية وبدنية خاصة تؤهلهم للقيام بهذا العمل فقد تميزوا بالشجاعة والصبر وشدة المراس وتحمل المشاق وسرعة العدو حتى ضرب بهم المثل في ذلك فقيل: أعدى من الشنفرى أو أعدى من السليك.

عزم على الرحيل

عزم على الرحيل ... أقيموا بني أُمي صدور مَطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميَلُ فقد حُمت الحاجات والليل مُقمر ... وشُدت لطِيات مطايا وأرحُلُ وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلي مُتعزَّلُ لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ ... سرى راغبًا أوراهبًا وهو يعقلُ ولي دونكم أهلون سيد عَمَلَّس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيألًُ هم الأهل لا مستودَعُ السرِ ذَائعٌ ... لديهم ولا الجاني بما جر يُخْذلُ وكل أَبِيٌّ باسِلٌ غير أنني ... إذا عرضت أولى الطرائد أبسلُ وإن مُدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجلُ

وما ذاك إلا بسطة عن تفضلٍ ... عليهم وكان الأفضلَ المتفضلُ وإني كفاني فقد من ليس جازيًا ... بحسني، ولا في قربه متعللُ ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع ... وأبيض إصليت وصفراء عيطلُ هتوف من المُلس المتون يزينها ... رصائع نيطت إليها ومحملُ إذا زل عنها السهم حنت كأنها ... مرزأة عَجْلَى ترن وتعولُ اللغة: 1- أقيموا صدور المطي: هيئوها للسير كي نرحل ومنه قول الشاعر: أقيموا بني النعمان عنا صدوركم وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا وبنو الأم: الأشقاء من الأخوة وغير الأشقاء ما دامت تجمعهم الأم المطايا: الإبل، وإقامة صدورها كناية عن التهيؤ للرحيل

_ 1 1 عجب العجب في شرح لامية العرب11.

أميل: بمعنى مائل من الميل وهو العدل. 2 حمت الحاجات: قدرت ودبرت، والطية: الحاجة أو النية المدبرة، الأرحل: جمع رحل، وهو ما يوضع على البعيرة. 3 المنأى: المكان البعيد وكذا المنتأى قال النابغة يخاطب النعمان: فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خفت أن المنتأى عنك واسع القلى، الهجر، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . المتعزل: مكان العزلة عن الناس، والبيت كله حكمة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1. 4 لعَمرك: ولعَمري ولعَمر الله كلمات تستعمل في القسم تكون فيها اللام للتوكيد، والعَمر: الحياة والبقاء، ومنه قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2 سرى: السرى: سير عامة الليل والمقصود مطلق السير، راغب: صاحب رغبة راهب: من الرهبة وهي الخوف.

_ 1 النساء: 97. 2 الحجر 72.وفي رواية لعمرك ما بالأرض.

5 دونكم: غيركم، أهلون: جمع أهل، السِيد بكسر السين الذئب، عملَّس بفتحتين، قوي سريع، الأرقط: النمر الذي في جلده بياض وسواد، الزهلول: الأملس، العرفاء: الضبع الطويلة العرف، جيال اسم للضبع. 6 ذائع: منتشر، جرَّ جريرة: جنى جناية، وخذله: تخلى عن نصرته، وهم الأهل بأسلوب القصر، أي هم الأهل الحقيقيون ولا أهل غيرهم. 7 الأبي: الذي يأبى الذل ويرفض الضيم، الباسل: الشجاع البطل، الطرائد: جمع طريدة، وهي الفريسة التي تطارد. 8 أعجل: أسرع، الجشع: النهم وشدة الحرص على الطعام والإسراع إليه.1 9 البسطة: السعة، قال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} 2 التفضل: الإحسان، أو هو ادعاء الفضل على الغير. الأفضل: الذي يفضل غيره ويتميز عليه، المتفضل، المحسن. 10 فَقْد مفعول ثان لكفاني، الجازي بالحسنى: المكافئ بالإحسان، والحسنى أفعل تفضيل للمؤنث، والتعلل: التلهي وتعلل بالشيء اليسير اكتفى به، قال أبوفراس الحمداني:

_ 1 ومثل هذا قول حاتم: أكف يدي من تنال أكفهم إذا نحن أهوبنا وحاجاتنا معًا 2 البقرة 247

معللتي بالوصل والموت دونه ... إذا مت ظمأنًا فلا نزل القطر وقال آخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر فى شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن أساءة أهل السوء إحسانًا 11 مشيع: جريء شجاع الأبيض: السيف، والأصلت: الصقيل، والصفراء: القوس التي صنعت من النبع، والعيطل: القوس الطويلة العنق. 12 هتوف: ذات هتاف ورنة أي لها صوت مخصوص وهذه صفة للقوس، الملس: النواعم، فالملاسة ضد الخشونة، والمتن: الصلب وهو الظهر والملس متونها أي جوانبها، الرصائع: جمع رصيعة وهي ما يرصع أي يحلى به، والمراد السيور التي تحلى بها القوس، ونيطت إليها: علقت عليها، المحمل: ما يعلقه متقلد القوس في كتفه. 13 زل السهم: خرج منها، حنت: صوتت صوتًا معينًا قريبًا من صوت البكاء، المرزاة: الكثيرة الرزايا والمصائب، والثكلى التي فقدت

أباها أو ابنها الوحيد، عجلى: مسرعة، ترن: تصوت برنين، وتعول: ترفع صوتها بالبكاء والعويل. التحليل: تعبر هذه الأبيات عن الهموم التي تعتري الشاعر من صراعه من بني قومه، ومن المجتمع الذي ينتمي إليه، فقد بدأها بالحديث عما يحس به من نفرة وسأم وملل راح بسبب ذلك يتهيأ للرحيل عن قومه مخاطبًا إياهم بأن يقيموا صدور مطيهم لا ليرحلوا هم وأنما ليستعدوا لرحيله، فقد كره مقامه بينهم ورغب في مكان سوى هذا المكان، وبرحيله أصبحوا لا مكان لهم فمن الخير أن يرحلوا كذلك، وقد عقد العزم على ذلك وصار مقتنعًا بمسلكه وما يقوم عليه من التصرف، فلم ير في قومه من الشمائل ما يشجعه على البقاء بينهم والحفاظ على ودهم فليضرب في جنبات الأرض الفسيحة مرددًا قول الشاعر: إذا أنت لم تكرم بأرض فارتحل ... فلا خير في دار يهان كريمها وهو واثق أن الأرض لن تضيق بأمثاله ممن يأبون الضيم ويرفضون المهانة والمذلة بل فيها متسع لمن يمشي في مناكبها يطلب العيش الكريم.

والشاعر هنا يعرض حجته في مفارقته لقومه مع حرصه على رعاية أواصر الرحم التي تربط بينه وبينهم، فالحاجات قد حمت وآن أوانها المقدر، وقد اتضحت أمامه الرؤيا وفكر في هدوء واتزان فاتخذ قراره بالرحيل والكريم يربأ بنفسه عن الأذى فيهاجر إلى مكان بعيد، كما أن اعتزال الناس أكرم من الإثقال عليهم واحتمال نفورهم وكراهيتهم. ثم يقسم الشاعر أن الأرض واسعة لصاحب الحاجات والآمال فإذا عجز عن تحقيقها في مكان ما فليرحل إلى غيره، ومن فقد الأمان في أرض فليطلب سواها عله يجد الأمن في جنياتها، فالعاقل الحازم هو الذي يحتال بالهجرة ليحقق ما ابتغاه بدل أن يستسلم للواقع فيعيش في فزع فضلًا عن عجزه عن تحقيق آماله، والحر لا يعز عليه أن يعثر على مكان يهنأ به وينأى عن الهوان. وقد اختار مجتمعا غير مجتمع الناس جميعا أنه مجتمع الوحوش، يعايش الحيوان المفترس والأسد الضاري، والنمر الأرقط، والضبع الطويلة العرف، هؤلاء جميعا هم الأهلون الذين يؤثرهم على قومه ويفضلهم على الناس جميعا ثم يعود ثانية للحديث عن أهله الجدد واقتناعه بالانتساب إليهم ويعبر عن هذه القناعة بأسلوب القصر الذي يعني أنه لا أهل سواهم، ويبد وأنه ألف هذه الوحوش وعرف طبائعها، ولذلك وصفها وصفا كاملًا يخفي وراءه شعورا بالألم

والضيم من قوم يذلونه ويتخلون عنه في المقام الحرج، وهو هنا يقارن بين مجتمع الناس الذي هجره، ومجتمع الوحوش الذي ألفه فيقول: هم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل ففي مجتمع الوحوش تتكتم الأسرار، ولا يتخلى القوي عن الضعيف فلا يخذله أو يسلمه حتى في أشد المواقف وأكثرها حرجًا، وهو بذلك يشير إلى سبب هجره لمجتمع الناس حيث لا يؤتمن أحدهم على سر، وفي هذا تعريض بأهله لأنهم على النقيض من ذلك. ثم أخذ يصف هذه الوحوش التي اتخذ منها أهلًا وأصحابًا، فهي تتسم بالبسالة والشجاعة، ومع شجاعتها الفائقة فهو أكثر جرأة منها حين تعرض له الفريسة فيطاردها، فلا يكل إلى هذه الوحوش أمره ولا يعتمد عليها في الدفاع عنه، فله من شجاعته وبسالته ما يتخذه درعًا وسندًا يضرب به الأمثال، فالشاعر هنا يقارن بينه وبين الوحوش. ومع هذه الشجاعة الفائقة فله من عفته وقناعته ما يدفع عنه تهمه الجشع، فإذا كان يسبق إلى الفريسة ويزاحم في صيدها فلا يسبق إلى أكلها فحسبه ما يتمتع به من غنى النفس مع تفضل على الفقراء والمعوزين.

وقد فقد الشاعر قومه وهجرهم حين وجد أنه لا خير منهم، حيث لا يقدرون المعروف ولا يفهمون معنى الجميل ولا يكافئون عليه، وليس هناك من سبب واحد يحمله على البقاء معهم ويساعده على الحياة في كنفهم، فله عزاء عن فقدهم، وعزاؤه يتمثل في رباطة جأشة وثبات قلبه، كأنه في ثباته محمي ومنصور بشيعة له وأنصار، كما يتمثل في سلاحه: سيفه الصقيل الذي يضرب به عن قرب وقت الالتحام، وقوسه المتينة التي تخطئ الأهداف عن بعد حين تنطلق منها السهام سواء أكان هذا الهدف من الأعداء أم من الصيد. ويأخذ في وصف هذه القوس رفيقته في الجهاد وعونه على الأعداء فهي ملساء الصلب والجوانب، تسمع لها نغمًا معينًا وصوتًا قويًا عند انطلاق السهم عنها للدلالة على قوتها وسلامتها من العطب، بالإضافة إلى أنها محلاة ومرصعة ببعض ما يزينها فاهتمامه بمظهرها وشكلها لا يقل عن إهتمامه بجوهرها ومادتها، فهو يعتز بها لأنها قوس عجيبة تسمع له صوتًا حين يزل عنها السهم وينطلق أشبه ما يكون بصوت الثكلى الحزينة في رنة صوتها وعويلها، ووصف الثكلى بكثرة الرزايا، والسرعة تشير إلى جودة القوس وكثرة السهام التي ترمى بها وسرعتها في انطلاقها، وهذا يعني أنه ليس له أصحاب، أنه وحده صاحب نفسه، والسيف والقوس وسيلتاه للدفاع عن النفس والبقاء.

صفات يبرأ منها

صفات يبرأ منها ... ولست بمهياف يعشي سوامه ... مجدعة سقيانها وهي بُهَّلُ ولا جُبَّا أكهى مرب بعرسه ... يطالعها في شأنه كيف يفعل ولا خرق هيق، كأن فؤاده ... يظل به المكاء يعلو ويسفل لا خَالِف دَارِيَة مُتغزل ... يروح ويغدو، داهنًا يتكحلُ ولست بعل شره دون خيره ... أَلفّ، إذا ما رعته، اهتجاج أعزلُ ولست بمحيار الظلام إذا انتحت ... هدى الهوجل الْعِسِّيقِ يَهْمَاءُ هَوْجَلُ اللغة: 14 المهياف: الذي يبعد بإبله في طلب المرعى فيعطشها، أو هو السريع العطش أو السيء التدبير، السوام: الماشية الراعية في

الفلوات إذا خلى سبيلها، وعشى الإبل: إذا رعاها ليلًا لعدم إدراك ذلك نهارًا لأنه غير خبير بالمرعى، المجدعة: السيئة الغذاء، السقبان: جمع سقب وهو ولد الناقة الصغير حين يولد، بُهَّلُ: جمع باهل وباهلة: وهي الناقة التي تترك بدون راع أو تترك بدون صرار في ضرعها لعدم وجود اللبن، والصرار يوضع لمنع ولدها من رضعتها. 15 الجبأ: الجبان، قال مفروق بن عمرو الشيباني يرثي أخوته: أبكي على الدَّعاء في كل شتوة ... ولهفي على قيس زمام الفوارس فما أنا من ريب الزمان بجبأ ... ولا أنا من سيب الإله بيائس ويقال للمرأة إذا كانت كريهة المنظر لا تستحلي، أن العين لتجبأ عنها، قال حميد بن ثور الهلالي: ليست إذا سمنت بجائبة ... عنها العيون كريهة المس الأكهى: الضعيف السيء الخلق، والأبخر الذي لا خير فيه. مرب: اسم فاعل من أرب بالمكان، إذا قام به والمراد به الملازم لعرسه. 16 الخرق: الدهش من الخوف والحياء وفي حديث تزويج فاطمة رضوان الله عليها: فلما أصبح دعاها فجاءت خرقة من الحياء، أي: خجلة مدهوشة، من الخرق التحير.

الهيق من الرجال": بفتح وسكون: المفرط في الطول، والظليم لطوله وهو ذكر النعام المعروف بشدة نفيره وهروبه من مصدر الخوف المكاء: طائر يصوت في الرياض وسمي بذلك لأنه يجمع يديه ثم يصفر فيهما صفيرًا حسنا، قال الشاعر: اذا غرد المكاء في غير روضه ... فويل لأهل الشتاء والحمرات وجمعه مكاكي، فهو كثير الخفوق بجناحيه. 17 الخالف: الذي لا خير فيه يقعد في الدار بعد رحيل القوم لا يفارقها، الداري والدارية: المقيم في دارة لا يبرحها المتعزل: الذي يحادث النساء يشبب بهن، يروح ويغدو: يذهب ويجيء. الداهن: الذي يتزين بدهن نفسه، والمتكحل الذي كحل عينه. 18 العل: يزور النساء، والقراد الصخم والجمع علال، والكبير المسن شبه بالقراد وهي حشرة صغيرة كذباب الخيل، قال المتنخل الهذلي: ليس بعل كبير لا شباب له ... لكن أثيلة صافي الوجه مقتبل1 أي مستأنف الشباب.

_ 1 أثيلة: تصغير أثلة "بفتح فسكون" اسم لشجرة متينة الخشب والمعنى على التشبيه.

شره دون خيره: بمعنى أقرب من خيره، الألف: العاجز الضعيف الذي لا يقوم لحرب ولا لضيف. الأعزل: من لا سلاح معه. 19 المحيار: المتحير الضال الذي لا يهتدي لوجهته، انتحت: اعترضت، والهدى: الهداية، الهوجل: الرجل الطويل الذي فيه تسرع وحمق، العسيف: الضال عن الطريق، اليهماء: الفلاة التي لا يهتدي فيها لطريق، هوجل: الثانية صفة للفلاه. أي متفرة لا معالم فيها للاهتداء. التحليل: ويعود الشنفرى ليتحدث عن بعض صفاته التي طبع عليها والتي تدور حول صبره وقدرته على التحمل، فهو بطيء العطش يدخل بإبله وسوامه إلى المرعى البعيد لتنال منه، وليس كالراعي الإحمق الذي لا يحسن غذاء سوامه، فيعود بها مع العشاء جائعة أولادها، لأنهم يمنعونها عن رضع أمهاتها كي يبقى لهم من جائعة أولادها، لأنهم يمنعونها عن رضع أمهاتها كي يبقى لهم من الحليب ما يشربون، وترى صغار إبله سمينة، لأن أمهاتها ليست عليها صرار، فجوع الأولاد كناية عن جوع الأمهات، فلهو في ذلك خبرته وتجاربه ثم ينفي عن نفسه الجبن وقلة الخبرة وسوء الخلق، فلا يقعد عن طلب الرزق والكسب اكتفاء بالجلوس مع عرسه شأن الصعلوك الخامل

الكسلان، وإنما له من همته ونشاطه وصدق عزيمته ما يدفعه للكسب ويعينه على الرحلة والانتقال، فليس ضعيف الشخصية عديم الرأي يستعين بالآخرين في تيسير أموره ويعتمد على توجيه زوجه ومشورتها. كما أنه ثابت القلب مطمئن النفس لا تزعجه المخاوف ولا يستسلم للتردد يسيطر عليه فيصبح كالظليم في نفوره عند حدوث ما يفزع فيضطرب فؤاده ويرجف قلبه ويصبح من اضطرابه كأنه معلق في طائر يرتفع به ويسفل وهو ليس قليل الخير لا يفارق داره فيصبح ويمسي جالسًا إلى جوار النساء لمحادثتهن، فينفي عن نفسه صفة التخنث والتشبه بالنساء في الادهان والتكحل كأنه منهن، ثم يثبت لنفسه قوة الجسم وعلو الهمة والثبات عند الروع وحمله لسلاحه حين يقول: ولست بعل شره دون خيره ... ف إذا ما رعته اهتاج أعزل ألأي: ليس بضعيف الجسم والهمة يعلو شره خيره ويسبق إحسانه إساءته لا خير فيه، فلا يسعى في أمر حرب أو ضيف، إذا أفزعته أسرع إسراع الأحمق، فينفي عن نفسه هذه الصفات ويثبت لها عكسها. كما أنه يعرف طريقه ويقصد إلى هدفه غير ملتفت إلى الوراء، فلا يتردد ولا يتحير حتى في الظلام، ولا يضل في الفلوات المقفره التي

تطوي الأحمق الذي لا يعرف دروبها ومسالكها، فهو واثق من خبرته بالصحراء واهتدائه للسير فيها حتى في الظلام، وهذه من ألزم صفات الصعلوك الماهر، فالصحراء هي ميدان نشاطه يزاول فيها هوايته في قطع الطريق والإغارة على المارة والأعداء. ثم أخذ يدلف من ذلك إلى الحديث عن بعض ما يعانيه ويتغلب عليه.

مشاهد من الرحيل

مشاهد من الرحيل ... إِذَا الْأَمْعَزُ الصَّوَانُ لاقَى مَنَاسي ... تَطَايَرَ مِنْهُ قَادِحٌ وَمُفلَّلُ أُدِيْمُ مِطَالَ الجْوعِ حَتَّى أُمِيْته ... وأضرب عنه الذكر صفحًا فأَذْهَل وأستف ترب الأرض كي لا يَرَى لَهُ ... عليَّ من الطَّول أمرؤ متطولُ ولولا اجتنابُ الذام لم يُلفَ مشرب ... يعاش به، إلا لدي ومأكلُ ولكن نفسا مرَّة لا تقيم بي ... على الضيم، إلا ريثما أتحولُ وأطوي على الخُمصِ الحوايا كما انطوت ... خيوطة ماريِّ تغار وتفتلُ

اللغة: 20 الأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى، الصوان: صفة للأمعز والمراد الحجارة الشديدة الملساء، المناسم: جمع منسم وهو خف البعير والمراد أقدامي، شبه قدميه بأخفاف الإبل، القادح: الذي تخرج النار من قدحه، المفلل: المتكسر من الحجارة. 21 أديم: من المداومة وهي الاستمرار، المطال: التسويف والتأخير، وأضرب عنه الذكر صفحا: أعرض عنه وأتركه. يقال: أضربت عن كذا صفحا أي أعرضت عنه، صفحا: معرضا وفي القرآن الكريم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} 1 أذهل: أنساه وأغفل عنه. 22 استف التراب: أكله سفا أي غير ملتوت ولا معجبون، الطول المن، المتطول: الذي يمن بفعل الخير، وهذا غاية في العفة وشرف النفس. وكانت النبي صلى الله عليه وسلم يعجب بقول عنترة، وهو قريب من هذا المعنى2. ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل 23 الذأم والذم: العيب الذي يذم به، يلف: يوجد.

_ 1 سورة الزخرف الآية 5. 2 الديوان 97 ط بيروت.

24 المرة: العصة الأبية إذ يروى ولكن نفسا مرة والنفس الحرة: العزيزة الأبية، الريث: الوقت اليسير، وريثما أتحول: أي إلا قدر تحولي. 25 الخمص: بفتح الخاء الجوع، والخمص بضم الخاء: ضمور البطن، الحوايا: جمع حوية، وهي الأمعاء، الخيوطة: خيوط النسيج التي يخاط بها، والتاء تدل على كثرة الجميع، ماري: اسم لفاتل الخيوط، أو اسم رجل مشهور بصناعة الحبال وفتلها، ويقال أغار الفتل أي أحكم فتله. قال امرؤ القيس1: فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل التحليل: ويواصل الحديث عن صفاته الشخصية التي تعد بحق سمة مميزة للصعلوك الحقيقي وقد تجمعت كلها في شخصه، فهو قوي الجسم، سريع الخطو، وحين يعدو تتطاير الحجارة الصغيرة تحت قدميه، ويضرب بعضها بعضا، يخرج منها الشرر، وتتكسر، فهو وإن لم يتحدث صراحة عن سرعته، لكن تحدث عن آثار سيره السريع، من تطاير الحصى، وتكسرها التي ينتج عنها الشرر، وذلك أبلغ في قوة مناسمه،

_ 1 الديون 19 بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم

وسرعة سيره، فهذا مظهر من مظاهر الصمود والمعاناة التي يتعرض لها الصعلوك. وينتقل من الحديث عن صفته الجسمية إلى صفاته النفسية، وهي القدرة على التحمل، ومداومة الصبر على الجوع الشديد، وله طريقته الخاصة في التغلب عليه، حيث يشاغل الجوع الشديد، وله طريقته الخاصة في التغلب عليه، حيث يشاغل الجوع ويتجاهله ويماطله حتى يفنيه فيتناساه، وكأنه غير جائع، لأنه لا ييأس من الحرمان، وإنما يصبر انتظار اليسر، وتبدل الأحوال. وتصل به عزة النفس مداها إلى الحد الذي يفضل معه أن يذرع الصحراء ويخترق شعابها ودروبها، ويستف تراب الأرض على أن يمد يد الضراعة لأحد، أو يمد أحد إليه يده بفضل أو نعمة يمن بها عليه فيجرح مشاعره ويطعن كبرياءه، وعلاقة هذا البيت وهو 22 بما قبله واضحة، فإذا كان يتغلب على الجوع حتى ينساه أو يميته، فإنه هنا على فرض عدم صبره عليه لا يمد يده لأحد إكراما لنفسه من التطلع إلى ما عند غيره من الناس، ممن يمن بفضله، ويستكثر إحسانه ولو أداه ذلك إلى لعق تراب الأرض، في الوقت الذي تتلوى فيه أمعاؤه من الفاقه والحرمان. وليس حاله تلك عن ضعف أو عجز، فلولا أنه يربأ بنفسه عن العيب، ولولا كراهيته للذم لاستطاع أن يحصل على كل ما يعاش

به من مأكل ومشرب هنيء، أو لجمع عنده أصناف المآكل والمشارب من طريق غير كريمة، فبعد أن عرض لحالته السابقة أراد أن ينفي أن يظن به أحد ذلك لضعفه عن الحصول عن المأكل أو المشرب، بل إن الذي قد يوصله إلى هذا المجال عزة نفسه وتعففه عن العيب، مع قدرته على الكسب من أي جهة، فنفسه الأبية تأبى عليه أن يأتي ما يذري به من عيب أو نقص، وما أن تراه أو تحس به حتى تتحول عنه مسرعة. ومن أجل ذلك تراه خميص الحشا يطوي أمعاءه على الجوع وهي خاوية حتى يبست فغدت كخيوط رفيعة محكمة الشد والالتواء من العسير أن تعود إلى طبيعتها الأولى لأنها أصبحت كالحبال المفتولة بدقة وإتقان، ولا شك أن الأخذ بهذا الأسلوب، وقسوته على نفسه مما يوهن قوته ويضعف بنيته ويبدو ذلك واضحا على محياه وأسارير وجهه.

لوحة مجسدة للذئب الجائع

لوحة مجسدة للذئب الجائع ... وأغدو على القوت الزهيد كما غدا ... أزلّ تهاداه التنائف أطحلُ غدا طاويا يعارض الريح هافيا ... يخوت بأذناب الشعاب ويعسلُ فلما لواه القوت من حيث أمَّه ... دعا فأجابته نظائر نُحَّلُ مهلهلة شيب الوجوه كأنها ... قداح بكفي ياسر تتقلقلُ أو الخشْرمُ المبعوث حَثْحَثَ دَبْرَهُ ... محابيضُ أَرْدَاهُنَّ سَاْمٍ معسلُ مهرتةٌ فوهٌ كأنَّ شدوقَهَا ... شقوق العصيِّ كالحاتٍ وبسلُ فضج وضجت بالبراح كأنها ... وإياه نوح فوق علياء ثكلُ

وأغضى وأغضت واتسى واتست به ... مراميل عزاها وعزته مرملُ شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت ... وللصبر إن لم ينفع الشكو أجملُ وفاء وفاءت بادرات وكلها ... على نكظ مما يكاتم مجملُ اللغة: 26 القوت الزهيد: الطعام القليل، الأزل: صفة للذئب النحيل الخفيف السريع لقلة لحم عجزه ووركيه، تهاداه: أي تتهاداه بمعنى تتناقله وتتداوله، التنائف، جمع تنوفة وهي المفازة والأرض القفار، قال امرؤ القيس: كأن دثارا حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل أي تهديه من تنوفة إلى أخرى، الأطحل: الذي لونه كلون الطحال بين الغبرة والبياض.

27 الطاوي: الجائع، قال الحطيئة: وطاوي ثلاث عاصب البطن مُرْمِل ... ببيداء لم يعرف بها ساكن رَسْمَا يُعارض الريح: يفعل مثل فعلها من الجري، والمراد يسبقها، أو أنه يستقبلها ويكون عكس اتجاهها. هافيًا: مسرعًا اسم فاعل من هفا يهفو إذا خف على الأرض واشتد عدوه أو ذهب يمينًا وشمالًا من شدة الجوع، يَخُوت: ينقض ويخطف، يقال: خات البازي إذا انقض على صيده، أذناب الشعاب: أواخرها أو أطرافها، والشعاب: جمع شعب بكسر الشين وهو الطريق في الجبل، يعمل: يمشي خببًا ويسرع. 28 لواه: دفعه ومطله وامتنع عليه، أَمَّه: قصده، النظائر: الأشباه، نحل جمع ناحل، وهو الهزيل الضامر. 29 مهلهلة: قليلة اللحم هزالا، وهي وصف لنظائر في البيت السابق، وشيب، جمع أشيب، وشيب الوجوه شاحبة مصفرة، القداح: جمع قدح بكسر القاف وهي السهم قبل بريه وتركيب نصله أي قبل أن يراش. الياسر: المقامر وهو لاعب الميسر، وفي القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر} 1 وجمع الياسر أيسار، قال عبد قيس بن خفاف البرجمي: فأعنهم وأيسر بما يسروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

_ 1 سورة البقرة 219

تتقلق: تتحرك في اضطراب. 30 الخشرم: رئيس جماعة النحل وهو ما يعرف بملكة النحل، وأو للعطف والعطف إما على الذئب الأزل، أو على قِداح في البيت السابق، المبعوث والمنبعث في السير: المسرع، حثحث: حرك كثيرًا وحض، والدبر: جماعة النحل، محابيض: جمع محبض وهي عيدان تكون مع جامع العسل والأصل في جمع محبض محابض، وقد أشبع حركة الباء فجاءت الياء، أرداهن: أهلكهن وحطمهن من الردى وهو الهلاك، سامٍ: فاعل أرداهن وهو اسم فاعل من السمو بمعنى مرتفع، المعسل: طالب العسل وجامعه. 31 مهرتة: مشقوقة الفم شقًا واسعًا، فوه: جمع أفوه للمذكر وللمؤنث فوهاء مفتوح الفم، شدوق: جمع شدق وهو جانب الفم كالحات: عابسات الوجوه، بسل: جمع باسل وهو الكريه المنظر ومنه مقاتل باسل أي يكره الأعداء لقاءه، والباسل كذلك الأسد لكراهة منظره وقبحه. 32 ضج وضجت: صاح الذئب وصاحت معه الذئاب فأحدثت ضوضاء، البراح: الأرض الواسعة لا نبت فيها، ومنه قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} 1.

_ 1 سورة يوسف الآية 80

كأنها: المقصود بها الذئاب، نوح: جمع نائحة وهن النساء يجتمعن للحزن، قال أبو ذؤيب الهذلي: فهن عكوف كنوح الكريـ ... ـم قد شف أكبادهن الهوى العلياء: المكان المشرف العالي وفي شعر العباس بن مرادس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق ثكل: جمع ثكلى وهي المرأة التي فقدت ولدها، ومنه قول الرسول لبعض أصحابه: "ثكلتك أمك" أي فقدتك. 33- أغضى على الشيء: سكت وصبر، والأغضاء تقريب الجفون بعضها من بعضها لخفض البصر ومنه قول الفرزدق في وصف علي زين العابدين: يغضى حياء ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم والمراد هنا أن الذئب كف عن العواء، وكفت معه الذئاب كذلك، اتسى واتست بمعنى امتثل واقتدى أي أن كلًا منهما تأسى بالآخر واقتدى به، مراميل: جمع مرملة وهي التي نفد زادها، قال السليك بن السلكة:

اذا ارملوا زادًا عَقَرْتُ مَطية ... تَجُرُّ برحلها السريح المخدما ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأرملنا ... . 34- شكا وشكت: بمعنى تشكى الذئب لجوعه فجاوبته رفاقه، أرعوى: كف ورجع عما هو فيه. 35- فاء: رجع وثاب إلى رشده، بادرات: مسرعات، يقال: بادره بكذا إذا أسرع إليه، النكظ: الشدة والجوع والجهد والمشقة، يكاتم: يخفي ما في نفسه، مجمل: صابر هادئ في غير ثورة.

تحليل: ويعرض الشاعر هنا لما يكفيه من الطعام، فهو يسعى مبكرًا مع اكتفائه باليسير من الزاد الذي لا يتناسب مع كثرة حركته، وماذا يفعل وحياة الصعلكة والعدو في الصحراء تجلعه يتخفف من الطعام مضطرًا لأنه لا يجد منه إلا ما يقيم أوده ويمسك حياته، فهو صاحب مقدرة على الانتفاع بالقليل، وفي سياق حديثه عن الجوع الشديد الذي يتعرض له فسبب نحول جسمه وقلة لحمه يشبه نفسه بذئب أصابه الهزال من شدة الجوع فأخذ يتنقل في الفلوات، وتتقاذفه المفازات بحثًا عن الطعام، ووجه الشبه بينهما شدة الجوع الذي أصاب كليهما وحاجة كل منهما للبحث عن الطعام، أو المقصود أنه يعدو وفي طلب الطعام عدو الذئب، ويبدو أن صورة الذئب الذي جعل نفسه شبيهًا به قد استبدت بالشاعر وسيطرت على مشاعره، فترك الحديث عن نفسه، وأخذ يرسم بعد ستة اللاقطة أوصافًا متعددة لهذا الذئب ورفاقه، فلقد خرج الذئب جائعًا في أول النهار وهو يسرع في طلب فريسته يستقبل الريح ويعدو هنا وهناك في الشعاب ينقض مرة على صيد، ويسرع في مطاردته مرة أخرى، فهو دائم الحركة، وحين استبد به الجوع وعز عليه العثور على الطعام في الأماكن التي يظن وجوده بها أخذ يعوي ويصيح مستغيثًا، فأجابته ذئاب تشبهه وبادلته الصياح والعويل، حالها كحاله قد نالها

من الضعف والهزال وضمور الجسم ونحوله بسبب الجوع، ما دفعها إلى أن ترد على استغاثته بأخرى مثلها. وتسلسل من الحديث عن الذئب إلى الحديث عن رفاقه الذين جمعت المشاعر المشتركة بينهما، فهذه الذئاب قد حركها البحث عن الطعام كذلك، ويصفها بالضمور والنحول، فهي مهلهلة قليلة اللحم قد ابيض منها شعر الوجه، فأصبحت شاحبة الوجوه كأنما تعالج سكرات الموت، لهول ما تقاسيه من الجوع والظمأ، فهي أسوأ حالًا منه، كأنها في اضطراب حركتها وعدم انتظامها تشبه سهام المقامرة في يد الياسر فالذئاب التي تلتقي مع الذئب الذي يشبه به نفسه على غاية واحدة كما تشبه سهام الميسر في حركتها البيت/29 تشبه هنا كذلك رئيس جماعة النحل في وسط مجموعته وقد جد في السير وتحركت معه مجموعة النحل حين عمد أحد طالبي العسل إلى خلاياها ليأخذ حاجته فحطمها، فطار النحل واضطرب لأنه أصبح بلا مأوى بعد أن تهدم بيته وفقد طعامه الذي ادخره لوقت الشدة، فحالة الذئاب النفسية كحالة النحل الذي طرد من خلاياه فأصابه الرعب والفزع. ويواصل الشنفرى حديثه عن الذئاب التي تجمعت حول الذئب الجائع حين دعاها فيصفها في البيت 31 بأن أفواهها واسعة مرتخية، وأن أشدقها كذلك وقد تضامت شفاهها لجفافها فبدت مشقوقة الجوانب كأنها الشقوق في العصي، وكذلك كانت عابسة مغبرة

الوجه كريهة المنظر، يريد أن يقول إن الهزال أصاب كل جزء في أجسامها حتى الشفاه إذا فتحت فاهًا بدت مرتخية، وإن أغلقته فنهايته صارت مجرد خط رفيع أشبه بالشقوق، وهذا من دقة الوصف والحرص على اكتمال الصورة وتوضيح كل جوانبها بحيث لا يند منه وصف، أو تفوته صورة. وبعد هذا التصوير يلتفت الشاعر إلى العواء المتبادل بين الذئب الجائع وجماعته فحين ضج الذئب بالعواء والصياح، جاوبته الذئاب الأخرى من حوله فأصبحت الأصوات المنبغثة لاختلاف درجتها وشدتها وتداخلها كأن هذه الذئاب في مأتم تنوح فيه نساء ثكلى فوق ربوة عالية، فصياح الجميع كصياح نساء معولات فوق مرتفع من الأرض لفقد أولادهن، فالذئب استعوى أشباهه فعوت، كما تهيج النائحة بقية النساء في مأتم. ثم يقول أن الذئب الجامع والذئاب الرفاق تجمعها حالة واحدة وإحساس مشترك بألم الجوع، فلما يئس الذئب من الطعام ولم يفده العواء سكت ولم يضج فسكت أخوانه، وتعزى هو عن فقد القوت، وتعزت هي به، فكلاهما يعزي الآخر ويتأسى به في الصبر والتجلد على الجوع. ويبدو أن الذئب نفد صبره ولم يطق الصمت فشكى حاله لرفاقه بالعواء والضجيج فتشكت الذئاب كذلك وأظهرت حالها، ثم كف

عن الشكوى بعد ذلك فكفت هي كذلك لأنهما لم يجدا من ذلك نفعًا، وإذا كانت الشكوى لا جدوى منها فالصبر أجمل، والصبر أجمل بالإنسان إذا لم ينفعه التشكي. وحين فقدت الذئاب الصيد، وعجزت عن تحقيق مآربها رجعت مسرعة كل إلى مأواه، وهي تحمل في نفسها ألم الجوع، ومرارة الحرمان، لكنها كانت تبدي التجلد والصبر، وتكتم ما تعانيه.

سرعة العدو من مؤهلات الصعلوك

سرعة العدو من مؤهلات الصعلوك ... وتشرب أَسْآري القطا الكدر بعدما ... سرت قربًا أحناؤها تَتَصلصل هَمَمْتُ وهمت وابتدرنا وأَسْدَلَت ... وشَّمَر مني فارطٌ مُتَمَهلُ فوليت عنها وهي تكبو لعِقْرِهِ ... يُبَاشِرُهُ منهل ذُقُونٌ وَحَوْصَلُ كأن وَغَاهَا حَجْرَتَيْهِ وَحَوْلَهُ ... أَضَامِيْمُ مِنْ سَفْرِ الْقَبَائِل نُزَّلِ تَوَافَيْنَ مِنْ شَتَّى إِلَيْهِ فَضَمَّهَا ... كَمَا ضَمَّ أَذوادَ الأصَارِيمِ مَنْهَلُ فَعَبَّتْ غِشَاشًا ثُمَّ مَرَّت كَأَنَّهَا ... مَع الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ

اللغة: 36 الأسآر: جمع سؤر وهو بقية الشراب، ومنه الحديث: "إذا شربتم فاسئروا" أي: أبقوا شيئا من الشراب في قعر الإناء، قال الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسآر أي لا يسئر الأناء سؤرا، بل يشتقه كله: القطا: نوع من الطير مشهور بسرعته، الكدر: جمع، المذكر فيه أكدر والأنثى كدراء، وهي ما كان في لونها غبرة مع نقطة في الظهر، والكدر تقع وصفا للقطا، والقرب بفتح القاف والراء السير إلى الماء وبينك وبينه مسير ليلة واحدة، فهو كما قال الأصمعي سير الليل لورد الغد، والقارب: الذي يطلب الماء. الأحتاء: جمع حنو وهو الجانب، تتصلصل: يصدر منها صوت معين فيه صلصلة هو صوت العطش، أو المقصود بالإحناء الأحشاء والمقصود بالصلصلة على هذا هو صوت الإمعاء. 37 هممت وهمت: الهم: العزم وقد صدر منه ومن القطا العزم على طلب الماء والإستعداد نحوه، ابتدرنا: سابق كل منا الآخر، واسدلت: يعني القطا بمعنى أرخت أجنحتها لتعبها، وأصل الأسدال أرخاء الثوب، شمر: يمعنى جد في السير، وألفاظ: السابق المتقدم إلى الماء

يتقدم الواردة ليهيء لهم الأرسان والدلاء ويملأ الحياض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" أي أنا متقدمكم. 38 تكبو: تتساقط من الضعف والإعياء طوال الليل، والعَقر: مكان الساقي من الحوض يكون فيه ما يتساقط من الماء عند أخذه، يباشره: يلامسه، ذقون: جمع ذقن، وحوصل: جمع حوصلة وهي معدة الطائر أسفل رقبته. 39 وغاها: أصواتها ومنه قيل للحرب وغى لما فيها من الصوت والجلبة، وحجرتاه: جانباه، والضمير في حجرتيه يعود على الماء أضاميم: جمع إضمامه وهم القوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر، السَفْر: بفتح السين وسكون الفاء جمع السَّافر وهم المسافرون، ومنه قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطرسي: توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السَّفَر السَّفْرُ النزل: النازلون، يريد الشنفرى المسافر الذي يحط رحله وينزل. 40 توافين: توافدن وأقلبن أي جماعة القطا، من شتى: أي من أماكن وجهات متفرقة، ضمها: جمعها، الأذواد: وهو ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، الأصاريم: جمع أصرم، وأصرم جمع صرم وهي

القطعة من الإبل نحو الثلاثين، المنهل: مورد الماء الذي ينهل منه ترده الإبل في المراعي، ومنه قول كعب بن زهير:1 تجلو عَوارض ذِي ظَلَمٍ إِذا ابتسمت ... كَأَنه منهل بالراح معلول 41 العب: شرب الماء من غير مص، بأن يصب في الحلق مرة واحدة، وفي الحديث: "مصوا الماء مصًا ولا تعبوه عبا"، غشاشًا: مسرعة على عجل، والركب: أصحاب الإبل في السفر خاصة دون الدواب الأخرى والركب جمع وهم العشرة فما فوقهم، ويجوز أن يطلق الركب على راكبي الخيل كذلك كما ورد في قوله تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} 2 فقد يجوز أن يكونوا ركب خيل أو ركب إبل، وربما كان الجيش يتكون منهما معًا. أحاظة: اسم قبيلة من الأزد شربت مستعجلة، مجفل: مسرع خوفًا، ومن عادة المذعور أن يسرع هربًا من مصدر الإزعاج، يقال: ربح مجفل، وجافلة: سريعة، وفي الحديث: "ما يلي رجل شيئًا من أمور المسلمين إلا جيء به فيجفل على شفير جهنم".

_ 1 الديوان ص7 ط دار الكتب المصرية. 2 سورة الأنفال الآية 42.

التحليل: وفي هذه الأبيات يعلن الشنفرى عن بعض مقومات الصعلكة التي لا تتوافر لكل صعلوك وهي سرعة العدو، وهي وإن كانت تتوافر في غيره إلا أن هذه الموهبة قد تحققت لديه بصورة جعلته مضرب المثل في ذلك حتى قيل: أعدى من الشنفري، أعدى من السليك بن السلكة، وقد ضرب مثلًا على سرعته وقدم دليلًا محسوسًا فهذه طيور القطا المعهودة بسرعتها بين الطيور يفوقها الشنفرى في عدوه، ويسبقها إذا سابقته في الوصل إلى الماء، فيشرب منه ويرتوي قبل أن تصل إليه، فإذا ما وصلت لا تجد إلا قليلًا من الماء وهو ما تبقى منه، فهو يسبقها مع إلحاح العطش عليها الذي يجعلها تضرب بجناحيها أحشاءها وتصلصل وهذا ما يريد في سرعتها ومع ذلك يتفوق عليها. ثم يقول وحين بدأ السباق أدرك القطا الإعياء وبدا عليه التعب فأرخى أجنحته، بينما شمرت عن ساعد الجد فأصبحت متقدمًا عليها مع تمهلي في السير ثقة في السبق ويقينًا مني بعجزها عن ملاحقتي فكأنه ادخر الكثير من قوته ولم يبذل منها إلا ما يوفر له السبق ويضمن الفوز، فهو معجب بنفسه واثق من قدرته. ثم يستطرد في وصف القطا ومدى ما ألم بها من الظمأ على عادته في استقصاء الوصف، فبعد أن ورد الماء وصدر عنه جاءت هذه الطيور تتساقط نحوه لا تملك لنفسها دفعًا لتروي عطشها، فتنغمس فيه

بمناقيرها وحوصلها محدثة أصواتًا مختلطة تعبيرًا عن فرحتها برؤية الماء وسعادتها بالوصول إليه، وكأن هذه الأصوات أصوات جماعات القبائل المسافرة من الرجال والنساء والأطفال ومعهم دوابهم وأمتعتهم فآبوا بعد سفر وقفلوا راجعين على أوطانهم، فهم يحدثون جلبة وأصواتًا متنوعة فالعلاقة هنا بين أصوات القطا الظمآ وأصوات المسافرين بعد رجوعهم فالبهجة والسعادة تغمر الجميع هذا يسر بالوصول إلى الماء وذاك يفرح بالإياب. وتعجب لهذه الطيور التي اجتمعت على الماء وتوافدت إليه فأتت من أماكن متفرقة يضمها مورد واحد، كما تجمعت جماعات إبل حي من أحياء العرب عند حوض الماء وتزاحمت عليه فتكاثر القطا وتجمعها حول الماء كتجمع الإبل عليه. ولا يفوت الشاعر أن يصور لنا كيفية شرب القطا، فهي لشدة ظمئها وتلهفها على الماء عبته عبًا في إسراع وعجلة من غير مص، ثم عادت مسرعة محلقة في الفضاء الفسيح كأنها ركب من بني إحاظة يسرع عند الصباح في سيرة. وقد يكون المقصود بقر إحاظة، فاجأه خطر ففر مسرعًا ويكون المراد تصوير القطا في سرعته بعد قفوله من منهل الماء وإسراعه في الطيران متفرقًا بصورة قطيع من الحيوان فاجأه الخطر ففر مذعورًا مسرعًا.

ويخيل لي أن الشاعر لم يكن يعنيه تصوير سرعة هذه الطيور بقدر ما كان يعنيه التعريض بهذه القبيلة، وكأنها صارت مثلًا للجبن الذي من أحد مظاهره الجد في الهرب1.

_ 1 يراجع من الشعر الجاهلي د/ طه أبو كريشة/32، مطبعة المدني 1981

صموده أمام خشونة الحياة ونواميس الطبيعة

صموده أمام خشونة الحياة ونواميس الطبيعة ... وآلَفُ وجه الأرض عند افتراشها ... بِأَهْدَأَ تنبيه سنا سِنُ قُحَّلُ وأَعْدَلُ منحوضًا كأن فصوصه ... كعاب دحاها لاعبٌ فهي مُثَّلُ فإن تبتئس بالشنفرى أُمُّ قَسْطَل ... لما اغتبطت بالشنفرى قَبْلُ أَطْوَلُ طَرِيْدُ جِنَايَاتٍ تَيَاسَرْنَ لَحْمَهُ ... عَقِيْرَتُهُ لَأْيَهَا حُمَّ أَوَّلُ تَنَامُ إِذَا مَا نَامَ يَقْظَى عيونها ... حِثَاثًا إلى مكروهِهِ تَتَغَلْغَلُ وَإِلْفُ هُمُوْمٍ مَا تَزَالُ تَعُوده ... إعِيَادًا كَحُمَى الرَّبْعِ أو هي أثْقَلُ ذَا وَرَدَتْ أَصْدَرْتُهَا ثُمَّ إِنَّهَا ... تَثُوبُ فَتَأْتي من تُحَيْتٍ وَمِنْ عَلُ

فإما تَرَيْنِي كَابْنَة الرَّمْلِ ضَاحِيًا ... عَلَى رِقَةٍ أَحْفَى وَلَا أَتَنَعَّلُ فَإِنِّي لَمُوْلِ الصَّبْر أَجْتَابُ بَزَّهُ ... عَلَى مِثْل قَلْبِ السَّمْعِ وَالْحَزْم أَنْعَلُ وَأُعْدِمُ أَحيانًا وأغْنَى وَإِنَّمَا ... يَنَالُ الْغِنَى ذو البُعْدَةِ الْمُتَبَذَّلُ فَلا جَزِعٌ من خُلة مُتَكشف ... ولا مَرِحٌ تَحْتَ الْغِنَى أَتَخَيَّلُ وَلَا تَزد هي الأجْهَالُ حِلْمِي وَلَا أَرَى ... سَؤُولًا بِأَعْقَابِ الْأَقَاوِيل أُنْمِلُ

اللغة 42 آلف: من الإلف وهو التعود، والأهدأ: الشديد الثبوت مشتق من الهدوء، وهو نعت لمنعوت محذوف أي بمنكب أهدأ أو جنب أهدأ. تنبيه: ترفعه وتبعده، يقال: نبا بصره عنه أي تجافى عنه ولم ينظر إليه. السناسن: مفردها سنسن وهي ما يظهر من فقار الظهر أي العمود الفقري، قحل: جمع قاحل وهو اليابس، وفي حديث وقعة الجمل: كيف نرد شيخكم وقد قحل؟ أي مات وجف جلده. 43 أعدل: أتوسد، المنحوض: القليل اللحم -أي: أتوسد ذراعًا منحوضًا، الفصوص: مفاصل العظام الواحد فص يعني مفاصل ذراعه، كعاب: قطع من أنابيب القصب كان يعد للَّعب به، دحاها: بسطها وسواها وهو تعبير قرآني قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 1 مثل: جمل ماثل وماثلة وهو المنصوب المرئي للعين. 44 تبتئس: تحزن، ومنه قوله تعالى: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2، القسطل: الغبار، القصطل بالصاد كذلك. وأم قسطل: الحرب لأنها تثير الغبار، اغتبطت: فرحت، فالحرب أن حزنت لفراق الشنفرى الآن فطالما اعتبطت به قبل ذلك.

_ 1 سورة النازعات آية 30 2 سورة هود آية 36

45 الطريد: المطرود المبعد -أي: يطارده غيره، والجنايات يعني إغاراته على الأعداء خلال فترة الصعلكة، تياسرن لحمه: اقتسمن لحمه كما يقتسم الجزور في لعب الميسر، العقيرة: جثة المقتول أنسانًا أو حيوانًا أو نفسه. حم: نزل وتحقق، ومنه حم القضاء إذا نزل بصاحبه. 46 تنام إذا نام: أي: تنام الجنايات إذا هو نام، لكنها في نومها يقظى عيونها، حثاثًا: سراعًا إلى مكروهه، تتغلغل: تتعمق وتستقصي البحث عنه. 47 الإلف: التعود، فهو متعود على الهموم حتى آلفها، الربع: بكسر الراء المشددة الحمى التي تنتاب صاحبها كل رابع يوم. 48 إذا وردت: يعني إذا حضرت الهموم صرفتها وطردتها تثوب: ترجع: تحيت تصغير تحت، من عل: من أعلى وهي مبنية على الضم. 49 ابنة الرمل: الحية أو البقرة الوحشية، ضاحيًا: بارزًا، للحر وللبرد/ والمراد هنا التعرض للحر، الرقة: سوء العيش ورقة الحال، يعني ذلك الفقر، أحفى: من الحفاء وهو عدم لبس النعل. 50 مولي الصبر: وليه وصاحبه، اجتاب: اكتسى وألبس، البز: الثياب، أو نوع منه، السمع بكسر السين المشددة ولد الذئب من الضبع وهو أشجع الذئاب، ومثل قلبه يعني شجاعته والحزم ضبط الإنسان أمره

والأخذ فيه بثقة. أنعل، أتخذه نعلًا، أي أتخذ الحزم نعلًا، كناية عن اقتناعه بمسلكه ومضيه فيه بثقة. 51أعدم: افتقر مأخوذ من العَدَم بفتح العين والدال البعدة بكسر الباء وضمها بمعنى الإبعاد والتوغل في الأرض، أو المراد البعيد الهمة العريض الآمال، المتبذل: الذي يبذل نفسه ولا يصونها ولا يهتم بسترها. 52 الجزع: بصيغة المبالغة الذي لا يقدر على الصبر عند المكروه الخلة بفتح الخاء الفقر والحاجة، قال الشاعر: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب ما لي ولا جزع 53 تزدهي: تستخف، الأجهال: السفهاء، السئول: الملح في سؤال الناس، أعقاب الأقاويل: أواخر الأحاديث، أُنْمِل: بضم الهمزة وكسر الميم أنقل الحديث بين الناس على جهة النميمة.

التحليل: ثم يعرض الشاعر الألوان من المخاطر التي يتعرض لها متصديًا لنواميس الطبيعة المهلكة ويسعى إلى النجاة منها، مصورًا هزاله ونحافة جسمه فحين ينام يفترش الأرض دون فراش أو وساد على الرغم من نحوله وضموره ويستعين عن ذلك بظهر يابس العظام، فإذا انبسط على الأرض حالت أضلاعه ورءوس عظام ظهره دون وصول جسمه إليها، فيظل مرتفعًا عنها للدلالة على خلو جسمه من اللحم، فهو هيكل عظمي، وذراعه خال كذلك من اللحم وحين يتوسده، إنما يتوسد عظامًا جافة كأنها قطع من حديد، أو كأن فواصل عظامها كعاب يلعب بها اللاعب فتنتصب أمامه، يريد أنه قليل اللحم وله عظام شديدة. لقد ألف هذه المشاق وألفتة وتكيف مع هذا الوضع الجديد الذي يدل على عصاميته واعتداده بفرديته وسعادته بانتصاره على الطبيعة والكون من حوله على أنه الآن يشارك في الحروب التي كان يشنها قومه على أعدائهم فقد كان ذلك قبل حياة الصعلكة حيث كانت تعرفه الحروب، ويدلي فيها بدلوه، وتفرح بمزاولته لها وأثارثه إياها، وقد انصرف بعد ذلك إلى الصراع الخاص به والصعاليك، فإن حزنت الحرب لمفارقة الشنفرى لها الآن، فطالما اغتبطت وسرت به قبل ذلك.

ولقد كثرت جناياته وتعددت إغاراته وقتل الكثير من بني سلامان ومن غيرهم حتى بات الناس يطلبونه حيثما وجدوه ليقتلوه، فهو الآن مطارد ومطالب بجنايات تكاثرت عليه بحيث لا يكاد يعرف بأيها تؤخذ نفسه، على أن أصحاب هذه الجنايات باتوا يترصدونه، ويحرصون على الوصول إليه والتمكن منه وإن ناموا ظلت عيونهم يقظى باحثة عنه مترصدة له تدبر الانتقام منه والأخذ بثأرهم مبالغة في تصوير الجد في البحث عنه. ولذلك فلا عجب أن تألفه الهموم وتعتاده وتتردد عليه في نظام يكاد يكون ثابتًا كأنها الحمى التي تعاود المريض من وقت لآخر، وربما كانت أشد وأثقل عليه منها، فهو تعبير عن ضيقه وقلقه ويظل في صراع مع هذه الهموم، كلما صرفها عادت من حيث أتت فتحدق به من كل جانب وأخيرًا يخاطب صاحبته التي تخيلها على عادة الشعراء الجاهلين معتزًا بشمائله وماركب فيه من صفات، فإن كان مظهره ينبئ عن فقر وحرمان، فيبدو عاري الجسد وكأنه حية تتحرك بجلدها المكشوف لا يجد ما يستر جسمه أو يظله ويقيه حر الشمس، إن كانت تراه كذلك وتراه مرة يمشي حافيًا ومرة يلبس نعلًا فإن جوهره غني بالفضائل فهو حليف الصبر، يلبس ثوبه على قلب شجاع كقلب السمع حتى لا يظن أحد أن الصبر ضعف، وفوق هذا فهو شديد الحزم حتى كأن الحزم نعل في قدميه، ولذلك فلا يجعل المال هدفه ولا يحرص للحصول عليه فشغله الشاغل في ترقب

الهجمة والمباغتة، أما الفقرة والغنى فكلاهما أمر طارئ غير ذي شأن، فلا سلطان لهما عليمه لا يخالف الفقر ولا يجزع منه فيكشف حاجته للناس، ولا يبطره الغنى ويطغيه: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب وهكذا المبادئ في حياة أصحابها، تطبعهم على الموقف الواحد الذي لا يعرف التلون أو الخشوع، أما غيرهم ممن يركبون كل موجه فأولئك لا يحرصون على فضيلة أو يلتزمون بقيمة. ومن تقلب في الأحزان منتجعا ... أن اقفر الشام ألفيناه في اليمن وهكذا كان الشنفرى لا يستخفه الجهلاء والحمقى، ولا يتحدث فيما لا يعنيه ولا يقحم نفسه في أمر لا يهمه ولا يحرصون على إثارة الفتن والإفساد بين الناس فهذا ليس من خلقه، بل كل ما يعنيه أن يجالد في سبيل ما يدين به مهما كانت النتائج.

مظاهر أخرى للصمود

ز) مظاهر أخرى للصمود غاراته في جوف الليل مع شدة البرد وفخره بالتعرض وليلة نحس يَصْطلي القوسَ ربُها ... وأَقْطُعَه اللاتي بِها يتنبل دَعَسْتُ على غَطْشَ وبَغْشَ وَصُحْبَتِي ... سُعَارٌ وَإرزيز وَوَجْرٌ وَأَفْكَلُ فأيمتُ نِسْوَانًا وَأَيْتَمْتُ الِّدَةَ ... وعُدْتُ كَمَا أبدأتُ والليلُ أَلْيَلُ وَأَصْبَحَ عنِّي بِالْغُمَيْصَاءِ جَالسًا ... فَرِيْقَانِ مَسْئُولٌ وآخرُ يسأل فَقَالوا لَقَد هَرَّت بِلَبل كِلَابُنَا ... فَقُلْنَا أَذئبٌ عَسَّ أَمْ عَسَّ فُرْعُلُ فَلَمْ تَكُ إِلَّا نَبْأَةٌ ثُمَّ هَوَّمَتْ ... فَقُلْنَا قَطَاةٌ رَيْعَ أمْ رَبْعَ أَجْدَلُ فَإِنْ يَكُ مِنْ جِنٍ لأَبْرَحَ طَارِقًا ... وَإِنْ يَكُ إِنْسًا مَا كَهَا الإِنْسُ تَفْعَلُ

وَيَوْمٌ مِنَ الشِّعْرَى يَذُوبُ لُوَابُه ... أَفَاعِيْهِ فِي رَمْضَائِهِ تَتَمَلْمَلُ نَصَبْتُ لَهُ وَجْهِي وَلا كِنَّ دُونَهُ ... وَلا سِتْرَ إِلَّا الأَتْحَمِيُّ الْمُرَعْبَلُ وَضَافٍ إِذَا هَبَّتْ لَهُ الرِّيْحُ طَيَّرَتْ ... لَبَائِدَ عَنْ أَعْطَافِهِ مَا تَرَجَّلُ بَعيدٌ بِمَس الدُهْنِ والْفَلْي عَهْدُه ... لَهُ عَبْسٌ عَافٍ مِنَ الْغُسْلِ مُحْولُ 64 اللغة: 54 النحس: ضد السعد، ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} 1 والنحس شدة البرد وهو المراد هنا، وإصطلاء النار: الاستدفاء بها، ويصطلي القوس: يوقدها ليستفء بها من شدة البرد، ربها: صاحبها الأقطع: جمع قطع بكسر القاف وهو نصل عريض السهم، قال ساعدة بن جؤية:

_ 1 سورة فصلت آية 16

وشقت ما قاطيع الرماة فؤاده ... إذا يسمع الصوت المغرد يصلد 55 دعست: سرت أطأ الأرض بشدة، الغَطْش: بفتح فسكون: ظلام حالك، ومنه قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} 1 البغش: المطر الخفيف، وفي الحديث عن أبي المليح الهذلي عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر، فأصابنا بغش من مطر ... "وفي رواية" فاصابنا بغيش تصغير بغش. السُعار: بضم السين شدة الجوع وأصله حر النار، فاستعير لشدة الجوع، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 2، الأرزيز: البرد الشديد، الوجر: الخوف، الأفكل: الرعدة والارتعاش، وفي حديث عائشة: فأخذني أفكل فارتعدت من شدة الغيرة. 56 أيمت: الأيم: من لازوج لها من النساء، وكذا من لازوج له من الرجال، وأيمت المرأه جعلتها تفقد زوجها بمعنى أن يقتل زوجها، قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} 3، وأيتمهم: جعلتهم يتامى، واليتم من الإنسان من فقد أباه حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم، والجمع أيتام ويتامى، ويتمه، ولا يقال:

_ 1 سورة النازعات الآية 29 2 سورة القمر الآية 47 3 سورة النور الآية 32

لمن فقد الأم يتيم، ولكنه منقطع، واليتم في البهائم يكون من قبل الأم، والدة: أولاد، وأبدأت: بدأت، وليل أَلْيَل: شديد الظلام. 57 الغميصاء: اسم المكان الذي أغار عليه بنجد، جالسًا: قد يكون معناه، قاصدًا بلاد الجن وهي نجد. 58 هرت الكلاب: نبحت والهرير أضعف من النباح، والعسس: حراس الأمن بالليل، والفرعل: بضم الفاء والعين ولد الضبع، والأنثى فرعلة، وفي المثل: أغزل من فرعل، وهو من الغزل والمراودة. 59 النبأة: الصوت الضعيف، هومت: نامت يعني الكلاب، القطاة: نوع من الطير، ريع: أفزع من الروع وهو الخوف، الأجدل: الصقر. 60 البَرح: الشدة والقوة، وأبرح تفضيل بمعنى أشد وأعظم، والطارق: القادم بالليل، والهاء في ماكها إما ضمير مؤنث أو اسم إشارة هذا، أي ما مثل فعلته، أو ما مثل هذا الذي فعله. 61 يوم من الشعرى: الشعرى: كوكب في الجوزاء يظهر في ليالي الحر الشديد، أي: يوم من أيام الحر التي يطلع فيها الشعرى، اللواب: اللعاب وهو ما تراه في شدة الحر مثل خيوط العنكبوت في الفضاء وذلك حين يكون الحر مصحوبًا برطوبة. الأفاعي: جمع الأفعى وهي الحية، والرمض: حرارة الشمس على سطح الأرض،

وأرض رمضاء أصابها الرمض وهو شدة الحر، تتململ: تتحرك وتضطرب. 62 نصب له وجهي: تعرضت له بوجهي وأقمته في مواجهته، الكن بكسر الكاف الستر، الاتحمى: الثوب الممزق، وهو ضرب من البرود، قال عوف بن عطية: كميتا كحاشية الاتحمى ... لم يرع الصنع فيها عوارا 63 الضافي الطويل السابغ يعني شعره، اللبائد: جمع لبيدة وهي ما تدلى من الشعر على الكتفين في تجمع وتلاصق، العطف بكسر العين هو الجانب، ترجل: تسرح وتمشط. 64- بعيد: منذ زمن طويل يعني شعره، والفلى: التفلية وهي تنقية الرأس من القمل، العبس: بفتح العين والباء: ما تعلق باذناب الإبل والغنم من الروث والبعر فجف عليها، عاف: كثير وهو وصف للعبس، محول: أي أتى عليه الحول من الغسل من آتى عليه الحول ولم يغسل.

التحليل: وفي هذه المجموعة من الأبيات نلتقي بالشنفرى في إحدى غاراته الليلية، وفي جانب من بطولته التي ظهرت على مسرح الشتاء القارس فهو يخرج في ليلة شديدة البرد يصنع فيها ما لا يستطيع غيره أن يصنعه, فالليلة لا يطاق بردها في بحيث يقسر صاحب القوس أن يشغلها ويصطلي بها, وصاحب القوس أشد حرصا عليها؛ لأنها وسيلته للدفاع عن نفسه ومع ذلك فهو يوقدها ليستدفئ عليها، ويحطم سهامه التي يرمي بها ويجازف بفقد أهم ما يحتاج إليه، أما هو فإنه يخرج ويتحدى الطبيعة في تلك الليلة الليلاء الشديدة الإظلام التي يهطل مطرها لا يصحبه فيها إلا ما يزيده ضنى وهلاكا وهو الجوع الشديد الذي يشبه النار المحرقة، والبرد القارس الذي يرعد الفرائص، والخوف والرعدة من الصقيع يسري في جسمه، ومع ذلك فهو لا يخشى شيئا ولا يرهب عدوا، بل يمضي إلى غاراته محققا ما اعتزم عليه ثم يعود سالما، مخلفا وراءه آثار غارته من رجال لقوا مصرعهم فأصبحت نساؤهم أيامى وأولادهم يتامى، وقد حقق ذلك في وقت وجيز فلقد عاد كما بدا والليل أليل ومازال الظلام دامسا، وحين أصبح الصباح فتح القوم عيونهم على الحقيقة وأصبحوا يتساءلون في دهشة من الذي أغار عليهم يتعجبون من سرعة الغارة، والآثار التي ترتبت عليها وتمخضت عنها وقالوا: لقد سمعنا في الليل كلابا تنبح، فقلنا: هل طاف بالحي ذئب أم طاف بالحمى ضبع

واشتد الجدل بين القوم وطال الحوار وعقدت الدهشة ألسنتهم, ثم قالوا: إن صوت الكلاب لم يستمر وإنما كان ضعيفا ثم نامت الكلاب بعد أن عوت صوت واحد لعلها قطاة روعت أو أصوات صقر مفزع فأحست الكلاب ذلك ثم سكتت، فالشاعر هنا يصف خفته وسرعته ومهارته. ثم يعود إلى ما تخيله من حديث القوم عنه بعد غارته المفاجئة والتي تركت القوم في حيرة وتعجب من أمرهم، فقد تعودوا أن يقوم بالغارة عدد كبير, أما أن تكون بهذه الصورة ثم تترك هذه الآثار السيئة فذلك مالم يتعودوه وما يدعو إلى الدهشة، ترى هل هذا الطارق من الجن؟ إن كان كذلك فما أشده من مغير فقد بالغ في سوء صنيعه, وقد يكون من الإنس ولكن الإنس لا تستطيع أن تفعل فعله؛ فقد تركهم في دهشة بين أن يكون جنيا أو إنسيا، على أن أفعال الشنفرى أشبه بأفعال الجن ذلك ما خامر القوم، وربما وقع في أذهانهم أن الأمر قد يستمر على هذه الصورة، ولئن استمر في تلك الأفعال الخارقة، فهذا من شأنه أن يصيب القوم بالهلع والفزع. ويفخر الشنفرى بتعرضه للحر الشديد الذي يشوي الوجوه والأجسام من الإنسان والحيوان فيقول: قد يمر به يوم من أيام الحر الشديد التي تطلع في الشعرى، وتنتشر آثار الحرارة في الفضاء حتى لا تكاد الأفاعي تستقر على رمضائه مع أنها نشأت في هذه البيئة وتعودت عليها، كنت أنا أنصب وجهي وأواجه هذا الحر ولفح الشمس

لا يسترني عنها ستر ولا وقاية سوى برد ممزق وثوب تخلله الخروق والثقوب. فوجهه لا يستره إلا ثوب بال ولا يتظلل بشيء إلا بشعر رأسه المتكاثف الذي تلبد من طول إهمال تنظيفه، فإذا هبت الرياح لا تفرقه بل تظل لبائده متماسكة وتطيره لبدا لبدا فشعره قد بعد بالدهن والفلي، فتراكمت عليه الأوساخ والأقذار حتى أصبح له مثل العبس الذي يعلق بأذناب الإبل والغنم إذ يمضي عليه الحول دون أن يغسل أو ينظف.

قدرته على العدو والتنقل

ب 65-68 قدرته على العدو والتنقل: وَخَرْق كَظَهْر التُّرس قَفْر قطعْتُه ... بعاملتَيْن ظَهْرُهُ لَيْسَ يعمُلُ فألحقت أُولاه بأُخراه مُوفيًا ... على قُنَّة أفعى مرارا وأمثلُ ترود الأراوي الصحم حول كأنها ... عذارى عليهن المُلاء المذيلُ ويركدن بالأصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعْقَلُ اللغة 65 الخرق: بفتح الخاء, الأرض الواسعة تتخرق فيها الرياح، قال معقل بن خويلد: وإنهما لجوابا خروق الترس: بضم التاء ما يتخذه الفارس في القتال ليتقي به ضربات السيوف، قفر مقفرة ليس بها أحد، والعاملتان: رجلاه، ظهره: يعني ظهر الخرق، ليس يعمل: لم يقطعه إنسان لأنه يتعذر فيه السير.

66 فألحقت أولاه بأخراه: أي لم يعد هناك فارق بين أوله وآخره لشدة العدو، موفيا: مشرفا، القنة: أعلى الجبل، أقعى: أقعد قعدة معينة وهي أن يلصق الرجل مقعده بالأرض, وينصب ساقيه مسندا ظهره، أمثل: انتصب واقفا. 67 ترود: تذهب وتجيء، الأراوي: جمع أروية وهي أنثى الوعل الصحم: جمع أصحم، وهي الوعول السود التي يميل لونها إلى الصفرة، العذارى: جمع عذراء وهي البكر من الإناث، الملاء: نوع من الثياب، المذيل: المهدب الطويل الذيل، قال امرؤ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في الملاء المذيل 68 يركدن: يثبن في سكون، الآصال: جمع أصيل وهي الوقت من العصر إلى المغرب، وهو تعبير قرآني قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ , رِجَالٌ} 1، العصم: جمع أعصم وهو الوعل الذي في ذارعيه بياض، الأدفى: الوعل طال قرنه نحو أذنيه، الكيح: عرض الجبل وناحيته، الأعقل: المتحصن بمعقل أي في جبل عال.

_ 1 سورة النور: 26، 27

التحليل: وفي هذه المجموعة يتحدث الشنفرى عن الصحراء الموحشة التي يعز على السابلة سلوكها، أما هو فإنه يقطعها على قدميه ويطويها طيا، بل إنه لشدة عدوه أمحت المسافات ولم يعد هناك فارق كبير بين أولها وآخرها، فطورا تراه مشرفا على أعلى الجبال، وكان الصعاليك يتخذون من أعلى الجبال مراقب يراقبون منها الطريق، وطورا تراه في السفح إذا احس نصبا أو جهدا وكان سبيله إلى الراحة القعود على ركبتيه، بغية أن يلتقط أنفاسه ثم لا يلبث أن يعود إلى العدو، ولا يحدث ذلك منه مرة واحدة، وإنما يصنعه مرارا حتى ألفته الصحراء وأنست به وعولها فصارت تذهب وتجيء حوله في غير نفرة أو خوف، وهي بشعرها الطويل وذيولها المنسدلة كأنها في غير نفرة أو خوف، وهي بشعرها الطويل وذيولها المنسدلة كأنها عذارى لابسات ثيابا طويلة الذيل، ليس هذا فحسب ولكن أمرها معه بلغ ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تظل ثابتة في مكانها حين تراه؛ لأن بينها وبينه ألفة وميلا، فإذا جاء وقت الأصيل راحت تتحلق به وكأنها إناث تلتف حول ذكر قوي منيع ألفها وألفته.

رؤية تاريخية ونظرة في مضمون القصيدة

رؤية تاريخية ونظرة في مضمون القصيدة لم تحظ قصيدة عربية في القديم أو الحديث بمثل ما حظيت به لامية الشنفرى من اهتمام وعناية من الباحثين والدارسين، فقد تداولها الرواة، وتناقلها كثير من العلماء بالشرح والتحليل، ولعل أشهر هذه الشروح هو: أعجب العجب في شرح لامية العرب للزمخشري1, كما شرحها المبرد ت 285 وهو أول شارح لها, وشرحها أبو بكر بن دريد ت 321، وعبد الله بن الحسين العكبري ت 616، كما ذكر القصيدة بأكملها أبو علي القالي في أماليه، ثم جاء المستشرقون وأولعوا بها وأكبوا على دراستها وترجموها إلى اللغات الأوربية المختلفة. فهذا بروكلمان صاحب كتاب تاريخ الأدب العربي يسرد كثيرا من دراسات المستشرقين وترجماتهم لها، ويصف اللامية بأنها تمثل مذهبا شعريا مستقلا، كما أكد ذلك جورج ياكوب في تقديمه للامية, وعلى حين يجعل الشعر الجاهلي وصف الطبيعة من الجبال والفيافي وغيرها غرضا مقصودا لذاته، يتخذ شاعر اللامية هذا الوصف بمثابة منظر أساسي بهيج لتصوير الإنسان نفسه وإعماله2,

_ 1 راجع فهارس الشروح بدار الكتب المصرية، وبها أكثر من خمسة عشر شرحا مطبوعا ومخطوطا للامية العرب، كما أشار إلى ذلك بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي وعدد أكثر من شرح لهذه القصيدة جـ105/1. 2 تاريخ الأدب العربي ج 106/1.

ويعقب على هذا الحديث بأنها قصيدة لامعة بين قصائد الشعر الجاهلي وأنها للشنفرى وليست لغيره. ولعل سر هذا الإهتمام الكبير من العرب والمستشرقين بهذه القصيدة حتى تؤلف فيها هذه الشروح المتعددة وحتى يحرص الغربيون على ترجمتها إلى لغتهم أنها تصور لونا من ألوان الحياة العربية وتعبر عن حياة طائفة من هذا المجتمع وهم الصعاليك، كما تصور البيئة التي اتخذوها موطنا لصعلكتهم وميدانا لنشاطهم ومركزا لغاراتهم، بما تشتمل عليه هذه البيئة من خصائص مناخية أو طبيعية كل هذا في أسلوب شعري متفرد متميز، بالإضافة إلى القاموس الشعري الخاص بها والمادة اللغوية التي حوتها، وقد صورت القصيدة حياة الصعاليك ومعيشتهم ومدى ما يتعرضون له من المشاق وما يكابدون في حياتهم من الجوع وشظف العيش وقسوة الحرمان، بالإضافة إلى خصائصهم الجسمية والنفسية، فهي صورة صادقة لما عرف عن شعرهم وعن أخبارهم، وكأن الإهتمام بها راجع لغرض لغوي، وآخر اجتماعي. ولذا كانت هذه القصيدة اللامية درة أدبية ثمينة. 2 وحين أشرقت شمس الإسلام وسطعت أنواره على بلاد العجم اختلط الفرس بالعرب وحفظوا أشعارهم، ثم ظهر التنافس بين العرب والموالي، وأصبح العرب يفتخرون على الفرس وينافسونهم

وكان مجال المنافسة والفخر بالنسبة للعرب في قدرتهم على نظم الشعر واتخاذه وسيلة للتعبير عن كل شأن من شئون الحياة، وبادلهم العجم فخرا بفخر، فإذا كان عند العرب شعراء فإن عند الموالي شعراء، وإذا نبغ العرب في قرض الشعر وبلغوا فيه غاية الجودة فليحاول شعراء الموالي أن يكون شعرهم منافسا للعرب في الجودة وأن يتفوقوا عليهم، وإذا كان للعرب ماض عريق وتاريخ مشرف وأدب يعتزون به، فقد حاول العجم أن يتلمسوا أسباب القوة في تاريخهم ويبرزوا مافيه من مواقف مشرفة يتفنون بها ويحاولون فيها التفوق على العرب، وظهرت بداية هذا التنافس في العصر الأموي بصورة خافتة؛ لأنهم كانوا يخشون بطش الخلفاء, ويهابون سلطانهم فالدولة كانت عربية صميمة، وفي العصر العباسي ظهر ما عرف بالحركة الشعوبية التي تمثل الصراع والتنافس بين الشعب العربي والعنصر الفارسي إلى أن جاء القرن الخامس الهجري حين أنشأ الحسين بن علي الطغرائي قصيدته اللامية وسماها لامية العجم. وافتتحها بقوله: آصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل ومنذ ذلك الوقت أصبحت لامية الشنفرى تعرف بلامية العرب؛ لأنه إذا كانت قصيدة الطغرائي تسمى بلامية الع جم فلتكن قصيدة

الشنفرى لامية العرب، فالصراع الأدبي بين العرب والعجم هو الذي كان وراء إنشاد الطغرائي لقصيدته، فإذا كانت قصيدة الشنفرى مفخرة للعرب فلتكن قصيدة الطغرائي مجال فخر للعجم كذلك، ويبدو أن الطغرائي تلفت إلى قصيدة الشنفرى وحاول أن يحاكيه فيها سواء في الشكل أو في المضمون حيث أختار الطغرائي لقصيدته القالب الموسيقي الذي اختاره الشنفرى مستخدما كذلك حرف الروي الذي بنى عليه الشنفرى قصديته، كما أحتذى الطغرائي في قصيدته الجو النفسي الذي سيطر على لامية العرب وهو هجر الناس والاعتزام على البعد عنهم، حيث يقول الطغرائي في بداية قصيدته: فيم الإقامة بالزوراء لا سكنى ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي ثم يقول: فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي وهذا قريب من قول الشنفرى: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فأني إلى قوم سواكم لأميل

ظهر شخصية الشنفرى من خلال لاميته

ظهر شخصية الشنفرى من خلال لاميته ... فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل ولم يحاول أحد من النقاد سواء أكان من العرب أم من العجم المستشرقين أن يقارن بين القصيدتين فبينهما بون شاسع بحيث لا تصلح المقارنة بينهما، وإذا جاز لأحد أن يقارن بينهما فإنما يكون ذلك من باب المقارنة بين السيف والعصا، على حد قول القائل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل هذا السيف خير من العصا وعلى كل فإن إنشاد الطغرائي للاميته هذه إنما يوحي بمدى الصراع والتنافس الذي كان بين العرب والعجم آنذاك. 3 على أننا نستيطع أن نتلمس شخصية الشنفرى ونتمثلها واضحة من خلال قصيدته تلك, فقد كان الشنفرى من أغربة العرب الذين تسرب إليهم السواد من أمهاتهم الإماء، وشبهوا بالأغربة في لونهم, وكان العرب يكرهون السواد من كل شيء؛ لأنه يرمز عندهم إلى لون من السلالة المتخلفة التي لا تصلح لما يصلح له الأحرار, وقد نشأ صاحبنا مستعبدا في بني سلامان، تتدافعه القبائل وتزدريه, فشب يحمل عقدة الولادة ويرى ازدراء الناس له من غير ما ذنب جناه حتى

_ 1 يراجع في ذلك البحث القيم الذي نشره الدكتور عبد الحليم حفني تحت عنوان: شاعر الصعاليك، ص105 المطبعة النموذجية 1976.

أصبح لا يطيق صحبة الناس ولا يتحمل رؤيتهم، وأحسن له أن يعيش بعيدا عنهم في الفلوات، ويألف البراري والقفار، ويساكن الوحوش، ويعقد علاقة حميمة بينه وبين الضباع والأسود فهي خير له من مصاحبة الناس: هم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل وبالإضافة إلى عقدة السواد التي كانت تتسرب في أعماقه كان الشنفرى يحس بعدم الانتماء وربما كان هذا هو السبب الجوهري في خروجه على المجتمع وعلى الناس، ووجد أن الظلام ربيه وابن جلدته. وكان صاحبنا ثائرا يرفض الواقع ويأباه هذا الواقع الذي أدرجه ضمن طبقة العبيد الذين قنعوا بالذل ورضوا به ولم يجدوا لأنفسهم خلاصا منه. أما الشنفرى فإن نفسه تأبى الضيم وترفض المهانة كما يقو هو عنها: ولكن نفسا حرة لا تقيم به ... على الضيم إلا ريثما أتحول

ويتضح هذا في قوله للسلامية التي لطمته1: ولو علمت قعسوس أنساب والدي ... ووالدها ظلت تقاصر دونها أنا ابن خيار الحجر بيتا ومنصبا ... وأمي ابنه الأحرار لو تعرفينها وقوله مبينا سر خروجه: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن رام القلى متعزل فإذا أضفنا إلى ذلك القبح الشديد في خلقة الشنفرى والدمامة التي تطالعها في وجهه وقسماته أدركنا سر نقمته على المجتمع وعلى بني سلامان خاصة, وإذا كان هؤلاء أقرباءه حيث أنهم فرع من الأزد التي منها عشيرته، فإن إساءات ذوي القربى وظلمهم أياه تحدث جراحات نفسية لا تلتئم فقد آتته الإساءة من حيث لا يحتسب بل من حيث ينتظر العون والمساندة. كما قال الشاعر القديم: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند

_ 1 الطرائف الأدبية: 41.

فشخصية الشنفرى إذن شخصية ثائرة بحكم الظروف التي أحاطت به والتي لا دخل له فيها. وإذا كان للبيئة دورها في تشكيل شخصية الإنسان ونوازع مناحي تفكيره فمن اليسير أن تتصور مدى مساهمة هذه البيئة الجافة القاحلة المتقلبة المناخ في نفسية الشنفرى وسلوكه، فقد عرفت البرد الذي يعقد ذنب الكلب والحر الذي يذيب رأس الضب، وشهدت لونا من التضاد الجغرافي كذلك حيث الجبال الشاهقة والأغوار المنخفضة كل ذلك أثر في أخلاقه فجعله مبالغا في عداوته مبالغا في محبته على حد سواء، وهي بيئة مليئة بالمحاذر ومصادر الخطر فيها متعددة -شأن كل البيئات الصحراوية ففيها الحيوانات المفترسة والوحوش الضارية فضلا عن المخاطر التي يترقبها من الأعداء الذين يترصدونه والتي جعلته كما يقول عن نفسه: طريد جنايات تياسون لحمه ... عقيرته لايها حم أول هذه المخاطر جعلته شديد اليقظة دائم الحذر والانتباه, وهذا شأن الصعاليك جميعا، كما يقول تأبط شرا عن نفسه: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

وإذا كان الشنفرى يشعر بالمطاردة لكثرة الجنايات التي ارتكبها فقد كثر فتكه ببني سلامان وقضى على تسعة وتسعين شخصا منهم كما تروي إحدى الروايات, ولنا أن نتصور قبيلة فقدت هذا العدد الهائل من رجالها وعلى يد شخص واحد، كيف يكون شعورها، وقد عبر عن هذه الجرائم التي ارتكبها بقوله: طريد جنايات وليس جناية واحدة، وهذا مما زاد شعوره بالخوف فأرهف حسه وضاعف من حذره, وهو يتصف بالإباء الذي يفوق الوصف والذي جعله يهجر الناس ويؤثر عليهم أقسى ألوان الحياة, ويفضل ذلك على أطيب العيش وأرغده: ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل فهو لا يهجر الناس من أجل طلب العيش وحوزة المال، فلو أراد ذلك لتحقق له أكثر مما يريد، ولكنه يهجرهم حفاظا لمروءته وصونا لكرامته فلقد ترك بني سلامان مرددا: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن رام القلى متعزل بل بلغت به العزة حدا جعله يقاوم الجوع ويغالبه، وقد كان الجوع حتما عليه لا قبل له بأن يدفعه أو يمتنع عن الشعور به، ومع ذلك كان يتناساه ويذهل عنه، أو يضرب الذكر عنه صفحا حتى ينتصر

عليه فينساه، وإذا كان الصبر عليه من صفة الصعلوك فربما تفوق الشنفرى عليهم في هذا ساعيا للانتصار عليه وعلى الطبيعة؛ لأنه إذا طعم حتى الشبع والتخمة، فإن ذلك يكون دليلا على تساويه مع الآخرين بل وعلى استسلامه للواقع، مع أنه يرفضه، فالصعاليك تحدثوا عن أثر الفقر والجوع عليهم وما سببه لهم من ضعف وهزال حتى أظلمت الدنيا في عيني السليك بن السلكة, وأصابه من الدوار ما جعله يفقد الوعي: وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف وأبو خراش يقاوم الجوع ويديم حبسه حتى يمله ويذهب عنه دون أن يلحقه عار ويتخذ من ذلك مجالا للفخر بقوة عزيمة وقدرته على الاحتمال1. وإني لأثوى الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي

_ 1 ديوان الهذليين: جـ2/صـ127.

ويكتفي بالماء القراح ليسد به بطنه بينما البخلاء من البشر يستمتعون بما تحت أيديهم من الزاد: وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم فاذا عجز الشنفرى عن المقاومة وضعف أمام سطوة الجوع اضطر أن يحفظ رمقه بشيء من تراب، ولا يقبل شيئا من أحد يدل له أو بما عليه بعد ذلك، وفي هذا غاية الإباء: أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل وأستف ترب الأرض كي لا يرى له ... علي من الطول امرؤ متطول وقد يتضور أياما ثم يعثر على الطعام ومع ذلك لا يتعجل في الإقدام عليه؛ لأنه لو تعجل من دون الآخرين لكان في ذلك خضوع لحاجته فلا يأكل حتى ينتهي الآخرون، ويأكل منه بقدر ما يحفظ حياته ويمسك أوده:

من أيام الصيف القائظ الذي تعرض له دون أن يجد مأوى يستظل به أو ثيابا تمنع عنه هبوات النار: نصبت له وجهي ولاكن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل وهو حافي القدمين فلا يستطيع لفقره وبؤسه أن يلبس خفا: فإما تريني كابنه الرمل ضاحيا ... على رقة أحفى مرارا ولا أتنعل وهكذا نراه هزيلا نحيلا يلبس ثيابا بالية ولا يتنعل، وأن تنعل فخفا ممزقا. وقد طال شعر رأسه واسترسل على كتفيه وتلبد؛ لأنه لا يغسله ولا يمشطه حتى تراكم عليه من الوسخ والأقذار ما يشبه ما يعلق بأذناب الإبل والغنم لبعد عهده بالدهن والأفتلاء: وضاف إذا هبت له الريح طيرت ... لبائد عن أعطافه ما ترجل بعيد بمس الدهن والفلي عهده ... له عبس عاف من الغسل محول وبهذا كانت اللامية صورة حية وثيقة تاريخية صادقة لحياة الشنفرى، بل لحياة الصعاليك جميعا، بكل ما اشتملت عليه تلك

ويوم من الشعرى يسيل لعابه ... أفاعية في رمضائه تتململ نصبت له وجهي ولاكن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل فهو يصبر على الجوع الذي تلتهب منه أحشاؤه والحر الذي يسيل لعابه حتى إن الأفاعي التي خلقت في هذه الرمضاء تتململ من دونه، وهو لا ينام على فراش وثير بل على الأرض الصلبة، كل ذلك يدل على قوة العزيمة وعلى الرفض وعدم الاستسلام لما يستسلم له الآخرون بل تمادى به شعور الرفض والثورة على واقعه وأبناء قبيلته حتى شمل كل قوة خارجية لا تصدر عن إرادته وحريته, وكأنه بهذا يصوغ حياته كما يريدها هو لا كما يريدها له الآخرون. وقد بلغ الصبر حدا جعله يمتلك زمامه ويسيطر عليه، فقد أصبح يمتلك أحسن ما يتحلى الناس منه يقول: وإني لمولي الصبر اجتاب بزه ... على مثل قلب السمع والحزم أنعل فهو ليس صبورا فحسب, وإنما هو مالك للصبر ومتحكم فيه، فصبره إذن ليس ناتجا عن ضعف أو خور في العزيمة، وإنما هو الصبر الذي يكون دليلا على قوة الإرادة والتحكم في أهواء النفس ونوازعها

لذلك كان لا يفرح بالغنى إلى درجة البطر ولا يجزع من الفقر حتى ييأس في الحصول على المال: وأعدم أحيانا وأغنى وإنما ... ينال الغنى ذو البعة المتبذل فلا جزع من خلة متكشف ... ولا مرح تحت الغنى أتخيل فهو متزن ومعتدل اعتدالا ينبئ عن ثقته في نفسه. وخير للمرء أن يتجمل بالبر والتجلد على المكارم بدلا من إظهار الضعف والشكوى التي لا جدوى من ورائها حيث لا تدفع ضرا ولا تجلب نفعا: وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل _ وفي هذا المقام يرد صبره على الهموم التي يعيش معها في صراع دائم. فكلما نحاها عنه وصرفها عادت ثانية إليه لتحيط به من كل جانب. وآلف هموم ما تزال تعوده ... عيادا كحمى الربع أو هي أثقل ولا شك أن الصبر وقوة الإرادة ليست صفة خاصة بالشنفرى وإنما هي من صفات الصعلكة بنوع عام, وإن كان شاعرنا قد بلغ فيها حدا كبيرا, فهذا عروة بن الورد يحدثنا عن صبره على مصائب الدهر ونوائبه فيقول:

_ 1 الديوان: 91

صبور على رزء الموالي وحافظا ... لعرضي حتى يؤكل النبت أخضرا وصبره هذا ناتج عن إرادة صلبة وقوة احتمال, ولذلك فهو لا يجزع ولا يشتكي: فلا أنا مما جرت الحرب مشتك ... ولا أنا مما أحدث الدهر جازع كما لا يجزع أبو خراش بفقد بني أمه وأخواته, ولا تذهب نفسه عليهم حسرات بل يلوذ بالصبر وقوة الاحتمال:2 فقدت بني لبنى فلما فقدتهم ... صبرت ولم أقطع عليهم أباجلي كما تتضح لنا من القصيدة شجاعة الشنفرى واستبساله، ويظهر ذلك حين يقارن بينه وبين الوحوش، فحين يتحدث عن الذئب القوي، والنمر الأرقط, والضبع العرفاء، ويحمل من هذه الوحوش أهلا يقول عنها، وكل أبي باسل غير أنني ... اذا عرضت أولى الطرائد أبسل

_ 1 الديوان: 99. 2 ديوان الهذليين جـ2/ صـ123.

ويقول نافيا عن نفسه الروع والفزع وغير ذلك من الصفات الذميمة ولست بعل شره دون خيره ... ألف اذا مارعته اهتاج أعزل ويدل على بسالته كذلك كونه مطاردا ممن ثار منهم لنفسه ومطالبا بجنايات كثيرة ارتكبها في حقهم, فكلهم يتنافسون في الوصول إليه والانقضاض عليه والأخذ بثأرهم. طريد جنايات تياسرن لحمه..... ثم هذه الغارة التي شنها على أعدائه في ظرف بالغ الصعوبة حيث كان الظلام دامسا والبرد شديدا حتى بلغ من شدة فتكه أن يلقي في النار صاحب القوس بقوسه ونبله التي يرمي بها ليستدفء، والمطر غزير وقد اشتد به الجوع, ومع كل هذه المعوقات فقد نجح في الإغارة عليهم فقتل الرجال ويتم الأطفال وغدت نساؤهم أيامي وأطفالهم يتامى: وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... أقطعه اللاتي بها يتنبل إلى أن يقول: فأيمت نسوانا وأيتمت آلدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل

ويحدثنا الشنفرى في غير لاميته عن واد موحش موغل في أعماق الصحراء قد بات مأوى للجن والوحوش، هجره الناس جميعا حتى المغامرون والأبطال ولكن شاعرنا اقتحمه صاعدا روابيه التي لا يجرؤ على صعودها إنسان في جرأة وشجاعة غير مبال بما يصيبه في وقت مبكر قبل أن يذيب دفء الشمس قطرات الندى:1 وواد بعيد العمق ضنك جماعة ... بواطنه للجن والأسد مألف2 تعسفت منه بعدما سقط الندي ... غما ليل تخشى غيلها المتعسف ونمضي مع الشنفرى في قصيدته التائية التي رواها له المفضل الضبي, فإذا هو يحدثنا عن الهدف من إغاراته وأنه كان يقصد بها بني سلامان ليأخذ بثأره ويشفي حقده وغليله، يقول: جزينا سلامان بن مفرح قرضها ... بما قدمت أيديهم وازلت وهنئ بي قوم وما أن هناتهم ... وأصحبت في قوم وليسوا بمنيتي

_ 1 الأغاني: جـ 21 صـ 191. 2 جماع الشيء: مجتمع أصلة- تعسف: مشى على غير هدى الغماليل: الروابي، الغيل: الأشجار الكثيفة.

إلى أن يقول: وأني لحلو إن أريدت حلاوتي ... ومر اذا نفس العزوف استمرت فقد جزاهم بما قدمت أيديهم، ويحز في نفسه أن يكون ذا بأس ولا ينتفع به قومه, وإنما يكون بأسه عليهم بسبب جنايتهم عليه، وهو حلو لأصدقائه ومر كالحنظل لأعدائه. ويلاحظ أنه لم يتحدث عن شجاعته واستبساله صراحة، وإنما من خلال مواقفه المتعددة، وكأن ذلك لا يحتاج على تنويه فإن مسكله كله إنما ينبع من منطلق التضحية والفداء، والثورة على الواقع الذي فرض عليه, وذلك يجعله في غنى عن تكلف إثباته والتدليل عليه، هذه أهم ملامح شخصية الشنفرى كما تدل عليه قصيدته تلك. بالإضافة إلى أنها ترسم صورة لمظهره الخارجي, فيبدو جسمه ضامرا ناحلا وكأنه مجرد هيكل من العظام لا لحم عليه, فهو حين يفترش الأرض يستقبلها بظهر يابس تحول دون وصوله إلى الأرض حروف فقار ظهر، فيظل الجسم مرتفعا، كما يتوسد ذراعا قليلة اللحم وكأنها قطع صلب ركب بعضها فوق بعض, وهذا يعكس ما لحق بجسمه كله من هزال يقول:

وآلف وجه الأرض عند افتراشها ... بأهدأ تنبيه سناسن قحل وأعدل منحوضا كأن فصوصه ... كعاب دحاها لاعب فهي مثل كذلك تأبط شرا نشزت أضلاعه وبرزت فقار ظهره والتصقت أمعاؤه من شدة الجوع: قليل ادخار الزاد إلا تعلة ... فقد نشز الشرسوف والتصق المعى ونحافة الجسم وضموره صفة يشترك فيها الصعاليك جميعا حتى يتمكنوا من العدو الذي ميزهم عن غيرهم ولذلك أفردوا له مساحات شاسعة في شعرهم. وقد ضرب المثل الشنفرى في العدو فقيل: أعدى من الشنفرى, وإذا كان الصعاليك يشاركونه في العدو إلا أن موهبته في ذلك وتفوقه فيه جعله قمة متميزة حيث ضرب به المثل. وقد عبر عن عدوه بأكثر من أسلوب فحين يعدوا مسرعا تتحطم الحجارة الصلبة وتزل من تحت قدميه ويتطاير منها الشرر:

_ 1 الإغاني جـ 18/ صـ217.

إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل ويصف لنا صورة من عدوه فيحدثنا عن مسابقة جرت بينه وبين سرب من أسراب القطا للوصول إلى الماء المتخلف من هطول الأمطار في الصحراء، وكيف أنه سبق الطير على مكان الماء فشرب وارتوى وانصرف قبل أن تصله القطا: وتشرب أساري القطا الكدر بعدما ... سرت قربا أحناؤها تتصلصل هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ... وشمر منى فارط متمهل فوليت عنها وهي تكبو لعقره ... يباشره منها ذقون وحوصل وتصبح المسافات لا معنى لها مع عدوه الذي يقرب البعيد حتى يختلط بعضها ببعض حين يحرك ساقيه ويطلقها للجري: وخرق كظهر الترس قفر قطعته ... بعاملتين ظهره ليس يعمل

فألحقت أولاه بأخراه موفيا ... على قنة أقعي مرارا وأمثل وأبو خراش الهذلي يتحدث عن عدوه واتخاذه، وسيلة يعتمد عليها: فإن تزعمي أني جبنت فإنني ... أفر وأرمي مرة كل ذلك أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك وتأبط شرا يعتمد على عدوه في التنقل بين القفار والصحاري الشاسعة ويكاد يسبق الريح: يظل بموماة ويمسي بقفرة ... جحيشا ويعروري ظهور المهالك ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك فالعدو كان وسيلة الصعاليك بعتمدون عليها في الغزو والإغارة. ونلمح صورة الشنفرى وهو يرتدي الأسمال والخرق البالية التي لا تستر جسمه فلا تقيه حر الصحراء ولا زمهرير الشتاء، يقول عن يوم

من أيام الصيف القائظ الذي تعرض له دون أن يجد مأوى يستظل به أو ثيابا تمنع عنه هبوات النار: نصبت له وجهي ولاكن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل وهو حافي القدمين فلا يستطيع لفقره وبؤسه أن يلبس خفا: فإما تريني كابنه الرمل ضاحيا ... على رقة أحفى مرارا ولا أتنعل وهكذا نراه هزيلا نحيلا يلبس ثيابا بالية ولا يتنعل، وأن تنعل فخفا ممزقا. وقد طال شعر رأسه واسترسل على كتفيه وتلبد؛ لأنه لا يغسله ولا يمشطه حتى تراكم عليه من الوسخ والأقذار ما يشبه ما يعلق بأذناب الإبل والغنم لبعد عهده بالدهن والأفتلاء: وضاف إذا هبت له الريح طيرت ... لبائد عن أعطافه ما ترجل بعيد بمس الدهن والفلي عهده ... له عبس عاف من الغسل محول وبهذا كانت اللامية صورة حية وثيقة تاريخية صادقة لحية الشنفرى، بل لحياة الصعاليك جميعا، بكل ما اشتملت عليه تلك

الحياة من قسوة وعنف، وصبر وقوة إرادة، وبما فيها من مشاق ومخاطرة وما تحمله من آلام وهموم.

تأملات في القصيدة

تأملات في القصيدة لعل أول ما يلفت نظر الباحث إلى هذه القصيدة أنها طويلة طولا لم يعهد في شعر الصعاليك؛ إذ من المعروف أن شعر الصعاليك عبارة عن مقطوعات إذا استثنينا قصيدة الشنفرى الأخرى القافية التي رواها له المفضل الضبي إذ يبلغ عدد أبياتها خمسة وثلاثين بيتا, بينما يبلغ عدد أبيات قصديته التي نحن بصددها ثمانية وستين بيتا, فهي ليست أطول قصيدة في ديوان الشنفرى الذي جمعه الأستاذ عبد العزيز الميمني ضمن مجموعة الطرائف الأدبية فحسب ولكنها أطول قصيدة في شعر الصعاليك جميعا، وربما كان هذا الطول الذي لم يؤلف في شعرهم هو ما دعا الدكتور يوسف خليف إلى الشك في نسبة هذه القصيدة إلى الشنفرى وإلحاقها بخلف الأحمر الراوية المشهور كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين، على أن ذلك لا يمنع من نسبتها إلى الشنفرى؛ لأن الذي يستطيع أن ينشد قصيدة من خمسة وثلاثين بيتا لا يعجزه أن يبدع أخرى تبلغ ثمانية وستين بيتا على أن المتتبع لشعر الصعاليك بجد أن هناك بعض القصائد الأخرى التي اتسمت بالطول كقصيدة مالك بن حريم العينية التي رواها له الأصمعي إذ تبلغ أربعين بيتا وقصيدة عبدة بن الطبيب الذي قضى معظم حياته متصعلكا في الجاهلية, وقد بلغت عددها واحدا وثمانين بيتا رواها له صاحب المفضليات وغيرها، والواقع أن القصيدة تثمل روح الشنفرى الثائرة كما تمثل حياته تمثيلا حقيقيا، وتضح لنا أبعاد شخصيته

1 وقد بدأها الشاعر بالخروج على المجتمع دون أن يمهد لذلك بلون من ألوان المقدمات التقليدية التي جرى الشعراء أن يفتتحوا بها قصائدهم, وربما كان ذلك راجعا إلى الثورة على المجتمع ورفض الخضوع لتقاليده، وإلى الحرية التي كان ينعم بها هؤلاء في ظل الظروف التي يحيونها، هذه الثورة وهذا الخروج قد امتدا إلى الخروج على التقاليد الفنية التي جرى عليها الشعراء وترسبت في أعماقهم حتى صارت تمثل ظاهرة أساسية ومعلما من معالم بناء قصائدهم الفنية, فكان الشنفرى في هذه القصيدة ثائرا على الأوضاع الفنية متحررا من المقدمات التي نجدها في الشعر الجاهلي، وإن كنا نجده في القصائد الباقية التي رويت في مجموعة الطرائف الأدبية يبدأ بالحديث إلى صاحبته طالبا منها أن تدعه وشأنه ليذهب مع رفاقه حتى يحقق ذاته ثم لتقل بعد ذلك ما تشاء، فإنه لن يموت إلا مرة واحدة: دعيني وقولي بعد ما شئت أنني ... سيغدي بنعشي مرة فأغيب والأبيات التي استهل بها الشاعر قصيدته تعكس بوضوح حالته النفسية التي ألمت به, وتوقفنا على البعد النفسي لأعماق الشاعر، فقد بدأها بفعل الأمر أقيموا الذي يتضمن من الحث والتحضيض الشيء الكثير للدلالة على أنه أصبح لا يحتمل المقام بينهم فقد أعيته الحيل

ونفد صبره ولا راحه له في مفارقتهم؛ لأنهم خذلوه عندما تركوه أسيرا في بني شبابة ثم عبدا في بني سلامان، وفوق ذلك لم يثأروا لأبيه على عادة العرب في الأخذ بثأر من قتل منهم، ويدل على شدة نفوره منهم ورغبته الملحة في اللحاق بغيرهم تقديم الجار والمجرور في قوله: إلى قوم سواكم. فقد ضاق بالمكان وأهله ولعل في تعبيره، عن قومه ببني أمي ما يدل على وشائج الرحم وصلة المودة والقربى التي تربطه بهم مما يوحي بحرصه عليهم حيث تجمعه وإياهم صلة الرحم. فالشطر الثاني من هذا البيت تعليل للشطر الأولى، كما أن البيت الثاني تعليل للأمر في البيت الأول، على أن قوله والليل مقمر في البيت الثاني يوحي بوضوح الأمر أمامه وأنه قد اتخذ قراراه بالرحيل عنهم بعد أن توفرت لديه الأسباب والدواعي. وواضح من السياق أن مشكلة الشاعر في قومه؛ حيث يتمنى ارتحالهم وبت الصلة بينه وبينهم، فقد أصبح يطلب قوما سواهم يؤثرهم عليهم حين يقول: ولي دونكم أهلون سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيال فإذا كان أهله أذلوه وسخروا منه فإن هناك في عالم الحيوان الوحوش من يتصف بصفات لم يجدها في بني الإنسان، ولذلك

كانت جديرة بأن يتخذ منها أهلا ويصطفيها على سائر البشر وقد عبر عن هذه الجدارة وذلك الاستحقاق بأكثر من أسلوب، فتارة يقول ولي دونكم أهلون فالحيوانات التي ألفته وألفها ليست أهلا واحدا بل أكثر من أهل، هي أهلون للإيحاء بأنه يجد في جوارها من الحماية والمنعة وحفظ الأسرار ما يعجز الأهل عن توفيره له وتقديم الخبر على المبتدأ في قوله ولي دونكم أهلون يفيد الاختصاص، وتارة يعبر عن استحقاق الحيوانات لهذه الصفات بأسلوب القصر هم الأهل، لإفادة الاختصاص أيضا، وكأنه يفرح بتلك المعايشة متعزيا عن أهله من الإنس بأنها لا تؤذي مثل الإنسان ولا تغدر ولا تخذل في مواقف الحرج، وقد رأينا كيف ساعدته اللغة واستخدامها على التعبير عما في نفسه. والشاعر في البيت الثاني والثالث والرابع يلبس رداء الحكمة ويرتدي ثياب الواعظ فيطالب كل حر أن يرحل عن موطن الذل، فأرض الله واسعة ولا عذر لمن يقيم على الضيم ويرضى بالهوان: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد

وصف القوس

وصف القوس ... واذا كان الشنفرى لا قبل له بالعيش مع الأحياء من البشر ولا بالحياة مع الجماد والنباتات؛ لأنها لا تفصح ولا تبين فهناك أوجه الشبه بينه وبين الوحوش فكل منهما يأبى الذل ويرفض الهوان, ويتصف بالشجاعة ويعشق الحرية ويهواها. ثم يقارن بينه وبينها ويقرر أنه يفوق الوحوش في بسالته حيث يسبقها في مطاردة الفريسة, ولكنه مع ذلك يتصف بالقناعة والعفة مع القدرة فلا يزاحم في الأكل، فقوته لا تطغيه ولا تجعله ينسي الخلق الكريم: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل 2 ويعاود الشاعر حديثه عن قومه ويأسى لتذكرهم حيث إنه لا خير فيهم فلا فائدة في قربه منهم؛ إذ لا يقدرون المعروف ولا يجزون عليه, وكان ذلك سببا لانتقاله من الحديث عن ذاته إلى الحديث عن أسلحته وأدواته التي يحتاجها في الدفاع عن نفسه وقد أحصاها في ثلاثة: قلبه القوي الذي قد من صخر حتى كأنما أحيط بشيعة من الأنصار وسيفه الصقيل وقوسه الطويلة العنق، وفي التعبير عن هذه الثلاثة بالأصحاب ما يوحي بالألفة والمودة بينه وبينها، فحيث كان الخروج على قومه كان التألف والتعارف والتفاعل بينه وبين الطبيعة ولذلك صح تعبيره عن أدوات القتال بالأصحاب وإيثاره لهذا

التعبير على ثلاثة أفراد مثلا ليوحي بالوفاء والنصرة -وهذا يدل على أنه لا صديق له من البشر- وأنه هو وحده صاحب نفسه, والسيف والقوس هما وسيلتاه للدفاع عنها، والأفكار هنا تنساب في سلاسة ويسر وترتيب منطقي. 3 على أن العلاقة الحميمة التي تربط الشنفرى بالقوس تدعوه إلى الإسهاب في وصفها، فهي وسيلته للإغارة ومصدر معيشته في الصيد وقد بلغ الجودة في وصفها يقول: هتوف من الملس المتون يزينها ... رصائع قد نيطت إليها ومحمل إذا زل عنها السهم حنت كأنها ... مرزاة ثكلى تئن وتعول البيت الأول هنا تقرير لحال القوس ووصف مادي لها لكنه ينطوي على دلالة نفسية ترتبط بموقف الشاعر فلها صوت يرن عند انطلاق السهم واندفاعه الشديد في الفضاء، كما أنها ملساء ليست خشنة حتى لا تؤذي يد حاملها أو ذات عقد فيؤثر ذلك في أدائها نتيجة لتأثيرها على يد مطلق السهم، يعني ذلك أنها حسنة الصنع فتؤدي وظيفتها على أكمل وجه، ومع ذلك فهي مرصعة ببعض ما يحليها بالإضافة إلى محمل تحمل منه وتعلق بواسطته، وهاتان الصفتان تنمان عن شغف وهيام بين الشاعر وقوسه المعشوقة تتعدى

صلة الآلة بصاحبها يدل لهذا العشق هذه الزخرفة وتلك الحلي التي يجعلها بها كما يجعل عروسه إذ هي تمثل أمره وتحقق ثاراته. والقوس في البيت الثاني هنا ترن وقد صور هذا الصوت الصادر منها بصورة مستمدة من البيئة حيث مثل لها بالناقة أو المرأة الثكلى التي فقدت رضيعها وترسل أصواتا هي أصوات الحنين والتفجع. فالسهم ينسل من القوس ويفارقها كما ينسل الوليد من حضن أمه، فقد شخص القوس وبث فيها الحياة, وصح أن يطلق عليها قبل ذلك أنها واحد من أصحابه الثلاثة الذين لا يخذلونه ولذلك فهو يزينها ويرصعها ويزهو بها ولعل هذا التوفيق الذي أصابه في وصف القوس هو الذي جعل المبرد يقرر أنه لم يسبق بهذا الوصف ولعله لم يلحق به حتى الآن. وأرق عبارات الوصف قوله: حنث, ثم تشبيهها بالثكلى التي توالت عليها المصائب. وفي هذا إشارة إلى أنه حين يخرج سهمها تهدي إلى أهدافها الأرزاء، والوصف بالتعجيل في قوله: عجلى الذي يدل على تتابع الصرخات وتوالي البكاء يدل على سرعة القوس في الرمي وكثرة استعماله لها.

_ 1 قطوف من ثمار الأدب د. عبد السلام سرحان - 83.

وعشقه لقوسه جعله دائم الحديث عنها فنراه مرة أخرى يذكر لونها ويصور صوتها بصوت الحزين، وصوت النحل حين يضل عن خلاياه، في منحنيات الجبل فيكون له دوي وطنين شديد1 وصفراء من نبع أبي ظهيرة ... ترن كإرنان الشجي وتهتف إذا طال عنها النزع تأتي بعجسها ... وترمي بمذربها بهن وتهتف2 كأن حفيف النبل من فوق عجسها ... عوازب نحل أخطأ الغار مطنف3 وفي معرض الحديث عن القوس ووصفها يطالعنا غير شاعر من شعراء الصعاليك نظرا لاهتمامهم جميعا بها. فهذا صخر الغي يرى أن لها صوتا معينا كصوت العدائين حين يطلبون شيئا4 وسمحة من قسي زارة صفرا ... ء هتوف عدادها غرد1

_ 1 مهذب الأغاني جـ1/صـ85 النبع: شجر يتخذ منه القسي والسهام القاموس "نبع". 2 العجس: مبض القوس، ومذرا القوس: الموضعان اللذان يقع عليهما الوتر وأحدهما مذري. 3 العوازب: البعيدة الضالة، الطنف: الحيد من الجيل يريد كصوت النحل حين يضل عن خلاياه. 4 ديوان الهذليين جـ2/صـ 60.

كأن إرنانها إذا ردمت ... هزم بغاة في إثر ما فقدوا 4 وبدءًا من البيت الرابع عشر وحتى التاسع عشر يلقانا أسلوب الفخر الذي يخلع فيه عن نفسه ثياب الخسة والضعف ولبس ثياب القوة وحسن التصرف وكمال الرجولة معتمدا في ذلك على الأسلوب التقريري الذي يقرر به الواقع, والذي يلجأ فيه إلى التصوير لتجسيد المعاني وإلباسها ثوبا أدبيا يجسمها في خيال السامع فيصور لنا الجبان في اضطرابه وتتابع دقات قلبه, كأن هذا القلب معلق في طائر يعلو به وينخفض, كأن فؤاده يظل به المكاء يعلو ويسفل, ولما كان الذعر لا يفارقه بل يستديم معه عبر بالفعل ظل ويعلو وينخفض؛ لأن ذلك يزيد من ضربات القلب؛ نظرا للحركة الشديدة والاهتزاز العنيف. وفي البيت الأخير من هذه المجموعة يثبت لنفسه خبرته بدروب الصحراء ومسالكها التي لا حدود لها ولا معالم فيها, فلا يتحير فيها أو يضل حتى وهو يجتازها في ظلام الليل الحالك، بل يهتدي فيه كما تهتدي الشمس في فلكها, كما يقول تأبط شرًّا في حديثه عن الصحراء 2:

_ 1 سمحة: سهلة، زراة: مكان مشهور بصناعتها من أسد السراة، عدادها: صوتها، غرد: بعيد الصوت، إرنانها: صوتها، وردمت: الردم هيئة معينة في استعمال القوس، هزم: صوت، في أثر شيء فقدوه، فهم يطلبونه. 2 حماسة أبي تمام جـ 1/صـ49.

يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك يقول الشنفرى: ولست بمحيار الظلام اذا انتحت ... هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل ولما كان السير في الصحراء فيه مشقة وتعرض لألوان المخاطر والأهوال حتى ليتعذر السير فيها على غير من ألفها ويثقل عليه ناسب أن يعبر عن ذلك بألفاظ يتعسر فيها النطق تعسر المتحير في الصحراء في قوله: هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل وصعوبة النطق تأتي من تكرار الهاء أربع مرات في كلمات متتابعة لا يفصل بينها سوى كلمة واحدة، وتكرار كلمة الهوجل مرتين وكأنه بذلك يلائم بين الشعور والتعبير عنه. 5 والأبيات من 20-25 يتحدث فيها عن سرعة عدوه وعفته التي صارت مضرب المثل في ذلك، وفي حديثه عن عدو لم يتحدث عن سرعته, بل تحدث عن آثار هذه السرعة في المكان الصلب فإذا لمست رجلاه الأرض تطايرت الحجارة وقد تحطم بعضها وتتطاير منه الشرر، وكأنه لا يجري على الأرض بل يطير في الجو، فإذا لمستها

رجلاه حدث هذا المنظر واستعار المناسم التي هي أخفاف البعير لرجليه للدلالة على ألفه للحيوان وامتزاجه معه. وإذا كان جل الصعاليك قد تحدثوا عن أثر الفقر والجوع في أجسادهم وما يحمله لهم من هزال الجسم ونحوله، فإن الشنفرى قد تعامل مع الجوع مباشرة واتخذ من ذلك متكأ للفخر بقوة نفسه وصدق عزيمته وطاقته العجيبة على الاحتمال الذي قلما نجده في مقدور رفاقه من الصعاليك، فيشخص لنا الجوع ويصوره بصورة محسوسة ثم يماطله الشنفرى ويراوغه وكأن له عليه دينا يريد أن يستوفيه, وقد تكون المماطلة لعجز عن الأداء، ولكن مماطلة الشنفرى هنا يقصد منها التيئيس حتى يفقد الأمل وهو ما عناه، بقوله: حتى أميته, فهو مصمم على قتل الجوع ومحوه من حياته، وقد يصاب الشنفرى بالذهول والإعياء من جراء تناسبه للجوع. ومرة أخرى يحدثنا عن أثر الجوع على نفسه فيصور أمعاءه وقد خلت من الطعام وجفت من الماء حتى التصق بعضها ببعض يصورها بالخيوط المشدودة وقد التف بعضها على بعض في قوة وإحكام: وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوتْ ... خيوطَةُ ماري تغار وتفتلُ والتعبير عن الخيوط بالفتل يدل على أن أمعاءه رفيعة وخالية تماما من الطعام والشراب, مما ينعكس على جسمه كله بالهزال والضمور. /50

صورة الذئب الجائع وحولة الذئاب

صورة الذئب الجائع وحولة الذئاب ... 6 وتلقانا صورة للذئب الجائع الباحث عن الطعام وحوله الذئاب التي تشبه حاله وكأن هذه الذئاب أصابها ما أصابه فاستطرد إلى ذكر صورة مشابهة له في لوحة بلغت الغاية في الروعة والإعجاب، فالذئب الذي صور به حاله قد استبد به الجوع فانطلق يسابق الريح ويرمي نفسه في الأودية يبحث عن رزقه هنا وهناك، ولما لم يجد، أطلق صيحة مدوية أجابته على إثرها الذئاب الجائعة التي تعذر عليها الحصول على الرزق فلما لواه القوت من حيث أمه ... دعا فأجابته نظائر نحل ثم يستطر الشاعر في تصوير هذه الذئاب فهي ضامرة هزيلة فأجابته نظائر نحل، وهي شيب الوجوه لما يغلب على وجوهها ورءوسها من بياض الشعر وهي كالعيدان التي يحركها بيده كأنها قداح بكفي ياسر، وأما حالتها النفسية فهي في رعب وفزع من جراء ما هي فيه حتى كأنها نحل طرد من خلاياه أو الخشرم المبعوث حثحث دبره ... محابيض أرداهن سام معسل هذه الذئاب تفتح أشداقا متراخية مشقوقة الجوانب كأنها عصا مشقوقة تضامت شفاهها لجفانها.

ونحن نرى ما ترسب في أعماق هذه الذئاب من أسى عميق نتيجة لهذا الجوع المضني والعناء المهلك منعكسا على وجوهها فهي كالحات وبسل. وبذلك لا يفوته أن يصور وجوهها بعد أن صور حالها حتى تكتمل لها الصورة ويستوفيها من جميع جوانبها، حتى حالة الجوع والمناخ يسجله حين يتحدث عن الريح ومعارضته لها مما يوحي بصبره وقدرته على التحمل: غدا طاويا يعارض الريح هافيا ... يخوت بأذناب الشعاب ويعسل وأخيرا تضج هذه الذئاب وتتصايح وتتشكى الجوع وتقيم مثل المناخة، ولكن أصواتها تذهب سدى في هذا الفضاء، ونكاد نستشف نفسيته ويظهر ما بداخله من خلال إسهابه وإغراقه في وصف الذئاب وموقف الطبيعة منها بعد أن تذهب وتعدو هنا وهناك حاملة معها مشاعر البؤس والحيرة ثم الصبر، والصبر إن لم ينفع الشكو أجمل كما يقول الشاعر. فهذا مشهد من صراع العبث، وتجربة من تجارب الهلال والمعاناة التي ألمت بالشاعر فأسقطها على الكلاب ليعمق أبعادها ويجعلها أكثر شمولا.

يدل لذلك ما وصف به الكلاب بعد أن يئست من الحصول على الطعام فقد تذرعت بالصبر وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل, وصبرها هذا شبيه بصبره السابق على الجوع حتى نسيه وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل. وتتضح قدرة الشاعر على التصوير والوفاء بحق المعنى حين جعل الثواكل في قوله من الذئب والذئاب الرفاق: فضج وضجت بالبراح كأنها ... وإياه نوح فوق علياء ثكل جعلها تنوح على شاهق الأرض ليساعد على انتشار الصوت وسرعته, ولعله لاحظ أن أصوات الذئاب عالية في عوائها فهي صورة مركبة حفلت بالتفاصيل تغلب عليها ملامح القصة, بل من الممكن أن تسلك في عداد القصص النفسية التي يعرفها العصر الحديث. وليس من البعيد أن يكون امرؤ القيس قد تأثر من الناحية الفنية بالأسلوب القصصي عند الصعاليك فحاول تقليده في شعره ثم اتخذه مذهبا، وإذن فليس امرؤ القيس أول من اصطنع القصة الشعر العربي، بل هم الشعراء الصعاليك1. 7 وتلقانا صورة أخرى من صور المعاناة والمكابدة التي يلقاها الشنفرى حين يزاحم القطا للحصول على الماء، فإذا كان مشهد

_ 1 الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي د/ يوسف خليف ص 281.

مشهد القطا يمثل المعاناة من البحث عن الماء

مشهد القطا يمثل المعاناة من البحث عن الماء ... الذئاب تعبيرا عن الجوع فإن مشهد القطا يمثل معاناته الحقيقية في البحث عن الماء، فهو مشهد من مشاهد الظمأ الذي يتعرض له كل من سلك دروب الصحراء، أو قدر له أن يتخذ منها موطنا، فكلاهما قد بلغ به الظمأ مداه فأخذا يتصارعان في الوصول إلى الماء، أما القطا فقد أدركها الأعياء قبل الوصول إلى نقطة الانتهاء بينما استمر هو في عدوه ولم يستقص جهده يسابق الطير في السماء: هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ... وشمر مني فارط متمهل ثم يستطرد الشنفرى إلى وصف القطا جربا على عادته في استقصاء الوصف, فبعد أن يصفها من حيث شكلها ومبلغ العطش الذي أصابها وجعلها تتساقط نحو الماء لتروي ظمأها فتغمس فيه حنكها وحوصلتها لتستأثر بأكبر قدر من الماء، نراه يصورها في تزاحمها على الحوض محدثة ما تحدثه من صوت وجلبة فرحة بصولها إلى الماء بقوم أو قافلة تتزاحم على ماء عثرت عليه بعد أن أعياها البحث واستبد بها الظمأ وكل ذلك يعكس فرحته بالحصول على الماء، ثم منظر القطا وهي تنفض عن المورد لتتفرق مسرعة في طيرانها وكأنها قطيع من بقر الوحوش فاجأ خطرا فأسلم رجليه للفرار. والشاعر في هذا يتباهى بسبقه الطير, وأنه بزها في العدو وقد لا تكون هناك مبالغة، فهو يعرف بحس من ألف الصحراء أن القطا

أهدى إلى الماء فإذا لمحها ببصره تبعها بعدوه الشديد حتى لا تغيب عنه، وتقدم شهرته في العدو حتى أن المسافات بين الأماكن تكاد تمحى، والبعد يطوى إذا ما حرك ساقيه كما يقول عن نفسه: وخرق كظهر الترس قفر قطعته ... بعاملتين ظهره ليس يعمل فألحقت أولاه بأخراه موفيا ... على قنة أقعى مرارا وأمثل 8 ومن الصور المشعة التي تطالعنا عبر حديث عن نفسه والتي تحمل معنى الفخر والتباهي حديثه عن الجنايات التي ارتكبها وتصويره لها بأنها ذات عيون تستحث إلى مكروهه وتسعى لتدميره، وأنها لكثرتها وحرص كل منها على الظفر به لتنال منه نشأ بينها صراع وخصام وأخيرا استقر رأيها على أن تقترع على لحمه، وتلقي كل جناية بسهم - والسهم الفائز يستأثر صاحبه بالشنفرى: طريد جنايات تياسرن لحمه ... عقيرته لأيها حم أول وكأن الأعداء لا يطلبونه وإنما تطلبه هذه الجرائم وتلك الجنايات التي خلفها وراءه، والتي باتت يقظى لا تكتحل بالنوم ولا يطبق أجفانها حتى تتمكن منه وكأنها آلت على نفسها ألا تهدأ أو تنام

حتى تنال منه، بينما نجد الشنفرى وهو الخائف المطلوب ينام فإن هو نام فعين الجنايات لا تنام، هذه الصورة يجسدها في هذا التعبير: تنام إذا ما نام يقظى عيونها ... حثاثا إلى مكروه تتغلل وكأنها ترسل عيونها وراءه باحثة عنه في كل مكان كي تنزل به ضربتها وتقضي فيه بحكمها. وهو بهذا منح الهموم ذاتا مستقلة عنه وجعلها مؤرقة قد ينام هو, وإذا نام فبعين واحدة؛ لأن الهموم تنغص عليه نومه ويقظته، أما هي فدائما ساهرة. ومن ذلك تصويره للهموم الطارقات التي يعمل لصدها فتحيط به من كل جانب، بل أنها تمسك بتلابيبه بكل ما فيها من ثقل وإلحاح حتى ألفها وأصبحت جزءا من حياته، يهيئ نفسه لمواعيد قدومها التي أصبحت ثابتة في زيارتها له. وإلف هموم ما تزال تعوده ... كحمى الربع أو هي أثقل وهذا البيت يعكس مدى ما يعانيه في حياته من قلق واضطراب, وكأنه أدرك أن الحمى قد تحتمل في بعض أطوارها وبذلك لا تتكافأ مع ما

يعانيه فأضرب عن ذلك وقال: أو هي أثقل؛ لتؤدي ما بنفسه وتعبر عما يحسه. فهو يصور الهموم تنتابه بحمى الربع بل هي أثقل منها تقبل عليه مثل قطيع الماشية يرد الماء ثم يحاول أن يصرفها فلا تستجيب، فلا يملك إلا أن يستلم، وأطلاق الألفة على الهموم من باب التهكم والسخرية لهذه الملازمة التي لا تكاد تفارقه. وفي هذه المناسبة يقرر أنه في صراع دائم وحروب مستمرة مع همومه، وأنه إذا تغلب على بعضها أو منع نفسه من التفكير فيها تهب عليه من كل جانب: إذا وردت أصدرتها ثم أنها ... تثوب فتاتي من تحيت ومن عل فتصغير تحت يدل على قرب الهموم والتصاقها به وعل تدل على أحاطتها به، وكأنه محاصر بالهموم من كل ناحية، وقد أسعفه التعبير هنا للإفصاح عما بنفسه فتحققت المواءمة بين شعوره والتعبير عنه. 9- وإذا كانت اللامية حافلة بالحديث عن خصائص الشنفرى وصفاته الذاتية وجرأته التي تلقانا في كل بيت منها فإن من أبرع هذا الحديث وصفه لليلة شديدة البرد والمطر حتى امتلأ جسمه رعدة وارتعاشا واضطر كل صاحب قوس أن يشعلها ويستدفئ بها مع

حرص الشديد عليها؛ لأنها وسيلة للدفاع عن نفسه، والشنفرى يفخر بخروجه في هذه الليلة القاسية المظلمة للإغارة؛ لأن ذلك يوافق طبعه المتمرد, ولم يكن معه ما يستعين به على الروع، فلم يصحبه فيها سوى العطش الشديد والظلمة الحالكة بالإضافة إلى البرد والمطر، وإزاء هذا الجو، يخرج مصمما على تحقيق ما اعتزمه، ولم يعد إلا بعد أن قضى مآربه وأنفذ ما اعتزمه: وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل دعست على غطش وبغش وصحبتي ... سعار وإرزيز ووجر يتنبل والشنفرى في هذه اللوحة يعني بوصف حاله ونفسيته، فهو جائع وهو خائف وهو مرتعد الفرائص من شدة البرد والصقيع، مع ذلك فهو يتحدى الطبيعة ويصمد في مواجهتها، ثم يصف آثار هذه الغارة وما خلفته من رجال لقوا مصرعهم فأصبحت نساؤهم أيامي وأطفالهم يتامى, وتم له ذلك في لمح البصر فقد عاد كما بدأ والليل أليل: فأيمت نسوانا وأيتمت آلدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل

غير أن تنكير كلمة نسوانا وجمعها أضفى ظلال التفخيم والتهويل وأثار مشاعر الرعب والخوف من كثرة القتل، ثم استيقظ الناس وفتحوا عيونهم على الحقيقة دون أن يعرفوا مصدر هذا الخطر، وقد صور الشنفرى ما تخيله من حال القوم حيث لم يرهم فهم في حيرة من أمر المغير أهو ذئب أم ضبع؟ إنه ليس من الإنس ولا من الجن إنه الشنفرى يتوحش حين يجنه الظلام: وأصبح عني بالغميصاء جالسا ... فريقان مسئول وآخر يسأل فقالوا لقد هرت بليل كلابنا ... فقلت أذئب عس أم عس فرعل فلم تك إلا نبأة ثم هومت ... فقلنا قطاة ريع أم ريع أجدل ويظهر اعتزاز الشنفرى بنفسه وافتخاره بانشغال الناس بأمره حين يقول: وأصبح عني والناس جميعا يتحدثون عنه دون استثناء وقد انقسموا فريقين فريق يسأل وآخر يجيب. لقد ترك الشنفرى القوم في حيرة من أمرهم أيكون المغير جنا أم إنسا؟ وانتهموا إلى أن هذا ليس من صنع الإنس فما عهدوا في البشر من يصنع مثل هذا:

التصالح مع الطبيعة

التصالح مع الطبيعة ... فإن يك من جن لأبرح طارقا ... وإن يك أنسا ماكها الأنس تفعل وفي هذا البيت تشبيه ضمني حيث شبه نفسه بالشياطين الذين يأتون بالمعجزات التي تفوق طوق البشر. فالشنفرى يفخر بتحديه للطبيعة وانتصاره على نواميسها؛ مثل البرد والمطر واليل الأليل والجوع الذي يلهب الأحشاء وينتصر عليه بالتنكر له ومجاهدة النفس وتحمله للظمأ والحر الذي يسيل لعابه حتى يضيق به الأفاعي فتتململ على الرمل بينما هي لا تنشط ولا تتحرك إلا في الصيف، هذا الجو لا يخيف الشنفرى ولا يفر منه بل يمارس حياته العادية متعرضا لحر الشمس ليس بينه وبينها كن أو ستر: ويوم من الشعرى يذيب لوابه ... أفاهية في رمضائه تتململ نصبت له وجهي ولاكن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل 10 واذا كان الشنفرى ثائرا على أبناء قبيلته وعلى المجتمع وعلى البيئة وعلى كل قوة خارجية لا تصدر عن إرادته، فإننا نراه في هذه اللوحة متصالحا مع الطبيعة حين يصور أناث الوعول وهي تعدو من

حوله هنا وهناك آمنة مطمئنة وكأنها عذارى من الأدميات لابسات ثيابا طويلة الأهداب: ترود الأراوي الصحم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملاء المذيل ويركدن بالآصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل فالوعول هنا لا تنفر منه وإنما تألفه وتأتس به وهو يأتس بها، فكأنها إناث تلتف حول ذكر قوي منيع في وقت الأصيل، فقد أصبح جزءا من هذه البيئة أو وحشا من وحوشها، فالطبيعة التي كان ثائرا عليها حيث تصليه برمضائها وتذيقه من الظمأ والجوع ما يهد جسمه وتصيبه بالبرد والرعدة قد تصالحه في وقت ما, ويجد فيها من مظاهر الجمال والمتعة ما يخلب النفس ويسحرها. ويبدو من خلال الصورة شيء، قد يكون حرمانا جنسيا يعانيه من كان في مثل ظروفه، ولذلك نراه يتحدث عن الوعول الإناث وبزرها في صورة العذارى من الأدميات، وعليهن ثياب ذات ذيول وكأنها ثياب العرائس، أو المسرفات في التزين، وهو في الصورة الذكر الوحيد بين هذه الإناث، بل فحل بالغ القوة والمنعة، فكأنه يحاول إشباع حاجته

الجنسية من خلال نفسيته وخياله، وهذه هي المرة الوحيدة التي ينسلخ فيها من رجولته لتقمص شخص ذكر من الوعول1. وعلى كل فهي لوحة مصورة ابتدعتها يد فنان ماهر في لحظة من لحظات صفاء النفس, ليست سوى طيف مول وهدنة يسيرة لا يلبث أن يعود بعدها إلى حلبة الصراع. وبهذا يبدو الشنفرى بارعا في استجماعه لعناصر الدقة وتوزيعه الألوان والظلال مع البساطة في عرض صورة وتفوقه على الطبيعة التي يحاكيها. وهكذا يتضح لنا من خلال هذا العرض قدرة الشنفرى على التصوير والتجسيد بحيث لم يترك شيئا غامضا أو معنى مجردا لا يتمثله السامع إلا وألبسه ثوبا أدبيا وأخرجه في صورة محسة مرئية في الخيال، والتمثيل دائما يوافق النفس البدائية التي تبصر المعاني أكثر مما تفهمها، يقول ابن رشيق: والتشبيه والاستعارة جميعا يخرجان الأغمض إلى الأوضح ويقربان البعيد2. ولذلك لم يكد يخلو بيت من صورة بدوية وهي صور تنطلق من مشاهد الصحراء التي شهداها وعاش فيها وقد استطاع أن يستغل معجمه اللغوي والتصويري أبرع استغلال ليكون ذلك في خدمة الفكرة التي أراد أن يبرزها, ففي معرض حديثه عن الجوع الذي يعانيه

_ 1 يراجع: شاعر الصعاليك: الشنفرى ولامية العرب، ص 183، د/ عبد الحليم حفني. 2 العمدة جـ 1/ صـ287.

يشبه نفسه بالذئب الذي يبحث عن الطعام لذئاب أخرى، هذه هي الصورة الكلية والتي تتضمن في داخلها صورة أخرى جزئية. ويقول عن الذئب المشبه به تهاداه التنائف فكل تنوفة تقدمه هدية إلى أخرى، مع ما تنطوي عليه الكلمة من سخرية مريرة تجعلنا نتصور الشنفرى وهو يندب حظه ويأسى لهذا المصير الأليم، ويعبر عن يأس الذئب وخيبة أمله في الحصول على الطعام بقوله: يخوت, أي يصوت ويطلق صيحاته العالية، وبقوله: يعسل, ليوحي باضطرابه وفقد توازنه وحركته اللاإرادية، وكذلك قوله: لواه القوت، ولم يكن هناك قوت, وقوله: أستف ترب الأرض فهو خير له من أن يتلقى نعمة ممن يمن عليه أو يستند له, والكلمة بهذه الصورة أستف تشعر بتكرار هذا الأمر والإكثار منه مع تقبله له، وهذا المعنى لا يتأتى لو قال آسف، أو آكل تراب الأرض، وكأنه مستعد لأن يأكل التراب لا مرة واحدة بل أكثر من مرة، وأشد من ذلك أيسر عليه من الهوان. وقوله فؤاد مشيع للدلالة على جرأته وقوته وكأن له أتباعا وأنصارا وشيعة وعشيرة تؤازره وتقف إلى جانبه، ولا شك أن هذا المعنى لا يتأتى لو استبدلنا بهذا الوصف كلمة أخرى. من حيث أمه، إلى غير ذلك من الكلمات المصورة والمعبرة التي نراه يستخدمها حين يتحدث عن كثرة جناياته وكيف أنها تقض

مضجعة وتمنع عنه النوم: طريد جنايات، تياسرن لحمه، لأيها حم أول تنام يقضي عيونها، إلى مكروهه تتغلغل. وبهذا نجد أن طبيعة التجسيد عنده تعني التعبير بالمشهد أو الحادثة كما في تصويره لحالة الذئب والذئاب الرفاق وقد استبد بها الجوع، أو حديثه عن إحدى غاراته في ليلة مظلمة شديدة البرد، أو التعبير بالصورة الفنية كما تقدم في تشبيهاته واستعاراته أو كناياته الفطرية اللطيفة التي نقع عليها، أو التعبير بالكلمة الموحية المشعة التي لا يكاد يخلو منها بيت أو بيتان متجاوران، بحيث يضع المعنى أمامنا وكأننا نبصره أو نستطلعه، بدلا من أن نفهمه فهما ذهنيا. وكثيرا ما يلقانا التعبير عن خواطره بالكناية كقوله أقيموا صدور مطيكم كناية عن التحول والتهيؤ؛ لأن المطايا إذا سارت رفعت صدورها، وآلف وجه الأرض كناية عن ملازمة الهموم له وقوة تحمله بأهدأ تنبيه, سناسن قحل كناية عن الهزال والضعف وبروز العظام، ومثله وأعدل منحوصا 43، وقوله يوم ... يذوب لوابه، وعن الأفاعي، في رمضائه تتململ كناية عن شدة القيظ وحرارة الشمس التي لا تطاق، فهو حر يذيب رأس الضب كما يقولون. وأستف ترب الأرض كناية عن اعتزازه بنفسه واعتداده بكرامته، فأكل التراب أهون عليه من أكل ما لذ وطاب من يد منان أو متطول عليه.

ألفاظ القصيدة تقتفي أثر التجربة

ألفاظ القصيدة تقتفي أثر التجربة ... 11 وألفاظ القصيدة لا تجري على سنن واحد بل تقتفي أثر التجربة، وتجري حسب الإيقاعات النفسية فهي تشف وترق وتميل إلى البساطة واللين حين يعمد إلى الأفكار أو التقرير الفكري وحين تستولي عليه الرؤيا، كما في وصفه للهموم: طريد جنايات تياسرن لحمه, تنام إذا ما نام يقظى عيونها, وإلف هموم ما تزال تعوده, عياد كحمى الربع أو هي أثقل, وقوله: أقيموا بني أمي صدور مطيكم........................ وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى..................... لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ................... وغير ذلك مما يعبر عن هذه الفكرة، كما تتجهم ألفاظه وتخشوشن، ويعروها الجفاف, وتصبح ألفاظا صحراوية جافة، حين يلجأ إلى الوصف أو التعبير عن مشهد حي كما في قوله حين يصف نفسه: ولست بمهياف يعشي سوامه مجدعة سقبانها وهي بهل ولا جبأ أكهى مرب بعرسه........................ ولا خرق هيق........................ ولا خالف دراية........................

وكما في حديثه عن القوس حين يصفها فهي صفراء عيطل وهي هتوف من الملس المتون، أو عن الذئب: أزل تهاداه التنائف أطحل: ........................ يخوت بأذناب الشعاب ويعسل وحديثه عن النحل: أو الخشرم المبعوث حثحث دبره ... محابيض أرداهن سام معسل ونلحظ في قوله: ولست بمحيار الظلام إذا انتحت ... هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل ثقلا في نطق الشطر الثاني, وربما كان ذلك راجعا لكثرة تكرير الهاء، مع تكرار كلمة بذاتها مرتين, وكأنما هذه المعاناة في النطق وتلك المعاضلة في الكلام شبيهة بالمعاناة التي تصيب من يسلك دروب الصحراء ويتعرض للسير فيها. فالألفاظ ارتبطت بطبيعة المعنى الذي تؤديه، والجاحظ يقول: إن لكل مقام مقالا وذلك يعني أن الفكرة تقتضي عباراتها، كما ارتبطت الألفاظ بطبيعة التجربة فكانت في معظمها حسية مادية، فلغة الشنفرى مستمدة من بيئته ومن طباعه، ولذلك كنا نعثر

المظاهر للإجتماعية في القصيدة

المظاهر للإجتماعية في القصيدة ... على كثير من الألفاظ الغريبة، وتلك سمة من سمات شعر الصعاليك نظرا للمعاناة والمشقة وأسلوب الحياة التي يحيونها. 12 وأسلوب القصيدة يتسم بالتقررية والمباشرة عدا ما يتخلله من بعض صور أنشائية كقوله في مطلع القصيدة: أقيموا بني أمي, وقوله: في معرض الحديث عن عرسة: يطالعها.... كيف يفعل أذئب عس أم عس فرعل, ولعل هذا يساعده على تنوع أفكاره وتحقيق غايته، وكان جنوحه للمباشرة ولأسلوب التقرير؛ لأنه يحكي قصة حياته، أو تجربة عاشها بكل أبعادها، فلم يكن بد من نقلها كما تعرض لها مع تفننه في طريقة العرض ووسيلة الأداء، ولا يجري الأسلوب على طريقة واحدة فهو يتردد بين التكلم والغيبة كما في قوله: وآلف وجه الأرض, ثم بعد ذلك يقول: طريد جنايات تياسرن لحمه وإلف هموم ما تزال تعوده يعود إلى المتكلم ثانية قائلا: إذا ورت أصدرتها، ويترد الأسلوب مرة أخرى بين المتكلم والغيبة في قوله: نصبت له وجهي بصيغة التكلم، ثم يعود إلى الغيبة في قوله: وضاف إذا هبت له الريح طيرت لبائد عن أعطافه, وقوله بعد ذلك: بعيد بمس الدهن والفلى عهده، وربما كان ذلك راجعا لتغيير الجو النفسي، ولما طال نفسه بالقصيدة ناسب أن يلون الأسلوب حتى يمنع عنه الرتابة والملل. ومن التفصيل بعد الإجمال قوله: ولي دونكم أهلون, ثم يفصله بقوله: سيد عملس وأرقط زهلول وعرفاء جيأل.

وقوله: ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع وأبيض إصليت وصفراء عيطل. ومن الطباق الذي جاء عفو الخاطر دون تعمل أو تكلف. ولست بعل خيره دون شره فإن تبتئس بالشنفرى........................ لما اغتبطت وأعدم أحيانا وأغنى........................ فلا جزع من خلة متكشف ولا مرح................. إذا وردت أصدرتها وقد اقتضى الطباق من الشاعر أن ينقض أمرا ويحل محله أمرا آخر أصلح منه، كما ينطوي أحيانا على التفصيل كما في قوله: وأعدم أحيانا وأغنى, فلا جزع من خلة.......... ولا مرح, فالطباق يكون أحيانا أداء للنقض، أو وسيلة للتفسير والتفصيل. والقصيدة بعد ذلك حافلة بكثير من المظاهر الاجتماعية التي تعبر عن جانب مهم من الحياة الجاهلية، فيظهر تأثير البيئة الاجتماعية والمادية في الحديث عن المقامرة ولعب الميسر، حين يصور أجسام الذئاب وقد براها البحث عن الطعام حتى غدت كأنها قداح الميسر يحركها لاعبها:

ملهلهة شيب الوجوه كأنها ... قداح بكفي ياسر تتقلقل ومرة أخرى يتحدث عن الميسر حين يجعل الجنايات تطالب بدمه، وتتنازع عليه وأخيرا تلجأ على الاستقسام بالأزلام: طريد جنايات تياسرن لحمه ... عقيرته لأيها حم أول وحين يصف شعره المتلبد قي قوله: بعيد بمس الدهن والفلي عهده ... له عبس عاف من الغسل محول ما يكشف هذا عن اعتنائهم بشعرهم عن طريق فليه ودهنه ببعض الدهون. كما يظهر أثر البيئة المادية في ذكر أسماء الطيور والحيوانات التي وردت في ثنايا القصيدة مثل: الذئب، الضبع، النمر، السمع، الوعول، الحيات، القطا، ثم النحل، وفي توسله بمظاهرها في تشابههه ووصفه، ولا شك أن هذه الرؤية الشعرية التي تبلغ من العمق والرحابة حد الإحساس بالطبيعة والبيئة في عمومها وشمولها، في رملها ونبتها، في وحشها وطيرها هذه الرؤية هي التي أفسحت

لشاعرنا مكانا غير منكور بين الشعراء الصعاليك، بل بين شعراء العصر الجاهلي كله.

لقيط بنت يعمر الإيادي في تخويف قومه وتحذيرهم عواقب الغفلة والنسيان

لقيط بنت يعمر الإيادي في تخويف قومه وتحذيرهم عواقب الغفلة والنسيان لمحة عن الشاعر ... الشاعر هو لقيط بن يعمر الإيادي من شعراء العصر الجاهلي المقلين1, وتذكر بعض المصادر أن اسمه، لقيط بن معبد، فقد ذكر ابن دريد وهو بصدد الحديث عن نسب إياد أن من رجالهم: لقيط بن معبد صاحب القصيدة التي أنذر بها إياد لما غزتهم الفرس, وذكر صدر القصيدة2, بينما يذكر ابن قتيبة أن اسمه لقيط بن معمر3, أما محقق ديوانه فقد آثر تسميته لقيط بن يعمر استنادا على ما ذكره ابن الشجرى. وما ذكره صاحب الأغاني وأصل اللقيط المولود الذي يوجد مرميا على قارعة الطريق لا يعرف أبوه ولا أمه وهو فعيل بمعنى مفعول، واللقيطة واللاقطة الرجل الساقط الرذل المهين والمرأة سقيطة لقيطة، قال قريط بن أنيف4: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا ولعله سمي بهذا الاسم المهين على عادة العرب في تسمية أبنائهم بأهون الأسماء وأقلها، حتى إذا قتله الأعداء لا يشعر أهله بشديد أسف, ولا تشعر الأعداء بكبير تشف.

_ 1 طالع مختارات ابن الشجرى ص2 تحقيق علي محمد البجاري ط دار نهضة مصر سنة 1975 والأغاني جـ 22/ صـ 355. 2 الاشتقاق لابن دريد ص 168ط الخانجي سنة 1985. 3 الشعر والشعراء جـ1 / صـ205. 4 شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ط/23.

وقبيلة إياد التي ينتمي إليها الشاعر من أكثر نزار عددا، وأشدهم بأسا وقوة، لذلك حظيت بمنزلة عالية، وتقدير بالغ، إذا لم يدينوا لملك من الملوك، ولم يصبهم في الجاهلية سباء، وكان موطنهم تهامة، ولكنهم اضطروا إلى مغادرته إلى مناطق مختلفة من الجزيرة العربية لأسباب منها القحط، فيقال: إنهم نزلوا أرض السواد بالعراق، وبدأ عددهم ينتشر في المنطقة الواقعة بين البحرين وسنداد والخورنق، وأخذوا يهاجمون المناطق الآمنة بالعراق، كما أغاروا على الفرس وبلغت غارتهم ذروتها حين سبوا عروسا فارسية من أشراف العجم كانت قد زفت إلى بعلها، فأثار ذلك غضب الفرس، وحفز ملكهم إلى إرسال جيش كبير من الفرسان لمهاجمة إياد، فهجمت إياد على جيش الملك وقضت عليه، وجمعت إياد جماجمهم وأجسادهم التي تكدست في أرض المعركة، فكانت كالتل العظيم، وكان إلى جانبهم دير فسمي دير الجماجم1, وقد أعاد كسرى الكرة عليهم وأغار بجيش كبير تبلغ عدته على ما يذكره ابن قتيبة ستين ألفا2، وكان لقيط مقيما بالحيرة لذلك أجاد اللغة الفارسية، واتخذه كسرى مترجما وكاتبا للمراسلات في الديوان3 فكان من المقربين لديه، وأتاح له ذلك أن يطلع على كثير من شئون الملك وأسرار الدولة، ولذلك حين أحس بعزم كسرى على غزو قومه ورأى الخطر

_ 1 الأغاني جـ 22 / صـ 256. 2 الشعر والشعراء جـ1 / صـ205. 3 مختارات ابن الشجرى 2.

الداهم، يتهددهم، أنذرهم قبل أن يفاجأهم الفرس بهلاك محقق، فكتب عينيته الرائعة التي جاءت فريدة في بابها. وقد عاش لقيط في فترة عصيبة من تاريخ العرب حيث اتحدت قبائل الحيرة العربية لأول مرة، وثارت على الحكم الفارسي، وكان للقيط دوره الفعال في تلك اليقظة القومية1؛ إذ يعتبر بحق أول شاعر قومي في الجاهلية، فقد استطاع بقصيدته العينية المشهورة أن يوحد قومه ويحشدهم لمواجهة الجموع الزاحفة من الفرس عن طريق المقارنة بين حال الفرس وما أعدوه لقومه، وحال إياد وما هم عليه من الغفلة والإهمال. وتذكر الأخبار أنه كتب قصيدته هذه في صحيفة واتخذ لها عنوانا ضمنه الغرض من كتابتها، وهو أن جموع كسرى متوجهة إليهم، بعد أن حشدوا حشودهم، وأعدوا عدتهم، ويحذرهم من الغفلة والانشغال برعي الأغنام، في حين أن الخطر جسيم والخطب جلل، ولذلك فهو يقول في الأبيات التي جعلها عنوانا لقصيدته:2 سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد

_ 1 طالع الديوان 7 تحقيق د/ عبد المعين خان، دار الأمانة بيروت سنة 1971. 2 الأغاني جـ 22/ صـ358.

بأن الليث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النقاد أتاكم منهم ستون ألفا ... يزجون الكتائب كالجراد على حنق أتينكم فهذا ... أوان هلاكهم كهلاك عاد وحين بلغ كسرى أن لقيطا أبلغ قبيلته بتوجه الجيوش الفارسية لغزوهم قطع لسانه، وغزا إيادا.1

_ 1 مختارات ابن الشجرى2

إنذار قومه وتخويفهم غزو كسرى

أإنذار قومه وتخويفهم غزو كسرى يا دار عمرة من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا تامت فؤادي بذات الجزع خرعبة ... مرت تريد بذات العذبة البيعا بمقلتي خاذل أدماء طاع لها ... نبت الرياض تزجي وسطة ذرعا وواضح أشنب ذي أشر ... كالأقحوان إذا ما نوره لمعا جرت لما بيننا حبل الشموس فلا ... يأسا مبينا ترى منها ولا طمعا فما أزال على شحط يؤرقني ... طيف تعمد رحلي حيثما وضعا

_ 1 طالع في القصيدة الديوان 36، ومختارات ابن الشجرى ص2 وما بعدها، الأغاني جـ22/ صـ256.

إني بعيني إذا أمت حمولهم ... بطن السلوطح لا ينظرن من تبعا طورا أراهم وطورا لا أبينهم ... إذا تواضع خرد ساعة لمعا بل أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادا ومنتجعا أبلغ إيادا وخلل في سراتهم ... أني أرى الرأي لم أعص قد نصعا يا لهف نفس أن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا إني أراكم وأرضا تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبعا ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا أبناء قوم تأووكم على حنق ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا

أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلعا لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا خزر عيونهم كأن لحظهم ... حريق غاب ترى منه السنا قطعا لا الحرث يشغلهم بل لا يرون لهم ... من دون بيضتكم ربا ولا شعبا

اللغة: 1 عمرة: اسم محبوبته، الجرع: رمل يرتفع وسطه ويكثر وترق نواحيه فيعشب فيحلها الناس، هاجت لي الهم: أثارته. 2 تأمت فؤادي: تيمته, أي عبدت وذللت قلبه، ومنه تيم الله, أي عبد الله، الجزع: منعطف الوادي وأراد بمكان في ذات الجزع، الخرعبة: الشابة الحسنة القوام، الحديثة السن الغضة، الخرعوب: المنثنى، قال امرؤ القيس1: برهرهة رودة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر 3 الخاذل من الظباء والبقر: التي تخذل صواحبها فتتخلف عنهم وتنفرد مع ولدها, قال طرفة: خذول تراعي ربربا بخميلة ... مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد أدماء: الأدم من الظباء، بيض تعلوهن غبرة، طاع لها نبت الرياض: لم يمتنع عليها فأمكنها رعية، تزجي: تسوق، الذرع: ولد البقرة الوحشية. 4 الواضح: الفم الذي تظهر فيه الأسنان بيضاء، الشنب: ماء الأسنان وبريقها، قال ذو الرمة:

_ 1 الديوان 157 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف 1964.

لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب وأشنب الأنياب: أي أنياب حادة ذات بريق وصفاء، والأشر: حسن الأسنان وحدة أطرافها، أو هو التحزيز الذي يكون فيها، الأقحوان: نبت له نور أبيض كأنه ثغر جارية حديثة السن والجمع أقاح. 5 الشموس من الدواب الذي لا يكاد يستقر فلا تمكن من الأسراج والألجام وهو مثل: يقال لكل صعب متجبر: شموس، فلا يأسا مبينا: أي لا أرى منها يأسا ظاهرا فأقطع الأمل في وصلها ولا أرى أملا يغري بالوصال. 6 الشحط: البعد، يؤرقني: يمنعني النوم: الطيف: الخيال يلم في النوم، قال كعب بن زهير: إني ألم بك الخيال يطيف ... ومكانه لك ذكرة وشعوف وقال البارودي: تأوب طيف من سميرة زائر ... وما الطيف إلا ما تريه الخواطر تعمد رحلي: قصده، حيثما وضعا: أي حيثما نزلت.

7 أمت: قصدت، بطن السلوطح: موضع، الحمول أي الأبل تكون عليها الأثقال خاصة، لا ينظرون: لا ينتظرون. 8 لا أبينهم: لا أستبينهم لتباعدهم عني، طورا: أحيانا، إذا تواضع خدر: إذا تباعد وتراخى عني ساعة لا أراهم، ثم يلمع، والآل: السراب، والخدر: الهودج. 9 المزجي مطيته: الذي يسوقها، الجزيرة: جزيرة العراق التي أغار عليها قومه، مرتادا، من الارتياد وهو الطلب، والنجعة أيضا طلب الكلأ وانتجعت فلانا: طلبت خيره. 10 خلل في سراتهم: أي أخص سراتهم بإبلاغ رسالتي، وسراة القوم: خيارهم وأشرافهم وأصحاب الرأي فيهم، ونصع الرأي: اتضح فلا شبهة فيه. 11 اللهف: الأسى والحزن على شيء فات. قال الشاعر: ولست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني شتى: متفرقة، وأحكم أمر الناس: أبرم وأوثق. 12 تعجبون بها: تسرون وتفرحون، الوعث: المكان السهل الذي تغيب فيه الأقدام، الطبع: تدنس العرض وتلطخه، وهو أيضا

الصدا الذي يعلو السيف, واستعاره لما يكون على سطح الماء من الزبد ونحوه. 13 أبا لكم: جملة دعائية يقصد بها سخطه عليهم وعدم رضاه عن سلوكهم، أو حثهم على فعل ما يدعوهم إليه، الدبا: صغار الجراد، واحده دباة: سرعا: سرعة. 14 تآووكم: عمدوا إليكم وقصدوكم، الحنق: الغيظ والغضب، لا يشعرون أضر الله أم نفعا أي لا دين لهم ولا يراقبون الله عز وجل. 15 تزهي: تستخف وتستهين يقال: أزهيت فلانا تهاونت به، وزهاه وازدهاه: استخفه وتهاون به. قال عمر بن أبي ربيعة: فلما توافينا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا القلع: الصخور العظام، والقلعة: الحصن الممتنع في جبل وجمعها قلاع وقلع. 16 شوكا: يريد سلاحا حديدا، والصاب والسلع: شجران مران كنى بذلك عن السلاح والعدة وضربه مثلا لشدتهم.

17 راموا: طلبوا وحاولوا، الهدة: صوت شديد تسمعه من سقوط ركن أو حائط أو ناحية جبل، شم: طوال، والشماريخ: رءوس الجبال وأعاليها، ثهلان: جبل بنجد، انصدع: انشق وتفرق. 18 يسنون: يحددون، والسن: الحد. الحربة: دون الرمح وجمعها حراب، لا يهجعون: لا ينامون إذا نام الغافل. 19 خزر عيونهم: جمع أخزر وهو الذي ينظر بمؤخرة عينه، اللحظ: النظر بمؤخرة العين من أي ناحية، وهو أشد التفاتا من الشزر، قال الشاعر: لحظناهم حتى كأن عيوننا ... بها لقوة من شدة اللحظان 20 الحرث: الازدراع، من دون بيضتكم: من دون أرضكم، وبيضة القوم: ساحتهم ومجتمعهم قال لقيط الأيادي أيضا: يا قوم بيضتكم لا تفضحن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا يقول: احفظوا عقرداركم، والأزلم الجذع: الدهر؛ لأنه لا يهرم أبدا.

التحليل 1-20 بدأ لقيط قصيدته التي ينذر فيها قومه ويحذرهم غزو كسرى إياهم بالغزل على عادة الشعراء الجاهليين، فأخذ يتحدث عن صاحبته عمرة ويناجي دارها ويحيي طللها علها تجيب نداء، فقد أهاجت شجونه وأثارت همومه وأحزانه، وخطاب الديار في مفتتح قصائدهم عادة جاهلية قديمة قال النابغة الذبياني1: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد وقال امرؤ القيس:2 يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالجبيتين من عاقل لقد تيمت عمرة قلبه حتى استعبدته وملكت عليه نفسه فهي في عنفوان شبابها تمتلئ نضارة وتفيض حيوية ونشاطا وقد مرت أمامه قاصدة أحدى دور العبادة فزاد في ولهه واشتعل نار حبه. ثم أخذ في بيان صفاتها فعيناها تشبه عيني الظبية الخالصة البياض التي تخلفت عن صواحبها وأقامت على ولدها ترعاه، وهي تعيش في رخاء تروح وتجيء وتمرح بين الرياض وخلال المروج الخضراء فلا

_ 1 الديوان صـ 14. 2 الديوان صـ 119.

يمتنع عليها ولا يتعرض لها أحد بسوء، ترعى مع ولدها فيتحقق لهما الأمن ورغد العيش كما أن ثغرها مشرق مضيء فأسنانها بيضاء ذات بريق ولمعان وكأن هذا الثغر في وضاءته وبريقه المتدفق زهرة الأقحوان حين يلمع نورها وينصع بياضها. ويتحدث عن أخلاقها فهي كالدابة الشموس: التي لا تستقر عي حال بل تتغير وتتبدل فأنا تقبل عليه وتطمعه في وصلها فيتبدد يأسه ويتجدد لديه الأمل ويمني نفسه بقربها، وأنا تعرض عنه فتستبد به الهموم ويقطع أمله في وصلها، فحالها إقبال وإدبار وصد ونوال. وإذا كان هذا حالها وهو قريب منها، فإنه إذا بعد عنها ليسلوها عاوده طيفها وزاره خيالها، ومنعه النوم وإنه ليلح عليه كلما حل مكانا أو نزل منزلا وكأنها، موكلة بعذابه في قربها منه وبعدها عنه، وكلمة أزال في قوله فما أزال على شحط يؤرقني تفيد استمرار العذاب ودوامه. وإن مشهد الفراق لا يفارق عينه ولا يغيب عن خياله حين قصدت رحالهم بطن السلوطح وقد علقت بهم القلوب وشدت نحوهم الأبصار في حين أنهم لا ينظرون إلى من تعلق بهم وغدا أسير هواهم. وفي أعقاب رحيلهم كان ينظر نحوهم فأحيانا يستبينهم لقربهم منه وأحيانا لا يراهم لتباعدهم عنه وتغيب السراب إياهم.

ويضرب الشاعر صفحا عن حديث الذكريات حديث الحب والوله الذي جعله مقدمة لقصيدته؛ ليأخذ في غرضه الأصلي, فيناجي من يتوجه إلى قومه طالبا رفدهم, منتجعا فضلهم, مجدا في سوق راحلته؛ ليبلغهم رسالة إنذار وتحذير؛ ليعدوا العدة, ويتخذوا الأهبة, قبل أن يغزوهم كسرى, ثم يطلب منه أن يبلغ قومه إيادا بفداحة الخطب, وخطورة الموقف, وأن يخص بالتبليغ سادة القوم وأهل الرأي فيهم, فزمام الأمور بيدهم, ولهم تنقاد القبيلة, فقد اتضح الموقف, وظهر العدو على حقيقته، ورأيه الذي بعث به إليهم ناصع ويرجو ألا يخالفوه. ثم أخذ في رسم صورة حقيقية لما عليه قومه, فهو يرثي لحالهم ويأسى لتفرق كلمتهم وتشتيت أمرهم, بينما عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر قد أجمع أمره ووحد صفوفه, منتظرا لحظة الإنقضاض عليهم، والثأر منهم، فهم في تراخيهم وغفلتهم عما يدبر لهم, ورضاهم بما هم عليه دون أن يفكروا في العواقب, كالسفينة التي تجري في مجرى صالح للملاحة وتظل على ذلك مدة ثم لا تلبث أن يتعطل سيرها ويتوقف جريها, بسبب جفاف الماء أو عطل أصابها فتبيت في قاع اليم، ثم أخذ يحثهم على التيقظ لملاقاة عدوهم ويهول من شأنه فينكر عليهم تراخيهم واستهانتهم، ولذلك يدعو عليهم بقوله لا أبا لكم وكيف يتأتى ذلك منهم مع أن أعداءهم لا يحصى عددهم وسيأتون إليهم مسرعين.

وبعد أن صور حال قومه أخذ يصف لهم حال عدوهم، فهم قوم لادين لهم ولا ذمة عندهم فلا يراقبون ربهم ولا يحفظون ميثاقهم، وأن صدورهم لتمتلئ حقدا وغضبا عليكم ولذلك يعمدون إليكم قاصدين أنيشفوا نفوسهم ويذهبوا غيض قلوبهم فلا تمكنوهم من ذلك، وقد ضموا إلى كثرة عددهم كفاءتهم الحربية وتمرسهم بالقتال فليسوا كغثاء السيل لا غناء فيهم ولا وزن لهم وأنما هم أولو باس وشدة يستهينون بالصعاب ويقتحون الحصون المنيعة فيدكونها على اصحابها. وهم متشوقون للقائكم مستعدون لدحركم ياتون إليكم سراعا بعد ان أعدوا العدة وأخذوا الأهبة يحملون لكم معهم الموت الذؤام، في حين أنكم غافلون عما يدبرلكم لاهون عما بكم ويجري من حولكم ولقد بلغت قوتهم حدا لو أنهم توجهوا بجموعهم الغفيرة نحو الجبال الشم لتصدعت من حدة اصواتهم وتهاوت من الضوضاء والجلبة التيتحدث من إجتماعاتهم. لقد جعلوا لقائكم والظفر بكم شغلهم وأملهم المرتقب، ولذلك كانوا في استعداد دائم وتأهب مستمر لا يغفلون عن ذلك ساعة من ليل أو نهار آما أنتم فتنامون ملء عيونكم غير عابئين بما يدبر لكم غافلون عما ينتظركم، وهم حين يصلون إليكم يحدقون بابصارهم فتخرج من عيونهم أشعة اشبه بنار الحريق وكأنه اللهب يريد أن لهم نظرات قاتلة يرهبون بها أعداءهم وليس لهم ما يلهيهم، أو يشغلهم عن التهيؤ للقائكم وكيف ينشغلون بغيركم وهم يرون سعادتهم في استئصال شأفتكم والقضاء عليكم.

غفلة قومه عن الخطر

ب غفلة قومه عن الخطر وأنتم تحرثون الأرض عن سفه ... في كل معتمل تبغون مزدرعا وتلقحون حيال الشول آونة ... وتنتجون بدار القلعة الربعا وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم ثغشاكم قطعا مالي أراكم نياما في بلهنية ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا فاشفوا غليلي برأي منكم حصد ... يضحي فؤادي لكم ريان قد نقعا

ولا تكونوا كمن بات مكتنعا ... اذا يقال له افرج غمة كنعا يسعى ويحسب أن المال مخلده ... إذا استفاد طريفا زاده طمعا 28 اللغة: 21 السفه: الجهل والطيش والمراد غفلتهم عن أمرهم، والمعتمل: موضع العمل مأخوذ من الاعتمال وهو أن يعمل الرجل بنفسه دون الاستعانة بأحد، قال الشاعر: أن الكريم وأبيك يعتمل ... أن لم يجد يوما على من يتكل أراد من يتكل عليه، المزدرع: الشيء المزروع، يقال: ازدرع القوم: اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا أو احترثوا. 22 تلقحون: تجعلون الفحول تقوم بتلقيح الإناث، يقال لقحت الناقة لقحا ولقاحا إذا قبلت ماء الفحل، والشول: إناث الإبل قد شولت ألبانها أي جفت وذهبت، وحيالها: ما حال منها فلم تحمل، آونة: أحيانا واحدها أوان، الربع: الفيصل الذي نتج في أول الربيع، دار القلعة: دار الدنيا وسميت بذلك لأنها دار

تحول وارتحال وفي حديث علي كرم الله وجهه: أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة. أي تحول وارتحال والقلعة من المال ما لا يدوم. 23 ضاحية: ظاهرة علانية، لا تفزعون: لا تخافون حتى تستعدوا للقتال، الليث هنا: كسرى قد جمعا: أي جمع جموعه ووحد صفوفه. 24 أظلكم: دنا منكم كأنه واقع بكم، الشطر: الجهة والناحية ومنه قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 1، الثغر: الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو، الهول: الشدة والفزع، قطعًا: أي قطعة بعد قطعة. 25 البلهنية: رخاء العيش ورفاهيته، الشهاب: الشعلة الساطعة من النار. 26 الغليل: شدة العطش وحرارته والمراد بشفاء غليله ذهاب حزنه وكمده، حصد: محكم من قولهم حبل حصد وهو المحكم فتله من الحبال والأوتاد والدروع، النقع: ذهاب العطش. 27 المكتنع: المنكمش والمنقبض من قولهم كنعت العقاب: ضمت جناحيها للانقضاض والكنع: تشنج الأصابع وتقبضها، كنعا: خضع وذل، والغمة: الغم والكرب.

_ 1 البقرة 149.

28 الطريف من المال: ما استحدثه الإنسان واكتسبه، وهو خلاف التالد الذي يرثه الإنسان. قال جميل بن معمر: وقد كان حُبَّيكم طريفا وتالدا ... وما الحب إلا طارف وتليد التحليل من 21-28 وبعد أن صور يقظة العدو وتأهبه لملاقتهم والانقضاض عليهم، أخذ في تصوير حال قومه وما هم عليه من الغفلة والانشغال بصغائر الأمور التي لا تغني عنهم وقت الشدة وساعة اللقاء، ثم أخذ يعدد مظاهر هذه الغفلة. فهم مشغولون بحرث الأرض واستزراعها، يبذلون فيها أقصى طاقتهم، لا يدعون موطنا صالحا للزراعة إلا استغلوه وجعلوا ذلك شغلهم الشاغل واهتمامهم الذي يطغي على ما عداه يربون الإبل، ويستزيدون منها بالتلقيح والولادة. وهم يأمنون شر عدوهم فلا يخشون هجمته ولا يخافون غدرته، بينما كسرى قد جمع جموعه وأعد عدته استعدادا للقائهم، فقد دنا منهم الخطر وكاد أن يحدق بهم، وهو لا شك خطر عظيم يبدد

أمنهم ويحيلهم إلى أسوأ حال ويتعجب من موقفهم وتملكه الدهشة من أمرهم إذ لا يزالون غافلين لاهين يتمتعون بما تحت أيديهم من زخارف الحياة ومتعها، بينما نذر الحرب قد لاحت في الأفق، وأصبح وقوعها وشيكا وأمرا محققا. ثم ينصحهم بالتمسك بالرأي الصائب، وأن يجمعوا أمرهم ويوحدوا كلمتهم ويتحلوا بالشجاعة ويصمدوا عند اللقاء، حتى يلوح لهم النصر وتتحق لهم الغلبة، فيشفي الشاعر غليله ويطيب نفسا، وألا يكونوا كالجبناء ينطوون على أنفسهم ويعجزون عن مواجهة عدوهم هؤلاء إذا ما دعوا إلى تفريج كربة أو كشف غمة هربوا من أداء الواجب وتقاعسوا وتلمسوا المعاذير، وراحوا يثمرون مالهم للتكثر من متع الحياة، وكأنهم مخلدون على ظهرها أو أن المال يخلدهم.

استنفار وتحريض لمجابهة الغزو

جـ استنفار وتحريض لمجابهة الغزو فاقنوا جيادكم واحموا ذماركم ... واستشعروا الصبر لا تستشعروا الجزعا ولا يدع بعضكم بعضا لنائبة ... كما تركتم بأعلى بيشة النخعا صونوا جيادكم واجلوا سيوفكم ... وجددوا للقسى النبل والشرعا أذكوا العيون وراء السرح واحترسوا ... حتى ترى الخيل من تعدائها رجعا واشروا تلادكم في حرز أنفسكم ... وحرز أهليكم لا تهلكوا هلعا فإن غلبتم على ضن بداركم ... فقد لقيتم بأمر الحازم الفزعا لا تلهكم إبل ليست لكم إبل ... إن العدو بعظم منكم قرعا

لا تثمروا المال للأعداء إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا هيهات لا مال من زرع ولا إبل ... يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا والله ما انفكت الأموال مذ أبد ... لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا ياقوم إن لكم من إرث أولكم ... مجدا قد أشفقت أن يفني وينقطعا ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا ياقوم لا تأمنوا أن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا ياقوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا

اللغة: 29 اقنوا جيادكم: الزموا خيلكم، الزمار: كل ما يلزمك حفظه وحمايته والدفاع عنه، إن ضيعته لزمك اللوم، وأصل الشعار ما ولى جسد الإنسان من الثياب دون سواه، الجزع: ضد الصبر. 30 النائبة: النازلة والمصيبة، بيشة: اسم قرية في بلاد اليمن، النخع: قبيلة من الأزد أو من اليمن رهط إبراهيم النخعي. 31 الشرع: الأوتاد الواحدة شرعة مادام مشدودا على القوس أو هو الوتر مشدودا على القوس أو غير مشدود. 32 اذكوا العيون: أكثروا من إرسال الطلائع والجواسيس لكشف العدو، أو المراد: أحدوا النظر، السرح: شجر كبار عظام يستظل بظله، التعداء: العدو السريع، رجعا: جمع رجيع وهو الضامر الذي قد ذهب لحمه فقيل له رجيع سفر. 33 اشروا: من شرى ضد باع، التلاد: المال القديم الموروث، الحرز: المكان الذي يحفظ فيه المال، والهلع: شدة الجزع. 34 على ضن بداركم: عدم التفريط فيها والتقصير في الدفاع عنها، الحازم: العاقل المميز ذو الحنكة

35 القراع والمقارعة: الضرب بالسيوف، قال النابغة الذبياني1: ..................... بهن فلول من قراع الكتائب 36 ثمر المال: نماه وكثره، إن يظهروا: إن يغلبوكم، وفي التنزيل {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} 2 يحتووكم: يأخذونكم جميعا من حويت الشيء بمعنى جمعته وأحرزته وفي الحديث أن امرأة قالت: إن ابني هذا كان بطني له حواء. 37 الغابر: من غبر بمعنى مكث ويريد بهم الذين يعيشون معهم ويبقون بعد الحرب، الجدع: القطع البائن في الأنف والأذن والشفة واليد ونحوها، وجدع الأنف هنا كناية عن الذل والخضوع. 40 العز: القوة، ومنه المثل من عزيز، اتضع: ذل وأصبح مهينا. 41 غير: جمع غيور، من الغيرة وهي الحمية والأنفة والمغيار: الشديد الغيرة، قال النابغة الذبياني شمس موانع كل ليلة حرة ... يخلقن ظن الفاحش المغيار 42 بيضة القوم: وبيضة الدار: وسطها ومعظمها، وفي الحديث ولا تسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم يريد

_ 1 الديوان 44 2 الكهف آية 20.

جماعتهم وأصلهم أي مجتمعهم وموضع سلطانهم، الفجيعة: المصيبة المؤلمة توجع الإنسان يعز عليه من مال أو صديق أو حميم. الأزلم الجزع: الدهر الشديد المر المتعلق به البلاء والمنايا، قال عباس بن مرداس: إني أرى لك أكلا لا يقوم به ... من الأكولة إلا الأزلم الجذع وأصل الأزلم الجذع الوعل، وقد ذكر أن الوعول والظباء لا يسقط لها سن فهي جذعان أبدا، وأصل الجذع الصغير السن من الإبل والشاة والخيل فاستعير للدهر لأنه جذع أبدا لا يتغير أي هو فتى لا يلحقه هرم. 43 الجلاء: الطرد، يجتث أصلكم: يقتلعه من جذوره.

التحليل من 29-42 ثم بعد أن سجل عليهم غفلتهم وتوانيهم عما يدبرلهم أخذ يستنفرهم ليهبوا من غفلتهم ويستعدوا للقاء العدو وبدأ يرسم لهم سبل مواجهته منها العناية بالخيل والحفاظ علهيا وإذا كان العربي بطبيعته يحب الخيل ويتفانى في خدمتها فإنه يؤكد لهم على رعايتها والقيام عليها لما لها من أثر في حياتهم، فهي عدتهم في الحياة وذخيرتهم في الشدة ولذلك كانوا يهيؤون لها أفضل الأطعمة فيخصونها بألبان الإبل في أوقات الشدة والجدب وربما لا ينال أحد من الأهل ذلك الاهتمام كما أشار إلى ذلك عمرو بن معديكرب1: خيل مربطة على أعلافها ... يقفين دون الحي بالألبان وربما كانوا يفضلونها على أبنائهم كما يوحي بهذا قول ربيعة بن مقروم الضبي2: وجردا يقربن دون العيال ... خلال البيوت يلكن الشكيما يؤكد لهم على الخيل ليدافعوا بها عن وطنهم ويحموا عرضهم، ويدعوهم أن يتحلوا بالصبر والثبات والا يجعلوا للخوف والجزع

_ 1 شعر عمرو بن معديكرب 161 جمعة وحققه مطاع الطرابيشي. 2 شرح المفضليات للتبريزي جـ683/2

سلطانا على نفوسهم، وأن يشد كل منهم على يد الآخر ليكونوا جميعا على قلب رجل واحد، لا سيما في وقت الشدة وساعة المحنة التي تدعو إلى جمع الشمل ووحدة الكلمة حتى يتمكنوا بذلك من دفع الأذى ورد البلاء، ثم يلح على ضرورة العناية بالخيل والمحافظة عليها وملازمة التدريب بها، لأنه يدرك الأهمية القصوى والغاية من وراء اشتراك الخيل والاعتماد عليها في ساحة القتال، كما يطلب إليهم أن يعدوا سيوفهم ويصقلوها، ويجددوا القسى ويشدوا أوتارها ومن تمام الاستعداد وأخذ الحذر أن يبثوا عيونهم ويبعثوا بطلائعهم من الرجال خلف خطوط العدو، يسترقون أخبارهم ويهتكون أستارهم ليقفوا على قوتهم ومدى استعدادهم وأن يكون ذلك شيئا أساسيا في مواجهتهم، يبذل هؤلاء الرقباء جهدهم في إنجاح مهمتهم ولو اقتضى ذلك أن يعودوا بخيولهم هزيلة قد نحل شعرها وذاب شحمها. وبعد أن يأخذوا بالأسباب، فإن ظهروا على عدوهم وانتصروا عليهم تحقق ما يرجون، وإن لم يكتب لهم النصر فقد قدموا لأنفسهم عذرا ونحوا عنهم اللوم. ثم أراد أن يبين لهم أن ما يشغلون به أنفسهم من تنمية المال وتثميره لا قيمة له إن فاجأهم العدو وتغلب عليهم، فنهاهم، عن التلهي بالإبل والانشغال بها بعد أن بدت نذر الحرب، وأصبح العدو منهم قاب قوسين أو أدنى، يقول لهم ليست لكم إبل أي هي ليست لكم إن حلت بكم الهزيمة وظفر بكم عدوكم

لأنهم حينئذ سوف يأخذونكم جميعا، ويصبح مالكم غنيمة في أيديهم يستوي في ذلك التالد منه والطريف، فإن لم يستجيبوا لنصحه وينصاعوا لتحذيره، فكأنما يثمرون مالهم لعدوهم، ولن ينتفع به من بقي منهم، بل يذهب بذهابهم، ثم يقسم لهم أن المال منذ الأزل تابع لأصحابه يذهب بذهابهم ويربو ويتجدد بعزهم وقوتهم. ويحتال الشاعر للنفاذ إلى قلوبهم فيسلك كل السبل ليجد تحذيره آذانا صاغية وقلوبا واعية، فيذكرهم بماضيهم التليد وعزهم الغابر ويطلب منهم أن يهبوا للحفاظ عليه فإنه يخشى على هذا المجد أن يتبدد أو يضيع فتحل عليهم لعنة الأقوام، ويصبحوا سبة في جبين الدهر. ويؤكد على ثبات هذا المجد بأكثر من مؤكد إن واللام واسمية الجملة على أن هذا الماضي لن يفيدهم بشيء ولن يغني عنهم إن ضيعوا حاضرهم وفرطوا فيما بين أيديهم، بل سيظل شاهدا على تقصيرهم وعجزهم عن اللحاق بأسلافهم الأماجد وآبائهم الأكرمين. ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا

ومرة أخرى يتسلل إلى قلوبهم من ناحية الحفاظ على العرض فيقول إنهم إن تغلبوا عليكم فسوف ينتهكون حرماتكم ويستبيحون نساءكم، ويلطخون شرفكم، فلا تقوم لكم بعد ذلك قائمة، وما قيمة الحياة إذا عجز الإنسان فيها عن أن يحمي عرضه ويصون كرامته، إنها حياة الخسة والعار الموت أهون منها. وكان الشاعر بارعا في ذلك إذ يعرف كيف يثير حميتهم ويبث فيهم روح القتال، فهم إن قصروا في الاستعداد لعدوهم أو توانوا في الدفاع عن أرضهم فسوف يفجعهم الدهر بما لا قبل لهم به، وتكون النتيجة أن يقتلع العدو جذورهم ويستأصل شأفتهم ويمزقهم شر ممزق، فليتهم يشاركونه الرأي، فيسمعون لما يقول ويرون ما رأى.. هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا

صفات القائد

جـ صفات القائد قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم يكاد سناه يقصم الضلعا مسهد النوم تعنيه أموركم ... يرم منها إلى الأعداء مضطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا

وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا مالك بن قنان أو كصاحبه ... كعمرو القنا يوم لاقى الحارثين معا إذ عابه عائب يوما فقال له ... دمث لجنبك قبل الليل مضطجعا فساوروه فألقوه أخا علل ... في الحرب لاعاجزا نكسا ولا ورعا لقد بذلت لكم نصحى بلا دخل ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا

اللغة: 44 المشط: العظام الرقيقة فوق القدم قبل الأصبع. 45 لله دركم: جملة دعائية بمعنى لله عملكم، يقال هذا لمن يمدح ويتعجب من عمله، وأصل الدر اللبن، وخصوا اللبن ونسبوه لله، لأنهم كانوا يفصدون الناقة فيشربون دمها ويفتظونها فيشربون ماء كرشها، فكان اللبن أفضل ما يحتلبون، ويقولون في الذم لا در دره أي لا كثر خيره، رحب الذراع: واسع القوة عن الشدائد، مضطلعا: يقال اضطلع بالأمر: إذا قوى عليه مأخوذ من الضلاعة وهي القوة. 46 المترف: من الترف وهي النعمة، إذا عض مكروه: إذا نزل به مكروه، خشع، خضع وذل. 47 لا يطعم النوم: لا يذوق طعمه ولا يدخل فيه، السنا، الضوء، إلا ريث يبعثه: هم: إلا بمقدار ما يدعى فيجيب، يقصم الضلعا: القصم أن ينصدع الشيء من غير أن يبين. 48 مسهد النوم: قليلة، وأصل السهاد: نقيض الرقاد، قال الأعشى1: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... ومابي من سقم ومابي معشق

_ 1 الديوان صـ118.

يروم: يبغي ويقصد، المطلع: الموضع الذي تشرف منه على ما دونه. 49 يحلب أشطر الدهر: يقال فلان حلب الدهر أشطره: أي خبر ضروبه يعني مر به كل أحواله، خيره وشره، شدته ورخاوته، تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة وأصله من أشطر الناقة ولها شطران أماميان وخلفيان. 50 استمرت مريرته: استحكم أمره وقويت عزيمته وأصل المريرة الحبل الشديد الفتل، والمرة: شدة الفتل، والشزر: فتل الحبل بطريقة خاصة تجعله أكثر أحكاما، القحم: الكبير المسن قال الراجز: إني وإن قالوا كبير قحم ... عندي حداء رجل ونهم الضرع: الصغير من كل شيء، أو هو الصغير السن الضعيف الضاوي النحيف. 51 يثمره: ينميه ويزيده، يبغي: يطلب، الرفع: جمع رفعة وهي خلاف الضعة. 52 مالك بن قنان وعمرو القنا: رجلان لهما شهره حربية في حسن القتال وقد أحسنا قيادة قومهما حتى تحقق بهما

النصر، ومهما يضرب المثل لمن يريد أن يختار القائد المحنك ومثلهما الحارثان أيضا. 53 دمث لجنبك مضطجعا: أي ابحث له عن مكان لين فتدميث المضطجع تليينه، والمراد بذلك أخذ الاهبة والاستعداد للأمر قبل وقوعه. 54 ساوروه: واثبوه ونازلوه، العلل: الشرب بعد الشرب تباعا والمراد أنه مدرب على الحروب يلقاها المرة بعد المره، النكس: الرجل الضعيف العاجز، قال كعب بن زهير: زالوا فمازال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل الورع: الجبان، أو هو الضعيف في رأيه وعقله وبدنه. 55 الدخل بالتحريل: الغش والفساد.

التحليل من 44-56 وهنا يتوجه الشاعر إلى قومه حاثا لهم على الجد في ملاقاة عدوهم وأخذ الحيطة والحذر، فيأمرهم بالقيام على أمشاط ارجلهم كناية عن اليقظة التامة، مؤكدا ذلك بالمصدر قوموا قياما، وأن يبدءوا عدوهم بالهجوم معتمدين على عنصر المفاجأة، فلا ينتظرون حتى يدهمهم في أرضهم فذلك مما يساعدهم على دحره، ثم يطلب إليهم تعيين رئيس لهم، يحسن سياسة الأمور وتوجيهها في الموقف العصيب، وأخذ يعدد الصفات التي يجب توافرها فيمن يتصدى لهذا المنصب الخطير، وهي مستمدة من قيمهم، وما تعارفوا عليه من المثل، وبدأ بالكفاءة البدنية التي تتمثل في بسطة الجسم وطول القامة والسلامة من الأمراض والعاهات التي تحد من وظيفته أو تعوقه عن أداء رسالته على الوجه الأكمل، بالإضافة إلى خبرته الطويلة بشئون الحرب والتمرس بأعمال الهجوم والدفاع، وربما كانت هذه من أهم الصفات اللازمة في من يتولى أمرهم في مثل هذه الظروف لأن الموقف يستدعي ذلك، ويلح في طلبه، فهم مقدمون على لقاء قريب مع عدوهم. وأن يكون متزنا في حياته الخاصة فلا يميل إلى الدعة، ولا يسرف في الملذات إن ابتسمت له الدنيا وأقبلت عليه الحياة، وإن أصابه مكروه لا يذل ولا يخضع بل يصبر ويتجلد فيضرب لهم بذلك القدوة والمثل

في ضبط النفس وحسن سياستها1 وهو قليل النوم، فلا ينام إلا بمقدار ما يعينه على اليقظة، وكيف ينام من وكل إليه أمر الدفاع عن قومه وائتمنوه على أرواحهم فأصوات الحرب تقرع آذانهم والخطر محدق بهم من كل ناحية. فإذا ما أخذه النوم فسرعان ما يوقظه حرصه على سلامتهم وخوفه من مداهمة عدوهم، قد خبر الحياة وعركها، فعرف خيرها وشرها، وذاق حلوها ومرها فصقلته تجاربها وصهرته أحداثها، فأحسن التصرف في كل موقف من مواقف الحياة، إذ يلبس لكل حالة لبوسها، وتتضح حسن سياسته حين يصغى لكل رأي، ويستمع إلى كل نصيحة ولوجاءته ممن هو دونه، وأحيانا لا يصل ما يسمعه إلى حد النصيحة الخالصة والمشورة الصائبة، فيدلي رأيه وينقاد له الجميع. قد استحكم أمره، وقويت شوكته، ليس بالشيخ الفاني فيخرف ويهتر أو يضعف ويجبن، ولا الصغير الغر ناقص التجربة قليل الخبرة بشئون الحياة، وإنما هو وسط بين الشباب المتهور والكهولة الفانية. لا تشغله مصلحته الخاصة عن مصالح قومه، فلا يغفل عن أمورهم بتثمير ماله ورعاية بنيه بل يضع المصلحة القومية فوق كل اعتبار

_ 1 لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ولا إذا عض مكروه به خشعا

فهذا القائد من طراز فريد، يضع همومه وراء ظهره ليتفرغ لهموم قومه ويضعها نصب عينيه. وضرب لهم المثل بقائدين تمثلت فيهما صفات القائد الحربي الماهر ليختاروا على منوالهما ويولوا على شاكلتهما، وهما مالك بن قنان وصاحبه عمرو القنا، وقد تعرض لأحدهما مغرور بنفسه قصير النظر، ورماه بكل مثلبة، يريد أن ينتقص من شأنه وينال من قدره، فرأى منه ما هاله، ووجد من شأنه عجبا، فلجأ إلى قومه يستغيث بهم على منازلته، فوجدوا منه قائدا مغوارا، تمرس بالحرب وخاضها مرارا قد تكسرت رماحهم على صخرته، فهو ليس بالضعيف الذي يعجز عن إدراك الغاية ولا الجبان الذي يخشى المواجهة ويفر عند اللقاء. وأخيرا.. يشهدهم على أنفسهم بأنه قد محضهم النصيحة فيما قدم لهم من إنذار وكان ذلك نابعا من حبه لقومه وإخلاصه لهم، فليتهم ينتفعوا بنصحه، ويعملوا بما علموا فإن خير العلم مانفعا، وهذه رسالته إلى قومه التي حرص على أن يبلغهم بها متحملا كل العواقب، وليتهم بعد ذلك يرون رأيه ويصيخون لنصحه.

حول القصيدة

حول القصيدة هذه القصيدة من أوثق الشعر بقائليه، فهي شعر وجداني، يريد به الشاعر غاية مقصودة ذلك أن الخطر جاثم أمامه والكارثة تكاد تحل بقومه والعربي بطبيعته يتفانى في الحفاظ على قبيلته والحرص عليها، ودرء الخطر عنها بكل ما يملك، ولو استدعى الأمر أن يبذل حياته، فإنه يقدمها رخيصة، ولم يجد لقيط أمامه من سبيل لإنقاذ قومه إلا أن يبعث لهم بهذه الرسالة، يحدد لهم فيها أبعاد الموقف، ويبين لهم حجم الخطر الذي يتهددهم، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، فلا يؤخذون على غرة. وهذه القصيدة تقوم على عدة محاور رئيسية هي: 1. المقدمة الغزلية. 2. إنذار قومه بعزم الفرس على غزوهم مع تصويره لقوة عدوهم. 3. استنفار قومه وتحريضهم على مواجهة الأعداء. 4. صفات القائد الناجح. وبذلك نجد أفكار القصيدة مترابطة، تشدها أواصر تربط بعضها ببعض بحيث يتحقق لها الانسجام والتسلسل.

وجهة نظر في تفسير المقدمة

وجهة نظر في تفسير المقدمة ... ففي المقدمة تحدث عن همومه وأحزانه التي أثارتها ديار عمره محبوبته ونايها عنه، كما تناول بعض مظاهر جمالها، وكيف أن خيالها يؤرقه ويمنع عنه النوم كلما زاره، وهو دائما يعتاده حين يأوي إلى فراشه، فيستبد به ويشغل باله، ويحول بينه وبين النوم فيوقعه فريسة للوحدة والسهر ووحشة الليل، وهي حين ترتحل مع قومها يزداد حزنه وتتصاعد همومه لهذا الفراق الذي يطول وربما لا يعقبه لقاء. والمقدمة على هذا النحو قد تكون تقليدية على عادة الشعراء الجاهليين الذين يصدرون قصائدهم بمثل هذه المقدمات من أجل التشويق وإثارة النفس لتتحفز للسماع وتنشط لما يلقي عليها بعد ذلك وقد تخرج عن كونها تقليدا فنيا وعرفا جرى عليه الشعراء، إلى تصوير للحالة النفسية التي يعاني منها الشاعر، بسبب ما ينتظر قومه من خطر داهم وعدو يتربص بهم الدوائر، بينما قومه في غفلة، كل تشغله مصلحته الخاصة عن المصلحة القومية العليا وهي أمن الوطن وسلامته. فعمرة التي أهاجت أشواقه فاستبد به الهم الحزن والوجع قد تكون في الواقع أشواق نفسه ورغبته الملحة وهيامه إلى اللحظة التي يتوحد فيها قومه ويعدون العدة ليداهموا عدوهم قبل أن يفاجأهم بما لا قبل لهم به فتصبح المقدمة بهذا شديدة الصلة بالموضوع، ويكون هناك نوع من الربط النفسي بينها وبين مضمون الرسالة إذ أنها تعكس

الحالة النفسية والشعورية للشاعر إزاء التجربة موضوع المعاناة، وقد تكون عمرة وغيرها ليست إلا أداة فنية شأنها شأن الأدوات الأخرى التي يستخدمها الشاعر في بناء قصيدته وتجويدها، وإنما يختار الشاعر لقصيدته هذه أو تلك ليومئ إلى موضوعها كما صرح أبو فراس الحمداني مرتين في قوله: ولقد جعلت الحب ستر مدامعي ... ولغيره عينان تنهملان وقوله: ووالله ما شببت إلا علالة ... ومن نار غير الحب قلبي يضرم أو لملاءمة عروضها ووزنها كما أشار إلى ذلك مالك بن زرعة الباهلي: وما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها ويذكر بعض الباحثين أن الشاعر في المقدمة الغزلية يدور حديثه فيها حول موضوعين أساسين: بعد المحبوبة، وما خلفه له نأيها من أشجان وأحزان يعيش لها أو عليها، أو العودة إلى الماضي إلى الساعات، بل اللحظات التي تمتع فيها بقرب المحبوبة منه، والتقائها به،

التصريح في مقدمة القصيدة وموقف النقاد منه

التصريح في مقدمة القصيدة وموقف النقاد منه ... ومواصلتها له، وكيف كانت تعجبه وتصيبه بمحاسنها ومفاتن جسدها1. ويلاحظ أن الشاعر صرع في بداية القصيدة شأن الكبار من الشعراء، وقد امتدح التصريع قدامة بن جعفر وجعله دليل تمكن الشاعر من فنه، وكلما كان الكلام مشتملا عليه كان أدخل له في باب الشعر وأخرج له عن مذهب النثر2.

_ 1 يراجع مقدمة القصيدة في الشعر الجاهلي صـ228 للدكتور حسين عطوان ط دار المعارف بمصر سنة 1970.

طريقة الشعراء في الإنتقال من غرض لآخر

طريقة الشعراء في الإنتقال من غرض لآخر ... لكنهم يستثقلون التصريع في وسط الكلمة، لأن ذلك يؤذن ببدء قصيدة جديدة، فتصبح القصيدة كأنها مكونة من عدة قصائد إلا لسبب يدعو لذلك يقول ابن رشيق: وربما صرع الشاعر في غير الابتداء إذا خرج من قصة، أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر فيأتي حينئذ بالتصريع إخبارا بذلك وتنبيها عليه إلا أنه إذا كثر في القصيدة دل على التكلف3. 2 وينتقل الشاعر بعد هذه المقدمة إلى الغرض الأصلي سالكا في ذلك مسلك شعراء عصره في طريقة التخلص والانتقال من غرض لآخر، وكانت عادتهم في ذلك أن يذكروا بعض الحروف كبل، أو بعض العبارات التي تفيد الإضراب مثل عد عن ذا، أودع هذا كقول

_ 2 نقد الشعر صـ 58 تحقيق كمال مصطفى ط الخانجي سنة 1978. 3 العمدة حـ 174/1.

حسان بن ثابت بعد أن تحدث عن الديار الدوارس وأراد ان ينتقل منها إلى الحديث عن حبيبته: فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء يقول ابن رشيق عن طريقة العرب حين كانت تتخلص من غرض لآخر: كانت العرب تقول عند فراغها من نعت الإبل وذكر القفار، وما هم بسبيله دع ذا وعد عن ذا ويأخذون فيما يريدون أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه ثم يقول: وإذا لم يكن التخلص متصلا بما قبله بل انتقل الشاعر من معنى إلى آخر من غير تعلق بينهما سمى اقتضابا وانقطاعا كأن الشاعر استهل كلاما آخر1. وفي هذا الغرض يطلب الشاعر ممن يحمل رسالته أن يبلغها إلى قومه بالجزيرة على وجه السرعة وأن يخص منهم وجهاءهم وأهل الرأي فيهم، فهؤلاء أهل الحل والعقد، وبيدهم تبرم الأمور. ولما كان لقيط يعمل في ديوان كسرى ويتصل بكثير من رجالات الفرس فقد أتاح له ذلك -بحكم موقعة- الاطلاع على كثير من أسرار الدولة ومعرفة بأمور الحرب والقيادة فإذا جاءهم الإنذار من

_ 1 العمدة حـ 239/1.

تصوير يقظة الفرس واستعدادهم

تصوير يقظة الفرس واستعدادهم ... قبله فلا مجال للشك فيه أو التردد في صحة ما يبلغهم، فقد استبان له أمرهم وتحقق له عزمهم على الغزو. وحين يسوق لهم هذا الإنذار يذكرهم بموقف عدوهم منهم، فقد أجمعوا أمرهم ووحدوا صفوفهم ويخشى أن يكون قومه على خلاف ذلك، بل أنه يتحسر لهذا ويجزع له، ثم أخذ يصور لهم يقظة الفرس واستعدادهم وإصرارهم على غزوهم وكيف أن قلوبهم تفيض حقدا وكراهية لقومه وهو يبغي من وراء ذلك أن يحمسهم ويشحذ هممهم ولا سيما حين يقفون على قوة الخصم وما يبيته لهم، وفي سبيل ذلك ذكر لهم أن ما ساقوه إليهم من الرجال لا يحصى عدده فهم كالجراد كثرة، والرجل الحريص على قومه حين يرى ما يتهددهم وهم عنه في غفلة ينفري كبده وتذهب نفسه حسرات، فيجسم لهم الخطر وهذا ما فعله شاعرنا، فهو يصور لهم جيش العدو بالجراد والنمل ويصدر البيت بالاستفهام التعجبي إذ يتعجب من موقف قومه العابث اللاهي، ويدعو عليهم دعاء المشفق عليهم الحريص على مصلحتهم: ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا أو أنه يدعو عليهم لأنه لا يرضي عن حالهم، حزين لما قد يئول إليه أمرهم من الإختلاف والشقاق:

يالهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأبرم أمر الناس فاجتمعا وحين يسير هؤلاء الخصوم إلى قومه لا يمشون على أقدامهم وإنما يطيرون شوقا إلى منازلتهم والقضاء عليهم، ولقد جمع العدو جموعه مستعدا للزحف نحوهم مزدهيا بقوته متباهيا بجبروته وعظمته، وأن هذه الحشود المجتمعة تصل إلى عدوها في أي مكان، مهما كانت مناعته، في الجبال الشم أو القلاع المحصنة. وهم جميعا مدججون بالسلاح، وقد عبر عن ذلك بكناية لطيفة فيها جمال الإيجاز ودقة التصوير في قوله: فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلعا فالصاب والسلع كناية عن العدة والسلاح، فهو بذلك يصور يقظة العدو وما أعده لهم من سلاح بأن كل فرد منهم أما أن يحمل سلاحا أو يحمل الموت الزؤام ليجرعه خصمه المهزوم، وهم يوالون التدريب ويواصلون الاستعداد لا يغفلون عن ذلك ساعة من ليل أو نهار: في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا

تصوير حال قومه وماهم عليه من الغفلة

تصوير حال قومه وماهم عليه من الغفلة ... فسن الحراب كناية عن التهيؤ والاستعداد، وترك النوم كناية عن اليقظة وشدة الحيطة والحذر. ثم ذكر لقومه ما يخيفهم من عدوهم ليحملهم على الاستعداد للقائهم، فالفرس علاوة على استعدادهم ويقظتهم حين ينظرون إليهم ويحدقون بأبصارهم تلمع عيونهم فيخرج منها شعاع كأنه نار محرقة شبت في غابة ضخمة فتصاعد منها اللهب وتطايرت قطعه فملأت الآفاق. وأخيرا يوضح لهم عزم الفرس على غزوهم وتصميمهم على إبادتهم والخلاص منهم حيث لا يشغلهم شاغل عن هدفهم، بل لا يطيب لهم طعام ولا يسيغ لهم شراب حتى يحققوا غايتهم وينجزوا ما أعتزموا عليه: لا الحرث يشغلهم بل لا يرون لهم ... من دون بيضتكم ريا ولا شبعا 3 وبعد أن يرسم صورة حية لأعدائهم ووصف ماهم عليه من الإستعداد واليقظة ناسب ان يصور حال قومه كذلك وماهم عليه من الأنشغال والغفلة ويبدو أنه كان مطلعا على أحوالهم عارفا بأخبارهم، فهم مشغولون بالحرث والزرع، وتربية الإبل وتثمير المال، ويسجل عليهم بذلك غفلتهم وحمقهم وجهلهم بما يدبر لهم حيث إنهم لا يدعون موضعا يصلح للزراعة إلا

شغلوا بزرعه وتلهوا بالعمل فيه، وحين أراد أن يبين أن ذلك عادتهم ودينهم وأنهم قائمون على ذلك لا ينفكون عنه أتى بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار في قوله تحرثون، تبغون، تلقحون، تنتجون للدلالة على أن هذه أوصاف كانت لهم في الماضي، وملازمة لهم في الحال وربما لازمتهم في المستقبل، وهذا ما يحزنه، وما حدا به أن يصف فعلهم هذا بالجهل والسفه والبعد عن السداد والرشاد، على أنهم لا ينصرفون إلى الزراعة ورعي الإبل والاستكثار من نتاجها إلا اذا كانوا آمنين, وقد صور ماهم عليه من الاستغراق في الغفلة والدعة بالثياب التي تعمهم وتحيطهم من كل جانب للإشارة إلى أنهم في ثبات عميق: وتلبسون ثياب الامن ضاحية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا فهم آمنون مشغولون بجمع المال وتثميره بينما عدوهم يفزع للإنقضاض عليهم ولعل في هذه المقابلة بين حالهم وحال العدو ما يستفزهم، وفي تصوير كسرى بالليث ما يساعد على تحقيق هذا الغرض. ومرة أخرى يصورهم بالنيام، لأنهم يمرحون ويلهون مستمتعين بحاضرهم, بينما نذر الحرب قد لاحت في الأفق وبدا وقوعها وشيكا

فماضيهم مع الفرس وماجرى بنيهما من الوقائع يدعوهم أن يكونوا دائما على أهبة الاستعداد ومن هنا كان تحسره على قومه في قوله يالهف نفسي وتوجيه اللوم لهم إلى حد أن يدعو عليهم في قوله لا أبالكم وتكاد النفس تذوب حسرات وينفطر قلبه على ما آل إليه حال قومه من الغفلة وترك الاستعداد وكأن الحرب لا تخطر لهم على بال، بينما عدوهم عينه يقظة عليهم، وهذا ما يوحي به قوله: فاشفوا غليلي برأي منكم حصد ... يضحي فؤادي لكم ريان قد نقعا ويخشى أن يشغلهم حب المال عن ملاقاة عدوهم أو يورثهم الجبن فيتحولون إلى حراس للمال ظانين أن المال يخلدهم: ولا تكونوا كمن بات مكتنعا ... إذا يقال له افرج غمة كنعا يسعى ويحسب أن المال مخلده ... إذا استفاد طريفا زاده طمعا وهكذا استطاع الشاعر أن يصور حال قومه اللاهيين الغافلين وواقعهم ووضع هذه الصورة بجانب مارسمه لعدوهم من اليقظة وإعداد العدة التهيؤ للغزو.

لقيط يرسم لقومه طريقة اللقاء وأسلوب المواجهة

لقيط يرسم لقومه طريقة اللقاء وأسلوب المواجهة ... 4 وبعد أن سجل حال كل من الفريقين أخذ يستنفر قومه، ورسم لهم طريقة اللقاء وأسلوب مواجهة الخطر، وهو هنا يبدو حكيمًا ناصحًا حين يوجه حديثه لبنى قومه يطلب منهم إعداد العدة لهذا الموقف العصيب، ويتمثل ذلك في الحفاظ على الخيل والإهتمام بها وحسن تدريبها، وقد جعلت حياتهم الحربية الخيل أثيرة لهم مفضلة على غيرها لما تقوم به من مهام في السلم والحرب يعجز عن آدائها سواها، ولذلك عدوها بمثابة أولادهم يقول ابن هذيل: فلم تزل العرب تفضل الجياد من الخيل على الأولاد وتستخدمها للزينة والطرد، على أنهم ليطوون مع شبعها ويظمأون مع ريها ويؤثرونها على أنفسهم وأهليهم عند حدوث الأزمة اللأواء1. فهذا زيد الخيل يعتز بفرسه ويفضله على سائر بنيه2: أسوِّيه بمكنفَ إذ شتونا ... وأوثره على جل العيال وهذا متمم بن نويرة يسقي جواده اللبن الخالص ويشرب هو وأهله ما تبقى منه يقول3:

_ 1 حلية الفرسان وشعار الشجعله لابن هذيل 172. 2المفضلة رقم9. 3 الضريب: اللبن الخالص، المريب: الذي يغذونه في بيوتهم.

فله ضريب الشول إلا سؤره ... والجل فهو مربب لا يخلع1 ونظرا لأهمية الخيل ودورها في المعركة أعاد الحديث عنها ثانية في قوله: صونوا جيادكم واجلوا سيوفكم ... وجددوا للقسىِّ النبل والشرعا كذلك يتمثل في التذرع بالصبر على تحمل الشدائد وترك الجزع والخور حتى يكتب لهم النصر على حد قول القائل: أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته ... ومُدمن القرع للأبواب أن يلجا وحين يحثهم على التمسك بالصبر يسوق لهم هذا الأمر في صورة جميلة إذ يصوره لهم بصورة الشعار واللباس، ليتمثلوه حقيقة ويصاحبهم في كل مواقفهم: ...................... واستشعروا الصبر لا تستشعرو الجزعا

_ 1 ابن هذيل: حلية الفرسان وشعار الشجعان: صـ 172,تحقيق الأستاذ محمد عبد الغني حسن ط. دار المعارف 1949.

كما يتمثل في اجتماع الكلمة ووحدة الصف، بأن ينزعوا من قلوبهم ما فيها من تباغض وتحاسد، ويجعلوا شعارهم حماية الذمار مهما كان الثمن: ولا يدع بعضكم بعضا لنائبة ... كما تركتم بأعلى بيشة النخعا ووسيلتهم لذلك السيوف الصقلية والقسىُّ بأوتارها، وإذكاء العيون وإرسال الرسل للاطلاع على أحوال العدو واستراق أخباره. هذه هي وسائل القوة التي يلاقون بها عدوهم ويؤملون النصر عليه. ويلاحظ أن الشاعر استخدم أسلوب الأمر وهو يدعوهم أن يأخذوا بأسباب القوة وحذرهم من كل ما يشغلهم عنها وهو تثمير المال، ويبدو أنهم كانوا مولعين بحبه والتعلق به ولذلك ساق هذا التحذير في أربعة أبيات تتقارب في معناها، وفي كل بيت يذكر القضية والدليل عليها ليحملهم على الاقتناع ويدعوهم للاستجابة، يقول في نهيهم عن الانشنغال بالإبل وتثميرها: لا تلهكم إبل ليست لكم إبل لأنهم لو استمروا على غفلتهم وأصموا آذانهم عن الاستجابة لتحذيره تصبح هذه الإبل ملكا لعدوهم الذي يفجؤهم ويستولي عليها لا محالة لا سيما وقد دقت طبول الحرب وأصبحت على الأبواب إن العدو بعظم منكم قرعا.

ويقول في نهيهم عن الانشغال بالمال لا تثمروا المال للأعداء, إنهم لا يثمرونه لأنفسهم أو لأبنائهم، وإنما يثمرونه لعدو انتصر عليهم وفتك بهم واتخذ أموالهم نهبا وغنيمة، ولا شك أن هذا يدعوهم إلى اليقظة والتفكير فيما هم عليه إنهم إن يظهروا عليكم يحتووكم والتلاد معا. وحتى من بقي منهم على قيد الحياة بعد المعركة وسلم من ذل الأسر وهوان القيد هيهات أن يستفيد بهذا المال، لأن العدو لن يمكنهم من ذلك: هيهات لا مال من زرع ولا إبل ... يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا ويؤكد على هذه الفكرة في البيت الذي يليه، فالمال تبع لأصحابه يضيع ويتبدد بذهابهم ويكثر وينمو في وجودهم، ويقسم بأن هذه حقيقة جلية وثابتة منذ زمن بعيد فهي سنة من سنن الاجتماع: والله ما انفكت الأموال مذ أبد ... لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا وبهذا وفق الشاعر في تحذيرهم من الانشغال بالمال وساق لهم على صحة ما يقول الدليل تلو الدليل والحجة عقب الحجة حتى يصل بهم إلى مرحلة الاقتناع.

وحين يستنفرهم ويحذرهم من ضياع ماضيهم المجيد ومجدهم التليد الذي يحرصون على استدامته يربط بين الماضي المتوارث وبين الخطر الذي يدهمهم، فلا يبقي أثرا لماضٍ شريف أو حاضر مشرق، والعربي لا يعتز بماضيه فحسب، وإنما يستلهمه ويعيش عليه، ولن يفيدهم هذا الماضي ولن ينفعهم الاعتزاز به، إن هم قصروا في الحفاظ عليه، وفرطوا في الدفاع عنه وجاء تعبيره عن ذلك بالاستفهام المفيد للنفي تأكيدا لهذا المعنى: ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا وقد استغل فرط حساسيتهم وشدة غيرتهم على أعراضهم وحذرهم من العدوان عليها فهم إن قصروا في الدفاع، أو توانوا في الاستعداد وأخذ الأهبة استبيحت حرماتهم وانتهكت أعراضهم، كما حذرهم من هول الفجيعة والمفاجأة باحتلال أرضهم إن استمروا على غفلتهم، ولم يعملوا بما يوجبه نصحه وتحذيره، فيستبد بهم عدوهم ويستسلمون لحكم الدهر فيهم، وما أقسى حكمه، إنه الفناء الذي لا بديل عنه: ياقوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا

هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا وكأن بلقيط يذكرنا بقول الحارث بن حلِّزة في وصف اعتزام القوم للرحيل واجتماع كلمتهم على القتال، ثم نهضتهم للسير إلى عدوهم: أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من مناد ومن مجيب ومن ... تصهال خيل خلال ذاك رغاء مع ما في هذا الشعر من جلبة الأصوات وتداخلها1. لقد كان لعمل الشاعر في ديوان كسرى أثر كبير على صياغته الفنية، فهي صياغة تخاطب العقل، وتستثير العاطفة، وتهز المشاعر. فحين يصور عدم جدوى قومه في تثمير المال بينما الحرب وشيكة الوقوع يقول: لا تلهكم إبل ليست لكم إبل ... إن العدو بعظم منكم قرعا

_ 1 تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري نجيب محمد البهدبيتي 81.

ونراه مرة أخرى يقول: لا تثمروا المال للأعداء إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا فهو يختار من المؤثرات ما يهز القلوب لهذه الغفلة، وينتخب من المعاني ما يناسب الموقف ليلهب حماسهم ويبعث فيهم الحمية واليقظة: يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا ويؤكد تحذيره لهم ويقويه بأكثر من مؤكد، بالقسم في قوله: والله ما انفكت الأموال مذ أبد وبأن واسمية الجملة إن العدو بعظم منكم قرعا وفيها كناية لطيفة عن نذر الحرب ومقدماتها. وتتجلى عاطفة الشاعر نحو قومه، عاطفة الحب والولاء في هذه النصائح المتكررة، وفي التحذير المصحوب بالدليل، لأنه يرى ما لا يرون، وفي النداء المتكرر بقوله يا قوم، مع إضافته لضمير المتكلم مما يوحي بحبه لهم وإشفاقه عليهم، نظرا لوشائج القربى وعلائق النسب الوثيقة التي تربطه بهم، وفي الاستفهام المتضمن معنى التمني في قوله: فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا يتمنى أن يروا جميعا مثل رأيه وأن تقرع كلماته أسماعهم وتجد طريقها إلى قلوبهم، ولعل في كل ذلك ما يدعوهم إلى الاستجابة لأن هذا النصح وذلك التحذير صادران من مخلص أمين يخفق قلبه بحبهم.

صفات القائد مستمدة من القيم التي تقوم عليها حياتهم

صفات القائد مستمدة من القيم التي تقوم عليها حياتهم ... 5 وأخيرا يناشدهم الالتفاف حول رجل يجمع كلمتهم ويوحد صفوفهم ويحكم تسيير دفة الأمور في هذا الموقف، ويعمد هنا إلى الأسلوب التقريري الذي يقدم فيه رأيه بشكل قاطع لا يحتمل الجدل، هذا القائد لابد أن تتجسد فيه مجموعة من المثل والقيم التي تقوم عليها حياتهم، وقد عبر عن ذلك بالتصوير الكنائي حينا، وبالتعبير المباشر أحيانا. فرحب الذراع كناية عن طول القامة وسلامة البدن وصحته، لأن المريض أو الضعيف لا يصلح للقيادة، إذ لا يقدر على خوض المعارك ومواجهة الأعداء، كذلك قصير القامة لا يملأ العين، وقد يزدريه الناس، فهم يرون أن يكون القائد حسن السمت مهيب الطلعة، مديد القامة، فذلك مما يكسبه الاحترام، والتوقير، يقول حسان بن ثابت أنهم يسودون الشيخ الكهل المهيب الطلعة المتوج بجمال الوجه وجلال المنظر: نسود منا كل أشيب بارع ... أغر تراه بالجلال مكللا

_ 1 الديوان: صـ 273.

أثر عمله في ديوان كسرى على صياغته الفنية

أثر عمله في ديوان كسرى على صياغته الفنية ... ولذلك كانت دعوتهم أن يكون لحيما ضخم الهامة جهير الصوت إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين1 وقوله: لا مترفا إن رخاء العيش ساعده..... كناية عن اعتداله واتزانه حال فقره وغناه، فقد اختط لنفسه خطة، ووضع نصب عينيه هدفا وهو الاهتمام بأمر قومه، لا يصرفه عنه غناه كما لا يؤثر فيه فقره، لأنه تحمل فيهم أمانة الريادة وشرف المسئولية، لذا فهو يضع مصلحتهم فوق كل اعتبار لا يثنيه عن ذلك ما يطرأ عليه من غنى وفقر، أو عسر ويسر وهو دائم اليقظة والاستعداد والترقب للقاء العدو، وكنى عن ذلك بقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم..... كما أنه كثير التجارب والخبرة بشئون الحياة، صاحب دربة ومران، يلبس لك حالة لبوسها ويضع في حسبانه كل احتمالات الموقف، قد اشتد عوده وقويت عزيمته وأصبح قادرا على اتخاذ القرار في الوقت المناسب: حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا ومن التعبيرات المباشرة التي استخدمها في صفة القيادة بأمر الحرب مضطلعا يريد بذلك قدرته على القتال ومعرفته بأساليب الحرب

_ 1 الكامل للمبرد: جـ 154/3.

وفنونها ومنها تعنيه أموركم فالقائد الذي يكون على مستوى المسئولية هو الذي يضع نصب عينيه أمور قومه ولا يشغل عنها بمصلحته الشخصية، وقوله لا قحما ولا ضرعا أي ليس بالشيخ الفاني ولا الصغير الذي لم يحكم أمره فلا يقوى على تصريف شئون الحياة، وقوله ليس يشغله مال يثمره.... ولا ولد يبغي له الرفعا أي تفرغه التام لأمور القيادة والزعامة فلا يشغل بمال ولا ولد، وهما أهم ما يشغل به الإنسان إذ هما زينة الحياة. ويلاحظ أن الصفات التي خلعها الشاعر على القائد جاءت خالية من التشبيهات ومن الصور البيانية الفضفاضة التي تحتاج إلى التأنق وإدامة النظر، لأن الموقف لم يكن يسمح بمزيد من التدقيق في رسم الصور الفنية، ولذلك لجأ إلى سرد هذه الصفات فكانت إلى هذه الصور التقريرية. والقصيدة في جملتها تأخذ طابع التحذير والتنبيه كما يشير إلى ذلك قوله: ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبى سرعا

وقوله: فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلعا وقوله: في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا ولعل تكرار أسلوب النداء على قومه، مع قافية العين المطلقة ما يعطي هذا الإحساس، وكأن الشاعر قد صعد على مكان عال وأشرف منه على قومه، ثم أخذ يصيح فيهم وينادي بأعلى صوته ليحذرهم مباغتة العدو. وبعد أن أفرغ الشاعر ما في نفسه وأفضى بكل ما لديه من نذر ونصائح صاغها من ذوب نفسه وفيض شعوره، وإحساسه بخطورة الموقف، فجاءت تقطر حبا وإخلاصا أحس بأنه قد أراح نفسه وأرضى ضميره، وأدى واجبه وعليهم وحدهم تقع تبعات الأمور: لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا

سر مجيء القصيدة على بحر البسيط

سر مجيء القصيدة على بحر البسيط ... تأملات في القصيدة 1 القصيدة جاءت من بحر البسيط ويجئ الشطر الواحد منه على وزن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن وهذا الوزن الشعري يتلاءم مع عاطفة الشاعر، عاطفة الوله واللهفة على قومه، والخوف من المصير المحتوم الذي ينتظرهم بالإضافة إلى أنه يتميز برقته وعذوبته، ولذلك قل في أشعار الجاهليين وكثر عند المولدين، فإذا أضفنا إلى ذلك رويها الذي يتضافر معها ويتظاهر على أحداث هذا الرنين أدركنا أن الشاعر قد أصاب حظا من التوفيق، وكأن إيقاعات الألفاظ طبول تدق بنذر الحرب وتعلن أن ساعة الخطر قد حانت على نحو ما نجد في قوله: قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا وإشباع حرف الروي وهو العين يتلاءم مع تجربته الشعورية إذ أن إطلاق الصوت وعدم انحباسه نتيجة للإشباع يوحي بأن الشاعر يصرخ صرخات متتالية ليبلغ قومه هذا النذير. 2 والقصيدة بعد ذلك نفثة شعرية ونغمة حزينة توحي بالوفاء لقومه وتنبئ بالإخلاص والمحبة، وتذكر الأخبار أن القصيدة حين وقعت في يد كسرى قطع لسانه وما كان ذلك ليثني الشاعر عن مهمته، أو يؤثر على ولائه لقومه، ذلك لأن ارتباط الشاعر بقضايا

قبيلته ومصيرها جعله يستهين بكل شيء حتى لو ضحى بعضو من أعضائه أو بحياته كلها. وربما لجأ الشاعر إلى الحيلة وحسن التدبير ليصل نذيره لقومه حين يكون مغلوبا على أمره، كما فعل رجل من تميم كان أسيرا في حي من أحياء العرب، فعزم ذلك الحي على غزو قومه، فكتب إليهم معجما يدعوهم أن يتركوا أرض الدهناء، حتى يفوتوا على عدوهم فرصته ويأمرهم أن يعتصموا بالصمان، يقول: خلوا عن الناقة الحمراء واقتعدوا ... العود الذي في جنابي ظهره وقع2 إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا3 فقد أراد الشاعر بالناقة الحمراء أرض الدهناء وهي لبنى تميم وشبهها بالناقة لسهولة ركوبها والسير فيها، وباقتعاد العود ركوبه، وأراد به بلد الصمان، فحين وطئ وكثرت فيه الأقدام صوره بصورة البعير المسن الذي وضح في ظهره آثار الدبر. فهو يناشدهم أن يعتصموا بأرض الصمان، ويمتنعوا بها فالسير فيها عسير لوعورتها، لذا يشق على خيلهم أن تطأها، أما الدهناء فهي ممكنة، ثم صور القوم الذين يغيرون عليهم بالذئاب لغدرهم وحرصهم على أن يصادفوا منهم غرة، فالأرض إذا أخصبت واخضرَّت وكثر العشب فيها شبع الناس، فساعدهم ذلك على الإغارة، فعداوة هؤلاء بكر بن وائل، فما كان من قومه إلا أن أطاعوا دعوته ووعوا تحذيره وانتقلوا إلى حيث يطيب لهم المقام. فالشاعر ما كان لينسى قومه أو يضن عليهم بالنصح والتحذير حتى وهو فاقد حريته يرسف في أغلاله ويعاني مرارة الأسر وذل القيد.

_ 1 معاني الشعر للإشنانداني: جـ 58/57. 2 العود: المسن من الإبل، الوقع: آثار الدبر في ظهر البعير. 3 الذئاب: القوم الذين يغيرون عليهم شبههم بالذئاب لختلهم وحرصهم على الغارة، اخضرت براثنها: هذا مثل يريد أن الأرض قد أخصبت وكثر العشب فيها، فأمكن، الغزو، فالأقدام مخضرة من الكلأ فجعل الأقدام براثن، والناس كلهم بكر، أراد أن بكر بن ربيعة أشد القبائل عداوة لتميم وأكثر مغازاة.

نماذج من القوة المادية والمعنوية في القصيدة

نماذج من القوة المادية والمعنوية في القصيدة ... 3 وقد كان لقيط عالما بفنون الحرب خبيرا بشئون القتال، وما يتطلبه من إعداد العدة وتدريب الجنود، والخيل عندهم من أفضل وسائل القتال وأهمها ولذلك يلح عليها لقيط حين يستنفر قومه لعدوهم، ومن أدوات القتال التي أشار إليها السيوف والرماح والقسي واجلوا سيوفكم وجددوا للقسي النبل والشرعا ومنها إرسال الرسل وبعث العيون للتجسس ومعرفة أخبار العدو أذكوا العيون وراء السرح. وإذا كانت هذه نماذج من ضروب القوة المادية، فإنه لم يهمل القوة المعنوية التي تتمثل في التحلي بالصبر والتجمل به إلى حد أن

يتخذوه شعارا ولباسا لا يزايلهم، ولا شك أن الصبر على أهوال القتال وقوة التحمل عاملان مهمان في تحقيق الغلبة والنصر. وتتمثل هذه القوة أيضا -كما أشار إليها- في جمع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الخلاف وكل ذلك مما يساعد على تحقيق الهدف ولا يدع بعضكم بعضا لنائبه. وقد ذكر لقيط من صفات القدياة والزعامة مالم يقع عليه شاعر قلبه ولا بعده وإذا كان بعض الشعراء قد تناول طرفا من هذه الصفات وذكرها في شعره إلا أنه لم يذكرها بهذا الاستقصاء وذاك العمق والشمول. فممن أشار إلى صفات القيادة وذكر طرفا منها، طرفة بن العبد حين يقول: أجدر الناس برأس صلدم ... حازم الأمر, شجاعٌ في الوغم كاملٌ, يحمل آلام الفتى ... نبهٌ, سيد ساداتٍ, خضم فقد ذكر منها قوة الإرادة والشجاعة عند مواجهة الخطوب، ورجاحة العقل وحصافة الرأي. كما أشار حسان بن ثابت إلى بعض صفات القيادة في قوله:

وأنا لقوم ما نسوِّد غادرا ... ولا ناكلا عند الحمالة زملا ولا مانعا للمال فيها ينوبه ... ولا عاجزا في الحرب جبسا مغفلا ومرة أخرى يشير إلى أن المروءة من لوازم السيادة، وإن كان صاحبها قليل المال: نسود ذا المال القليل إذا بدت ... مروءته فينا وإن كان معدما كذلك لم يلحق بلقيط الأفوه الأودي حين تناول جانب القيادة، وبين حاجة المجتمع إليها وقد عرض هذا الأمر بأسلوب جذاب لجأ فيه إلى التشخيص والتجسيد، يقول1: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن, بلغوا الأمر الذي كادوا

_ 1 الطرائف الأدبية: صـ10.

تلفى الأمور بأهل الرشد ما صلحت ... فإن تولوا فبالأشرار تنقاد إذا تولوا سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا أمارة الغي أن تلقى الجميع لدى ... الإبرام للأمر والأذناب أكتاد فغير لقيط من الشعراء أشار إلى بعض صفات القيادة ولكن لم يلم بأطرافها كما فعل شاعرنا مما يدل على تأثره بالبيئة الفارسية وبنظام الفرس في التنظيم والقيادة:

القصيدة ذات موضع واحد, والمقدمة ليست بعيدة عن غرضها الأصلي

القصيدة ذات موضع واحد, والمقدمة ليست بعيدة عن غرضها الأصلي ... 4 والقصيدة ذات موضوع واحد مترابط يسلم بعض أجزائها لبعض، فليس استطراد أو خروج على الغرض الأصلي إلى غيره من الأغراض الأخرى شأن غالبية الشعر الجاهلي، فالشاعر ينذر قومه بالخطر الذي يتهددهم ويخوفهم من غزو كسرى، ثم يصور حالهم وما هم عليه من الغفلة ليستحثهم على مواجهة العدو، وفي النهاية يتحدث عن صفة القيادة والقائد الذي يعتمدون عليه. على أن مقدمة القصيدة لم تكن بعيدة عن غرضها الأصلي، وإنما ضمنها الشاعر-كما تقدم- مشاعر الحزن الذي يجلل معظم أبيات القصيدة فحزنه لفراق حبيبته شبيه بالحزن الذي يستبد به من جراء غفلة قومه عن الخطر فالمقدمة إذن تتصل برحم ماسة بالغرض العام الذي خلصت له القصيدة.

سر الاقتصاد في الصور الخيالية

سر الاقتصاد في الصور الخيالية ... فالشاعر أحسن اختيار أفكاره ومعانيه، ووفق في التعبير عنها تعبيرا يشهد له بالبراعة والتفوق، وأنه أوتي حظا من دقة الحس ورهافة الشعور وصدق التجربة. على أن الشاعر لم يلجأ إلى الإفراط في الصور الخيالية وإنما نجده يقتصد في استعمالها لأنه مشغول بهول الموقف وخطورته، عن التألق في الصياغة والبراعة في الأداء. ويرى بعض الباحثين أن عملية الإبداع في رسم الصور الفنية تكاد تكون مسألة ثانوية في هذه القصيدة، أو الرسالة التي أراد أن يبعث بها إلى قومه، ثم إن عمله في ديوان كسرى أثر على صياغته الشعرية، فهي صياغة تخاطب العقل وتستثير العاطفة.1 ومع ذلك لم تخل القصيدة من الصور الفطرية المتنوعة التي تجئ عفو الخاطر ونلمح فيها أثر الطبع، مما يكشف عن حس شاعر وذوق فنان وتمكن من العبارة واقتدار على التصوير والتمثيل، وكانت الصور التي أتى بها قوية التأثير، وسر قوتها أنه يستمدها من البيئة المألوفة له ولمن حوله، وأنه يراعي فيها الدقة والإحكام حتى تؤدي المعنى كما يحس به، وكما يريد أن ينقله إلى إحساس السامعين،

_ 1 يراجع الشعر الجاهلي د. محمد عويس: صـ 101.

كتصوير حال قومه في انشغالهم بالزراعة وإعجابهم بها بينما هم غافلون عما ينتظرهم بحال السفينة التي تسير في مجراها حينا، ثم تجف عنها المياه، ويعترض طريقها من العقبات ما يحول بينها وبين إتمام مسيرتها، والتصوير يوحي بتغير حالهم وتبدلها، وهذا ما يدعوهم إلى اليقظة والانتباه. وتصوير الأعداء بالنمل للإيحاء بكثرة عدد الفرس وأنه يفوق الحصر، كما يوحي هذا التشبيه بدأبهم وحرصهم على تحقيق غايتهم وهو النصر لأن النمل لا يعرف الكسل، ولا يتطرق إليه اليأس مهما صادفه من عقبات حتى يصل إلى تحقيق هدفه، ولابد أن تكون هذه المعاني ماثلة في ذهن الشاعر وهو يعقد المقارنة بين عدوهم وبين طوائف النمل المختلفة. ويلقانا في الجزء من القصيدة -الخاص بإنذار قومه- مجموعة من الكنايات الفطرية التي وقعت موقعها، والتي انتخبها انتخابا لتعبر عما يجيش بنفسه من تصوير قوة العدو ومدى استعداده، وهي قوله: بين ملتقط شوكا وآخر يجني الصاب والسلعا فالتقاطهم للشوك وجنيهم الصاب والسلع كناية عن إعدادهم العدة وحملهم جميعا للسلاح، وفيه إيحاء بتنوع هذا السلاح وكثرته وقوله: يسنون الحراب كناية عن التهيؤ التام والاستعداد النشط، وقرب ساعة اللقاء، وقوله لا يهجعون كناية عن الاستعداد ومواصلة التدريب وتمام الحيطة والحذر.

وأخيرا يرسم للعدو صورة مخيفة يستحث بها قومه أن يتدبروا أمرهم ويأخذوا حذرهم لأنهم أمام عدو يفوق قدرتهم، وقد نجح الشاعر في أن يرسم مجموعة من الصور حين صور بريق عيونهم ولمعانها بالنار المشتعلة في غاب وذلك مما يضاعف من ضراوتها ويزيد في اتقادها واتساع رقعتها ومن أجل ذلك يشتد ضوؤها ويعلو لهبها، فيتطاير منه الشرر وقطع اللهب، فتقضي على ما حولها وتأكل الأخضر واليابس وهي موحية بمدى ما يتملكم من الغيظ وما تنطوي عليه صدورهم من الحقد والغضب. وهذه الصور تتآزر جميعا وتتكاتف لغاية واحدة هي إيقاظ قومه وتذكيرهم بقوة عدوهم ليأخذوا حذرهم قبل أن يفجأهم فيصبحوا أمام الأمر الواقع. ولا يؤخذ على الشاعر أنه بالغ في قوة خصمه، مما قد يؤثر على روحهم المعنوية، لأن الشاعر أراد أن يجسد لهم قوة العدو، ويتفنن في إبرازها بصور مختلفة على هذا التخويف وذاك التحذير يجد آذانا صاغية وقلوبا واعية، تقدر الموقف وتعي حجم الخطر، وتتصرف في ضوء هذا الوعي ولهذا عد من شعراء المصنفات، فهو لم يرد تمجيد الخصم أو التهويل من شأنه، وإنما أراد أن يضعهم على درجة من اليقظة والاستعداد بحيث يأمنون معها غدرعدوهم، وحين يتحدث عن غفلة قومه يلجأ إلى التصوير فيجسد الأمن ويشخصه، ويخلع ثوبه عليهم للدلالة على ما هم عليهم من الغفلة وعدم المبالاة فهم قد

تردوا برداء الأمن وتزيوا بثيابه، وتسعفه اللغة في الإلحاح على هذه الفكرة وتقويتها حيث يقارن بين موقف قومه وموقف عدوهم، لا تفزعون وهذا الليث قد فزعا. وفي قوله قد أظلكم هول له ظلم خيال رائع مبدع حيث صور الهول الذي يحلقهم من عدوهم إن توانوا في مواجهته بالسحابة الكثيفة المظلمة التي تملأ الافق فتظلهم وتحيط بهم، والتعبير بقوله أظلكم يوحي بقرب خطر العدو، وأحيانا يصورهم بالنيام، مالي أراكم نياما في بلهنية للدلالة على الأمن والطمأنينة اللذين يغشيانهم، لأن الخائف والمهموم لا تكتحل عينه بالنوم. وحين يستنفر قومه يرسم لهم خطة اللقاء وطريق المواجهة يلجأ إلى التصوير أيضا في قوله: استشعروا الصبر فهو يريد أن يحث قومه على الصبر ليجعلوه طبيعة لهم في جل أمورهم ولا سيما عند اللقاء، فيصور الصبر بشعار يلي الجسد ويأمرهم أن يتزيوا به وتأتي الصورة المقابلة لتؤكد المعنى لا تستشعروا الجزعا. وفي قوله: ماذا يرد عليكم عز أولكم تصوير فالشاعر حين رأى غفلتهم وتوانيهم عن مواجهة عدوهم، تصور أنهم يعتمدون على مجدهم وماضيهم الزاهر فصور هذا الإرث العتيد بشخص يعجز عن أن يرد عليهم ما سلب منهم، إن هم قصروا في حمايته وتوانوا في الدفاع عنه.

وفي أثناء عرضه لصفات القيادة ترد بعض الصور الموحية، كقوله يعبر عن صلابة القائد وصموده أمام كوارث الدهر ونوازله: ولا إذا عض مكروه به خشعا حيث صور المكروه بالسبع الضاري، وفيه إيحاء بقسوة الحوادث وشدتها. وقوله: يحلب الدهر أشطره، حيث شبه الدهر بحيوان يمري ويحلب، وإذا كان الحالب يستنفد كل ما في الضرع من لبن، فإن القائد قد وعي كل ما في الدهر من خير وشر وعسر ويسر، وفي هذا إيحاء بعظم دربته وخبرته العريضة بشئون الحياة، وغير ذلك من الصور الأخرى التي وردت في ثنايا القصيدة: والتصوير في جملته قريب المنال، لا يحتاج إلى قدح الذهن وإعمال الفكر وذلك راجع إلى المشاهد الحسية التي انتزع منها الشاعر صوره على الرغم من تلوين التصوير وتنوع مسالكه. وتأتي الأصباغ البديعية بصورة محدودة لأن الشاعر وهو مهموم ومشغول بأمر قومه ما كان يعنيه أن يوشي شعره بهذا الضرب من البديع، وإن كنا نجد هذا اللون بين الحين والحين كالجناس في قوله: يكون متبعا طورا ومتبعا والطباق في قوله: لا يهجعون ... وهجعا, الصبر والجزعا, أموركم شتى وأحكم أمر الناس, أراهم ... لا أبينهم, ومراعاة النظير في قوله: الهم والأحزان والوجعا, ولا عاجز نكسا ولا ورعا.

لقد كان لقيط متأثرا بموضوعه مخلصا لقومه صادقا في تحذيرهم وإثارتهم وقد استطاع أن ينسج أحاسيسه ويصوغ مشاعره، ويعكس انفعالاته، مما كان له أثر في قوة العاطفة التي كان لها أثرها في إظهار التجربة الشعرية حية وصادقة كما كان لها تأثيرها في إظهار الخيال المبدع والمؤثر في النفوس. والنص بعد ذلك يلقي ظلالا كاشفة على علاقة العرب بالفرس في فترة من الفترات التي ساءت فيها العلاقة بينهما، وقد أعد الفرس عدتهم للقضاء على إياد، وفيه إشارت واضحة للدلالة على قوة الفرس واستعدادهم العسكري، واهتمام إياد بالزرع وتربية الأبل، وأن ذلك كان شغلهم الشاغل. وتعد هذه القصيدة أطول ما قيل من شعر لقيط الذي لم يصلنا منه غير هذه القصيدة، وبعض الأبيات الدالية التي صدرنا بها هذا التحليل ولا يعقل أن يكون هذا كل ما قاله الشاعر لأنها تنبئ عن ملكة فذة وعبقرية نادرة، وقدرة على الصياغة الفنية التي تتيح له القول في كل فن، ومن هنا كنا نجزم بأن شعره قد ضاع ولم يبق منه إلا هذا القدر اليسير.

تأثر بعينية لقيط

تأثر بعينية لقيط ... وقد تأثر الشعراء بديدنية لقيط، فمنهم من تجد له بيتا فيه نفس لقيط، ومنهم من تجد له قصيدة تسمع من أولها صوته من التحريض والإغراء، والإثارة والتهيج، فهذا كعب بن زهير يقول:1 لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا ويقول حسان بن ثابت2: لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع وقال كثير غزة يمدح عبد العزيز بن مروان: هو المرء لا يبدي أسىً من مصيبة ... ولا فرحا يوما إذا النفس سرتِ والأصل في هذا قول لقيط: لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا

_ 1 شرح ديوان كعب بن زهير: جـ 2. 2 ديوان حسان بن ثابت: صـ 229.

طرفة بن العبد في رؤيته للحياة والموت من خلال معلقته

طرفة بن العبد في رؤيته للحياة والموت من خلال معلقته لمحة عن الشاعر ... طرفة بن العبد: طرفة هو عمرو بن العبد بن سفيان يمتد نسبه إلى بكر بن وائل ليصله إلى ربيعة فهو واحد من شعراء ربيعة1, وطرفة بالتحريك لقبه وهي واحدة الطرفاء ضرب من الشجر، والعرب تسمى أبناءها بما غلظ وخشن من الشجر تفاؤلا، نحو طلحة وسمرة وقتادة كما تسمى بأسماء الحيوان وخاصة ما يستنكره منها كأسد وحنظلة وحرب وعلقمة لأنها تشعر بالشدة والقوة لدى سامعيها، بينما يسمون عبيدهم بما يستحب كرباح وأيمن، وذلك لأنها سمت أبناءها لأعدائها وسمت عبيدها لأنفسها2 وطرفة من أسرة شاعرة نبغ فيها أكثر من شاعر فخاله المتلمس الضبعي وأخته الخرنق شاعرة ومن أسرته الحارث بن حلزة صاحب المعلقة والمرقش الأصغر والمرقش الأكبر، فالأصغر عم طرفة، والأكبر عم الأصغر فورث بذلك الموهبة الفنية كما يرث الناس المال أو الشرف. وطرفة صاحب شخصية واضحة في شعره وصاحب مذهب واضح في حياته، فهو داعية من دعاة اللهو واللذة، جمع إلى فتوة الشباب وطيشه حكمة الشيوخ وتفكيرهم. كان أبوه شابا قويا ظاهر الفتوة والجرأة، مات وطرفة طفل صغير وقد ترك غير طرفة ابنا آخر اسمه معبد ورد ذكره في معلقة طرفة:

_ 1 الشعر والشعراء: جـ191/1 تحقيق أحمد شاكر ط دار التراث العربي 1977. 2 الاشتقاق لابن دريد صـ4.

إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد وأم طرفة تسمى وردة ورد ذكرها في شعره يقول: ما تنظرون بحق وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب وكان طرفة وقومه يعيشون في البحرين وكانت خاضعة للحيرة، والحيرة يومئذ ملتقى الأفكار والديانات والمذاهب المختلفة، والنصرانية منتشرة فيها، فلا بد أن يكون لكل هذه العوامل أثر في عقلية أبنائها وتفكيرهم في الحياة وفي تفكير وعقلية شاعرنا بوجه خاص، فوجئ طرفة وهو صغير بوفاة والده فكان لذلك أثره البالغ في نفسه فكلفه أعمامه وقاموا بواجب تربيته وبعثت بيئته وحياته ووراثته مواهب الشاعرية في نفسه فنظم الشعر وهو صغير، كما كان ليتمه أثره الواضح فشب متوقد الذهن مضطرم الشعور حاد العاطفة سريع التأثر والغضب، يفزع إلى هجاء من يشعر منه بتقصير نحوه كذلك كان لحسبه ومجد قومه أثره في اعتزازه بنفسه وتمجيده لشخصيته فيذهب إلى حوانيت الخمر يشربها مع نداماه وأصدقاء لهوه، فأخذ أهله يلومونه وينصحونه ويعاتبونه حتى ضاق بهم وسار متنقلا بين القائل.

فمضى يطوف في أرض الجزيرة لا يستقر في مكان، حيث ذهب إلى اليمن، ثم رحل إلى النجاشي في الحبشة، ولما أفزعته الغربة وأشتد حنينه إلى بلده, عاد إلى الوطن الذي هجره فأمده أخوه معبد من ماله، ولكنه أتلفه في لذاته ولهوه. أخيرا قصد عمرو بن هند ملك الحيرة أملا في اصطلاح حاله، وفد عليه مع خاله المتلمس فأحسن وفادتهما لكنه ما لبث أن تطاول على عمرو بن هند وأخيه قابوس فهجاهما حيث قال: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تدور لعمرك أن قابوس بن عمرو ... ليخلط ملكه نوك كثير وقد نقل أهاجي طرفة ابن عمه عبد عمرو، فأثار ذلك حفيظة الملك عليه، وحمله رسالة إلى عامله بالبحرين يأمره بقتل طرفة، ولم يدر طرفة ما بداخل الصحيفة حتى وصل إلى عامل البحرين فدفع إليه كتاب عمرو، وتقول بعض الراويات أنه حين قرأ الكتاب وعرف أن طرفة مقتول، قال له اختر لنفسك ميتة، قال طرفه إن كان ولا بد فاسقني الخمر وافصدني، ففعل به ذلك فما زال ينزف دمه حتى مات، وكان سنه إذ ذاك خمسا وعشرين سنة أوستا وعشرين على اختلاف الروايات، إذ تقول أخته الخرنق تبكيه:

عددنا له ستًّا وعشرين حجةً ... فلما توفاها استوى سيدا ضخما وليت شعري ماذا كنا ننتظر من هذا الشاعر الشاب لو قدر له أن يعيش طويلا، وقد تفتحت شاعريته هذا التفتح المبكر في تلك السن المبكرة التي عاجله الموت فيها؟ وقد عده ابن سلام في قمة الطبقة الرابعة طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدى بن زيد، وقال عن طرفة: أما طرفة فأشعر الناس واحدة، وهي قوله1: لخولة أطلالٌ ببرقة ثمهد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وشهد له بذلك ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء قيل للبيد ابن ربيعة: من أشهر العرب؟ فقال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: ابن العشرين، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل يعني بذلك نفسه.

_ 1 طبقات فحول الشعراء: السفر الأول 138.

الفخر الجاهلي

عرض النص الفخر الجاهلي: إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصي في الحوانيت تصطد وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد متى تأتني أصبحك كأسا رويَّةً ... وإن كنت عنها ذا غني فاغن وازدد شرح المفردات: 2 حلال: مبالغة من الحلول وهو النزول بالمكان، وفي رواية بمحلال التلاع: جمع تلعة وهي مجاري المياه من رؤس الجبال إلى

الأودية، يسترفد: يطلب الرفد وهو العطاء، أرفد: أعطيهم ولا أبخل عليهم. 3 حلقة القوم: حيث يجتمعون ويتحلقون، الحوانيت: جمع حانوت وهو بيت الخمار، تصطد: تعثر على وتقتنصني. 4 المصمَّد: الذي يعتمد عليه الناس لشرفه أي يقصدونه في حوائجهم. 5 أصبحك: أسقك الصبوح وهو شراب الغداة، والغبوق شراب العشى، والقيل شراب نصف النهار، والكأس، مؤنثة: قال ابن الأعرابي: ولا تسمى الكأس كأسا إلا وفيها الشراب، فإن لم يكن فيها شراب سميت قدحا ... وكأسا روية: مشبعة فهن تروي وتشبع الري فيمن يشربها، غانيا: مستغنيا. نداماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح علينا بين برد ومجسد إذا نحن قلنا: أسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروقة لم تشدد إذا رجعت في صوتها خلت صوتها ... تجاوب أظآر على ربع ردي

شرح المفردات 6- الندامى والندام: الأصحاب واحدها ندمان، ويطلق على المشارب أي المشارك في الشراب، كما يطلق على المصاحب والمحادث وأن لم يكونا على شراب. ومنه ندمان جذيمة اللذان اتياه بإبن أخته، فسالاه يكونا في سمره ثم وجد عليهما فقتلهما، وكنى بالبيض عن الإشراف، والتشبيه بالنجوم في الشهرة وعلو المنزلة أي أنهم أعلام. والقينة: الجاراية مغنية كانت أو غير مغنية قال زهير بن أبي سلميى: رد القيان جمال الحي فانصرفوا ... إلى الظهيرة أمر بينهم لبك والعرب تقول لكل من يصنع بيديه قين، ومنه قيل للحداد قين. المجسد: الثوب المصبوغ بالزعفران، أو هو الثوب الذي يلي الجسد ويسمى بالشعار. 7- اسمعينا: غنينا، انبرت: أعترضت، على رسلها: على هيئتها أي ترنمت في رفق، مطروفة: ساكنة الطرف فاترته، وتكسر الطرف من محاسن المرأة ولذلك قيل: ضعيفة كر الطرف تحسب انها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم

وقيل معنى مطروفة: كأنها أصابت عينها طرفة من فتورها، قال المخبل السعدي: وإذا ألم خيال طرفت ... عيني فماء شئونها سجم او أن المطروفة التي طرفت وتطمح بعينها إلى الرجال، لم تشدد: لم ترفع صوتها، أولم تعنف فيه. 8- الترجيع: ترديد الصوت وتغريده، الاظآر: جمع ظئر وهي التي ترضع ولد غيرها من النساء والمقصود هنا الناقة الحانية على ولدها الذي فقدته قبل فطامه. الربع من الإبل: أول نتائج الناقة في زمن الربيع، ردى: هالك. ومازال تشر أبي الخمور ولذئي ... ويبعي وانفاقي طريفي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وافردت افراد البعير المعبد رأيت بني غبرا لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد

شرح المفردات 9تشراب: تفعال بفتح التاء من الشراب وهو يفيد الكثرة، والشرب للقلة والكثرة، الطريف والطارف، ما استحدثه الرجل واكتسبه، والمتلد والتالد والتليد: ما ورثه عن آبائه، يقال: مال تالد وطريف، ومجد تالد وطريف، وحب تالد وطريف، قال جميل بن معمر: وقد كان حبيكم طريفا وتالدا ... وما الحب إلا طارف وتليد 10 تحامتني: تركتني وتخلت عني، عشيرة الرجل: أهل بيته ومن يخالطونهم, البعير المعبد: المهنوء الذي طلي بالقار، وأبعد عن رفاقه حتى لا تمتد العدوى منه إلى غيره. 11 الغبراء: صفة للأرض، وبنو الغبراء: الفقراء والأضياف، فهم لشدة فقرهم ينسبون للأرض، الطراف: قبة من أدم يتخذها المياسير والأغنياء الممدد: الذي مد بالأطئاب على نحو يوحي بالعظمة والفخامة.

التحليل استهل الشاعر هذه الأبيات مفاخرا بنخوته على عادة الجاهليين فهو يقول: إذا تساءل القوم عن فتى يدفع عنهم الملمات ويكفيهم أمورهم ظننت أني أنا المعني بذلك وكنت عند حسن ظنهم، فأتقدم لأحمل عنهم ما نابهم وأدفع عنهم ما ألم بهم دون تقاعس أوكسل، وهذا هو مقياس الخلق الكريم في تلك البيئة العربية الصحيحة التي يهب فيها العربي نفسه لقومه، ويوقف حياته على قبيلته، وفي هذا تصوير لمكانة الشاعر ومنزلته بينهم، ثم أخذ في الحديث عن صفاته النفسية فيقول: إنني لست ممن يحاول التستر والتخفي عن أعين الناس فأنزل في الأماكن التي لا يراني فيها أحد، مخافة حلول الأضياف أو غزو الأعداء ولكن مكاني معروف لكل من يستمد منى العون أو يطلب المساعدة. وطرفة رجل يعرف مقامه من الجد ومكانه من المتعة واللهو، وإن طلبته في مجتمع القوم وناديتهم وجدته حيث إجالة الرأي والمشورة، وإن طلبته في الحوانيت وجدته هناك يشرب ويسقي غيره فهو يجمع بين الجد واللهو والسكر والإفاقة، فإذا حدث وجئته في الحانوت سقاك كأسا من كئوس الصباح ترويك وتنقع غلتك وتذهب ظمأك وإن كنت متسغنينا عنها بما عندك من الشراب فازدد بها غنى.

وربما لا تجد غناء في هذه الشطرة: وإن كنت عنها غانيا فاغن وازدد إلا إذا قلنا أن الشاعر تسيطر عليه روح المرح والدعابة في قوله هذا، فكأنه يقول لمن يقدم له كأس الصبوح وهو في غنى عنه، اشرب وازدد غنى. فزيادة الخير خيران وفي ذكره الاقتناص والاصطياد ما يؤكد سريان هذه الروح. ثم يؤكد على مكانته في قومه شأن الشعراء الجاهلين الذين يتعزون بأنسابهم، فإذا اجتمع الناس للمباهاة والمفاخرة وذكر معاني الشرف والمجد وجدتني أنتسب إلى أرفع بيوتهم مجدا وأعلاقهم شرفا فأنا مقصود كل طالب وملاذ كل لاجئ. وإن أردت أن تقف على حقيقة معدنه وصفاء جوهره فسل عن خلطائه وجلسائه, فنداماه من ذوي المكانة وأولى الوجاهة، فهم ذائعو الشهرة كالنجوم في تألقها وعلو مكانتها، تروح عليهم مغنية تتبختر في مشيتها تجيئهم وعليها البرد والمجسد أو تجيئهم مرة عليها البرد وأخرى عليها المجسد. فإذا طلبنا منها الغناء لم تمتنع علينا، بل انبرت وأخذت في الغناء في هدوء وتؤدة وهي تمشي على هيئتها وطبيعتها غير مسرعة، كما أنها تكون فاترة الطرف مريضة اللحظ، أو أنها تغني على سجيتها وكأنها لا تغني لسكون أعضائها.

وإذا رجعت في صوتها خيل إليك أنك تسمع أصوات نوق أخذها الحنين على ولدها الرضيع الذي هلك، فصوتها في رقته يشبه أصوات النوادب والنوائح على صبي هالك. ومما يثير الانتباه في هذا البيت: إذا رجعت في صوتها خلت صوتها ... تجاوب أظآر على ربع ردي إن الشاعر وهو يصور مجلس لهوه وساعة أنسه هو ورفاقه بهذه الجارية التي لا تمتنع عليهم تتهادى وتتبختر في مشيتها وتشجيهم بصوتها الندي وعينها الناعسة يصور صوتها بصوت مجموعة من النوق تبكي وتنوح على ولدها الهالك. ويمكن تفسير هذه الظاهرة، بأن غريزة حب الحياة والإقبال عليها والتعلق بها تولد في الإنسان الإحساس بالخوف من الموت الذي يؤدي إلى الحرمان من هذه الحياة بكل ما فيها من متع وبهرج وزينة، وظهور مثل هذا الإحساس يدل على تعلق الإنسان بالحياة، وأسفه على أنه سيحرم منها يوما ما، فلا عجب أن يشعر وهو في أحلى ساعات عمره بإحساس المرارة والألم، لأنه يخشى لحظة الحرمان.1 وقد صدق إحساس طرفة، فقد اختطفه الموت وانتهت حياته وهو في ميعة الصبا وعنفوان الشباب.

_ 1 يراجع: الشعر الجاهلي د. محمد أبو الأنوار صـ164.

بعدئذٍ ينصرف الشاعر إلى نفسه، فيتحدث عن متعه ولهوه، وما جره ذلك عليه، فقد أسرف في معاقرة الخمر واحتساء كؤوسها فجعلها لذته الكبرى، وأخذ يشرب شربًا مبالغًا فيه، مبددًا في سبيل ذلك أمواله كلها، ما ورثه عن آبائه وأجداده وما استحدثه من مال ومتاع حتى ازور عنه أبناء عشيرته فقاطعوه ونبذوه وأفردوه كما يفرد البعير المصاب ويبعد عن رفاقه حتى لا تتسرب عدواه إليهم وفي هذا دليل على أن العكوف على اللهو ودوام مصاحبة الدَّنِّ، وإنفاق المال وراء المتع واللذات، لم يكن عرفًا عامًا، ولم يكن هو الخلق الذي يحرص عليه المجتمع الجاهلي، لأنه كان يقدر خطر هذه المفاسد وخصوصًا إذا أدت إلى إتلاف المال، فقد نبذ المجتمع طرفة، وأعلن عن غضبته عليه حيال هذا السلوك المشين. وعلى كلٍ إذا أنكره قومه وتجهمت له عشيرته فإن غيرهم من الفقراء والأضياف يبشون له ويهشون لإحسانه إليهم وسخائه عليهم، كذلك يقدره الأغنياء لأنه كان يجالسهم وينادمهم والشاعر بذلك يصر على موقفه من اللذة ولا يبالي بتجنب قومه واعتزالهم إياه وإنما يؤكد ذاته ويستمرئ سلوكه.

اللذات الثلاث

اللذات الثلاث ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغى ... وأن أحضر اللذات هل أنت مخلدي 12 اللائم واللاحي والزاجر كلها بمعنى واحد، الوغى: الصوت والجلبة، وكنى به عن الحرب، وقد روي الزاجري بدل اللائمي وروي أيضا ألا أيها اللاحي أن أحضر الوغى والنصب على إضمار أن في الروايتين وروي بالرفع بعد حذف أن، ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 1 أو يعرب أحضر جملة حالية، وأن أشهد معطوف على المعنى. فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي ولولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزيد

_ 1 الزمر: آية 64.

وكري إذا نادى المضاف محنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد 13 تسطيع: محذوف التاء للتخفيف، أبادرها: أعاجلها والضمير عائد إلى اللذات، أي دعني أحصل على اللذات بإنفاق مالي، أو عائد إلى المنية، أي دعني أعاجل منيتي بإنفاق مالي قبل أن يدركني الفناء. 14 ولولا ثلاث: يقصد ثلاث خصال، الجد: الحق أو النفس وقيل معناه، وأبيك، أحفل: أبالي، العود: جمع عائد وهو من يزور في المرض عند الموت. 15 سبقي العاذلات: أي شربي الخمر باكرا قبل أن ينتبهن فيلمنني، الكميت من الخمر: التي تضرب إلى السواد، وأصل الوصف للخيل، تعل بالماء: يصب عليهما وتمزج به، تزبد: يكون لها زبد لأنها عتيقة، أي يظهر لها رغوة على وجهها. 16 كري: الكر خلاف الفر: المضاف: الخائف الذي أضافته الهموم والأحزان، المحنب: الفرس الذي في يديه احدوداب وليس بالاعوجاج الشديد، وهو من أوصاف الشدة في الخيل. السيد: الذئاب، واحد الأسياد، ويجمع السيد على سادة وسيائد، الغضا: الشجر الملتف الكثيف، وذئابه أخبث الذئاب، نبهته: هيجته وزجرته، المتورد: الذي يطلب أن يرد الماء.

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد كأن البرين والدماليج علقت ... على عشر أو خروع لم يخصد كريم يروِّي نفسه في حياته ... مخافة شرب في الممات مصرد فذرني أروِّي هامتي في حياتها ... ستعلم إن متنا غدا أينا الصدى أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد 22 17 تقصير اليوم: جعله قصيرا، الدجن: الندى والمطر، أو الغميم يكسو آفاق السماء وإن لم يكن مطر، البهكنة: المرأة الحسنة الخلق الخفيفة الروح، وفي هذا دليل على الثراء والنعمة، المعمد: المرفوع بالعمد، ويوم اللهو قصير.

قال الشاعر: ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفه الذباب وقال الآخر: ويوم كظل الريح قصَّر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر 18 البرين: الخلاخيل، واحدتها برة وهي للرجل كالأسورة في اليد، والدماليج: جمع دملوج وهي الأساور التي تلبس في اليد، العشر: شجر أملس مستوٍ ضعيف العود، والخروع: الناعم الرخو الذي لم يثن بل ظل مستويا. 19 يروي من الري الذي هو ضد العطش، المصرد: القليل أو المقطوع. 20 يشير بهذا البيت إلى خرافة قديمة عند العرب مفادها أن طائرا اسمه الصدى أو الهامة يخرج من رأس القتيل ولا يزال يصيح: اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره ولهذا سمى صدى من الصدى بمعنى العطش: وقد أشار ذو الأصبع العدواني إلى هذه الخرافة في قوله:

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربْك حتى تقول الهامة اسقوني التحليل وينتقل الشاعر من أسلوب العرض والقصص، ويتصدى للائمية آخذا في الحديث عن العناصر فلسفته التي تحكم سلوكه وتوجه تصرفاته، ويخاطب من يلومه أو يزجره على شهوده المعارك خوفا على حياته وحرصا على سلامته، وعلى عكوفة على اللذات وما يتبعها من تبديد الأموال خوفا عليه من الفقر، فيسفهه وينعي عليه غباوته وعمايته عن مصيرهم والموت المحتم الذي سوف يلم بهم، ذاهبا بكل ما جمعوه من مال أو متاع، ثم يقول لهذا اللائم هل تستطيع أن تمنحني الخلود في هذه الحياة وترد عني منيتي أن وافتني، والإستفهام إنكاري فإن كنت لا تستطيع أن تخلدني، فدع لومي وتعنيفي، حتى أؤكد ذاتي في شهود المعارك فأكون جديرا بالوجود، وأغتنم من اللذات ما أستطيع قبل أن يدركني الفناء. فهو في هذا البيت: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي

وفي الذي قبله يحدد فلسفته في الحياة، وينهج نهجا خاصا، مبنيا على فهم معين لطبيعة الحياة والموت. وواضح أن الشاعر لا يعترف بحياة غير هذه الحياة، وليس بعد هذه الحياة إلا الفناء والعدم، فهو في إقباله على اللذة صاحب فلسفة، وليس صاحب غواية وصاحب فهم وليس عبدا للذة، على أية حال ففي هذين البيتين مفتاح شخصية هذا الشاعر.1 وإذا كان المجتمع الجاهلي يقدر المروءة والشجاعة ويحث على الثبات عند اللقاء وخوض الحروب، فإن اللوم الموجه إلى طرفة ليس لمجرد شهوده الوغي وأنما موجه إلى القدر الزائد على الشجاعة، وهو التهور ومجاوزة الحد المعقول بحيث تصبح الشجاعة معه طيشا وحمقا. ويتابع الحديث عن فلسفته فلسفة اللذة التي تشوقه وتروقه، والتي لولا تعلقه بها وحبه لها لما حفل بالحياة، ولما جزع من الموت، فهو يعتقد أنه ليس ثمة ما يستحق اللهفة والاهتمام سوى اللذة، وقد قصر حياته على لذات ثلاث: إحداها لذة الخمر وحرصه على احتسائها قبل انتباه العاذلات اللائمات، يشربها في كمال لذة وتمام مسرة دون أن يعكر عليه أحد، وإذا مزجت هذ الخمرة بالماء كان لها فوران يكون منه الزبد.

_ 1 يراجع: الشعر الجاهلي د/ محمد أبو الأنوار: صـ 167.

وقريب من هذا قول أبي نواس: فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف وثاني أمانيه: ركوبه الفرس القوية ليدفع بها عمن نابته نائبة أو حلت به نازلة، وإن هذا الفرس ليشبه في سرعته وخفة حركته وفرط نشاطه ذئبا يسكن الغضا، وهو أخبث أنواع الذئاب، وقد زجرته ونفرته كما أن به حاجة لورود الماء فقد طال عطشة واشتد شوقه إليه، وذلك يكون أسرع لعدوه. فالفرس يشبه الذئب بهذه القيود، وهو بهذا يبرز روح الفروسية التي كانت تسيطر عليه، ومازال ركوب الخيل مظهرا من مظاهر العزة والسيادة، وقد لا تعد لها لذة أخرى، قال المتنبي: أعز مكان في الدنى سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب وثالث هذه اللذات عبثه ولهوه بالجارية التامة الخلق الخفيفة الروح داخل خيمة صنعت من الجلد ومدت بالأطنان في يوم جلله الغيم والمطر الذي يعجب من رآه، وإنها لمتعة تجعل اليوم قصيرا، ويوم اللهو قصير شأن أوقات المسرة والمتعة، كما قال الشاعر:

ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر ثم أخذ يصف هذه الجارية وصفا يدل على ذوقهم في الحسن الأنثوي، فهي مديدة القامة شامخة البنيان، رخوة الأطراف، قد زينت بالأساور في يديها، والخلاخل في رجليها، وكأن هذه الحلي علقت على شجر العشر والخروع، فهو يشبه عظام الجارية وذراعيها بالعشر وهو الشجر الأملس المستوي، والخروع الناعم الرخو الذي لم يثن بل ظل مستويا، واشترط طرفه لإتمام وجه الشبه أن يكون هذا الشجر غير مخضد لأن تخضيده يقلل من روعتها وليونتها. يقول الدكتور طه حسين في التعليق على هذا البيت: حتى إذا بلغنا البيت الأخير من هذه الأبيات لم نستطع أن نمنع أنفسنا من ابتسامة فيها غير قليل من التسامح والتبسيط، فإن مثله الأعلى في جمال المرأة لا يخلو مما يثير الابتسام، وما رأيك في صاحبته هذه التي تطول وتعظم تحت الخباء حتى كأنها شجرة علق عليها الحلى تعليقا؟ قال صاحبي قل إن ههذه الصورة لا تعجبك أنت، ولكن ثق بأن بين الناس من يعجبون بها أشد الإعجاب، ولا يكرهون أن يكون مثلهم الأعلى في جمال المرأة ارتفاع القامة وضخامة الجسم.1

_ 1 حديث الأربعاء: جـ70/1 ط العاشرة.

ومازال الشاعر يناقش من يلومه على الشراب ويجادله ويسوق إليه الحجة على صحة ما ذهب إليه فيقول: إنني كريم أروي نفسي من الخمرة في حياتي وستعلم يا من تلحاني في الشراب إذا اختطفنا الموت غدا أينا الظمآن وأينا الريان. وكأنه يقارن بين رجلين: أحدهما شرب من الحياة وعب منها حتى ارتوى، والآخر أخذ نفسه بالظمأ والحرمان واحتمال الصدى، أما الأول فربما وجد أثر الري بعد موته على خلاف صاحبه الذي حرم نفسه أثناء الحياة، وكأنه ضم إلى حرمانه حال الحياة ظمأه بعد الممات. ويوالي سرد حججه على صحة فلسفته التي تسير في اتجاهين: أولهما: تحقيق النفع للناس بإغاثة الملهوف ونجدة الصريخ وشهوده الوقائع والحروب، فهو يبذل للناس ماله ونفسه، وثانيهما: الاستجابة لملذات الحياة ومسراتها بالإقبال على متعه الشخصية فيقول: إنني أرى قبر الحريص الممسك لماله وقبر من ينفق ماله في لذاته وهواه متساويين في أن كلا منهما يوضع عليه كومة من التراب وقطع من الأحجار العراض، لا يفرق بينهما أن أحدهما يضم رجلا قد حرص على المال فأبقاه, وأن الآخر قد طابت نفسه عن ماله فأتلفه، فالذين يرثون مال البخيل كالذين يرثون إعدام الكريم، لا يستطيعنون أن يغيروا ما بين القبرين من الشبه ولا أن يمحوا ما بينهما من المساواة. فالبخيل إذًا لا يستفيد شيئا ببخله، كما لا يخسر المسرف شيئا بإسرافه بل على العكس فقد أمتع نفسه وأشبع حاجته.

حتمية الموت

حتمية الموت أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لك الطول المرخى وثنياه باليد متى ما يشأ يوما يقده لحتفه ... ومن يك في حبل المنية ينقد أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى ... بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد

اللغة: 23 يعتام: يختار، وعقيلة كل شيء خيرته وأنفسه عند أهله، وأصلها في المرأة الكريمة النفيسة، يصطفي: يختار صفوته، الفاحش: القبيح السيء الخلق، والمتشدد والشديد: البخيل، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1. 24 العيش: العمر والحياة، الكنز: المال المدفون، وجعل العمر كالكنز لأن المال عديل الروح في المحبة والمحافظة والإشفاق, ينفد: يفني ويذهب. 25 لعمرك: العمر بمعنى الحياة فاللام لام القسم، وعمرك مبتدأ خبره محذوف دائما، تقديره قسمي، الطول: حبل طويل تربط به الدابة ويطول لها في الكلأ حتى ترعاه، ثنياه: طرفاه. 26 يقده: يجره، الحتف: الهلاك، ينقد، يجر. 27 أعداد النفوس: أي على قدر عددها.

_ 1 العاديات الآية 8.

التحليل: وعلى الإنسان أن يغتنم فرصة الحياة قبل أن يهجم عليه الموت الذي لا يبقي على شيء إذ يختار كرام الناس وشرفاءهم الذين ندخرهم للشدائد ونفع الآخرين كما يختار أكرم مال للبخيل وأنفسه، ولذلك كان من الخير له أن ينفقه في ملذاته بدل أن يضيع بين يديه ويذهب سدى، فلا معنى للحرص على الحياة وعلى المال، لأنه حرص على ما هو ضائع لا محالة. ويوالي الحديث عن فلسفته التي اقتنع بها فيقول: إن العيش والحياة في نقص مستمر لأن الأيام والليالي تأخذ منها، وما تأخذ منه الأيام والليالي لا بد أن يفنى فعاجل لذاتك وبادر أمانيك. على أن الإنسان ليس مطلق الحرية في هذه الحياة، وإنما هو مربوط بالموت لا يفلت منه ولا يخطئه، بل يمهله إلى حين ثم ينقض عليه، فالموت في تركه الفتى وإمهاله إياه شبيه بالحبل الذي تربط به قوائم الدابة ثم تترك في الكلأ ترعاه، فإن شئت تركت لها الحبل وإن شئت أمسكتها عن الكلأ بشدة، ولعل في هذا ما يوحي بتسلط الموت على الإنسان كتسلط صاحب الدابة عليها، وإذا كان الأجل آتيا لا محالة، فخير للإنسان أن يحقق ذاته في حياته فيصيب من اللذائذ ما يشتهي

ويحصل من المتع على ما يبتغيه، وقد عبر الشاعر عن طول العمر بإخطاء الموت، كما قال زهير:1 رأيت المنايا خبط عشواء, من تصب ... تمته ومن تخطئْ يعمَّرْ فيهرم وتعبير لبيد في ذلك خير من تعبير زهير وطرفة حين قال: حين يتحدث عن البقرة الوحشية التي يشبه بها ناقته:2 صادفن منها غرة فأصبنها ... إن المنايا لا تطيش سهامها وإذا كان الإنسان مربوطا بحبل المنية يهجم عليه الموت متى شاء حين ينقضي الأجل، فإن الموت موفور وفرة تساوي عدد النفوس وكثرتها، إذ لكل نفس موتة لا تنفك عنها وهي آتية لا محالة عاجلا أو آجلا.

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 29. 2 ديوان لبيد: صـ222, دار صادر، بيروت.

فلسفة طرفة

حول الأبيات المختارة: والأبيات التي اخترناها تمثل فلسفة طرفة التي اعتنقها وآمن بها ودلل عليها، هذه الفلسفة مؤداها أن الموت هو نهاية الحياة، ولا شيء بعده، فعلى الإنسان أن يمتِّع نفسه ويشبع غرائزه وحاجاته بإنفاق ماله في ملذاته، وإلا فإنه يعذب نفسه عن غير طائل: وهو لا يكتفي بإعلان هذه الفلسفة، وإنما يدعو إلى اعتناقها، ويناقش لائِمِيه ويجادلهم، ويسوق لهم الدليل تلو الدليل على صحة هذه الفلسفة وصوابها، فهي فلسفة واعية قائمة على المنطق والإقناع والبرهان. إنها فلسفة اللذة التي يحقق بها ذاته ويثبت وجوده، لأن الموت آت لا محالة، فهو الحقيقة التي روعته، والانتصار عليه إنما يكون بإنفاق ماله. فلعل في تحقيق اللذة انتصار على الموت، ذلك أنه إذا كان الموت -كما تصوره الجاهلي- هو نهاية الوجود الإنساني، فإن الموقف الوجودي للشاعر الجاهلي إنما يبرز في تحديه للموت والفناء بالغوص عن لذائذها، لا حبا في اللذة بوصفها لذة، ولكن حبا في الحياة وتعلقًا بها، وكراهية في الفناء الذي تتوقف به ممارسة هذه اللذات:1

_ 1 موسوعة الشعر العربي، اختارها وشرحها مطاع صفدي وإيليا حاوي: جـ 386/3.

يقول: كريم يروِّي نفسه في حياته ... مخافة شرب في الممات مصرد أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد تري جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد فهو يروِّي منه أيام حياته بالخمر ليموت ريانا, ويموت عاذله عطشانا، ولا فرق في النهاية بين البخيل المقتر على نفسه والغوي الضال الذي يُهلِك ماله في لهوه وملذاته، فقبراهما متشابهان، لأنهما ليسا سوى كومتين من التراب عليهما حجارة عليهما عراض صلاب، ولذلك فهو يقتنص لذة الحياة، خوفا من ضياعها، ويأسا من دوامها. إنها فلسفة فريدة في هذا العصر، فالبيئة الجاهلية في بساطتها المادية والعقلية والثقافية ما كانت لتوحي لبنيها بالنظر العميق إلى الأشياء، أو التفكير الفلسفي في الحياة، أو الربط بين الأشياء برباط المنطق، وإنما هي نظرات مجردة بسيطة يعبرون عنها في يسر وسهولة.

تعليل عدم ظهور مثل هذا الإتجاه في بقية شعرة

تعليل عدم ظهور مثل هذا الإتجاه في بقية شعرة ... وإذا كانت هناك نظرات تناثرت وآراء ظهرت لدى عدد من الشعراء تشابه آراء طرفة، فإن هذا الفتى الشاعر استطاع أن يرتفع بوجهة نظره إلى الموقف الشمولي، ويعطيها كل أبعادها، من خلال لغة شعرية حماسية، لا تؤذي الصياغة الفنية، ولا تبطل أهمية الفكرة ودقتها الموضوعية.1 وإذا كنا لم نر لطرفة مثل هذا الإتجاه الفلسفي في موطن آخر من معلقته، ولا في بقية شعره، فإنه من الجائز أن يكون قد قال هذه الأفكار الناضجة في لحظة استشراق نادرة لم تتكرر مثل ما يحدث لكثير من المبدعين، أو أن له غيرها من الآراء الأخرى التي تلخص موقفه من الحياة والوجود، ولكنه ضاع مثل ما ضاع غير من تراث الشعر الجاهلي. أما طرفة فمن العجيب حقا أن يكون صاحب هذه الفلسفة، تلك الفلسفة التي رأيناها فيما بعد في عصور الحضارة العلمية والعقلية والتي عرفناها عند الخيام وغيره من شعراء الشرق والغرب، يقول الدكتور طه حسين في التعليق على الأبيات التي تتضمن فلسفته: هذه الفلسفة التي يعرضها طرفة في قصيدته، ويعتمد عليها في تفسير الحياة التي يحياها، والتي لم تكن حياة جدٍّ مظلم، ولا حياة لهو مفسد للنفس، وإنما كانت مزاجا معتدلا من الجدِّ واللهو ومن العمل والفراغ, ومادام الشاعر لم يعرف أن بعد الموت شيئاً، فهو

_ 1 موسوعة الشعر العربي: جـ 386/3.

مضطر إلى أن يرى الموت آخر الحياة وغايتها، ولذلك فهو يسعى إلى الموت، يسعى إليه حين يغيث المستغيث، وحين يأخذ بحقه من لذات الحياة فيشرب الخمر مصطبحا حينا ومغتبقا حينا آخر، وهو يسعى إلى الموت حين ينفق من آيامه ما ينفق، مستمتعا بلذات الحب يسيرة ساذجة كما كان يتصورها ومن أجل ذلك، جعل لحياته أغراضها ثلاثة، لولاها لما حفل بالحياة، ولا اهتم بها، وهي شرب الخمر ونجدة المستغيث والإستمتاع بالنساء، ولو أنه عاش في بيئة معقدة غير بيئته, لتغير مثله الأعلى في الحياة، ولابتغي لنفسه لذات غير هذه اللذات1.

_ 1 حيث الأربعاء: جـ 81/1.

هل طرفة في لذته يمثل العصر الجاهلي؟

هل طرفة في لذته يمثل العصر الجاهلي؟ ... وهل كان طرفة في لذاته هذه يمثل العصر الجاهلي بحيث نعتبره صورة لما كان سائدا آنذاك؟ أم أنه انفرد بذلك من دون عصره؟ الحق أن إحدى هذه اللذات تعد مظهرا من مظاهر الحياة الجاهلية السائدة، فقد كانت نجدة الصريخ ومساعدة الضعيف مما افتخر به العرب جميعا في جاهليتهم, وعد من مكارم الأخلاق, ولا زال ذلك حتى اليوم، أما اللذتان أو الأمنيتان الأخريان، فلم تكونا عامتين بل اختص بها بعض الشباب الماجن من الخلعاء والمياسير، كامرئ القيس والمهلهل وغيرهما، ولم تكن إحداهن خلقا عاما تعتز به القبائل، بدليل أن طرفة يصرح بأن قبيلته ضاقت بهذا السلوك، ولم ترض عنه وأفردته إفراد البعير المعبد. على أن سلوك طرفة لم يكن سلوكا عفويا ساذجا، وليس صورة للعبث والهذيان وإنما هي دليل على حقيقة نفسية لم تسفر أو تتضح في شعره، فالقضية بالنسبة له قضية خلود، أي قضية الحياة والموت، ما جدوى عمرنا إذا كان الموت سيدركه، وما جدوى السعادة والمال، بل ما جدوى الحياة بما فيها إذا كان الموت سيحيلنا عنها، ولذلك أقبل على لذاته ينتهبها كما لجأ إلى الخمر يخدِّر بها وعيه لتخفف عن كاهله وطأه الوعي والإدراك.

ملاءة الشاعر بين الشكل والمضمون

ملاءة الشاعر بين الشكل والمضمون ... على أن ألفاظ الشاعر في هذا الجزء من المعلقة جاءت في معظمها بعيدة عن التجهم والعسر, تشفُّ وترق حين يعمد إلى التقرير الفكري، بينما يعروها الجفاف وتبدو عليها ملامح الغرابة حين يعمد إلى الوصف أو يعرض لمشاهد حسية، ويبلغ من ذلك أقصاه حين يصف الناقة مثلا يشتد اتصاله بالحياة البدوية، أما حين يتحدث عن نفسه ومذهبه، أو يبعث لواعج حزنه، أو يصور حبه ولذته، فإنه يطالعنا بصور مشرقة تفيض سلاسة وعذوبة، كما في هذا الجزء من القصيدة. فهو يلائم بين الشعور والتعبير, أو بين الشكل والمضمون، ونحن

نحس بهذه المقامات كلها مجتمعة في معلقته التي اخترنا منها هذه الأبيات. وألفاظ القصيدة لا تجري على سنن واحد، بل تتكون حسب الإيقاعات النفسية التي يعانيها الشاعر، فبينما تراه يستخدم ضمير المتكلم إذ به يلجأ إلى ضمير المخاطب، ثم ينزع من ذلك إلى صيغة الغائب، مثال ذلك: قوله: ولست بحلال التلاع فقد استهل بضمير المتكلم، واقتفى ذلك في الأبيات اللاحقة، ثم خطف فجأة إلى الخطاب بقوله متى تأتني أصبحك كأسا روية وان كنت عنها غانيا فأغن وازدد, ثم يلجأ إلى الغائب في قوله كريم يروي نفسه في حياته. والشاعر في تردده بين هذه الصيغ كان يحاور ذاته، فهو المتكلم وهو المخاطب ولعل في هذا الحوار تعبيرا عن الأزمة التي كان يعانيها الشاعر، فهو يتنافس ويرد على ذاته إذ يقول: وما زال تشرابي الخمور ... وسبقي العاذلات.... وكرى إذا نادى المضاف ... ويقع على صيغة المخاطب في قوله: أيهذا اللائمي أحضر الوغي ... فإن كنت لا تسطيع فذرني أبادرها.. ستعلم إن متنا غدا ... وغير ذلك من عبارات تمثل النزعة الحوارية التي تقوم عليها القصيدة.

تلون الأساليب ودلالتها على نفسية الشاعر

تلون الأساليب ودلالتها على نفسية الشاعر ... ومن جهة أخرى تجد أساليب الشاعر يغلب عليها الشروط ويطغى على معظمها: فإن تبغني -وإن تقتنصني في الحوانيت- وإن يلتق الحي الجميع -متى تأتني أصبحك كأسا -إذا نحن قلنا: أسمعينا انبرت لنا- إذا رجعت في صوتها، وما إلى ذلك من التعابير الشرطية. ويصاحب أداة الشرط صيغ الأمر في بعض الأبيات، وذلك راجع إلى طبيعة الموضوع الجدلي مثل: فاغن وازدد، أسمعينا، فدعني، فذرني أروي هامتي. ولا شك أن هذه الصيغ وتلك الأساليب المتعددة تدل على نفسية قلقة, كما تعبر عن الأحوال النفسية التي تطرأ عليه وهو يعاني وطأة المصير الذي ينتظره، بالإضافة إلى أنها تساعد على إثارة انتباه السامع والقارئ وتمهد السبيل لإقناعه، ولم يكن طرفة مفتنا في صوره الخيالية وتشبيهاته المجتلبة، ومع ذلك كان صادقا فيها, وأهم ما كان يعتمد عليه في فنه التشبيه الذي كان المرتكز الأول للعمل الفني، شأنه في ذلك شأن الشعراء الجاهليين، إذ يعتمد عليه الشاعر في عرض أفكاره، وفي صياغتها ويستمد مادته من البيئة المحيطة به. فحين يتحدث عن أصحابه يشبههم بالنجوم نداماي بيض كالنجوم, فهم كالنجوم في تألق وجوههم للدلالة على حريتهم

وبياض بشرتهم، أو للدلالة على سمو مكانتهم وعلو منزلتهم، ويقع على التشبيه حين يمثل عزلته وانخلاعه عن قبيلته وأفردت إفراد البعير المعبد, وهذا التشبيه بالإضافة إلى واقعيته فإنه يدل على التعاطف مع البيئة واتخاذها مصدرا يستمد منه تشبيهاته لتمثيل ما يذهب إليه، ويلجأ إلى التشبيه كأداة للتفصيل كقوله: وكرى إذا نادى المضاف محنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد وكقوله: أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد كما نجده يلجأ إلى الكناية للتعبير عن أفكاره كقوله: ولست بحلال التلاع كناية عن بروزه وظهوره للضيف, ومن يلتمس قضاء حاجته، كما كنى بالبيت المصمد عن شرف الأصل وبنى غبراء عن الفقراء والصعاليك، وبالطراف الممدد عن الغنى والثراء. ومن الإجمال الذي يعقبه التفصيل قوله: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي ثم يفصل بعد ذلك في قوله: فمنهن سبقى العاذلات, وكري إذا نادى المضاف, وتقصير يوم الدجن.

أثر البيئة المادية في شعرة

أثر البيئة المادية في شعرة ... كذلك تظهر آثار البيئة المادية في كثير من تعبيراته كقوله: ولست بحلال التلاع، تجاوب أظآر على ربع ردى، أفردت إفراد البعير المعبد، الطراف الممدد، عشر أو خروع، كالطول المرخي وثنياه باليد، كسيد الغضا -إلى غير ذلك من التعبيرات التي تخفي وراءها تجارب نفسيه وشعورية عبر عنها من خلال هذه المشاهد.

زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان

زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان لمحة عن الشاعر ... الشاعر: هو زهير بن ربيعة الملقب بأبي سلمى من قبيلة مزينة من مضر، ولكنه أقام عند بني غطفان لأنه تزوج منهم، ويقال: إنه غادر قومه لخلاف وقع بينه وبينهم فتركهم ونزل بأرض غطفان بالحاجر من نجد، فهو مزني النسب غطفاني النشأة، وقد صرح ابنه كعب في بعض شعره بهذا النسب فقال ردًا على مزرد بن ضرار وقد عَزَاهُ إلى مزينة1: هم الأصل مني حيث كنتُ, وإنني ... من المزنيين المصفِّين بالكرم. ويبدو أن والده لم يعمّر طويلًا، فقد مات وتزوجت امرأته أوس بن حجر الشاعر التميمي المشهور، وكان يقوم على تربيته والعناية به خاله بشامة بن الغدير, كما قام بأمر أخواته: سلمى والخنساء. وزهير يحيط به الشعر من جميع أطرافه، فكان أبوه شاعرًا، وخاله بشامة بن الغدير شاعر، وزوج أمه أوس بن حجر شاعر أيضًا, وأختاه سلمى والخنساء شاعرتان, وكان ابناه بجير وكعب شاعرين، كما كان حفيده عقبة بن كعب المعروف بالمضرب شاعرًا، وكان ابن حفيده العوام بن المضرب شاعرًا أيضًا فهؤلاء خمسة شعراء من بيت واحد، ممالم يجتمع لشاعر آخر مثله، يقول ابن قتيبة: إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير, وفي الإسلام ما اتصل في ولد جرير2.

_ 1 الشعر والشعراء: جـ143/1 تحقيق أحمد محمد شاكر, ط الثالثة سنة 1977. 2 مقدمة شرح ديوان زهير: صـ 8، والشعراء جـ 143/1.

هذه النشأة أعانته على نظم الشعر وصقلت مواهبه، وجلت له من أسرار العبارة مالم يتح لشاعر آخر كالنابغة مثلا الذي لم يرث الشعر وراثة، ولم ينشأ عليه تنشئة. وكان زهير راوية لأوس بن حجر، ولأوس مذهب في التصوير يمتاز بالدقة والجمال، وملازمة زهير له تجعله يفيد منه ويترسم خطاه، كما أن حفظه لأشعاره وترديده لها يزوده بذخيرة فنية يمتدح منها، شعر أم لم يشعر، كما كان يتأدب بأدب خاله بشامة بن الغدير، وهو من سادات غطفان، وكانت تعظمه وتستشيره، ولا شك أن هذا الجوار الطيب وملازمته له على هذا النحو، ومشاهدته الناس يتوافدون على حكمته ورأيه يجعله معجبًا بهذا الخال، مفيدًا من هؤلاء الوفود ومن هذا الحكيم أيضا. وشهد زهير حرب داحس والغبراء التي شبت بين قبيلتي عبس وذبيان، ودار معظم شعره حولها، يصور أهوالها، ويصف الدمار والهلاك الذي تخلفه وراءها، ويدعو إلى السلام في وقت كان فيه عرب الجاهلية لا يعرفون غير العزو والقتال، وقد أسهمت عشيرة أخواله في تلك الحروب، وصليت نارها وخصَّ زهير بمدائحه هرم بن سنان والحارث بن عوف المريين اللذين احتملا ديات القتلى، ويقال إن الدية بلغت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاث سنين.1 وإذا كان زهير يمدح هرمًا ويمجده، ويشيد به في شعره، فقد كان هرم يغدق عليه وبذلك أعطى كل منهما صاحبه خير ما عنده، وقد تبدد ما أعطاه هرم لزهير، أما ما أعطاه زهير لهرم من

_ 1 الأغاني: جـ98/10.

حلل البيان فقد خلده على مرور الأيام فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال يا أمير المؤمنين: إنا كنا نعطيه فنجزل: فقال عمر رضي الله عنه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.1 واشتهر زهير بأنه من الذين يعنون بشعرهم، ويعيدون النظر فيه، حتى لينظر في القصيدة سنة كاملة، ولهذا سميت قصائده بالحوليات، وقلّ من يفعل ذلك من الشعراء، ولا شك أن هذا يشير إلى طبع من الطباع الفنية التي كانوا يتمتعون بها، وهو طبع التأني والرويَّة. وإذا كان امرؤ القيس يمثِّل نموذج الإنسان المقبل على الحياة بنهم وشهوة جارحة, وحرية مطلقة في مواقعة الشر والتغني به، وعنترة نموذج الإنسان المعتصم بالبطولة، يؤدي بها غايته في الحياة، ويتخطى نطاق القدرة الإنسانية وشرط المصير البشري، وإذا كان طرفة تصرعه الحيرة، وتكتظ في نفسه الشهوة المنطوية على البعث والشعور الحاد بالزوال والعدم, فإن زهيرًا يؤدي من دونهم جميعا نموذج الإنسان القانع بقسمة المصير، وحكمة الإدارة الكلية للحياة، فلا تصرفه شهواته عن جادة العقل، كما أن الحيرة لا تعروه وتقضُّ مضجعه أمام دورة الزمن وحتمية القدر والموت كي يفرغ للخمرة

_ 1 الشعر والشعراء: حـ 150/1.

التي تغشى الأشياء، وتطمس واقعها، شأن طرفة، فعالمه الفني هو انعكاس هادئ لعالمه الواقعي1. فهو من طراز آخر غير طراز امرئ القيس وغيره، إذ لم يكن مفتونا بالنساء وتصوير مغامراته القصصية معهن. وهو ميال بطبعه إلى الوعظ والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير والصلاح، وله بعض الأبيات التي تدل على إيمانه بالله واليوم الآخر، وما فيه من حساب وثواب وعقاب كقوله: فلا تكتمنَّ الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخرْ فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم فكأنه بذلك أحد المتحنفين الذين عاشوا قبل الإسلام وبرزت بعض مبادئهم في شعرهم. ويظهر أنه عمَّر طويلًا، إذ يقال إنه أدرك الاسلام وله مائة سنة، ولم يسلم2, والصحيح أنه مات قبل الإسلام بمدة قليلة، والذي أدرك الاسلام حقا ابناه: بجير وكعب، وقد أسلما وحسن إسلامهما3.

_ 1 موسوعة الشعر العربي: جـ 309/2. 2 الأغاني: جـ 291/10. 3 العصر الجاهلي: صـ 305.

النسيب

أالنسيب: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهنًا خلقا وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنه غلقا قامت تبدَّى بذي ضال لتحزنني ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا بجيد مغزلة أدماء خاذلة ... من الظباء تراعى شادنًا خرقا كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من طيب الراح لما يعد أن عتقا شج السقاة على ناجودها شبمًا ... من ماء لينة لا طرقًا ولا رنقا

_ 1 طالع في قصيدة مختارات ابن الشجري 180، والقصيدة في ديوانه صـ33, ط الهيئة العامة للكتاب, وقد اختار منها ابن الشجري هذا القدر من الأبيات.

اللغة: الخليط: هنا المخالط لهم في الدار، يكون واحدًا وجمعًا، أجدَّ البين: اجتهد فيه، يقال: جد فلان في أمره وأجد، إذا أخذ فيه بجد واجتهاد, وجد وأجد بمعنى واحد، ومن الجد خلاف اللعب، والبين: الفراق قال عنترة بن شداد1: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع انفرق: انقطع وتفرق، العلاقة: الحب اللازم للقلب، ما علقا: مبالغة في الحب، عبر عنه بلفظة ما الدالة على الإبهام لبيان أن هذا الحب وتلك العلاقة لا يدرك كنهها، وهذا نظير قوله تعالى {الْحَاقَّةُ , مَا الْحَاقَّةُ} 2 , وقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُم} 3 2 الرهن: المحبوس ضمانًا للمال، وأراد به هنا قلبه، لا فكاك له: بضم الفاء وكسرها أي لا خلاص له فلا يقدر أن يفكه، وغلق الرهن: صار ملكًا للمرتهن، وكان أهل الجاهلية إذا ارتهن الرجل منهم رهنًا إلى أجل، فأتى الأجل، ولم يفك الرهن صاحبه استوجبه المرتهن عوضًا عن حقه، ولم يكن لصاحبه أن يفكه أبدًا، وأمسى رهنه: يريد رهنه عندها قد غلق، وقد ضرب به زهير المثل، واستعاره للقلب الذي استبد به المحبوب وتصرف فيه. 3 أخلف الوعد: لم يفِ به، الوعد: الموعود، الحبل: الوصل والعهد, الواهي والواهن: الضعيف، وفي القرآن الكريم: {وَوَصَّيْنَا

_ 1 الديوان: صـ 163 تحقيق محمد سعيد مولوى, ط الثانية 1983, المكتب الإسلامي بيروت. 2 سورة الحاقة الآية 1. 3 سورة طه الآية 78.

الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} 1خلقًا: الخلق بفتح اللام البالي، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجمع على أخلاق وخلقان، قال الأعشى2 ألا يا قتل قد خلق الجديد ... وحبك ما يمحُّ وما يبيد 4 تبدى: تظهر مرة بعد أخرى من قوله تعالى {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ} 3 أي ظهر لهم من الرأي، ذي ضال موضع به ضال وهو النبق. لا محالة أن يشتاق: لا بد أن يحن، العشق: فرط الحب وإعجاب المحب بالمحبوب، من ذلك قول الأعشى4: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... ومابي من سقم وما بي معشق 5 الجيد: العنق، المغزلة والمغزل: الظبية التي معها غزال، أو ولدت غزالا، وخص المغزلة لأن عنقها أشد ما يكون انتصابا لحذرها على ولدها, الأدماء: الخالصة البياض، الخاذلة: المتأخرة عن الظباء، وكأنها خذلتها لتقيم على ولدها، وقد جعل لبيد بن ربيعة هذا

_ 1 سورة لقمان: الآية 14. 2 الديوان: صـ 371, شرح وتعليق د/ محمد محمد حسين, مؤسسة الرسالة, بيروت, الطبعة السابعة 1983، وقتل، المرأة التي يشبب بها. 3 سورة يوسف: الآية 35. 4 الديوان: صـ 118.

الوصف للبقرة الوحشية التي أكل السبع أولادها، وقد خذلت صواحبها من الوحش لتقيم على ولدها ترعى قربه1: أفتلك أم وحشية مسبوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها تراعي: تراقب وتلاحظ، الشادن من الظباء: الذي قوي على المشي وصلح جسمه وترعرع وطلع قرناه، قال الشاعر2: يا ما أحيسن غزلانًا شدنَّ لنا الخرق: الذي لا يدري كيف يؤخذ من ضعفه 6 الريقة: مفرد الريق، وهو ماء الفم، الكري: النوم، وخص طيب ريقها بهذا الوقت لأن النكهة تتغير فيه، اغتبقت بالبناء للمجهول: أخذت، واغتبقت بالبناء للفاعل: شربت، أي شربت على ريقها غبوقا وإسناد الفعل إلى الريق مجاز، كأن الريق شربت من الراح فطابت بذلك، والغبوق: شراب العشي، والصبوح: شراب الغداة، كما أن شراب نصف النهار يسمى القيل3. والراح: الخمر، سميت بذلك لريحها، أو روحها، أو لاستراحة شاربها إليها، وقد أشار ابن الرومي إلى هذه المعاني في قوله: والله ما أدري لأية علة ... يدعونها في الراح باسم الراح

_ 1 شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري صـ 553تحقيق عبد السلام هارون ط دار المعارف. 2 لسان "شدن". 3 راجع شرح الديوان 36.

ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح يعدو: يجاوز، العتق: القدم، أي لم يجاوز القدم إلى الفساد. 7 شج: صب، الناجود: إناء الخمر، الشبم: الماء البارد وقد حذا كعب بن زهير حذو أبيه، واستخدم تعبيراته هذه في قوله1: شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول لينة: بئر عذبة بطريقة مكة، ماء طرق: مطروق، بولت فيه الإبل وبعرت، يقال طرقت الإبل الماء إذا بالت فيه وبعرت، قال عدي بن زيد في وصفه للخمر: ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صدىً آجنٌ ولا مطروق الرنق بفتح النون وسكونها وكسرها: الكدر.

_ 1شرح ديوان كعب بن زهير: صـ 7.

التحليل: يقول الشاعر: إن جيراننا قد أعدوا العدة للرحيل، وتهيئوا للفراق ورحلوا عنا بعد أن هام القلب بحب أسماء فتيمه، وانخلع لرحيلها، فصار أسيرًا لديها، رهينًا عندها، وقد أحاطت بالأسير القيود والأغلال، وعجز الراهن عن الوفاء بالدين، واسترداد المرهون، فاستحقه المرتهن وأخذ يستبد به، ويتصرف فيه كيف يشاء. إنه قد ارتبط بأسماء وعجز عن أن يسلوها، أو يفيق من حبها، وكانت قد وعدته أن تمتعه بقربها، وتسعده بوصلها، فلم تفِ بالوعد، ولم ترع العهد، ولم تحفظ ما بينهما من وطيد الصلة ووشائج المحبة، فأصبح وصلها ميئوسًا منه، وقربها غير مطموع فيه، إنه شيبه بالحبل الذي أضعفه البلى، ونقضت الأيام عراه، إذ إنها تعد ولا تفي وتمني ولا تحقق الأماني. وهي ماكرة خبيثة لا رحمة عندها ولا شفقة، بل هي قاسية أشد القسوة, وظالمة أشد الظلم حين تعرض للشاعر، فتترائى له لتشوقه إليها وتحزن لهذا الفراق المؤسي الذي لا أمل معه في اللقاء. لم أخذت تتراءى له بذي ضال لتهيج أشواقه، وتثير كوامن شجونه, وقد تم لها ما أرادت, وهل في ذلك غرابة؟ فحنين النفس إلى أليفها، وشوقها إلى من تهواه، وحزنها لفراقه أمر مركوز في الطباع. قد تصدت له في أبهى مظهرها وأحلى صورها، فكانت طويلة العنق، معتدلة القوام كالظبية الخالصة البياض ذات غزال صغير, وقد انقطعت عن صواحبها لترعاه، وتعطف عليه لقرب مولده، وشدة

حاجته إليها، فيبدو في تلفُّتها طول عنقها، كما تظهر عاطفة الأمومة في أحلى صورها. بجيد مغزلة أدماء خاذلة ... من الظباء تراعي شادنًا خرقا على أن هذه الصفات المتتالية التي أثبتها للظبية تعود في النهاية إلى محبوبته فهي مغزلة، وهي أدماء، وهي خاذلة، تراعي شادنًا خرقا، وهذا ما يسمى بالإستقصاء في الوصف. وما أجمل هذه المرأة، وما أعذب ريقها، إنه في طيبته ورقته كأنما سقى بخمرة طيبة قد أتت عليها السنون، لم تجاوز العتق إلى الفساد، وإذا كان هذا هو طعم ريقها بعد النوم الذي تتغير عقبه الأفواه، فكيف به في غيره من الأوقات، على أن هذه الخمر، قد زاد في رقتها وطيبها أنها مزجت بماء ورد صاف غير مكدر ولا مطروق.

تصوير حالته النفسية

ب تصوير حالته النفسية كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا وخلفها سائق يحدو إذا خشيت ... منه العذاب تمد الصلب والعنقا وقابل يتغنى كلما قدرت ... على العراق يداه قائمًا دفقا يحيل في جدول تحبو ضفادعه ... حبو الجواري ترى في مائه نطقا يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا اللغة: 8 الغرب: الدلو الكبيرة التي يستقى بها قال لبيد:1 فصرفت قصرًا والشئون كأنها ... غرب تحث به القلوص هزيم. وفي حديث الزكاة: وما سقي بالغرب ففيه نصف العشر. المقتلة: المذللة، يعني بذلك الناقة التي ريضت وذللت وعودت، ومن ذلك قيل للخمر مقتولة، إذا مزجت بالماء حتى ذهبت سورتها، وهدأت حدتها، فصار ذلك رياضة لها، فكأن عينيه من كثرة

_ 1 لسان "غرب", والديوان: صـ 161, ط دار القاموس الحديث, بيروت.

دموعهما في غربي ناقة ينضح عليها وقد قتلت بالعمل حتى ذلت، فهي ناقة ماهرة تخرج الدلو ملآن فيسيل الماء من نواحيه. النواضح: التي يستقى عليها، الواحد ناضح وناضحة، وكل بعير يستقى عليه فهو ناضح، والرجل الذي على البعير، أي يسوق الساقية ويسقي نخلا أو غيره، يقال له ناضح كذلك ونضاح، كما قال أبو ذؤيب الهذلي1: هبطن بطن رهاط واعتصبن كما ... يسقي الجذوع خلال الدور نضاح الجنة: البستان والمراد النخيل، وجنة سحقا: ذات سحق أي بُعد فهي متباعدة الأقطار والنواحي، والمعنى الذي ذكره زهير هنا قريب من قول لبيد2: كأن دموعه غربا سناة ... يحيلون السجال على السجال 9 يحدو: يغني، والحداء سوق الإبل والغناء لها، وتحادت الإبل: حدا بعضها بعضا، قال ساعدة بن جؤية3: أرقت له حتى إذا ما عروضه ... تحادت وهاجتها بروق تطيرها العذاب: الضرب، تمد الصلب والعنقا: تجتهد في سيرها.

_ 1 ديوان الهذليين: جـ 46/1. 2 الديوان: صـ 97. 3 ديوان الهذليين: جـ 212/2 وأرقت له أي لهذا البرق، عروضه يعني سحابه، تحادت: جاء بعضها أي تلا بعضها بعضا.

10 القابل: الذي يستقبل الدلو، قدرت: تمكنت، العراقي: جمع عرقوة، وهي الخشبة المعترضة في فم الدلو، دفق الماء: صبه في الحوض. 11 يحيل: يصب، والجدول: النهر الصغير، تحبو ضفادعه: تثب، الجواري: الصغيرات، النطق: الطرائق، واحدها نطاق، وذلك أن الماء إذا كدر وهبت عليه الرياح ظهر كأنه درجات يعلو بعضها بعضًا، ويتصل بعضها ببعض. وقال أبو عمرو: هو أن يجتمع الغثاء على الماء، فيصير كأنه نطاق حوله إذا يبس1. 12 الشربات: واحدها شربة وهي حياض تحفر في أصول النخل من شق واحد فتملأ ماء، ماؤها طحل: كدر متغير كلون الطحال.

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ40.

التحليل: ثم أخذ في تصوير حالته النفسية ساعة الفراق، فقد اضطربت نفسه واستبد بها الألم، وغرقت عيناه في الدمع، وكأنهما لكثرة دموعهما مغمورتان في دلوين عظمين مملوءين بالماء، تخرجهما من البئر ناقة مذللة عودت هذا العمل وأجادته، والماء يفيض من جوانب الدلوين، فيسقي بستانا من النخيل، متباعد الأقطار متعدد النواحي اشتدت حاجته للماء ثم أخذ في الحديث عن هذه الناقة والسائق الذي يحدو من ورائها، ويغني لها تجديدًا لنشاطها، واستخراجًا لما تدخره من قوتها، فإذا ما أحست بدنوه منها اجتهدت في سيرها وأسرعت في جريها فمدت عنقها وصلبها لتنجو منه. وهناك القائم على فم البئر الذي يتناول الدلو ويستقبله، ثم يفرغه في الجدول وهو يشدو بصوته، ويرسل أنغامًا عذبة تشحذ همته، وتنسيه مشقة هذا العمل، وتزيل عنه ما قد يصيبه من سأم أو ملل، وحين يصب الماء في الجدول ويجري في الحفر التي في أصول النخل تفزع الضفادع وتثب وثوب الجواري في ملاعبها، وتعلو الجزوع مشفقة حين تتكسر صفحة الماء طرائق وكأنها تخاف غما يلحقها، أو غرقا يلم بها.

المديح

جـ المديح بل اذْكُرَنْ خير قيس كلها حسبًا ... وخيرها نائلًا وخيرها خلقا وذاك أحزمهم رأيًا إذا نبأٌ ... من الحوادث آب الناس أو طرقا فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنونًا ولا نزقا قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا القائد الخيل منكوبًا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا غزت سمانًا فآبت ضمرًا خدجا ... من بعد ما جبنوها بدنًا عققا حتى يئوب بها شعثًا معطلة ... تشكو الدوابر والأنساء والصفقا يطلب شأو امرأين قدَّما حسنا ... نالا الملوك وبذَّا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدَّما من صالح سبقا

أشم, أبيض, فياض, يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا وليس مانع ذي قربى وذي نسب ... يومًا ولا معدمًا من خابط ورقا ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذَّب عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا هذا وليس كمن يعيا بخطته ... يوم النديِّ إذا ما ناطق نطقا لو نال حيٌّ من الدنيا بمنزلة ... أفق السماء, لنالت كفه الأفقا 29 13 بل: للإضراب، أضرب عما كان فيه وأخذ في وصف الممدوح، الحسب: ما يعده الرجل من مفاخر آبائه، أو هو الفعال الحسن له ولآبائه، مأخوذ من الحساب إذا حسبوا مناقبهم، قال المتلمس الضبعي1: ومن كان ذا عرض كريم فلم يصن ... له حسبًا كان اللئيم المذمما

_ 1 الديوان: صـ 16, تحقيق حسن كامل الصيرفي, ط معهد المخطوطات العربية القاهرة سنة 1970.

النائل: العطاء ومثله النوال، قال وضاح اليمن1: إذا قلت يوما: نوليني تبسمت ... وقالت: معاذ الله من نيل ما حرم فما نولت حتى تضرعت عندها ... وأنبأتها ما رخَّص الله في اللمم 15 ممنونًا: مقطوعًا، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة2: لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها أو أنه لا يمن على من يعطيه، نزقًا: أي لا يعطي عن خفة وطيش. 16- الدوابر: أواخر الحوافر، واحدها دابر، ونكبت الدوابر: أكلتها الأرض وأثرت فيها، وأصل النكب داء يأخذ الإبل في مناكبها فتظلع منه، القد: سير يتخذ من جلد غير مدبوغ، وأحكمت الخيل: جعل لها القد حكمات، والحكمة: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق الذي هو شبه الكتان، يقال حكمت الفرس وأحكمته وحكمته بالتضعيف إذا قدته وكففته، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، ومنه قول جرير:2 أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا

_ 1 اللسان "نول". 2 اللسان: 222، شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري: صـ 557. 3 ديوان جرير: المجلد الأول: صـ 466, تحقيق الدكتور نعمان محمد أمين, ط دار المعارف سنة 1909.

17 ضمَّر: جمع ضامر وضامرة، وهو القليل اللحم والمهزول، الخدج: جمع خوادج، وهي التي ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام، جنبوها: شدوها إلى جنب ركابهم، البدن: العظام الأبدان، العقق: جمع عقوق وهي التي عظمت بطونها، أو هي الحوامل، وفي شرح الأعلم هي التي استبان حملها, ولم يرد أن جميع الخيل إناث، ولا أن جميع الإناث عقق، وإنما خص ذكر العقق ليخبر بجهد جميعها، وشدة عنائها وتعبها1: 18 يئوب: يرجع مع الليل، شعثًا: مغبرة، معطلة: لا أرسان عليها من الإعياء والجهد، فتمشي بلا أرسان، ومثله قول امرئ القيس2: مطوت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان الدوابر: مآخير الحوافر، والأنساء: عروق في الفخذين، الصفق: جمع صفاق، وهو الجلد الذي دون الجلد الأعلى مما يلي البطن. 19 الشأو: الغاية، امرأين: يعني بهما هنا أباه وجده، نالا الملوك: بلغا منزلتهما، وبذَّا: غلبا وفاقا، السوقة: الرعية التي تسوسها الملوك، سموا سوقة، لأن الملوك يسوقونهم، فينساقون لهم، وقيل أوساط الناس، قال نهشل بن حرِّي:3 ولم تر عيني سوقة مثل مالك ... ولا ملكًا تجبى إليه مرازبه

_ 1 هامش شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: صـ50. 2 ديوان امرئ القيس: صـ93, تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, دار المعارف بمصر سنة 1964. 3 اللسان "سوق".

20 الجواد: هو هرم، على تكاليفه: على مشاقه، فهو يطلب كل ما صنع أبواه. 21 مهل: تقدم، ومنه فلان ذو مهل: أي ذو تقدم في الخير، ولا يقال ذلك في الشر، قال ذو الرمة1: كم فيهم من أشم الأنف ذي مهل ... يأبى الظلامة منه الصيغم الضاري فأبَوَا الممدوح تقدماه في الشرف، فإن سبقاه بمثل فعلهما، وما قدماه من صالح سعيهما, سبقا من جاراهما. 22 أشم: من الشمم وهو ارتفاع قصبة الأنف في اعتدال، ويكنى به عن العزة والأنفة، فهو سيد ذو أنفة، ومن ذلك قول كعب بن زهير يحذو حذو أبيه:2 شم العرانين, أبطال, لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل أبيض: قد يراد به البياض الحسي، وزهير في وصفه هذا يجري على طبيعة العرب في حبهم لِلَّون الأبيض، وبغضهم للون الأسود، وقد وصفوا كل شيء ممدوح عندهم بالبياض، وقد يراد بالبياض البياض المعنوي، وهو نقاء العرض من الدنس والعيوب، ولذلك يكنون به عن الرفعة وشرف النفس، كقول طرفة في وصف رفاقه على الشراب3:

_ 1 اللسان "مهل". 2 شرح ديوان كعب بن زهير: صـ 23. 3 الديوان: صـ44, تحقيق فوزي عطوي، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت.

نداماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح علينا بين برد ومجسد قول حسان:1 بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول فياض: كثير العطاء، يقال فاض النهر: إذا كثر ماؤه، يفكك: يفك مرة بعد أخرى، العناة: الأسرى، الواحد عانٍ، وأصل العنوِّ الذلُّ والخضوع، وفي القرآن الكريم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 2, الربق: جمع ربقة وهي الأغلال والكبول. 23 على علاته: على فقره وقلة ماله، أو على كل حال، كما أشار إلى ذلك زهير في قصيدة أخرى3: إن البخيل ملوم حيث كان ولـ ... ـكن الجواد على علاته هرم السماحة: الجود والكرم، الندى: الفضل والخير، والخلق: الطبيعة والسجية. 24 الإعدام: المنع أي تمنع الرجل ما يريد، الخابط: الطالب والسائل ومن: ملغاةٌ، والعرب تقول إذا ضرب الرجل الشجر ليحتَّ ورقه فيعلف ماشيته قد خرج يختبط الشجر4, ويقال للرجل الكريم: إن خابطه ليجد ورقا، أي أن سائله ليجد عطاء، والمخبطة: القضيب والعصا. قال كثير عزة5:

_ 1 ديوان حسان: صـ 366, ط بيروت, بتصحيح وتعليق عبد الرحمن البرقوقي. 2 سورة طه: الآية 111. 3 الديوان: صـ 125. 4 شرح ديوان زهير: صـ 52. 5 اللسان "خبط".

إذا خرجت من بيتها حال دونها ... بمخبطة يا حسن من أنت ضارب يعني أن زوجها يخبطها، والخبط: الورق الساقط، وهو من علف الإبل والناقة تختبط الشوك: تأكله. 25 عثر: مأسدة، كذب: جبن ولم يصدق في حملته، القرن: الكفء في القتال، صدق: حمل وأقدم. 26- ارتمو: رموا بالسهام من مدى بعيد، الطعن: يكون بالرماح، اعتنق: أخذ بالعنق، يصفه بأنه أقربهم إلى القتال، ويزيد عليهم في كل حال من أحوال الحرب، كما قال:1 تركت النهالب لأهل النهاب ... وأكرهت نفسي على ابن الحمق جعلت ذراعي وشاحا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق 27- عيي بلأمر: عجز عنه ولم يطق إحكامه، والندى: المجلس ما داموا مجتمعين فيه، فإن تفرقوا عنه فليس بندى، والنادي كالندى، وقد أشار الشعراء إلى هذه النوادي، كالخنساء التي أشارت في رثاء أخيها صخر بإنه كان يحرص على شهود هذه الأندية، ومداومة الحضور فيها:2 حمال ألوية هباط أودية ... شهاد أندية للجيش جرار

_ 1 شرح الديوان ص54. 2 شرح ديوان الخنساء ص27 دار التراث بيروت 1968.

التحليل: ثم أضرب عما كان فيه، وأخذ في وصف الممدوح، وهذا من عاداتهم، أي دع حديث الغزل، وخذ في مدح هرم بن سنان أفضل قيس حسبًا حين يفخرون بآبائهم وأجدادهم، وأنداهم يدًا حين يتباهون بالجود وكثرة العطاء، بل هو أجمعها لمكارم الأخلاق، فإذا ما نابتهم نائبة، أو ألم بهم مكروه ظهرت قدرته على التصرف في الأمور، والحزم في مواجهتها فيلبس لكل حالة لبوسها، ولذلك تفوق على الناس جميعًا، وفضله عليهم كفضل الجواد على الخيل البطاء، وفضلًا عن ذلك، فيداه مبسوطة بالنوال لا ينقطع سيبه، ولا يقل عطاؤه، ولذلك ذاعت محامده، واشتهر فضله فأمه الناس يسعون إليه من كل فج، ويسلكون إلى أبوابه كل سبيل حتى أصبحت الطرق إليه ممهدة مذللة. وهو الفارس الشجاع الذي يقود الخيل في الغزوات، ويبعد بها في أقصى البلاد يخرج بها عظيمة الأبدان، قد علاها السمن، ويعود بها ضامرة هزيلة من طول الأسفار، قد نحل شعرها، وذاب شحمها، وتقوست ظهورها وألقت الحوامل أجنتها قبل تمامها، يعلوها الغبار، وقد تعطلت من كل ما يضبط أمرها وينظم سيرها، فقام الإعيار مقام الإرسان، وحل الضعف محل القيود واللجم، عادت وكل ما فيها يشكو الألم، وخصوصًا دوابرها في حوفرها، وعروقها في أفخاذها، وطبقات الجلد المختلفة، وسائر أعضائها. وهو في كرمة وفروسية يحذو حذو والده وجده، ويقتدي بهما في طلب المجد، ويسلك سبيلهما في الوصول إلى الغاية، فقد بلغا

بجميل أفعالهما وحسن صنيعهما منزلة الملوك، وخلفا السوقة، وفاقا أوساط الناس وعامتهم، فإن لحق بهما على ما يتحمل من مشقة، وما يتكلف من عناء، فمثله لحق وهو جدير بذلك، فالولد سر أبيه، وإن سبقاه فقد تقدما، والفضل للمتقدم على حد قول يزيد بن معاوية: ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدم ويتابع مدح هرم بن سنان، فهو عزيز النفس عالي الهمة، شامخ المنزلة يطاول السحاب أنفة، ويحاكي النجوم منزلة، نقيٌّ من الدنس، مبرءٌ من العيب، سمح, واسع العطاء، فهو البحر الذي لا يغيض ماؤه، ولا يقل عطاؤه، يطلق الأسرى، تارة يفديهم، وتارة يمن عليهم بغير فداء, ولقد أصبح السخاء طبيعته، والكرم سجيته، ولا يستطيع أن يتخلى عنهما حتى في وقت العسر، وزمن الشدة، فإذا قصدته وهو في هذه الحال بذل لك أقصى الجهد، وآثرك بما عنده، فكيف إذا جئته والزمان مقبل والدهر مساعد والمال كثير, إنه لا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا سواء أكان قريبًا منه أم بعيدًا عنه. ويعود مرة أخرى لوصفه بالشجاعة، والقدرة على النزال، ومواجهة الأقران, ما أشبهه بالأسد عند لقاء الرجال، إنه يتقدم إليهم، لا يجبن ولا يضعف ولا يعرف التردد سبيلًا إلى نفسه، بينما لا يصمد

خصمه، منهم من يستسلم, ومنهم من يفر خوفًا على حياته وطلبًا للنجاة من هلاك محقق. وهو دائما متفوق على أعدائه، إذا رموا بالنبل من مكان بعيد طعنهم بالرمح, فإن طعنوا بالرمح دخل تحت الرماح وأعمل فيهم السيف، فإن ضربوا بالسيوف لوى أعناقهم، فهو سابق في كل حال، فيصل بصفة الشجاعة فيه إلى أقصى درجاتها: يطعنهم ما ارتموا, حتى إذا طعنوا ... ضارب, حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا يطعن الطعنة النجلاء، وما يزال كذلك حتى تنحسر غمرات الحرب، ويضاف إلى شجاعته، قوة بيانه وفصاحة لسانه، يقف وسط الندي فيبهرك بمقولته ويدل بحجته، لا تتحيفها عجمة ولا ينقصها وضوح, فيستولي على قلوب السامعين ويأسرهم بعذب منطقه وقوة حجته. فبعد أن وصفه بالكرم والشجاعة يصفه بالبلاغة، وأنه لا يعيا بحجته إذا قام وسط الندي، وأخيرا يختم مدحته بهذا البيت الرائع الذي يدل على أن الفضائل تجسدت فيه، ففاق الناس جميعا: لو نال حيٌّ من الدنيا بمنزلةٍ ... أفق السماء, لنالت كفه الأفقا أي لو بلغ إنسان بمجده عنان السماء ولو وصل بسعيه الجوزاء, لكان هرم بن سنان.

تعليل بدء القصائد بأسماء النساء

تعليل بدء القصائد بأسماء النساء ... حول القصيدة بدأ زهير قصيدته في مدح هرم بن سنان بغرض تمهيدي وهو الغزل فتحدث عن أسماء التي تعلق بها قلبه، وهام بحبها فؤاده، وقد ارتحلت عنه بعد أن صار قلبه أسيرًا لديها وحبيسًا عندها، وكانت قد وعدته اللقاء ومنته الوصال، ولكنها لم تفِ بالعهد وماطلت في الوصل حتى كاد أمله في اللقاء يتبدد. ثم تحدث عن مسلكها نحوه، وموقفها منه، فهي ماكرة خبيثة، لا رحمة عندها ولا شفقة، إذ أخذت تعرض للشاعر، وتتراءى له لتشوقه إليها وتعطفه نحوها، وتحزنه لهذا الفراق الذي لا أمل معه في اللقاء, فحن لرؤيتها, ومنَّى نفسه بالوصول ولا محالة أن يشتاق من عشقا وأخذ في الحديث عن ابنة البكري التي أعجبه لونها وجيدها وريقها ... وزهير في هذا يسير على نهج شعراء عصره، فقد كانوا يفتتحون قصائدهم بالغزل أو ذكر الطلل أو بهما معًا، وقد بدأ زهير قصيدته هذه بالحديث عن محبوبته أسماء، وهو ليس من شعراء الغزل، لأنه رجل تعقل وحكمة ورزانة، يقول الدكتور طه حسين عن غزله: إنه يثير في نفسك الأشجان الهادئة الرقيقة التي تخرجك عن طورك العادي، ولا تبلغ بك الحزن الممض، ولا اليأس المهلك، ولا الأسى العميق، وإنما هي تحيي في قلبك طائفة من الذكرى البعيدة1 وقد علل ابن رشيق سر بدء الشعراء بأسماء النساء، وعدد أسماء من

_ 1 حديث الأربعاء: جـ 82/1, ط دار المعارف, الطبعة الثالثة عشرة.

تغزل بها الشعراء نحو ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، ثم قال: إنها أسماء تخفُّ على ألسنتهم وتحلو في أفواههم، وكثيرا ما يأتون بها زورًا.... ويقول: وربما أتى الشعراء بالأسماء الكثيرة في القصيدة إقامة للوزن وتحلية للنسيب1 وهو بذلك يؤيد وجهة النظر التي تقول: إن الشعراء يأتون بها في مفتتح قصائدهم مراعاة للتقليد الفني الذي جرى عليه العرف في البدء بأسمائهم واستشهد لذلك بما رواه مالك بن زغبة الباهلي، أن الأصمعي أنشده قوله: وما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها

رأي بعض الباحين والرد عليه

رأي بعض الباحين والرد عليه ... ويرى بعض الباحثين أن أسماء النساء في مطلع القصائد ليست سوى رموز, ويتخذون من الفلسفة ومعمياتها متكأ يعتمدون عليه، يقول الأستاذ نجيب البهبيتي: الافتتاحية الغزلية صورة رمزية, فالمرأة في ذلك رمز، وأسماء النساء أسماء تقليدية تجري في الشعر عند الشعراء دون وقوع على صاحباتها2 ويزيدون على ذلك فيجعلون أسماء رمزًا للخصب وخولة رمزًا للوصل ونحو ذلك3. والواقع أن في هذا تأولًا لا دليل عليه، وجريًا وراء خيالات جامحة بعيدة عن طبيعة أدبنا العربي، فالأسماء رموز لمسمياتها، إلا أن

_ 1 العمدة: جـ 122/2. 2 تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري: صـ 100, نجيب البهبيتي، ط دار الثقافة الدار البيضاء. 3 السابق: صـ 103.

بعض هذه الأسماء علم لمسمياتها، أي لمسميات حقيقية وجدت في حياة الشاعر وخصوصًا المسميات التي تواترت الأخبار على وجودها، كأم أوفى بالنسبة لزهير مثلًا، فقد ثبت أنها كانت زوجًا له، ونحوها كثيرات, فزهير كما يقول عنه الدكتور طه حسين: صاحب غزل، ولكنه مقتصد فيه، أو معجل عنه، لا يمنحه من وقته وجهده وتفكيره ما ينبغي1 وأسماء التي ذكرها الشاعر في مفتتح هذه القصيدة، قد تكون موجودة في حياته وفي تجاربه العاطفية، وله معها ذكريات يلذ له أن يعطف عليها ويرددها في شعره، وقد يكون ذكرها مجرد تقليد واتباع لسنن الشعراء في البدء بالغزل في مستهل قصائدهم، فهو يتغزل ليرضي سامعيه، لا ليعبر عن شعوره الفياض، وعاطفته المتدفقة نحو من يتحدث عنها، فهو غزل تقليدي متبع, وهذا واضح من قوله في بعض قصائده إن قلبه قد انصرف عن صاحبته وسلا حبها2: صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل وقوله3: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعُرِّىَ أفراس الصبا ورواحله

_ 1 حديث الأربعاء: جـ 98/1. 2 شرح ديوان زهير: صـ 96. 3 شرح ديوان زهير: صـ 124.

ويعلق الدكتور شوقي ضيف على غزله في هذه القصيدة حين يصور جيد أسماء بجيد ظبية مغزلة امتلأ قلبها بالحنين إلى ولدها، فهي تخذل رفاقها لتقيم عليه ترعاه وتدفئه بعطفها وحنانها، وحين يصور ريقها بالخمر المعتقة التي مزجت بالسلسبيل لحدتها وشدتها, يعلق على ذلك بقوله: إنهما صورتان أريدتا لأنفسهما، أو رسمهما ليدل سامعه على قدرته الفنية، أما بعد ذلك، فلا عاطفة ولا حب حقيقي، ولذلك يكرر دائمًا أن قلبه صحا عن حبه، وأنه راجع نفسه، فكفَّت عن الهوى، وما يتبع الهوى على شاكلة قوله: لقد طالبتها ولكل شيء ... وإن طالت, لحاجته انتهاء فهو إذن ليس من العشاق، ولا ممن يشغلون أنفسهم بالغزل، وبيان لوعة الحب، وإنما يتحدث في ذلك مترسمًا سننًا موضوعة كي يظهر قدرته على التصوير الفني2. ب وتسلل زهير من حديث الغزل إلى الحديث عن الوصف الممزوج بالغزل, حيث أخذ يصف حالته النفسية بعد أن بان الخليط ورحلت عنه ابنة البكري، فقد أجهش بالبكاء، وانهمرت دموعه انهمارًا كما ينهمر الماء من الدلو، واستطرد من ذلك إلى وصف الدلو التي يفيض الماء على جوانبها فهي لا تمتلئ مرة واحدة, وإنما تمتلئ ثم تفرغ مرات ومرات، وهكذا ما تزال تهبط فارغة ثم تصعد ممتلئة لتسقي بستانًا فسيحًا واسع الأرجاء ممتد النواحي.

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 61. 2 العصر الجاهلي: صـ 315 د شوقي ضيف, ط دار المعارف, الطبعة السابعة.

ماعيب على زهير في حديثه عن الضفادع والرد على ذلك

ماعيب على زهير في حديثه عن الضفادع والرد على ذلك ... كما يصف الناقة التي تستقي بهذه الدلو، فهي ناقة معودة على هذا العمل الشاق ألفته ومرنت عليه، يقول عنها: مقتلة من النواضح, وهذه العبارة تنطوي على شعور الإعجاب بهذه الناقة المدربة الماهرة, والتي تطيع صاحبها لساعات طويلة، دون أن تنفر منه أو تحرن، والسائق خلفها يحدو لها وينذرها بالسوط إن أبطات، والرجل القائم على فم البئر يستقبل الدلو ليفرغه في الجدول, ويصف كذلك الجدول الذي يجري فيه الماء، والضفادع التي تعيش على شواطئه، والحفرة التي تحيط بالنخيل, وأخيرًا يصف فزع الضفادع حين يجري الماء في الحفر، حيث تقفز إلى جذوع النخل تخاف الغرق والهلاك. وقد عابوا عليه قوله عن الضفادع: يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجزوع يخفن الغم والغرقا وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغرق والغم، وإنما ذلك لأنهن يبضن في الشطوط، فغلطوه في ذلك، وأنكروه عليه أشد الإنكار. فهذا أبو هلال العسكري يتحدث عن الخطأ، ويعدد له أمثلة كثيرة ثم يقول: وقريب من هذا قول زهير: ويذكر البيت السابق، ويعلق عليه بقوله: ظن زهير أن الضفادع يخرجن من الماء مخافة الغرق. وكأنهم يفترضون في زهير أن يكون عالمًا بطبائع الحيوانات، عارفًا بصفاتها على وجه التحقيق العلمي، مع أن زهيرًا لم يقصد إلا أن يقول إن الماء الذي يصب في الجدول، ثم يجري في الشربات يخيف

الضفادع, فتخرج منه مندفعة إلى الشاطئ، ولم يكن زهير مخطئًا في ذلك؛ لأن الضفادع لا تستطيع أن تعيش تحت الماء، إذ ليست لها خياشيم كخياشيم الأسماك تمكنها من أن تأخذ الأكسجين المذاب في الماء، بل هي تتنفس الهواء الجوي بواسطة رئتين لها عن طريق الأنف أو الفم، وبواسطة جلدها أيضًا، فلو وضعت تحت سطح الماء، وظلت تحته لغرقت فعلًا1. على أن هذه الضفادع كانت مختفية في شقوق الجداول وفي الشربات حول أصول النخيل، فلما أحست بالماء خرجت تقفز وتثب على جذوع النخل. وقد دافع ابن رشيق عن زهير بقوله: إن زهيرا لم يرد أنها تخاف الغرق على الحقيقة، ولكنها عادة من هرب من الحيوان من الماء، فكأنه مبالغة في التشبيه كما قال عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وقوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} والقول فيهما محمول على كاد, مع أنا نجد الأماكن البعيدة القعر من البحار لا تقربها دابة خوفًا على نفسها من الهلكة، فكأنه أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات2.

_ 1 يراجع الشعر الجاهلي: د محمد النويهي: صـ 140, وما بعدها، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة. 2 العمدة: جـ 251/2.

تعليل الانتقال المفاجئ من المقدمة إلى الموضوع

تعليل الانتقال المفاجئ من المقدمة إلى الموضوع ... جـ وبعد هذا العرض يتخلص من الذكريات المشجية، وينتقل إلى موضوع القصيدة الأساسي، وهو مدح هرم بن سنان، وواضح أن الانتقال هنا جاء مفاجأة ودون تمهيد، أو الحرص على التخلص، أو براعة انتقال، ولعل هذا يعكس طبيعة الانتقال المفاجئ في حياته التي تجعله ينطلق مسرعًا إلى غايته.

صفات الممدوح

صفات الممدوح ... وربما كانت طبيعة موقفه من ممدوحه، مما ساعده على هذا الانتقال المفاجئ، فلم يكن في حاجة إلى ناقة يرحل عليها، أو يصور أشواقه إلى ممدوحه، فيجعل ذلك حلقة الوصل في البيت نهاية المقدمة وبداية الموضوع1. أو أن إعجاب الشاعر بممدوحه، وتأثره بحسن صنيعه أمليا عليه الانتقال إلى ذكر الغرض مباشرة دون تمهيد؛ لأن نفسه قد حميت بذكر مناقبه، فقطع ما كان فيه، واستأنف مقطعًا جديدًا يشتمل على المدح وهو الغرض الرئيسي من أغراض القصيدة. وقد رأيناه ينتقل من الغزل إلى مدح هرم مباشرة ودون تمهيد في غير هذه القصيدة، فبينما هو يتحدث عن الديار، وما حل بأهلها من البلى، نتيجة لعبث الزمان بها، إذ به يعدل عن ذلك فجأة، ويدخل في مديح هرم ,يقول2: لعب الزمان بها وغيرها ... بعدى سوافي المور والقطر قفرًا بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر

_ 1 طالع في القصيدة الأموية د/ عبد الله التطاوي: صـ 21, ط غريب, سنة 1981. 2 شرح الديوان: صـ 87، 88.

ثم يقول بعد ذلك مباشرة: دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر ولم يخلع زهير على ممدوحه صفات غير مألوفة، بل مدحه بما هو شائع عندهم من صفات المديح، فإذا كان الجاهليون يعتزون بأنسابهم، ويفخرون بها، فإن زهيرا لم يخرج عن ذلك، إذ جعل ممدوحه يفوق قيسًا كلها في أصالة الحسب وصفاء النسب: بل اذكرن خير قيس كلها حسبًا ... وخيرها نائلًا وخيرها خلقا وكثيرًا ما يكرر هذه الصفة في مدحه، لأنها كانت مناط الفخر عندهم يقول في مدح بني سنان:1 أقول للقوم والإنفاس قد بلغت ... دون اللها غير أن لم ينقص العدد سيروا إلى خير قيس كلها حسبًا ... ومنتهى من يريد المجد أو يفد كذلك يمدحه بالفروسية والمهارة في قيادة الخيل، والإيغال بها في أقصى البلاد، ثم أخذ في وصف هذه الخيل قبل المعركة وبعدها, وهو وصف ينطق بالجهد الذي بذلته الخيل حتى وصلت إلى ساحة القتال، لطول المسافة وبعد الشقة، كما يشهد بالأداء الرائع في أثناء التلاحم مما يدل على أصالة الخيل وحسن إعدادها، ولقد تغير بها الحال فلقد كانت عظيمة الأبدان، علاها اللحم وكساها

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 281.

الشحم، فإذا بها بعد الغزو قد ذابت شحومها، وتقوست ظهورها، وقام الهزال منها مقام القيود، وأغنى الضعف عن اللجم والأرسان، وألقت الحوامل أجنتها لغير تمام. ثم يعود ثانية إلى وصفه بالشجاعة ملحًّا على هذا الوصف، فهو يصول ويجول ويبز الأقران عند اللقاء، وكأنه في شجاعته ليث، بل هو أقوى منه وأشد ضراوة، يصدق في حملته إذا فشل الليث وعز عليه الثبات. ليث بعثَّرَ يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا وليس هذا الوصف خاصًا به وحده، بل تشركه فيه عشيرته، فتراهم في أتون المعارك أسودًا، كما أنهم لا يرهبون الموت ولا يخشون أحدًا، يقول عنهم حين يمتطون الخيل1: عليها أسود ضاريات لبوسهم ... سوابغ بيض لا يخرِّقها النبل وهو دائمًا متفوق على أقرانه, يكيل لهم الصاع صاعين. وزهير في محده لهرم -ولعل هذه طبيعة فيه- يلح على الصفات فيكررها وينميها، لأنه يريد أن يصل بها إلى ذروة الكمال، وكأنها توفرت له بصورة لم تتحقق لغيره، ويظهر ذلك بوضوح حين يمدحه بالهيبة وحسن الطلعة، أو حين يصفه بالسماحة والندى يقول: أغر أبيض فياض يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 103.

فهو يأتي بالوصف ومرادفه، أغر، أبيض، دون أن يخشى مللًا، وحين يتناول جانب الشجاعة يقول: إنه يفكك الأغلال عن الأيدي والأعناق وكان يكفي أحدهما. وحين يمدحه بالكرم يركز على حقيقة هامة، هي أن هذه الصفة صارت فيه سجية وطبيعة جبل عليها، بحيث لا يستطيع أن يتحول عن ذلك أو يحيد عنه، وتدفعه هذه الطبيعة أن يعطي في اليسر وفي العسر، ويجود وإن ضره الجود: من يلق يومًا على علاته هرمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقا وهو في عطائه يبذل عن طيب خاطر ورضًا نفس، فلا يكدر عطاياه بتعدادها، ولذلك حرص زهير وهو يمدحه أن يتبع وصف العطاء بعدم المنِّ: فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنونًا ولا نزقا والنزق الذي يعطي عن حدة وحماس دون تروٍ، ثم لا يلبث أن يفتر فيكف عن العطاء. وكانت العرب ترى أن من يكدر نعمته بالمن ويحقرها بتعدادها لئيم يستحق الذم، ويستوجب الهجاء، كما قال عمرو بن مالك بن ضبيعة يذم بني عمرو؛ لأنهم يعيرون الناس بعطاياهم1: يمنون إن أعطوا ويبخل بعضهم ... ويسحب عجزًا سكته إن تجملا

_ 1 معجم الشعراء للمرزباني: صـ 19.

والنابغة الذبياني في مدحه للغساسنة طمعًا في نوالهم، لا يهمه مقدار الهدية بقدر ما تهمه ألا تكدر بمن ولا تذكير حين يقول: على لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب ولم يلجأ زهير إلى تشبيه ممدوحه بالبحر في كرمه أو السحاب في عطائه، أو يذكر لنا أن يده مبسوطة للعافين، وإنما جعل أقدام السائلين التي لم تتوقف في ذهابها وإيابها إلى بيته ترسم طرقًا متعددة من كل صوب وفج، وإنها طرق وليست طريقًا واحدًا حين يقول: قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلين إلى أبوابه طرقا وبذلك لم يسلم زهير للأنماط السالفة ولم يحذ حذو سابقيه, بل حاول أن يفلت من أسرها، ليعبر عن تجاربه الشخصية، وما اختلج في صدره، واعتمل في داخله من مشاعر وأحاسيس تجاه الممدوح، وربما كان يحس في قرارة نفسه أنه مهما بالغ في مديحه فلن يفي بحقه، وهذا لا يمنع أنه كان يحذو حذو سابقيه في بعض أنماط مدائحه كالمدح بعلو النسب والشجاعة كما تقدم. على أن هرمًا في نبله وسماحته، وما اتصف به من صفات المجد، يقتدي بآباء له كرام سبقوه على الدرب ويرجو اللحاق بهم: وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

ويقول زهير عن والد هرم1: ينمي إلى ميراث والده ... كل امرئ لأرومة ينمي وبهذا استحق هرم أن يكون على رأس قيس كلها، وصدق فيه قوله: بل اذكرن خير قيس كلها حسبًا ... وخيرها نائلًا وخيرها خلقا والناس ليسوا سواء في قدرتهم على البيان والإفصاح عما في صدورهم، فبعضهم يعجز عن الإدلاء بحجته ويصاب بالعي، وتخونه الكلمة في المواقف الحاسمة، أما ممدوحه فيتسنم ذروة الفصاحة، ويدلي بالرأي المؤيد بالحجة والبرهان، يقول عنه: هذا وليس كمن يعيا بحجته ... يوم الندي إذا ما ناطق نطقا على أن زهيرًا لم يكن يبغي من وراء مدحه جزاءًا أو ثوابًا، وإذا كان قد نال شيئًا من ذلك، فإنه لم يكن يطلبه، بل يستحي منه، يدل ذلك ما رواه أبو الفرج الإصفهاني: وبلغني أن هرمًا كان قد حلف ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدًا أو لدة أو فرسًا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحًا غير هرم وخيركم استثنيت2 وهكذا أحب زهير هرمًا لدرجة الهيام به والإعجاب الشديد بخصاله، وظهر ذلك جليًا في مديحه له، وقد لاحظ القدماء ذلك، فقدروى ابن قتيبة قول أبي عبيدة: من فضل زهيرًا على جميع الشعراء؛ فلأنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعر3

_ 1 شرح الديوان: صـ 385. 2 الأغاني: جـ 305/10. 3 الشعر والشعراء: جـ 144/1.

زهير يمثل المديح في أصلة الطاهر

زهير يمثل المديح في أصلة الطاهر ... فزهير في مديحه كما يقول بعض الباحثين: مثل المديح العربي في أصله الصافي الطاهر، حين كان يصدر عن إعجاب حقيقي بأبطال حيقيقين وتصهره نار الصدق في مضمونه وأدائه معًا، فلا يتكلف عاطفة ولا يغالي في تعبير2. كما أنه كان يعتز بفنه في مجال المديح، لأن الناس سيرددونه من بعده فهو ينشر المحامد، ويذيع الفضائل ويكسو ممدوحه حللًا من الثناء تبقي على الدهر يرويها الناس جيلًا بعد جيل، وذلك حين يقول3: سترحل بالمطي قصائدي ... حتى تحل على بني ورقاء مدحًا لهم يتوارثون ثناءها ... رهن لآخرهم بطول بقاء فهو يتنبأ ببقاء شعره وخلوده على الزمان، وهذا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه, حيث قال لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما قال زهير فيكم فأنشده، فقال عمر: لقد كان يقول فيكم فيحسن, فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل، فقال عمر قولة الناقد البصير، الذي تذوق الشعر ويدرك مدى تأثيره وسر بقائه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم4.

_ 2 الشعر الجاهلي: د النهويهي: صـ 617. 3 شرح ديوان زهير: صـ 381. 4 السابق: صـ10.

اتسام المدح بالصدق والواقعية

اتسام المدح بالصدق والواقعية ... كما أن زهيرًا في مديحه يتصف بالصدق والواقعية، فلا يصف إلا ما يجد، ولا يعبر إلا عما أحس, دون غلو أو شطط، كما وصفه عمر بن الخطاب بأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه، فإذا أحس أنه بالغ في مدحه، أو خرج فيه عن الحد المعقول الذي يدخله في باب المغالاة، أتى بما يجعله مقبولًا، فيسبق مدحه بلفظ لو ولولا ونحوهما؛ لأنهم كانوا يكرهون الإفراط الشديد في المبالغة ويعيبونه، فإذا تحرز المبالغ واستظهر فأورد شرطًا، أو جاء بكاد، وما يجري مجراها يسلم من العيب1, وهذا نحو قول زهير: لو نال حيٌّ من الدنيا بمنزلة ... أفق السماء, لنالت كفه الأفقا فحين أراد أن يقرب دعواه من العقل ذكر لفظ لو فاسترعى انتباه السامع وحمله على الإصغاء وكان ابن رشيق دقيقًا حين عبر عن هذه المبالغة عند زهير بأنه بلغ ما أراد من الإفراط وبنى كلامه على صحة2, ومثل ذلك قوله في مدح هرم أيضا:3 لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر وقوله: فلو كان حمدًا يخلد الناس, لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد هذا الاعتدال في الوصف، والصدق في المدح يرجع إلى طبيعة زهير

_ 1 الصناعتين لأبي هلال العسكريك صـ 355. 2 العمدة: جـ 64/2. 3 شرح ديوان زهير: صـ 95.

الفنية, وحرصه على معاودة النظر في شعره، وإلى طبيعة الموضوع الذي يعالجه وهدوئه في تصويره دون انفعال أو مؤثر خارجي. فمديح زهير مثل المديح العربي في أصله الطاهر الصافي حين كان يصدر عن إعجاب حقيقي بأبطال حيقيقين، فلا يتكلف عاطفة، ولا يغالي في تعبي

التصريح في أول القصيدة ورأى النقاد في ذلك

التصريح في أول القصيدة ورأى النقاد في ذلك ... تأملات في القصيدة القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات جاءت من بحر البسيط ويجئ الشطر الواحد منه على وزن: مستفعلن فاعلن، مستفعلن فعلن, وهو بحر عروضي يتسم بالجزالة والفخامة، ويغلب على المنظوم به قوة الأسر وروعة السرد، وصلابة الحبك، هذه المعاني كلها تجسدت في تلك النفثة الشعرية، سواء وهو يتغزل في مقدمتها، أو يصور حالته بعد فراق حبيبته، أو حين يمدح هرمًا. وربما كان تكرار القاف في القافية في مطلع القصيدة في قوله: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا وهو ما يسمى بالتصريع ما يمهد للروي، ويعد الأذن لسماعه أو توقعه كما أن حرف المد الذي جاء بعد الروي يعطي للمنشد فرصة لاستغلال مواهبه الصوتية استغلالا ينشر في الجو ضجة وجلبة شديدين. وقد صرع الشاعر في أول القصيدة شأن الفحول من الشعراء المجودين قديما وحديثا، وامتدح قدامة بن جعفر التصريع، واعتبره دليل تمكن الشاعر من فنه حين قال: وإنما يلجأ الشعراء المطبوعون إلى ذلك -أي التصريع- لأن بنية الشعر إنما هو التصريع والتقفية، فكلما كان الشعر أكثر اشتمالا عليه كان أدخل له في باب الشعر، وأخرج له عن مذهب النثر1 والتصريع ليس إلا ضربا من الموازنة

_ 1 نقد الشعر: صـ58 تحقيق كمال مصطفى ط الخانجي سنة 1978.

والتعادل بين العروض والضرب، يتولد منها جرس موسيقي رخيم، ولذلك كان من أمس الحلي البديعية والشعر وأقربها إليه نسبا. ونحن حين نرهف آذاننا لإنشاد الشعر، فأول ما نتشوق إليه ونترقبه فيه هذا التصريع الذي يشبه مقدمة موسيقية خفيفة قصيرة، تلهب إحساسنا وتهيئنا لاستماع الشعر، فإن أغفله أو أتى به رديئا أو ركيكا خيل إلينا أن شيئا من الجمال ترك مكانه شاغرا1. ولم يفت الشعراء أن يشيدوا بمنزلة التصريع، وينوهوا بقيمته، فهذا أبو تمام يقول من قصيدته في مدح أبي سعيد الطوسي2: وتقفو لي الجدوى بجدوى وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع. وشعر زهير يمتاز بتهذيب البنية والبراعة في صياغة الأساليب، فحين نراه يؤثر الفعل المضارع على الماضي في قوله: قامت تبدي بذي ضال لتحزنني يعطي إشارة تدل على تكرار الفعل تبدي وتجدد حدوثه منها، وكذلك في قوله: لتحزنني وكأن حزنه لفراقها ... وألمه لبينها دائم لا ينقطع. وهذه الدلالة نفسها هي ما نلحظها حين عبر عن تحننه وعشقه بالمضارع في قوله: ولا محالة أن يشتاق من عشقها ويعبر زهير عن ضعفه أمام سطوة حبها وتياره الجارف الذي يعجز عن مقاومته بأن قلبه قد رحل معها وصار رهينا عندها، ليوحي بحبه الخالص، وشوقه العارم، ثم يصف هذا الرهن بأنه لا فكاك له في قوله: وفارقتك برهن لا فكاك له ليكثف الصورة، فلم يكتف بأنها أسرت قلبه، وإنما أردفه بهذا النعت ليحدد الإطار ويبين أبعاد هذا الحب.

_ 1 يراجع: الشعراء وإنشاد الشعر للأستاذ على الجندي صـ 174 ط دار المعارف بمصر سنة 1969. 2 ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي المجلد الثاني: صـ 322 تحقيق محمد عبده عزام ط الثالثة دار المعارف بمصر.

البراعة في الصياغة الأسلوبية

البراعة في الصياغة الأسلوبية ... وحين يضعف عن السلوى، ويعجز عن نسيانها يتلمس الأسباب لتعليل موقفه منها قائلا: إن الإنسان العاشق لابد أن يحن إلى معشوقه مهما كانت الأسباب ودواعي الفراق. ..................... ولا محالة أن يشتاق من عشقا ويستغل الشاعر الدلالة المباشرة للحبل ويوظفها في التعبير لتساعد على الإيحاء، وتنقل الواقع النفسي الأليم في قوله حين يصور العلاقة الفاترة بينه وبين أسماء بالحبل الواهن الضعيف: .................... فأصبح الحبل منها واهنا خلقا وإذا كان حبل وصالها خلقا، فهو مقطوع في قصيدة أخرى يقول1: صرمت جديد حبالها أسماء ... ولقد يكون تواصل وإخاء وهذا يذكرنا بقول الأعشى2: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا وحبل الأعشى مقطوع فقد قطع الأمل في عودة الحبيبة، وقضى على رجائه منها.

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 338. 2 شرح ديوان الأعشى: صـ 151.

وفي الجزء الخاص بالمديح نجده يعبر عما أصاب الخيل من الهزال والإعياء بعد غزوها فسلس قيادها وتعرت عن الأرسان والحكمات بقوله: معطلة في قوله: حتى يئوب بها عوجا معطلة ... تشكو الدوابر والأنساء والصُّفُقَا وقوله في وصف هرم بالشجاعة إنه ليث يصطاد الرجال للدلالة على الاحتيال والترصد، وإصابة الهدف، وهذا لا يتأتى لو استبدل بها يقتل الرجال وحقق له ذلك طول الخبرة وشدة المراس. وتكرار كلمة هرم في سياق الحديث عن مدحه في قوله: قد جعل المبتغون الخير في هرم.......................... وقوله: من يلق يوما على علاته هرما.................... هذا التكرار يوحي بأن السير إليه كان قصدا لا مجرد اتفاق أو مصادفة، وفيه تنويه به وإشادة بذكره، وتفخيم له في القلوب والأسماع فهو يوظف الألفاظ والجمل ويستخدمها في مواضعها المناسبة. وإلى جانب قدرة الألفاظ على التعبير كانت لها قدرة أخرى على إثارة خيال السامع أو القارئ والتحليق به في أفاق جد فسيحة حيث تطلق لخياله العنان ليذهب في تلمس المعنى المراد كل مذهب، ولذلك حين يعبر عن العلاقة التي بينه وبين أسماء في قوله: ..................... وعلق القلب من أسماء ما علقا

فالإبهام الذي يحيط بقوله:............ ما علقا يتلاعب بالخيال، ويترك له المجال ممتدا، ومن ثم يجد القارئ لذة لا تعادلها لذة عند وقوفه على المراد. ومثل ذلك قوله بعد ذلك واخلقتك ابنة البكري ما وعدت ولجأ زهير إلى الإبهام كذلك حين تحدث عن حروب القبائل التي لا تخمد لها نار فقال1: رعوا ما رعوا من ظمئهم ثم أوردوا ... غمارا تفري بالسلاح وبالدم فقد عبر عن حال هذه القبائل في السلم وفي الحرب بأنها تشبه إبلا ترعى ما شاء لها الرعي. وشبيه بالإبهام عند زهير وما ترتب عليه من الإثارة قول حنظلة يرثي أخاه مازنا ويصف عفته وفروسيته2: أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا مرثعن ساقط في الدواخن فالإبهام الذي يحيط بقوله: أخي ما أخي يحير القارئ والسامع، ويتلاعب بخياله، فإذا ما وقف على المراد أحس بلذة لا تعدلها لذة أخرى وقول دريد بن الصمة حين رفضت الخنساء خطبته لها3: فسليهم عنى خناس إذا ... عض الجميع الخطب ما خطبي ما خطبي هكذا دون فضل بيان ليذهب الفكر في تقديره كل مذهب, وقديما فطن ابن الأثير إلى سر الإبهام وأدرك أنه قد يكون مقصودا لأن الموقف يتطلبه، والمقام يستدعيه حين قال: إن المعاني وإن كانت أكثر مقاصد الكلام، ومواطن القول تقتضي الإعراب عنها والتصريح عن مفهوماتها، فقد يقصد في كثير من المواضع إغماضها، وإغلاق باب الكلام دونها.... ثم يقول وتكون الدلالة هنا على المعنى دلالة إبهام لأن الدلالة على المعنى قد تكون دلالة إيضاح، أو دلالة إبهام، أو هما معا4.

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 25. 2 أمالي اليزيدي 46 والمرثعن: الضعيف المسترخي، الدواخن: جمع داخن وهو الذي يوقد النار. 3 الأغاني: جـ 220/8. 4 المثل السائر: صـ116 لابن الأثير تحقيق د/ أحمد الحوفي, د/ بدوي طبانة ط الثانية منشورات دار الرفاعي بالرياض.

تأثر كعب بن زهير بأبية

تأثر كعب بن زهير بأبية ... وقد اقتدى كعب بن زهير بأبيه وتأثر به، فأخذ منه كثيرًا من المعاني، ولا سيما في الغزل، ولا غرابة في ذلك فكعب راوية لأبيه ومن يشابه أبه فما ظلم يقول كعب في مطلع قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم2: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجذ مكبول .................................. تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول وحين نتأمل هذا المطلع، ومطلع قصيدة زهير التي نحن بصددها: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا

_ 2 شرح ديوان كعب بن زهير: صـ7 الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة سنة 1965.

وكذلك قول كعب عن قلبه: لم يفد مكبول وقول أبيه وفارقتك برهن لافكاك له نجد كثيرًا من المشابه والعلاقة الواضحة بينهما. كما أن قول كعب عن ريقها:.......... كأنه منهل بالراح معلول مأخوذ من قول زهير: اغتبقت من طيب الراح وقول كعب في قصيدته: شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول مأخوذ من قول زهير: شج السقاة على ناجودها شبما ... من ماء لينة لا طرقا ولا رنقا فوصف الماء بالصفاء وأحد في كلا القصيدتين، وهكذا نجد أن كعبا استمد بعض معانيه من أستاذه وأبيه. وإذا كان زهير يعني بلغته ويحشد في كلماته قوة إيحائية كبيرة كما تقدم، فإنه لم يغفل التصوير، بل هو أداة بارزة في فنه، وإن كان أكثر بروزا وتكثيفا في مقدمة القصيدة يسجل به الشاعر قدرته الفنية قبل أن يتقيد بموضوع القصيدة، فنراه يشبه عينيه تفيض دموعها الغزار على إثر فراق محبوبته بالدلو الملئ بالماء، ويصور أثر الحب في نفسه فيبدع في تصويره، ليمثل لنا قدرة فنية رائعة، كقوله في وصف دموعه: كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا

التصوير أداة بارزة في فنه

التصوير أداة بارزة في فنه ... ومرة أخرى يصور لنا تساقط الدموع الغزار من عينيه لفراق محبوبته بتساقط الماء من الغرب، أو تساقط اللؤلؤ من عقد انقطع خيطه1: كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ماهم لو انهم أمم غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق ... في السلك خان به رباته النظم وإن كان الدكتور شوقي ضيف يرى أن هذه الدموع ليست دموع حب، وإنما كل ما في الأمر أنه شاعر يعرف كيف يصور دموع الحب2. ومن الصور البيانية استعارة كلمة رهن لقلبه في قوله: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوادع فأمسى رهنا غلقا واستعارة الحبل للوصل في قوله: وأخلقتك ابنة البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهنا خلقا وأتى بما يرشح هذه الاستعارة ويقويها في قوله:.......واهنًا خلقًا وتشبيه عنقها بجيد الظبية، وريقها بالخمر. بجيد مغزلة أدماء خاذلة ... من الظباء تراعي شادنا خرقا

_ 1 شرح ديوان زهير: صـ 149. 2 العصر الجاهلي: صـ 315.

كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من طيب الراح لما يعد أن عتقا وفي البيت الأول نجد صفات متتالية للظبية تعود في النهاية لمحبوبته، بينما الصفات في البيت الثاني تعود إلى الحبيبة مباشرة، وكلها تتعاون وتتآزر للوفاء بحق المعنى، وكذلك تشبيه الضفادع التي تحبو في الجداول والحفر بالصبيان اللاعبين حتى إذا أدركها الماء علت إلى جذوع النخيل تريد أن تتقيه. وحين يتحدث عن كرم هرم يلجأ إلى الصورة التي تحتاج إلى إعمال الفكر وقدح الذهن للدلالة على مهارته الفنية كقوله: قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا وقد أعجب النقاد بهذه الصورة، إذ جعل أقدام السائلين تترك آثارها وتمهد طرقا إلى بيت هرم، وهنا يستنبط السامع ما وراء هذه الصورة ودلالتها على كرم هرم لكثرة قصاده وطالبيه. كما نراه يشبهه بالجواد مرة وبالليث مرة أخرى، إلى غير ذلك من الصور التي يستمدها من مصادرها البدوية، وهو أمر طبيعي، فقد أدارها حول الدلو والجدول والناقة والفرس، والبستاني والسائق، وغير ذلك، وصورة تعي الزمان كما تستوعب المكان، فهو يعطينا الزمان في مثل قوله يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا كما تصور المكان في مثل قوله قامت تبدي بذي ضال لتحزنني وقوله ليث بعثر يصطاد الرجال وقوله من ماء لينة إلى آخر ما اشتملت عليه القصيدة كلها من الأزمنة والأمكنة.

وزهير في هذا الجزء الذي جعله للمديح يغلب على أسلوبه التقريرية والمباشرة لأنه يقرر حقيقة ويصف واقعا، وكأن وصفه بهذه الصفات لا يماري فيها السامع ولا يجادل، ولذلك فهو لا يحتاج في إثباتها له سوى الإخبار عنها. كما أن أسلوب القصيدة واضح إذ تدل عبارته على المعنى دون الحاجة إلى كد الذهن، أو إجهاد الفكر، وتلك خاصة من خواص شعر زهير، مع أنه شاعر صنعة، ينقح شعره ويجوده، ويبيت بأبواب القوافي يتودد إليها وينفي عنها ما يشينها حتى تخرج مستوية متناسقة وهو في صنعته يستوفي ضروب الكمال والإتقان، فليس في قوافيه نشاز من إقواء أو غيره، أو اجتلاب للقافية وإكراها في موضعها، بل هي متمكنة في مكانها محكمة في صنعتها، ولكن المبالغة في الشيء والإفراط فيه، قد يفضي إلى ضده، فيظهر أثر التكلف في القافية أحيانا، وذلك مثل قوله: ومن أعناقها الربقا. فقد أراد بالربق الأغلال، لكن القافية ألزمته أن يعبر عن الأغلال بالربق وقوله: تسقي جنة سحقا فوصف المفرد بالجمع وأراد بالجنة بستان النخيل، وقد يكون المراد تسقي جنة ذات سحق أي ذات بعد، يريد أنها متباعدة الأقطار والنواحي1. ومن ذلك قوله:.............. قد أحكمت حكمات القد والأبقا أراد وحكمات الأبق، فنزل على حكم الروي.

_ 1 يراجع شرح ديوان زهير: صـ 38.

وفي القصيدة عناية بموسيقاه وألحانه الداخلية بجانب العناية بالوزن والقافية، فأحيانًا يقسم البيت تقسيمات موسيقية، تنتقي بسجعات مكررة، كقوله: بجيد مغزلة أدماء خاذلة ... من الظباء تراعي شادنا خرقا وهذا ما يسمى بالترصيع ويعدون ذلك من جمال الصنعة1, ومن التقسيم الذي نلمح فيه التوازن الموسيقي ما نجده في قوله: بل اذكرن خير قيس كلها حسبا ... وخيرها نائلا وخيرها خلقا فبين قوله: خيرها حسبا، وخيرها نلائلا، وخيرها خلقا توازن، موسيقي، وتكرار لفظي يجعل الأذن تستريح لسماعه، وتشوق لتكراره فيستقر المعنى، ويثبت في الأذهان. ومن حسن التقسيم الذي استقصى فيه الشاعر جميع ما أبتدأ به قوله: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وقد علق ابن رشيق على هذا البيت بقوله: فأتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج، وزاد ممدوحه رتبة، وتقدم به خطوة على أقرانه، ولا أرى في التقسيم عديل هذا البيت، ويليه في بابه قول عنترة2: إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل

_ 1 نقد الشعر لقدامة بن جعفر: صـ 40. 2 العمدة: حـ 23/2.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع - الاشتقاق لابن دريد ط الخانجي 1958. - أعجب العجب في شرح لامية العرب للزمخشري مطبعة الجوائب قسطنطينية 1300هـ. - الأغاني. - الأمالي لأبي علي القالي ط الهيئة المصرية للكتاب 1976. - تاريخ آداب اللغة العربية جرجي زيدان ط دار الهلال. - تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري نجيب محمد البهبيتي ط الثانية سنة 1967. - حديث الأربعاء د/ طه حسين ط دار المعارف الطبعة العاشرة. - حلية الفرسان وشجاعة الشجعان لابن هذيل تحقيق محمد عبد الغني حسن ط دار المعارف 1949. - الحيوان للجاحظ ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة السادسة. - دروس ونصوص في قضايا الأدب الجاهلي د/ عفت الشرقاوي دار النهضة العربية 1979. - ديوان الأعشى شرح وتعليق د/ محمد محمد حسين مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة. - ديوان امرئ القيس تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعارف الطبعة الثانية. - ديوان جميل بن معمر تحقيق د/ حسين نصار مكتبة الشباب.

- ديوان حسان بن ثابت تحقيق سيد حنفي حسنين ط الهيئة العامة للكتاب 1974. - ديوان الخطيئة تحقيق نعمان أمين طه ط الحلبي سنة 1985. - ديوان طرفة بن العبد ط بيروت 1969. - ديوان عروة بن الورد دار صادر بيروت. - ديوان عمر بن أبي ربيعة ط الهيئة العامة للكتاب 1978. - ديوان عنترة ط بيروت. - ديوان كعب بن زهير ط دار الكتب المصرية. - ديوان لبيد بن ربيعة دار صادر بيروت. - ديوان لقيط بن يعمر الإيادي تحقيق عبد المعين خان دار الأمانة بيروت 1971. - ديوان النابغة الذبياني تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعارف. - ديوان الهذليين ط دار الكتب المصرية. - شاعر الصعاليك د/ عبد الحليم حفني الطبعة النموذجية 1976. - شرح ديوان الحماسة للمرزوقي نشر أحمد أمين وعبد السلام هارون ط لجنة التأليف والترجمة والنشر. - شرح ديوان زهير بن أبي سلمى ط الهيئة المصرية للكتاب 1964. - شرح ديوان كعب بن زهير الدار القومية للطابعة والنشر 1965. - شرح المعلقات السبع للزوزني ط المكتبة التجارية 1971.

- شرح المفضليات للتبريزي على محمد البجاوي ط دار نهضة مصر. - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي د/ يوسف خليف ط دار المعارف 1978. - الشعراء وإنشاد الشعر الأستاذ علي الجندي ط دار المعارف 69. - الشعر الجاهلي د/ محمد أبو الأنوار مكتبة الشباب 1976. - الشعر الجاهلي د/ محمد عويس مكتبة الطليعة بأسيوط. - شعر عمرو بن معد يكرب جمعة وحققه مطاع الطرابيشي ط دمشق 1974. - شعر المتلمس الضبعي تحقيق حسن كامل الصيرفي ط معهد المخطوطات العربية 1970. - الشعر والشعراء تحقيق أحمد محمد شاكر ط الثالثة. - الصناعتين لأبي هلال العسكري تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ط عيسى البابي الحلبي. - طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي شرح محمود محمد شاكر ط المدني. - الطرائف الأدبية لعبد العزيز الميمني ط دار الكتب العلمية بيروت. - العصر الجاهلي د/ شوقي ضيف ط دار المعارف الطبعة السابعة. - العمدة لابن رشيق تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد دار الجيل بيروت ط الرابعة.

- الغيث المسجم في شرح لامية العجم صلاح الدين الصفدي دار الكتب العلمية بيروت 1975. - قطوف من ثمار الأدب د/ عبد السلام سرحان مطبعة الفجالة 1970. - الكامل للمبرد تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار نهضة مصر للطبع والنشر. - اللاميتان: لامية العرب ولامية العجم عبد المعين الملوحي ط وزارة الثقافة والإرشاد القومي بغداد. - المثل السائر لابن الأثير تحقيق د/ أحمد الحوفي، د/ بدوي طبانة نشر دار الرفاعي الرياض.

§1/1