دراسات لغوية في أمهات كتب اللغة

إبراهيم محمد أبو سكين

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله رب العالمين، نزل الكتاب بلسان عربي مبين، والصلاة والسلام على نبيه أفصح الخلق أجمعين. وبعد فهذه دراسة لغوية في أمهات كتب اللغة، الصاجبي والخصائص، والمزهر، دراسة موضوعية مبسطة محاولًا الإيجاز والاختصار قدر المستطاع. والله نسأل أن يسدد خطانا "وينير بصائرنا لنهتدي إلى خدمة العربية لغة القرآن". والله ولي التوفيق. المؤلف: أ. د/ إبراهيم محمد أبو سكين

الدراسات اللغوية العربية نشأتها وتدرجها

الدراسات اللغوية العربية نشأتها وتدرجها الدراسات اللغوية مدخل ... الدراسات اللغوية العربية نشأتها وتدرجها: الدراسات اللغوية: مفهوم الدراسات اللغوية قديمًا هو ذلك النشاط اللغوي التقعيدي Normative الذي يستهدف معرفة صحيح الكلام وجيده كتابة ونطقًا، ووضع "قواعد" تميز صحيح الكلام من خطئه، وجيده من رديئه، قواعد "متعلقة بهجاء اللغة و"نحوها" ومفرداتها و"بلاغتها" وما أشبه هذا، "قواعد" تعلم الناشئة صحة الكلام وجودته، وتتخذ مقياسًا للحكم على الصواب والخطأ، والجيد والرديء. وهو كذلك معرفة عدد كبير من اللغات، الحية أو القديمة، فضلًا عن التبحر في اللغة القومية، هذه المعرفة التي تسمى بالإنجليزية Polyglattisn وبالفرنسة Playglattisinal والتي ينظر الناس إلى صاحبها بعين الإكبار والتقدير.

والحق أن علم1 اللغة بالمفهوم الحديث ليس هذا ولا ذاك فعلم لا يدرس اللغة للكشف عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها الكلام، وعن الكيفية التي يحسن بها الكلام، ولتعليم هاتين الكيفيتين، إنما وظيفته دراسة اللغة ذاتها، بالكشف عن خواصها ومميزاتها، وتسجيل هذه الخواص والمميزات كما هي في صورة قواعد ونظم عامة، وليس معنى هذا أن تدريس اللغة بالطرق التقليدية لا يفيد من البحث اللغوي الحديث، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فهذا البحث اللغوي الحديث، قادر -بل قد يكون مما يفرضه الواجب عليه- أن يقدم للمشتغلين بتدريس اللغات توجيهات وإرشادات تيسر عليهم عملهم، وتصحح منه جوانب ووجوها، ويقدم له أصولًا خالية من النظرة الفلسفية والافتراضات الذهنية والتأويلات التعسفية.

_ 1 الدراسات اللغوية يطلق عليها بعض العلماء اسم "علم اللغة" وأبرزهم المرحوم د. محمود السعران في كتابه علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، انظر الوجيز في فقه اللغة ص10، والدكتور كمال بشر في كتابه دراسات في علم اللغة "القسم الأول" ص9.

ثم إن العالم اللغوي ليس من يتقن عددًا من اللغات فقد يجيد الإنسان لغات كثيرة ولا معرفة له بشيء عن "اللغة"، فعلم اللغة ليس معناه معرفة أكثر من لغة. فقد يكون الإنسان لغويًّا ناجحًا ومع ذلك لا يعرف إلا لغته القومية، فالدراسات اللغوية "علم" أما معرفة عدة لغات فهي صفة يتصف بها بعض الناس، وميزة من المميزات وهي واجبة في جوانب الدرس اللغوي كالمقارنة بين عدد من اللغات، وكالدراسة التطورية للغة من اللغات، ولكن هذه المعرفة وسيلة من وسائل اللغوي، وليس غاية من غاياته1. وفي موضع آخر يشرح الدكتور السعران قول دي سوسير أن علم اللغة يدرس اللغة "في ذاتها" فهو أنه يدرسها من حيث هي لغة، يدرسها كما هي، يدرسها كما تظهر فليس للباحث

_ 1 علم اللغة د. محمود السعران 12-15 بتصرف.

فيها أن يغير من طبيعتها، كما أنه ليس للباحث في موضوع أي علم من العلوم أن نغير من طبيعته، فليس له أن يقتصر في بحثه على جوانب من اللغة مستحسنًا إياها، وينحي جوانب أخرى استهجانًا لها، أو استخفافًا بها، أو لغرض في نفسه، أو لأي سبب آخر من الأسباب. وبما أن علم اللغة "يدرس اللغة" من أجل ذاتها "فمعناه أنه يدرسها لغرض نفسها، يدرسها دراسة موضوعية تستهدف الكشف عن حقيقتها، فليس من موضوع دراسته أن يحقق أغراضًا تربوية مثلًا، أو أية أغراض عملية أخرى. أنه يدرسها هدفًا إلى "ترقيتها" أو إلى تصحيح جوانب منها أو تعديل آخر، إن عمله مقصور على أن يصفها ويحللها بطريقة موضوعية1.

_ 1 علم اللغة د. السعران ص53-54.

ويهتم الدكتور السعران بموقف المتخصصين في المسائل اللغوية بصدد هذا العلم فيذكر أن معظم هؤلاء يفهمون منه أنه "الصرف أو النحو أو الاشتقاق وتمييز الكلام الفصيح من غير الفصيح، ومعرفة الشوارد النادرة وحواشي الكلام ومعرفة معاني الكلمات أو تأليف المعجمات أو معرفة اللغات المذمومة وما أشبه هذا1. وذلك كما جاء في فقه اللغة للثعالبي أو ما عرض له ابن جني في الخصائص أو ما جاء في المزهر للسيوطي. بل قد يذهب بعضهم إلى أبعد من هذا ويتوهم أن علم اللغة مقصور على البحث في الثروة اللفظية: الألفاظ المفردات من حيث جمعها، والتأمل والبحث في أصولها وفروعها، وما يطرأ عليها من تغيير أو تطور أصولها وفروعها، وما يطرأ عليها من تغيير أو تطور وكذلك خلط كثيرون بين علم اللغة وبين الفيلولوجيا. ومرجع هذا الخلط، ما أسند لعلماء الدراسات المقارنة من مسئولية تدريس الدرس في جامعاتنا، ومن هنا قالوا: إن الدراسات اللغوية معرفة عدد كبير من اللغات وذلك لسيطرة هذه الفكرة عليهم لما درجوا عليه من الدرس المقارن.

_ 1 المرجع السابق ص17.

دواعيها

دواعيها: قال أبو الطيب: واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التعلم الإعراب؛ لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، فقد روينا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: أرشدوا أخاكم فقد ضل، وقال أبو بكر: لِأَنْ أقرأ فأسقط أحب إلَيَّ من أن أقرأ فألحن1. وقال ياقوت: "مر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا: إنا قوم "متعلمين"، فأعرض مغضبًا وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد على من خطئكم في رميكم2.

_ 1 المزهر: ج2، ص396. 2 معجم الأدباء: "الفصل الأول - فضل الأدب" ج1، ص82.

وكتب كاتب لأبي موسى الأشعريّ إلى عمر فلحن فكتب إليه عمر: "إن أضرب كابك سوطًا واحدًا"1. وانتشرت جرثومة اللحن حتى أعدت الخاصة حتى صاروا يعدون من لا يلحن قال الأصمعيّ: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبيّ وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القرية والحجاج أفصحهم"2. وانتقلت جرثومة اللحن من الحاضرة إلى البادية قال الجاحظ: "قالوا وأول لحن سمُع بالبادية هذه عصاتي"3. وتحت تهديد خطر "ذيوع اللحن حاول العرب أن يحافظوا على لُغتهم نقية خالصة من الشوائب، وأن يقيموا حولها الأسوار، يقول الدكتور تمام حسان: "فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجًا لظاهرة كان يخشى منها على اللغة وعلى القرآن وهي التي

_ 1 المزهر ج2، ص397، وذكر ذلك المعنى في الخصائص ج2، ص8. 2 نشأة النحو الشيخ محمد الطنطاوي ص10. 3 المرجع السابق ص11.

سموها "ذيوع اللحن" وعلى الرغن من أن تسمية هذه الظاهرة المذكورة لا تشير إلا إلى الخطأ في ضبط أواخر الكلمات بعد إعطائها العلامات الإعرابية الملائمة أشعر بميل شديد إلى الزعم بأن الأخطاء اللغوية التي شاعت على ألسنة الموالي وأصابت عدواها ألسنة بعض العرب لم تكن مقصورة على هذا النوع من أنواع الأخطاء، فأكبر الظن أن هذا الذي سموه "لحنًا" كان يصدق على أخطاء صوتية كالذي يشير إليه مغزى تسمية اللغة العربية الفصحى "لغة الضاد" ويفصله ما يروى من نوادر الموالي كأبي عطاء السندي وسعد الزندخاني وغيرهما، كما كان يصدق على الخطأ الصرفي الذي يتمثل في تحريف بنية الصيغة في الإلحاق أو الزيادة على الخطأ النحوي الذي كان يتعدى بمجال العلامة الإعرابية أحيانًا إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرهما، وعلى الخطأ المعجمي الذي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها المعنى نفسه، ويصدق على جميع هذه الأنواع من الخطأ أنها أخطاء في المبنى

أولًا وأخيرًا ولو أدت في النهاية إلى خطأ في المعنى لم يكن نتيجة خطأ في القصد1. ويقول أحمد عبد الغفور عطار: "ومن الأسباب التي دعت إلى تأليف كتب اللغة والمعجمات كثرة الأمم ذات الألسنة غير العربية التي دخلت في الإسلام واتخذت العربية لغتها وخشي العلماء أن يدخل في لغة القرآن ما ليس من كلام العرب"2. كما وجدت ظاهرة أخرى لها خطرها في تاريخ اللغة العربية تلك هي مبدأ "تنقية3 اللغة العربية" الذي حمل راية المحافظة على خلوص اللغة، وقد برهن الأمويون على أنهم حماة المبادئ العربية القديمة. فقد روي أن عبد الملك "حكم 65-86هـ" كان يحذر أبناءه من اللحن فإن اللحن في منطلق الشريف أقبح من

_ 1 اللغة العربية مبناها ومعناها د. تمام حسان ص11، 12. 2 الصحاح ومدارس المعجمات ص62. 3 وهي "حركة التفكير في وضع قواعد تضبط اللغة وتعين على..... ملامتها" مدرسة البصرة النحوية ص10 د. عبد الرحمن السيد.

آثار الجدري في الوجه، وأقبح من الشق في ثوب نفيس. ويروى أن هذا الخليفة لم يكن يستعمل صيغًا ملحونة حتى في المزاح وأنه كان يقدر الدقائق اللغوية حق قدرها، فحينما غير الشاعر الخارجي أبو المنهال عتبان بن وصيلة بيته: "ومنَّا أميرُ المؤمنينَ شبيبُ" إلى "وَمِنَّا أميرَ المؤمنينَ شبيبُ". نال على هذا التغيير في الجواب استحسان الخليفة حتى أطلق سراحه ومما هو جدير بالذكر أن مذهب تنقية اللغة والمحافظة على فصاحتها تعدى العرب إلى طبقة الموالي الملحة في التسامي والتعالي والتي كانت في سبيل طموحها إلى محاكاة الطبقة السائدة فيما تفعل، تجاري هذه أيضًا في الناحية اللغوية وتحتضن حركة تنقية اللغة العربية بما في ذلك من إعلاء شأن اللغة البدوية الخالصة، وكلما أخذت سلامة اللغة تصير أمرًا

من أمور التربية والتعليم، قويت آمال غير العرب في أن يستبدلوا -بالصبر والاجتهاد- عربية فصحى من عربية اللهجات الدارجة في محيطهم وقديمًا تملك الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ وهو ابن أحد أسارى الحرب من مدينة ميسان، أزمة العربية بحيث كان رجال ضليعون، كأبي عمرو بن العلاء ورؤبة، لا يجدون غضاضة في أن يضعوه إلى جانب الحجاج وكان تلاميذه المجتهدون يكتبون عبارات أستاذهم، لا لما تحتويه من علم فحسب بل لصياغتها اللغوية كذلك وكثيرة هي الأخبار والروايات التي تطلب في وصف دقة إحساسه تجاه الأخطاء اللغوية1. واستتبع هذا المذهب الذي يرى أن العربية الفصحى هي العربية النقية من الشوائب التي لم تخالطها لغة أخرى، أنهم رأوا أن أفصح اللغات هي لغات البدو، البعيدين عن الاختلاط في أواسط البيداء، وإذن فالطريق

_ 1 العربية ليوهان فك ص26، 27، 31.

إلى الحكم على سلامة اللغة وفصاحتها ونقائها هو قياسها على لغة هؤلاء البدو، والسبيل إلى تعلم الفصحى هو معاشرتهم وقد حدث ذلك فعلًا، وقد واصل الخلفاء والكبراء ما اعتادوا عليه من تنشئة أبنائهم في البادية. "فهذا سليمان بن عبد الملك الذي كان يحسن الإشادة بقيمة الجمال اللغوي وذلك لأنه تأدب أدبًا رفيعًا، وكذلك كان أخوه مسلمة رفع الثقافة وكان يكره عمرو بن مسلم، أخا قتيبة بن مسلم؛ لأنه كان يلحن في كلامه، كما روى أنه كان يمقت السائلين الذين يلحنون في لغتهم"1. ولم يكن كل الناس قادرين على إيفاد أبنائهم إلى البادية فظهرت فئة من المربين الفصحاء يتولون تنشئتهم، منهم من اختص بأبناء شريف معين، ومنهم من فتح كتابًا أو مدرسة للتعليم، وأشهر هؤلاء المدربين، الضحاك بن مزاحم وعامر الشعبي مربيًا أولاد عبد الملك

_ 1 العربية ليوهان فك ص27.

ابن مروان ومحمد بن مسلم الزهري "مربي أبناء هشام بن عبد الملك"1. وظهرت فئة أخرى من العلماء لم يكن همها الأول التدريس بل العلم، من أمثال أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه، وأراد هؤلاء العلماء الاتصال باللغة في أنقى صورها فارتحلوا إلى البوادي التي تعيش فيها القبائل العربية الفصيحة التي لم تختلط بالأجانب، ونهلوا من معارفهم، ودونوا ما سمعوا، وأشهر هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد والكسائي. وسيبويه2 وتلاميذهم3. يضاف إلى ما سبق ظاهرة أدبية أثرت تأثيرًا كبيرًا في الدراسات اللغوية، إذ عرف عن بني أمية حبهم الشديد للأدب وخاصة معاوية وعبد الملك بن مروان، فقربوا إليهم الأدباء والعلماء وعقدوا لهم المجالس

_ 1 المعجم العربي نشأته وتطوره د. حسين نصار ص27. 2 انظر الكتاب ج1، ص111، 161، ج2، ص52. 3 المعجم العربي نشأته وتطوره ص29.

الخاصة، يعرضون للأمور الأدبية ويتبادلون فيها الآراء شارحين ناقدين، وحاول العلماء أن يهيئوا أنفسهم لإرضاء رغبات الخلفاء فجمعوا شعر الفحول والقبائل، ودونوها، وقد روي عن حماد الراوية أنه تأهب لمقابلة الخليفة الوليد بالنظر في "كتاب قريش وثقيف"؛ لأنه كان يعتقد أن الخليفة سائلة عن أشعار القبائل التي هو على صلة بها1. وكان السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية هو2 العناية بالقرآن الكريم وقراءته وإقرائه، فكانت العناية بالقرآن دافعًا دينيًا لطائفة القراء الذين أدركوا ضرورة الانتفاع بهذه الدراسة في ضبط القراءة وضبط أصولها، وتوضيح آيات القرآن فما اتصل بالقرآن من علوم كان أولها ظهورًا وما ابتعد عنه كان من آخرها وليس من شيء أكثر صلة به من محاولة فهمه بإدراك

_ 1 المرجع السابق ص30. 2 المعجم العربي نشأته وتطوره ص31، الخليل بن أحمد أعماله ومنهجه ص148، مدرسة البصرة النحوية ص7-9.

غريبه ومشكله، فتفسير غريب القرآن ومشكله أولى الحركات العلمية التي رآها العرب1. ويقول الدكتور السعران: "نشأت الدراسات اللغوية عند العرب خدمة للقرآن الكريم"2. وكان للحديث الشريف نصيبه في إظهار الدراسات اللغوية فقد اتجهت هذه الدراسات إلى العناية بغريب الحديث كما عنيت بغريب القرآن. وآخر الظواهر الجديرة بالتسجيل وكانت سببًا في نشأة الدراسات اللغوية لمعاصرتها الدراسات اللغوية ومدها إياها بالروافد ظاهرة التدوين العلمي، فقد نظم العلماء أنفسهم فرقًا كل فرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها3. اجتمعت هذه العوامل جميعًا فأثمرت الدراسات اللغوية.

_ 1 المعجم العربي نشأته وتطوره ص31، 32. 2 علم اللغة د, محمود السعران ص353. 3 المعجم العربي نشأته وتطوره ص32، 33.

نشأتها

نشأتها: بدأ العلماء إذا يضعون القواعد التي تضبط اللغة، والتي تعين على فهمها وآدائها للمعاني، والتي تيسر على الدارسين لها من غير أبنائها طرق تعلمها وإجادتها، بدءوا بالدراسة العميقة والملاحظة الدقيقة، والسماع من العرب الخلص والأخذ عنهم، إلا أن ذلك لم يتهيأ لهم دفعة واحدة وإنما بدأت الدراسة تضع الخطوط العامة لا الفروع الدقيقة غير أن الدافع الديني جعلهم يقبلون على هذا العلم ويفرعون له، ويعطونه من عنايتهم واهتمامهم ما أسرع في نموه، وما هيأ له أن يكتمل وينضج في فترة قصيرة. 1- فعني المسلمون منذ القرن الأول الهجرة بتدقيق الكتابة العربية وتقييد "الحروف الكتابية" بـ

"الشكل" صونا لكلام الله -عز وجل- عن أن يصيبه التحريف. 2- وفي هذا الوقت بدأت المحاولات وتوالت للكشف عن القواعد التي يسير عليها الكلام العربي، ولوضع هذه القواعد في قوالب تتخذ للتعليم. ويبرز في هذه المحاولات اسم أبي الأسود الدؤلي، ومن وليه من نحاة البصرة والكوفة إلى أن يأتي الخليل بن أحمد الفراهيدي. وللخليل شأن جليل في كثير من جوانب الدراسات اللغوية، فقد استخرج أوزان الشعر العربي وأحكام قوافيه، وخطا بالمحاولات النحوية والصرفية السابقة خطوات كبارًا تبدو آثارها في كتاب تلميذه سيبويه ووضع -أو الأرجح أنه أوحى بطريقة وضع- أول معجم شامل لمفردات العربية وهو المعروف بـ"العين" وقد شارك الخليل في وصف أصوات اللغة العربية ثم أتى تلميذه سيبويه بوصف لها أدق من وصفه وأكمل.

3- ثم كان كتاب سيبويه أقدم كتاب وصلنا في النحو العربي والذي اتخذ أساسًا لما وليه من دراسات نحوية1. ولقد امتزج النحو بالدراسات اللغوية، فقد كان مزيجًا من النحو والصرف واللغة والأدب وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية؛ لأن هذه الفروع كانت متداخلة آخذًا بعضها بحجز بعض لقرب الوشيجة بينها في الغرض والمقصد، فكان الأديب حينذاك نحويًّا صرفيًّا لغويًّا، والنحويّ أديبًا صرفيًّا وهكذا، وكان ذلك في الطور الأول: طور الوضع والتكوين وهو الذي بدأ بأبي الأسود وانتهى إلى أول عصر الخليل بن أحمد، ولقد أخذت هذه الفروع تمتاز بعضها من بعض في البحث والتدوين من أوائل الطور الثاني تدريجيًّا حتى اشتهر بعض العلماء بالنحو وأشير إلى آخر باللغة ودواليك2.

_ 1 علم اللغة د. محمود السعران ص353، 354. 2 نشأة النحو للشيخ محمد الطنطاوي ص27-30.

فكان البحث في النحو في الأدوار الأولى للثقافة العربية ممتزجًا باللغة والأدب، وكان كذلك يمتزج بعلم القراءات في معظم الأحوال، فكان كثير من العلماء تشمل ثقافتهم وبحوثهم هذه الفروع الأربعة ثم اقتضت طبيعة التدرج والتعمق في البحث أن تستقل هذه الفروع بعضها عن البعض الآخر. ويقول الشيخ محمد الطنطاوي: "نعم قد تقلص عن كتب النحو من أوائل هذا الطور -الطور الثاني- ما لا يتصل به هذا الاتصال الوثيق كمباحث اللغة والأدب والأخبار على أن الخليل وهو غرة جبين هذا الطور قد جمع اللغة والنحو فإنه ذكر في كتاب العين مقدارًا كبيرًا من النحو بجانب اللغة"1. 4- وكانت عناية علماء العربية بمفردات الكلام العربي -وكانوا يسمون هذا "علم اللغة"- عناية بالغة منذ القرم الأول للهجرة وظلت هذه العناية متواصلة،

_ 1 نشأة النحو ص31 بتصرف.

فكان جمع المفردات الخاصة بموضوع معين، ككتاب الشجر أو المطر إلخ، أو جمع المفردات الغريبة كغريب القرآن، وغريب الحديث، وحوشى الكلام أو جمع "الأضداد" أو التأليف في "الترادف" والاشتراك اللفظي1. وعني العرب من قديم ببيان الكلمات الأعجمية الأصل الدخيلة على الكلام العربي، ونصوا على ما في لغة القرآن الكريم من الأعجمي، ولهم في "المعرب" تصانيف كثيرة من أشهرها كتاب المعرب للجواليقي، ومن عنايتهم بمفردات اللغة تأليفهم في مصطلح العلوم والفنون2. ثم بلغ التأليف اللغوي القمة عندما صنف العلماء المعجمات التي تشمل أكبر عدد من مفردات اللغة على ترتيب خاص مصحوبة بشرح المعنى، وكان القرن

_ 1 علم اللغة د. محمود السعران ص356. 2 المرجع السابق ص356.

الأول للهجرة بداءة التأليف اللغوي، وفي القرن الثاني بدئ بتأليف المعجمات1. 5- وعني علماء العربية بالبحث في أسباب فصاحة "الكلمة" وبلاغة الكلام إلخ. وقد اتصلت البلاغة بالمنطق كما اتصل النحو به أيضًا ولذلك أصابها العقم لما غلبه عليها الاتجاه المنطقي الفلسفي2.

_ 1 الصحاح ومدارس المعجمات العربية ص69. 2 علم اللغة د. محمود السعران ص356-357.

مصادرها

مصادرها: للدراسة اللغوية مصادر عني النحاة البصريون بالأخذ عنها وجملة هذه المصادر هي: أ- القرآن1 الكريم فهو أصدق مرجع وأصح مصدر يرجع النحاة إليه في تقنين القواعد واستخراج الأصول. ب- الشعر الجاهلي والإسلامي، وقد استشهدوا بشعر جرير والفرزدق والعجاج ورؤبة وأبي النجم، وعنوا أيضًا ببشار بن برد فاستشهدون بشعره2. ويذهب السيوطي في الاقتراح إلى أن إبراهيم بن هرمة آخر من يحتج به3 فهم يستشهدون على وجه التقريب بأشعار المحدثين الذين عاشوا حتى منتصف القرن الثاني للهجرة. ج- فصحاء العرب، وهم سكان البادية الذين لم يتأثروا بلغات أجنبية وهم قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين4. وسأل الكسائي الخليل عن مصادر علمه فقال: من بوادر الحجاز ونجد وتهامة5.

_ 1 الاقتراح للسيوطي ص17. النشر ج1 ص9. 2 مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو نقلا عن خزانة الأدب. 3 الاقتراح ص32. 4 المرجع السابق ص23. 5 بغية الوعاة ج2 ص163.

د- الأمثال وما جرى مجراها من أساليب قصيرة حفظها الاستعمال وشاعت على الألسنة كقول حاتم الطائي حين كان أسيرًا في بني عنزة مكان الأسير الذي فداه بنفسه، ولطمته أمه فقال: "لو ذات سوار لطمتني"1 وقول العرب: "أشأم من براقش"2. أما الحديث فلم يجوز اللغويون والنحاة الأولون -كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد وسيبويه من البصريين والكسائي وهشام والفراء وغيرهم من الكوفيين- الاستشهاد به3. وجاءت مدرسة الكوفة وهي مدينة في نشأتها لأعمال البصريين الأولين ولا يعني ذلك أنهم مقلدون وناقلون، فقد برز في دراستهم اللغوية طابعهم العلمي الخاص، فغيروا في الأصول التي تلقوها وعدلوها،

_ 1 المنجد ص9 فرائد س ص1068. 2 المرجع السابق س ص1069. 3 الاقتراح ص20.

وكانت لهم زيادات فيها، بل لقد حاولوا إعادة النظر فيها، ورجعوا إلى مصادرها الأولى. فهذا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي سنة 189هـ يرحل إلى البوادي1 ويقضي فيها زمنا طويلًا، يسمع من أعرابها ويدون ما يسمع، بعد أن تلقى أصول الدراسة اللغوية عن الخليل بن أحمد، فلم يتقبل النتائج التي وصل إليها أستاذه وغيره، على أنها نتائج مقطوع بصحتها، وجملة مصادرهم هي: 1- الدراسات اللغوية البصرية: كما تلقوها عن عيسى بن عمر والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب. 2- لغات الأعراب التي اعتمد عليها البصريون: وهي لغات الأعراب بالبوادي، ولقد نقل البصريون واحتجوا بلغات "قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين

_ 1 نشأة النحو ص98-99، بغية الوعاة ج2 ص163.

عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم"1. 3- لغات أخرى أبى البصريون الاستشهاد بها: وهي لهجات عرب الأرياف، الذين وثقوا بهم، كأعراب سواد الكوفة من تميم وأسد، وأعراب سواد بغداد من أعراب الحليمات الذين قدموا بغداد وضربوا خيامهم في قطر بل "قرية من متنزهات بغداد اشتهرت باللهو والخمر". وجاء في بغية الوعاة "وعن الأصمعي: أخذ الكسائي اللغة عن أعراب من الحطمة ينزلون بقطر بل، فلما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه، وقال ابن

_ 1 الاقتراح للسيوطي ص22، 23.

درستويه: كان الكسائي يسمح الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه فأفسد بذلك النحو"1. وجاء في نشأة النحو نقلًا عن أخبار النحويين البصريين قال أبو زيد: قدم علينا الكسائي البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما وأخذ منهم نحوًا كثيرًا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحليمات فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله2. وقد اقتفى الكوفيون طريق الكسائي فعولوا على شعر الأعراب بعد أن امتزجوا وتأشبوا "اختلطوا" بالمتحضرين ولان جفاؤهم، ومن أجل هذا كان البصريون يفتخرون على الكوفيين، فيقول الرياشي البصري: "نحن نأخد اللغة عن حرشة الضباب وأكلة

_ 1 بغية الوعاة ج2 ص163، 164. 2 نشأة النحو الشيخ محمد الطنطاوي ص121.

اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكواميخ وأكلة الشواريز1. ولا يعني قبول الكوفيين لهجات قد رفضها البصريون، أنهم لم يكونوا يتشددون في قبول اللغات التي كانوا يعتمدون عليها في دراستهم اللغوية فقد استهجنوا لهجات كما جاء في قول الفراء: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغاتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ من ذلك: الكشكشة، والكسكسة، والعنعنة، والفخفحة، والوكم، والوهم، والعجعجة.. إلخ"2.

_ 1 نشأة النحو ص121. 2 المزهر ج1 ص221، 222.

4- الشعر العربي: سبق أن قلنا أن علماء اللغة الأقدمين استشهدوا بالشعر الجاهلي والإسلامي واحتجوا به، بل لقد تجاوزوا ذلك حتى استشهدوا بشعر كثير من المحدثين الذين وثقوا بفصاحتهم، وكان آخر من يحتج به عندهم إبراهيم بن هرمة "والذي توفي في النصف الثاني للهجرة"1. والشعر العربي كان أيضًا من مصادر الكوفيين جاهليه وإسلاميه ومحدثه فاحتجوا به وبنوا عليه قواعدهم ودراستهم اللغوية. بل لقد وافقوا البصريين في علمه بفضل الأوراق المطمورة من عهد النعمان بن المنذر نقل ابن جني عن حماد الراوية الكوفي "قال أمر النعمان فنسخت له أشاعر العرب في الطنوج "الكراريس" ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن عبيد الثقفي قيل له: إن تحت القصر كنزًا فاحتفره، فأخرج

_ 1 الاقتراح ص32.

تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"1. إلا أنه مما يؤخذ على البصريين والكوفيين عدم فصلهم بين الشعر والنثر في تقعيد القواعد، وخلطوا بين الشعر والنثر، فلقد قعدوا بعضهم قواعدهم على أبيات من الشعر، مع أن للشعر لغته الخاصة به يقتضيها الأسلوب الشعري من الخضوع للوزن والقافية، وينتج عن ذلك اضطراب النحاة في بعض أحكامهم. 5- القراءات: والقراءات مصدر مهم من مصادر النحو الكوفي، ولكن البصريين كانوا قد وقفوا منها موقفهم من سائر النصوص اللغوية وأخضعوها لأصولهم وأقيستهم، فما وافق منها أصولهم، ولو بالتأويل قبلوه، وما أباها رفضوا الاحتجاج به، ووصفوه بالشذوذ، كما رفضوا

_ 1 الخصائص ج1 ص387.

الاحتجاج بكثير من الروايات اللغوية، وعدوها شاذة تحفظ، ولا يقاس عليها"1. ويرجع اعتبار القراءات مصدرًا لغويًّا للكوفيين إلى: أن الكوفة كانت مهبط الصحابة، وأن مؤسس هذه المدرسة وأستاذهم إمام من أئمة القراءات وهو الكسائي، وأن طابع الكوفيين في دراستهم ديني ومن مظاهر هذا عنايتهم بالقرآن، وصلة الكسائي به واضحة كل الوضوح، وصلة الفراء به واضحة أيضًا فهو صاحب: "معاني القرآن" الذي يشهد بعنايته بالأعمال القرآنية"2. ومن المصادر اللغوية التي أهملها النحاة الأولون "الحديث"3. ولقد استمد العلماء ملاحظاتهم الصوتية من مصادر مختلفة فاستمدوها من المحاولات التي قاموا بها لوضع

_ 1 مدرسة الكوفة د. مهدي المخزومي ص337. 2 مدرسة الكوفة ص345-347. 3 الاقتراح ص19-20.

الكتابة العربية وللإصلاحات الكثيرة التي أدخلوها عليها، وذلك كالإصلاح المنسوب إلى أبي الأسود الدؤلي والخاص بوضع نقط تمثل الحركات القصيرة والتنوين، وكان ذلك قبل وضع "النحو" العربي، وكالإصلاحات التي تلت هذا والتي أضافت إلى الكتابة العربية علامات لخصائص صوتية أخرى. فلقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي "100-174هـ" طريقة أخرى للشكل وهي التي عليها الناس ذلك بأنه جعل للفتحة ألفا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، وللكسرة رأس ياء صغيرة تحته وللضمة واو صغيرة فوقه فإذا كان الحرف المحرك منونا كرر الحرف الصغير فكتب مرتين فوق الحرف أو تحته ووضع للتشديد رأس شين بغير نقط هكذا "س" وللسكون رأس خاء بلا نقط هكذا "ح" وللهمزة رأس عين "ع" ولألف الوصل رأس صاد هكذا "ص" توضع فوق ألف الوصل وللمد الواجب ميما صغيرة مع

جزء من الدال هكذا "مد" والذي تطور إلى "مد" فكان مجموع ما وضع الخليل ثماني علامات هي الفتحة والكسرة والضمة والشدة والسكون والهمزة ولو صلة المد وقد تفنن أتباع الخليل فأدخلوها بعض تعديلات على هذه العلامات حتى صارت كما هي الآن هكذا: ر، ر، ر، ر، ر، ر، ر، ر وكذلك استمد العلماء ملاحظاتهم الصوتية واللغوية من كتاب العين المنسوب للخليل بن أحمد الفراهيدي، وفي المقدمة تصنيف للأصوات العربية حسب موضع النطق، أحس الخليل أنه لا بد كي يضع معجمًا جامعًا لمفردات اللغة العربية، أن يرتب مواده، على أساس معين. وقد اختار أن ترتب "المواد" على أساس "الحروف" التي تتكون منها، واختار أن ترتب "الحروف" على أساس مخارجها فبدأ من أقصاها في الحلق متقدمًا إلى الشفتين.

يقول الشيخ1 الطنطاوي: إن كتاب العين هو الأساس لكتب اللغة، ثم كان سيبويه ذلك الكتاب الجامع الذي اتخذ مصدرًا للدراسات اللغوية بعد سيبويه. ولقد أورد سيبويه في كتابه تصنيفًا للأصوات العربية ووصفًا لها في باب الإدغام، وكان تصنيف سيبويه ووصفه للأصوات العربية دقيقان كل الدقة بالنسبة إلى عصره وقد تناقلتها التآليف العربية من بعده. ويرى الدكتور محمود السعران أن أخذ العرب أصول تصنيف الأصوات ووصفها عن الهنود أو أخذهم في الميادين اللغوية عامة أو تأثرهم بهم أمرًا محتملًا نظرًا، ويستند هذا الاحتمال على دعامتين: الأولى: لأن تصنيف الأصوات ووصفها ظهر عند العرب دفعة واحدة لا على سبيل التدرج، وظهر عند سيبويه كاملًا. الثانية: أن دوائر البحور الشعرية التي وضعها الخليل صاحب علم العروض نجد شبيهًا لها عند الهنود من قبل2.

_ 1 نشأة النحو: ص31. 2 علم اللغة د. محمود السعران ص98-99 بتصرف.

أهدافها

أهدافها: 1- كان الهدف الأول من أهداف الدراسات اللغوية هو خدمة القرآن الكريم؛ لأنهم كانوا يخشون أن ينتقل الفساد من اللغة إلى القرآن فيناله التحريف والتغيير وبذلك يضيع ذلك الدستور الإسلامي العظيم، ثم لا يؤمن أن يضيع معالم الدين بعد، بل إن مصيرها بعده محكوم عليها بالزوال والضياع. 2- وكان الهدف الثاني الحفاظ على اللغة العربية من أن يدخلها اللحن أو التحريف، فقد يظل القرآن سليمًا نقيًّا؛ لأنهم حريصون على سلامته، وقد يظل الحديث كذلك سليمًا نقيًّا، ولكن اللغة إذا أفسدت أو

حرفت أو بعدت عن أصلها الذي منه نبعث، وإذا تحولت بمرور الزمن واختلاف الألسن والبلاد شيئًا جديدًا، فإنها حنيئذ لن تعين على فهم القرآن والحديث؛ لأن لغتهما ستصبح شيئًا مستغلقًا مبهمًا وستكون على فرض حفظها، واستيعابها مجرد ألفاظ تلقى، وعبارات تقال دون أن يكون لها أثرها المرجو منها. 3- وكان الهدف الثالث وهو معرفة صحيح الكلام وجيده كتابة ونطقًا ووضع "قواعد" تميز صحيح الكلام من خطئه وجيده من رديئة، "قواعد" متعلقة بهجاء اللغة و"نحوها" ومفرداتها و"بلاغتها" وما أشبه هذا قواعد تعلم الناشئة صحة الكلام وجودته وتتخذ مقياسًا للحكم على الصواب والخطأ، والجيد والرديء. يقول الدكتور تمام حسان: "إن الغاية التي نشأ النحو العربي من أجلها هي ضبط اللغة وإيجاد الأداة التي تعصم اللاحنين من الخطأ"1.

_ 1 اللغة العربية مبناها ومعناها ص13.

4- الهدف الرابع فهم ما استغلق معناه من كتاب الله وحديث رسوله فكان تدوين غريب القرآن وأول من يعزى إليه كتاب غريب القرآن1 هو عبد الله بن عباس "المتوفى سنة 68هـ". ثم كان تدوين غريب الحديث ولم يبدأ بالتدوين في هذا الفرع من اللغة مع نظيره "غريب القرآن" بل تأخر كثيرًا، وإن كان من المحتمل أن للكلام فيهما بدأ في وقت واحد، فقد رأينا كتابًا في غريب القرآن ينسب إلى عبد الله بن عباس، ولكننا لم نجد كتابًا في غريب الحديث ينسب إلى هذا الحبر أو أحد معاصرية أو تلاميذه المباشرين، وإنما عزا أكثر الباحثين الكتاب الأول في غريب الحديث إلى أبي عبيدة2 معمر بن المثنى "المتوفى سنة 210هـ".

_ 1 المعجم العربي نشأته وتطوره ص39، الصحاح ومدارس المعجمات العربية ص67. 2 مفتاح السعادة ومصباح السيادة -طاش كبرى زادة ج1 ص105.

5- الهدف الخامس ضبط اللغة وحصرها، وكان هذا هدف الخليل بن أحمد عندما أخذ في تأليف معجم العين1. 6- الهدف السادس فهم المعاني الوضعية والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب والتمكن من التفنن في الكلام، فقد جاء في كشف الظنون: "واعلم أن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين؛ لأن منهم من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظًا ويطلب معناه، ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ، فلكل من الطريقين قد وضعوا كتبًا ليصل إلى مبتغاه". وذكر أن غاية علم اللغة الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب"2.

_ 1 المزهر ج1 ص66، ومعجم الأدباء لياقوت ج11 ص73. 2 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ط1 ج2 ص358، 359.

7- الهدف السابع -ويختص بدراسة الأصوات، وهو تجويد القرآن وترتيله ترتيلًا حسنًا، وتحصين اللغة العربية ضد أصوات طارئة حملتها عناصر أجنبية إلى البيئات العربية، وقد اختلطت هذه العناصر بالعرب وشاركوهم في حياتهم ولغتهم، ولم تستطع أن تتخلى عن الرواسب اللغوية المتبقية من لغاتها الأصلية التي نشأت عليها. هذه هي أهم أهداف الدراسة اللغوية بمعناها العام.

اتجاهاتها

اتجاهاتها: كانت الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسة اللغوية العربة العامل الرئيسي في تحديد اتجاه هذه الدراسات وفلسفة منهجها، ولقد سبق أن قلنا إن دراسة اللغة العربية الفصحى نشأة علاجًا لظاهرة كان يخشى منها على اللغة وعلى القرآن وهي التي سموها "ذيوع اللحن" وهذا اللحن كان يصدق على أخطاء صوتية كالذي يشير إليه مغزى تسمية اللغة العربية الفصحى "لغة الضاد" ويفصله ما يروي من نوادر الموالي كأبي عطاء السندي وسعد الزندخاني وغيرهما1. ومثل ذلك ما ورد عن عبيد الله بن زياد من أنه كان ينطق الهاء بدلًا من القاف ... "2. وما ورد عن المدنيين من نطقهم ممزوز بدلًا من مخصوص3، كما يصدق على الخطأ الصرفي في الذي يتمثل في تحريف بنية الصيغة أو في الإلحاق أو الزيادة وذلك كما ورد عن المدنيين من أنهم كانوا يقولون: اشترنج بلال من شطرنج4.

_ 1 اللغة العربية مبناها ومعناها ص12. 2 العربية ليوهان فك ص15. 3 المرجع السابق ص19. 4 المرجع السابق ص19.

وعلى الخطأ المعجمي كما ورد أيضًا عن المدنيين من أنهم كانوا يستعملون خربوز الفارسية "المعربة إلى خربر" بدلا من "بطيخ". وهذا الخطأ المعجمي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها نفس المعنى، وعلى الخطأ النحوي الذي كان يتعدى في بعض الأحوال مجال العلامة الإعرابية إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرهما. فمن ثم كانت اتجاهات الدراسات اللغوية إلى هذه النواحي: الدراسات الصوتية، والدراسات الصرفية، والدرسات المعجمية، والدراسات النحوية. ويصدق على هذه الأخطاء التي عالجتها الدراسات اللغوية أنها أخطاء في المبنى أولًا وأخيرًا ولو أدت في النهاية إلى خطأ في المعنى لم يكن نتيجة خطأ في القصد، ومن هنا اتسمت الدراسات اللغوية العربية بسمة الاتجاه إلى المبنى أساسًا، ولم يكن قصدها إلى المعنى إلا تبعًا لذلك وعلى استحياء.

وحين قامت دراسة "علم المعاني" في مرحلة متأخرة عن ذلك في تاريخ الثقافة العربية كانت طلائع القول في هذه الدراسة كما كانت في بداية دراسة النحو من قبلها تناولا للمبنى المستعمل على مستوى الجملة لكن لا على مستوى الجزء التحليلي كما في الصرف ولا على مستوى الباب المفرد كما في النحو، ومن هنا رأينا عبد القاهر في دلائل الإعجاز يتكلم في النظم والبناء والترتيب والتعليق كلها أمور تتصل بالتراكيب أكثر ممل تتصل بالمعاني المفردة1.

_ 1 اللغة العربية مبناها ومعناها ص12.

تشعبها

تشعبها: أنشأت الدراسات اللغوية مزيجًا من النحو والصرف واللغة والأدب والأصوات وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية؛ وذلك لأن هذه الفروع كانت متداخلة آخذًا بعضها بحجز بعض -كما قلنا- لقرب الصلة بينها في الغرض والهدف، فكان الأديب حينذاك لغويًّا صرفيًّا نحويًّا، والنحوي أديبًا لغويًّا صرفيًّا، ثم أخذت هذه الفروع تمتاز بعضها من بعض في البحث والتدوين من أوائل الطور الثاني الذي يبدأ من عهد الخليل بن أحمد وأبي جعفر الرؤاس إلى أول عصر المازني البصري وابن السكيت الكوفي، أخذت تمتاز بعضها عن بعض تدريجيًّا حتى اشتهر بعض العلماء بالنحو واشتهر آخرون باللغة وهكذا. وتقلص عن كتب النحو من أوائل هذا الطور ما لا يتصل به اتصالًا وثيقًا كمباحث اللغة والأدب والأخبار، على أن الخليل وهو غرة جبين هذا الطور قد جمع بين اللغة والنحو فإنه ذكر في كتاب العين الذي هو الأساس لكتب اللغة مقدارًا كبيرًا من النحو1. أما الصرف فلقد أخذ العلماء يعالجون مسائله استطرادًا وفي خلال دراستهم لمسائل النحو منذ أواخر القرن الأول الهجري، ثم أخذت مسائل الصرف تنفصل

_ 1 نشأة النحو الشيخ الطنطاوي ص30، 31.

شيئًا فشيئًا عن مسائل النحو وتدريس على حدة حتى تكون منها علم متميز. غير أن هذا العلم لم يستقل تمام الاستقلال عن النحو، فلا تزال طائفة كبيرة من مسائله ممتزجة بالنحو، ولم ينفك الباحثون إلى عهد قريب ينظرون إلى الشعبتين نظرتهما إلى علم واحد ويعالجون مسائلهما في مؤلفات واحدة، ولكن جرت عادة معظمهم أن يفرد لكل منهما أبوابًا على حدة1. وكان علم الأصوات في بدايته جزءًا من النحو، ثم انفصل عن النحو وسمي بعلم التجويد. يقول الدكتور مهدي المخزومي: كانت العناية بالقرآن الكريم وقراءته وإقرائه دافعًا لطائفة القراء الذين أدركوا ضرورة الانتفاع بهذه الدراسة في ضبط القراءة وضبط أصولها، فأخذوا هذه البحوث الخاصة بالأصوات وما بني عليها من بحوث التضعيف والإدغام

_ 1 علم اللغة علي عبد الواحد وافي ص63.

والمخالفة والإمالة والإبدال وأضافوا إليها أحكامًا ووضعوا لها مصطلحات جديدة، وكان لديهم مما أخذوه ومما استخرجوه علم جديد سموه علم التجويد. وإذا بحثت في أصول هذا العلم ومسائله عرفت أنها أصول ومسائل لا تخرج عن كونها في الأصوات ومخارجها وصفاتها وأحوالها المختلفة. يقول بركستراسر: "كان علم الأصوات في بدايته جزءًا من النحو ثم استعاره أهل الأداء والمقرئون وزادوا فيه تفصيلات كثيرة مأخوذة من القرآن الكريم"1. وهكذا انفصلت الدراسات الصوتية عن النحو التي كانت مبثوثة في كتاب سيبويه مختلطة بالنحو أخذها القراء للاستفادة منها في تلاوة القرآن وترتيله ترتيلًا حسنًا وتوسعوا فيها، وزادوا فيها أشياء جديدة اقتبسوها من القرآن والروايات التي كانوا يتناقلونها خلفًا عن سلف

_ 1 الخليل بن أحمد أعماله ومنهجه د. مهدي المخزومي ص148، 149.

وكانوا من هذا وذاك علمًا مستقلًا لا علاقة له بالنحو وسموه علم التجويد. وهكذا تفرعت الدراسات اللغوية إلى فروع مختلفة، يقول قائلهم معددًا علوم العربية: نحو وصرف عروض بعده لغة ... ثم اشتاق وقرض الشعر إنشاء كذا المعاني بيان خط قافية ... تاريخ، هذا لعلم العرب إحصاء يقول الدكتور كمال بشر: فهذه العلوم المذكورة تقابل فروع علم اللغة بالمعنى الحديث، بل تزيد عليها، فقرض الشعر بمعنى التعبير عما في النفس شعرًا، والإنشاء -ويبدو أن المقصود به كتابة الأدب نثرًا والتاريخ-كلها علوم لها مجالاتها الخاصة بها ولا يعرض لها علم اللغة الحديث في قليل أو كثير. أما أوزان الشعر وموسيقاه -وقد أشير إليها هنا بالعروض والقافية- وقد أصبحت محل اهتمام اللغويين المحدثين لارتباط أنماطها ونماذجها التي صيغت وفقًا لها

ببعض القوانين الصوتية العامة، وبخاصة تلك التي تحدد تكوين المقاطع وتركيبها في هذه اللغة. وعلم المعاني المشهور بضمه إلى علوم البلاغة أن هو إلا دراسة لغوية تدخل في إطار علم النحو بمعناه الدقيق، وقد نعته بعضهم "بالنحو العالي". وعلم البيان في بعض أبوابه أو معظمها يدخل في نطاق الدرس اللغوي الحديث، فالمجاز بأنواعه والكناية في بعض صورها يعرض لها علم الدلالة أو السيمانتيك على أساس أنها أمثلة لتعدد المعنى وتنوعه أو على أساس أنها صور للتغير الذي يصيب معاني الكلمات والعبارات، ويقصد بالمصطلح "لغة" في البيتين السابقين البحث في المفردات ودراستها وجمعها على نحو ما في المعجم والرسائل اللغوية، وهو بهذا المعنى يرادف المصطلح الآخر "متن اللغة" في أصل إطلاقه. أما "الاشتقاق" المذكور هنا فالمقصود به البحث في أصول الكلمات وما تفرع عنها، وربط هذه الفروع

بتلك الأصول من حيث اللفظ والمعنى معًا، على نحو ما يجري في تلك الأبواب المعروفة بالاشتقاق الكبير والاشتقاق الأكبر، وهي أبواب برع فيها جماعة من اللغويين نستطيع أن نطلق عليهم اسم "المدرسة الاشتقاقية" التي من راودها ابن دريد وابن فارس وابن جني، وهذا النوع هو الأساس لبحوث أوسع وأشمل، أطلق عليها أيضًا اسم آخر هو "فقه اللغة"1 وفقه اللغة وقرينه من اللغة يمثلان جوانب معينة من البحث يعتد بها علم اللغة الحديث. وليس المقصود "بالخط" في البيتين فن الخط، بمعنى تحسين الكتابة وتجويدها، وإنما المراد به الرسم والإملاء وكلاهما يمثل نقطة مهمة من نقاط المباحث الصوتية في العرف الحاضر.

_ 1 الذي أسماها هذا الاسم هو أحمد بن فارس المتوفى سنة 395هـ، حيث وضع عنوان كتابه "الصاحبي في فقه لغة وسنن العرب في كلامها انظر الوجيز في فقه اللغة لمحمد الأنطاكي ص36، ودراسات في فقه اللغة صبحي الصالح ص9، وعلم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة د. محمود حجازي ص7.

ويرى الدكتور كمال بشر أنه بالرغم من هذا الحصر الشامل أن فرعًا مهمًّا من فروع علم اللغة قد أهمل ذكره في البيتين السابقين ذلك الفرع هو علم الأصوات، ونرى كما يرى الدكتور بشر أن السبب في ذلك هو: 1- لم تخصص في القديم أعمال مستقلة للدراسات الصوتية، فهذا هو الخليل بن أحمد يعرض لها في مقدمة كتاب العين كمقدمة لعمله المعجمي، وهذا سيبويه يلحق دراساته الصوتية بآخر بحوثه اللغوية فصارت كما لو كانت شيئًا إضافيًّا أو تذييلا لجملة أعماله. 2- جاء على اللغويين وقت أهملوا فيه النظر في أصوات اللغة نظرًا جادًّا، وتركوا أمر هذه الدراسة إلى علماء التجويد والأداء القرآن، ظنًّا منهم أنها دراسة خاصة بهؤلاء القوم1.

_ 1 دراسات في علم اللغة د. كمال بشر ص16-18 بتصرف.

الصحابي في فقه اللغة لأبي فارس أحمد بن فارس

الصحابي في فقه اللغة لأبي فارس أحمد بن فارس ... الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس أحمد بن فارس: هو أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب القزويني، من أعلام اللغة العربية في القرن الرابع الهجري. ولد في أوائل القرن الرابع الهجري، وتوفي في الرِّي في شهر صفر سنة 395هـ ودفن بها. وولد بقرية "كرسف" أو "جياناباذ" وهما قريتان من رستاق الزهراء ولم يوجد دليل ثابت على أن ابن فارس من أصل عربي، ولذلك رجح بعض العلماء أنه كان فارسي الأصل؛ لأنه قضى معظم حياته في بلاد غير عربية وهي قزوين وهمذان والرِّي. أساتذته: كان ابن فارس نحويًّا على طريقة الكوفيين وقد تعلم العلم عن أبيه فارس بن زكريا سنة 369هـ وعن "أبي

الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان توفي سنة 345هـ وهو كثيرًا ما حدث ابن فارس في "الصاحبي" عنه. ومن أساتذته أيضًا علي بن عبد العزيز المكي توفي سنة 286هـ وأبو عبد الله أحمد بن طاهر المنجم توفي 360هـ وكان يقول عنه ابن فارس: "ما رأيت مثل أبي عبد الله أحمد بن طاهر. ولا رأى مثل نفسه". ومنهم أبو القاسم سليمان بن الطبراني توفي سنة 360هـ. تلامذته: تتلمذ على ابن فارس كثيرون نذكر منهم: ابن خالويه بالشام، وابن علاف بفارس، وأبو بكر الخوارزمي بخرسان وبديع الزمان الهمذاني بهمذان، والصاحب بن عباد بالرِّي. مكانته العلمية: لقد كان ابن فارس يتمتع بعقلية فذة، ومكانة مرموقة بين علماء عصره، ولقد ألف المجمل في اللغة، وهو مع اختصاره جمع شيئًا كثيرًا، والصاحبي في فقه اللغة، ومقاييس اللغة يعدا مفخرة من مفاخر التأليف اللغوي، وغير ذلك كثير.

الصحابي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "لماذا سمي بالصحابي"

الصحابي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "لماذا سمي بالصحابي" لماذا سمي بالصحابي ... الصحابي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: لماذا سمي بالصحابي؟: لقد أسماه ابن فارس بالصاحبي نسبة إلى الوزير الصاحب بن عباد؛ لأنه أودعه خزانته يقول ابن فارس: وإنما عنونته بهذا الاسم لأني لما ألفته أودعته خزانة "الصاحب" الجليل كافي الكفاة، عمر الله عراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره، واقتصر السيوطي على تسميته باسم "فقه اللغة" في أكثر من موضع من كتابه المزهر، وسماه البعض فقه العربية. ويعد ابن فارس أول من أطلق على الدراسات اللغوية اسم فقه اللغة1 بتسميته هذا الكتاب رغم أن العلماء قبله ألفوا في هذه البحوث كالأصمعي وابن السكيت وغيرهما.

_ 1 انظر الوجيز في فقه اللغة "محمد الأنطاكي ص36، ودراسات في فقه اللغة صبحي الصالح ص9 وعلم اللعة بين المناهج الحديثة د. محمود حجازي ص7.

مباحث الصحابي

مباحث الصحابي ... مباحث الصاحبي: إذا نظرنا في كتاب الصاحبي وجدنا أن ابن فارس قسم علم العربية إلى قسمين: 1- قسم فرعي وهو معرفة أسماء الأشياء وصفاتها كجمل وفرس وطويل وقصير وبعض الناس شغل بالفرع فلا يعرف غيره. 2- قسم أصلي: ومن مباحثه البحث في أولية اللغة ومنشئها، وتشمل مباحث علم النحو الصرف والبلاغة والتجويد وغيرها مما يساعد على فهم كتاب الله وسنة رسوله. يقول ابن فارس في مقدمة كتابه: "إن لعلم العرب أصلًا وفرعًا: أما الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا "رجل" و"فرس" و"طويل" و"قصير" وهذا هو

الذي يبدأ به عند التعليم. وأما الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوليتها ومنشئها، ثم على رسوم العرب في مخاطباتها، وما لها من الافتنان تحقيقًا ومجازًا. والناس في ذلك رجلان: رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معًا، وهذه هي الرتبة العليا؛ لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا؛ وذلك أن طالب العلم العلوي يكتفي من أسماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يضيره1 أن لا يعرف "الأشق"2 و"الأمق" وإن كان في علم ذلك زيادة فضل. ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعي بكثير من علم محكم الكتاب والسنة، لا تسمع قول الله جل ثناؤه {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ

_ 1 وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه؛ لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله جل ثناؤه شيئًا فيحوج إلى علمه ويقل مثله أيضًا في ألفاظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي السهلة العذبة. 2 الأشق: الطويل من الرجال والخيل. والشقق الطول والمؤنث شقاء والأمق الطويل عامة أو البالغ الطول في دقة.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 1 إلى آخر الآية؟ فسر هذه الآية في نطقها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشي من الكلام وإنما معرفته بغير ذلك مما لعل كتابنا هذا يأتي على أكثر بعون الله تعالى. والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن متوسمًا بالأدب لو سئل عن "الجزم"2 و"التسويد"3 في علاج النوق فتوقف أو عي به أو لم يعرفه لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائعًا؛ لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى، ولو قيل له: هل تتكلم العرب في النفي بما تتكلم به في الإثبات، ثم لم يعلمه لنقصه ذلك في شريعة الأدب عند أهل الأدب؛ لأن ذلك يردي دينه أو يجره لمأثم. كما أن متوسمًا بالنحو لو سئل عن قول القائل:

_ 1 من الآية رقم52 من سورة الأنعام. 2 الجزم: شيء يدخل في حياء الناقة لتحسبه ولدها فتر أمه. 3 سود الإبل تسويدًا إذا دق المسح "الكساء" البالي من شعر فداوى به أدبارها.

لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها فتوقف أو فكر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هينًا، لكن لو قيل له مكان، لهنك "ما أصل القسم، وحكم حروفه وما الحروف الخمسة المشبهة بالأفعال التي كون الاسم بعدها منصوبًا وخبره مرفوعًا فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشام صناعة النحو قط. فهذا الفصل بين الأمرين. والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف العلماء المتقدمين -رضي الله عنهم- وجزاهم عنا أفضل الجزاء وإنما لنا فيه اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق1. وكتاب الصاحبي يضم مباحث عدة: أ- بعضها يهم الباحث في فقه اللغة وهذه المباحث هي التي ابتدأ بها الكتاب. كالكلام على نشأة

_ 1 الصاحبي. لابن فارس ص3-5.

اللغة وبيان أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها، وأنه لا يحيط بها إلا نبي، والكلام على لغات العرب المختلفة. وبيان فصيحها ومذمومها، ومظاهر اختلافها، وبيان أن اللغة العربية قياس وتطور اللغة بمجيء الإسلام، وغير ذلك من المباحث المهمة التي لا غنى عنها لدارس فقه اللغة. ب- أما بعضها الآخر فمباحث نحوية وصرفية وصوتية وبلاغية.

نشأة اللغة وتطورها

نشأة اللغة وتطورها مدخل ... نشأة اللغة وتطورها: لم يحظ أي موضوع لغوي بالنظر فيه، والكتابة عنه. واختلاف المذاهب فيه مثل ما حظى به هذا الموضوع ومع هذا فلم يصل الباحثون فيه إلى رأي سديد يقتنع به الباحث، وسنذكر أولًا رأي ابن فارس في هذا الموضوع يقول ابن فارس: باب القول على لغة العرب أتوقيف أم اصطلاح؟ أقول إن لغة العرب توقيف ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء. وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين. والذي نذهب إليه

_ 1 من الآية رقم 31 من سورة البقرة.

في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك ما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهن أو عرضها" فلما قال: "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة؛ لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن" قيل له: إنما مثال ذلك والله أعلم؛ لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فطلب ما يعقل، وهي سنة من سنن -العرب، أعني "باب التغليب". وذلك كقوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 1 فقال: "منهم" تغليبًا لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم. فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحسام وعضب إلى غير ذلك من قوله توقيف حتى لا يكون شيء منه مصطلحًا عليه؟ قيل له كذلك تقول: وعلى صحة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم أولى منافي الاحتجاج لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.

_ 1 من الآية رقم 45 من سورة النور.

رأي ابن فارس في تطور اللغة

رأي ابن فارس في تطور اللغة: يقول ابن فارس: ولعل ظانا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد. وليس الأمر كذا، بل وقف الله -عز وجل- آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم علم من بعد آدم عليه السلام من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبيًّا نبيًّا ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فآتاه الله -عز وجل- من ذلك ما لم يؤته أحدًا قبله،

تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ثم قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن تعمل اليوم لذلك متعمل وجد من نفاذ العلم من ينفيه ويرده. ولقد بلغنا عن "أبي الأسود" أن امرأ كلمه ببعض ما أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هذه لغة لم تبلغك" فقال له: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم يبلغني "فعرفه بلطف أن الذي تكلم به مختلف. وخلة أخرى أنه يبلغنا أن قومًا من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم. وقد كان في الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وهم البلغاء والفصحاء، من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به. وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم.

ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلا بإنقضائه ولا تزال إلا بزواله وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب1. فابن فارس يرى أن اللغة توقيفية من عند الله علمها لآدم عن طريق الوحي أو الإلهام بأن علمه الله عز وجل ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، ثم علم بعد آدم من الأنبياء صلوات الله عليهم نبيا نبيًا ما شاء الله أن يعلمون حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فآتاه الله من ذلك ما لم يؤته لأحد قبله زيادة على ما أحسنه من اللغة المتقدمة وتكملة له. ثم قر الأمر قراره فلم نعلم لغة وجدت بعد ذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت، وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء وعلى رأسها الأب فرانسو لامي المتوفى عام 1711م في كتابة "فن الكلام"2.

_ 1 الصاحبي في فقه اللغة ص6، 7، 8، 9. 2 علم اللغة د. علي عبد الواحد وافي ص89.

أدلة القائلين بالتوقيف

أدلة القائلين بالتوقيف الأدلة النقلية ... أدلة القائلين بالتوقيف: يعتمد القائلون بالتوقيف على أدلة نقلية من القرآن الكريم والكتب المقدسة وأخرى عقلية ونسوقها إليك فيما يأتي: الأدلة النقلية: 1- قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 ويعتمدون كما سبق في قول ابن فارس على تفسير ابن عباس الذي يفسر الأسماء بأنها أسماء كلها من دابة وأرض وسهل وجبل وحيوان. 2- قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 2 والألسنة اللحمانية

_ 1 من الآية رقم 31 من سورة البقرة. 2 من الآية رقم 22 من سورة الروم.

غير مرادة لعدم اختلافها؛ ولأن بدائع الصنع في غيرها أكثر، فالمراد منها اللغات. 3- قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} 1 فذم قومًا في إطلاقهم أسماء غير توقيفية، وذلك يقتضي كون البواقي توقيفية2. وهذه الأدلة السابقة يستدل بها أصحاب هذا الرأي من المسلمين. 4- أما علماء اليهود والنصارى فيستدلون على هذا الرأي بما ورد في الفقرتين التاسعة عشرة والعشرين من الفصل الأول من سفر التكوين وهما يدلان على أن الله تعالى بعد أن خلق الحيوانات والطيور والدواب عرضها على آدم ليرى كيف يسميها فوضع أسماء لهذه المخلوقات.

_ 1 من الآية رقم 23 من سورة النجم. 2 انظر: هذه الأدلة في المزهر ج1 ص17، 18.

الأدلة العقلية

الأدلة العقلية: 1- إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة العرب كما سبق في قول ابن فارس ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحًا لم يكن العرب في الاحتجاج بأقوالهم بأولى منافي الاحتجاج لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق. ولم يقل أحد من العلماء بهذه المساواة وهذا يدل على أن اللغة التي وصلت إلينا توقيفية ليس لنا أن نغير أو نبدل فيها. 2- ما روى عن أبي الأسود -كما سبق في قول ابن فارس- أن امرأ كلمه ببعض ما أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هذه لغة لم تبلغك" فقال له: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم يبلغني فعرفه بلطف أن الذي يتكلم به مختلق مخترع. 3- ما سبق من قول ابن فارس: أنه لم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على

تسمة شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم. وقد كان في الصحابة -رضي الله عنهم- من البلغاء والفصحاء، وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم. وهذا يدل على أن اللغة توقيف من صنع الله وأنه لا يد للإنسان فيه. 4- لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة يعود إليه الكلام، ويلزم إما الدور والتسلسل في الأوضاع وهو محال، فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف1.

_ 1 انظر: المزهر ج1 ص18.

مناقشة الأدلة

مناقشة الأدلة: يمكن أن نقول في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} يحتمل أن تكون علم بمعنى أقدر أي أن الله سبحانه وتعالى أقدر آدم على النطق بهذه الأسماء، وجعل فيه القدرة على إيجادها بنفسه ويمكن أن يكون معناه ألهم كما في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} 1 الآية والدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال. ومع اختلاف المفسرين في معنى "الأسماء" نرى ابن فارس ومن لف لفه يتمسكون بتفسير ابن عباس. فإن اعترض عليهم معترض بأن الضمير في عرضهم للعاقل ولو كان الأمر كما تدعون لقال عرضهن أو عرضها ردوا عليه بأن ذلك من باب التغليب ونظير ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فقال منهم فغلب العاقل على غير العاقل، وما ذكر من أن اللسان المراد منه اللغة نقول: بأن مجاز يعارضه مجازات أخرى كأن يكون المراد مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت الترجيح وذم الله القوم؛ لأنهم سموا

_ 1 من الآية رقم 80 من سورة الأنبياء. 2 من الآية رقم 45 من سورة النور.

الأصنام آلهة واعتقدوها كذلك1 ونقول: بأن الاصطلاح لا يستدعي تقدم اصطلاح آخر بدليل تعليم الوالدين الطفل دون سابقة اصطلاح هناك، أما ما ورد بسفر التكوين من أن الله بعد أن خلق الحيوانات والطيور والدواب عرضها على آدم ليرى كيف يسميها فوضع آدم أسماء لهذه المخلوقات فيرد عليه بعض الباحثين بقوله: إن هذه القصة تحوي نوعًا من السذاجة وفيها أيضًا شيء من الطرافة ومن البعيد أن نتصور أن الله أحضر هذه الحيوانات وهذه الطيور أمام آدم كما يحضرها شخص لشخص آخر كما هو ظاهر القصة، ثم تساءل كيف حصلت هذه التسمية لكل هذه الحيوانات وتلك الطيور في مشهد قصير بهذه الصورة التي تروى بها القصة؟ "1. ولقد أنكر بعض الباحثين مذهب التوقيف بناء على تفسير أصحابه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بتعليم الله سبحانه وتعالى آدم بطريق مباشر أسماء جميع

_ 1 ويمكن أن يقال: لو كان الذم منصبًّا على العبادة لقال عبدتموها. 2 قضايا لغوية د. كمال بشر ص113، 114.

الأشياء المحيطة به عن قرب أو عن بعد والموجودة في عصره والتي ستوجد في العصور المقبلة ويعللون سبب هذا الإنكار بقولهم: قد يوافق العقل أن الله علم آدم بالقوة أو بالفعل أسماء ما يحيط به من أشياء وما كان قريبًا منه، ولكن من الصعب بل من المستحيل أن يوافق على أنه علمه أسماء ما ليس محيطًا به. وما كان بعيدًا عنه إذا ما الفائدة المترتبة على هذا التعليم وما الهدف منه؟ ثم لنا أن نتساءل هل يستطيع آدم أن يحيط بأسماء كل الأشياء حاضرها ومستقبلها؟ الجواب أظنه بالنفي فآدم بشر عادي له مقدرة محدودة وإمكانات معينة1. وهذا لا يخالف ما ذهب إليه ابن فارس فلقد ذهب ابن فارس إلى أن الله علم آدم ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله.

_ 1 قضايا لغوية د. كمال بشر ص135، 136 بتصرف.

رأي ابن فارس في تطور اللغة

رأي ابن فارس في تطور اللغة: فابن فارس يرى أن اللغة لم تأت دفعة واحدة وفي زمان واحد بل يذهب إلى أن اللغة في تطورها واكتمالها كانت توقيفية أيضًا فيقول: ثم علم بعد آدم -عليه السلام- من عرب الأنبياء -صلوات الله عليهم- نبيًّا نبيًّا ما شاء أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- فأتاه الله -جل وعز- من ذلك ما لم يؤته أحدًا قبله تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ثم قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت فإن تعمل اليوم لذلك متعمل وجد من نقاد العلم من ينفيه ويرده1 وهذا يعطينا صورة عن تصور ابن فارس لنشأة اللغة وتطورها، فاللغة نشأت عنده مع الإنسان الأول وأنها نالت الرعاية عبر السنين حتى وصلت إلى أوج عظمتها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الصاحبي ص8.

باب الأسباب الإسلامية

باب الأسباب الإسلامية مدخل ... باب الأسباب الإسلامية: إن ما يصيب الكائنات من تبدل وتحول قد يصيب أيضًا الألفاظ فتتغير من ناحية معناها، فقد تنتقل الكلمة من معنى إلى معنى آخر أو تضيف إلى معناها معنى آخر جديدًا دون أن تترك المعنى الأول فتتعدد المعاني التي تدل عليها الكلمة ولقد عقد ابن فارس باب وضح فيه هذا التغيير الذي يصيب بعض الكلمات سماه باب الأسباب الإسلامية يقول فيه: كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت فعفى الآخر الأول، وشغل القوم، بعد المغاورات والتجارات وتطلب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد

والمعاقرة والمياسرة بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتفقه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام. فصار الذي نشأ عليه آباؤهم ونشئوا عليه كأن لم يكن وحتى تكلموا في دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دون وحفظ حتى الآن. إلى أن قال: "فكان مما جاء في الإسلام -ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافًا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا، وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسلام الشيء ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر. فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما

أظهروه وكان الأصل من نافقاء اليربوع. ولم يعرفوا في الفسق إلا قولهم: "فسقت الرطبة" إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأن الفسق الإفحاش في الخروج عن طاعة الله جل ثناؤه. ومما جاء في الشرع -الصلاة وأصله في لغتهم الدعاء. وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيئة فقالوا: أو درة صدفية غواصها ... بهج متى برها يهل ويسجد1 وقال الأعشى: يراوح من صلوات المليـ ... ـك طورًا سجودًا أو طورًا جؤارا2

_ 1 البيت للنابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية وهو أحد شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي وأحد الثلاثة المقدمين وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة وكان للنابغة مكانة عظيمة عند النعمان بن المنذر ومن ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته "المتجردة" يوما وقد سقط "خمارها" فاستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لضخامتها. فقال قصيدته التي منها هذا البيت والتي مطلعها: أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد فهل يزود 2 هو ميمونة بن قيس بن جندل بن بكر بن وائل من ربيعة وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم.

والذي عرفوه منه أيضًا ما أخبرنا به علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال. قال: "أبو عمرو" أسجد الرجال: طأطأ رأسه وانحنى "قول حميد بن ثور"1: فضول أزمتها أسجدت ... سجود النصارى لأربابها وأنشد: فقلن له: أسجد لليلى فأسجدا2. يعني البعير إذا طأطأ رأسه لتركبه. وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت والتحريم للصلاة والتحليل منها. وكذلك الصيام أصله عندهم الإمساك ويقول شاعرهم: خيل صيام وأخرى غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما3

_ 1 هو حميد بن ثور الهلالي العامري العبسي شاعر صحابي. 2 شطر بيت لأبي عبيد. 3 هذا البيت للنابغة الذبياني.

تم زادت الشريعة النية، وحظرت الأكل والمباشرة وغير ذلك من شرائع الصوم. وكذلك الحج، لم يكن عندهم فيه غير القصد، وسبر الجراح. ومن ذلك قولهم: وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا1 ثم زادت الشريعة ما زادت من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزكاة، لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء. وزاد الشرع ما زاده فيها مما لا وجه لإطالة الباب بذكره. وعلى هذا سائر ما تركنا ذكره من العمرة والجهاد وسائر أبواب الفقه فالوجه في هذا إذا سئل الإنسان عنه أن يقول في الصلاة اسمان لغوي وشرعي ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاء الإسلام به، وهو قياس

_ 1 نسب هذا البيت للمخبل السعدي القريعي التميمي، وهو شاعر مخضرم.

ما تركناه ذكره من سائر العلوم كالنحو والعروض والشعر: كل ذلك له اسمان لغوي وصناعي1. فانتشار الدين الإسلام أدى إلى تطور لغوي فماتت ألفاظ، وحيت أخرى وتبدلت معاني بعض الألفاظ وهي التي كان لها معنى واستعيرت لمعنى جديد، فألفاظ الإيمان والكفر والنفاق والفسق والصلاة والصوم والزكاة والجهاد والتوبة والكفارة والتيمم والتقوى والدنيا والآخرة والحلال والحرام ظهرت بمعانيها الجديدة بظهور الإسلام. ومن الأسماء التي كانت فزالت بزوال معانيها من ذلك قولهم: المرباع والنشيطة والفضول والإتاوة، والمكس، والحلوان، وأنعم صباحًا وأنعم ظلامًا وقولهم للملك أبيت اللعن2. ولقد عقد ابن فارس في كتابه الصاحبي بابًا بيَّن فيه وجوه اختلاف اللهجات العربية نسب فيه بعض اللهجات إلى أصحابها وترك الباقي دون نسبه. وسمي هذا الباب

_ 1 الصاحبي ص78-86. 2 انظر: الصحابي ص102-103.

"باب القول في اختلاف لغات العرب" يقول فيه: اختلاف لغات العرب من وجوه أحدها: الاختلاف في الحركات كقولنا "نستعين" و"نستعين" بفتح النون وكسرها. قال "الفراء" هي مفتوحة في لغة قريش وأسد وغيرهم يقولونها بكسر النون1. ونسب سيبويه الفتح لأهل الحجاز، والكسر لجميع العرب غير أهل الحجاز2 وكسر حروف المضارعة هذا يسمى تلتلة بهراء، فبهراء كانت تكسر حروف المضارعة، وسرت عدوى كسر حروف المضارعة من بهراء إلى الرعب قاطبة ما عدا الحجاز -وترى في العامية المصرية ما يشبه تلتلة بهراء حيث تنطق العامة بدلًا من "تقوم. تشرب. تجري" بفتح حروف المضارعة تقوم بضم التاء، تشرب تجري، بكسر التاء فيهما، فالفتحة قد استبدل بها الضمة أو الكسرة.

_ 1 الصاحبي. 2 الكتاب ج2 ص256.

ويقول ابن فارس "والوجه الآخر -الاختلاف في الحركة والسكون مثل قولهم: "معكم" و"معكم" أنشد الفراء: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغاد1 فالمشهور في "مع" البناء على الفتح قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} 2 ولكن غنيم وربيعة تبنيها على السكون. ويقول ابن فارس "ووجه آخر وهو الاختلاف في إبدال الحروف نحو "أولئك و"أولالك" أنشد الفراء: ألا لك قومي لم يكونوا أشابه ... وهل يعظ الضليل إلا ألالكا3

_ 1 الصاحبي ص28. 2 من الآية رقم 42 من سورة هود. 3 نفس المرجع السابق.

فأسد وربيعة وقيس يلحقون لام البعد لاسم الإشارة الذي للمفرد والجمع في حال القصر، أما التميميون فلا يلحقون لام البعيد لاسم الإشارة مطلقًا. ويقول ابن فارس ومنها قولهم: "أن زيدًا" و"عن زيدًا"1 وتسمى عنعنة تميم وهي قلب الهمزة المفتوحة المبدوء بها عينا نحو عن في أن تقول عن عبد الله قائم، وتقول: سمعت عن فلانا قال كذا. تريد "أن" يقول ابن فارس في موضع آخر أما "العنعنة" التي تذكر عن "تميم" -فقلبهم الهمزة في بعض كلامهم عينًا. يقولون: "سمعت عن فلانًا قال كذا يريدون أن".... قال ذو الرمة: أعن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم أراد أن فجعل مكان الهمزة عينًا2

_ 1 الصاحبي ص28. 2 الصاحبي ص28.

ويقول ابن فارس: ومن ذلك -الاختلاف في الهمز والتليين نحو "مستهزئون" و"مستهزون"1 وهذا التسهيل نوع من أنواع التخفيف وهو لغة قريش وأكثر الحجازيين2 ويقول ابن فارس: ومنه الاختلاف في التقديم والتأخير نحو "ساعقة" و"صاقعة"3 فقد استعمل الحجازيون صاعقة وصواعق واستعمل التميميون صاعقة وصواقع قال شاعرهم: ألم تر أن المجرمين أصابهم ... صواقع لا بل هن فوق الصواقع وقرأ الحسن قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} 4 "من الصواقع". ويمضي ابن فارس قائلًا: ومنها الاختلاف في الحذف والإثبات نحو استحييت و"استحيت" و"صددت" و"أصددت".

_ 1 المرجع السابق. 2 شرح الشافية ج3 القسم الأول ص32. 3 الصاحبي ص28. 4 من الآية رقم 19 من سورة البقرة.

ومنها الاختلاف في الحرف الصحيح يبدل حرفًا معتلا نحو "أما زيد" و"أيما زيد". ومنها الاختلاف في الإمالة والتفخيم في مثل "قضى" و"رمى" فبعضهم يفخم وبعضهم يميل1. والإمالة ظاهرة من ظواهر المماثلة وتعني أن صوتًا من الأصوات في كلمة أو ما يشبه الكلمة أثر في صوت آخر في نفس الكلمة فجعل نطقه قريبًا من نطقه، أي جعل نطقه مماثلًا لنطقه ولقد عرفها القدماء فقالوا هي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء. ويقابل الإمالة الفتح وهو عبارة عن فتح القارئ لفيه بلفظ الحرف وينقسم إلى فتح شديد2 وفتح متوسط. والعرب مختلفون في انتهاج طريق الإمالة فمنهم من أمال وسلك طريق الإمالة وأشهر هذه القبائل تميم

_ 1 الصاحبي ص29. 2 الفتح الشديد هو نهاية فتح الإنسان لفيه بذلك الحرف وهو معدوم في لغة العرب وموجود في لفظ عجم الفرسي ولا سيما أهل خراسان والفتح المتوسط هو ما بين الفتح الشديد والإمالة المتوسطة وهو الذي يستعمله أصحاب الفن من القراء.

وأسد وقيس وعامة أهل نجد، وهذه القبائل هي التي تتوطن وسط الجزيرة وشرقيها، ومنهم من انتهج طريق الفتح وهم أهل الحجاز. ويقول ابن فارس: ومنها الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم، فيقول: "اشتروا الضلالة" ومنها اختلاف في التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول: "هذه البقر" ومنهم من يقول: "هذا البقر" و"هذه النخيل" و"هذا النخيل". ومنها الاختلاف في الإدغام نحو "مهتدون" و"مهدون" ومنها الاختلاف على الإعراب نحو "ما زيد قاما" "ما زيد" قائم فالحجازيون يجعلون الاسم الثاني بعد "ما" النافية وهو خبرها منصوبا، أما التميميون فيجعلون هذا الاسم مرفوعا، يقول سيبويه هذا باب ما أجرى مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز ثم يصير إلى أصله وذلك الحرف "ما" تقول ما عبد الله

أخاك وما زيد منطلقًا، وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وكهل وهو القياس؛ لأنها ليست بفعل وليس ما كليس ولا يكون فيها إضمار وأما أهل الحجاز فيشبهونها بليس إذ كان معناها كمعناها ... ومثل ذلك قوله عز وجل: {مَا هَذَا بَشَرًا} في لغة أهل الحجاز، وبنو تميم يرفعونها إلا من عرف كيف هي في المصحف1. ومن الاختلاف في الإعراب قول بني الحارث بن كعب "إن هذان" في "إن هذين" يقول ابن فارس: و"إن هذين" و"أن هذان" وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب يقولون لكل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ذلك. وينشدون: تزود منا بين أذناه ضربه ... دعته إلى هابي التراب عقيم ويضيف ابن فارس موضحًا ومعللا فيقول: وذهب بعض أهل العلم أن الإعراب يقتضي أن يقال: "إن

_ 1 كتاب سيبويه ج1 ص28.

هذان" وقال: وذلك أن "هذا" اسم منهوك، ونهكه أنه على حرفين أحدهما حرف علة وهي "الألف" "وهما" كلمة تنبيه ليست من الاسم في شيء فلما ثنى احتيج إلى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إلى حذف إحداهما فقالوا: إن حذفنا الألف الأصلية بقي الاسم على حرف واحد وإن أسقطنا ألف التثنية كان في النون منها عوض ودلالة على معنى التثنية فحذفوا ألف التثنية. فلما كانت الألف الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إلى إعراب التثنية لم يغيروا الألف عن صورتها؛ لأن الإعراب واختلافه في التثنية والجمع إنما يقع على الحرف الذي هو علامة التثنية والجمع فتركوها على حالها في النصب والخفض قال: ومما يدل على هذا المذهب قوله جل ثناؤه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} 1 ولم تحذف النون -وقد أضيف- لأنه لو حذفت النون

_ 1 من الآية رقم 32 من سورة القصص.

لذهب معنى التثنية أصلًا؛ لأنه لم تكن للتثنية ههنا علامة إلا النون وحدها فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة التثنية. ثم يضيف ابن فارس قائلًا: ومنها الاختلاف في صورة الجمع نحو "أسرى" و"أسارى" ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو "يأمرُكم" "يأمرْكم" وعفى له "عفي له". ومنها -الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل "هذه أمة" و"هذه أمت".. ويقولون في طلحة في الوقف "طلحت"، وفي مسلمة "مسلمت" يقول سيبويه: وزعم أبو الخطاب أن ناسًا من العرب يقولون في الوقف "طلحت" كما قالوا في تاء الجميع قولًا واحدًا في الوقف والوصل1.

_ 1 كتاب سيبويه ج2 ص281.

ويقول ابن فارس ومنها الاختلاف في الزيادة نحو "أنظر" و"أنظور" أنشد الفراء: الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق -إلى جيراننا- صور وأننى حيث ما يثني الهوى بصرى ... -من حيث ما سلكوا- أدنوفأ نظور وكل هذه اللغات مسماة منسوبة إلى أصحابها، لكن هذا موضع اختصار وهي وإن كانت لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كل من الاختلاف -اختلاف التضاد وذلك قول "حمير" للقائم "ثب" أي اقعد. ويعقد ابن فارس باب يوضح فيه اللهجات المذمومة يقول فيه: أما العنعنة التي تذكر عن تميم فقلبهم الهمزة في بعض كلامهم عينا يقولون: "سمعت عن فلانًا قال كذا" "يريدون" أن "وروى في حديث قيلة: "تحسب عني

نائمة "قال" أبو عبيد أرادت تحسب أني، وهذه لغة تميم قال "ذو الرمة": أعن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم أراد أن تجعل مكان الهمزة عينًا وأما الكشكشة التي في أسد فقال قوم: أنهم يبدلون الكاف شينًا فيقولون: "عليش" بمعنى عليك وينشدون: فعيناش عيناها وحيلش جيدها ... ولو نبش -إلا أنها غير عاطل1 وقال آخرون يصلون بالكاف شينًا فيقولون: "عليكش". ونسبها سيبويه2 وابن يعيش3 إلى أسد وتميم، ونسبها السيوطي4 إلى ربيعة ومضر، أما ابن جني فنسبها إلى ربيعة5.

_ 1 البيت لمجنون بن عامر. 2 الكتاب ج2 ص295. 3 شرح المفصل ج9 ص49. 4 المزهر ج1 ص221. 5 الخصائص ج2 ص11.

وهذه اللهجة ما زالت موجودة في فلسطين وفي محافظة الشرقية فيقولون في كلب شلب، وفي كيف حالك شيف حالك، ولا تعارض بين هذه الآراء فيجوز أن تكون هذه القبائل جميعًا تكلمت بها، ويقول ابن فارس: "وكذلك الكسكسة التي في ربيعة إنما هي أن يصلوا بالكاف سينا فيقولون: "عليكس". وهناك نوع آخر للكسكسة وهو جعل السين مكان الكاف. ونسبها السيوطي1 إلى ربيعة ومضر، ونسبها ابن جني إلى هوازن ونسبها2 ابن يعيش والزمخشري إلى بكر3 ولا تعارض أيضًا وهناك لهجات أخرى لم يسمها ابن فارس أو ينسبها إلى أصحابها وهي مسماه منسوبة عند العلماء، أشار إليها ابن فارس من هذه اللهجات: العجعجة: وهي جعل الياء المشددة جيمًا في الوقف ونسبها السيوطي4 إلى قضاعة، يقول ابن فارس

_ 1 المزهر ج1 ص221. 2 الخصائص ج2 ص12 وسر الصناعة ج1 ص235. 3 شرح المفصل ج9 ص48، 49. 4 المزهر ج1 ص222.

وكذلك الياء تجعل جميعًا في النسب يقولون: "غلامج" أي غلامي وكذلك الياء المشددة تحول جيمًا في النسب يقولون: "بصرج" وكوفج قال الراجز: خالي عويف وأبو علج المطعمان اللحم بالعشج وبالغداة فلق البرنج ويقول أيضًا: وكذا ما أشبهه من الحروف المرغوب عنها كالكاف التي تحول شينًا. وهذا يسمى بشنشنة اليمن وهي قلب الكاف مطلقًا شينًا سمع أحدهم في عرفه يقول: "لبيش اللهم لبيش" ويشير إلى لهجة أخرى في موضع آخر فيقول: "وتاء" تكون بدلًا من سين في بعض اللغات. أنشد ابن السكيت: يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات1 وتكملته: ليسو أعفاء ولا أكيات يريد الناس وأكياس. وهذه اللهجة تسمى الوتم ونسبها العلماء إلى أهل اليمن، وهي إبدال السين تاء. وتوجد لهجات أخرى مسماة منسوبة غير التي ذكرها ابن فارس منها:

_ 1 الصاحبي ص139.

الوهم

الوهم: جمهرة العرب تنطق هاءهم مضمومة ما لم يسبقها ياء ولا كسرة ولكن قومًا من ربيعة أو كلب فإنهم يكسرونها وإن لم يسبقها ياء ولا كسرة يقولون: منهم وعنهم بينهم يصفها سيبويه1 بأنها لغة رديئة. سماها العلماء بالوهم.

_ 1 الكتاب ج2 ص294.

الوكم

الوكم: جمهرة العرب تنطق الكاف من ضمير الجمع مضمومة مطلقًا ولكن بعضهم يكسر هذا الكاف بعد الياء أو الكسرة، فيقول عليكم وبكم ومن أحلامكم وقد نسب سيبويه1 هذه اللهجة إلى قوم من بكر بن وائل وأنشد في هذا قول الحطيئة: وإن قال مولاهم على جل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا ونسبه السيوطي2 في المزهر إلى ربيعة وهم من بني كلب ويسمى هذا النوع الوكم.

_ 1 الكتاب ج2 ص294. 2 المزهر ج1 ص222.

الفحفحة

الفحفحة: وتنسب إلى هذيل وهي قلب حاء حتى عينًا وبلهجتهم قرأ ابن مسعود1 "عتى حين". فأرسل إليه سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول له إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش، وتسمى هذه اللهجة الفحفحة ويرى بعض العلماء2 أنها قلب الحاء عينًا ولم يقيدها بحاء حتى وهذا الرأي ضعيف ومنه قولهم: اللعم الأعمر أعسن من اللعم الأبيض.

_ 1 اللسان: عنت. 2 المزهر ج1 ص222.

الاستنطاء

الاستنطاء: وهي جعل العين الساكنة نونًا إذا وقعت قبل الطاء وذلك كأنطى في أعطى ونسبها السيوطي1 في المزهر إلى سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار. وبهذه اللغة قرئ: "إنا أنطيناك الكوثر" ومنه الحديث "اليد المنطية خير من اليد السفلى" وعلى ما يبدو لي أن هذه اللهجة قاصرة على مادة الإعطاء إلا أن السيوطي في المزهر قد جعلها في العين مطلقًا في كل موضع حتى جاورتها الطاء ولكنني لم أجد ما يؤيد

_ 1 المرجع السابق والصفحة.

السيوطي في زعمه من قول اللغويين أو من شواهد كلام العرب فلا يصح أن نقول في: "المعطش"1 ولا في المعطف2 المنطف. ويروي ابن فارس عن ابن دريد أن العرب لا تتكلم ببعض الحروف إلا في الضرورة، ولذا حولوها إلى أقرب الحروف من مخارجها، ولكن ابن فارس لا يسلم بهذا فبعضها يرجع إلى الضرورة وبعضا الآخر يرجع إلى اختلاف لهجات القبائل وهذا هو الغالب والأكثر يقول ابن فارس: وحدثني علي بن أحمد الصباحي قال سمعت ابن دريد يقول: حروف لا تتكلم بها العرب إلا ضرورة فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها. فمن تلك الحروف الحرف الذي بين الباء والفاء مثل: "بور" إذا اضطروا فقالوا "فور". ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم -وهي لغة سائرة في اليمن

_ 1 المعطش: مبقات العطش. 2 المعطف: العنق.

-مثل جمل إذا اضطروا قالوا: "كمل" قال والحروف الذي بين الشين والجيم والياء: في المذكر "غلامج" في المؤنث "غلامش" فأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف باللهاة حتى تغلظ فيقولون: "القوم" فيكون بين الكاف القاف وهذه لغة فيهم قال الشاعر: ولا أكول لكدر الكوم: قد نضجت ... ولا أكول لباب الدار: مكفول وكذلك الياء تجعل جيمًا في النسب. يقولون: "غلامج" أي غلامي وكذلك الياء المشددة تحول جميعًا في النسب. يقولون بصرج وكوفج قال الراجز: خالي عويف وأبو علج ... المطمعان اللحم بالعشج وكذلك ما أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف التي تحول شينًا1 ثم يمضي ابن فارس مبينًا أن ما يرجع إلى الضرورة فيما ذكره ابن دريد فمثل بور

_ 1 الصاحبي ص36-37.

فيعرب إلى فور، أما سائر ما ذكره فليس من باب الضرورة فيقول: قلنا أما الذي ذكره ابن دريد في "بور" "وفور" فصحيح. وذلك أن بور ليس من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيره فاء. وأما سائر ما ذكره فليس من باب الضرورة في شيء وأي ضرورة بالقائل إلى أن يقلب الكاف شينًا، وهي ليست في سجع ولا فاصلة ولكن هذه لغات لقوم على ما ذكرناه في باب اختلاف اللغات1. ويذكر ابن فارس نوعًا من الزيادة يفسد الكلام ويعيبه ويرى أنها ليست من كلام العرب، وإنما هي أغاليط من يغلط والعرب لا تعرفه وسمي هذه الزيادة خزمًا، فيقول: ومما يفسد الكلام ويعيبه الخزم، ولا نريد به الخزم المستعمل في الشعر وإنما نريد قول القائل:

_ 1 الصاحبي ص37-38.

ولئن قوم أصابو غرة ... وأصبنا من زهان رققا للقد كنا لدى أزماننا ... لشريجين لبأس وتقى فزاد لامًا على "قد" وهو قبيح جدًّا ويزعم ناس أن هذا تأكيد كقول الآخر: فلا والله يلغي لما بي: ولا للمد بهم -أبدا- دواء فزاد لامًا على لما بي وهذا أقبح من الأول فأما التأكيد فإن هذا لا يزيد الكلام قوة يقبحه ومثله قول الآخر: وصاليات1 ككما يؤثفين وكل ذا من أغاليط من يغلط، والعرب لا تعرفه. هذا ولقد ذهب ابن فارس إلى أن لهجة قريش أفصح اللهجات العربية فيقول: أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن

_ 1 الصاليات: الأثافي التي توضع عليها القدر فقد صليت بالنار حتى اسودت، ويؤثفين: يجعلن أثافي للقدر، وهي جمع أثفية، ويؤثفين بالهمز شاذ رده إلى الأصل بسبب الوزن؛ كقول الآخر: فإنه أهل لأن يؤكر ما القياس بثقين ويكرم، يقال أثقى بثقيها جعل لها أثقى، ومحل الشاهد قوله: "ككما" فإن الكاف الأولى حرف والثانية اسم بمعنى مثل المعنى لم يبق غير حجارة منصوبة.

قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب اصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم، وتحكم بينهم ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها "أهل الله"؛ لأنهم الصريح من ولد "إسماعيل" عليه السلام، لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم نقالة، فضيلة من الله -جل ثناؤه- لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنيين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي

طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة ولا الكسر الذي تسمعه في أسد وقيس مثل: تِعلمون ونِعلم، ومثل: شعير وبعير1 ويوافق ابن فارس كثيرًا من أعلام العربية في أن لهجة قريش تفضل غيرها من اللهجات، يقول ابن جني في الخصائص: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال -ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس وعجرفيه ضبة، وتلتلة بهراء2، ويقول السيوطي في كتابه "الاقتراح": قال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وأبينها بأنه عما في النفس3 وينقل السيوطي عن الفراء قوله: قال

_ 1 الصاحبي ص33، 34. 2 الخصائص ج2 ص11. 3 الاقتراح ص22.

الفراء كانت العرب تحضر الموسم في كل عام وتحج البيت في الجاهلية وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ1. ويقول إسرائيل ولفنسون فاللغة العربية الموجودة الآن مزيج من لهجات كثيرة مختلفة اختلط بعضها ببعض وامتزج امتزاجًا شديدًا حتى صار لغة واحدة بعد أن فني أصحاب اللهجات وبادوا ... ثم يقول: على أن هناك ظاهرة قوة يلحظها الباحث في هذا التحول والامتزاج وهي أن لهجات الشمال كانت في العصور القريبة من ظهور الإسلام ذات سلطان قوى ونفوذ واسع فكانت تبتلع اللهجات الجنوبية ابتلاعًا الواحدة منها تلو الأخرى، فاللهجات التي أصبحت سائدة في أغلب أقاليم الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام إنما هي الشمالية بعد أن التهمت أكثر اللهجات الجنوبية وتغذت بها2.

_ 1 المزهر ج1 ص221. 2 تاريخ اللغات السامية لإسرائيل ولفنسون ص166، 167.

ولقد هيأ الله للهجة القرشية أن تبقى بعد هذا الصراع والاحتكاك باللهجات الأخرى، وأن تضم إلى كيانها كثيرًا من مميزات اللهجات الأخرى وأن تصبح اللغة النموذجية وذلك بفضل أسباب هيأت لها ذلك وهي: 1- السلطان الديني: فقد كان لقريش مكانة دينية ممتازة لقيامهم بسدانة البيت الحرام فلقد اختارهم الله جل ثناؤه من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام والذي يفد إليه معظم القبائل ليشهدوا منافع لهم. 2- السلطان الاقتصادي: فقد كان لقريش إلى جانب السلطان الديني سلطان اقتصادي كبير، فكان زمام التجارة بأيديهم؛ وذلك لأنهم كانوا يجلبون البضائع من الشام صيفًا واليمن شتاء،

ويوزعونها على القبائل العربية، فكان هذا النفوذ في أيديهم. يقول تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} . 3- السلطان السياسي: وبفضل النفوذ الديني والنفوذ الاقتصادي تهيأ لقريش نفوذ سياسي، يقول سيدنا أبو بكر للأنصار الذين طمعوا في الخلافة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش فلا تنفسوا على إخوانكم ما حباهم الله به من فضله" ويقول ابن فارس: وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. 4- السلطان اللغوي: لقد أضاف القرشيون إلى لهجتهم ما هي في مسيس الحاجة إليه وما رأوه أخف على أسماعهم وأيسر على ألسنتهم، فكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها "وقد تم لها ذلك بفضل ما أتيح لها من فرص الاحتكاك بمختلف اللهجات وما أتيح لأهلها من وسائل الثقافة والحضارة وما انتقل إليها من هذه اللهجات من عناصر زادتها ثروة على ثروتها.

ما استفادته القرشية من هذا الصراع

ما استفادته القرشية من هذا الصراع: وقد استفادت اللهجة القرشية من احتكاكها باللهجات الأخرى أمورًا كثيرة منها: 1- استفادت كثيرًا من المفردات والأساليب وخاصة تلك الأشياء التي كانت تنقصها فتنوعت فنون القول، وتمكنت من التعبير عن جميع الأغراض. 2- أصبحت اللغة القومية للعرب قاطبة، فأصبحت لغة الشعراء والخطباء، وكان على الشعراء

الذين جاءوا من بيئات مختلفة أن ينظموا أشعارهم باللغة النموذجية والتي خلت من العنعنة والعجعجة والكشكشة وغيرها من اللغات المذمومة. 3- نزول القرآن الكريم: فلقد نزل القرآن الكريم بلهجة قريش وهي اللغة القومية النموذجية السائدة عند العرب في هذا الوقت ولقد أكسبها القرآن الكريم كثيرًا من الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصوم والحج بمعانيها الجديدة والشرعية. 4- تقوية سلطانها: إن القرآن الكريم وهو دستور الإسلام ومصدر العبادة قد نزل باللغة النموذجية القرشية، لذلك كان لزامًا على العرب وقد دخلوا هذا الدين الحنيف أن ينظروا إلى هذه اللغة التي نزل بها القرآن، كتاب الله المقدس نظرة رعاية وتقديس، فقوي سلطانها،

وتوطدت أركانها وثبتت دعائمها. ولقد اختلف العلماء في نزول القرآن بلغة قريش. أ- فذهب بعض العلماء إلى أن القرآن كله نزل بلغة قريش وليس فيه شيء من لهجات غيرهم من القبائل وحجتهم في ذلك ما ورد في البخاري عن عثمان أنه قال: لرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، وقد قال العالم نولدكه أن هذه الفكرة نشأت في العصر الأموي لإظهار تفوق قريش على بقية البطون العربية في كل شيء لعلاقتهم بالنبوة1. ب- وذهب بعض العلماء إلى أن القرآن نزل فيه شيء بلهجة غير قريش من لهجات بعض القبائل وأولوا ما ورد من أن القرآن نزل بلغة قريش قال جاحظ بن عبد البر في التمهيد "قول من قال أن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب؛ لأن لغة غير قريش

_ 1 تاريخ اللغات السامية لإسرائيل ولفنسون ص207.

موجودة في جميع القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها وقريش لا تهمزو ويؤيد إسرائيل ولفنسون هذا الرأي فيقول: وما يقال من أن القرآن نزل بلغة قريش إن كان المقصود منه أن الرسول كان ينطق الكلمات بلهجة قريش التي هي لهجة جميع أهل مكة فصحيح أما إن كان المراد منه أن قريشًا كانت لها لغة علمية خاصة بأصحاب الخطابة والكهانة والشعر دون سواهم من القبائل الأخرى فليس بصحيح؛ لأنه يضيق من دائرته ويقلل عدد الذين كانوا يفهمونه من العرب والواقع يخالف ذلك1. ج- وقال فريق آخر من العلماء أن القرآن نزل بلغة قريش غير أن قريشًا دخل في لغتهم شيء من لغتهم، وما يقال إنه وقع في القرآن ما ليس من لغة قريش، فهو مما كان من هذا القبيل، وهذا الرأي يجمع بين المذهبين ويوفق بينهما وهذا الرأي هو الوجه.

_ 1 تاريخ اللغات السامية ص207.

كتاب الخصائص لابن جني

كتاب الخصائص لابن جني نسبه ونشأته ... كتاب الخصائص: لابن جني نسبه: هو أبو الفتح عثمان بن جني الأزدي، وأبو جني كان روميا يونانيا وكان مملوكًا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي. وجني: معرب كني أو جنايس، أحد أئمة اللغة العربية في القرن الرابع الهجرة. نشأته: ولد ابن جني بالموصل، ولقد اختلف العلماء في عام ولادته فقيل: إنه ولد قبل الثلاثين والثلثمائة من الهجرة، وقيل: إنه ولد عام ثلاثين وثلثمائة وذكر في طبقات النحاة أنه توفي وهو في سن السبعين، فإذا ثبت

هذا وروعي إن وفاته كانت في سنة 392 فإن ولادته تكون سنة 322 أو 321هـ. ونشأ ابن جني بالموصل، وتلقى مبادئ تعلمه فيها، وارتشف من رحيق علمائها، تلميذا وتصدر مجالس العلم فيها أستاذا، ويذكر الرواة في بدء اتصاله بأستاذه أبي علي الفارسي أن أبا علي مر عليه يوما وهو يتكلم في مسألة قلب الواو ألفا في نحو قام وقال فاعترض عليه أبو علي، فجانبه التوفيق في الجواب. فقال له الفارسي: تزببت وأنت حصرم! فتبع أبا علي حتى نبغ بصحبته إياه، ونبغ في علم التصريف وكان ابن جني نحويًّا على طريقة البصريين فقد كان كشيخه أبي علي بصريًّا يجري في كتبه ومباحثه على أصول هذا المذهب ولقد خلف أستاذه أبا علي في التدريس في بغداد بعد وفاته.

مكانته العلمية ومكانته الأدبية

مكانته العلمية ومكانته الأدبية ... مكانته العلمية: لقد كان لأبي الفتح عثمان بن جني مكانة مرموقة بين علماء عصره، فنراه يخلق أستاذه أبا علي الفارسي في التدريس في بغداد بعد وفاته، وكان له تلاميذ كثيرون منهم أئمة عظام كعبد السلام البصري والسمسمي، ويقول ابن فضل الله العصري في مسالك الأبصار: "لم ير مثله في توجيه المعاني، وشد بيوت القصائد الوثيقة المباني". مكانته الأدبية: كان لابن جني مكانة عالية في الأدب، إلا أن مكانته العلمية فاقت منزلته الأدبية، فقد كان يجيد قرض الشعر الذي يأخذ بالقلوب ويأسر الألباب يقول عنه الثعالبي: هو القطب في لسان العرب وإليه انتهت الرياسة في الأدب، ويقول ابن الجوزي فيه وكان يقول الشعر ويجيد نظمه:

فمن شعره في الغزل: غزال غير وحشي ... حكى الوحشى مقلته رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلقة وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته وذاقت ريحة الصا ... ء فاختلسته نكهته ويقول أيضًا: تجبب أو تدرع أو تقبا ... فلا والله لا أزداد حبا أخذت ببعض حبك كل قلبي ... فإن رمت المزيد فهات قلبا تجبب: أي ألبس الجبة. وتدرع: ألبس المدرعة وهي ثوب من صوف. وتقبا أي ألبس القباء. ومن شعره في الفخر بعلمه ونسبه إلى قياصرة الروم: فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي على أني أؤول إلى ... قروم سادة نجب

قياصرة إذا نطقوا ... أرم الدهر ذو الخطب ومن الحنين إلى الشباب وبكاء عهده الناضر: رأيت محاسن ضحك الربيـ ... ـع طال عليها بكاء السحاب وقد ضحك الشيب في لمتي ... فلم لا أبكي ربيع الشباب أأشرب في الكأس إكلا وحاشا ... لأبصره في صفاء الشراب فابن جني وقد كبر وابيضت رأسه يترك الشرب من الكأس مخافة أن يرى في صفائها شيبة فيتحسر ويتحزن.

مؤلفاته

مؤلفاته: ألف أبو الفتح عثمان بن جني كتبًا كثيرة قيمة تربو على الأربعين كتابًا1 نذكر كتاب الخصائص الذي نحن بصدد دراسة بعض أبحاثه. وكتاب سر صناعة الإعراب: وفيه جمع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف موضحًا مواقع الحروف في الكلمات العربية من الأصالة والزيادة والبدل وغير ذلك من تصريف حروف المعجم واشتقاقها، وقد عرض ابن جني في مقدمة كتابه سر الصناعة وما يشتمل عليه الكتاب موضحًا نهجه وغرضه حين يقول: رسمت أن أصنع كتابًا يشتمل على جميع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف منها، وكيف مواقعه في كلام العرب، وأن أتقصى القول في ذلك، وأشبعه وأوكده فاتبعت ما رسمته ... إلخ2. وكانت وفاة ابن جني في يوم الخميس 27 من صفر 392هـ الموافق 15 يناير سنة 1002م ويذكر ابن الأثير أن وفاته كانت سنة 393هـ وكانت وفاته ببغداد.

_ 1 انظر الخصائص الجزء الأول المقدمة ص60-68. 2 سر صناعة الإعراب لابن جني ص1، 2.

مقدمة على كتاب الخصائص

مقدمة على كتاب الخصائص ... الخصائص: ألف أبو الفتح عثمان بن جني كتاب الخصائص وقدمه إلى بهاء الدولة الذي اعتلى ملك بغداد في عهد الخلافة العباسية 379 إلى 403هـ يقول في تقديم كتابه: "هذا أطال الله بقاء مولانا الملك السيد المنصور المؤيد بهاء الدولة وضياء الملة، وغياث الأمة، وأدام ملكه ونصره، وسلطانه ومجده، وتأييده وسموه، وكبت شانئه وعدوه -كتاب لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت ملاحظًا له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والرواة إليه ... وفي اعتقادي أنه من أشرف ما صنف في علم العرب ... ولقد ألف هذا الكتاب بعد وفاة أستاذه أبي علي الفارسي 377هـ وكان الهدف من تأليفه هو معرفة أسرار اللغة العربية وخصائصها ومزاياها والوقوف على العلل الحقيقية لها. يقول ابن جني في المقدمة: "وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة ... وذلك أنا لم نر أحد من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه.

وكتاب الخصائص يعد من أهم المراجع في فقه اللغة بما حواه من بحوث ينهل من معينها كل باحث في فقه اللغة إلى جانب اشتماله على بحوث ومسائل نحوية وصرفية قيمة، ومن البحوث التي ذكرها ابن جني في الخصائص في فقه اللغة "القول في نشأة اللغة أإلهام هي أم اصطلاح" والقول على الاطراد والشذوذ و"تعارض من السماع والقياس" والقول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة" و"ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب" و"تداخل اللغات" و"باب في امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس" و"باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط" وغير ذلك من البحوث التي لا غنى عنها لباحث لغوي. وسأتناول بعض هذه الموضوعات بالبحث والتحليل ومن هذه البحوث:

باب القول على أصل العربية إلهام أم إصلاحا

باب القول على أصل العربية إلهام أم إصلاحا ... باب القول على أصل العربية إلهام أم اصطلاح: يقول ابن جني "هذا موضوع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة، إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي "وتوقيف" إلا أن أبا1 علي -رحمه الله، قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة، فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط: الاستدلال به. وقد كان أبو علي -رحمه الله- أيضًا قال2 به في بعض كلامه وهذا أيضًا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه3. على أنه قد فسر هذا بأن قيل -إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية

_ 1 هو أبو علي الفارسي. 2 أي القول بالتواضع والاصطلاح. 3 الضمير يعود على آدم.

والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها، لبعد عهدهم بها. وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده، والانطواء على القول به. فإن قيل: فاللغة فيها أسماء، وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكون المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خص الأسماء وحدها؟ قيل: اعتمد1 ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل2 الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة على

_ 1 الضمير يرجع للفظ الجلالة أي اعتمد ذلك الله تعالى. 2 القبل جمع قبيل وهو الجماعة، كان كل نوع من أنواع الكلمة "الاسم والفعل والحرف" جماعة وطائفة.

ما لا خفاء بها جاز أن يكتفي بها مما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها1. وهذا كقول المخزومي2: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى لعوا فرسى بأشقر مزبد أي فإذا كان الله يعلمه فلا أبالي بغيره سبحانه أذكرته واستشهدته أم لم أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أن هذا أمر خفي، فلا يعلمه إلا الله وحده، بل إنما يحيل فيه على أمر واضح، وحال مشهورة حينئذ، متعالمة وكذلك قول الآخر: الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور3

_ 1 هذا مبني على المراد بالأسماء في الآية مصطلح النحاة فيها وهذا اصطلاح حادث، والاسم في اللغة ما كان علامة على مسمى وهذا يشمل الأنواع الثلاثة وبهذا يسقط السؤال. 2 هو الحارث بن هشام عيره سيدنا حسان بفراره يوم بدر من المسلمين، فقال هذا البيت في قصيدة يعتذر بها عن فراره ويعني بالأشقر المزبد الدم وهو مزبد أي علاه الزبد. 3 صور واحدة أصور وصف الصورة وهو أخالة العنق، وبعد هذا البيت وأنني حينما يدني الهوى بصري.. من حيث ما سلكوا أدنوا فأنظور ولم يعرف قائل هذين البيتين.

وليس بمدع أن هذا الباب مستور، ولا حديث غير مشهور، حتى أنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوه فيهم، وكثرة جريانه على ألسنتهم. فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب وطيه وستره والبجح1 بذلك والإدعاء له ما لا خفاء به، فقد ترى إلى اعتدال الحالين فيما ذكرت. قيل: هذا وإن جاء عنهم فإن إظهاره أنسب2 عندهم وأعذب على مستمعهم ألا ترى أن فيه إيذانًا من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر ممثله ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل3 به لكان مطيقًا له، مقتدرًا عليه، وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل4 به وخور5 الطبيعة عن الاستقلال بمثله ألا ترى إلى قول عمر بن أبي ربيعة.

_ 1 البجح بالشيء. الفرج به. 2 أي أرق غزلًا. 3 تحامل في الأمر: تكلفة على مشقة. 4 البعل بفتحتين: الضجر. 5 خور الطبيعة: أي ضعفها.

فقلت لها: ما بي لهم من ترقب ... ولكن سرى ليس يحمله مثلي1 وكذلك قول الأعشى: ....................................... ... وهل تطيق وداعًا أيها الرجل2 وكذلك قول الآخر3: ودعته بدموعي يوم فارقني ... ولم أطلق جزعًا للبين مدى يدي والأمر في هذا أظهر، وشواهده أسير وأكثر. ثم لنعد4 فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيًا وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد

_ 1 هذا البيت من قصيدة مطلعها: جَرى ناصِحٌ بِالوُدِّ بَيني وَبَينَها ... فَقَرَّبَني يَومَ الحِصابِ إِلى قَتلي وقبله: فقالت وأرضت جانب الستر بيننا ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهل والحصاب -بزنة كتاب: موضع رمي الجمار بمنى. 2 صدر هذا البيت: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ................................ هو مطلع معلقته. 3 قائل هذا البيت هو بشار بن برد. 4 ينتقل ابن جني هنا إلى أن الرأي القائل أن اللغة نشأت عن طريق المواضعة والاصطلاح شارحًا وجهتهم.

فيه من المواضعة، قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظًا. إذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غير، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره، لبلوغ الغرض في إبانة حاله، بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه، كالفاني وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد، كيف يكون ذلك لو جاز وغير هذا ما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه، فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم، فأومئوا إليه، وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن الماد به هذا الضرب من المخلوق وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، قدم أو نحو ذلك فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها،

وهلم جرا فيما سوى هذا من الأسماء، والأفعال، والحروف ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها، فتقول. الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد1 والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر2، وعلى هذا بقية الكلام. وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد منها لغات كثيرة من الرومية، والزنجية، وغيرهما وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء كالنجار والصائغ والحائك، والبناء، وكذلك الملاح. قالوا: ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعًا3 بالمشاهدة والإيماء. قالوا والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحد من عباده على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء إشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقديم سبحانه لا جارحة له، فيصح الإيمان والإشارة بها منه، فبطل عندهم أن

_ 1 لفظ مرد يطلق في اللغة الفارسية على الإنسان. 2 ولفظ سر يطلق في اللغة الفارسية على الرأس. 3 أي متواضعًا عليه.

تصح المواضعة على اللغة منه، تقدست أسماؤه: قالوا ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي وضع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا، والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه سبحانه كجوازه من عباده ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم، كالصورة التي توضع للمعميات1، والتراجم وعلى ذلك أيضًا اختلفت، أقلام ذوي اللغات، كما اختلفت أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم في المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أنني سألت يومًا بعض أهله2 قلت: ما تنكرا أن تصح المواضعة من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة، بأن يحدث في جسم من الأجسام خشبة أو غيرها، إقبالًا على شخص من الأشخاص، وتحريكًا لها نحوه،

_ 1 المراد بالمعميات: ما عمى والغز في الرسم والكتابة، فكتب بصورة مصطلح عليها تخالف الاصطلاح. المألوف وهو ما يعرف في عصرنا الحاضر الشفرة. 2 هم المتعزلة.

ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه عز اسمه -قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء، وهذه الإشارة، مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضًا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه، فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه؟ فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير ناقلة لسانًا إلى لسان، فاعرف ذلك. وذهب1 بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد،

_ 1 هو المذهب الثالث القائل بالمحاكاة.

وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل. واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت ودائم التنقير والبحث في هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول1 على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة2 السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا -رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وإنضاف إلى ذل وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز، فقوى في نفس اعتقادي كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحي.

_ 1 تغول الأمول: اشتباهها وتذاكرها. 2 الغلوة معناها: الغاية في سباق الخيل، وغلوة السجن غايته.

ثم أقول في ضد هذا ... كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبهوا تنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا -وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهانًا، وأسرع خواطر، وأجرأ جنانًا. فأقف بين هاتين الخلتين حسيرًا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا. وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها، قلنا به وبالله التوفيق1. وإذا نظرنا في كلام ابن جني السابق نرى أنه قد عرض لنظريات ثلاث هي: 1- الأولى: النظرية التوقيفية. 2- الثانية: النظرية الاصطلاحية. 3- الثالثة: نظرية المحاكاة.

_ 1 الخصائص الجزء الأول ص40-47.

ونرى نظرة ابن جني لنشأة اللغة تختلف عن نظرة ابن فارس فإذا رجعنا إلى رأي ابن جني في بدء حديثه عن اللغة أإلهام هي أم اصطلاح يرى أنها اصطلاح فيقول: هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف، ثم بعد ذلك يستدل على صحته، ثم نراه في آخر الباب يقول: "إنني إذ تأملت حال هذه اللغة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة ... قوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا من الله سبحانه، وأنها وحي. ويرى بعض1 المحدثين أن ابن جني في حيرة لعدم استطاعته ترجيح أحد الرأيين على الآخر، إلا أنني أخالف في هذا الدكتور إبراهيم أنيس في رأيه هذا لأن ابن جني وإن كان اتجه إلى القول بالاصطلاح، أولا، وتعاطف مع الرأي القائل بالتوقيف أخيرًا نجده يصرح برأيه وأنه

_ 1 دلالة الألفاظ د. أنيس ص18.

يرى أن اللغة إنما نشأت عن طريق المحاكاة ونظرية المحاكاة هذه غير نظرية الاصطلاح وإن كان بعض العلماء المحدثين قد ضمها في نظرية واحدة هي نظرية الاصطلاح والمواضعة. ونظرية المحاكاة هذه هي أقرب نظريات نشأة اللغة الإنسانية الأولى إلى الصحة وأكثرها تمشيًا مع طبيعة الأمور وتطورها وقد قال بهذه النظرية كثير من علماء اللغة المحدثين على رأسهم "وتني" ولقد سخر بعض النقاد من هذه النظرية حيث وصفوها بأنها تقف بالفكر الإنساني عند حدود حظائر الحيوانات، وتجعل اللغة الإنسانية الراقية مقصورة النشأة على تلك الأصوات الفطرية الغريزية، إلا أن وراء هذه الأصوات كما يرى الدكتور إبراهيم أنيس1 سورًا حصينًا عنده في الحقيقة تبدأ لغة الإنسان ذات الدلالات المتميزة المتباينة. ومما يرجح هذه النظرية على غيرها من النظريات:

_ 1 دلالة الألفاظ ص21 ط2.

1- أنها تثبت مراحل لنشأة اللغة الإنسانية تتفق تقريبًا مع مراحل التطور اللغوي عند الطفل، فهي تثبت أن الإنسان الأول قد ابتدأ طريقه بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن انفعالاته كأصوات الحزن والفرح والخوف والفزع ومحاكاة أصوات الحيوانات والطيور ودوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيح الحمار ونعيق الغراب ... إلخ. ثم استعان بالإشارات اليدوية والحركات الجسمانية الفطرية إلى محاكاة الأشكال والصفات للأشياء ثم استغنى الإنسان عن هذه الإشارات بعد تطور تفكيره وقد ثبت أن الطفل يمر بمراحل تشبه هذه المراحل إن لم تكن تتفق معها. 2- الواقع يثبت أن كثيرًا من كلمات اللغة الإنسانية قد انحدرت عن تلك الأصوات الغريزية المبهمة -كما يقول الدكتور أنيس- ثم رسمت في تطويرها ودلالتها وأصبحت تعبر عن الفكر الإنساني

وإلا فكيف نتصور أن كلمة الخيل يشتق منها "الخيلاء والرجل يشتق منها ترجل". والوجه يشتق منه وجه الرجل أي صار وجيهًا ... إلخ. وكل ذلك انحدر إلينا من المحسوسات، ومن هنا نستطيع أن نتصور أن الكلمات التي نبعت من الأصوات الطبيعية يمكن أن تتطور في معناها، فتصبح صالحة للتعبير عن الدلالات الراقية المتحضرة. 3- ما تقرره هذه النظرية بشأن اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يكاد يتفق مع ما نعرفه عن لغات الأمم البدائية، ففي تلك اللغات نجد أن كثيرًا من المفردات تحكي بأصوات حروفها أصوات الأحداث التي تدل عليها، كما أنهم يستعينون بالإشارات عندما يحتاجون إليها، نتيجة لنقص لغاتهم وعدم قدرة هذه اللغات على الوفاء بالتعبير عن مختلف الدلالات. وبعد كل ما تقدم نرى أن ابن جني الذي عاش في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي قد نادى بما ينادي به علماء الغرب المحدثون مثل "جسبرس" و"وتني" وأن عقليته الفذة قد سبقت عصره وتخطته، وخلف لنا دراسات قيمة هي المنهل العذب الذي ننهل منه وينهل منه معنا علماء الغرب. وهناك نظريات أخرى في نشأة اللغة منها:

نظرية الغريزة الكلامية

نظرية الغريزة الكلامية ... 1- نظرية الغريزية الكلامية: وتقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وأن هذه الغريزة تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة به، قياسًا على التعبير الطبيعي للإنسان عن الانفعالات عندما يقوم بحركات وأصوات خاصة غريزية كانقباض الأسارير وانبساطها والضحك والبكاء وغير ذلك عند الانفعال من غضب أو حزن أو خوف أو سرور أصحابها: وقال بها العالمان ماكس مولر الألماني ورينان الفرنسي.

تصور أصحاب الغريزة لنشأة اللغة

تصور أصحاب الغريزة لنشأة اللغة: كانت هذه الغريزة الكلامية متحدة عند بني البشر في بداية الأمر ومن ثم تشابهت التعبيرات لدى الجماعات الإنسانية الأولى وتيسر للإنسان التفاهم مع أخيه الإنسان، ثم بمرور الزمن تنوسيت هذه الغريزة. واعترض على هذه النظرية بأن قياس الكلام على هذه الأصوات غير الإرادية قياس مع الفارق فالكلام إرادي أما تلك الأصوات فهي غير إرادية عندما يكون الإنسان عاجزًا عن الكلام. أما أحدث الآراء1 في نشأة اللغة فهو ما ذهب إليه فريق من العلماء المحدثين على رأسهم "جسبرسن" حين أسسوا نظريتهم على أسس ثلاثة: 1- دراسة مراحل نمو اللغة عند الطفل.

_ 1 دلالة الألفاظ د. إبراهيم أنيس ص28 ط الثانية.

2- دراسة اللغة في الأمم البدائية. 3- دراسة تاريخية للتطور اللغوي. ولقد عقد ابن جني بابًا في الخصائص هو: "باب في هذه اللغة أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق" تابع منها بفارط؟ يقول فيه: قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام. وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعًا. وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بد وأن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه، لحضور الداعي إليه، فزيد فيها شيئًا فشيئًا إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه، وتأليفه، وإعرابه المبين عن معانيه، لا يخالف الثاني الأول ولا الثالث الثاني كذلك متصلًا متتابعًا وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخر عن أول، وتابع عن متبع. وليس كذلك أهل الحضر، لأنهم يتظاهرون

بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب في حروفهم وتآليفهم إلا أنهم أخلوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح وهذا رأي أبي الحسن، وهو الصواب. وذهب إلى أن اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف، وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها، غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفًا، وإن كان كل واحد آخذًا من صحة القياس حظًّا. ويجوز أيضًا أن يكون الموضوع الأول ضربًا واحدًا ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثانٍ جارٍ في الصحة مجرى الأول. ولا يبعد عندي ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان.

والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني فلا عليك أيهما تقدم، وأيهما تأخر، فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به. فأما أي الأجناس الثلاثة تقدم -أعني الأسماء، والأفعال والحروف فليس مما نحن عليه في شيء، وإنما كلامنا هنا: هل وقع جميعها في وقت واحد، أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة، وشيئًا بعد شيء وصدرًا بعد صدر. وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ههنا فلنذكر ما عندنا في مراتب الأسماء، والأفعال والحروف، فإنه من أماكنه وأوقاته. اعلم أن أبا علي -رحمه الله- كان يذهب إلى أن هذه اللغة -أعني ما سبق منها ثم لحق به ما بعده- إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد، وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم

على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل وإن كانت رتبة الاسم في النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل، والفعل قبل الحرف، وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم وكذلك الحرف، وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا معيار أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف، فلا عليهم بأيها بدوا، أبالاسم أم بالأفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي وبه كان يأخذ ويفتي

وهذا يضيق الطريق على أبي إسحاق1 وأبي بكر2 في اختلافهما في رتبة الحاضر والمستقبل وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه، وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره، علمًا بأن لا بد من كثرته الداعية إلى تغييره وهذا في المعنى كقوله: رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا وقد كان أيضًا أجاز أن يكون قد كانت3 قديمًا معربة، فلما كثرت غيرت فيما بعد، والقول عندي هو الأول؛ لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها، فتركوا بعض الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمس، وهؤلاء، وأين، وكيف، وكم، وإذ. واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس؛ لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين، فكان ذلك أخف عليهم من تجشمهم اختلاف الإعراب، وإتقائهم الزيغ والزلل فيه ألا ترى أن من لا

_ 1 هو أبو إسحاق الزجاج. الذي يرى أن المستقبل أول الأفعال. 2 هو أبو بكر بن السراج الذي يرى أن الحاضر أول الأفعال. 3 الضمير يرجع إلى المبنيات.

يعرب فيقول: ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من لمفعول، ولا يتجشم خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى، فإن تخلل1 الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقله الفرس، ولا يقوى على ذلك من الخيل إلا الناهض الرجيل2، دون الكودن3 الثقيل، قال جرير: من كل مشترف وإن بعد المدى ... ضرم الرقاق مناقل الأجرال4 ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا: أقتل، فضموا الأول توقعًا للضمة تأتي من بعد.

_ 1 تخلل الإعراب: تتابعه. 2 الرحيل: القوي على المشي. 3 هو الهجين غير الأصيل. 4 المشترف: الفرس العالي، والضرم: المتوقد الملتهب والرقاق. الأرض اللينة لا رمل فيها. يريد أنه يتوقد نشاط وسرعة في الرقاق ويناقل في الأجرال: يسرع السير فيها فلا تقع قوائمه على الحجارة. والأجرال جمع جرل: وهو المكان الصلب الغليظ.

وكذلك قالوا: عظاءة، وصلاءة، وعباءة، فهمزوا مع الهاء توقعًا لما سيصيرون إليه من طرح الهاء، ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء على ذلك قالوا: الشيء منتن فكسروا أوله لآخره، وهو منحدر سن الجبل، فضموال الدال لضمه الراء. وعليه قالوا: هو يجوءك وينبؤك فأثر المتوقع؛ لأنه كانه حاضر وعلى ذلك قالوا: امرأة شمباء1. وقالوا العمبر ونساء شمب، فأبدلوا النون ميمًا لما يتوقع من مجيء الباء بعدها. وعليه أيضًا أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو مرأيت2؟ وإذ هفى3 ذلك واصحمطرا4. فهذا كله وما يجري مجراه، يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد، فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل، وبعد، علما بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها، فيجب لذلك تغييرها.

_ 1 وصف من الشنب وهو رقة الأسنان وعذوبتها. 2 يريد من رأيت. 3 يريد أذهب في ذلك. 4 يريد أصحب مطرًا.

فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد، واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه، إذ كان الواجب أن يبدوا بالأسماء؛ لأنها عبارات عن الأشياء، ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف؛ لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركيبها، واستقلالها بأنفسها، نحو إن زيدًا أخوك، وليت عمرًا عندك، وبحسبك أن تكون كذا؟ قيل يمنع من هذا أشياء: منها وجود أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق، ألا تراه يصح لصحته، ويعتل لاعتلاله، نحو ضرب فهو ضارب، وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم. فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقًّا من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقًّا منه ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه. وأيضًا فإن المصدر مشتق من الجوهر، كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر،

وكلاهما اسم. وأيضًا فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي، وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي. وأيضًا فإن كثيرًا من الأفعال مشتق من الحروف، نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي: لولا، وسألتك حاجة فلا ليت لي، أي قلت لي: لا. واشتقوا أيضًا المصدر -وهو اسم- من الحرف، فقالوا: اللالاء واللولاة، وإن كان الحرف متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله، الاسم والفعل. وكذلك قالوا: سوفت الرجل، أي قلت له: سوف، وهذا فعل -كما ترى- مأخوذ من الحرف. ومن أبيات1 الكتاب: لو ساوفتنا بسوف من تحيتها ... سوف العيوف لراح الركب قد قنع2

_ 1 يقصد كتاب سيبويه، انظر ج2 ص301. 2 ساوفتنا: معناها: واعدتنا بسوف أفعل. والعيوف: الكاره والكارهة، وقنع: أصله قنعوا فحذف الواو التي هي علامة المضمر ومعنى البيت: لو وعدتنا بتحية في المستقبل لقنعنا، إن كانت عازمة على المطل إذ كانت كارهة لذلك والبيت في لسان العرب "سوف" منسوبًا لابن مقبل.

انتصب "سوف العيوف" على المصدر المحذوف الزيادة، أو مساوفة العيوف. وأنا أرى أن جميع تصرف "ن ع م" إنما هو من قولنا في الجواب نعم. من ذلك النعمة، النعمة، والنعيم، والتنعيم، ونعمت به بالًا وتنعم القوم، والنعمى، والنعماء، وأنعمت به له: وكذلك البقية وذلك أن "نعم" أشرف الجوابين وأسرهما للنفس، وأجلبهما للحمد و"لا" بضدها، ألا ترى إلى قوله: وإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد، إن الوعد الخلف ذم1 وقال الآخر - أنشدناه أبو علي: أبي جودة لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله2

_ 1 هذا البيت للمثقب العبدي. 2 هذا البيت لا يعرف قائله، واختلف في تفسيره، وفسره ابن بري حاصله: أن هذا الرجل يمنح الجوع عند المحتاجين الطعام الذي يقتله ولا يبخل على الجوع بهذا الذي يقتله.

يروى بنصب "البخل" وجره. فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما أن يكون بدلًا من "لا"؛ لأن "لا" موضوعه للبخل، فكأنه قال: أبي جوده البخل، والآخر أن تكون "لا" زائدة والوجه هو الأول؛ لأنه قد ذكر بعدها نعم، ونعم لا تزاد، فكذلك ينبغي أن تكون "لا" ههنا غير زائدة. والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضًا، لجرى ذكر "لا" في مقابلة نعم. وإذا جاز لـ"لا" أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إلى لامت ذوو أحسابها عمرا1 كان الاكتفاء بلفظها من غير عمل له أولى بالجواز.

_ 1 هذا البيت للفرزدق يهجو به عمرو بن هبيرة الغزاري.

ومن جره قال: "لا البخل" فبإضافة "لا" إليه؛ لأن "لا" كما تكون للبخل قد تكون للجود أيضًا، ألا ترى لو قال لك إنسان: لا تطعم الناس. ولا تقر الضيف، ولا تتحمل المكارم، فقلت أنت: "لا" لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل، فلما كانت "لا" قد تصلح للأمرين جميعًا أضيفت إلى البخل، لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين. فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنية؟ ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين، وهذا أدل شيء على البناء، قيل: الإضافة لا تنافي البناء، بل لو جعلها جاعل سببًا له لكان "أعذر من أن يجعلها نافية له، ألا ترى أن المضاف بعض الاسم، وبعض الاسم صوت، والصوت واجب بناؤه، فهذا من طريق القياس، وأما من طريق السماع فلأنهم قد قالوا: كم رجل قد رأيت، فكم مبنية وهي مضافة. وقالوا أيضًا: لأضربن أيهم أفضل، وهي مبنية عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه.

ثم لنعد إلى ما كنا عليه من أن جميع باب "ن ع م" إنما هو مأخوذ من "نعم" لما فيها من المحبة للشيء والسرور به فنعمت الرجل أي قلت له نعم، فنعم بذلك بالا كما قالوا: بجلته أي قلت له بجل أي حسبك حيث انتهيت، فلا غاية من بعدك، ثم اشتقوا منه الشيخ البجال، والرجل البجيل. فنعم، وبجل كما ترى حرفان، وقد اشتق منهما أحرف كثيرة فإن قلت: فهلا كان نعم وبجل مشتقين من النعمة والنعيم، والبجال البجيل ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقًّا منهما؟ قيل: الحروف يشتق منها ولا تشتق هي أبدًا. وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول الكلام الأول التي لا تكون مشتقة من شيء؛ لأنه ليس قبلها ما تكون فرعًا له ومشتقة منه يؤكد ذلك عندك قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي، أي قلت لي "لولا" فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من "لو" و"لا" فلا يخلو هذا أن يكون "لو" هو الأصل، أو لـ"لولا" لا يجوز أن يكون "لولا" لو كان "لولا" هو الأصل، كان "لو"

محذوفًا منه، والأفعال لا تحذف، إنما تحذف الأسماء نحو: يد، ودم، وأخ، وأب، وما جرى مجراه، وليس، الفصل كذلك، فأما خذ، وكل ومر، فلا يعتد إن شئت لقلته؛ وإن شئت لأنه حذف تخفيفًا في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل، نحو أخذ يأخذ وأخذ وآخذ. فإن قلت: فكذلك أيضًا يد، ودم، وأخ، وأب، وغد، وفم ونحو ذلك؛ ألا ترى أن الجميع تجده متصرفًا وفيه ما حذف منه، وذلك نحو أيد وأيادٍ ويدي، ودماء ودمي، وأدماء والدما في قوله: فإذا هي بعظام ودما. وأخوة وأخوة، وإخاء وأخوان وآباء، وأبوة وأبوان. وغدوا بلاقع1. وأفواه وفويه، وأفوه وفوهاء وفوه، قيل: هذا كله إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما

_ 1 هذا بعض بيت من قصيدة للبيد والبيت هو: وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها ويوم حلوها وغدوا بلاقع وفي القصيدة البيت المشهور: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يخور رمادًا بعد إذ هو ساطع والبلقع والبلقعة: الأرض القفر التي لا شيء بها، يقول صلى الله عليه وسلم: اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع.

حذف من الكلمة التي هي من أصله، فدل ذلك على محذوفه، فليست الحال فيه كحال خذ من أخذ ويأخذ. وذلك أن أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغتها فإنها تجري مجرى المثال الواحد، حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوضوه منها أن أوجدوها في مصدره، فقالوا: إكرامًا وكذلك بقية الباب. وليس كذلك الجمع والواحد والتصغير، من الواحد؛ لأنه ليس كل واحد من هذه المثل جاريًا مجرى صاحبه فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه صار كأنه في المحذوف منه نفسه فكأن لم يحذف منه شيء. فإن قلت: فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجودًا في الأفعال من معناها ولفظها وذلك نحو قولهم

في الخبر أخوت عشرة وأبوت عشرة وأنشدنا أبو علي عن الرياشي. وبشرة يأبونا كأن خباءنا ... جناح سماني في السماء تطير وقالوا: أيضًا يديت1 إليه يدا وأيديت ودميت تدمى دمي، وغدوت عليه وفهمت بالشيء وتفوهت به. فقد استعملت الأفعال من هذه الكلم كما استعملت فيما أوردته. قيل وهذا أيضًا ساقط عنا وذلك أنا إنما قلنا أن هذه المثل من الأفعال تجري مجرى المثال الواحد لقيام بعضها قيام بعض واشتراكها في اللفظ وليس كذلك أب وأخ ونحوهما ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة الفعل ولا باسم فاعل ولا مصدر ولا مفعول فيكون رجوع المحذوف منه في أبوت كأنه موجود في أب وإنما أب

_ 1 أي أسديت إليه نعمة.

من أبوت كمدق ومكحلة من دققت وكحلت وكذلك القول في أخ ويد ودم وبقية تلك الأسماء فهذا فرق. فقد علمت بما قدمناه وهضبنا فيه -قوة تداخل الأصول الثلاثة الاسم والفعل والحرف وتمازجها وتقدم بعضها على بعض تارة وتأخرها عنه أخرى. فلهذا ذهب أبو علي -رحمه الله- إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم والميسم يباشر به صفحة المرسوم، لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوة والضعف في الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف نحوها هيت1، وحاحيت2 وعاعيت3، وجأجأت4 وحأحأت5، وشأشأت6، وهذا كثير في الرجز.. وقد كانت حضرتني وقتًا فيه

_ 1 أي زجرت الإبل قائلًا: ها، ها. 2 وهو أيضًا زجر. 3 يقال - عاعي بالغنم أي زجرها. 4 أي زجرت الإبل قائلًا جؤجؤ. 5 حأحأ بالكبش: زجره. 6 سأسأ وشأشأ زجر الحمار.

نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر، فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره. ويمكننا بعد هذا العرض لكلام ابن جني أن نوجز أهم المسائل التي ذكرها وهي: 1- الإجابة عن سؤاله عن سر النشأة الأولى للغة، فيذكر ابن جني أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد، بل وقعت متلاحقة متتابعة سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح وهو رأي أبو الحسن الأخفش، ويرى ابن جني أنه صواب. 2- الإجابة عن سؤاله عن سبب اختلاف اللهجات العربية، فيذكر رأي أبي الحسن الأخفش -في سبب اختلاف لغات العرب- وأن ذلك يرجع إلى أن اختلاف لغات العرب إنما جاء من قبل أن أول ما وضع منها وضع مختلفًا وإن كان متمشيًّا مع القياس ثم حدثت

بعد ذلك ألفاظ كثيرة لحاجة الناس إليها وهذه الألفاظ قيست على ما كان في الأصل مختلفًا. أو أن تكون الألفاظ الموضوعة أولا ليست مختلفة، ثم حدثت ألفاظ أخرى للحاجة إليها خالفت القياس الأول إلى قياس ثانٍ جارٍ في الصحة مجرى الأول. ويؤيد ابن جني ذلك فيقول: ولا يبعد عندي ما قال من موضعين أحدهما سعة القياس.. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني، فلا عليك أيهما تقدم، وأيهما تأخر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به. ونحن نرى أن سبب اختلاف اللهجات العربية إنما جاء من تفرق القبائل في شبه الجزيرة العربية وخضوعها لعوامل التطور الجغرافية والاجتماعية والفردية والصراع اللغوي بين اللغة العربية وغيرها من اللغات المجاورة.

تطور اللغة بين ابن جني وابن فارس

تطور اللغة بين ابن جني وابن فارس: يرى ابن جني أن تطور اللغة دعت إليه الحاجة وهو بهذا يخالف ابن فارس في رأيه من أن اللغة تطورت على يد الأنبياء، نبيًّا نبيًّا، إلى أن ختم الأنبياء بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ويتفق مع ابن فارس في أن اللغة لم توجد دفعة واحدة. 3- ثم تكلم ابن جني عن الاسم والفعل والحرف متسائلًا أي الأجناس الثلاثة تقدم؟ وهل وقع جميعها في وقت واحد أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة وشيئًا بعد شيء وصدرًا بعد صدر؟ وذكر في ذلك مذهب أستاذه أبي علي الفارسي وهو وقوع كل صدر منها في زمان واحد وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل، وإن كانت رتبة الاسم في النفس أن يكون قبل الفعل والفعل قبل الحرف، وذلك أن المتواضعين عندما علموا أنهم محتاجون إلى التعبير عن

المعاني وإن هذا التعبير لا بد له من الأسماء والأفعال وللحرف فأتوا بهما جميعًا ولا عليهم بعد هذا بأيها بدءوا أبالاسم، أم بالفعل، أم بالحرف. ثم ذكر بعض التعديلات التي تمنع تقدم أيها على الآخر منها: 1- وجود أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ومنطلق من انطلق، فكيف يكون الاسم متقدمًا على الفعل ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه. 2- وأيضًا فالمصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت، والاستحجار من الحجر وكلاهما اسم. 3- وأيضًا فإن كثيرًا من الأفعال مشتق من الحروف: نحو قولهم سألتك حاجة فلوليت لي، أي قلت لي: لولا، وسألتك حاجة فلا ليت لي، أي قلت لي: لا. وسوّف الرجل، أي قلت له: سوف.

4- واشتقوا أيضًا المصدر وهو اسم، من الحرف فقالوا: اللالاة واللولاة، وإن كان الحرف متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله الاسم والفعل. 5- ثم تكلم ابن جني عن مسألة أخرى هي وضع المبنيات وما غير لكثرة استعماله وعرض لرأيين لأبي الحسن الأخفش ورجح أحدهما فقال: وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدوا بتغييره "وهذا هو الرأي الأول" الرأي الثاني: وقد كان أيضًا أجاز أن يكون "أي ما غير" قد كانت قديمًا معربة فلما كثرت غيرت فيما بعد. ويرجح ابن جني الرأي الأول قائلًا والقول عندي هو الأول ويعلل ذلك بقوله: لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها- بمصاير أمرها فتركوا بعض الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمس وهؤلاء.. إلخ، واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس؛ لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو

كلمتين فكان ذلك أخف عليهم من تكلفهم على مشقة اختلاف الإعراب وإتقائهم الزيغ والزلل فيه، ألا ترى أن من لا يعرف فيقول ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول، ولا يتجشم خلفًا الإعراف ليفاد منه المعنى- ثم يضيف ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا أقتل فضموا الأول توقعًا للضمة تأتي من بعد. فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم، وكيف وحيث وقبل، وبعد لأنهم سيستكثرون منها فيما بعد فوجب أن يغيروها. 5- مما تعرض له ابن جني عدم اشتقاق الحروف من غيرها، فالحرف يشتق منها ولا تشتق هي أبدًا؛ لأنها جامدة غير متصرفة فأشبهت أصول الكلام التي وضعت في أول الأمر، والتي لا تكون مشتقة من شيء؛ لأنه ليس قبلها ما تكون فرعًا له مشتقة منه، فلا يمكن أن يقال: إن الحرف "نعم" مشتق من النعمة والنعيم، أو الحرف "بجل" من البجال والبجيل.

6- ثم ينتهي ابن جني إلى النتيجة لكل ما سبق فيثبت أن اللغة كلها وضعت مرة واحدة لقوة تداخل الأصول الثلاثة مما جعل أبا علي الفارسي يذهب إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة، كالرقم تضعه على المرقوم. ثم ختم الباب بأن ذكر أنه كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف، نحو هاهيت وحاحيت وعاعيت وجأجأت وحأحأت وسأسأت بين أن هذا كثير في الزجر الذي ألف فيه كتابًا. ومن الأبواب التي تعرض لها ابن جني وتختص بدارسة اللهجات باب اختلاف اللغات وكلها حجة وسنذكره فيما يأتي ونلقي الضوء عليه. فلقد عقد ابن جني بابًا في الخصائص سماه "اختلاف اللغات وكلها حجة"1 يقول فيه: اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك، ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن

_ 1 الخصائص ج 2 ص10: 12.

لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أبل لها، وأشد أنسابها فأما رد إحدهما بالأخرى فلا. أولا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف"1 هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. فأما أن تقل إحداهما جدًّا وتكثر الآخر جدًّا فإنك تأخذ بأوسعها رواية وأقواهما قياسًا، ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك قياسًا على قول. قضاعة المال

_ 1 ورد أصل هذا الحديث في حديث طويل في البخاري في كتاب فضائل القرآن.

له ومررت به، ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياسًا على لغة من قال: مررت بكش وعجبت منكس. حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميمًا تقول في موضع إن: عن، تقول عن عبد الله قائم، وأنشد ذو الرمة عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلة1 ... ....................................... قال الأصمعي: سمعت ابن هرمة2 ينشد هارون الرشيد: أعن تغنت على ساق مطوقة ... ورقاء تدعو هديلًا فوق أعواد

_ 1 عجز هذا البيت هو: ........................................ ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم انظر: خزانة الأدب 4/ 495. 2 هو إبراهيم في البخاري في كتاب فضائل القرآن.

وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون.. تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون، بكسر أوائل الحروف. أما كشكشة ربيعة فإنما يريد قوله مع كاف ضمير المؤنث إنكش ورأيتكش وأعطيتكش، تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضًا: أعطيتكس ومنكس وعنكس. وهذا في الوقف دون الوصل. فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعي عليه. كذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا، ويقول على مذهب من قال كذا كذا. وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه.

فلقد أشار ابن جني في هذا الفصل إلى بعض الصفات المشهورة عن لهجات القبائل المختلفة، وبين أن بعض تلك الصفات أشهر من بعضها الآخر، وأكثر شيوعًا في اللغة، ومع ذلك فجميع هذه اللهجات مما يحتج به ولا يوصف الإنسان بالخطأ في اللغة إن استعمل القليلة الاستعمال وإنما يكون مخطئًا لأجود اللغتين، وهذا في غير الشعر أو السجع أما في الشعر أو السجع فإذا اضطر الشاعر أو الساجع إلى استعمال هذه اللهجات فلا ضير عليه حينئذ ولا لوم ويقبل منه ذلك، وابن جني في هذا الفصل يفرق بين نوعين مختلفين من اللهجات. النوع الأول: وهو أن تكون العلاقة بين اللغة الفصحى1 القرشية، واللهجة المستعملة متقاربة وحينئذ لا يجوز لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك

_ 1 اللغة الفصحى عند ابن حني لغة قريش.

من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القاسين أقبل لها، وأشد أنسابها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أو لا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ" هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. النوع الثاني: وهو أن تكون العلاقة بين العربية الفصحى واللهجة المستعملة متباينة وقد بينه ابن جني بقوله: "فأما أن تقل إحداهما جدًّا وتكثر الأخرى فإنك تأخذ بأوسعها رواية، وأقواها قياسًا". وهو بهذا يرفض اعتبار بعض ظواهر اللهجات من النوع الفصيح الذي يمكن أن يقاس عليه، وقد بنى حكمه برداءة الظاهر أو رقيها على أساس كثرة الاستعمال وقلته.

وابن جني يمنع القياس على الظواهر الرديئة في لهجات العرب ولا يمنع اللهجات نفسها، بل يعترف بقياسها وقواعدها ويرى أن إحداها ليست بأولى من الأخرى، ولا أحق. فاللهجات جميعها عنده تستوي في ميزان الفصاحة، عندما تجرد من الظواهر الرديئة، التي تنحرف باللهجة عن سنن الفصاحة، تباعد بين اللهجة واللغة الفصحى. وهذه الفروق الخاصة بين اللهجات واللغة الفصحى التي ذكرها ابن جني أطلق عليها ابن فارس في الصاحبي "اللغات المذمومة"1 وأطلق عليها السيوطي في المزهر "الرديء المذموم من اللغات2" وبعد ذلك نرى ابن جني يسرد هذه الظواهر فيما حدث به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء". يعقد

_ 1 الصاحبي في فقه اللغة ص24: 27. 2 المزهر ج1 ص221: 226.

ابن جني فصلًا آخر عنون له بـ"باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه" فيقر ابن جني أن الفصيح قد ينتقل لسانه إلى لغة أخرى فصيحة، فيعد فصيحًا في اللغتين، ويؤخذ بلغته في كلتيهما، فأما أن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها، ويؤخذ بالأولى، حتى كأنه لم يزل من أهلها، ويوضع ذلك بما يحكي من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف أبا خيرة، لان جلدك، فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره، "لما حذرناه" قبل ووصفنا فهذا هو القياس وعليه يجب العمل. وإليك ما قاله ابن جني في هذا الباب يقول: اعلم أن المعمول عليه في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه فإن كان إنما انتقل من لغة إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها، كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها، حتى كأنه إنما حضر غائب

من أهل اللغة التي صار إليها، أو نطق ساكت من أهلها. فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها "ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لو يزل من أهلها وهذا واضح. فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فسادًا بعد أن لم يكن فيها فيما علمت، أن يكون فيها فساد آخر فيما تعلمه فإن أخذت به كنت آخذًا بفاسد عروض1 ما حدث فيها من الفساد فيما علمت، قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة، لأنه يتوجه2 منه أن توقف عن الأخذ بها، مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز أن تعلمه بعد زمان، فما علمت من حال غيرها فسادًا حادثًا لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك من ألا تطيب نفسًا بلغة، وإن كانت فصيحة مستحكمة، فإذا كان أخذك بهذا مؤديًا إلى هذا رفضته ولم تأخذ به، وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها، وألا

_ 1 العروض: النظير أو الطريقة. 2 يتوجه: يلزم.

توجه ظنًّا إليها، ولا تسوء رأيًا في المشهود بظاهرة من اعتدال أمرها وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال كيف تقول: استأصل الله عرقاتهم، ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو هيهات أبا خيرة؛ لأن جلدك: فليس لأحد أن يقول -كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره لما حذرناه قبل ووصفنا. فهذا هو القياس، وعليه يجب أن يكون العلم. ولقد عرض ابن جني لدراسة اللهجات في أبواب أخرى نذكر منها: 1- باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا الخصائص ج1 ص370. 2- باب فيما يرد عن العربي مخالفًا لما عليه الجمهور ج1 ص385.

3- باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعها ويعتمدها، أم يلغيها ويطرح حكمها، ج2 ص14. وغيرها كثير في كتاب الخصائص مدروسة دراسة علمية موضوعية ينهل كل باحث وكل دارس للهجات العربية فجزى الله ابن جني عن هذا خير الجزاء.

وهذه بعض الدراسات من كتابي الصحابي في فقه اللغة والخصائص

وهذه بعض الدراسات من كتابي الصحابي في فقه اللغة والخصائص مخالفة الظاهر من حيث النوع والعدد ... وهذه بعض الدراسات من كتابي الصاحبي في فقه اللغة والخصائص مخالفة الظاهر من حيث النوع والعدد: الواحد يراد به الجمع: قال ابن فارس ومن سنن العرب ذكر الواحد والمراد الجميع، كقولهم للجماعة "ضيف" و"عدو" قال الله جل ثناؤه: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} 1 وقال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} 2، 3. فقال: "طفلا" ولم يقل أطفالًا. وحسن لفظ الواحد هنا أنه موضع أضعاف للعباد وإقلال لهم فكان لفظ الواحد لقلته أشبه بالموضع من لفظ الجماعة؛ لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد4. وصف الجميع بصفة الواحد: يقول ابن فارس: العرب تصف الجميع بصفة الواحد كقوله جل ثناؤه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} 5 وهم

_ 1 الحجر 68. وأصل الضيف مصدر ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم وقد يجمع فيقال: أضياف وضيوف وضيفان. 2 غافر: 67. 3 الصاحبي ص348. 4 المحتسب لابن جني ج1 ص202. 5 المائدة: 6.

جماعة1. وكذلك قوله جل ثناؤه: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 2. والظهير المعين. قال الفراء: يريد أعوانًا فقال ظهير ولم يقل ظهراء3. مخاطبة الواحد خطاب الجمع: "إذا أريد هو ومن معه" قال الله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 4. فخوطب -صلى الله عليه وسلم- بلفظ الجمع لأنه أريد هو وأمته. وكان ابن مسعود يقرأ "ارجعوا إليهم" أراد الرسول ومن معه. ومن قال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} 5 فكأنه خاطب مدرههم6، 7.

_ 1 فقال جنبًا ولم يقل أجنابًا. 2 التحريم: 4، وانظر الصاحبي ص351. 3 لسان العرب مادة "ظهر". قال السيوطي نقلًا عن أبي حيان في الارتشاف الاسم الثلاثي غير المضعف يأتي فعل: اسمًا نحو: طنب، وصفة نحو: جنب. المزهر ج2 ص6. 4 الطلاق: 1. 5 النمل: 37. 6 المدرة: زعيم القوم وخطيبهم والمتكلم عنهم والذي يرجعون إلى رأيه. والجمع المدارة. 7 الصاحبي ص355 من رئيس.

نسبة الفعل إلى أحد اثنين وهو لهما: قال الله جل ثناؤه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} 1 وإنما انفضوا إليهما2 وقال الله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 3 وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} 4، 5. مراعاة المعنى: "الحمل على المعنى" تقول: كل القوم عاقل أي كل واحد منهم على انفراده عاقل هذا هو الظاهر وهو طريق الحمل على اللفظ؛ قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 7 فوحد. وقال "الأعشى":

_ 1 الجمعة: 11. 2 وأعاد الضمير على التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود. 3 التوبة: 62. 4 البقرة: 45. 5 الصاحبي ص362. 6 مريم: 95. 7 الكهف: 33.

كلام أبويكم كان فرع دعامة1 فلم يقل كانا. فأما قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} 2 {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 3، فمحمول على المعنى دون اللفظ وكأنه إنما حمل عليه هنا لأن كلًّا فيه غير مضافة، فلما لم تضف إلى جماعة عوض من ذلك ذكر الجماعة في الخبر ألا ترى أنه لو قال: وكل له قانت لم يكن فيه لفظ الجمع البتة. ولما قال: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 4 فجاء بلفظ الجماعة مضافًا إليها، استغنى به عن ذكر الجماعة في الخبر. وتقول على المعنى كل نسائك قائمات5. ومن الحمل على المعنى أيضًا قراءة عمر بن فائد الأسواري ورويت عن يعقوب: "يا نساء النبي من تأت منكن"6 بالتاء. قال أبو الفتح

_ 1 الفرع: الرئيس الشريف. ودعامة العشيرة: سيدها شبه بدعامة البناء، يعني أنه رئيس منسول من رئيس. 2 النمل: 87. 3 البقرة: 116. 4 مريم: 95. 5 انظر الخصائص: ج3 ص335-336. 6 الأحزاب: 30.

هذا حمل على المعنى كأن "من" هنا امرأة في المعنى فكأنه قال: أية امرأة أتت منكن بفاحشة وهو كثير في الكلام معناه للبيان كقول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 1، 2. ومن الحمل على معنى "من" قول الفرزدق: تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... تكن مثل من يا ذئب يصطحبان

_ 1 يونس: 42. 2 المحتسب لابن جني ج2 ص179.

تذكير المؤنث

تذكير المؤنث: تذكير المؤنث، واسع جدًّا؛ لأنه رد فرع إلى أصل، وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا ومنظومًا يقول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها ذهب بالأرض إلى الموضع والمكان. ومنه قول الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} 1 أي هذا الشخص أو هذا المرئي ونحوه. وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} 2؛ لأن الموعظة والوعظ واحد. وقالوا في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3 أنه أراد بالرحمة هنا المطر، ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل فعيل على قول "جرير": بأعينك أعداء وهن صديق وقول "عروة بن حزام": ولا عفراء منك قريب وعليه قول الحطيئة: ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي4 ذهب بالنفس إلى الإنسان فذكر.

_ 1 الأنعام: 78. 2 البقرة: 275. 3 الأعراف: 56. 4 الذود: ثلاثة أبعره إلى العشرة وثلاثة أنفس: يقصد نفسه وزوجه وابنته مليكة، ويقصد بالذود ثلاثًا من النوق كان يقوم بها على عياله ففقد إحداها.

تأنيث المذكر

تأنيث المذكر: وأما تأنيث المذكرة فقراءة من قرأ: "تلتقطه بعض السيارة"1 وحكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع رجلًا من اليمن يقول: فلان لغوب2 جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول جاءته كتابي! قال نعم أليس بصحيفة3.

_ 1 يوسف: 10. أنث لما كان بعض السيارة سيارة في المعنى، تقول رجل سائر وسيار، والسيارة الجماعة، قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} . 2 اللغوب: الأحمق. 3 انظر الخصائص ج1، ص249 وج2 ص411، 412، ص415، 416.

الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد

الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد: قد يحمل على اللفظ وعلى المعنى في كلام واحد، وذلك جائز عند العرب، وظاهر وجه الحكمة في لغتهم، قال الفرزدق: كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي1 فقوله: كلاهما قد أقلعا ضعيف؛ لأنه حمل على المعنى؛ وقوله: وكلا أنفيهما رابي قوي؛ لأنه حمل على اللفظ. وقال الله سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2 فحمل أول الكلام على اللفظ، وآخره على المعنى، والحمل على اللفظ أقوى3. وقرأ قتادة "وكل

_ 1 كلا تعرب إعراب المثنى بشرط الإضافة لمضمر فإن أضيف إلى ظاهر لزمتها الألف. 2 البقرة: 112. 3 انظر الخصائص ج3 ص314.

آتاه داخرين"1 قال أبو الفتح حمل "أتاه" على لفظ "كل"؛ إذ كان منفردًا، و"داخرين" على معناها ولو قلب ذلك لم يحسن، لو قال: وكل أتوه داخرين. ضعف، وذلك أنه لما قلت: وكل فقد جئت بلفظ مفرد، فإذا قلت: أتوه فقد حملت على المعنى وانصرفت عن اللفظ ثم إذا قلت: من بعد "داخرا" فأفردت فقد تراجعت إلى ما انصرفت عنه فكان ذلك قلقًا في الصنعة2. ومن باب الحمل على المعنى باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف وهو ما يسمى بالتضمين: وهو إيقاع لفظ موقع غيره ومعاملته معاملته؛ لتضمنه معناه واشتماله عليه. من ذلك اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به؛ لأنه في معنى فعل يتعدى به يقول ابن جني: اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد

_ 1 النمل: 87. 2 المحتسب لابن جني ج2 ص145.

الحرفين موقع صاحبه إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر. فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه. وذلك كقول الله عز اسمه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1، 2 وأنت لا تقول: رفث إلى المرأة وإنما تقول: رفث بها أو معها، لكنها لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ"إلى" كقولك: أفضيت إلى المرأة، جئت بـ"إلى" مع الرفث، إيذانًا وإشعارًا أنه بمعناه كما صححوا عور وحول لما كانا في معنى إعور وإحول.. وعليه قول الفرزدق: قد قتل الله زيادًا عني

_ 1 الرفث كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وجعل كفاية عن الجماع هنا تنبيهًا على جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه، وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. المفردات للراغب ص19. 2 البقرة: 187.

لما كان معنى قد قتله: قد صرفه عداه بعن ثم يقول ابن جني: ومما جاء من الحروف في موضع غيره على نحو مما ذكرناه قوله: إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها أراد عني ووجهه: أنها إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه فلذلك استعمل على بمعنى "عن"1. وجاء الحرف "على" متضمنًا معنى "مع" كما في التنزيل العزيز {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} 2، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} 3. كما جاء متضمنًا معنى لام التعليل كما في التنزيل العزيز {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 4 أي لهدايته إياكم.

_ 1 الخصائص ج2 ص308-311 بتصرف. 2 البقرة: 177. 3 الرعد: 6. 4 البقرة: 185

كما جاء متضمنًا معنى "في" كما في التنزيل العزيز: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} 1. كما جاء متضمنًا معنى "من" كما في التنزيل العزيز: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 2. كما جاء متضمنًا معنى "الباء" كما في التنزيل العزيز: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} 3. وتقول: "اركب على اسم الله"4 أي باسم الله. الحرف "إلى" تضمن معنى "مع" كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 5 أي مع الله6. وتضمن معنى "عند" قال أبو كبير الهذلي: أزهير هل عن مشية من معدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول

_ 1 القصص: 15. 2 المطففين: 2. 3 الأعراف: 105. 4 انظر مغني اللبيب لابن هشام ج1 ص153-154. 5 الصف: 14. 6 انظر: الصاحبي ص179 والخصائص ج2 ص307.

أم لا سبيل إلى الشباب وذِكرُه ... أشهى إِلَيَّ من الرحيق السَّلْسَلِ1 وتضمن معنى "في" في قول النابغة: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلى به القار أجرب2 أي في الناس. حرف "الباء" تضمن معنى "عن" كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} 3 أي فأسأل عنه. وتضمن معنى "على" كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 4.

_ 1 أزهير: ترخيم زهيرة، أشهى إلي: أشهى عندي. 2 انظر: مغني اللبيب ج1 ص79. 3 الفرقان: 59. 4 آل عمران: 75.

وقال راشد بن عبد الله السلمي: أرب يبول الثُّعْلبَانُ برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب1 وتضمن معنى "من" كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 2 وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف السحب: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى3 لجج خضر لهن نئيج4 أي: من ماء البحر. وتضمن معنى "إلى" كقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} 5 أي أحسن إلي6. الحرف "عن".

_ 1 وكان يسمى في الجاهلية "غاوي بن عبد الغزى" وكان سادنا لصنم فرأى ثعلبًا يبول عليه، فقال: والله لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، وأنشد البيت والتحق برسول الله. 2 الإنسان: 6. 3 متى بمعنى "من" في لغة هذيل. 4 النئيج: الصوت. 5 يوسف: 100. 6 انظر مغني اللبيب ج1 ص159.

تضمن معنى "من" كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 1. {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} 2 بدليل: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ} 3 {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} 4، 5. الحرف "في" تكون بمعنى على ويحتجون بقوله عز اسمه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 6 أي عليها7. وتكون بمعنى مع في قوله جل ثناؤه: {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} 8، 9.

_ 1 الشورى: 25. 2 الأحقاف: 16. 3 المائدة: 27. 4 البقرة: 127. 5 انظر مغني اللبيب ج1 ص159. 6 طه: 71. 7 الصاحبي ص239 والخصائص ج1 ص308. 8 النمل: 12. 9 الصاحبي: 239.

حرف "اللام" تضمن معنى "إلى" كما في قوله تعالى في التنزيل العزيز: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 1، {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} 2، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3. وتضمن معنى "على" نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} 4، {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} 5، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} 6. وتضمن معنى "في" كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 7، {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 8. وتضمن معنى "عند" كقولهم "كتبته لخمس خلون".

_ 1 الزلزلة: 5. 2 الرعد: 2. 3 الأنعام: 28. 4 الإسراء: 109. 5 يونس: 12. 6 الصافات: 103. 7 الأنبياء: 47. 8 الأعراف: 187.

وتضمن معنى "بعد" كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 1، وفي الحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". وتضمن معنى "مع" كقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا: فلما تفرقنا كأني ومالكًا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معًا وتضمن عني "من" نحو سمعت له صراخًا. وقول جرير: لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل وتضمن معنى "عن" كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا} 2، 3.

_ 1 الإسراء: 78. 2 الأحقاف: 11. 3 انظر مغني اللبيب ج1 ص233- 235.

حرف "الفاء" تضمن معنى الواو كقول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل1 الحرف "لولا" يدل على امتناع شيء لوجود غيره، يتضمن معنى "هلا" في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أي فهلا2 وقوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} 3. الحرف "حتى" تضمن معنى "كي" إذا وقعت قبل المضارع المستقبل وفي التنزيل العزيز: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} 4، وقد ترد بمعنى إلا كقول الشاعر: ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليلُ5

_ 1 انظر: مغني اللبيب ج1 ص174. 2 انظر: الصاحبي ص253 "وهلا كلمة تحضيض تختص بالجمل الفعلية كسائر أدوات التضيض". 3 المنافقون: 10. 4 البقرة: 217. 5 انظر: مغني اللبيب ج1 ص133، 134، وانظر أيضًا الصاحبي بمعنى "كي".

باب نظم العرب لا يقوله غيرهم

باب نظم العرب لا يقوله غيرهم ... باب نظم للعرب لا يقوله غيرهم: يقول ابن فارس في كتابه الصاحبي: يقولون: "عاد فلان شيخًا" وهو لم يكن شيخًا قط. و"عاد الماء آجنًا" وهو لم يكن آجنًا فيعود ويقول الهذلي: ....................................... ... قَد عادَ رَهباً رَذِيًّا طائِشَ القَدَمِ وقال: قطعت الدهر في الشهوات حتى ... أعادتني عسيفًا عبد عيد ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 1، وهم لم يكونوا في نور قط. ومثله: {يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} 2، وهو لم يكن في ذلك قط. وقال الله جل ثناؤه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 3، فقال: "عاد" ولم يكن عرجونًا قبل4.

_ 1 البقرة: 257. 2 النحل: 70. 3 يس: 39. 4 الصاحبي: ص450، 451.

لغويات قل ولا تقل

لغويات: قل ولا تقل قل: أجب عن الأسئلة ولا تقل أجب على الأسئلة. قل: لا يخفى عليّ، ولا تقول لا يخفى عني. وهذا ما ورد في القرآن الكريم وفي النصوص الفصيحة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} 1، {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} 2، {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} 3، {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} 4. قل: كشف عن، ولا تقل كشف على

_ 1 آل عمران: 5. 2 إبراهيم: 38. 3 غافر: 16. 4 فصلت: 40.

قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 1، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} 2، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} 3، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 4، {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} 5، {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 6، أما قولهم كشف عليه الطبيب: بمعنى فحص حالته وكشف عن علته فمولد. قل: دون ذلك ومن دون ذلك، ولا تقل بدون ذلك. قال تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 7، {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 8، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

_ 1 النحل: 54. 2 الأعراف: 134. 3 النمل: 44. 4 يونس: 12. 5 ق: 22. 6 الدخان: 12. 7 البقرة: 23. 8 آل عمران: 64.

ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2، {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} 3، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} 4، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 5، {فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} 7، {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} 8. قل سَنَام ولا تقل سِنَام. قل حلبة السباق ولا تقل حلبه. قل حلْقة القوم وحَلْقة الباب وتلقى العلم في حلْقة فلان: في مجلس علمه ولا تقل حَلَقة بالفتح، قال أبو

_ 1 النساء: 48. 2 المائدة: 116. 3 الأنعام 71. 4 الأعراف: 205. 5 التوبة: 116. 6 يونس 104. 7 هود: 113. 8 الفرقان: 18.

عمرو الشيباني ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا الذين يحلقون الشعر جمع حالق1. قل مدينة جِدة بالكسر أو جُدة بالضم ولا تقل جَدة بالفتح. قل خِدْمات ولا تقل خَدَمَات. قل أعتذر عن عدم الحضور ولا تقل أعتذر عن الحضور. قل: فلان عزب ولا تقل أعزب. قل استبدل الإيمان بالكفر ولا تقل استبدل الكفر بالإيمان؛ لأن الباء لا تدخل إلا على المتروك. قال تعال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} 2، "قل جاءوا من كل حَدَب وصوب" ولا تقل جاءوا من كل

_ 1 المزهر للسيوطي ج2 ص104. 2 البقرة: 61.

حَدْب وصوْب بسكون الدال قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} 1. قل المطلوب حضور الطلاب في منتصف الساعة العاشرة ولا تقل في تمام التاسعة والنصف.

_ 1 الأنبياء: 96.

المزهر

المزهر: مؤلفه: السيوطي، ولد جلال الدين السيوطي في غرة شهر رجب عام 849هـ وتوفي في 19 جمادى الأولى عام 911هـ عن اثنين وستين عامًا إلا شهرًا تقريبًا. مكانته العلمية: لقد حفظ القرآن وهو صغير سنه دون الثمانية، كما حفظ عديدًا من كتب اللغة وغيرها كالعمدة، وألفية ابن مالك ورحل إلى بلاد كثيرة في سبيل طلب العلم، وبذلك تبوأ مكانة علمية مرموقة فلقد تولى الإفتاء، وأملى الحديث وألف كتبه المعروفة المشهورة التي حفظت التراث اللغوي بما حوته من أقوال المتقدمين من علماء العربية.

مؤلفاته: ألف السيوطي كتبًا كثيرة كالإتقان في علوم القرآن والاقتراح في أصول النحو، وحسن المحاضرة والأشباه والنظائر، والمزهر الذي نحن بصدد دراسة بعض ما حواه، إلا أنه وصف بكثرة النقل عن القدماء ولم تكن له فكرة مستقلة عن سابقيه، أو تعليقًا في كثير من كتبه. القصد من تأليف المزهر: لقد بين السيوطي القصد والهدف من تأليف هذا الكتاب في مقدمته حيث يقول: هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبويبه.. حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع.. وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك، ويعتني في بيانها بتمهيد المسالك، غير أن هذا المجموع لم يسبقني به سابق، ولا طرق سبيله طارق.

وسنتناول في دراستنا بعض ما نقله السيوطي عن العلماء السابقين في نشأة اللغة، وكذلك تطور اللغة وما ذكر في هذا -الكتاب خاصًّا باللهجات. لقد خصص السيوطي مسألة في بيان واضع اللغة: أتوقيف هي ووحي، أم اصطلاح وتواطؤ. نقل فيها أقوال العلماء السابقين كابن فارس وابن جني وغيرهما فيقول1: قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أن لغة العرب توقيف دليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه الأسماء والتي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وجمل وحمار وأشبه ذلك في الأمم وغيرها.. نقل جميع ما قاله ابن فارس في نشأة اللغة انتهى بقوله هذا كله كلام ابن فارس وكان من أهل السنة.

_ 1 المزهر ج1 ص8-10.

ثم نقل قول ابن جني الذي نقلناه سابقًا فقال1: قال ابن جني في الخصائص وكان هو وشيخه أبو علي فارسي معتزليين: باب القول على أصل اللغة؟ أإلهام هي أم اصطلاح؟ هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف.. إلى أن قال هذا كله كلام ابن جني. ثم ذكر السيوطي بعد أن نقل قول ابن فارس وابن جني، ورأى الإمام فخر الدين الرازي فقال: وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعه تاج الدين الأرموي في الحاصل، وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخصه: النظر الثاني في الواضع: الألفاظ إما أن تدل على المعاني بذواتها، أو بوضع الله إياها، أو بوضع الناس أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس، والأول مذهب عباد بن سليمان،

_ 1 المزهر ج2 ص10-16.

والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك1 والثالث مذهب أبي هاشم، وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من الله وهو مذهب قوم، أو الابتداء من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني. والمحققون متفقون في الكل إلا في مذهب عباد. ودليل فساده أن اللفظ لو دل بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازم باطل فالمذموم كذلك. واحتج عباد بأنه لولا الدلالة الذاتية لكان وضع لفظ من بين الألفاظ بإزاء معنى من بين المعاني ترجيحًا بلا مرجح وهو محال. وجوابه أن الواضع إن كان هو الله فتخصيصه الألفاظ بالمعاني كتخصيص العالم بالإيجاد في وقت من بين سائر الأوقات. وإن كان هو الناس فلعله لتعين الخطران بالبال، ودليل إمكان التوقف احتمال خلق الله تعالى الألفاظ

_ 1 هو محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني عالم بالأصول والكلام توفي علم 406هـ.

ووضعها بإزاء المعاني وخلق علوم ضرورية في ناس بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني. ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولى واحد أو جمع وضع الألفاظ لمعانٍ، ثم يفهموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالدات مع أطفالهن. وهذان الدليلان هما دليلا إمكان التوقيف. واحتج القائلون بالتوقيف بوجوه: أولها: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 فالأسماء كلها معلمة من عند الله بالنص، وكذا الأفعال والحروف؛ لعدم القائل بالفصل، ولأن الأفعال والحروف أيضًا أسماء؛ لأن الاسم ما كان علامة التميز من تصرف النحاة لا من اللغة، ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر.

_ 1 من الآية رقم31 من سورة البقرة.

وثانيها: أنه سبحانه وتعالى: ثم قومًا في إطلاقهم أسماء غير توقيفية في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} 1 وذلك يقضي كون البواقي توقيفية. وثالثهما: قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 2 والألسنة اللحمانية غير مرادة لعدم اختلافها؛ ولأن بدائع الصنع في غيرها أكثر، فالمراد هي اللغات. ورابعها: وهو عقلي: لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب ببعضها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة يعود إليه الكلام ويلزم أما الدور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال، فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.

_ 1 من الآية رقم23 من سورة النجم. 2 من الآية رقم22 من سورة الروم.

واحتج القائلون بالاصطلاح بوجهين: أحدهما: لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت واسطة البعثة على التوقيف والتقدم باطل وبيان الملازمة أنها كانت توقيفية فلا بد من واسطة بين الله والبشر، وهو النبي لاستحالة خطاب الله تعالى مع كل أحد بيان بطلان لتقدم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1، وهذا يقتضي تقدم اللغة على البعثة. والثاني: لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علمًا ضروريًّا في العاقل أنه وضع الألفاظ لكذا، أو في غير العاقبل أو بألا يخلق علمًا ضروريًا أصلًا، والأول باطل، إلا لكان العاقل عالمًا بالله بالضرورة؛ لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة يكون الله واضع كذا لكذا

_ 1 من الآية رقم4 من سورة إبراهيم.

كان علمه بالله ضروريًا ولو كان كذلك لبطل التكليف، والثاني باطل؛ لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام هذه الألفاظ. والثالث باطل؛ لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريًّا احتاج إلى توقيف آخر ولزم التسلسل. ثم ذكر الجواب عن حجج أصحاب التوقيف فقال: والجواب عن الأولى من حجج أصحاب التوقيف: لم لا يتجاوز أن يكون المُراد من تعليم الأسماء الإلهام إلى وضعها ولا يقال التعليم إيجاد العلم فإنا لا نسلم بذلك، بل التعليم فعل يترتب عليه العلم ولأجله يقال علمته فلم يتعلم. سلمنا أن التعليم إيجاد العلم، لكن تقرر في الكلام أن أفعال العباد مخلوقه لله تعالى، فعلى هذا: العلم الحاصل بها موجد الله. سلمناه لكن الأسماء هي سمات الأشياء وعلاماتها مثل أن يعلم آدم صلاح الخيل للعدو، والجمال للحمل، والثيران للحرث فلم قلتم: إن المراد ليس ذلك؟ وتخصيص الأسماء بالألفاظ عرف جديد، سلمنا أن

المراد هو الألفاظ، ولكن لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدم وعلمها الله آدم، وعن الثانية أنه تعالى: ذمهم لأنهم سموا الأصنام آلهة اعتقدوها كذلك. وعن الثالثة: أن اللسان هو الجارحة المخصوصة، وهي غير مرادة بالإتقان والمجاز الذي ذكرتموه يعارضه مجازات أخرى، نحو مخارج الحروف، أو القدرة عليها، فلم يثبت الترجيح. وعن الرابعة: أن الاصطلاح لا يستدعى تقدم اصطلاح آخر بدليل تعليم الوالدين الطفل دون سابقة اصطلاح ثمة. ثم أجاب السيوطي عن حجتي أصحاب الاصطلاح فقال: والجواب عن الأولى من حجتى أصحاب الاصطلاح: لا نسلم

توقف على البعثة، لجواز أن يخلق الله فيهم العلم الضروري بأن الألفاظ وضعت لكذا وكذا. وعن الثانية: لم يخلق الله العلم الضروري في هذا لا يكون واضعًا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني، وعلى هذا لا يكون العلم بالله ضروريًّا. سلمناه، ولكن لم لا يجوز أن يكون الإله معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء، قوله لبطل التكليف قلنا: بالمعرفة. أما بسائر التكاليف فلا. انتهى. وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول: اختلف العلماء في اللغة هل تثبت توقيفًا أو اصطلاحًا فذهب المعتزلة إلى أن اللغات بأسرها تثبت اصطلاحًا، وذهبت طائفة إلى أنها تثبت توقيفًا.

وزعم الأستاذ أبو إسحاق1 الإسفراييني أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع يثبت توقيفًا، وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحد من الطرفين. ومثال القاضى أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفًا، ويجوز أن يثبت اصطلاحًا، ويجوز أن يثبت بعضه توقيفًا وبعضه اصطلاحًا وكل ممكن. وعمدة القاضى أن الممكن هو الذي لو قدر موجودًا لم يعرض من وجودها محال فوجب قطع القول بإمكانها. وعمدة المعتزلة أن اللغات لا تدل على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوز اختلافها، ولو ثبتت توقيفًا من جهة الله تعالى لكان ينبغى أن يخلق الله العلم بالصيغة ثم يخلق العلم بالمدلول، ثم يخلق لنا العلم بجعل الصنعة دليلًا على ذلك المدلول، ولو خلق لنا العلم

_ 1 هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران عالم بالفقه والأصول وكان ثقة في الحديث توفي عام 418هـ.

بصفاته لجاز أن يخلق لنا العلم بذاته، ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة. قلنا هذا بناء على أصل فاسد، فإنا نقول يجوز أن يخلق الله لنا للعلم بذاته ضرورة، وهذه المسألة فرع ذلك الأصل. وعمدة الأستاذ أبي إسحق الإسفراييني أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبت اصطلاحًا لافتقر إلى اصطلاح آخر يتقدمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له. قلنا هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يفهم غيره معاني الأسامي كالطفل ينشأ غير عالم بمعاني الألفاظ، ثم يتعلمها من الأبوين من غير تقدم اصطلاح. وعمدة من قال إنها تثبت توقيفًا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهذا لا حجة فيه من جهة القطع، فإنه عموم والعموم ظاهر في الاستغراق، وليس بنص.

قال القاضي: أما الجواز فثابت من جهة القطع بالدليل الذي قدمته، وأما كيفية الوقوف فأنا متوقف، فإن دل دليل من السمع على ذلك ثبت به. وقال إمام الحرمين1 في البرهان: اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات، فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى، وصار صائرون إلى أنها تثبيت اصطلاحًا وتواطؤًا، وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لا بد أن يفرض فيه التوقيف. والمختار عندنا أن العقل يجوز ذلك كله، فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلف دليل فيه، ومعناه أن يثبت الله تعالى في الصدور علومًا بديهية بصيغ مخصوصة بمعاني، فتتبين العقلاء الصيغ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار، وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحًا فهو أنه لا يبعد أن يحرك

_ 1 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الملقب بإمام الحرمين توفي 478هـ.

الله تعالى نفوس العقلاء لذلك، ويعلم بعضهم مراد بعض، ثم ينشئون على اختيارهم صيغًا وتقترن بما يريدون أحوال لهم، وأشار إلى المسميات، وهذا غير مُستنكر، وبهذا المسلك ينطق الطفل على طوال ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه أفهامه، فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيله الأستاذ وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس، فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيت والاصطلاح بعدها معنى، ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم الضرورية على النحو المبين. فإن قيل: قد أثبتم الجواز في الوجهين عمومًا، فما الذي اتفق عندكم وقوعه؟ قُلنا: ليس هذا مما يتطرق إليه بمسالك العقول فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلا بالسمع المحض، ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك: وليس في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} دليل على أحد الجائزين، فإنه لا يمتنع أن تكون اللغات لم يكن يعلمها فعلمه الله تعالى إياها، ولا يمتنع

أن الله تعالى أثبتها ابتداء وعلمه إياها. ثم نقل السيوطي قول الغزالي1 فقال: وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف يثبت بقول الرسول، ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة، وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاح يعرض بعد دعاء البعض، البعض بالاصطلاح، ولا بد من عبارة يفهم منها قصد الاصطلاح وقال آخرون: ما يفهم منه قصد التواضع توقيفي دون ما عداه، ونحن نجوز كونها اصطلاحية بأن يحرك الله رأس واحد فيفهم بأن يثبت الرب تعالى مراسم وخطوطًا يفهم الناظر فيها العبارات، ثم يتعلم البعض عن البعض. وكيف لا يجوز في العقل كل واحد منهما ونحن نرى الصبي يتكلم بكلمة أبويه، ويفهم ذلك من قرائن

_ 1 أي الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. هو محمد بن محمد الغزالي، حجة الإسلام وهو فيلسوف متصوف توفي 505هـ.

أحوالها في حالة صغره فإذن الكل جائز. وأما وقوع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل، ولا دليل في السمع وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، ظاهر في كونه توقيفًا وليس بقاطع ويحتمل كونها مصطلحًا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم. وينقل السيوطي أيضًا رأي ابن الحاجب1 فيقول: وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهر من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري قال القاضى تاج الدين السبكيّ في شرح منهاج البيضاوي: معنى قول ابن الحاجب القول بالوقف عن القطع بواحد من هذه الاحتمالات، وترجيح مذهب الأشعري بغلبة الظن. قال: وقد كان بعض الضعفاء يقول: إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد؛ لأن العلماء في المسألة بين متوقف وقاطع بمقالته، فالقول بالظهور لا قائل به، قال: وهذا ضعيف، فإن المتوقف لعدم قاطع

_ 1 هو عثمان بن عمر بن أبي بكر من علماء العربية ولد في إسنا من صعيد جمهورية مصر العربية وتوفي عام 646هـ، وكان أبوه حاجبًا فسمي بابن الحاجب.

قد يرجح بالظن، ثم إن كانت المسألة ظنية اكتفى في العمل بها بذلك الترجيح، وإلا توقف عن العمل بها، ثم قال والإنصاف أن الأدلة ظاهرة فيما قاله الأشعري فالمتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب، هذا هو الحق الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن علي المعروف1 بابن دقيق العيد في شرح العنوان2. هذا بعض ما نقله السيوطيّ عن العلماء السابقين في نشأة اللغة. ونلاحظ على السيوطيّ أنه ينقل الآراء فقط ولا يعلق عليها، ونعذره في ذلك؛ لأن البحث في نشأة اللغة الخاصة قال فيه العلماء كثيرًا ولم يصلوا إلى نتيجة مؤكدة وكل أدلتهم لا يعتد بها ثم نرى السيوطيّ بعد ذلك ينقل رأي أبي الحسن الأخفش عن ابن جني فيقول: قال ابن جني: الصواب وهو رأي أبي الحسن الأخفش سواء

_ 1 الزيادة عن كشف الظنون والأعلام للزركلي، وهو قاضٍ من أكابر العلماء بالأصول وأصله من منفلوط ومولده في ينبع، وفاته بالقاهرة عام 702هـ. 2 اسم الكتاب: شرح عنوان الوصول في الأصول.

قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح، أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد بل وقعت متلاحقة متتابعة. ويعقد السيوطي فصلًا في كتابه المزهر للهجات، ويرى كما رأى غيره من العلماء أن لهجة قريش هي أفصح لهجات العرب فيقول: تحت النوع الحادي عشر "معرفة الرديء المذموم من اللغات"1 هو أقبح اللغات وأنزلها درجة، قال الفراء: كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، ثم ذكر بعض اللغات المذمومة فقال: من ذلك الكشكشة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينًا، فيقولون: رأيتكش وبكش وعليكش فمنهم من يثبتها حالة الوقف فقط وهو الأشهر، ومنهم من يثبتها في الوصل أيضًا، ومنهم من

_ 1 المزهر: 1/ 221.

يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف فيقول: منش وعليش. ومن ذلك: الكسكسة وهي في ربيعة ومضر، يجعلون بعد الكاف أو مكانها في المذكر سينا على ما تقدم، وقصدوا بذلك الفرق بينهما. ومن ذلك العنعنة: وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك، وفي ألم علم وفي أذن عذن. ومن ذلك: الفحفحة في لغة هذيل يجعلون الحاء عينًا. ومن ذلك: الوكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، يقولون عليكم وبكم حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة. ومن ذلك الوهم في لغة كلب، يقولون: منهم وعنهم، وبينهم وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة.

ومن ذلك العجعجة في لغة قضاعة، يجعلون الياء المشددة جيمًا يقولون في تميمي تميمج. ومن ذلك الاستنطاء: في لغة سعد بن بكر، وهذيل والأزد، وقيس والأنصار، تجعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء كأنطى في أعطى. ومن ذلك الوتم في لغة اليمن، تجعل السين تاء كالنات في الناس. ومن ذلك الشنشنة في لغة اليمن تجعل الكاف شينًا مطلقا مثل: لبيش اللهم لبيش أي لبيك. ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا كالعجبة يريد الكعبة، وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب اللغات المذمومة فذكر منها العنعنة والكشكشة والكسكسة، والحرف الذي بين القاف والكاف في لغة تميم والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن وإبدال الياء جيمًا في الإضافة نحو غلامج، وفي النسب نحو بصرج وكوفج

ومن ذلك الخرم وهو زيادة حرف في الكلام لا الذي في العروض كقوله: ولا للمابهم أبدا دواء وقوله: وصاليات ككما يؤثقين قال هذا قبيح لا يزيد الكلام قوة بل يقبحه. وذكر الثعالبي في فقه اللغة من ذلك اللخلخانية تعرض في لغة أعراب الشحر وعمان كقولهم: "مشا الله كان" أي ما شاء الله كان. والطمطمانية تعرض في لغة حمير كقولهم: طالب أمهواء أي طاب الهواء. ثم ذكر بعد ذلك أمثلة من الألفاظ المفردة كقوله: الطعسفة لغة مرغوب عنها يقال مر يطعسف في الأرض إذا مر بخبطها. وكقوله يقال

حفرت البئر حتى أمهيت وأموهت وإن شئت أمهيت وهي أبعد اللغات فيها. والمعنى انتهيت إلى الماء.. ويخصص فصلًا آخر لمعرفة مختلف اللغات. فينقل فيه ما قاله ابن فارس وقد ذكرنا في أول هذا البحث فلا داعي لاعادته ثانيا. ثم بعد ذلك يلحق هذا الفصل بفوائد يذكر فيها ما قاله ابن جني في الخصائص: اللغات على اختلافها كلها حجة، وينقل أيضًا ما ذكرناه عن ابن جني في العربي الفصيح ينتقل لسانه. ثم ينقل في الفائدة الثالثة ما قاله ابن فارس فيقول: قال ابن فارس في فقه اللغة باب انتهاء الخلاف في اللغات، يقع في الكلمة الواحدة لغتان، كقولهم: الصرام والصرام1، ولحصاد والحصاد.

_ 1 صرام النخل: أوان إدراكه.

ويقع في الكلمات ثلاث لغات، نحو: الزجاج والزجاج ... ويقع في الكلمة أربع لغات نحو الصداق والصداق والصدقة والصدقة. ويكون فيها خمس لغات نحو: الشمال1 الشمل والشمأل، والشيمل والشمل. ويكون فيها ست لغات نحو: قسطاس، وقسطاس وقصطاس وقستاط، وقساط وقساط، ولا يكون أكثر من هذا. والكلام بعد ذلك أربعة أبواب. الباب الأول: المجمع عليه الذي لا علة فيه وهو الأكثر والأعم مثل الحمد والشكر لا اختلاف فيه في بناء ولا حركة. والباب الثاني: ما فيه لغتان وأكثر إلا أن إحدى اللغات أفصح. نحو بغذاذ وبغداد وبغدان هي كلها صحيحة إلا أن بعضها في كلام العرب أصح وأفصح.

_ 1 الشمأل: الريح التي تهب من ناحية القطب.

والباب الثالث: ما فيه لغتان أو ثلاث أو أكثر وهي متساوية كالحصاد والحصاد والصداق والصداق فأيًّا ما قال القائل فصحيح فصيح. الباب الرابع: ما فيه لغة واحدة إلا أن المولدين غيروا فصارت ألسنتهم فيه بالخطأ جارية نحو قولهم: اصرف الله عنك كذا وانجاص1. وامرأة مطاوعة، وعرق النسا بكسر النون وما أشبه ذا وعلى هذه الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب كتابه المسمى "فصيح الكلام" أخبرنا به أبو الحسن القطان عنه -انتهى كلام ابن فارس.

_ 1 جاص عن الشيء: مال وحاد عنه.

الرابعة: قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات.

معرفة الفصيح من العرب

معرفة الفصيح من العرب: عقد السيوطي فصلًا في معرفة الفصيح من العرب وضح فيه أفصح الخلق ثم أفصح العرب، فقال: أفصح الخلق على الإطلاق سيدنا ومولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبيب رب العالمين جل وعز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب"، رواه أصحاب الغريب ورووه أيضًا بلفظ: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد1، أني من قريش"، وتقدم حديث: أن عمر قال: يا رسول الله مالك أفصحنا، ولم تخرج من بين أظهرنا ... الحديث وروى البيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي: أن رجلًا قال يا رسول الله، ما أفصحك! فما رأينا الذي هو أعرب منك. قال: "حق لي فإنما أنزل القرآن عليّ بلسان عربي مبين" وقال الخطابي: اعلم أن الله لما

_ 1 بيد ملازمة للإضافة إلى أن واسمها، ويرى الدماميني أنه لا دليل على اسميتها لجواز أن تكون حرف استثناء وعلى القول باسميتها لها استعمالان أحدهما أنها بمعنى غير إلا أنها منصوبة دائمًا ولا تقع صفة ولا تكون إلا في الاستثناء المنقطع ومنه الحديث: "نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا". ثانيهما: بمعنى من أجل كحديث::"أنا أفصح العرب بيد أني من قريش" ويرى ابن مالك وغيره أنا بمعنى غير وأن الحديث من تأكيد المدح بما يشبه الذم.

وضع رسوله -صلى الله عليه وسلم- موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها ثم أمده بجوامع الكلم. قال: "ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: "مات حتف أنفه"، و"حمي الوطيس" و "لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين". في ألفاظ عديدة تجري مجرى الأمثال وقد يدخل في هذا إحداثه الأسماء الشرعية. انتهى. وأفصح العرب قريش، قال ابن فارس في فقه اللغة باب القول في أفصح العرب أخبرني أبو الحسن1 أحمد بن محمد مولى بنى هاشم بقزوين، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي، "قال" حدثنا إسماعيل بن أبي عبد الله، قال: أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لإشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة وذلك أن الله تعالى

_ 1 في فقه اللغة للثعالبي: أبو الحسين.

اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فجعل قريشًا قطان حرمه وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش "في دارهم" وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة ولا كسر أسد وقيس وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن هم الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيد: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك

لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وأني نشأت في بني سعد بن بكر" وكان مستعرضًا فيهم وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم. وعن ابن مسعود: أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف، ثم أضاف: وقال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وتلتلة بهراء وكسكسة ربيعة وكشكشة هوازن وتضجع قريش وعجرفية ضبة وفسر تلتلة بكسر أوائل الأفعال المضارعة. وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابة المسمى "بالألفاظ والحروف" كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدى وعنهم أخذ اللسان

العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم1.

_ 1 الْمُزهر ج1، ص209-211.

أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق

أجناس 1 الكلام في الاتفاق والافتراق: من كلام العرب اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. فأما اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين فقولك: ذهب، وجاء، وقام، وقعد، وتكلم، وسكت. ورجل، وامرأة، وفرس، وجمل، وناقة، ويوم، وليلة، ويد، ورجل، وهذا هو الكثير الذي لا يحاط. وأما اختلاف اللفظين والمعنى واحد فقولك: ظننت وحسبت، وقعدت وجلست، وذهبت ومضيت وانطلقت، وذراع وساعد، وأنف ومرسن، وبر وحنطة، وريب وشك، وعير وحمار، ويسمى "الترادف": وهو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد:

_ 1 الأجناس جمع جنس، والجنس بالكسر أعم من النوع وهو: كل ضرب من الشيء، فالإبل جنس من البهائم.

وأن فوائده أن تكسر الوسائل -أي الطرق- إلى الإخبار عما في النفس، فإنه ربما نسي الإنسان أحد اللفظين، أو عسر عليه النطق به إذا كان ألثغ، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك ومنها التوسع في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النظم والنثر؛ وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع والقافية والتجنيس1 والترصيع2 وغير ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال

_ 1 التجنيس هو أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها. 2 والترصيع هو أن يكون حشو البيت مسجوعًا وأصله في قولهم رصعت العقد إذا فصلته وذلك كقول امرئ القيس: مخش مجش مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَتَيسِ ظِباءِ الحُلَّبِ العدوان المخش: الجريء الماضى. المجش: غليظ الصوت. التيس: فحل الظباء. الحلب: نبات ترعاه الظباء فتضمر عليه. العدوان: شديد العدو. فأتى باللفظتين الأولتين مجموعتين في تصريف واحد وبالتاليتين لها شبيهتين في التصريف وربما كان السجع ليس في لفظة لفظة ولكن في لفظتين لفظتين بالوزن نفسه ومنه قول أبي صخر الهذلي: سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت على الكرم الذوائب جمع ذؤابة، شعر في أعلى ناصية الفرس، الترائب: عظام الصدر أو ما ولي الترقوتين منه أو اليدان والرجلان والعينان أو موضع القلادة. الضرائب: جمع ضريبة وهي الطبيعة. والمحض: الخالص.

مرادفه مع ذلك اللفظ ومنها قد يكون أحد المترادفين أجلى من الآخر فيكون شرحًا للآخر الخفي وقد ينعكس الحال بالنسبة إلى قوم دون آخرين. والمترادف مما امتازت به اللغة العربية وطالت به غيرها من اللغات ومظهر من مظاهر اتساع اللغة وعظمها. وأما اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين فيسمى اللفظ المتعدد المعنى وينقسم إلى قسمين: 1- المشترك اللفظي. 2- التضاد1. فالمشترك اللفظي هو: اللفظ الواحد الدال على معنين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة، تقول وجدت شيئًا إذا أردت وجدان الضالة ووجدت على الرجل من الموجدة، "وهي الغضب". ووجدت زيدًا كريمًا أي علمت.

_ 1 التضاد: نوع من المشترك ولا يتم الحديث عن المشترك اللفظي إلا بالتعرض للألفاظ التي يدل للفظ منها على المعنى وضده والتي اصطلح القدماء من علماء العربية على تسميتها بالأضداد.

كذلك: ضربت زيدًا، وضربت مثلًا، وضربت في الأرض إذا أبعدت وكذلك العين: عين المال، والعين التي يبصر بها، وعين الماء، والعين من السحاب الذي يأتي من قبل القبلة، وعين الشيء إذا أردت حقيقته، وعين الميزان. وهذا الضرب كثير جدًّا. التضاد: هو دلالة اللفظ على معنيين متضادين دلالة مستوية عند أهل تلك اللغة. كقولهم جلل: للعظيم ولليسير أو الصغير. والجون للأسود وللأبيض، والصارخ للمستغيث وللمغيث، الصريم: الصبح والصريم الليل والظن يقين وشك. اعتراض: فإن قيل بأن الاسم منبئ عن المعنى الذي تحته، ودال عليه وموضح تأويله، فإذا اعتور1 اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب، وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على هذا المسمى.

_ 1 اعتور: تناوب.

الجواب: إن كلام العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره، لا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه استكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين؛ لأنها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، فلا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد، فمن ذلك قول الشاعر: كل شيء ما خلا الموت جلل ... والفتى يسعى ويلهيه الأمل1 فدل ما تقدم قبل "جلل وتأخر بعده، على أن معناه كل شيء ما خلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه عظيم. وقال الآخر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي

_ 1 في اللسان نسب للبيد وروي: كل شيء ما خلا الله جلل ... والمرء يسعى ويلهيه الأمل

فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي1 فدل الكلام على أنه أراد: فلئن عفوت لأعفون عفوًا عظيمًا؛ لأن الإنسان يفخر بصفحة عن ذنب حقير يسير. فلما كان اللبس في هذين زائلًا عن جميع السامعين لم يذكر وقوع الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظين. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} 2، وكذا {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} 3، أراد الذين يتيقنون ذلك، فلم يذهب وهم عاقل إلى أن الله تعالى يمدح قومًا بالشك في لقائه، وقال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} 4، أي اعتقدوا اعتقادًا كانوا منه في حكم المتيقنين، وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيه} 5،

_ 1 سطا عليه وبه سطوًا وسطوة: صال أو قهر بالبطش. 2 من الآية رقم 46 من سورة البقرة. 3 من الآية رقم 249 من سورة البقرة. 4 من الآية رقم 2 من سورة الحشر. 5 من الآية رقم 87 من سورة الأنبياء، وذا النون لقب يونس عليه السلام.

فقد قيل الأولى أن يكون من الظن الذي هو التوهم. أي ظن أن لن نضيق عليه. ولا يقول مسلم تيقن يونس أن الله لا يقدر عليه1 ومنه إضافة على ما تقدم تقارب اللفظين والمعنيين: كالحزم والحزن2. فالحزم من الأرض أرفع من الحزن، كالخضم وهو بالفم كله والقضم وهو بأطراف الأسنان، ومثل نضخ الماء فالنضخ أقوى من النضح، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف والخاء لغلظها لما هو أقوى منه. وقسم وقصم فالقصم أقوى فعلًا من القسم؛ لأن القصم يكون معه الدق وأما القسم، فقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ3 أحدهما فخضت الصاد بالأقوى والسين

_ 1 انظر المُزهر للسيوطي ج1، ص388، 398، 399 بتصرف. انظر أيضًا المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني معنى الآيات ص317. 2 الحزم والحزن: ما غلظ من الأرض. 3 ينكأ: يقشر

بالأضعف. ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولنا: مدحه إذا كان حيًّا وابنه إذا كان ميتًا. ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا: حرج إذا وقع في الحرج وتحرج إذا تباعد من الحرج، كذا أثم وتأثم، وفزع إذا أتاه الفزع وفزع عن قلبه إذا نحى عنه الفزع.

طريقة البحث

طريقة البحث مدخل ... طريقة البحث: البحث في مفهومه اللغوي والعلمي التفتيش والتنقيب والكشف، يقال: بحثت عن الأمر، وبحثت كذا، قال الله جل ثناؤه: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} 1. والأمم مدينة بمعرفتها وتقدمها وازدهارها الحضاري للبحوث أيًّا كان نوعها، والباحثون والمنقبون هم عمالقة الفكر الإنساني وميادين البحث لا تزال واسعة وزاخرة بكل ما تحتاج إليه الإنسانية في حضارتها وازدهارها، والأمل معقود في شباب العالم الإسلامي في جامعته الأزهرية بعد أن تهيأت له الأسباب وفتحت أمامه النوافذ أن يعيد إلى تراث السلف الصالح شبابه، ويعيد للأمة الإسلامية مجدها وعزها وحضارتها، لتسهم في إثراء الفكر العالمي.

_ 1 من الآية رقم 31 من سورة المائدة.

أنواع البحوث: يمكن أن نقسم البحوث إلى ثلاثة أنواع هي: 1- النوع الأول: ويقدمه الطالب على مرحلة الدراسة بالكلية يكلف الطالب بتقديم بحث كل عام وذلك حتى يتمرس بالبحث ويتدرب على طريقته ويعتاد هذا العمل، فتربي عنده ملكة البحث والتنقيب والتفتيش في بطون الكتب، قديمها وحديثها، ويكفي في هذه المرحلة حسن التقسيم والتنظيم وجمع أطراف الموضوع. 2- النوع الثاني: ويقدمه الطالب في مرحلة الماجستير لنيل هذه الدرجة العلمية، وتظهر في هذا البحث شخصية الباحث فيوازن ويتفد ويرجح ويضعف ويضيف ويحذف وتغتفر له هنات لا تغتفر في بحث الدكتوراه.

3- النوع الثالث: ويقدمه الطالب في مرحلة الدكتوراه، وفي هذه المرحلة تنضج في الباحث ملكة الموازنة والمقارنة والنقد.

الأسس التي يقوم عليها البحث

الأسس التي يقوم عليها البحث: يمكن أن نجمل الأسس التي يقوم عليها البحث فيما يأتي: أ- اختيار الموضوع: يعد اختيار الموضوع من العوامل المهمة في نجاح البحث، فيجب على الطالب أن يختار الموضوع الخصب الطريف القابل للدراسة، بحيث يمكن أن يجد فيه مجالًا للتجديد والتحقيق والإضافة، وأن يعرف أبعاده وغايته ويستطيع أن يوفيه حقه من البحث الدقيق والعرض المناسب فتارة يختار الموضوع لأن فيه إبهامًا وغموضًا، ومهمة الباحث في هذا هي كشف الإبهام وإزالة الغموض وإبراز موضوعه في ثوبه الجديد والصحيح، فتتسع دائرة الانتفاع به وتزداد أهميته. وتارة أخرى يكون الموضوع ناقصًا لم يصل الدارسون إلى أبعاده وحدوده، بل تركت بعض الجوانب أو الثغرات، فلا بأس أن يختار الباحث هذا الموضوع،

وذلك ليوفي هذه الجوانب حقها من البحث الدقيق ويسد هذه الثغرات وتارة ثالثة يكون الموضوع متعلقًا بتحقيق التراث، ومهمة الباحث في هذا شاقة وصعبة ويمكن إيجازها في الآتي: 1- البحث في المكتبات العالمية عن نسخ الكتاب سواءًا كانت مخطوطة أم مطبوعة. 2- ثم يبدأ مرحلة المقارنة بين النسخ ليقف على ما بينها من فروق، فتارة تكون بزيادة في بعض النسخ ونقص في بعضها الآخر، وتارة أخرى تكون باختلاف في عبارة أو لفظ أو تحريف، ويجب على الباحث المحقق أن يقف على النص الصحيح. 3- بعد التحقق من النص الصحيح يبدأ مشيرًا إلى النص المخالف أو المحرف أو الزائد ... معقبًا عليه. وإذا أورد المؤلف نصا من غيره رجع المحقق إلى مصدره واستوثق منه، وإذا ذكر المؤلف أسماء

لأشخاص أو لقبائل وعشائر أو لجبال وأنهار، أو لأماكن ... ذكر المحقق ترجمة موجزة لكل ما يرد من ذلك. ب- وبعد اختيار الموضوع تبدأ مرحلة التخطيط المبدئي للبحث وذلك بوضع الخطوط الكبرى للبحث بتقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول ومقدمة وخاتمة، تسمى "خطة البحث" من حق الباحث أن يغير من خطته إذا اقتضى البحث ذلك. ج- مصادر البحث ومراجعه: ويجب على الباحث استقصاء جميع المصادر والمراجع التي تتصل بموضوع بحثه أو معظمها وذلك حتى تكتمل صورة البحث وقضاياه وأبعاده أمام الباحث ومما يساعد الباحث في ذلك هو اتباع ما يأتي: 1- الاطلاع على فهارس المكتبات العامة والخاصة.

2- الاطلاع على الموسوعات العلمية المتخصصة والتي تعالج الفرع الذي يندرج تحته موضوع البحث. 3- الاطلاع على فهارس المصادر والمراجع والتي تجد في أواخر الكتب التي تتصل بموضوع بحثه. 4- الاطلاع على فهارس رسائل الماجستير والدكتوراه التي لها صلة بموضوع بحثه. 5- الاطلاع على قوائم دور النشر والمكتبات التي تذكر فيها كل عام أسماء الكتب موزعة تحت فنونها. 6- الاتصال بأستاذه المشرف على بحثه وبالأساتذة المتخصصين لكبار ذوي الخبرة والمدربة في هذا التخصص.

د- جمع المادة العلمية: ويبدأ الطالب في قراءة مصادر ومراجع بحثه قراءة فاحصة متأنية واعية، ويوجد نظامان لتسجيل المادة العلمية. 1- نظام الدوسيه المقسم وفق الأبواب والفصول بحيث يمكن نزع أو إضافة أوراق حسب ما تقتضيه طبيعة البحث. 2- نظام البطاقات تكون من حجم واحد وتقسم وفق الأبواب والفصول لكل باب أو فصل مجموعة مستقلة، ويسجل عنوان المجموعة على كل بطاقة من بطاقاتها ويفصل بين المجموعات ببطاقات مختلفة الألوان يسجل على كل بطاقة فاصلة عنوان المجموعة التابعة لها، وذلك لتسهيل مراجعتها ولضبط مادة البحث وعناصره ضبطًا دقيقًا، فيكتب الباحث ما يراه مناسبًا لبحثه في هذه البطاقات ويكتب على البطاقة اسم الكتاب

الذي نقل منه النص ورقم الجزء والصفحة والطبعة والناشر ومكان النشر ويجب أن يفرق بين ما ينقله حرفيًّا وبين ما ينقله بتصرف أو بتلخيص فيكتب في النقل الحرفي: كتاب كذا جزء كذا صفحة كذا. وفي النقل بتصرف أو بتلخيص يكتب "انظر كتاب كذا أو يقول بتصرف أو بإيجاز". وعلى الباحث أن يتوخى سلامة الأسلوب ووضوحه. هـ- المخطط التفصيلي للبحث: ومن خلال القراءة الواسعة وفي ضوء المادة الغزيرة التي جمعها الباحث يستطيع أن يضع الخطة التفصيلية للبحث ويعرضها على أستاذه المشرف فينقص أو يزيد تبعًا لحاجة البحث حتى يكون الضوء كاشفًا لكل زوايا البحث موضحًا جميع أبعاده ومسائله.

و كتابة البحث "تبييض البحث": وهنا يبدأ الباحث في قراءة ما دونه في البطاقات وتدبره وإعادة النقل فيما سجل وكتب من نصوص ليتأكد من سلامتها ويستوثق من صحتها ومن مواضعها في مصادرها ويطمئن إلى أن كل شيء في موضعه وأن كل مسائله أخذت نصيبها من البحث، إذا اطمأن إلى ذلك بدأ في صياغة الموضوع وعرضه وإخراجه بثوبه الجديد فيدون قطوف جهوده وثمرة أفكاره وخلاصة آرائه فيناقش ويعقب، ويضعف ويرجح، وكلما انتهى من مجموعة انتقل إلى غيرها إلى أن يتم بحثه ثم يعرضه على أستاذه المشرف فإذا أقره بدأ يكتب له "مقدمة" يذكر فيها سبب اختياره لهذا الموضوع وقيمة البحث ومنهجه والجهد الذي بذله فيه ثم يختم البحث بخاتمة يلخص فيها بحثه ويشير إلى النتائج العلمية التي توصل إليها ثم يتبع ذلك بقائمة للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها مع ذكر اسم المؤلف والناشر ومكان الطبع

وتاريخه وإذا كان المرجع محققًا أو مترجمًا ذكر اسم المحقق أو المترجم ثم يتبع ذلك بفهرس للموضوعات. هذه هي أهم الأسس التي يقوم عليها البحث الناجح.

التصنيف العشري

وتيسيرًا على الباحث أقدم له: التصنيف العشري: وضعه "ديوي" وسار فيه على تقسيم المعرفة الإنسانية إلى عشرة أقسام، يرمز لكل منها بثلاثة أرقام ويمكن تقسيم كل منها إلى أقسام عشرية، وقد جرت عليه بعض التعديلات ليلائم المكتبة العربية، وهذه أشهر الأنواع: 0-99 المعارف العامة 30- دوائر المعارف العامة. 31- دوائر المعارف العربية. 90- الكتب النادرة. 91- المخطوطات. 100-199 الفلسفة البحث. 200-299 العلوم الدينية. 210- الفكر الإسلامي. 211- القرآن وعلومه. 212- التفسير. 213- الحديث وعلومه، الدين. 215- الفقه. 216- التصوف. 217- المذاهب الإسلامية. 218- الشعائر والتقاليد. 219- السيرة النبوية. 300-399

112- مناهج "الاجتماع، والسكان، والسياسة، والاقتصاد، والقانون". 400-499 اللغات 400.9 تاريخ اللغات. 401- علم اللغة المقارن. 410- اللغة العربية. 411- الأصوات. 412- الاشتقاق. 413- المعاجم. 414- الصرف. 415- النحو. 214- أصول. 417- اللهجات. 418- تعليم اللغة العربية. 419- تاريخ اللغة العربية. 492- السامية. 493- الحامية. 496- اللغات الإفريقية. 500-599 العلوم البحتة: "الجيولوجيا، الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء". 600-699 العلوم التطبيقية: "التكنولوجيا، العلوم الاجتماعية، الطب، الهندسة، الزراعة". 700-799 الفنون: "العمارة، الزخرفة، الرسم، الرياضة". 800-899 الآداب. 800- الأدب. 808- الإنشاء الأدبي. 809- تاريخ الأدب والنقد. 810- الأدب العربي. 811- الشعر. 812- المسرحية. 813- القصص "ق".

416- العروض. 814- المقالات. 815- الخطب. 816- الرسائل. 819- البلاغة. 900-999- التاريخ والجغرافية، والتراجم "ت".

الفهرس

الفهرس ... الصفحة الموضوع 3 المقدمة الدراسات اللغوية العربية نشأتها وتدرجها 4 الدراسات اللغوية 9 دواعيها 19 نشأتها 24 مصادرها 37 أهدافها 41 اتجاهاتها 44 تشعبها 52 الصاحبي في فقه اللغة لأبي فارس أحمد بن فارس 54 الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: لماذا سمى بالصاحبي 55 مباحث الصاحبي

الصفحة الموضوع 60 نشأة اللغة وتطورها 62 رأى ابن أبي فارس في تطور اللغة 65 أدلة القائلين بالتوقيف 65 الأدلة النقلية 67 الأدلة العقلية 68 مناقشة الألة 72 رأى ابن فارس في تطور اللغة 73 باب الأسباب الإسلامية 92 الوهم 93 الوكم 93 الفحفحة 94 الاستنطاء 102 السلطان الديني 102 السلطان الاقتصادي 103 السلطان السياسي

الصفحة الموضوع 103 السلطان اللغوي 104 ما استفادته القرشية من هذا الصراع 108 كتاب الخصائص لابن جني 108 نسبه، ونشأته 110 مكانته العلمية ومكانته الأدبية 112 مؤلفاته 113 الخصائص 116 باب القول على أصل العربية إلهام أم إصطلاحًا 131 نظرية الغريزة الكلامية 132 تصور أصحاب الغزيرة لنشأة اللغة 152 تطور اللغة بين ابن جني وابن فارس 168 مخالفة الظاهر من حيث النوع والعدد 172 تذكير المؤنث 174 تذكير المذكر

الصفحة الموضوع 175 الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد 186 باب نظم العرب لا يقوله غيرهم 187 لغويات قل ولا تقل 192 المزهر 218 معرفة الفصيح من العرب 223 أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق 231 طرق البحث 234 الأسس الذي يقوم عليها البحث 242 التصنيف العشري 245 فهرس الموضوعات

§1/1