دراسات في فقه اللغة

صبحي الصالح

مقدمات

مقدمات كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة ... بسم الله الرحمن الرحيم كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة: حين صدرت عن "مطبعة جامعة دمشق" الطبعة الأول لهذا الكتاب, طننت أن سيطول عليه الأمد قبل أن يشق طريقه إلى كليات العالم العربي ومعاهده العلمية العاية، على الرغم من استيفائه أهم المناهج المقررة لتدريس "فقه اللغه" على المستوى الجامعي، ولم يكن يطوف بخلدي آنذاك أن تنفذ هذه الدراسات بعد أشهر معدودة من تاريخ صدروها. فعهدنا بالمؤلفات العمية الرصينة أن يتراكم عليها الغبار قبل أن تحظى بشيء من اهتمام القراء! ولو سارعت إلى تلبية رغبات الزملاء من العلماء الباحثين والأساتذة الجامعيين لصدرت حينئذ الطبعة الثانية خلال العام الذي ظهرت فيه الطبعة الأولى، فقد أحسن هؤلاء الظن بالكتاب، وعدّوه أجود ما ألف في بابه، وبذلوا له من الدعاوة فوق ما يستحق، وأغراني كثير منهم في بيروت ودمشق وبغداد بإعادة نشره في أقرب فرصة ممكنة. والآن أرى لزامًا عليّ -وقد منّ الله علي بهذه الطبعة الثالثة- أن

أنقح في هذه "الدراسات" ما تنبهت إليه بنفسي, وما نبهني إليه الأصدقاء، وأن أزيدها بحثين بدا لي أنهما ينقصانها، أحدهما عن "الصيغ والأوزان"، أوضحت فيه ظاهرة الصياغة القالبية فيما تسبكه اللغة وتبنيه، بعد تفصيل الحركة الاشتقاقية فيما تلده اللغة وتحييه. أما الآخر فعرضت خلاله "للعربية في العصر الحديث", وفندت الشبهات التي يلقيها بعض الباحثين المتسرعين جزافًا، كلما رموا الفصحى بالعقم، ووصموها بالتخلف عن مجارة الحضارة في عصر العلم والنور, وقدمت في الفصل ما بدا لي مناسبًا من الاقتراحات والتوصيات. وكدت أغْنِي فصل "الأصوات العربية وثبات أصولها" بمباحث جديدة في علم الأصوات اللغوية، وأشبع القول في تطور الدلالة وعوامل هذا التطور، وأضيف بحثًا مسهبًا عن نشأة الكتابة العربية ونمائها وطرق إصلاحها، ثم آثرت أن أفرد لهذه الإضافات كتابًا مستقلًّا مفصلًا، مكتفيًا اليوم بما زدته عن "الصيغ والأوزان", و"العربية في العصر الحديث". وإني لأسدي الشكر خالصًا لكل من عمل على نشر هذه "الدراسات" في الجامعات والكليات، وأخص بالذكر زملائي في كليتي الآداب والشريعة في جامعتي دمشق وبغداد, وكلية الآداب في الجامعة اللبنانية، وإلى هؤلاء الأصدقاء الغُيُر أهدي كتابي في طبعته الثالثة, شاكرًا لدار العلم للملايين إخراجه بأبهى حلة في ثوبه الجديد. بيروت, غرة ربيع الثاني 1388. صبحي الصالح.

مقمة الطبعة الأولى

مقمة الطبعة الأولى ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى: خلال السنوات المتعاقبات التي نهضت فيها بتدريس فقه اللغة، كثيرًا ما كان الطلاب في بغداد ثم في دمشق يسألونني سؤالًا متشابهًا, أمسى على تعاقب الأيام تقليديًّا: هل لنا من كتاب جامع في فقه اللغة نتخذه عُدَّةً لنا في الدراسة, وإمامًا هاديًا إلى ينابيع العربية الصافية؟ وكانت الحيرة تدركني كلما ألقي عليّ هذا السؤال، فأنا لا أعرف كتابًا جامعًا في هذا العلم، لا قديمًا ولا حديثًا، وإن في كل كتاب أنصح به لعيبًا أو عيوبًا، وإن كانت مواطن الضعف تتفاوت بين كتاب وكتاب، وبين باحث وآخر، وبين جيل وجيل؛ في الكتب القديمة نقل أمين، واستقصاء دقيق، وعلم غزير، تفرض بها القواعد فرضًا، ولا توصف بها الحقائق وصفًا، وفي الكتب العصرية تجديد في مناهج البحث يغضّ من قيمته وَلوعُ الباحثين العرب بتقليد الأعاجم و"المستعجمين" في دراسة اللغات الإنسانية.

ولم يكن ينقذني من هذه الحيرة إلّا أن أقول للسائلين: من أفض الكتب القديمة إن التمستم كثرة النصوص وسعة المعلومات "المزهر" للسيوطي، ومن أجود الكتب العصرية إن رغبتم في تبويب اللغة على المنهج الحديث "فقه اللغة" و"علم اللغة" للدكتور علي عبد الواحد وافي. لكن الطالب الذكيّ لم يكن يخفى عليه أن جوابي إلى التهرب أقرب, فمن أراد أن يتذوق فقه اللغة علمًا مستقلًّا قائمًا برأسه, لن يجد طلبته في "المزهر" مهما يجمع من أبواب اللغة، ولن يشفي غلته ما جمعه الدكتور وافي ونسقه منذ أكثر من عشرين عامًا، وإن أطرى مجمع القاهرة يؤمئذ كتابيه. إن كتبًا حديثة أخرى تتناول أبحاثًا لغوية عميقة، قد ظهرت في العواصم العربية، ولا سيما في القاهرة، فهلّا أحلنا الدارسين على أحدها، وارتضيناه كتابًا جامعًا، وإمامًا هاديًا؟ تلك أبحاث الأستاذ المحقق الدكتور إبراهيم أنيس؛ أليس فيها كتاب واحد جامع مستوفٍ للشروط؟ إن يك في كتابه عن "اللهجات", أو في مؤلفه عن "الأصوات اللغوية", أو عن "دلالة الألفاظ", أو عن "موسيقى الشعر" ضرب من الاختصاص في عرض لونٍ معين من موضوعات اللغة، فما بالنا لا نعد كتابه القيم "من أسرار اللغة" بحثًا في خصائص العربية، والخصائص -كما يعلم كل لغوي- أهم مباحث فقه اللغة. إنني -على إجلاللي للدكتور إبراهيم أنيس، وتطلعي إلى الإفادة من كتبه، كما تَنمُّ عن ذلك "دراساتي" هذه، أرى في جُلِّ مباحثه عيبًا

لا أطيق الإغضاء عنه أو السكوت عليه، وأرجو مخلصًا أن يتداركه بنفسه في الطبعات المقبلة, وإن هذا العيب ليتمثل في تهاونه بأقول المتقدمين، وندرة عزوه الآراء إلى أصحابها، واستخفافه برد الشواهد إلى مراجعها ومظانها، كأن كتبه محاضرات عجلى لا مباحث مدروسة، أو كأنها مجموعة ملاحظات, ليس فيها تحقيق للنصوص، ونقد للوثائق، وموازنة بين المذاهب، مع أن اللغة، ولا سيما العربية، لا تدرس إلّا من خلال النصوص، فهي أصوات تسمع ثم تحفظ، ثم تنقد، وهي بذلك -كعلوم الدين- لا ينقل شيء بغير دليل يثبته، أو رواية تشهد له، أو برهان يقوم عليه. ولو صبر الدكتور أنيس على كتبه هذه صبرًا أجمل، ومنحها وقتًا أطول، ثم لمَّ شتاتها بنفسه في كتاب واحد جامع منقح غني بالمصادر الأصلية الأساسية، لأدى في هذا العصر أجلَّ خدمة لعلماء العربية، فما من شك في انطواء بحوثه على آراء أصيلة, إن فاتها الصواب أحيانًا لم تفتها الجراءة، وإن أهملت فيها النصوص غالبًا, عوض إهمالها صلاح المنهج الذي أشهد بحرارة أنه دفع الدرسات اللغوية إلى الأمام قرونًا وأجيالًا. وفي كتاب الزميل الفاضل الأستاذ المبارك "فقه اللغة", الذي تمَّ طبعه خلال هذا العام في مطبعة جامعة دمشق، نظرات ثاقبة، وآراء في العربية ناضجة, حرصنا على الإفادة منها أيضًا في "دراساتنا" هذه، لكنها لم تبرأ مما يؤخذ على مؤلفات الدكتور أنيس, فلقد يخيل إلى القارئ أن الأستاذ المبارك لا يبالي بالنصوص القديمة كثيرًا، فما يذكرها إلّا قليلًا, ونادرًا ما يعزوها في الحواشي إلى أصحابها، مع أن الأستاذ

المبارك -كما يعلم إخوانه وصحبه- من أوثق الناس صلة بالقديم، وحسبه فخرًا أنه في هذا الباب تلميذ أبيه المرحوم العلامة عبد القادر المبارك, على أن الزميل الكريم قد أوضح في مطلع كتابه أنه: "لم يعمد إلى حشد الشواهد الكثيرة من المصادر العربية القديمة، ولم يأخذ منها إلّا ما احتاج إليه للاستشهاد, أو لبيان ما سبق إليه علماؤنا من نظرات نافذة, أو إبداع في البحث", فكان منه هذا أشبه بالاعتذار عما لم يحبه لنفسه من إغفال النصوص، وكاد هذا منه يشي بما آمن به في قرارة نفسه من وجوب الاستشهاد بتلك النصوص. ولو وضعنا في ميزان النقد مقدمة العلايلي لدراسة لغة العرب لألفيناها -رغم تعاقب الأعوام عليها- ما تنفك تغني المبحث اللغوية بمدد غير ممنون، إلّا أن العلايلي حاول أحيانًا أن يجدد وهو في عالم خلقه لنفسه بمعزل عن القدامى والمحدثين، فنمَّ تجديده عن فكره الثاقب, ونظره البعيد، ولو تجافى عنه لسان العرب المبين! أما كتاب الدكتور تمام حسان "مناهج البحث في اللغة"، وكتابه الآخر "اللغة بين المعيارية والوصفية"، فقد جاءا آيتين في الدقة والتقصي فيما صورا من المذاهب الحديثة في بحوث اللغة، وإن فيهما لجهدًا مشكورًا في رد طائفة من تلك المذاهب إلى مبتدعيها, ومحاولة ناجحة أحيانًا في المقارنة بين العربية واللغات الحية من خلال ما استحدث العلماء من مناهج، ولكن في الكتابين عيبًا أجسم من عيوب الكتب العصرية السابقة، فكثيرًا ما يدخل الدكتور حسان الضيم على العربية وهو يطبق عليها ما أتقنه من المناهج الغربية، ماسحًا بذلك أصوات العرب في رموز وطلاسم "اسشراقية", فيها من عجمة الدخيل ما لا يطاق!

وقد كان سبقه إلى إدخال الضيم على العربية, واستعجال المقارنة بينها وبين اللغات الحية، جرجي زيدان في كتابه "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" وكان في زيدان عيب أقبح, يتمثل في "سطحية" علمه بهذه الأمور -إن صح هذا التعبير- وفي تطفله على ميدان اللغة، كما كان شأنه في أكثر الميادين، فما من بحث إلّا خاض فيه، ولم يكن في واحد منها من أهليه ... وكتيّب الأستاذ عبد المجيد عابدين "المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية" قد حوى -على إيجازه- آراء مستطرفة سديدة في أصول النحو, التي هي في نظرنا أجدر أن تسمى: أصول اللغة، ولكنها آراء منبثة متفرقة طال انتظارها لليد الرفيقة الأمينة التي تلمّ شعثها وتنسقها, وتستخرج منها أكرم جواهرها. ويطيب لي -بهذه المناسبة- أن أشيد بكتابٍ قيّمٍ للزميل الكبير الأستاذ سعيد الأفغاني, سماه: "في أصول النحو" ففي مباحثه الدقيقة عن القياس والاحتجاج والاشتقاق التفاتة رشيقة لطيفة أراد بها الزميل الجليل أن يسمو بدرس النحو من الفروع إلى الأصول، وينتقل به من فرض القواعد إلى وصف الحقائق، أو من عمل النحاة في أفقهم الضيق المحدود، إلى عمل اللغويين في أفقهم الرحب الطليق, وليت الأستاذ الأفغاني استكمل دراسة أبواب اللغة كلها بهذا الأسلوب الفذ، إذن لكان كتابه أجدر التصانيف العصرية أن يسمى: "فقه العربية". ولا يسعنا في هذه "الدراسات" إلّا أن نكبر جهود العاملين الخالدين في تنمية العربية؛ كالشيخ عبد القادر المغربي في "الاشتقاق والتعريب", والأب أنستاس ماري الكرملي في "نشوء العربية ونموها واكتهالها".

والأب مرمرجي الدومينيكي في أبحاثه حول "الثنائية" في العربية والساميات، والأستاذ عبد الله أمين في "الاشتقاق"، والدكتور مصطفى جواد في تحقيقاته الدقيقة التي ذكر طرفًا منها في كتيّبه "المباحث اللغوية في العراق"، والأمير مصطفى الشهابي في "المصطلحات العلمية", وفي معجمه القيم للألفاظ الزراعية. ولكن هؤلاء العلماء الأعلام كانوا يتناولون بالدراسة بعض الموضوعات الخاصة ولم يتصدوا -فيما نعلم- لتأليف كتابٍ جامعٍ مدروس في فقه الللغة، أو ربما فكّرَ بعضهم بذلك، غير أننا لم نجد لهم في المكتبة العربية كتابًا مطبوعًا منشورًا1. وإن في تفرق المباحث اللغوية على هذا النحو، وقلة التأليف في موضوعها العام الشامل، وتهاون أكثر المؤلفين فيها بأقوال المتقدمين، وإدخال بعضهم الضيم على العربية فيما كتبوه، ونكوص آخرين منهم عن مجاراة ما يجدّ كل يوم من ألوان البحث في فقه اللغة العام, وفقه اللغة المقارن، إن في هذا كله لما يهيب بالغيور على هذه اللغة الذي يريدها لتسابق اللغات الحية في مضمار الحضارة، إلى الأدلاء بدلوه، في وضع كتاب جامع يحاول به أن يلمّ شتات الآراء السديدة، قديمة وحديثة، حتى لتشمل فصول الكتاب على أفضل ما يتمنى أستاذ فقه اللغة, أو دراسه, أو الناشيء فيه, أن يجده من المباحث الأساسية الهامة.

_ 1 إلّا ما كان من اطلاعي اتفاقًا وعرضًا على مذكرات في "فقه اللغة", كان الدكتور مصطفى جواد قد أملاها على طلابه في كلية الشريعة ببغداد, ولما خلفته بتدريس هذه المادة بين سنتي 1954-1956 في الكلية المذكورة، أمليت على الطلاب مذكراتي الخاصة التي كانت الأصول الأولى لكتابي هذا؛ ثم أغنيت بعض فصولها منذ كلفت بهذه المادة في كلية الآداب بجامعة دمشق, ابتداء من سنة 1956, بيد أنني في ذلك العام اشتركت والأستاذ المبارك في التدريس، فكان من نصيبي التطبيق العملي في دراسة النصوص القديمة، ونهض الأستاذ المبارك بالجانب النظري, ثم انفردت وحدي بتدريس فقه اللغة نظريًّا وعمليًّا منذ سنة 1957 حتى يومنا هذا.

ومن الغرور أن أزعم أني بكتابي هذا جئت أملأ ذاك الفراغ، وأسد تلك الثغرات، وأحقق أمنية الدارسين، فما عانيت تدريس فقه اللغة إلّا ست سنين, ليست في حساب الزمن شيئًا مذكورًا، ولكن الله وحده يعلم أيّ جهد بذلت، وكأيٍّ من ليل سهرت، وكم من كتابٍ قرأت، حتى أخرجت للناقدين قبل المادحين "دراساتي" هذه في أسلوب علميٍّ بسيط, توخيت أن يكون بالغ الحيطة شديد الحذر، لا يفرط ولا يفرّط، ولا يبالغ ولا يقصر, ينقل من النصوص القديمة, ويعزو كل نص إلى قائله، وينقب عن المخطوطات النفيسة ويستشهد بها، ثم يوازن بينها, ولا يقنع بالجمع والتنسيق، ويقبس من آراء المحدثين، شرقيين وغربيين، ومستشرقين ومستعجمين، ثم يمحص آرءهم ويزنها بميزان النقد النزيه الدقيق. وإن من ذكرت أسماءهم آنفًا من المؤلفين والعلماء ليجنون الآن معي كلهم ثمار هذا الكتاب، فإن تك ثمارًا يانعة طيبة، فبهم طابت، ومنهم أينعت، ولأردنّ إليهم كل رأي مبتكر أخذته عنهم، وكل فكرة أصلية اقتبستها منهم. ففي فصل الاشتقاق أعجبت بتفرقة الدكتور إبراهيم أنيس بين الدلالة المكتسبة المتطورة والدلالة الوضعية الأصلية, وعن الأستاذ المبارك اقتبست فكره ثبات الأصوات في العربية, ومع الدكتور تمام حسان سرت أشواطًا في الدعوة إلى المنهج الاستقرائي الوصفي في أبحاث اللغة, ومع عبد المجيد عابدين ناديت بدراسة النحو العربي في ضوء اللغات السامية, ومن الأبوين أنستاس الكرملي ومرمرجي الدومينيكي أخذت القول بالثنئاية التاريخية في اللفظ العربي, وعلى هَدْي أسطر قليلة جامعة للأستاذ سعيد الأفغاني

بنيت فكرة الانتقال من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية1, وتابعت الشيخ المغربي على رأيه في تنزيل المعرّب منزلة العربي, وأيدت عبد الله أمين في اشتقاق العرب الفصحاء من الجواهر قبل المصادر, ومضيت مع الدكتور مصطفى جواج أقيّد النحت بالضرورة القصوى, وأخذت عن الأمير مصطفى الشهابي شروط النقل والتعريب لمصطلحات العلوم والفنون. ومع أن هذه الآراء ليس وقفًا على أولئك العلماء المحققين، إذ يجدها الباحث في مظانها الكثيرة، قديمة وحديثة، آثرنا أن ننسبها إلى مستنبطيها قبلنا؛ لأن الأمانة العلمية تفرض علينا إبراز ما لهؤلاء من فضلٍ طوقوا به جيد العرب والعربية! وبين هذه الغمرة من النظرات العلمية الجديدة المبتكرة؛ جلنا على استحياء جولات متواضعة قطعنا مراحلها الأولى على هدى أولئك العلماء، ثم وجدنا أنفسنا بغتةً تلقاء الينبوع الصافي: ينبوع هذه اللغة, فغرفنا منه غرفًا، وعببنا منه عبًّا، وذقنا من حلاوة العربية ما يظن الصوفي أنه ذاقه بعد رياضة روحية شاقة مضنية. وما لنا ألَّا تقودنا خطانا إلى ينبوع العربية الصافي وقد سلكنا إليه صراطه المستقيم؟ أليس الطريق الموصل إلى العربية مرسوم الخطوط، محدد المعالم، في

_ 1 من المعلوم أن أكثر القائلين بثنائية اللفظ العربي قد أخذوا بها في مفهومها التاريخي محاكاة لطائفة من اللغويين الغربيين, لكن الأستاذ الأفغاني أيَّد هذه الثنائية بنصوص معجمية، وأشار إلى ذلك في "أصول النحو". كما أنه فطن إلى مذهب ابن فارس في الاحتجاج للثنائية منذ عثر على مخطوطة "مقاييس اللغة" قبل أن يشرها الأستاذ المحقق عبد السلام هارون بزمنٍ غير قليل.

النصوص القديمة التي أورثنا إياها سلفنا الصالح، وصانها من عبث الأيدي علماؤنا الأبرار؟ أولم نعش في ظلال تلك النصوص؟ أولم نحمل طلابنا على أن يعيشوا في ظلالها آمنين؟ ألم نطبق عمليًّا على كتب المتقدمين ما هدتنا إليه نظرات العلماء المحدثين؟ فهل من عجب إذا سودت شواهد الأقدمين بياض كتابنا، وهذبت فيه مناهج المحدثين مقاييس أسلافنا، حتى جاء كالمرآة لملامح العربية في نشأتها وشبابها وكهولتها، وجاء معه الكثير من القديم الأصيل، والكثير من المبتكر الجديد! ولن يفوتني في ختام هذه الكلمة أن أثني أطيب الثناء وأزكاه على إدارة مطبعة جامعة دمشق وموظفيها ومستخدميها وعمالها، لما بذلوه جميعًا من عناية بهذا الكتاب حتى أخرجوه بهذه الحلّة الجميلة، وزينوه بهذه الطباعة الرشيقة، وحرصوا على الدقة في ضبط ما ورد فيه من النصوص القديمة، فلم يقع فيه من سهو التطبيع إلّا القليل النادر، وهذا النادر نفسه صححناه، في "التصويبات" ونرجو القارئ الكريم ألّا يمضي في القراءة قبل أن يصحح ما ندَّ من هذه الكلمات. وبعد ... فإنا نسأل الله أن يجعل هذا الكتاب خالصًا لوجهه الكريم، ونرجو لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, أن يجد فيه -بعد الفراغ من قراءته- تلك المرآة التي أردناها صافية، تنطبع فيها ملامح الوجه العربيّ الأصيل، وتنمحي منها قسمات الشعوبيّ الدخيل. دمشق في17 رمضان سنة 1379هـ-1960م. صبحي الصالح.

الباب الأول: فقه اللغة "نشأته وتطوره"

الباب الأول: فقه اللغة "نشأته وتطوره" الفصل الأول: بين فقه اللغة وعلم اللغة فقه اللغة وعلم اللغة: من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين علم اللغة وفقه اللغة؛ لأن جل مباحثهما متداخل لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا, وقد سمح هذا التداخل أحيانًا بإطلاق كل من التسميتين على الأخرى، حتى غدا العلماء يسردون البحوث اللغوية التي تسلك عادة في علم اللغة, ثم يقولون: وفقه اللغة يشمل معظم البحوث السابقة، ولا سيما إذا قورنت هذه البحوث بين لغتين أو لغات متعددة1. وإذا التمسنا التفرقة بين هذين الضربين من ضروب الدراسة اللغوية، من خلال التسميتين المختلفتين اللتين تطلقان عليهما، وجدناها تافهة لا

_ 1 انظر على سبيل المثال "علم اللغة" لوافي 12, وهذه الطريقة في الدراسة تسمى حينئذ الطريقة المقارنة method comparee. وراجع ما يتلعق بها في كتاب بيرو: perrot, Linguistiqus72

وزن لها، فاسم على اللغة عند الفرنجة: Linguistiqus ou Science Du Langage, أي: العلم المختص بالكلام أو اللغة؛ واسم فقه اللغة عندهم: "philologie", وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام, للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه. وعلى هذا النحو كان العلماء في عصر إحياء العلوم يفهمون "فقه اللغة"، بل كان هذا الاسم إذا أطلقوه لا ينصرف إلّا إلى دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية؛ من حيث قواعدهما, وتاريخ أدبها, ونقد نصوصها، وأصبحنا اليوم نعد هذه الدراسة متحفية، ونسميها: "فقه اللغة الاتباعي" philologie classique وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ"فقه اللغة" شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: "فقه اللغة الاتباعي" إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها, وتاريخ أبدبها, ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية الفرنجة. ومع أن دراساتنا هذه اشتملت على طائفة من المباحث خرجت عن النطاق الاتباعي التقليدي، آثرنا عندها ملحقة بفقه اللغة؛ لأنها قصرت على إبراز خصائص لغاتنا العربية، فكانت أجدر أن تسمى بالاسم الشائع عند العرب حين ألفوا في هذه الموضوعات, وإنه ليحلو لنا أن نقترح على الباحثين المعاصرين ألَّا يستبدلوا بهذه التسمية القديمة شيئًا، وأن يعمموها على جميع البحوث اللغوية؛ لأن كل علم لشيء فهو فقه، فما أجدر هذه الدراسات جميعًا أن تسمى فقهًا!

منهج فقه اللغة واستقلاله

منهج فقه اللغة واستقلاله: وحين نأخذ بهذا الاصطلاح، يسهل علينا أن نحدد نطاق فقه اللغة، سواء أتعلق بعرض المباحث القديمة عرضًا جديدًا, أم يقوانين علم اللغة في العصر الحديث، فليس شرطًا لازمًا أن يتحدث العالم اللغوي بعدة لغات؛ لأن كثيرًا من علماء اللغة وفقهائها المشاهير لم يكونوا قادرين على الاستخدام العمليّ لأية لغة غير لغتهم القومية1. على أننا لا نجحد الثمرات التي يجنيها فقه اللغة إذا أجاد تلك اللغات قراءة وكتابة وحديثًا، فلا ريب أنها توطئ لمباحثه، وترفده بالدقة فيما يستخلصه من الأحكام. وفي دراسة لغتنا العربية, بخاصة أعظم بالباحث إذا كان ملمًّا ببعض اللغات السامية؛ كالسريانية والعبرية! فبهذا الإلمام يلاحظ مواطن التقارب والاختلاف، والأخذ والاقتباس. ومنهج فقه اللغة في البحث مستقلٌّ كل الاستقلال عن مناهج العلوم الأخرى، فيجب إقصاء التفكير الفلسفي عنه، لئلَّا تجيء الأحكام فيه مطبوعة بالطابع الغيبي أو "ما وراء الطبيعة"، أو المنطق الصوري. ولعل فقه اللغة في آثار علمائنا القدامى لم يأت بالكثير من الآراء الأصلية؛ لأنهم عدوه جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي القديم، ولا سيما التفكير اليوناني الذي كان يرى أن "دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وأساليبها تصدق على جميع لغات العالم؛ إذ لا مناص من أن تجري تلك اللغات على مقياس اليونانية2". وعندما نطرح جانبًا كل أثر للمباحث التي لا تتعلق باللغة تعلقًا وثيقًا، نستطيع أن نعرف فقه اللغة بأنه "منهج للبحث استقرائي وصفي

_ 1قارن بـperrot, Linguistique6 2 Bloomfield Language.6 وقارن بمناهج البحث في اللغة 14.

يُعرَف به موطن اللغة الأول وفصليتها وعلاقتها باللغات المجاورة أو البعيدة، الشقيقة أو الأجنبية، وخصائص أصواتها، وأبنية مفرداتها وتراكيبها، وعناصر لهجاتها، وتطور دلالتها، ومدى نمائها قراءة وكتابة". والبحوث الأساسية المذكورة في التعريف تتعلق بعلوم ثلاثة: 1- التاريخ: لمعرفة موطن اللغة الأول، وروابط القربى بينها وبين اللغات الإنسانية الأخرى، وتنوع لهجاتها، وتطور خطها وكتابتها. 2- علم الصوت: لبحث لهجات اللغة وأصواتها، ومعرفة أنواع التطور الصوتي فيها. 3- علم الدلالة: لبحث تطور ألفاظها وما تفيده من المعاني. ولقد انحصرت مناهج العلماء في القرن التاسع عشر في دراسة اللغة من وجهة النظر التاريخية1، فأعلن كبارهم: "أن علم اللغة تاريخي2". وأضاف كثير منهم إلى الناحية التاريخية معرفة التطور الذي أصاب اللغات في مخلتف العصور. أما القرن العشرون فقد طبع بطابع الوصفية، وتناول العلماء فيه اللغات بدراسة خصائصه الصوتية والتعبيرية، فكانت مباحثهم مجموعة مستقلة من المواد المتداخلة؛ كالأصوات والتشكيلات والمعجمات والدلالات وما يمكن أن يسمى: "علم الاجتماع اللغوي"3. في ضوء هذه الدراسة الوصفية، انطلقوا يعالجون الأصوات الإنسانية بالبحث العميق، فقارنوا بين الحروف وصفاتها، ودرسوا أعضاء جهاز النطق, وأخضعوا ذلك كله للملاحظة المباشرة, وسنرى أن العرب برزوا في ذلك منذ قرون في علمي التجويد والصرف. وبحثوا في اشتقاق الكلمات، وأصولها، وصيغها، وأبنيتها، وسمعاها, وقياسها. ثم عنوا بدراسة معاني الألفاظ ودلالاتها, ملاحظين ما بينها وبين الاشتقاق من اتصال وثيق.

_ prrrot, Linnguistique, chap. III.p. 65 1 2 firth, personality and language, in Society sociological Review, vol. II, sect, two, 1950, p. 37 3 المصدر نفسه.

تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب

تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب: إن التأليف في فقه اللغة قد مَرَّ بأدوار جديرة أن تسجل، تقف الباحث على نشأة هذا العلم وتطوره, وإن من العسير استيعاب جميع الكتب المتعلقة بفقه اللغة تعلقًا غير مباشر؛ كالمصنفات النحوية والصرفية، والمباحث البلاغية, ووجوه القراءات المتواترة والشاذة, فلا بد لنا أن نقصر حديثنا على التآليف التي توفر أصحابها على دارسة ما يرتبط ارتباطًا قويًّا بفقه اللغة علمًا مستقلًّا قائمًا بنفسه، لا يناقض التعريف الذي قدمناه له. لعل أقدم ما وصلنا من هذه الدراسات مباحث الأصمعي "أبي سعيد عبد الملك بن قُرَيْب", المتوفي سنة 215هـ, عن الاشتقاق في العربية، وفي تسمتيتها فقه اللغة كثير من للتجوز؛ لأنها لا تعدو ملاحظات عامة اتسع القول فيها فيما بعد، وأوضحت جزءًا هامًّا من هذا العلم العظيم. ثم أنشأ ابن جني "أبو الفتح عثمان" المتوفي سنة 392هـ, الفقيه اللغوي العبقري كتابه "الخصائص", وراح يناقش فيه بفكره الثاقب ومنطقه السليم أبحاثًا خطيرة في أصل اللغة "أإلهام هي أم اصطلاح" وفي مقاييس العربية، واطرادها وشذوذها، وتصاقب ألفاظها لتصاقب معانيها، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، والاشتقاق الأكبر، وتركب اللغات، واختلاف اللهجات, ومع أن "خصائص" ابن جني أجدر الكتب أن تسمى بفقه اللغة، ضنَّ عليها مؤلفها بهذا الاسم!

أما أحمد بن فارس "أبو الحسين القزويني" المتوفي سنة 395هـ, وهو أستاذ الصاحب بن عباد, المتوفي سنة 385هـ, فقد خلع على مباحثه في نشأة العربية اسم: "الصاحبي في فقه اللغة, وسنن العرب في كلامها"، وذهب إلى أن اللغة إلهام وتوقيف، مستدلًّا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . على أنه ضمَّن كتابه هذا بعض المباحث الهامة حقًّا في فقه العربية؛ كخصائص هذه اللغة، واشتقاقها, وقياسها، ومترادفها, ومجازها, واشتراكها, ونحتها، واختلاف لغاته ولهجاتها. ونرى الثعالبي "أبا منصور عبد الملك بن محمد", المتوفى سنة 429هـ, ينشئ بعد ذلك كتابه "فقه اللغة" الذي لا تجد اسمه إلّا كالثوب الفضفاض عليه، فإنه لم يضمنه إلّا بعض المباحث القليلة التي يمكن أن تتعلق بهذا العلم، كإيراده بعض الألفاظ العربية التي نسبها أئمة اللغة إلى الرومية، أو بعض الأسماء القائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد، أو الأسماء التي تفردت بها الفرس دون العرب, فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها, مع أن عربيتها ما تزال مستعملة محكية؛ وهذه المباحث مبثوثة في الباب التاسع والعشرين من كتابه، ولا تشغل أكثر من خمس عشرة صفحة. أما ابن سيده "أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي", المتوفى سنة 458هـ, فقد عرض في كتابه "المخصص" لبعض البحوث المتعلقة بنشأة اللغة العربية، وبالترادف والتضاد والاشتراك والاشتقاق، وتعريب الألفاظ الأعجمية، ونحو ذلك, والمخصص يقع في سبعة عشر جزءًا، وهو حسن التنسيق دقيق. ويتوفر الجواليقي "أبو منصور، موهوب بن أحمد"، من علماء القرن السادس الهجري، بوجه خاص على دراسة "المعرب من الكلام الأعجمي", وكتابه مرتب على حروف المعجم, ويتلوه البشبيشي المتوفى سنة 820هـ بكتابه "التذليل والتكميل" لما استعمل من اللفظ الدخيل".

ثم يجمع جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911, من علماء القرن التاسع الهجري, كتابه العظيم "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" من أكثر الكتب المتقدمة، ويزيد عليها بعض الأبحاث الجديدة, ولعل كتابه -بتنوع أبوابه، واتساع أغراضه- ألصق المؤلفات بفقه اللغة؛ ففيه تقرأ عن نشأة اللغات، وتداخلها, وتوافقها، والمصنوع والفصيح، والمستعمل والمهمل، والحوشي والغريب، والمعَرَّب والمولَّد، والاشتقاق والاشتراك، والترادف والتضاد، والنحت، والتصحيف، والتحريف، والشوارد والنوادر، وما اختلفت فيه لغة الحجاز ولغة تميم، ويقع في جزئين كبيرين. وفي القرن الحادي عشر يعنى شهاب الدين الخفاجي خاصة بالألفاظ الدخيلة على العربية، فيؤلف في ذلك كتابه "شفاء الغليل، فيما ورد في كلام العرب من الدخيل".

الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة

الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة من وصف الحقائق إلى فرض القواعد: لقد انتهى فقهاء اللغة اليوم إلى أن "وظيفة اللغويّ هي وصف الحقائق لا فرض القواعد1"، وتلك وظيفة لم يفهما على حقيقتها أحد مثلما فهمها وطبقها سلفنا الصالح من علمائنا الأولين؛ إذ أنشأوا في فجر الإسلام يجمعون اللغة ورواياتها، ويمحصون نصوصها كل التمحيص، ويخضعونها لطرائق الاستقراء، ليخرجوا منها بما يسمونه "سنن العرب في كلامها"2. يمكننا القول إذن: إن منهج فقه اللغة عند العرب بدأ وصفيًّا استقرائيًّا، تقرر فيه الوقائع في ضوء النصوص، لا تفرض على أحد ولا

_ 1- Arnold Smith, Gramm. and the use Words, p. VIII 2- وتجد الكثير من هذه السنن في الكتب اللغوية، كالصاحبي والخصائص والمزهر معزوة غالبًا إلى بعض العلماء الأولين.

يُقْضَى بها على أحد, ولكن هذا المنهج السليم سرعان ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق, والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين، وبدأ الناس يسمعون من اللغويين مثل هذه اللهجة الجازمة الحاسمة: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائها, ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"1. عوَّلوا أول الأمر على سليقة الأعرابي، وظنوا أنه "إذا قويت فصاحته, وسمت طبيعته, تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به"2، واقتنعوا بأن الأعراب، "قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع"3، ومع احتمالهم أن العربي الفصيح ينتقل لسانه4 إذا فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها5، ومنع رغبتهم حينئذ في رفض لغته، وترك تلقي ما يرد عنه، ورأيناهم يجنحون إلى تقييد الباحثين بما قاسه أولئك الأعراب، وقالوه، فلا يجرؤ أحد على قياس ما لم يقيسوه. وغَلَوْا في سليقة الأعرابي غلوًّا فاحشًا, حين نسبوا إليه العجز عن نطق كلمة قرآنية بغير لهجته ولحنه، فقرأ أعرابيّ بالحرم على أبي حاتم السجستاني: "طيبى لهم وحسن مآب" فقال له: "طوبى، فقال: طيبى، فعاد أبوحاتم يصلحها له مرة أخرى قائلًا: طوبى، فقال:

_ 1 الصاحبي 33. 2 الخصائص 1/ 424. 3 المزهر 2/ 309. 4 الخصائص 1/ 421. 5 نفسه 1/ 405.

الأعرابي: طيبى، فأصرَّ أبو حاتم على إصلاحها بالواو، والأعرابي يمتنع عن نطقها كما هي في القرآن, ويستمر على لحنه، طي، طي، فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هزٌّ ولا تمرين1. وكان من أثر غلوهم هذا في سلائق الأعراب التي طبعوا عليها، أن ضيقوا على أنفسهم المنافذ والمسالك في أخذ اللغة وتلقيها, إلا ممن تتوافر فيهم شروط هذا الطبع السيلقي، فانحصر الأخذ والتلقي في قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين"، عنهم نقلت العربية، وبهم اقتُدِي، وعليهم اتُّكِلَ في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف2. وكان عليهم أن يحددوا موقفهم من قريش بوضوح، فلم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميها: "أهل الله"3، فرأوا أنها كانت "مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"4. هنا وقعوا على الخطأ المنهجي الأول؛ إذ جعلوا سنن العرب في كلامها ما سنته قريش أو تمثلته، وأخذوا مقاييسهم لما سمعوه من ألفاظها وتراكيبها، ثم فرضوا على أنفسهم وعلى الناس هاتيك المقاييس، فقال قائلهم: "وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو....."5. ولو وقفوا عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنهم ألحقوا به خطأ منهجيًّا

_ 1 الخصائص 1/ 77-78. 2 الاقتراح للسيوطي 19. 3 الصاحبي 23. 4 نفسه 23 أيضًا. 5 الاقتراح للسيوطي6.

آخر حين قطعوا ما بين العربية وأخواتها السامية من صلات، فرأوا خصائص العربية من خلال الزاوية التي أعجبتهم؛ لأنها أوسع اللغات وأشرفها وأفضلها1؛ لا من خلال مقارنتها باللغات التي تربطها بها أواصر القربى, وأنكروا أن يكون لغير العرب من البيان أو الشعر أو الاستعارة ما للعرب: "بلى الشعر شعر العرب، ديوانهم وحافظ مآثرهم، ومقيّد أحسابهم"2. وخصائص العربية نفسها لم تكتشف على حقيقتها فيما كتبوه؛ إذ كان المؤلفون في هذه الخصائص يبحثون عنها متأثرين بالمنطق الأرسطي الذي لم تقف عدواه عند حد، فكان لها أثر في علم الكلام والفقه، مثلما كان لها أبلغ الأثار في دراسة اللغة3, والأدلة على هذا التأثر لا تحصى عددًا, وأوضح مثال لذلك: تعليلهم مقاييس العربية، وأنها على وجه الحكمة كيف وقعت، وأنها أقرب إلى علل المتكملين منها إلى علل المتفقهين ... وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام. ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة لنا4، لذلك نادى ابن مضاء بسقوط كثير من هذه العلل التي لا يراد بها إلّا إثبات الحكمة والمنطق التعليلي للعرب، فقال: "وما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن "زيد" من قولنا: "قام زيد"، لم رُفِعَ؟ فيقال: لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: ولم رُفِعَ الفاعل؟ فالصواب أنه يقال له: كذا نطقت العرب. ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر, ولا فرق بين ذلك وبين من

_ 1 الصاحبي، باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها 12. 2 الصاحبي 43, وقد قال ابن فارس هذا في معرض رد الدعوى القائلة أن للأعاجم شعرًا، فهو يؤكد أن العرب قرءوا هذا الشعر فوجدوه قليل الماء, نزر الحلاوة، غير مستقيم الوزن "ص42". 3 مناهج 17-23. 4 الخصائص 1/ 46.

عرف أن شيئًا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حُرِّمَ؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه"1. وانتقلت عدوى المنطق الأرسطي أيضًا إلى العربية عند تطبيق المقولات العشر على أبوب النحو ومباحثه، ومن المعلوم أن هذه المقولات هي: الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان والإضافة والوضع والملك والفاعلية والقابلية2, ومن السهل أن نقارن بين الدراسات النحوية العربية وتلك المقولات إذا تجردنا في نظرتنا إلى بحوث بعض العلماء المعاصريين3. أما مباحث القوم حول أصل اللغة، إلهام هي أم اصطلاح، فكانت ذات وجهين، كلاهما يخرج عن المنهج اللغوي الوصفي, ثم يتلون باللون المناسب له، أما أحدهما فغيبيّ "ميتافيزيقي" لا يخلو من سذاجة، كقول ابن فارس: "إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فكان ابن عباس يقول: "علمه الأسماء كلها، وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ... "4. وأما الآخر فمنطقيٌّ في تعابيره واستنتاجاته، لتأثره بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ولا سيما إذا وصفت هذه المناسبة بأنها ذاتية موجبة لا يجوز أن تتخلف، كما كان يرى عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة5. ولا يبتعد عن هذه الميدان المنطقي تساؤل ابن جني عن اللغة: أمواضعة هي أم إلهام؟ 6

_ 1 الرد على النحاة 151. 2 راجع مثلًا حاشية العطار على شرح مقولات السجاعي. 3 كالدكتور تمام حسان في كتابه القيم "مناهج البحث في اللغة" ولا سيما ص18 وما بعدها. 4 الصاحبي 5. 5 المزهر 1/ 474 ط/ 3. 6 الخصائص 1/ 21.

ففي المواضعة تبرز تلك المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ويتبين مدى التأثير المنطقي. من هنا كان علينا أن نُقَصِّيَ جانبًا جميع المباحث التي لا تتعلق بفقه اللغة تعلقًا وثيقًا، فالمنطق الصوري وتعليلاته وأقيسته، وما وراء الطبيعة من الغيبيات، وفرض القواعد والمعايير كما تفرض أحكام القانون، كل هذه ليس من المنهج اللغوي في شيء، فلا مناص من تجديد البحث في فقه اللعة إذا أردنا للغتنا الحياة والخلود.

الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة

الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة إن المنهج الصالح في دراسة فقه اللغة هو المنهج الاسقرائي الوصفي الذي يعترف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية؛ كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش، بل هي بين الظواهر الاجتماعية كلها دليل نشاطها، ووعاء تجاربها، وبها تستقصى الملامح المميزة لكل مجتمع1. لا شيء في الحياة يؤكد خصائص المجتمع، ويبرزها على وجهها الحقيقي؛ كاللغة المرنة المطواع التي تعبر بألفاظها الدقيقة الموحية عن حاجات البشر مهما تتشعب، حتى تصبح الرمز الذي به يعرفون، والنسب الذي إليه ينتسبون2! هذا المسلك الاجتماعي الذي لا تزال اللغة الإنسانية تسلكه في أرقى المجتمعات وأبسطها, يسمح لنا بتوسيع المجال أمام العرف لتحديد مقاييس

_ 1 Bloch and Tnager. Outine of Iinguistic Analysis, 5 2 Vendryes, Le Langage. 240-261

اللغة ومعايير استعمالها فلا قيمة للأصوات والكلمات والصيغ والتراكيب إلّا بمقدار ما يتعارف المجتمع على أنها رموز للدلالة1. "أليست هذه الألفاظ العامة التي نستعملها؛ كالشجرة، والإنسان, والبشرية، والحرية، أشبه بالرموز الرياضية؟ أليست أشبه بالنقود التي يرمز بها إلى القيم؟ أولم تكن الرموز الرياضية والاقتصادية وسيلة للرقيّ في الميدانين الفكريّ والاقصادي؟ وكذلك اللغة، فهي لم تقتصر على كونها معبرة عن التفكير، بل كان كذلك أداة نمائه وارتقائه ... "2. لقد ظلَّ العالم غافلًا عن تلك الرموز اللغوية حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان يحاول تأويل نشأة اللغات في سذاجة عجيبة، حتى أوشك كثير من العلماء أن يجزموا بأن العبرية، لغة الوحي، هي لغة الإنسانية الأولى التي تشعبت منها لغات العالم المعروفة كلها3. وكان على آباء الكنسية أن يستندوا إلى الكتاب المقدس لتأييد هذا الرأي، وقد وجدوه في سفر التكوين: "والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان, فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول"4. وكذلك استند العرب من قبل إلى آية قرآنية حين مال كثير منهم إلى أن لغة العرب توقيف لا اصطلاح، واضطر ابن جني إلى تأويل تلك الآية على غير ما فهمها عليه أشياخه، فنسب إلى أكثر أهل النظر القول بأن أصل اللغة تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف، ثم قال: "ألا إن أبا عليّ -رحمه الله- قال لي يومًا: هي من عند الله؛ واحتج بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّم

_ 1 Edward Sapir, Selected Writings, 549 2 فقه اللغة, للأستاذ المبارك, ص2. 3 perr, op cit, 69 4 سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 19 وما يليها.

آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهذا لا يتناوله موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها"1. فإذا استثنينا رأي هذا العبقري ابن جني الذي سبق إلى القول بوضع اللغة، وبأن وضعها لم يكن في وقت واحد، بل على دفعات؛ إذ تلاحق تابع منها بفارط2، وأنها بدأت بصورتها الصوتية السمعية, فكانت أصل اللغات كلها الأصوات المسموعة3، واستثنينا أيضًا آراء من تابع ابن جني على هذا المذهب السديد، وجدنا أئمة العربية الباقين يكادون يطبقون على أن اللغة إلهام وتوقيف، ويكادون لا يختلفون في تصورهم نشأة اللغة الإنسانية عَمَّا ظلَّ سائدًا في الغرب حتى أواخر القرن السابع عشر في الأوساط الكنسية, إلّا في فرق ضئيل لا يؤبه له: أن لغة الوحي في نظر الإسلام كانت لغة القرآن، علي حين كانت في نظر آباء الكنسية لغة الكتاب المقدس! ومن أعجب صور التلاقي على صعيد الفكر أن العرب حين غَلَوْا في لغتهم؛ لأنها لغة الوحي، فخصوها بالمناسبة الطبيعية بين ألفاظها ومدلولاتها، نافسهم الغربيون بتخصيص هذه المناسبة بالعبرية؛ لأنها لغة الوحي كذلك، فهبَّ كيشارد E. Giichrd, في مطلع القرن السابع عشر يبرز فكرة التناسق الصوتي في اللغات المتفرعة من العبرية4. وكان لـ "ليبنز Leibiz" الفضل في مقاومة هذا التفكير الأسطوري الذي يبدأ بافتراض الرأي, وينتهي سريعًا إلى التسليم به، ثم إلى فرضه

_ 1 الخصائص 1/ 9. 2 نفسه 1/ 417. 3 نفسه 1/ 44-54. 4 وذلك في كتابه Harmonie etymologiqe langues descendues de l hebraique.

على الناس1، ورأينا كثيرًا من الباحثين -بعد ليبنز- ينكرون القول بأصل اللغات، وينادون باستحالة الوصول إلى نتيجة قطعية تبين الصورة التي بدأ الإنسان يتكلم عليها؛ فهناك لغات تنتسب إلى تواريخ منها القديم، ومنها الأقدم, ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع إلى أكثر من عشرين قرنًا, ولكن أقدم اللغات المعروفة، اللغات الأمهات كما تسمى أحيانًا، لا شيء فيها من البدائية، ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة فإنها لا تفيدنا علمًا بالتغيرات التي طرأت على الكلام، ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها"2. لقد بات لزامًا علينا تجديد البحث في فقه اللغة، فليس يعنينا أن نتقصى أصل اللغة الغامض المجهول، وليس علينا أن نعلل كل صوت لغوي, أو رمز دلالي, أنه على وجه الحكمة كيف وقع، وبأي لغة ينطق، بل يعنينا أن نتابع التطور اللغوي كيف حدث؟ بعد إحصائه واستقرائه وملاحظته, ومقارنة بعض مظاهره ببعض، وعلينا أن نبدأ بجمع ما يمكننا من المعلومات عن اللغات الإنسانية المختلفة لنخرج أخيرًا بالسنن العامة والقوانين الثابتة في علم اللغة العام؛3 وفي ضوئها نحدد خصائص لغتنا المدروسة بطريقة وصفية استقرائية؛ كصنيعنا هنا في فقه اللغة العربية. وإنّ هذه الطريقة الوصفية لتفرض علينا الاعتراف بحقيقةٍ لا يمكن نكرانها: وهي أنه لم يعثر قط على قبيلة لا لغة لها، "وأن المتوحشين أنفسهم ليسوا بدائيين، رغم الإسراف في تسميتهم بهذا الاسم في غالب

_ 1 perrot, op. cit., 69. 70. 2 فندريس، اللغة 29-30. 3 وهذا ما يسمى في نظر العلماء الانتقال من اللغات إلى اللغة Des lagues langage وانظر فيه بوجه خاص A. Sommerfelt في أبحاثه poins de vue diachonique, synchronique et panchroni que generale (cf. perrot, op. cit 106)

الأحيان، فهم يتكلمون أحيانًا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدًا، ولكن منهم من يتكلم على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة, فهذه وتلك ليست إلّا نتيجة تغيرات تغيب عنا نقطة البدء التي صدرت عنها"1. ومن يقرر هذه الحقيقة المتلعقة بلغات المتوحشين، ولا يستبعد أن يكون لتلك اللغات وخصائصها بساطة أو تعقيدًا، وتطورًا أوجمودًا، ولا يسعه أن يغض النظر في دراسة فقه العربية عن أخواتها من اللغات السامية؛ لأنها -فضلًا على أنها كانت رموزًا لحضارات سابقة- لم تنفصم العرى الوثيقة التي ظلت آمادًا طوالًا تربط بين بعضها وبعض في أغمض ظروف التاريخ. وإن تعجب فعجبٌ تغافلُ علمائنا القدامى عن هذ القضية البديهية، مع أن كثيرًا منهم أشاروا في مواطن مختلفة إلى بعض اللغات السامية؛ كالعبرية والسريانية، بل عرف بعضهم اليهود والسريان واتصلوا بهم، وأفادوا إفادة خاصة من نقل السريان فلسفة اليونان إلى العربية. ولعل للعصبية العمياء دخلًا في هذه النظرة العجلى إلى الحقائق والأشياء، فهم لا يريدون أن يقارنوا لغة القرآن بأية لغة أتيح لهم أن يلموا بها؛ لأن لغة العرب بزعمهم أشرف اللغات؛ ولو أرادوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلًا، فما تيسّر للباحثين في العصور الوسطى أن يتناولوا اللغات بالدراسة التاريخية المقارنة، وإنما ظهرت تلك الدراسات بعد عشرة قرون أو أكثر. أنّى لهم إذن أن يكتشفوا خصائص العربية على حقيقتها؟ أنّى لهم أن يروا رأي العين أن العربية هي "أشد اللغات السامية احتفاظًا بمقومات اللسان السامي الأول، فقد نشأت غالبًا في موطنها القديم، لم تحل محل لغة أخرى غير سامية, كما حدث لسائر اللغات السامية

_ 1 فتدريس 29-30.

النازحة، وموقعها الجغرافي ساعدها على الاستقلال بعيدة عن المؤثرات الأجنبية؟! 1". إن علينا الآن -وقد ارتضينا الاستقراء والوصف طريقة ومنهاجًا- ألَّا نكتفي بتصوير وشائج القربى بين العربية والساميات، بل نلم فوق ذلك بفصائل اللغات الإنسانية لنعرف السر في إطلاق السامية على لغتنا، ثم نضيف إلى هذا كله لونًا من المقارنة بين بعض اللهجات العربية القديمة، لنصل منها آخر الأمر إلى لغتنا العربية الفصحى بخصائصها الفذة وأسلوبها المبين.

_ 1 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 30.

الباب الثاني: العربية بين أخواتها السامية

الباب الثاني: العربية بين أخواتها السامية الفصل الأول: أشهر فضائل اللغات ... الباب الثاني: العربية بين أخواتها السامية الفصل الأول: أشهر فصائل اللغات 1 لعل أفضل النظريات في تقسيم اللغات هي التي تعوّل على صلات القرابة اللغوية، فتنشيء من كل مجموعة مماثلة أو متشابهة في الكلمات وقواعد البنية والتراكيب فصيلة من الفصائل, تؤلف بينها غالبًا روابط جغرافية وتاريخية واجتماعية. وعلى هذا الأساس لاحظ العلماء مجموعتين هامتين متميزتين، سموا إحداهما: الفصيلة الهندية - الأوربية lndo - Europeenne، والأخرى الحامية - السامية Chamito - Samitiques، وتنبهوا إلى صلات القرابة بين اللغات الداخلة تحت كلٍّ منهما على حدة، وإلى الصفات المشتركة

_ 1 ليس من شأننا في هذا الفصل التوسع والإسهاب، إنما هي عجالة لبيان أبسط الضروريات التي لا بد منها في هذه البحوث, ومن أراد التوسع فعليه بكتاب Les langueu du monde, ومنه نقل وافي في "علم اللغة 179" المعلومات المفيدة عن فضائل اللغات.

بين الفصيلتين كلتيهمتا، ثم جاء ماكس مولر Max Moller بتقسيمه الثلاثي للغات، حين سمى طائفة من اللغات الأسيوية والأوربية التي لا تدخل تحت الفصيلتين السابقتين باسم اصطلاحي هو الفصيلة الطورانية Touranienne. وإنما كان الاسم اصطلاحيًّا؛ لأن أفراد الفصيلة الأخيرة متنوعة جدًّا، ومتباعدة جدًّا، وليس بينها روابط لغوية واضحة, وهذا ما دعا المحدثين من علماء اللغة إلى تقسيم ما بقي من اللغات الإنسانبة إلى تسع عشرة فصيلة، تنفرد كل فصيل منها بروابط من القرابة اللغوية في الأصول والقواعد والتراكيب، وبذلك أصبحت فصائل اللغات الإنسانية إحدى وعشرين؛ أهمها الأوليان، والباقية ثانوية متفرقة في أنحاءٍ مختلفة من العالم, ولا بد من كلمة عجلى حول الفصيلتين الهامتين. أ- الفصيلة الهندية - الأوربية: وهي أكثر اللغات الإنسانية انتشارًا، والشعوب الناطقة بها جليلة الأثر في الحضارة الإنسانية الحديثة, ومن العسير تحديد موطنها الأصلي, فمن ذاهب إلى نشأتها في آسية بمنطقة التركستان، ومن قائل بنشأتها في المناطق الروسية بأوروبة الشرقية، ومن أنها في مناطق بحر البلطيق. وهي تشتمل على ثمانٍ من طوائف اللغات: 1- اللغات الآرية: بفرعيها الهندي والإيراني. 2- اللغات اليونانية: وتشمل اليونانية القديمة، واليونانية الحديثة التي قامت على أنقاض القديمة في القرون السابقة للميلاد، ولغة اليونان في العصر الحديث. 3- اللغات الإيطالية، وأهم فروعها: اللاتينية التي تشعبت منها الفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية ولغة رومانية.

4- اللغات الجرمانية، وأهمها شعبتان: شعبة اللغات الجرمانية الغربية، وفيها الإنجليزية -السكسونية، والإنجليزية الحديثة، والهولاندية والألمانية, وشعبة اللغات الجرمانية الشمالية, وهي لغات الدانيمرك والسويد والنرويج. 5- اللغات السلافية: وهي شعبتان صقلبية وبلطيقية؛ فمن الصقلبية الروسية، والتشيكية، والبولونية، والبلغارية الحديثة, ومن البلطيقية: الليتوانية، والبروسية القديمة. 6- اللغات الأرمنية. 7- اللغات الألبانية. 8- اللغات الكلتية التي كان ينطق بها شعوب الكلت Les Cletes, وقد غلبتها الآن اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وإن بقيت ظواهر منها في لهجات إيرلندا ومنطقة البريتون Bretagne غربي فرنسا,. ب- الفصيلة الحامية - السامية: وليست المناطق التي تشغلها هذه الفصيلة شديدة الاتساع كالمناطق التي تشغلها الفصيلة الأولى "الهندية - الأوربية" فلا يعدو ما تشغله بلاد العرب وشمال إفريقية وجزءًا من شرقي إفريقية، غير أن مناطقها تكاد تشكل منطقة واحدة متماسكة الأجزاء، مستقلة ليس فيها عنصر دخيل, وتلك مزية كبيرة من مزاياها, وهي ذات مجموعتين: أ- مجموعة اللغات الحامية، وفيها المصرية والبربرية والكوشيتية. وقد اصطلح على إدخالها في مجموعة واحدة، مع أن صلات القرابة بينها ضعيفة، ولذلك يعد بعضهم كل فرعٍ منها مستقلًّا برأسه على حدة. واللغة المصرية تشمل المصرية القديمة والقبطية, أما البربرية فهي لغة السكان الأصليين لشمال أفريقية "تونس ومراكش

والجزائر وطرابلس والصحراء والجزر المتاخمة لها", وأهمها اللغة القبيلية Kbyle, والتماشكية Temachek وهي لغة قبائل التوارج Touareg "الطوارق". وأما الكوشيتية فهي لغة السكان الأصليين للقسم الشرقي من إفريقية، وبها يتكلم نحو ثلث سكان الحبشة. وهنالك مناطق في الحبشة تتكلم بلغة سامية. ب- مجموعة اللغات السامية, وسنتكم عنها بتفصيل بعد قليل؛ لأن لغتنا العربية تفرعت منها. ج- فصائل اللغات الإنسانية الأخرى: أما بقية اللغات الإنسانية الأخرى فقد ذهبت جمعية علم اللغة بباريس إلى قسمتها إلى تسع عشرة فصيلة أهمها: 1- فصيلة اللغات الطورانية؛ كالتركية والمغولية والمنشورية، وبها سمَّى ماكس مولر جميع الفصائل الباقية على سبيل الاصطلاح الخاص. 2- فصيلة اللغات اليابانية. 3- فصيلة اللغات الصينية - التيبيتية "ومنها لغة سيام". 4- فصيلة اللغات الكورية "لسكان شبه جزيرة كورية". 5- فصيلة اللغات القوقازية "ويستثنى منها اللغات القوقازية السامية، والهندية الأوروبية". 6- لغات الهنود الحمر في أمريكا، وهم سكانها الأصليون. 7- لغات السودان وغانة، وقد قسَّمَها العلامة Maurice Delafosse إلى 435 لغة, ترجع إلى ست عشرة شعبة, أهمها الشعبة النيلية، والشعبة النوبية، والشعبة الاستوائية، والشعبة الكونغوية. 8- اللغات الملايوية البولينزية Malayo - Polynesiennes ومنها الأندونيسية والميلانيزية "جزر سليمان، وسانت كروز، وتوريس".

وقد عرضت جمعية علم اللغة بباريس Societe de linguistique paeis بحثًا موجزًا في دراسة هذه الفصائل التسع عشرة, بإشراف الأستاذين Meillet ومارسل كوهين Marcel Cohen, فجاء البحث في نحو ست مئة صفحة من القطع الكبير "من 153-713"، وذلك في الكتاب الضخم الشهير "لغات العالم" "Les langues du Monde". طريقة أخرى لتقسيم اللغات إلى فصائل: هناك طريقة أخرى لا تعول في تقسيم اللغات على صلات القرابة اللغوية، بل تستند في هذه القسمة إلى قوانين التطور والارتقاء المتعلقة بقواعد الصرف والتنظيم. وأشهر نظرية في هذه الطريقة هي نظرية العلامة شليجل Schlegel, التي اتبعه عليها كثير من الباحثين. في ضوء هذه النظرية ثلاث فصائل: 1- اللغات التحليلية Analytiques. 2- اللغات الإلصاقية Agglomerantes. 3- اللغات العازلة isolantes. ويرى أصحاب هذه النظرية أن اللغة الإنسانية نشأت عازلة، ثم تطورت فأصبحت إلصاقية، ثم ارتقت أخيرًا إلى التحليلية. أ- واللغة العازلة هي غير المتصرفة؛ فبنية الكلمات فيها لا تتغير، وأصولها لا تلصق بها حروف زائدة لا قبلها ولا بعدها، وليس بين أجزاء تراكبيها روابط وصلات, ويدخل في هذه اللغة الصينية, وكثير من اللغات البدائية.

_ 1 قارن بـperrot, op. cit. 109

ب- واللغة الإلصاقية: هي لغة وصلية تمتاز بالسوابق prefixes واللواحق Suffixes, التي تربط بالأصل فتغير معناه, وعلاقته بما عداه من أجزاء التركيب، وأشهر هذه اللغات: اليابانية والتركية وبعض اللغات البدائية. ج- واللغة التحليلية: هي المصرفة التي تتغير أبنيتها بتغير المعاني وتحلل أجزاؤها المترابطة فيما بينها بروابط تدل على علاقاتها, ومن هذه اللغات: السامية، وفي طليعتها العربية، وأكثر اللغات الهندية، والأوربية. وأصحاب هذه النظرية يستدلون على مراحل التطور فيها بلغة الطفل ولغات الأمم البدائية، ويرون أن مرحلة التصريف والتنظيم مرحلة متأخرة في اللغات الإنسانية, ولكن هذا خطأ، فجميع الظواهر "العزل والإلصاق والتصريف" موجودة في مختلف الألسنة، ومن العسير أن تتجرد منها لغة من اللغات1. وقد حاول كثير من الباحثين أن يقارنوا بين الفصليتين الهامتين "السامية" و"الهندية والأوربية", والتوسع في هذا خارج عن نطاق بحثنا؛ فسنكتفي بإشارة عابرة إلى خصائص اللغات السامية تمهيدًا لبحث خصائص لغتنا العربية التي تفرعت عنها.

_ 1 راجع علم اللغة لوافي 108.

الفصل الثاني: لمحة تاريخية عن اللغات السامية

الفصل الثاني: لمحة تاريخية عن اللغات السامية الساميون ومهدهم الأول: يطلق العلماء اليوم على الشعوب الآرامية والفينيقيية والعبرية والعربية واليمنية والبابلية - الآشورية, لقب الساميين1, وكان العلامة الألماني شلوتزير Schlozer 2 أول من استخدم هذا اللقب في إطلاقه على تلك الشعوب؛ وقد شاركه عالم ألماني آخر هو أيكهورن Eichhorn، في أو أوخر القرن الثامن عشر، بتسمية لغات هذه الشعوب "باللغات السامية3". والتسمية لم تخترع اختراعًا، فهي مقتبسة من الكتاب المقدس الذي ورد

_ 1 وافي، فقه اللغة2. 2 وذلك في تحقيقاته حول تاريخ الأمم الغابرة سنة 1781 وانظر: Eichhorns Reportorum, Bd 8 p. 161. وقارن بولفنسون ص2. 3 Die Semitischen Sprachen

فيه أن أبناء نوح هم سام وحام ويافث، وأن القبائل والشعوب تكونت من سلالتهم1. ويبدو أن اللغات السامية قبل تفرقها كانت ترجع إلى أصل واحد، وتشكل شبه وحدة شعبية، إلّا أن من العسير جدًّا تعيين ذاك الأصل وتحديد هذه الوحدة؛ لأن المهد الأول للساميين ما يزال غامضًا مجهولًا، رغم أبحاث العلماء الكثيرة الواسعة الآفاق2, وليس يعنينا هنا أن نعرض للآراء المتباينة بهذا الصدد، بل نتكفي بالإشارة إلى أن إرنست رينان الفرنسي3 Ernest Renan, وبروكلمان الإلماني4 Broc Kelmann, يرجحان أن الموطن الأول للشعب السامي هو القسم الجنوبي الغربي، من شبه الجريرة العربية5. وفي دائرة الدراسات السامية حظيت لغتنا العربية بكثير من العناية، فكانت في نظر بعض الباحثين، وفي طليعتهم العلامة أولسهوزن Oishausen، أقدم اللغات السامية6، وإن كان كثير من الفقهاء اللغة وعلماء الاستشراق يرفضون هذا الرأي ولا يستسيغونه. واللغات السامية -بوجه عام- تشترك في عدد من الخصائص الدالة على وحدة أصلها، فهي تمتاز عن سائر اللغات الأخرى بأن أصول كلماتها تتألف غالبًا من ثلاث أصوات ساكنة "ض ر ب" وإن كان بعض العلماء المحدثين يجنح إلى ثنائية الأصول السامية؛ كالأب مرمرجي الدمنيكي في

_ 1 سفر التكوين، الإصحاح 10. 2 ولفنسون 4. 3 في كتابه: Histoire des langues semitiques 4 في أبحاثه المشهورة: Semitische Sprechwissenchaft 5 قارن بوافي، فقه اللغة 7. 6 انظر مقدمة كتابه عن العبرية, فهو يذكر فيه أن العربية هي أقرب اللغات السامية إلى اللغة السامية الأولى، وقارن بولفنسون 7.

كتابه "هل العربية منطقية؟ أبحاث ثنائية ألسنية"1. والقائلون بثلاثية الأصول السامية يردون الرباعي منها إلى الثلاثي؛ فيردون دحرج مثلًا إلى دحر أو درج, لما فيهما من معنى الإبعاد والدفع, واللغات السامية تمتاز في دلالتها على المعنى الأصلي باعتمادها على حروف المباني، وفي تفرقتها بين المعاني المتكافئة باستخدامها حروف المعاني أو الحركات، نحو لفظ "م ل ك" فهو يدل على معنًى مشترك بين عدد من الكلمات التي تتألف من هذه الأصول الثلاثة، فمنه ملَكَ, مُلِكَ, مَلِكٌ, مُلْك, ملك, ... إلخ.

_ 1 انظر في كتابه على وجه الخصوص 145-150, ومنها يتبين أن الأب مرمرجي كان يرد الثلاثي إلى الثنائي, ويرى أن الثلاثي متفرع من الثنائي.

شجرة اللغات السامية

شجرة اللغات السامية: وإذا أردنا أن نصف شجرة اللغات السامية لنرى كيف تفرعت عنها لغتنا العربية، وكيف امتازت عن أخواتها بخصائص مستقلة, وجدنا تلك اللغات في أصل نشأتها تنقسم إلى شرقية وغربية، فالشرقية هي اللغات البابلية - الآشورية, أو الأكادية, كمال يسميها المحدثون من فقهاء اللغة, نسبة إلى بلاد أكاد Akkad" وكان الأقدمون يسمونها: "الإسفينة أو المسمارية" لأن الناطقين بها أخذوا الخط المسماري ذا الزوايا ecriture cuneifrme عن الشعب السومري, حين تدفقوا إلى منطقته في القسم الجنوبي من بلاد العراق, ويظن أن المتدفقين على تلك المنطقة كانوا من القبائل العربية التي توالت هجراتها منذ الألف الثالث قبل الميلاد على وجه التقريب "3000 سنة ق. م"1.

_ 1 راجع الباب الثاني 22-25 عند ولفنسون. وقارن بـ pertot, op. cit, 28

والغربية: تنقسم هي الأخرى إلى شعبتين: شمالية وجنوبية, وفي الشمالية: الكنعانية والآرامية. أما الكنعانية: فهي لغة القبائل العربية التي نزحت على الأرجح من القسم الجنوبي الغربي من بلاد العرب، واستوطنت فلسطين وسورية وبعض جزر البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك حوالي الألف الثاني قبل الميلاد "2000 ق. م" وهي تشمل اللهجات التالية: 1- الأجريتية: وهي أقدم لغات المجموعة الكنعانية وأشهرها، اكتشفت نقوشها سنة 1926 في رأس شمراء على الساحل السوري للبحر المتوسط, ويرتدّ تاريخها إلى القرن 14 ق. م. وعن هذه الأجريتية أخذ العالم الكتابة الأبجدية. 2- الكنعانية القديمة: وقد جاءنا بعض مفرداتها في رسائل تل العمارنة "عاصمة مصر في عهد إخناتون". كانت مدونة باللغة الأكادية، وقد تبودلت بين ولاة مصر على فلسطين, وبين فراعنة ذلك العهد "أمنوفيس الثالث, وأمنوفيس الرابع, وإخناتون" في أواخر القرن الخامس عشر, والنصف الأول من القرن الرابع عشر "1411-1358" ق. م". 3- المؤابية1: وهي لهجة المؤالبين الذين كانوا من نسل لوط بن أخي إبراهيم الخليل، كما جاء في العهد القديم, وقد عثر على نقشٍ مدوَّن بهذه اللهجة, هو نقش ملك المؤابين ميشع2 Mesa، وفيه يصف انتصاره على ملك إسرائيل, وتاريخ هذا النقش لا يجاوز سنة 900 ق. م. 4- الفينيقية: وقد وصلت إلينا عن طريق بعض النقوش، وقطع النقود التي عثر عليها في أقدام المواطن الفينيقية "صور، صيدا، جبيل Byblos", ولقد رحلت اللهجة الفينيقية مع أصحابها خارج الوطن الأصلي حتى استقرَّ في حوض البحر المتوسط، ولا سيما في قرطاجنة, وكانت

_ 1 تقع بلاد مؤاب في الجنوب الشرقي من البحر الميت. 2 عثر العلماء على هذا النقش سنة 1868، وهو الآن بمتحف اللوفر بباريس.

اللهجة الشائعة في قرطاجنة هي البونية punique، وهي متفرعة عن الفينيقية، غير أن البونية قُدِّرَ لها أن تبقى حتى القرن الخامس بعد الميلاد، فعاشت عمرًا أطول من عمر أمها الفينيقية الأصلية, وأقدم النقوش الفينيقية إنما يرجع تاريخه إلى القرنين التاسع والعاشر ق. م. 5- العبرية: وهي أهم اللهجات الكنعانية على الإطلاق، وقد وصلت إلينا عن طريق أسفار العهد القديم، وفي ثنايا بعض النقوش واللوحات الصخرية، وأحيانًا عن طريق تلاوة اليهود لآيات التوراة وبعض الأوراد, ونحن نقصد بالعبرية طبعًا عبرية العهد القديم، وهي تختلف اختلافًا عظيمًا عن العبرية الحديثة التي أصبحت لغة الآداب اليهودية المستحدثة. هذه هي لهجات الكنعانية: الأجريتية، والكنعانية القديمة، والمؤابية، والفينيقية، والعبرية1. وأما الآرامية: فيؤخذ من بعض الآثار الآشورية - البابلية, أن قبائلها قد هاجرت من الجزيرة أيضًا إلى أرض بابل وآشور, فيما بين القرنين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد، وقد كانت الآرامية من العنفوان والقوة بحيث استطاعت أن تفرض نفسها على جميع أخواته الشرقية والشمالية، حتى أضحت لغة التخاطب السائدة في الشرق الأدنى. وفي المرحلة الزمنية المحصورة بين سنتي 300ق. م و650 بعد الميلاد, كانت هذه اللغة الآرامية قد بلغت ذورة مجدها في جميع بلاد العراق من جهة، وفي سورية وفلسطين وما يجاروهما من جهة أخرى, ويقدر بعض فقهاء اللغة مساحة البلاد الناطقة بتلك اللغة في المرحلة المذكورة زهاء600 ألف كيلومتر مربع, ولم يكن بد من أن تتشعب هذه اللغة إلى مجموعة من اللهجات، فشملت المجموعة الشرقية منها اللهجات السائدة في بلاد العراق، وشملت المجموعة الغربية منها اللهجات الباقية المستخدمة في سورية وفلسطين وشبه جزيرة سيناء2.

_ 1 للتوسع في لهجات الكنعانية انظر ولفنسون 51 إلى 113, وقارن بوافي "فقه اللغة" 30-51. وراجع في العبرانية خاصة كتاب الأستاذ ربحي كمال "اللغة العبرية", وهو كتاب قيّم حسن المنهج, من أجود ما ألف في بابه. 2 والفرق بين هاتين المجموعتين من اللغات يلاحظ في كيفية النطق, وفي نوع الدخيل من الألفاظ "انظر ولفنسون 117" وقارن بـ Les langues arameennes Ghabot

العربية الجنوبية والعربية الشمالية

العربية الجنوبية والعربية الشمالية: لاحظنا حتى الآن أن الشعبة الأساسية الشمالية في اللغات السامية الغربية اشتملت على الكنعانية بجميع لهجاتها، وعلى الآرامية بجميع لهجاتها أيضًا، وقد آن لنا أن نعرف أن الشعبة الأساسية الأخرى في اللغات السامية الغربية -وهي الجنوبية- هي التي تشتمل على اللغتين العربيتين العظيمتين اللتين تعنينا دراستهما بوجه خاص: وهما العربية الجنوبية والعربية الشمالية. والعلماء يطلقون على العربية الجنوبية اسم: "اليمنية القديمة", أو "القحطانية"، ويلقبها بعضهم أحيانًا "بالسبئية" تسميةً لها بإحدى لهجاتها الشهيرة التي تغلب عليها جميعًا في صراعها معها, وإن كثيرًا من النقوش المدونة على التماثيل والقبور والأعمدة والصخور والمذابح وجدران الهياكل والنقود, قد هدتنا إلى أصول هذه العربية الجنوبية القديمة، وإلى طريقة رسمها وأسلوب تعبيرها، فعرفنا منها أن هذه اللغة بلهجاتها المتعددة تختلف عن اللغة العربية الشمالية "التي هي المقصودة بالعربية عند الإطلاق" اختلافًا جوهريًّا أساسيًّا في القواعد النحوية، والمظاهر الصوتية، والدلالات المعنوية. وأهم اللهجات العربية الجنوبية أربع: المعينية، والسبئية، والحضرمية،

والقتبانية1, ومعها اللغات السامية في الحبشة, ولو تأثر معظمها باللهجات الحامية. ويراد "بالمعينية" اللهجة المنسوبة إلى المعينين Mineens, الذين أسسوا في بلاد العرب، في القسم الجنوبي من اليمن، مملكة قديمة, لا يعرف على وجه التحديد متى كانت نشأتها، وإن كانت بعض الدلائل تشير إلى تكونها حوالي القرن الثامن ق. م. والسبئية: هي اللهجة المنسوبة إلى السبئين الذين أقاموا مملكتهم على أنقاض المملكة المعينية, ومن المعروف أن مدينة "مأرب" كانت عاصمة المملكة السبئية التي كان لها في التاريخ شأن عظيم, وقد ظلت السبئية سائدة في بلاد اليمن خلال المدة الطويلة التي قبض فيها السبئيون على زمام الحكم؛ بل لدينا من الآثار والنقوش ما يؤكد بقاء هذه اللهجة حتى في أثناء الحكم الحبشي الأول لهذه البلاد "بين سنتي 375-400 بعد الميلاد". والحضرمية: هي اللهجة المنسوبة إلى حضرموت, التي استمرت أمدًا غير قليل تنازل سبأ الحكم والسلطان, وكانت حضرموت مملكة عظيمة ذات حضارة زاهرة، ولكن سبأ كانت أقوى منها فغلبتها على أمرها وأزالتها من الوجود. والقتبانية: هي اللهجة المنسوبة إلى قتبنا Quataban، وهي مملكة عظيمة أنشئت في المنطقة الساحلية الواقعة شمال عدن، وكُتِبَ عليها أن تنقرض في أواخر القرن الثاني ق. م., بعد الحروب الكثيرة التي نشبت بينها وبين سبأ، وكان من نتائج هذه الحروب أن اندمجت القبائل القتبانية في السبئية التي غلبتها على أمرها. والحبشة السامية: لغات أهمها الجعزية، والأمهرية، والتيجرية, وأقدم هذه

_ 1 فيما يتعلق بهذه اللهجات قارن: وافي 71-73, بولفنسون 175-194, وستجد في كتاب ولفنسون خاصة صورًا لكثير من النقوش وحل رموزها, وقد رجع هذا الباحث فيها إلى كتب المستشرقين ونقل منها أهم استنتاجاتهم وملاحظاتهم".

اللغات هي الجعزية, أو الحبشية القديمة, التي يرتد تاريخ آثارها إلى سنة 350م. وهي في بعض خصائصها قريبة من العربية, حلت محلها الأمهرية سنة 1270, ثم باتت منذ القرن التاسع عشر لغة الحبشة الرسمية. أما التيجرية فهي شديدة الشبه بالجعزية, وإن لم تتفرع منها. من هذا العرض السريع للهجات العربية الجنوبية, يتضح أن السبئية هي التي غلبتها جميعًا في صراعها معها، فقوضت قبائلها ملك المعينين، وأزالت ملك الحضارمة والقتبانين، وظلت لها السيادة في بلاد اليمن القديمة. وأكثر النقوش التي عُثِرَ عليها مدونة بهذه السبئية المتغلبة وجدت في منطقة العلا في الواحات الواقعة شمال بلاد الحجاز، ومنها ما عُثِرَ عليه في المناطق الشمالية المتاخمة لبلاد كنعان, والخط الذي كانت تدون به هذه النقوش هو المعروف "بالمسند" الذي تستند أكثر حروفه إلى ما يشبه الأعمدة، وهو خط هندسي الشكل لطيف منسق. ونذكر على سبيل المثال سطرًا من أحد النقوش السبئية ندونه بحروفنا العربية، ونترجمه إلى لغتنا، ليظهر الفرق العظيم بين العربية الجنوبية القديمة بسائر لهجاتها, وبين العربية الشمالية التي ما نزال ننطق بإحدى لهجاتها إلى يومنا هذا. النقش السبئي 1: "بمقم مراهيمو عشتر شرقرن واشمسهو والال تهمو وباخيل ومقيمت خميس". الترجمة العربية: بمجد سيدتهم عشتروت المشرقة, وآلهتهم الشموس, وسائر الآلهة وبحول وقوة الخميس "الجيش". أما العربية الشمالية: فإننا لا نكاد نعرف شيئًا عن نشأتها, والمراحل التي اجتازتها في عصورها الأولى، وهي قسمان: العربية البائدة التي لا يتجاوز أقدم ما وصلنا من نقوشها القرن الأول ق. م., والعربية الباقية التي لا تجاوز آثارها القرن الخامس بعد الميلاد.

_ 1 هذا النقش منقول من كتاب ولفنسون ص248-250 "السطر الخامس من النقش".

العربية البائدة وأهم لهجاتها

العربية البائدة وأهم لهجاتها: وواضح أن المراد من العربية البائدة عربية النقوش التي بادت لهجاتها قبل الإسلام، وهي التي ظهر على آثارها الطابع الآرامي، لبعدها عن المراكز العربية الأصلية بنجد والحجاز1، على حين يقصد بالعربية الباقية هذه اللغة التي ما نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والأدب، وهي التي وصلت إلينا عن طريق القرآن الكريم والسنة النبيوة والشعر الجاهلي. وأهم اللهجات العربية البائدة ثلاث: الثمودية، والصفودية، واللحيانية. فالثمودية: هي اللهجة المنسوبة إلى قبائل ثمود, التي جاء في القرآن ذكرها وذكر مساكنها في مواضع كثيرة, وتاريخ معظم النقوش المدونة بهذه اللهجة يعود إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد, ويبلغ تعداد هذه النقوش ما يزيد عن ألف وسبعمائة عُثِرَ عليها فيما بين الحجاز ونجد وفي شبه جزيرة سيناء وبالقرب من دمشق، وقد دونت بخط جميل أنيق مشتق من "المسند", يتجه من أعلى إلى أسفل، ولا يثبت على حال واحدة, وإذا أمعنَّا النظر في النقوش الصفوية, وجدنا فيها كلمات غير مألوفة في العربية, أخذت من العبرية والسريانية2. والصفوية: هي اللهجة المنسوبة إلى منطقة الصفا، وإن كانت نقوشها قد عثر عليها في مواطن مختلفة في الحَرَّةِ الواقعة بين تلول الصفا وجبل الدروز, ويبلغ عدد هذه النقوش حتى هذا التاريخ ما يزيد على ألفين،

_ 1 ولكن العلماء غلوا أحيانًا في إظهار الطابع الآرامي كلما وجدوا ألفاظًا غير مألوفة عند العرب. وقد نبه فرنكل S. Fraenkal على هذا الغلوّ في أبحاثه: Die aranaischen Fremdworter in Altarabischen وقارن بولفنسون 163. 2 انظر ما يقولون Litmann في هذا الصدد في أبحاثه: Semitic lnscriptions 115-119.

ولعل تاريخ تدوينها يرجع إلى ما بين القرنين الثالث والسادس الميلاديين. وقد حل معظم رموزها واكتشف حروفها الأبجدية المستشرق الألماني إنّو ليمان Enno Litmann1، ولاحظ أن خطها قريب من الثمودي، ولا يبعد أن يكون مشتقًا منه، إلّا أنه شديد التغير والاختلاف، فما يكاد يستقر على حالٍ واحدة، فهو تارةً يقرأ من الشمال إلى اليمن، وتارةً أخرى من اليمين إلى الشمال. وهذا التشابه بين الخطين الثمودي والصفوي, جعل بعض العلماء يطلقون على الخط القديم الذي يبدو فيه أثر النوعين كليهما اسم: "الخط الثمودي الصفوي" فإذا أرادوا التمييز والتفرقة قالوا: هذا خط ثمودي فقط، وهذا خط صفوي فقط. واللحيانية: هي اللهجة المنسوبة إلى قبائل لحيان, التي يرجح أنها كانت تسكن شمال الحجاز قبل الميلاد, وقد عُثِرَ على نقوش كثيرة تذكر أسماء ملوك لحيان، وأغلب الاحتمالات أن تاريخ هذه النقوش يعود إلى ما بين سنة 400 وسنة 200 قبل الميلاد, والخط الذي دونت به مشتَقٌّ كذلك من المسند، غير أنه آنق، وألطف وأثبت نظامًا, وأكثر رونقًا من الخطين الثمودي والصفوي، فهو يكتب مستعرضًا من اليمين إلى الشمال. ومع أنهذ المجموعة من اللهجات الثلاث: الثمودية، والصفوية، واللحيانية، لم تصل إلينا إلّا عن طريق نقوش قليلة الأهمية على كثرتها، ضحلة المادة على تنوعها، وامتازت بأمرين، أحدهما: أنها أقرب لهجات العربية البائدة إلى الفصحى، والآخر: أن الخط الذي دونت به ينبغي أن يعتبر المرحلة الأولى في تطور الخط العربي وانتشاره23. وقد عُثِرَ على نقوش يُسْتَأنَسُ بها على وجود شيء من التقارب بين العريبة البائدة والعربية الباقية, ومن أهمها نقشان؛ أحدهما مدون على قبر

_ 1 في أبحاثه Zur Entzifferung der Safa lnschrifen. 2 ولفنسون 189 وقارن بوافي "فقه 101".

صنعه كعب بن حارثة للقيض بنت عبد مناة، وهو مؤرخ سنة 262 بعد دمار مملكة النبط، وفقًا لتاريخ مدينة بصرى، أي: حوالي سنة 368 ميلادية؛ لأن حادثة تدمير المملكة النبطية وقعت سنة 106 بعد الميلاد, وإذا رأيت صورة هذا النقش1 وحللت رموزه بالعربية, وألحقت به أصوات المد أصبحت عبارته: "ذين للقيض بنت عبد مناة"، أي: هذا القبر للقيض بنت عبد مناة. والنقش الثاني هو نقش النمارة Nemar، وهو قصر صغير للروم في الحَرَّة الشرقية من جبال الدروز, وقد دُوِّنَ هذا النقش سنة 228م, في مدفن امرئ القيس بن عمرو ملك العرب، وهو من ملوك الحيرة الذين انتشر نفوذهم حتى بادية الشام, وهذا النقش على جانب من الأهمية عظيم؛ لأنه مدوّن بالخط النبطي المتأخر الذي يرتبط بعضه ببعض -خلافًا للخط النبطي القديم- فيشبه ممن هذه الناحية كثيرًا الخط الكوفي، ولذلك يرى أكثر العلماء أن الخط الكوفي منحدر من القبطي, والنقش يشتمل على خمسة أسطر, نقل ولفنسون صورتها في "تاريخ اللغات السامية2, ومن المفيد الاطلاع عليها، لتتبع المراحل التي مَرَّ بها الخط العربي حتى انتهى إلى رسمه الحديث. وبعد أن رجعنا البصر في هذه اللمحة التاريخية عن اللغات السامية، لم يسعنا أن نتغافل عن أواصر القربى بين تلك اللغات، بل وجدناها جميعًا في مناطق متقاربة، لم يبدل توالي العصور من مناطقها شيئًَا، كأنما كتب عليها أن تخلد خلود الشرق مطبوعة بطابعه، محذوة على مثاله، منذ ظهرت في العراق الآشورية البابلية, حتى برزت في جزيرة العرب العربية الشمالية.

_ 1 انظر صورة هذا النقش في "ولفنسون 178". 2 انظر في المصدر ص190 صورة هذا النقش أيضًا.

ولم ننس بعد أن الكنعانية والعبرية ظهرتا في فلسطين وسورية وبعض جزر البحر الأبيض، وأن الآرامية والسريانية عاشتا في العراق وسورية وفلسطين، وأن كثيرًا من الباحثين جعل المهد الأول لهذه الشعوب السامية جزيرة العرب1. وإن هذ التقارب الزمانيّ المكانيّ ليدل دلالة قاطعة على أن العربية فرع في هذه الفصيلة السامية، ولا يفصم العرى بين الأصل والفرع إلّا باحث متسرع، أو مكابر جحود.

_ 1 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 24-25.

الفصل الثالث: العربية الباقية وأشهر لهجاتها

الفصل الثالث: العربية الباقية وأشهر لهجاتها لقد أوضحنا أن اللغة العربية الباقية هي التي ما نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والأدب, وهي التي وصلتنا عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنة النبوية؛ لذلك تنصرف إليها "العربية" عند إطلاقها, والواقع أن الإسلام صادف -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة موحدة, جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوّى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى1، وكان تحدّيه لخاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله, أو بآية من مثله, أدعى إلى تثبيت تلك الوحدة اللغوية، على حين دعا العامة إلى تدبر آياته وفقهها وفهمها، وأعانهم على ذلك بالتوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه السبعة المشهورة2.

_ 1 اللهجات العربية للدكتور إبراهيم أنيس34. 2 راجع في كتابنا "مباحث في علوم القرآن" فصل "الأحرف السبعة" ص101 "الطبعة الخامسة".

والوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره، وقوّاها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات عمليًّا قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما كانوا يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم، وخصائص ألحانهم, قال ابن هشام1: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها, ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات2". ويبدو أن اللغوين الأقدمين لم يعرضوا للهجات العربية القديمة في العصور المختلفة عرضًا مفصلًا يقفنا على الخصائص التعبيرية والصوتية لهاتيك اللهجات؛ لأنهم شغلوا عن ذلك باللغة الأدبية الفصحى التي نزل بها القرآن، وصيغت بها الآثار الأدبية في الجاهلية وصدر الإسلام3. وهم -لشعورهم بعدم توفرهم على دراسة هذا الموضوع دراسة دقيقة عميقة- كانوا يتخلصون من اختلاف اللهجات بالاعتراف بتساويها جميعًا في جواز الاحتجاج بها، بعد الاكتفاء بإشارات عابرة مبثوثة في كتب

_ 1 هو أحد أئمة العربية المشاهير، عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، المعروف بابن هشام، كثير التصانيف في النحو، وأشهرها "مغني اللبيب" وهو معروف, وبعض كتبه لا يزال مخطوطًا "كالجامع الصغير" في النحو. قال ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية, يقال له: ابن هشام, أنحى من سيبويه". توفي ابن هشام 761هـ. "وراجع ترجمته في الدر الكامنة 2/ 308". 2 المزهر 1/ 261 ط/ 3. وإلى هذه الطبعة سنحيل في الفصول القادمة, ولمزيد الإيضاح انظر جريدة المراجع. 3 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 39-40.

الرواية واللغة, إلى بعض تلك اللهجات. فهذا ابن جني1 على عنايته بدقائق الدراسة اللغوية لا يتردد في "خصائصه" في عقد فصل خاص حول ما سماه: "اختلاف اللغات وكلها حجة", وهو يقصد باللغات لهجات العربية المختلفة، وينصّ على جواز الاحتجاج به جميعًا، ولو كانت خصائص بعضها أكثر شيوعًا من خصائص بعضها الآخر, فيقول: "إلّا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين؛ فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع, فإنه مقبول منه غير منعي عليه، وكذلك أن يقول: على قياس مَنْ لغته كذا كذا، ويقول: على مذهب مَنْ قال كذا كذا؛ وكيف تصرفت الحال؛ فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه"2. ومن يعترف بأن اللغات كلها حجة، لا يتعذر عليه أن يتصور اجتماع لغتين فصاعدًا في كلام الفصيح، فحين قال الشاعر: فَظَلْتُ لدي البيت العتيق أخيلهو ... ومِطْوايَ مشتاقانِ لَهْ أرقانِ لم يكن عسيرًا على ابن جني أن يرى في إثبات الواو في "أخيلهو", وتسكين الهاء في قوله: "لَهْ" لغة جديدة انضمت إلى لغة الشاعر الفصيح، فليس إسكان الهاء في "لَهْ" عن حذفٍ لحق بالصنعة الكلمة،

_ 1 هو أحد أئمة اللغة والنحو والأدب، عثمان بن جني، أبو الفتح، له شعر, كان المتنبي يقول فيه: "ابن جني أعرف بشعري مني", طُبِعَ كثير من تصانيفه، ولا يزال بعضها مخطوطًًا "كالمحتسب في شواذ القراءات". وكتابه "الخصائص" من أنفس المؤلفات في العربية, توفي سنة 392هـ , "وانظر في ترجمته إن شئت معجم الأدباء 5/ 15-22". 2 الخصائص 1/ 411.

لكن ذاك لغة! "1. ومثل هذا الفصيح الذي يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا, ينصح ابن جني بتأمل كلامه، "فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتهما واحدة، فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها، وسعة تصرف أقوالها"2؛ وهكذا ينقل ابن جني تنوع الاستعمال من الفرد إلى القبيلة، أو قل: من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي؛ تهربًا من الاعتراف بشذوذ الفرد، ما دام فصيحًا!! وهذا التهرب واضح في دفاع ابن جني عن الفصيح, حين تكون إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فهو يرى حينئذ أن التي كانت أقلَّ استعمالًا "إنما قلَّت في استعماله لضعفها في نفسه, وشذوذها عن قياسه، وإن كانت جميعًا لغتين له ولقبيلته"3؟. ويستشهد على ذلك بحكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهارَ, وأن أبا العباس قال له: ما أردت؟ فقال: أردت سابقٌ النهارَ, فعجب أبو العباس لم لم يقرأه عمارة على ما أرداه فقال له: فهلّا قلته؟ فقال عمارة: لو قلته لكان أوزن: أي أقوى! والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن تتساوى اللغتان القوية والضغيفة في كلام الفصحاء، فهم "قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه، وذلك لاستخفافهم الأضعف؛ إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى4.

_ 1 نفسه 1/ 375. 2 نفسه 1/ 277. 3 الخصائص 1/ 377. 4 نفسه 1/ 377-378.

فلا ضير إذن أن يقول الشخص الواحد في المسمَّى الواحد: رُغوة اللبن, ورَغوته، ورِغوته، ورُغاوته، ورِغايته، ورُغايته, فـ "كلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد، من هنا وهناك"1. وأطرف من ذلك كله أنه يخلص ابن جني إلى تداخل اللغات وتركّبها، فيصم بضعف النظر وقلة الفهم كل من يفسر هذا التداخل بالشذوذ، أو ينسبه إلى الوضع في أصل اللغة2، ولا يتردد في الاحتجاج لثبوت تركب اللغات بحكاية يرويها عن الأصمعي3 أنه قال: "اختلف رجلان في الصقر، فقال أحدهما: "الصقر" بالصاد، وقال الآخر: "السقر" بالسين، فتراضيا بأول وراد عليهما، فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما, إنما هو "الزقر! ", ويعلق ابن جني على هذا بقوله: "أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة، كيف أفاد في هذه الحالة، إلى لغته لغتين أخريين معها؟ وهكذا تتداخل اللغات! "4. وابن فارس5 نظر إلى هذا الموضوع أيضًا من خلال المنظار نفسه،

_ 1 نفسه 1/ 378. 2 نفسه 1/ 379. 3 الأصمعي هو عبد الملك بن قريب، أبو سعد، من علماء اللغة وأئمتها, أخذ الروايات والأخبار عن العرب في باديتهم وأحيائهم, توفي سنة 216هـ. نشرت له بعض الأبحاث في اللغة؛ ككتاب خلق الإنسان، والإبل، وأسماء الوحوش، وصفاتها. 4 الخصائص 1/ 378-379. 5 هو أحمد بن فارس الرازي، أبو الحسين، أحد أئمة اللغة والأدب، أستاذ الصاحب بن عباد، والبديع الهمذاني, توفي سنة 395 في الريّ، وإليها نسبته, له كتاب "الصاحبي في فقه اللغة", وقد طبع سنة 1328 في القاهرة، و"مقاييس اللغة" في ستة أجزاء, وقد نشره عبد السلام هارون في القاهرة سنة 1366هـ, وله أيضًا "المجمل" الذي طبع الجزء الأول منه في القاهرة سنة 1331هـ, وفي "الظاهرية" أجزاء مخطوطة منه.

فبعد أن ذكر صورًا متباينة من اختلاف لغات العرب، وصرَّح بأنها "كانت لقوم دون قوم" لم يرتب في تداولها على ألسنة العرب، على ما كان في بعضها من اللغات الضعيفة، "فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ"1. فهل على أبي حيّان2 من حرج بعد هذا إذا رأى أن "كل ما كان لغةً لقبيلة قيس عليه"؟ 3. وعلى هذا الأساس من تساوي جميع اللهجات العربية في جواز الاحتجاج بها، لم تكن ثمة بواعث قوية تحمل القدامى على العناية باللهجات عناية خاصة، فوقعوا في كثير من التناقص حين استنبطوا قواعدهم النحوية والصرفية من كل ما روي عن القبائل، وأقحموا على الفصحى خصائص اللهجات المتباينة بوجوهها المتعددة، ولم يصدروا -كما قال الأستاذ سعيد الأفغاني- في تنسيق شواهدهم عن خطة محكمة شاملة؛ فأنت تجد في البحث من بحوثهم قواعد عدة، هذه تستند إلى كلام رجل من قبيلة أسد، وتلك إلى كلام رجل من تميم، والثالثة إلى كلمة لقرشيّ, وتجد على القاعدة تفريعًا دعا إليه بيت لشاعر جاهلي، واستثناء مبنيًّا على شاهد واحد اضطر فيه الشاعر إلى أن يركب الوعر حتى يستقيم له وزن البيت!! "4. ومنشأ هذا كله خلطهم بين اللغة الأدبية المثالية الموحدة, التي هي لغة الخاصة, وبين لهجات التخاطب العامة لدى القبائل الكثيرة المشهورة، على حين أنَّ شرط اللغة هو الاطراد والتوحيد في الخصائص5.

_ 1 الصاحبي 22. 2 هو العالم اللغوي المشهور محمد بن يوسف، أبوحيان الأندلسي، صاحب التفسير المعروف "بالبحر المحيط". وله "التذييل والتكميل" في شرح التسهيل لابن مالك, توفي سنة 745هـ. 3 المزهر 1/ 258. 4 في أصول النحو 61. 5 اللهجات 41.

ويزداد الأمر تعقيدًا بعد ذلك، فتدرس اللهجات في ضوء ما وضعه النحاة من القواعد والمقاييس، ويحكم عليها -مع تنوع أصولها- من وجهة نظر واحدة, هي مطابقتها أو مخالفتها لهاتيك القواعد، كما فعل الهمذاني "334 " في "صفة جزيرة العرب1". والحق أن العرب -ككل شعوب العالم- كانوا قبل الإسلام وبعده منقسمين إلى فئتين؛ فئة الخاصة التي كانت تتطلع إلى صقل لغتها وتحسينها، فتسمو في تعابيرها إلى مستوى أرفع من مستوى التخاطب العادي، وفئة العامة التي كانت تكتفي بحظ قليل من فصاحة القول وبلاغة اللتعبير، وتمضي تبعًا لتقاليدها الخاصة وبيئاتها الجغرافية الخاصة إلى الاستقلال في صياغة جملها وتركيب مفرداتها ولحن أصواتها2. ومما لا ريب فيه أن البيئة الحضرية في مكة والمدينة كانت بضرورة الحال تختلف لهجاتها عن لهجات البيئات البدوية المنعزلة التي لا تكاد تستقر على حال, فمهما تكن اللغة العربية قد صُقِلَت وتوحدت قبل الإسلام، ومهما تكن وحدتها قد قويت وتمت بعد الإسلام، لا يسعنا أن نتصورها إذ ذاك إلّا مؤلفة من وحدات لغوية مستقلة منعزلة, متمثلة في قبائلها الكثيرة المتعددة3. على أن الكتب التي عرضت لتلك اللهجات كثيرًا ما تغفل أسماء قبائل معينة تنسب إليها لهجةٌ ما، ومن خلال الكتب المذكورة -على ندرتها- نستنتج أن أشهر القبائل التي تورى لها لهجات خاصة تختلف عن اللغة الأدبية المثالية اختلافًا ذا بالٍ هي: تميم وطيئ وهذيل، وهي جميعًا قبائل معروفة بالفصاحة، بدوية ضاربة في أنحاء الصحراء.

_ 1 انظر آراءه في "اللهجتين المهرية والشحرية، فهو يرى أن أهلهما غتم يشاكلون العجم". صفة جزيرة العرب، ص92". 2 اللهجات: 36. 3 نفسه: 31.

ومع كثرة من ينتمي إلى هذه القبائل من الشعراء يلاحظ أن أحدًا من رجال الطبقة الأولى لم ينسب إليها، وإنما كان المنتسبون إليها من الجاهليين مقلِّين، لا يروى عنهم إلا النزر اليسير, فمن التميميين أوس بن حجر، وسلامة بن جندل، وعلقمة بن عبدة، وعديّ بن زيد، وعمرو بن الأهتم، والبرَّاق بن رَوْحَان، والأسود بن يعفر, ومن الطائيين حاتم الطائي، وأبو زبيد الطائي، وإياس بن قبيصة, ومن الهذليين: أبو ذؤيب الهذلي، وعامر بن حُلَيْس، وخويلد بن خالد. وإذا آثرنا عدم التوسع في اللهجات -حتى لا يطول بنا البحث كثيرًا والمقام لا يسمح له- فإن أقصى ما يُغْتَفَرُ لنا الاقتصار عليه من لهجات العربية الباقية مجموعتان رئيستان عظيمتان، إحداهما حجازية غربية أو كما تُسَمَّى أحيانًا "قرشية", والأخرى نجدية شرقية, أو كما تدعى أحيانًا "تميمية"، فهذه القسمة الثنائية الرئيسة للهجات العربية الباقية, هي الحد الأدنى لتلك المجموعة الواسعة من الوحدات اللغوية المنعزلة المستقلة. وليستحيلنَّ علينا بدون هذه القسمة أن نعلل تعليلًا علميًّا صحيحًا وجود تِعْلم ونِعْلم بكسر حرف المضارعة إلى جانب تَعْلم ونَعْلم، ووجود حُمْر وجُمْعة إلى جانب حُمُر وجُمُعة، ووجود حَقِدَ يَحْقَدُ إلى جانب حَقَدَ يَحْقِدُ، ووجود مَدْيون إلى جانب مَدِين، ومُرْيَة ومِرْيَة، وهيهات وأيهات2، وأمثال ذلك أكثر مما نتصور، والخلاف حوله في أصل لهجتي قريش وتميم أوسع نطاقًا مما نُقَدِّرُ أو نستشعر, وسنرى أن لهجة قريش، التي جعلتها العوامل السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية اللغة العربية الفصحى المقصودة عند

_ 1 عبارة الدكتور إبراهيم أنيس في "اللهجات 140" أشد عنفًا مما ذكرنا، ولا داعي لهذا الغلو، ففي كتب "الطبقات" إشارة إلى بعض أولئك الفحول منع كثرة ما ينسب إليهم من الشعر، بالإضافة إلى غيرهم، وحسبك بديوان الهذلين حجة وبرهانًا! 2 اللفظة الأولى من جميع هذه الأمثلة لتميم, والأخرى لقريش.

الإطلاق، لم تكن في جميع الحالات أقوى قياسًا من لهجة تميم؛ بل كثيرًا ما تفوقها في بعض ذلك تميم، ولكنها -أي القرشية- باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مخلتف لهجاتها، كانت أغزرها مادةً، وأروقها أسلوبًا، وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة؛ "فقد ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء"1. ولقد أكد الفراء2 صفاء لغة قريس, وأوضح أسرار ذلك الصفاء بقوله: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ"3, لذلك اصطنعت لغة قريش وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، فكان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته، ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وإخراج الحروف وتركيب الجملة، ليتدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها، بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في تهذيبها وصقلها. وفي كتب اللغة إشارات إلى بعض المذموم من لهجات العرب؛ من ذلك الكشكشة, وهي في ربيعة ومضر، يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيئًا، فيقولون: رأيتكش، وبكش وعليكش، فمنهم من يثبتها حالة الوقف فقط، وهو الأشهر، ومنهم من يثبتها في الوصل أيضًا، ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكّنها

_ 1 الخصائص 1/ 411. 2 هو يحيى بن زياد المعروف بالفراء، من أئمة الكوفة في اللغة والنحو, توفي نحو سة 160هـ. 3 المزهر 1/ 221.

في الوقف، فيقول: مِنْش وعَلَيْش1. وفي ذلك أنشد قائلهم: فعيناشِ عيناها، وجيدشِ جيدُها ... ولونُشِ، إلا أنها غيرُ عاطلِ2 ومن ذلك الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينًا3. ومن ذلك الطُمْطُمانية في لغة حِمْيَر؛ كقولهم: طاب امهواء, أي: طاب الهواء4. ومن ذلك: العَجْعَجة في لغة قضاعة، يجعلون الياء المشددة جيمًا، يقولون، في تميميّ: تميمج5, وقال أبو عمرو بن العلاء6: قلت لرجل من بني حنظلة: ممن أنت! قال: فُقَيْمجّ, فقلت: من أيهم؟ قال: مُرِّج، أراد فُقَيْميّ ومُرّيّ7, ولذلك اشتهر إبدال الياء جيمًا ملطقًا في لغة فقيم, حتى أنشد شاعرهم: خالي عُوَيْفٌ وأبو عَلجِّ ... المطعمان اللحم بالعشجِّ وبالغداة فلق البرنجّ8

_ 1 المزهر 1/ 221. 2 الصاحبي 24. 3 المزهر 1/ 222. 4 نفسه 1/223. 5 نفسه 1/ 222. 6 هو زبان بن العلاء، أحد أئمة اللغة والأدب، ومن قراء القرآن المشاهير, كانت عامة أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية، أخذ عنه كثيرون منهم الأصمعي وأبو زيد والأخفش وعيسى بن عمر, توفي نحو سنة 145هـ. 7 أمالي القالي 2/ 77. 8 قارن الصاحبي 25 بأمالي القالي 2/ 77.

ومن ذلك شنشنة اليمن؛ تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبّيش اللهم لبَّيْشَ، أي: لبيك1. ولخلخانيّة أعراب الشّحْر وعُمان، كقولهم: مشا الله كان, أي: ما شاء الله كان2. وعنعنة تميم، تقول في موضع أن: عن, أنشد ذو الرمة: أعَنْ ترسّمت من خرقاء منزلة3. فلو أن شاعرًا ضمَّن شعره شيئًا من كشكشة ربيعة, أو طمطمانية حمير, أو عجعجة قضاعة، وغدا ينشده في بعض أسواق العرب لغلبوه على أمره بالمكاء والتصدية، ولصيروه أضحوكة من التهكم به والتندر عليه, ولكي تتصور مثل هذا الموقف تخيل رجلًا يكشكش الكافات في قول امرئ القيس من معلقته: أغركِ مني أن حبكِ قاتلى ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل فهو سينشد البيت هكذا: أغرَتَشْ مني أن حبتْشِ قاتلي ... وأنتشِ مهما تأمري القلب يفعل وتخيل رجلًا آخر يطمطم لامات التعريف، فيسأل الرسول العربي -صلى الله عليه وسلم: هل من امبر امصيام في امسفر؟ يقصد: هل من البر الصيام في السفر، فيضطر -عليه السلام- لاستخدام لغته ليفهمه الحكم الشرعي فيجيبه "ليس من امبر امصيام في امسفر"4.

_ 1 المزهر 1/ 222. 2 نفسه 1/ 223. 3 الخصائص 1/ 441. 4 الكفاية في علم الرواية للخطيب 183.

ثم تخيل رجلًا ثالثًا يجعجع الياءات المسبوقة بالعينات، فيقول: "الرّاعج خرج معج" بدلًا من "الراعي خرج معي". فلا غرو بعد هذا كله إذا نزل القرآن بلغة العرب المثالية، وبارك توحّدها، وسما بها إلى الذروة العليا من الكمال, بعد أن كانت لهجة محدودة لإحدى قبائل العرب1، ولا عجب إذا اقتصر على تحدّي خاصة العرب القادرين على التعبير بتلك اللغة الموحدة، ثم لا غرابة أخيرًا إذا تعددت وجوه قراءاته تخفيفًا على القبائل، وحلًّا لمعضلة تباين اللهجات.

_ 1 انظر "بلاد العرب قبل النبي" لبرجيه "النشرة الأسبوعية للاتحاد العالمي سنة 1885م", عدد 271، 272.

الفصل الرابع: لهجة تميم وخصائصها

الفصل الرابع: لهجة تميم وخصائصها لقد أتيح للغة قريش أن تتبوأ المكانة الأولى بين اللهجات العربية الشمالية، فأصبحت هي الفصحى المقصودة عند الإطلاق، وكان على اللغويين القدامى أن يعنوا بها عناية خاصة، ويفضلوا نطقها ورسمها وإعرابها ووضعها واشتقاقها، فلم تحظ اللهجات العربية الباقية منهم إلّا بالقليل من أبحاثهم. فلندع الحديث عن لهجة قريش جانبًا، فقد أشبعها علماؤنا بحثًا، وقد زادها نزول القرآن بها مكانة ومجدًا؛ ولندرس لهجة تميم بين مجموعة اللهجات النجدية الشرقية؛ لنحاول إلقاء بعض الأضواء عليها، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض خصائصها ومزاياها. إن في المصادر القديمة والمعجمات اللغوية ما يشير إلى أن كثيرًا من قواعد اللهجة التميمية أقوى قياسًا من بعض القواعد القرشية، بل فيها ما يكاد الباحث يستنتج منه باطمئنان أن لهجة تميم كانت في كثير من

مفرداتها وتراكبيها هي التبي ينطق بها غالبًا أبناء اللغة العربية, فهذا سيبويه1 يذكر كيف يراعي التميميون القياس في كسر أوائل الأفعال المضارعة، ويقرر بوضوح أن "ذلك في لغة جميع العرب إلّا أهل الحجاز"؛ ويؤكد ابن منظور2 في "لسان العرب"3 نسبة هذا القول إلى سيبويه في العبارة الآتية: "وزعم سيبويه أنهم يقولون: تَقَى الله رجلٌ فعل خيرًا، يريدون: اتَّقى الله رجل، فيحذفون ويخففون, وتقول أنت: تَتَّقِي الله، وتِتَّقى الله، على لغة من قال تَعْلم وتِعْلم. وتِعْلم -بالكسر- لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة العرب, وأما أهل الحجاز وقوم من أعجاز هوازن وأزد السراة وبعض هذيل فيقولون: تَعْلم, والقرآن عليها. قال: وزعم الأخفش4 أن كل من ورد علينا

_ 1 هو إمام النحاة، عمرو بن عثمان، أبو بشر، الملقب بسيبويه، أول من بسط علم النحو، وصنف كتابه المسمى: "كتاب سيبويه", لم يصنع قبله ولا بعده مثله في النحو, توفي شابًّا سنة 180هـ, "ترجمته في الوفيات 1/ 385, وطبقات النحويين 66-74". 2 هو محمد بن مكرم، المعروف بابن منظور المصري، لغوي كبير, توفي بالقاهرة سنة 711هـ, طبع معجمه "لسان العرب" في بولاق, ثم في بيروت أخيرًا. 3 "لسان العرب" 20/ 283, وفي القراءات الشاذة، ص8 "إياك نِعبد" بكسر النون, وقد علق عليها العكبري بقوله: "لغة فاشية في العرب يكسرون حرف المضارعة" صورة شمسية لمخطوطة الكتاب بالمجمع العلمي بدمشق رقم 59, أما ابن سيده فيؤكد أن كسر أوائل الحروف المضارعة معروف في لغة جميع العرب إلّا أهل الحجاز. وانظر أمثلته الكثيرة وشواهده في "المخصص 14/ 216" وما بعدها, وقارن بالصاحبي 19/ والمزهر 1/ 255. 4 هو عبد الحميد بن عبد المجيد، أبو الخطاب، الأخفش الأكبر, مولى قيس بن ثعلبة، كان إمامًا في العربية، لقي الأعراب وأخذ عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء وطبقته, أخذ عنه سيبويه والكسائي ويونس وأبو عبيدة, توفي سنة 177هـ "ترجمته في بغية الوعاة 296, وإنباه الرواة 2/ 157".

من الأعراب لم يقل إلّا تِعلم, قال: نقلته من نوادر أبي زيد"1. وفي الباب الذي يعقده ابن جني في "خصائصه" لتعارض السماع والقياس، يعترف بأن التميمية أكثر مراعاة للقياس من القرشية، ويبين الفرق بين ما كان أقوى قياسًا وما كان أكثر استعمالًا، فيقول: "وإن شذَّ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس, كان استعمال ما كثر استعماله أولى، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله". من ذلك اللغة التميمية في "ما", هي أقوى قياسًا وإن كانت الحجازية أيسر استعمالًا، وإنما كانت التميمية أقوى قياسًا؛ من حيث كانت عندهم كـ"هَلْ"، في دخولها على الكلام مباشرة، كل واحد من صدري الجملتين الفعل والمبتدأ، كما أن "هَلْ" كذلك إلّا أنك إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية، ألا ترى أن القرآن بها نزل! وأيضًا فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر, أونقضٍ لنفي، فزعت إذا ذاك إلى التميمية، فكأنك من الحجازية على حرد, وإن كثرت في النظم والنثر"2. وهذا الذي ذكره ابن جني عن "ما" التميمية, وكونها أقوى قياسًا من الحجازية، وهي فوارق ذات بال، يحسن أن تجمع وينبه عليها, فمن المعلوم أن النحاة يقسمون ما "النافية" إلى حجازية وتميمية، فالخبر في الحجازية منصوب، بينما هو في التميمية مرفوع، والقرآن في قوله "ما هذا بشرًا"3 جاء طبعًا على لهجة الحجاز, ويقرب من هذا الخلاف

_ 1 هو أبو زيد الأنصاري، سعيد بن أوس، من أئمة اللغة والرواية المشاهير, توفي سنة 215هـ, كتابه "النوادر في اللغة" طبع في بيروت في المطبعة الكاثوليكية بتحقيق سعيد الحوري الشرتوني سنة 1894م. 2 الخصائص 1/ 130-131. 3 سورة يوسف31.

الإعرابي ما دار حول خبر ليس، إذا اقترن "بإلا"؛ فتميم ترفع هذا الخبر حملًا "لليس" على "ما النافية" على حين تنصبه قريش إطلاقًا، ويروون في هذا قصة لا ندري أصحيحة هي أم موضوعة, ولكنها على كل حال صورة واضحة للجدل العلمي حول بعض المعضلات اللغوية؛ ففي "أمالي" القالي1: "حدثنا أبو بكر بن دريد2, حدثنا أبو حاتم3 قال: سمعت الأصمعي يقول: جاء عيسى بن عمر الثقفي4 ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز "ليبس الطيب إلّا المسكُ" بالرفع, قال أبو عمر: ذهب بكم يا أبا عمرو! نمت وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازيّ إلّا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلّا وهو يرفع, ثم قال أبو عمرو: قم يا يحيى -يعني اليزيدي- وأنت يا خلف -يعني: خلفًا الأحمر- فاذهبا إلى أبي المهديّ فلقناه الرفع, فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجعه فلقناه النصب فإنه لا ينصب, قال: فذهبا فأتيا أبا المهديّ، فإذ هو يصلي؛ فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟

_ 1 ذيل الأمالي لأبي علي القالي 39, وقد نسخها السيوطي كعادته في المزهر ج2 ص277، والقالي هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم، من كبار العلماء في الغريب والأخبار, أخذ من ابن دريد وغيره، ورحل إلى الأندلس, وأشهر كتبه "الأمالي والنوادر" وهو مطبوع ومعروف, توفي سة 356هـ. 2 ابن دريد هو محمد بن الحسن، أبو بكر، من كبار أئمة العربية, توفي سنة 321هـ, وأشهر كتبه "الجمهرة"، وقد طبع في حيدر آباد بين سنتى 1344-1353هـ, وطبع كذلك كتابه "الاشتقاق" بعناية المستشرق وستنفلد سنة 1853هـ. 3 هو سهل بن محمد السجستاني, من كبار أئمة اللغة, كان المبرد يلازم القراءة عليه, له نيف وثلاثون كتابًا، طبع بعضها ككتاب "المعمرين" وكتاب "النخلة", توفي سنة 248هـ "الوفيات 1/ 218". 4 نحويّ كان يتقعر في كلامه, توفي سنة 149هـ.

قلنا: حئنا نسألك عن شيء من كلام العرب, قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول ليس الطيبُ إلّا المسكُ؟ فقال: أتأمراني بالكذب على كبرة سني؟ فأين الجادي1؟ وأين كذا؟ وأين بَنَّة2 الإبل الصادرة؟ فقال له خلف: ليس الشرابُ إلا العسلُ3، فقال: فما يصنع سودان هجر؟ ما لهم شراب غيرُ هذا التمر. قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاكُ الأمر إلّا طاعةُ الله والعمل بها، فقال: هذا كلام لا دخيل فيه، ليس ملاكُ الأمر إلا طاعةَ الله، فقال اليزيدي: ليس ملاكُ الأمر إلّا طاعةُ الله والعمل بها، فقال: ليس هذا لحني, ولا لحن قومي. فكتبنا ما سمعنا منه, ثم أتينا أبا المنتجع فأتينا رجلًا يعقل, فقال له خلف: ليس الطيبُ إلّا المسكَ، فلقناه النصب وجهدنا به فلم ينصب, وأبى إلّا الرفع، فأتينا أبا عمرو فأخبرناه وعنده عيسى بن عمر لم يبرح، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم بهذا، والله فقت الناس! ". وإن أقل ما ترمز إليه هذه القصة -سواء أصورت خقيقة ما حدث, أم لخصت الصراع اللغوي بين النحاة- أن لكل قبيلة عربية لحنًا خاصًّا لا تستطيع سواه، ويستحيل تلقينها غيره؛ لأن ألسنتها لا تجري إلّا به, ولقد آثر العلماء أن يعدوا الخلاف حول هذه القضايا منتهيًا، ويردوا بها التأويلات المتكلفة، فقال أبو حيان: "إنما يسوغ التأويل إذا كان الجادة على شيء، ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول؛ أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم يتكلم إلّا بها فلا تأويل, ومن ثَمَّ

_ 1 الجادي هو الزعفران، نسب إلى الجادية وهي من أعمال البلقاء. 2 بنة الإبل "بفتح الباء" رائحتها, "وقد وردت في المزهر بضم الباء "بنة" 1/ 278 فتصحح". 3 برفع العسل؛ لأن القصة كلها تدور حول هذا الرفع, ولكنها مجرورة في "المزهر" خطأ أو توهمًا 1/ 278.

رد تأويل أبي علي قولهم: "ليس الطيبُ إلا المسكُ" على أن فيها ضمير الشأن؛ لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة بني تميم"1. ولا مدافعة في أن اللحن الخاص يتعذر تركه في تمييز كم الخبرية، فإنه منصوب وجوبًا في لهجة تميم، فهي تقول: كم حربًا خضت، وكم فارسًا جندلت؛ بينما يقول الحجازيون: كم حربٍ وكم فارسٍ. وهذا يفسر لنا ما دار من الجدل النحوي العقيم حول بيت الفرزدق -وهو كما نعلم تميمي: كم عمة لك يا جرير وخالة. فإن من رواه بالنصب لاحظ أن الفرزدق إنما لحن بلحن قومه, ومن رواه بالجر أراد أن يؤكد أن جميع الشعراء، من أية قبيلة كانوا، يلتزمون النطق بلهجة قريش؛ لإيمانهم بأنها أفصح اللهجات العربية2. على أننا -بلا ريب- ما كنا لنعرف بعض الفروق بين لهجتي الحجاز وتميم لولا التزام بعض التميمين لحنهم الخاص لدى نطقهم بألفاظ معينة. من ذكل أن لهجة تميم تنبر الهمزة, أي: تحققها وتلتزم النطق بها -يشاركها في ذلك أكثر البدو- على حين يسهل الحجازيون الهمزة ولا ينبرونها إلّا إذا أرادوا محاكاة التميميين استلطافًا لهذه الصفة الحلوة من صفات لهجتهم, قال أبو زيد: "أهل الحجاز وهُذَيْل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون، وقف عليها عيسى بن عمر فقال: ما آخذ من قول تميم إلّا بالنبر، وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا"3.

_ 1 المزهر 1/ 258. 2 اللهجات 73. 3 لسان العرب 1/ 14، وفي كتب الأدب أن أحد الرواة سأل رجلًا من قريش: أتهمز الفأرة؟ فلم يفهم المسئول وأجاب متهكمًا: "إنما يهمزها القط! ".

ومعنى نبر الحجازين عند الاضطرار، خروجهم من سليقتهم في تسهيل الهمزة في غير لهجات خطابهم العادية، لشهورهم بأن تحقيق الهمزة في الأساليب الأدبية من شعر وخطابة أقرب إلى الفصاحة من تسهيلها, وجاء نزول القرآن بنبر الهمزة دليلًا على أن اللغة المثالية كانت قبل الإسلام قد استحسنت في هذا لحن تميم فاقتبسته واتخذته صفة من صفات نطقها الفصيح, ولكن الإسلام -جريًا على عادته في التخفيف على القبائل ومراعاة لهجاتها- لم يلزم أحدًا بتحقيق الهمزة, وإن التزمه في الوحي، فمالت قراءات أكثر الحجازيين إلى التسهيل لا النبر، كما هي الحال في قراءة نافع وأبي جعفر من أشهر قراء المدينة1، فإنهما يقرآن: "وَبِسَ الْمِهَادُ"2, "وَأَصْبَحَ فُوادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا"3, "خَاسِيًا وَهُوَ حَسِيرٌ"4, "وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ ~لَهٍ"5. وفي بعض القراءات الشاذة غلو في نبر الهموزة في مثل "رَبِّ الْعَألَمِين"6, بل تجاوز القراء الحدود حين قرءوا بهمزة مفتوحة مثل: "كَعَصْفٍ مَأكُول"7، وبهمزة قبل الحرف المشدد في "وَلا الضَّألِّين"8.

_ 1 قارن باللهجات 66. 2 البقرة: 203. 3 القصص: 10. 4 الملك 4. 5 المؤمنون 91. 6 انظر إعراب القراءات الشاذة للعكبري، ص5. "عن صورة شمسية لمخطوطة الكتاب" وسنختصر الإحالة على هذا الكتاب بقولنا "العكبري". 7 العكبري 420. 8 نفسه 13.

ولا ينقضي عجبك من قول العكبري1 في هذه القراءة الشاذة: "وهي لغة مسموعة من العرب! "2. والحق أن الذي سمع من العرب في باب الهمزة -على تنوعه تبعًا لتنوع القبائل ولهجاتها- لم يكن فيه مثل هاتيك الصورة الشاذة التي ذكرها العكبري وأضرابه على سبيل الإغراب حتى بالغوا فيها، وإلّا فكيف صحَّ لعماء اللغة أن يكشتفوا الفروق بين ما يهمز، فيكون له معنى، وما لا يهمز فيختلف معناه؟ 3 وما الذي يسوغ لهم أن يحكموا بأن بعض ما همز ليس أصله الهمز؟ 4 أو أن بعض ما تركت العرب همزه أصله الهمز؟ 5.

_ 1 هو عبد الله بن الحسين العكبري -أبو العكبراوي- البغدادي الضرير، الحنبلي، أصله -كما قال القفطي- من عكبراء وإليها نسب, برع في علوم كثيرة؛ منها القراءات والفقه والحديث والفرائض والحساب، وكان له في علوم العربية قصب السبق. ذكر السيوطي من كتبه خمسة وعشرين؛ أشهرها إعراب القرآن, وقد طبع، وإعراب الحديث؛ ومنه نسخة مخطوطة في الظاهرية، وإعراب القراءات الشاذة الذي نحيل هنا على الصورة الشمسية لمخطوطته, وتوفي العكبري سنة 616هـ "انظر بغية الواعاة 281". 2 العكبري 13. 3 انظر المخصص 14/ 2-6, ومن الأمثلة التي ذكرها: تملأت من الطعام والشراب؛ وتمليت من العيش: إذا عشت مليًّا, أي: طويلًا, وكفأت الإناء إذا قلبته؛ وكفيته ما أهمه وهمه, وكلأت الرجل أكلؤه كلاءة إذا حرسته، وقد كليته إذا أصبت كليته, وذرأ الله الخلق يذرؤهم, أي: خلقهم، وقد ذرا الشيء ذروًا: نسفه. وقد أردأت الرجل إذا أعنته، قال الله تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} وقد أرديته: إذا أهلكته. 4 قال ابن السكيت: "مما همزت العرب وليس أصله الهمزة قولهم: استلأمت الحجر، وإنما هو من السلام وهي الحجارة, وكان الأصل استلمت", وقالوا: الذئب يستنشئ الريح، وإنما هو من نشيت الريح, أي: شممتها.. وكان رؤبة يهمز سية القوس، وسائر العرب لا يهمزها: "راجع هذه الأمثلة مع أخرى من نوعها من المخصص 14/ 7-8". 5 قال أبو عبيدة: "تركت العرب الهمز في أربعة أشياء لكثرة الاستعمال: في الخابية، وهي من خبأت. والبرية، وهي من برأ الله الخلق, والنبي وهو من النبأ, والذرية، وهي من ذرأ الله الخلق". المزهر 2/ 252 وقارن بالجمهرة لابن دريد.

أنهم بلا ريب -في باب الهمزة- قد بنوا قواعدهم على الاستقراء الدقيق، فتحدثوا عما همزه بعض العرب وترك همزه بعضهم، وإن كان الأكثر الهمز1 وعما يقال بالهمز مرة وبالواو أخرى2, وذلك يؤكد انبناء مقاييسهم على نصوص ووثائق لا سبيل إلى مدافعتها, وأقل ما يستنتج من هذا أن الخلاف الذي قام حول النبر والتسهيل لم يذهب بحسنات النبر, ولو كان لهجة لتميم لا لقريش، بل فضل العلماء المحققون على تسهيل الحجازيين نبر التميميين، آخذين بالقرآن، متأثرين بصنيعه. ويخل إلى الباحث أن لقب "أهل التحقيق" الذي أطلقه ابن سيده3 على محققي الهمزة من بني تميم وأهل الحجاز، ليس مرادفًا للقب "أهل النبر" في نظره حين قال: "اعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها أهل التحقيق من بني تميم وأهل الحجاز, وتجعل في لغة أهل التخفيف بين بين قد يبدل مكانها الألف.."4؛ بل يرادف هذا الاسم في نظره "أهل الصواب والحق"؛ لأنه لم يكن يجهل أن تحقيق الهمزة بمعنى "نبرها" لم يك شائعًا لدى الحجازين عامة، وإنما عرفه منهم المحققون الذين استلطفوا

_ 1 قالوا: عظاءة وعظاية، وصلاءة وصلاية، وعباءة وعباية، وسقاءة وسقاية، وامرأة رثاية ورثاءة. "المخصص 14/ 11". 2 نحو أكدت العهد ووكدته، وأرخت الكتاب وورخته، وأسن الرجل ووسن: إذا غشي عليه من نتن ريح البئر. "المخصص 14/ 12". 3 هو علي بن إسماعيل، المعروف بابن سيده، أبو الحسن, إمام في اللغة, يعد كتابه "المخصص" من أثمن كنوز العربية، وقد طبع في سبعة عشر جزءًا، ومنه استقينا أكثر معلومات هذا الفصل, وله كتاب آخر جليل يسمى "المحكم والمحيط الأعظم" وهو مخطوط يقع في 18 جزءًا, وكان ابن سيده ضريرًا, وكذلك أبوه, وتوفي سنة 458هـ "ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 342, وإنباه الرواة 2/ 225". 4 المخصص 14/ 13, وقد ذكر ابن سيده هذا النص في سياق الحديث عن التخفيف البدلي، "فإنه أحب -كما قال- أن يصنع لهذا التخفيف عقدًا ملخصا وجيزًا".

فيه لهجة تميم1. ومن الفروق بين تميم وقريش أن تميمًا تجنح كثيرًا إلى إدغام المثلين أو الحرفين المتجاورين المتقاربين، فالأمر من "غض" مثلًا في لغة أهل الحجاز "اغضض" بالفك، وفي التنزيل {اغْضُضْ مِنْ صَوْتِك} 2 أي: اخفض الصوت.. وأهل نجد يقولون: "غض صوتك" بالإدغام, ومن ذلك قول جرير، وهو كما نعلم تميمي: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا3 وتميم تقول: {إِنْ تَمْسَّكُمْ حَسَنَة} 4، {وَمَنْ يَحْلّ عَلَيْهِ غَضَبِي} 5 {ولا تمن تستكثر} 6، وهي جميعًا في القرآن بلهجة قريش مفكوكة الإدغام7، ومن ذلك أن بني تميم لما أرداو إسكان عين معهم كرهوه9، فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا: "محم" وأصلها "مححم"، فرأوا ذلك أسهل من الحرفين المتقاربين8. وإذا كانت الأمثلة السابقة كلها مما اتحد فليه الحرفان وتماثلا, فلم يستغرب فيها الإدغام، ففي قول تميم "فُزْدُ" بالدال عوضًا عن

_ 1 خالفنا فيما ذهبنا إليه هنا صديقنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد راتب النفاخ، فهو لا يرتاب في أن لقب "أهل التحقيق" يرادف "أهل النبر", ولكني -فوق الذي ذكرته في تعليل رأي- أستأنس بالعبارة نفسها على أن "أهل الصواب والحق" هم المقصودون في هذا النص، ولولا ذلك لقال ابن سيده: "اعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها بنو تميم وبعض أهل الحجاز". 2 لقمان 19. 3 قارن بلسان العرب 9/ 61. 4 آل عمران 120. 5 طه 81. 6 المدثر 6. 7 قارن باللهجات 63- 64. 8 المزهر 1/ 194 نقلًا عن ابن جني في "سر الصناعة", وقارن بمقدمة الجمهرة.

"فزت" بالتاء ظاهرة مدهشة تستحق الاهتمام، لأن تميمًا قد استعاضت بحرف مجهور هو الدال عن حرف مهموس هو التاء، بسبب التجاور الصوتي بين الحرفين، فكلاهما حرف نطعي؛ وشبيه بذلك قول التميميين: "وَدَّ" بدلًا من "وَتِد" فسكنوا التاء وأدغموها في الدال أيضًا؛ لأنهما من مخرج واحد2. كان طبيعيًّا إذن أن ينتهي ابنج جني إلى أن عملية الإدغام ليست أكثر من "تقريب صوت من صوت"3، وأن يلاحظ في لمتقاربين ضرورة التقائهما "على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام، فيقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه، وذلك مثل: وَدَّ في اللغة التميمية، وامَّحى, وامَّاز, واصَّبر, واثاقل عنه، والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت! "4. وطريقة معالجة تميم لبعض الأفعال والأسماء والحروف والصيغ تختلف اختلافًا واضحًا عن طريقة قريش. أ- فإذا فتحت قريش عين الفعل الماضي فقالت: زَهَد، حَقَد، كسرتها تميم غالبًا, فآثرت أن تقول: زَهِدَ، حَقِدَ5. وإذا ضمت قريش عين المضارع فقالت: يَفْرُغُ فرُوغًا, إذا بتميم تفتحها وتقول: يَفْرَغُ فراغًا6، ويلاحظ هنا أن مصدري الفعلين قد اختلفا باختلاف

_ 1 المخصص 13/ 270. 2 الخصائص 1/ 532. 3 نفسه 1/ 531. 4 نفسه 1/ 532. 5 المزهر 2/ 276, ولكن الأمر على العكس في ماضي عرض، فعينه مكسورة عند قريش مفتوحة عند تميم. فالسيوطي في "المصدر نفسه" يقول: "أهل الحجاز: قد عرض لفلان شيء تقديره ضرب" فالقاعدة أغلبية. ولا يجب اطرادها. 6 قارن باللهجات 88.

اللهجتين, وهذا يفسر لنا الوجوه المتعددة في الفعل الثلاثي الواحد؛ من ناحية حركة عينه في صيغتي الماضي والمضارع, فسبب جواز أكثر من وجه في الفعل الواحد مرده في الأصل إلى اختلاف اللهجات1. ومن الاختلاف في الفعل أن قريشًا تقول: برأت من المرض فأنا براء، وتميمًا تقول: برئت فأنا بريء, كما هي لغة سائر العرب، واللغتان في القرآن2. أهل الحجاز: ذأى البقل يذأى, ولغة نجد ومنها تميم: ذوى يذوي. أهل الحجاز: قلوت البُرَّ وكل شيء يقلى فأنا أقلوه قلوًا، وتميم: قليت البُرَّ فأنا أقليه قليًا، وهذ إذا كانوا لا يريددون بمادة "ق ل ي" معنى البغض، أما إذا أرادوه فهم جميعًا في التعبير عنه سواء, فيقولون: قليت الرجل فأنا أقليه قِلىً4. والحجاز: لات الشيء يليته, إذا نقصه حقه، وتميم: ألاته يليته5، واللغتان في القرآن، فمن الأول قوله تعالى: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} 6, من الثانية قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 7. والحجاز: تَخِذَت ووخِذَت، وتميم: اتخذت8. والحجاز: أوصدت الباب، وتميم: آصدته. والحجاز: وكّدت توكيدًا، وتميم: أكدت تأكيدًا9. وضللت -بكسر اللام- لغة تميم، ووَرِيَ الزند "بكسر

_ 1 ولذلك تجد في اللسان 10/ 328 "فرغ يفْرُغ ويفرَغ فراغًا وفروغًا". 2 المزهر 2/ 276-277. 3 تفسه 2/ 277. 4 نفسه 2/ 276. 5 نفسه 2/ 276. 7 الحجرات 14. 8 المزهر 2/ 276. 9 نفسه 2/ 277.

الراء" ومضارعهما يضل ويري1. ب- ومن الاختلاف في الاسم أن الصيغة الدالة على أسماء الزراعة هي "فِعال" بكس الفاء على لغة الحجاز، فتقول: حِصاد وقِطاف، بينما هي "فَعال" بالفتح في لغة تميم2. وقد جاءت بالفتح في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3. والحجاز: حِجَّ بالكسر, وتميم: حَجَّ بالفتح. والحجاز: مِرية بالكسر، وتميم: مُرية بالضم. والحجاز: كراهة، وتميم: كراهية. والحجاز: رِضوان بالكسر، وتميم: رُضوان بالضم. والحجاز: قلنْسُيَة, تميم قَلَنْسُوَة4. وأهل الحجاز يخففون الهدي يجعلونه كالرمي، وتميم يشدونه فيقولون: الهديّ كالعشي. والحجاز: الوكاف، وتميم: الإكاف. والحجاز: الشفع والوَتر -بفتح الواو، تميم: الوِتر -بكسرها. والحجاز: إسوة وقِدوة بالكسر، وتميم: أُسوة وقُدوة بالضم5. وصيغة الاسم المبني للمجهول من الأفعال التي عينها حرف علة هي الصيغة القوية عند تميم، الضعيفة عند الحجاز، فتميم: مبيوع ومديون، والحجاز مبيع ومدين. واسم الفعل "هلُمَّ" عند الحجازيين يستوي فيه الواحد والجمع، والتذكير والتأنيث، أما تميم فتلحقه الضمائر وتصرف تصريف الأفعال: "هلمَّ هلمَّا هلمِّي"6 والحجاز: أيهات، وتميم: هيهات7. وصيغة "فَعالِ" منبية على الكسر في لغة الحجاز، ولكنها عند

_ 1 نفسه 2/ 38. 2 نفسه 2/ 276. 3 الأنعام 141. 4 المزهر 2/ 276. 5 نفسه 2/ 277. 6 انظر هلم في لسان العرب 16/ 101. 7 المزهر 2/ 275-276.

تميم معربة ممنوعة من الصرف. قال الزمخشري1 في "المفصل": "والبناء في المعدولة لغة أهل الحجاز, وبنو تميم يعربونها ويمنعونها من الصرف إلّا ما كان آخره راء؛ كقوله: "حضار وجعار" فإنهم يوافقون فيه الحجازيين إلّا القليل". واسم الإشارة عند الحجازيين ذلك وتلك، وهو عند تميم ذاك وتاك2, وأولاء بالمد لغة الحجاز، وأولى بالقصر لغة تميم, وقد أشار إلى أصل هذا الخلاف ابن مالك في ألفيته: وبأولى أشر لجمعٍ مطلقًا ... والمدّ أولى ولدى البعد انطقا فقال ابن عقيل في شرحه: "وفيه لغتان: المد، وهي لغة أهل الحجاز، والقصر, وهي لغة تميم"3، وعلى هذا الأساس يمد الضمير المتصل عند الحجازيين, بينما يقصر عند تميم، ومن السهل تطبيق ذلك نطقًا في مثل قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ} 4, {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} 5, {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} . والظرف "منذ" عند الحجازيين هو "مذ" عند تميم, يقول أهل الحجاز: ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان، وتقول تميم: مذ يومين ومذ يومان، فيتفقون في الإعراب ويختلفون في مذ ومنذ6.

_ 1 هو محمود بن عمر، أبو القاسم، جار الله، المشهور بالزمخشري، من أئمة اللغة والتفسير, توفي سنة 538هـ. طبع كتابه "المفصل" وحده مرارًا، ومع شرح ابن يعيش عليه, وقارن في صيغة "فعال" شرح شذور الذهب 109-113. 2 شرح الأشموني 1/ 137. 3 قارن بشرح شذور الذهب 164. 4 الأعراف 107. 5 الذراريات 26. 6 المزهر 2/ 276.

ومن أغرب الاختلاف وأعجبه بين هاتين اللهجتين العربيتين الشماليتين ما يتعلق بتذكير الأسماء وتأنيثها, وقد عقد السيوطي في "المزهر" بابًا لذكر ألفاظ اختلفت فيها لغة الحجاز ولغة تميم, فقال فيه: "أهل الحجاز هي التمر، وهي البر, وهي الشعير, وهي الذهب، وهي البسر، وتميم تذكر هذه كله"1, ونضيف إلى ذلك أن أعضاء جسم الإنسان؛ كالعنق والعضد مونثة عند الحجازين، مذكرة عند التميمين؛ وكذلك الحال في أسماء الأماكن؛ كالطريق والسوق والصراط والسبيل، فبينما تؤنثها الحجاز تذكرها تميم2. والواقع أن الاختلاف في تذكير هذه الألفاظ وتأنيثها لا يمت إلى المنطق العقلي بصلة، وأن الخيال السامي الخصيب -كما يقول المستشرق ريت Wright- قد خلع على بعض الأشياء الجامدة سمات الأشخاص الحية، فأنث بعضها وذكّر بعضها الآخر تبعًا لتصوره كلًا منها. ونحن نستطيع بمثل هذا التعليل أن نفهم تقسيم المؤنث إلى حقيقي ومجازي؛ ففي المجازي تعبير عن شيء مبهم يتعذر تفسيره، ولكنه وقد أشبه في أذهان الساميين ومعتقدات العرب بوجه خاص ما يكتنف المرأة في سحر وغموض, كان بالتأنيث أجدر منه بالتذكير3. وعلينا -في هذا الموطن- أن نذكر بشيء من الإعجاب رأي فنسنك Wwnsinck في كتابه "بعض ظواهر الجنس في اللغات السامية snme aspects gender in Semitic languages" فهو ينفي أن تكون علامات التأنيث؛ كالتاء والألف الممدوة والمقصورة أمارات حقيقية على التأنيث؛ وإنه لينتهي من بحثه إلى أنها ليست أكثر من علامات للمبالغة تفيد التكثير؛ كعلّامة وفهّامة في وصف مذكر، وقتلى وجرحى وشهداء

_ 1 المزهر 2/ 277. 2 نفسه، والصفحة نفسها. 3 أسرار اللغة للدكتور إبراهيم أنيس 94.

وعلماء، في وصف بعض الجموع؛ ولعلنا لا نستبعد هذا الرأي إذا ما قارناه بما تسيغه العربية الفصحى من صيغ تفيد التأنيث رغم فقدانها كل أمارة دالة عليه؛ كالمرأة الحامل والمرضع والعاقر والطالق والثاكل والعانس والعاكب والناهد والعَروب1 وكالظبية العاطف والمفل والمشدن2, والحذول3, والناقة الأمون4, والدلاث5 والحرف6 والدّ لْقم7. والمبرد8 يرى بوضوح أن هذه الصفات الدالة على التأنيث من غير علاماته لا تخضع للمنطق، وينبه على ما يلاحظ بطريقين: أحدهما: الإتيان بصفات نعت بها المذكر مع وجود علامات التأنيث كغلام يفعة، ورجل علامة ونسابة وراوية9؛ والثاني: التمييز بين ما نعت به المؤنث نعتًا خالصًا لمعنى الوصفية، وما نعت به على معنى الحدثية أو الفعلية. فمتى أفاد الفعلية لزمته علامة التأنيث حتى يضارع فعله كقولك: أشدنت

_ 1 العروب: المتحببة إلى زوجها. 2 الظبية المشدن: التي معها شادن. 3 الخذول: التي تأخرت عن القطيع. 4 الأمون: الصلبة. 5 الدلاث: الجريئة على السير. 6 الحرف: الضامر. 7 الدلقم إلي تكسر فوها، وسال لعابها. وانظر هذه الصفات كلها في المزهر 2/ 206-215 نقلًا عن الجمهرة لابن دريد, والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام. وقارن بعض أمثلتها بالمذكر والمؤنث للمبرد 136/ ب "مخطوطة الظاهرية مجموع 113", وسنرمز عند الإحالة إليها بقولنا: "المبرد". 8 هو محمد بن يزيد، أبو العباس، المرعوف بالمبرد، أحد أئمة الأدب والأخبار، وإمام العربية في زمانه ببغداد. أشهر كتبه "الكامل" وقد طبع مرارًا. وله "المذكر والمؤنث" لا يزال مخطوطًا في الظاهرية كما أشرنا إليه في الحاشية السابقة, توفي المبرد سنة 286 هـ, "ترجمته في بغية الوعاة 116, ووفيات الأعيان 1/ 495, وتاريخ بغداد 3/ 380". 9 المبرد 137/ أ.

الظبية فهي مشدنة، وطلقت المرآة فهي طالقة1، ويستدل المبرد على ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 2, فلم يقل: "كل مرضع" بل جاء بالتاء المربوطة "مرضعة", وكأن المبرد بهذه التفرقة الدقيقة تميز الوصف القائم بالنفس -لتعويضه الموصوف- عن الحدث العارض الذي هو فعل من أفعال الذات. وفي تجشمه هذا التعليل المنطقي لعلامة التأنيث في الآية, إيحاء بصعوبة التعليل فيما سمع من الشواهد الأخرى، كأن أمرها أهون في نظره من أن يتكلف له دليل من المنطق، ولعل موقفه هذا يبدو أصرح في تعليل وصف السماء بغير علامة التأنيث في قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه} 3؛ إذ ينقل عن الخليل4 قوله: "إنما قيل منفطر ولم يقل منفطرة؛ لأنه أريد به النسب؛ كقوله: دجاجة معضل، وامرأة مرضع، وظبية مشدن، وإذا جاءت على الفعل لم يجز إلّا منفطرة، كقوله: منشقة على قوله: "انشقت5". ويزداد اقتناع المبرد بتعذر التعليل في مباحث التذكير والتأنيث حين يعترف بأن "من التأنيث والتذكير ما لا يعلم مصدره، كما أنّ مما يذكر من الأسماء ما لا يعرف لأي مسمى هو"6. ومن الأمثلة التي يستشهد بها على ذلك: القِتْب -لحشو البطن- وهو واحد الأقتاب

_ 1 نفسه. 2 الحج2. 3 المزمل 18. 4 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو عبد الرحمن، إمام زمانه في العربية، وهو الذي استنبط العروض، وصاحب كتاب "العين", الذي يعد أول معجم في العربية، توفي الخليل سنة 175هـ. 5 المبرد 143/ ب. 6 نفسه 140/ أ.

أي: الأمعاء، على حين سلكها ابن قتيبة1 في عداد الأسماء المؤنثة التي لا علامة فيها للتأنيث2. وينكشف لنا مرة أخرى أن علامات التأنيث ليست ذات بالٍ حين نرى أن الأصل في الأسماء تجردها من هذه العلامات, حتى صرح العلماء بأن كل ما لا يعرف أمذكر هو أم مؤنث, فحقه أن يكون مذكرًا؛ كجبريل وميكال3. يضاف إلى ذلك أنّ الأسماء المذكرة التي فيها ظاهرة التأنيث إنما توصف منها مسمياتها، ويُخْبَرُ عن ذواتها لا عن أعراضها: "تقول: قال الخليفة كذا، وقال الرواية، وجاء النسابة؛ لأنك تخبر عن الذات، ولست تريد أن الاسم هو الذي جاء وقال"4. ونسارع -بعد الذي عرفناه من قلة غناء هذه الأمارات في الدلالة- إلى قبول تعليل المبرد لتأنيث الطاغوت تارةً، وتذكيره أخرى، بأنه جماعة, وهو كل ما عُبِدَ من دون الله؛ من إنس وجن وغيره5، فلقد ذكره الله صراحة في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 6. وأنثه صراحة في قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} 7، وجمعه جمع العقلاء في قوله:

_ 1 هو عبد الله بن مسلم، المعروف بابن قتيبة، أبو محمد, كثير التصانيف في الأدب واللغة والدين, طبع كثير من كتبه, ومن أشهرها: "عيون الأخبار", و"الشعر والشعراء", و"تأويل مختلف الحديث". وله كتاب قيم قي الاشتقاق لا يزال مخطوطًا, توفي سنة 276هـ, "انظر وفيات الأعيان 1/ 251". 2 راجع هذا في المزهر 2/ 221, مع أمثلة أخرى من هذا القبيل؛ كالسماء والأرض والقوس والحرب والدرع. 3 المبرد 138/ ب. 4 نفسه 138/ أ. 5 نفسه 136/ أ. 6 النساء 59. 7 الزمر 17.

{أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 1؛ وهو في الحالات الثلاث لا يتعين فيه إلّا أنه اسم جنس، فيفرد على التذكير إذا قصد منه جنسه، ويجمع على التأنيث إذا قصدت منه جماعته، أو على تذكير العقلاء إذا قصد منه أفراده. ومن اليسير -قياسًا على ما مضى- أن نفهم سر التذكير في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 3 فليس في إحدى الآيتين رعاية للفاصلة -وما أغنى القرآن عن رعايتها لو أدخلت الضيم على المعنى! - وإنما قصد جنس النخل في التذكير، وأريدت جماعته في التأنيث، وبكلتا الصيغتين نطقت العرب! وعلى كلتيهما بنت تصرفها في الكلام4 وما تحل العقدة، ولا تذللّ العقبة إلا بثقوب الفهم وجودة التقدير. من هنا صحّ أن يقرءوا بوجهين قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} 5, فمن قصد الجنس, ذكر بالبناء للماضي فقال: "تشابه علينا", ومن قصد الجماعة أنّث بصيغة المضارع "تَشَابَهُ" بعد حذف إحدى التائين تخفيفًا إذ أصله "تتشابه"6, وصح أيضًا أن تقول: "البلدة" فتريد البقعة، و"البلد" فتريد المكان 7. وابن سيده في كتابه "المخصص" قد لاحظ تردد جمع الجنس بين التذكير والتأنيث في كلام العرب وفي التنزيل، فنبه عليه وقال: "فمن

_ 1 البقرة: 257. 2 القمر: 20. 3 الحاقة: 7. 4 قارن بالمبرد 132/ أ. 5 البقرة 70. 6 قارن بالمبرد 132/ ب. 7 نفسه 147/ أ.

التذكير قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} 1, و {جَرَادٌ مُنْتَشِر} , و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} 3؛ ومن التأنيث قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة} 4, وقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} 5, في حين أن السحاب مذكر في قوله تعالى: {يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} 6. والأمر أهون من هذا، فما زاد القرآن في تلك الألفاظ المترجحة بين التذكير والتأنيث على أن أظهرنا على عدم استقرار هذه الألفاظ لدى فصحاء العرب، ونزوله بالأمرين جميعًا يحفظ لغير لهجة قريش اعتبارها, مؤكدًا في الوقت نفسه ضرورة التساهل في قضية لغوية لا تمت إلى المنطق العقلي بصلة، فليس القول بتأنيث جمع الجنس, أو المؤنث المجازي بأولى من تذكيرهم، ولا هناك اعتبارات حقيقية لدى بعض القبائل دون بعض تحمل على تقديم مذهبها، وتصويب طريقتها، ويمكن أن يقال هذا في عدد لا يستهان به من الفروق بين لهجتي الحجاز وتميم, وردت في القرآن بكَلَا الأمرين. ج- وفي أصوات الحروف اختلاف بين تميم والحجاز، فالثاء عند تميم تقابل الفاء عند الحجازيين، فتميم: لثام، والحجاز لفام7. قال أبو زيد: "وبنو تميم في هذا المعنى: تلثمت تلثمًا8". ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَفُومِهَا} بالفاء على لغة أهل الحجاز، وهو الثوم عند تميم9.

_ 1 يس 80. 2 القمر 7. 3 القمر 20. 4 الحاقة 7. 5 الرعد 13. 6 النور 43. وقارن بالمخصص 100-113. 7 ومثلها الأثاثي, فإنها لغة تميم في الأثافي. قارن بالمزهر 1/ 465. 8 لسان العرب 16/ 5. 9 تتبع الآراء المختلفة إلى أوردها ابن منصور حولها في "اللسان 15/ 348".

وقد نسبت إلى تميم ظاهرة صوتية تسمى: "بالعنعنة", هو قلب الهمزة المبدوء بها "عينًا", ومنها قول ذي الرمة: أعَنْ ترسّمتَ من خرقاء منزلةً ... ماء الصبابة من عينيك مسجومُ أراد "أأن ترسمت". ومنها ما أنشده يعقوب: فلا تُهْلِكَ الدنيا عن الدنيا واعتملْ ... لآخرة لا بد عن ستصيرها أراد "لا بد أن". ومن الظواهر الصوتية الغريبة، الاختلاف بين الصوت الرخو "الظاء", ونظيره الشديد وهو "الضاد"، فإننا نسنتج من كتب الرواية أن الظاء حجازية، والضاد تميمية, قال ابن سيده في "المخصص": "فاضت نفسه، خرجت, تميمية"1. وقال في موضوع آخر في غضون حديث عن "اضروري" بمعنى: أنه انتفخ بطنه من الطعام: إنه قد حكي عن أبي عمرو: "اطْرَوْرَى" بالطاء، ورواية أبي زيد "اظرورى" بالظاء، وأبو عمرو ثقة وأبو زيد أوثق منه، وقد سألت عنه بعض فصحاء الحجاز فوافقوا أبا زيد"2. على أن النحاة واللغويين ينظرون إلى الموضوع نظرة أخرى، فلا يبالون بهذا الاختلاف بين لهجتي تميم والحجاز، وإنما يأخذون بعين الاعتبار ما استقرت عليه الأصوات المنقطوق بها في لغة العرب الأدبية المثالية، ففي بعض الألفاظ تتعين الظاء, وفي بعضها تتعين الضاد، كما أن الصوتين يشتركان أحيانًا في عدد لا يستهان به من الألفاظ. من ذلك

_ 1 المخصص 15/ 36. 2 نفسه 5/ 80.

ما ذكره ابن مالك1 في كتابه: "الاعتضاد في معرفة الظاء والضاد"2, فهو يجزم بتعين الظاء في الظُرْبَغَانة "الحية" والمماظ "المؤذي جيرانه", والمظّة "الرمانة", وحَبَظَ "امتلأ", وحَمَظَ "عصر", بينما لا يرى غضاضة في مشارة الظاء والضاد في فيض النفس، ومضاض الحسام، وإنضاج السنبل، وإعضآلّ المكان "كثرة شجره". ولكي يهوّن الحريري3 صاحب المقامات على الطالب تمييز هذين الصوتين نطقًا، نظم من المقامة الحلبية شعرًا تعليميًّا جاء فيه: أيها السائلي عن الضاد والظا ... ء لكيلا تضله الألفاظ إن حفظ الظاءات يغنيك فاسمعـ ... ـها استماع امرىء له استيقاظ هي ظمياء والمظالم والإظلام ... والظلم والظبي واللحاظ إلى آخر الأبيات4. ويقرب من الاختلاف بين الضاء والظاء ظاهرة الاختلاف بين الطاء والتاء، والصاد والسين، والقاف والكاف، فكما آثر التميميون الصوت الأشد -وهو الضاد- على الأخف -وهو الظاء- ظلوا على عادة

_ 1 هو محمد بن عبد الله، أبو عبد الله جمال الدين الطائي، المشهور بابن مالك, من كبار الأئمة في النحو. توفي بدمشق سنة 672هـ, طبع كثير من كتبه؛ كالألفية المشهورة، وتسهيل الفوائد الذي شرحه أبوحيان، وقد أشرنا إلى ذلك سابقًا, وطبع له أيضًا شواهد التوضيح، وإكمال الإعلام بمثلث الكلام، ولامية الأفعال. أما كتابه "الاعتضاد" الذي نقل منه السيوطي, فلا يزال مخطوطًا. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 53، وفوات الوفيات 2/ 277". 2 انظر في المزهر 2/ 282-286 أكثر الفروق الواردة في كتاب "الاعتضاد". 3 هو القاسم بن علي، أبو محمد، الذي نسب إلى عمل الحرير أو بيعه, فعرف بالحريري، ومقاماته أشهر من أن يعر ف بها, وقد طبع من كتبه "درة الغواص في أوهام الخواص", و"ملحة الإعراب", وله "ديوان رسائل". توفي بالبصرة سنة 516هـ. "انظر وفيات الأعيان 1/ 419". 4 تجد هذه المنطومة أيضًا في المزهر 2/ 286-288.

البدو يجنحون إلى التفخيم، ففضلوا الطاء على التاء, فقالوا: أفلطني لرجل إفلاطًا، عوضًا عن: "أفلتني إفلاتًا". وفي هذا يقول صاحب المخصص: "وقد أبدلت الطاء من التاء في "فعلت", إذا كانت بعد حروف من حروف الإطباق". قال: "وهي لغة تميم، قالوا: فَحَصْطَ برجلك، يريدون فحصت1، وحِصْطَ, يريدون حصت" وفضلوا الصاد على السين فقالوا: "شمر عن صاقه" عوضًا عن "ساقه". وقد أشار إلى هذا ابن منظور في مادة "سمخ" فقال: "السماخ الثقب الذي بين الدُّجْرَيْن من آلة الفدان. والسماخ لغة في الصماخ، وهو والج الأذن عند الدماغ, وسمخه يسمخه سمخًا, أصاب سماخه فعقره.. ولغة تميم الصمخ"2. وابن جني يسلك هذا في باب الإدغام، إذ لا يراه -كما أوضحنا- إلّا تقريب الصوت من الصوت، ويعد منه تقريب الصاد من الزاي؛ لأن كليهما أسَليّ مخرجًا, صفيري صفة، نحو: مصدر ومزدر، والتصدير والتزدير, وعليه قول العرب في المثل: "لم يُحْرَم مَنْ فَزْدَله" أصله: فصد له، ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِبَ: ضُرْب، وقوله3: ونفخوا في مدائنهم فطاروا فصار تقديره: فصد له، فلما سكنت الصاد فضعفت به, وجاورت الصاد "وهي مهموسة" الدال "وهي مجهورة"، قربت منها بأن أُشمت شيئًا من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر"4. وإذا تذكرنا أن

_ 1 المخصص 13/ 270. 2 لسان العرب 3/ 504. 3 أي: قول القطامي الشاعر المشهور، وصدر البيت: ألم يجز التفرق جند كسرى 4 الخصائص 1/ 535-536. وقارن بالمزهر 1/ 467.

تميمًا تجنح كثيرًا إلى إدغام المثلين، وضممنا إله ما سوف نذكره من تسكينها عين الفعل الماضي, وأواسط بعض الكلمات، لم نجد مشقة في رد هذا المثل إلى أصحابه من بني تميم1. وفضَّلَ التميميون القاف على الكاف فقالوا: "قشطت الجُلّ عن الفرس" بدلًا من "كشطته". قال أبو عبيدة2: "وقريش تقول: كشطت، وتميم وأسد وقيس تقول: قشطت, وفي مصحف عبد الله بن مسعود: "قشطت"3، ومن هذا الباب، بلا ريب إلحاقهم القاف باللهاة حتى تغلظ جدًّا فيقولون: "الكوم" بدلًا من "القوم", فيكون بين الكاف والقاف. قال الشاعر من تميم: ولا أكول لِكدْر الكَوْم: كَدْ نضجت ... ولا أكول لباب الدار: مكفولُ4 ولئن عرفنا عن فُقَيْم من تميم إبدال الياء جيمًا مطلقًا، فإن عامة

_ 1 يضرب هذا المثل فيمن أصاب بعض حاجته وإن لم ينلها كلها. 2 أبو عبيدة هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، إمام في اللغة والأدب، إلّا أنه كان شعوبيًّا يبغض العرب, وصنَّف في مثالبهم كتبًا, توفي في البصرة سنة 209هـ, له مصنفات كثيرة أشهرها "نقائض جرير والفرزدق" و"مجاز القرآن " وقد طبعا, ومن كتبه التي لا تزال مخطوطة: "إعراب القرآن", و"طبقات الشعراء". 3 قارن المخصص 13/ 277 بأمالي القالي 2/ 139. 4 الصاحبي 25, وفي المصدر نفسه نقرأ علن حرف بين القاق والكاف والجيم، ويقول فيه ابن فارس: "وهي لغة سائرة في اليمن، مثل "جمل" إذا اضطروا قالوا: "كمل", وقارن بمقدمة الجمهرة لابن دريد 1/ 4 عند الحديث عن الحروف التي استعملتها العرب، وأنها تزيد على ثمانية وعشرين حرفًا إذا أضيفت إليها حروف لا تتكلم بها العرب إلّا ضرورة, فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها، مثل "بور" بين الباء والفاء يقولون فيه: فور.

تميم ترى العكس صحيحًا أيضًا, فتبدل الجيم ياء، فتقول: صهريٌّ وهي تريد "صهريج": نبه على ذلك ابن سيده في "باب الإتباع" لدى تعليله ما في قولهم: "حار يار، وحران يران، وحارّ جارّ" من الإتباع فقال: "ويمكن أن يكون بارّ لغة في جارّ, كما قالوا: الصهاريج والصهاري، وصهريج وصهري, وصهري لغة تميم؛ وكما قالوا: شِيرَة لشجرة, وحقَّروه فقالوا: شِيَيْرَة"1. ولقد أدرك العلماء ما في ضروب الإبدال هذه من تنوع اللهجات, فلم يفسرها المحققون منهم بالمصادفة والاتفاق، ولا بتعمد العرب تعويض حرف من حرف, "وإنما هي -كما قال أبو الطيب اللغوي2- لغات مختلفة لمعانٍ متفقة: تتقارب الفلظتان في لغتين لمعنًى واحد، حتى لا تختلفا إلّا في حرف واحد, قال: والدليل على ذلك أن قبيلةً واحدةً لا تتكلم بكلمة طورًا مهمزة, وطورًا غير مهموزة، ولا بالصاد مرة وبالسين أخرى، وكذلك إبدال لام التعريف ميمًا، والهمزة المصدرة عينًا؛ كقولهم في نحو: أن: عن، لا تشترك العرب في شيء من ذلك، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون"3. على أننا -بصورة عامة - لاحظنا في الشواهد على تخالف العرب في نطق الأصوات، أن تميمًا تجنح إلى الأشد الأفخم؛ لأنها بدوية، وأن قريشًا تختار الأرق

_ 1 المخصص 14/ 34. 2 أبو الطيب اللغوي: هو عبد الواحد بن علي، له تصانيف كثيرة أهمها "الإبدال" وقد حققه ونشره الأستاذ العلامة عز الدين التنوخي, في مطبوعات المجمع العلمي بدمشق، ومن تصانيفه: "مراتب النحويين" طبع بالقاهرة سنة 1375هـ, ومنها أيضًا "الأتباع"، و"شجر الدر", كان بينه وبين ابن خالويه منافسة. أخذ عن أبي عمر الزاهد ومحمد بن يحيى الصولي, وأصله من عسكر محرم، قدم حلب وأقام بها إلى أن قتل في دخول الدمشق حلب سنة 351هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 317". 3 المزهر 1/ 460.

الأنعم؛ لأنها حضرية. وفي وسعنا أن نلحق بهذه الظاهرة الأخيرة ما لوحظ من حرص التميميين على الضم -لخشونته- حين يحرص الحجازيون على الكسر لرقته. فتميم: القُنْوَة "الكسبة"، والحجاز: القِنْيَة؛ وتميم: رُضوان, والحجاز: رِضْوَان. وتميم: مُرية؛ والحجاز: مِرية وتميم: أُسوة وقُدوة؛ والحجاز: إِسوة وقِدوة1. وجمهور تميم: "ما رأيته أمسُ" بالتزام ضم السين، والحجاز: "أمسِ" بالبناء على الكسر2. ولعلنا لا نجد عناءً -بعد هذا- في ربط المعاقبة الحجازية بالميل إلى الكسر في مثل "صيّام ونيّام"؛ إذ تعتبر الياء امتدادًا للكسر، على حين تقول تميم: صوَّام ونوَّام"، بالواو امتدادًا للضم. قال ابن السكيت 3: "أهل الحجاز يسمون الصواغ: الصياغ. قال: ويقولون: المياثر والمواثر، والمواثق والمياثق, وأنشد لأعرابي: حِمًى لا يَحلّ الدهر إلا بإذننا ... ولا نسأل الأقوام عقد المياثق4 ويزداد هذا وضوحًا بمقارنة "اللذون" التميمية بـ"الذين" الحجازية5 "وحوث" التميمية بـ"حيث" الحجازية6.

_ 1 المزهر 2/ 276-277. 2 انظر شرح شذور الذهب لابن هشام 113 وما بعدها. 3 هو يعقوب ابن إسحاق، أبو يوسف، المشهور بابن السكيت, إمام في اللغة والأدب, عهد إليه الخليفة المتوكل بتأديب أولاده، ثم قتله سنة 244هـ لسب مجهول, من أشهر كتبه "إصلاح المنطق" وهو مطبوع. وطبع له في مباحث اللغة كتب قيمة مثل: "الألفاظ"، و"القلب والإبدال" و"الأضداد" "راجع ترجمته في بغية الوعاة 418-419". 4 المخصص 14/ 19. 5 انظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك حول بيت الشاعر: نحن اللذون صبحوا الصباحا ... يوم النخيل غارة ملحاحًا 6 الكفاية في علم الرواية 182, وقارن بالمزهر 1/ 473.

ومع ورود أمثلة كافية للاستدلال على أن المعاقبة لغة لأهل الحجاز ينفردون بها دون سائر اللهجات العربية، أبى بعض العلماء أن يفسروا كل ما سمع من هذا الباب بمثل هذه المعاقبة الحجازية؛ إذ بدا لهم أنها ليست مطردة في لغتهم، فدخول الياء على الواو، والواو على الياء من غير علة, لا ينبغي أن يبحث دائمًا عن سببه في افتراق القبيلتين في اللغتين، بل قد تحدث المعاقبة عند القبيلة الواحدة من العرب1. قال الأصمعي: سألت المفضل2 عن قول الأعشى: لعمري، لمَنْ أمسى من القوم شاخصًا ... لقد نال خيصًا من عُفَيْرَة خائصا فقلت: ما معنى خَيْصًا خائصًا؟ فقال: أراه من قولهم: فلان يخوص العطاء في بني فلان: أي: يقلّله، فكأن "خيصًا" شيء يسير, ثم بالغ بقوله "خائصا "، كما قالوا: موت مائت. قلت له: فكان يجب أن يقول: لقد نال خوصًا؛ إذ هو من قولهم: يخوص العطاء. فقال: "هو على المعاقبة، وهي لغة لأهل الحجاز، وليست بمطردة في لغتهم! "3. وسواء أأقَرَّ العلماء بردِّ صور المعاقبة جميعًا إلى الحجاز, أم ترددوا في بعضها، لا يسع أحدًا منهم الشك في أن أمثلة المعاقبة مسموعة من

_ 1 المخصص 14/ 19. 2 هو المفضل بن محمد، أبو العباس، المشهور بالمفضل الضبي، رواية علامة بأيام العرب, لزم المهدي وصنف له كتابه "المفضليات", وقد رجح الأستاذ المحقق عبد السلام هارون وفاته سنة 178هـ, عندما نشر المفضليات الخمس "انظر ص4-5". ولكن الذي في لسان الميزان 6/ 81 أن وفاته نسة 168هـ ,ولم يؤرخ السيوطي في "البغية". 3 المخصص 14/ 19.

العرب، محفوظة في كلامها؛ فقد روى أبو عبيد1 أن العُجاوة والعجاية لغتان2، وأن الطَّيْع لغة من الطّوْع3، وقال: طغوت يا رجل وطغيت، وهذوت وهذيت، وطهوت اللحم وطهيته، ولحوت العصا ولحيتها, إذا قشرتها، ولحيت الرجل من اللوم لا غير ... "4. وزعم الكسائي5 أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني، بدلًا من "يضيرني"6، وقال: "لم أسمع ينمو -بالواو- إلّا من أخوين من بني سليم", قال: "ثم سألت عنه جماعة من بني سليم فلم يعرفوه بالواو"7. وقال ابن السكيت: عزيته إلى أبيه, نسبته إليه أشد العزي، وبنو أسد يقولون: "عزوته إلى أبيه"8. وجاء في الحديث النبوي: "إذا تَبَيَّغَ الدم بصاحبه فليحتجم" يعني: إذا هاج فكاد يقهره، مع أنه يقال أيضًا: "تبوغ الدم بصاحبه

_ 1 هو القاسم بن سلام، أبو عبيد، ولد بهراة ورحل إلى بغداد, كان من أئمة العلماء في الحديث واللغة, توفي سنة 224هـ, طبع من كتبه "الأموال" و"الأمثال", وله مخطوطات كثيرة جديرة بالنشر، ومكتبتنا العربية بأمس الحاجة إليها؛ وأهمها: "الغريب المصنف" في غريب الحديث، ألفه في نحو أربعين سنة، و"فضائل القرآن" و"الأجناس من كلام العرب". 2 المخصص 14/ 23. 3 نفسه 14/ 25. 4 راجع في المخصص "14/ 24" هذه الأمثلة وشواهد أخرى من هذا الضرب. 5 هو علي بن حمزة، أبو الحسن، المشهور بالكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة, وأحد القراء السبعة المشهورين, كان يسمع الشاذ فيجعله أصيلًا ويقيس عليه. صنف "معاني القرآن" و"القراءات" و"المصادر". اختلف في وفاته، والأشهر سنة 182هـ. "انظر ترجمته في البغية 336". 6 المخصص 14/ 20. 7 نفسه 14/ 22. 8 نفسه 14/ 23.

إذا قتله"1. وحين روى الصحابي الجليل أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إذا قلت لأخيك يوم الجمعة والإمام يخطب: "أنصت" فقد لغيت" بالياء، قال أبو الزناد -من رجال الإسناد في هذا الحديث: "وهذه لغة أبي هريرة، إنما هو لغوت"2. وبدا للعلماء في باب المعاقبة -كما بدا لهم في باب الهمز- أن يخضعوا دخول الياء في الواو, أو الواو في الياء, لما سمع عن فصحاء العرب، فإن يعترفوا بجواز اللغتين فقد نبهوا إلى الفصحى فيهما، فأنت تقول: ينمي وينمو, ولكن الفصحى ينمي بالياء3، وتقول عن الحدقة: حِنْدَيرة وحِنْدَوْرَة، والحنديرة أجود4، وزعم الكسائي أنه سمع في تثنية الرضا والحمى: رِضَوَان وحِمَوَان، والوجه: رِضْيَان وحِمْيَان5. ولم يكن بد من أن يستثنوا في مثل هذا التداخل الصوتي حالات يخصونها بالواو وأخرى بالياء، فيقال: إن بينهما لبونًا في الفضل وبينًا، فأما في البعد فيقال: إن بينهما لبينًا لا غير6, وتقول: قلوت البر، وبعضهم يقول: قليت، ولا يكون في البغض إلّا قليت، كما رأينا7, وتقول: قد غلوت في القول فأنا أغلو غلوًّا، وقد غلوت بالسهم لا غير، وقد خلوت به بالواو لا غير، وقد

_ 1 نفسه 4/ 21. 2 الكفاية 183. وراجع في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" "ص79-870 " ما ذكرناه عن تحرج الرواة من تغيير اللحن، أو تغيير اللهجة التي تحملوها، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يؤديها كما تحملها بما فيها من لحن الراوي. 3 المخصص 14/ 222. 4 نفسه 14/ 25. 5 نفسه أيضًا 14/ 25 أيضًا. 6 نفسه 14/ 20. 7 نفسه، 14/ 23.

خَلَيْتُ دابتي خليًا, إذا جززت لها الخلا، وهو الرطب1. والأمثلة التي ذكرناها عن المعاقبة قليل من كثير مما انطوت عليه بطون المعجمات والقواميس، فلا سبيل إلى إنكار ما تنطق به من ميل بعض العرب إلى الكسر، وبعضهم إلى الضم، ولا مفر من الاعتراف بتفضيل الحجازيين الكسر على الضم. وقد يبدو غريبًا لأول وهلة أن يجنح التميميون إلى الإمالة -وهي صوت مائل إلى الكسرة- بينما يحتفظ الحجازيون بالفتح. إلّا أن بعض النظر كافٍ في أظهار الفرق بن الموضوعين، فالمقابلة بين الضم والكسر مقابلة بين صوتين متشابهين؛ لأنهما كليهما من أصوات اللين الضيقة، غير أن أحدهما -مع ذلك- أشد من الآخر وأفخم، وهو الضم طبعًا. فأما بين الإمالة والفتح، فالأخف هو الفتح، ولا سيما لأنّ الإمالة ليست كسرة خالصة، فضلًا على أن من الإمالة ما يكون ميلًا إلى الضم، كقولهم: بُوعَ, بإشمام الياء صوت الواو عوضًا عن بيع2. وفي الإمالة بنوعيها -الجانح إلى الكسر والجانح إلى الضم- ضرب من الاشتراك الصوتي لا يُعْطَى به اللفظ الممال حقه من النغم الخاص به, ومثل هذا الاشتراك في النطق بالأصوات لا يستغرب من قبيلة بدوية كتميم، وإنما يستغرب منها العكس؛ لأن تحقيق جميع أصوات اللفظ وإعطاءها حقها من النغم طور نهائي في صقل اللغة واستكمال أدواتها، فهو أجدر أن يكون وظيفة اللغة الأدبية المصطفاة، لا وظيفة من البدو الرحَّل, قابلة للتغير والتأثير والعدوى تبعًا لتنقلات أصحابها الذين لا

_ 1 المخصص 14/ 26. واقرأ في هذه الصفحة أمثلة أخرى من هذا القبيل. 2 قارن ما ذكره الدكتور إبراهيم أنيس عن الإمالة في "اللهجات 80 وما بعدها" برأي ابن جني فيها "الخصائص 1/ 535". وارجع أيضًا إلى الصاحبي 20 والمزهر 1/ 256.

يستقرون في مكان1. وبسبب هذا الاشتراك الصوتي الناجم عن الغموض في أداء النغم حقه، جرى على لسان تميم أحيانًا كَتْبَ بدلًا من كَتَبَ، فاستعاضت عن فتح عين الماضي بتسكينها, ومن هذا النوع بلا ريب ما يؤثر عن كثير من بني تميم2 من تسكين الكلمات الآتية: فَخْذ، كَبْد، في الإفراد، ورُسْل، وخمُرْ، وفُرْش، في الجمع، بينما يتوالى تحقيق المتحركات جميعًا عند الحجازين، فيقولون على التعاقب: فَخِذَ، كَبِدَ، رُسُلُ، خُمُر، فُرُش؛ وهكذا دواليك3. ولا شك أن هذا التخفيف، عند الآخذين به، ليس بواجب، ولا هو بناء بُنِيَ اللفظ عليه في الأصل، وإنما هو عارض, ولقد نبه إلى هذا سيبويه حين ردَّ مثل: عَلْمَ وكَرْمَ إلى عَلِمَ وكَرُمَ، إذ جعل المتكلم الفعل لنفسه فقال: عَلِمْتُ وكَرُمْتُ4. ولا يختلف كثيرًا عما نحن بصدده من الاشتراك الصوتي ما تمتاز به تميم من الإنباع الصوتي في مثل: "ضَحِكَ ضِحِكًا" عوضًا عن "ضَحِكَ ضَحِكًا" فقد أثَّرَ صوت الحاء المكسور -وهو عين هذه الكملة- على الضاد المفتوحة في أولها، فلم تُعَنَّ تميم نفسها في تحقيق صوتين متعاقبين متنافرين، واستسهلت إتباع أولهما ثانيهما بسبب القرب والجوار5.

_ 1 اقرأ بعناية "اللهجات ص85". 2 يفهم من "اللسان" أن هذه بالدرجة الأولى لغة بكر بن وائل, على أن تميمًا تشاركها فيها. 3 انظر في "المخصص 14/ 220" باب ما يسكن استخفافًا, وهو في الأصل عندهم متحرك. 4 راجع رأي سيبيويه في "المخصص 14/ 222", وقارن بالمزهر 2/ 109 كيف يرد هذا التخفيف إلى اختلاف اللغات. 5 ومن ذلك: لئيم، نحيف، رغيف، كلها بكسر الحرف الأول في لغة تميم. "المخصص 14/ 213". وفي القراءات الشاذة صور من الإتباع: "الحمد لله". انظر إعراب القراءات الشاذة العكبري 4. وانظر في "الزهر 2/ 66" أمثلة أخرى على الإتباع.

على إن للإتباع صورًا تطَّرِدُ في اللغة من غير أن توحي بشيء من اختلاف اللهجات, من ذلك "لِهِمٌ" للشخص الذي يلتهم كل شيء، "إنما هو إتباع ومضارعة؛ لأن كل ما كان على فعل ثانيه حرف من حروف الحلق, ففيه أربع لغات مطردة: فعل وفعل وفعل"1. وفي هذا الجو الغامض من تأثر بعض الأصوات ببعض -وهو نتيجة حتمية لنطق قبيلة بدوية لم يتم صقل لغتها- لم تستنكف تميم عن تقديم الحروف وتأخيرها في ألفاظ معينة, فهي تقول في القسم: "رَعَمْلي" عوضًا عن لعمري2، كما تقول: "جَبَذَ" بدلًا من جذب. ولعل الباحث اللغوي يرى في هذه المسألة نوعًا من القلب المعروف في الصرف، ولكنه مضطر إلى الرجوع عن رأيه إذا قرأ في "باب ما الهمزة فيه موضع اللام" من كتاب سيبويه: "وأما جَذَبْتُ وجَبَذْتُ ونحوه, فليس فيه قلب، وكل واحد منهما على حدته؛ لأن ذلك يطَّرد فيهما في كل معنًى، ويتصرف الفعل فيه، وليس هذا بمنزلة ما لا يطرد"3. هذه خلاصة الفوارق الرئيسية بين لهجتي تميم والحجاز، رأينا من خلال عرضها أننا من تميم أمام لهجة خاصة قائمة بذاتها، لها خصائصه ومميزاتها، وعسى أن نكون قد استنتجنا من معرفتنا لذلك أن لهجة تميم قد أمدت العربية الفصحى بروافد غنية غزيرة، ساعدت على استقرار نحوها وصرفها، وسعة اشتقاقها، وبعد دلالتها، وانبساط

_ 1 المخصص 5/ 27, وارجع إلى "الإتباع والمزواجة لابن فارس" الذي نشرة المستشرق رودلف برو بمدينة غينسن سنة 1906, ويقع في 24 صفحة. 2 المزهر 2/ 277. 3 قارن باللسان 5/ 10 وانظر الصاحبي 172 والمقاييس 1/ 501.

مدرجها الصوتي، وحياة عدد كبير من مفرداتها، فإذا أردنا أن ننتقل إلى دراسة خصائص العربية ومميزاتها كان لزامًا علينا أن نفهم لدى أول خطوة نخطوها حتى آخر نتيجة نعطيها, أن تميمًا تشارك قريشًا بنصيب كبير من هذه الخصائص، وأن إغفال دور تميم في هذا إنما هو تهاون بجزء لا يتجزأ من لغتنا العربية الفصحى. ولقد سبق أن نبهنا على أن للعربية الشمالية الباقية لهجات مختلفة، كلها جدير أن يدرس، غيبر أن أقصى ما يغتفر لنا الاقتصار عليها منها إبراز الفروق في مجموعة اللهجات النجدية الشرقية, ومجموعة اللهجات الحجازية الغربية، ونحن قد اقتصرنا على هذا لضيق المقام، وإن كنا نعتقد أن التوسع في دراسة سائر اللهجات العربية يزيد لغتنا ثروة، ويمنحها قوة، ويفسر كثيرًا من خصائصها التي لم تنفرد بها لهجة, بل أسهمت في تكوينها هذه اللهجات قاطبة. ولسوف يبدو لنا -حين نأخذ في الباب التالي بدراسة خصائص العربية- أن ظاهرة التأثر بين اللهجات الصحيحة المسموعة من العرب آلت بالفصحى إلى ضرب من التوحد في الخصائص، والتماثل في السمات والملامح، فلم يخف على المحققين من علمائنا القدامى ما تجاور هذه اللهجات وتلاقيها من ملاحظ نفسية واعتبارات اجتماعية, مذ غدوا يتساءلون: إذا سمع العربي لغة غيره فهل يراعيها ويعتمدها، أم يلغيها ويطرح حكمها1؟ ففي تعليل هذه الظاهرة لم يقتنع هؤلاء المحققون بالإحالة على ما اطرد من مقاييسهم، بل نظروا نظرة موضوعية هدتهم إلى مواطن التأثر والعدوى، وإلى الاعتراف بحاجة العرب إلى أن يراعي بعضهم لغة بعض،

_ 1 الخصائص 1/ 413.

وأن يأخذ بعضهم عن بعض: "وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيرًا منتشرين، وخلقًا عظيمًا في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين، فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ ويراعي أمر لغته، كما يراعي ذلك من مهم أمره"1. لكأن هاتيك اللهجات، وهي في طريقها إلى التلاقي والتقارب، لم تك إلّا جداول تجري رخاء في مسالكها، ثم تنتهي باطمئنانٍ إلى الانصباب في نهرٍ واحدٍ غزيرٍ قادها نحوه دليل لا يضل ولا ينسى!

_ 1نفسه 1/ 415.

الباب الثالث: خصائص العربية الفصحى

الباب الثالث: خصائص العربية الفصحى الفصل الأول: مقاييس اللغة الفصحى بعد أن عرضنا للفروق بين لهجتي تميم وقريش -وهما اللهجتان الرئيستان بين لهجات العربية- أصبح يسيرًا علينا أن نتصور نوع الخصائص التي تمتاز بها لغتنا الأدبية المثالية عن أخواتها من اللغات السامية بوجه خاص، وعن كثير من اللغات الأجنبية بوجه عام؛ فإن هذه الخصائص لا تميز لغة قريش لذاتها، بل لتمثلها خير ما في اللهجات العربية الصحيحة بالتوليد والاشتقاق, وخير ما في اللغات الأجنبية بالنقل والتعريف. ذلك بأن العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثَّروا فيها مثلما تأثروا بها؛ فصدَقَ على لهجة قريش ما يصدق على كل اللغات من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية1.

_ 1 قارن بفندريس 336.

وينبغي ألّا ننسى أن لغة قريش كانت -كما قال ابن خلدون: "بعيدة عن بلاد العجم من جميع جهاتها"1، وإن كنا نعترف بأن بعدها عنها لم يحل دون تسرب الألفاظ الفارسية والرومية إليها. ولكننا عند الحديث عن التعريب، سنرى أن مقدرة لغةٍ ما على تمثل الكلام الأجنبي، تعد مزية وخصيصة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وصبّته في قوالبها، ونفخت فيه من روحها. وكما رَدَدْنَا إلى تميم اعتبارها بدراسة أبرز خصائصها، لن نستنكف عن رد الاعتبار إلى لهجة كل قبيلة لم تطرأ العجمة على ألسنتها، ولم تلابس اللكنة الدخيلة ملاحنها، فمثل هذه اللهجات جديرة أن تستنبط منها مزايا لغتنا، وأن يكتشف لديها مدلول مفرداتنا وتراكيبنا. ومنهج الأقدمين في جمع اللغة علميّ دقيق, يعول على الملاحظة والاستقراء، والإفراط في الحيطة أحيانًا، حتى لنستطيع أن نكون مطمئنين إلى أكثر ما استنتجوه من خصائص لغتنا التي تجنبوا أخذها عَمَّن تشوب عربيتهم أية شائبة؛ فقد اقتصر أخذهم اللغة على عرب البادية، وعلى فصحائهم بشكل خاصٍ. وكثيرًا ما كان سيبويه يشير إلى تشدده في تصويب الاستعمال اللغوي بردّه إلى العرب الذين تُرْضَى عربيتهم3، أو العرب الموثوق بهم4، أو بعربيتهم5, ولكن سيبويه نفسه كان يرى أن هؤلاء العرب الموثوق بعربيتهم هم عرب الحجاز، فيجنح غالبًا إلى ترجيح لغة الحجاز إذا اختلف اللهجات6.

_ 1 مقدمة ابن خلدون "ط. القاهرة سنة 1329هـ" ص635. 2 كتاب سيبويه 1/ 477، 2/ 52ط. سنة 1316هـ. 3 نفسه 2/ 423. 4 نفسه 1/ 198، 2/ 290. 5 نفسه 2/ 264. 6 نفسه 2/ 424.

ولِمَ لا تكون لغة الحجاز مقياسًا للفصاحة وقد بلغت من الرقي داخل الجزيرة العربية ما أوضحناه في الفصل السابق، حين خلت من مستقبح اللغات ومستهجن الألفاظ؟ إن الباحث يكاد يرى هذا المقياس صحيحًا لا مغمز فيه، بل بديهيًا لا مسوّغ لرده؛ ثم يبدو له أن يتساءل: إن كان الأقدمون قد اقتصروا في شواهدهم على عرب البادية، فلماذا رجحوا لغة قريش وما هي من البداوة في شيء؟ إنها على العكس من ذلك، لغة الحضارة بين العرب قاطبة! نحسب أننا لا يسعنا، للإجابة عن هذه الشبهة، أن ننكر حضرية قريش, ولا أن نجحد تأثرها بفارس والروم أمتي الحضارة في تلك الحقبة من التاريخ, ونحسب أنه ليس من البحث الموضوعي في شيء أن نرى في استصفاء لغة قريش أن القرآن نزل بها، ففي القرآن من لهجات العرب الأخرى ألفاظ غير قليلة1, ولغة القرآن بعد هذا، حين يقال: إنها لغة الحجاز أو قريش، هي اللغة نفسها التي نقلت بها إلينا أشعار العرب وخطبهم وأسجاعهم, ولقد صادق القرآن هذه اللغة الراقية المهذبة، فزاد من ترقيتها وتهذيبها, فهذا معنى نزوله بلغة قريش. لكن الناس -في أكثر بقاع الأرض- يملأ القديم قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فيحيطونه بهالة من التقديس: وذلك كان موقف العرب من لهجة قريش؛ فقد تقادم عهدها وهم يعظمونها ويعظمون أهلها، ويعرفون لهم فضلهم، إذ جعل الله قريشًا "قُطّانَ حرمه، وجيرانَ

_ 1 وقد بلغ أبو بكر الواسطي، الحافظ المعمر، بتعداد هذه اللهجات في القرآن أربعين في كتابه "الإرشاد في القراءات العشر". وانظر في "الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 230". وقارن بـ"مباحث في علوم القرآن" للمؤلف ص105. "الطبعة الخامسة".

بيته الحرام، وولاته, فكانت وفودج العرب من حجّاجها, وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم1". ومن السنن الاجتماعية المسلّمة أن اللغة إذا تقادم عهدها بالغ الناس في تقديسها, فلا تعجب إذا رأيت في آثار الباحثين في القرن الماضي، أن مقياس الكمال في اللغات ارتدادها إلى ماضٍ أشد إيغالًا في القدم، حتى ليمكن القول -في ضوء المقياس: إن اللغة الكاملة المطردة النقية لم تعرف إلّا في العصر البدائي، وإن لغاتنا الحديثة المتطورة عن تلك الأصول البدائية ليست إلّا تحريفًا وفسادًا2. ولهجة قريش -فوق الذي أحيطت به من مظاهر التقديس- انفردت حقًّا بمزايا حفظت لها شخصيتها، وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيره، فبعدها الذي وصفه ابن خلدون عن بلاد العجم من جميع جهاتها, كان حاجزًا طبيعيًّا دون كثرة اتصالها بالأجانب، فلم يدخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التي كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب. قال أبو نصر الفارابي3 في أول كتابه المسمى "بالألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمَّا في النفس. والذين عنهم نُقِلَتِ اللغة العربية، وبهم اقْتُدِيَ، وعنهم أُخِذَ

_ 1 الصاحبي 23. 2 قارن بفندريس 419. 3 هو اللغوي المشهور، صاحب "الصحاح" المطبوع في4 مجلدات, واسمه: إسماعيل بن حماد، المعروف بالجوهري, أصله من فاراب، وإليها ينسب أحيانًا, فيقال: "الفارابي", له كتاب في العروض، ومقدمة في النحو. ونقل السيوطي من كتابه "الألفاظ والحروف" في المزهر والاقتراح, ويقال: إنه أول من حاول الطيران ومات في سبيله 393 هـ, وفي إنباه الرواة "1/ 194" أن وفاته 398هـ, "وقارن بمعجم الأدباء 2/ 269".

اللسان العربي من قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخِذَ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف؛ ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائين, ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاروة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لَخْمِ، ولا من جذام, لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب, قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم ... "1. وليس لهذه الحَيْطة في أخذ اللغة، على النحو الذي وصفه أبونصر الفارابي، إلّا تفسير واحد, هو الحيلولة دون تسرب الدخيل إلى العربية, ما لم يطبع بطابع الفصحى تبعًا لأساليب تعريبها؛ لأن مثل هذا التسرب غير الإرادي وغير المقصود يفسد على الباحثين فهمهم أصالة اللغة وشخصيتها، فقد يستنبط منه خطأ أن من خصائصها أوجهًا لا تلزمها، أو صيغًا لم تجيء على أبينيتها؛ لأنه لما تنبثق عنها، وإنما انتقلت إليها

_ 1 المزهر 1/ 211-212 وقارن بالاقتراح 22 "المعارف بحيدر آباد سنة 1310هـ", وراجع ما ذكرناه ص28. وارجع إلى تفصيل هذا كله في "أصول النحو ص17 وما بعدها".

عن طريق العدوى اللغوية بسبب القرب والجوار, وما أكثر صورها، وأشد أخطارها! ولذلك عَدَّل ابن جني امتناعهم من الأخذ عن أهل المدر -كما أخذوا عن أهل الوبر- بـ"ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل". ولو عُلِمَ أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر"1. على أن فرض ابن جني هذا كتب عليه أن يظل فرضًا، لا يزيد على ذلك شيئًا، فما علمنا بأهل مدينة باقين على فصاحتهم، بل رأينا أهل المدن أكثر تعرضًا للحن وفساد اللغة من البدو، ورأينا من البدو الفصحاء أنفسم من ينتقل لسانه إلى لغة فاسدة؛ فينكر العلماء عليه لغته ولا يأخذون بها, ومن ذلك ما يُحْكَى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرَةَ، لما سأله فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتِهِمْ"؟ ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جِلْدُكَ2"! ومذ شاع في البدو اضطراب الألسنة وخبالها, أصبح العلماء يتوجسون خيفة من الذين يدعون الفصاحة، فلا ينخدعون بالبدوي فيحكموا له بالفصاحة إذا آنسوها منه في وضوح نطقه ورشاقة لفظه فقط، وما كان للبيان وحده أن يكون مقياس الفصاحة, إن لم يرتد إلى أصل ينمّ عليه، أو قياس يسوغه, وهل تظن ادعاء الفصاحة البدوية والتباعد عن الضعفة الحضرية، أمرين عسيرين على رجل يقضي معظم وقته في البادية، ولا يأتي الحاضرة إلّا لمامًا؟

_ 1 الخصائص 1/ 405. 2 الخصائص 1/ 413.

لم يكن العلماء -مع ذلك- لينخدعوا بمثل هذا البدوي، أو يظلوا عاكفين على كلامه يتلقونه بالقبول، فما أسرع ما كان يفجؤهم منه ما ينال من فصاحته، ويغض من بيانه ويقدح فيه، فإذا هم يرفضون لغته ويمتنعون من التلقي عنه. ولقد طرأ على ابن جني أحد من يدعي هذه الفصاحة، فميّزَ كلامه أول الأمر تمييزًا حَسَّنَ موقعه في نفسه، إلى أن أنشده يومًا شعرًا له يقول في بعض قوافيه "أشأؤها وأد أوها"1 فجمع بين الهمزتين، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له، مع أنه "لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغير إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظَّ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع! "2. ومع هذا التشدد في مقياس الفصاحة، واصطنع العرب لغة قريش للتفنن في القول، والإبانة في التعبير، فدلّ استصفاؤهم أياها على أنها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعت أرشقه، واعتمدت أصفاه؛ فكان حقًّا ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم, من أن أهم مزية للعربية حفظت لها شخصيتها بين أخواتها الساميات إنما هي عزلتها عن الشعوب الأعجمية، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتية على التعبير، وعلى التمثل والتوليد، وعلى التخير والانتفاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها، وبين شقيقاتها اللهجات الفصحى التي تبادلت معها التأثر والتأثير، بينما كانت الساميات يتفرقن عن موطن السامية الأم، ويبتعدون في الوقت

_ 1 بوزن أشععها وأدععها، والصواب: أشآها، وهو مضارع شأى القوم: سبقهم، وصواب الأخرى، أدآها، وهومضارع دأوت للصيد إذا ختلته. 2 الخصائص 1/ 406.

نفسه عن الأصالة والصفاء. ولقد كان لتلك الغزلة نتائج حسنة في محافظة العربية على ظاهرة الإعراب الكامل، ومناسبة حروفها لمعانيها، وثبات أصواتها مع سعة مدرجها، وتنوع صرفها واشتقاقها، وتعدد أبنيتها وصيغها، وكثيرة مصادرها، وغنى مفرداتها بالاشتراك والترادف والتضاد، واستعدادها الذاتي للنحت والتوليد والتعريب.

الفصل الثاني: ظاهرة الإعراب

الفصل الثاني: ظاهرة الإعراب العرب ورثوا لغتهم معربة: لم يرتب أحد من اللغويين القدامى في أنَّ الإعراب من خصائص العربية، بل من أشد هذه الخصائص وضوحًا؛ وأن مراعاته في الكلام هي الفارق الوحيد بين المعاني المتكافئة. ولقد عبَّروا عن هذه الظاهرة بأساليب متنوعة تنطق جميعًا بحقيقة واحدة, ولعل أوفى خلاصة لتلك الآراء قول ابن فارس: "فأما الإعراب فبه تميَّزُ المعاني ويُوقَفُ على أغراض المتكلمين, وذلك أن قائلًا لو قال: "ما أَحْسَنْ زَيْدْ" غير معرب، أو "ضَرَبَ عَمْرْ زَيْدْ" غير معرب، لم يقف على مراده, فإذا قال: ما أَحْسَنَ زَيْدًا" أو "مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ" أو "مَا أَحَسْنَ زَيْدٌ" أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده.

وللعرب في ذلك ما ليس لغيرها؛ فهم يَفْرُقون بالحركات وغيرها بين المعاني, يقولون: "مِفْتَح " للآلة التي يفتح بها، و"مَفْتَح" لموضوع الفتح، و"مِقَصٌّ" لآلة القص، و"مَقَصٌّ" للموضع الذي يكون فيه القص؛ و"مِحْلَبٌ" للقدح يُحْلَبُ فيه، و"مَحْلَبٌ" للمكان يحتلب فيه ذوت اللبن ... "1. وزاد ابن فارس هذه الظاهرة تقريرًا وتوضيحًا بقوله في موضع آخر: "من العلوم الجليلة التي خصت بها العرب: الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام, ولولاه ما مُيِّزَ فاعل من مفعول؛ ولا مضاف من منعوت، ولا تعجُّب من استفهام، ولا صدر من مصدر؛ ولا نعت من تأكيد"2. ولما أصابت العربية حظًّا من التطور أضحى الإعراب أقوى عناصرها، وأبرز خصائصها، بل سر جمالها، وأمست قوانينه وضوابطه هي العاصمة من الزلل، المعوضة عن السليقة؛ لأن الناس أدركوا حين بدأ اختلاطهم بالأعاجم أنهم لولا خلاطهم لهم لما لحنوا في نطق، ولا شذّوا في تعبير، فقد كان يثقل على هؤلاء الأعاجم إخراج أحرف الحلق وأحرف الإطباق بوضوح أصواته في العربية، فإذا هم يحرفون مثلًا "عربي" إلى "أربي" و"طَرَقَ" إلى "تَرَكَ"، حتى شكا الناس من فساد الألسنة واضطرابها 3.

_ 1 الصاحبي 161 "باب الخطاب الذي يقع به الإفهام من القائل، والفهم من السامع", وقد نقله السيوطي في "المزهر 1/ 329". 2 الصاحبي 42, وقارن بالمزهر 1/ 327-328. 3 قارن بيوهات فك، العربية 245, وانظر أمثلة أخرى على لكنة هؤلاء الأعاجم.

ولم يكن بد من أن يتأثر العرب بأولئك الأعاجم, مع أنهم كانوا قد وثوا عربيتهم معربة، وقرءوا القرآن معربًا، وتناقلوا أحاديث نبيهم معربة. وإنّ أدلة كثيرة لتقوم على شعور العرب بوراثتهم لغتهم معربة؛ فهذه أمارات الإعراب باطرادها وسلامتها، واضحة فيما صَحَّ من أشعار الجاهليين, وذلك هو التصرف الإعرابي ما فتئ يراعى بدقة بالغة حتى أوائل القرن الثالث الهجري، يوم كان الرواة والإخباريون يختلفون إلى الأعراب في البادية؛ ليأخذوا من أفواهم اللغة، ويعودوا ألسنتهم الفصاحة والبيان. أما ترتيلهم القرآن معربًا فما نحسب عاقلًا في الدنيا يرتاب فيه، ولم يزعم أحد من العلماء في الشرق والغرب، قديمًا أو حديثًا، عامية الأسلوب القرآني، أو تجرده من ظاهرة الإعراب؛ لأن ما في القرآن من الألفاظ الصالحة لأن تقرأ رسمًا بأكثر من وجه كان السياق فيه غالبًا يعين قراءته المثلى، ويفرض وجهه الأفضل، ولا يعيِّنُ قراءةً ما إلّا تحريك الأواخر بالحركة الإعرابية المناسبة, ومن أوضح الأمثلة على قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، فالمعنى نفسه يفرض رفع العلماء، فاعلًا، ونصب اسم الجلالة مفعولًا؛ لأن المراد حصر الخوف من الله في العلماء، لا حصر الخوف من العلماء في الله: فإنما يخشى الله حق خشيته العلماء العارفون بجلاله. وتناقل هذا الوجه المتواتر في قراءة الآية، بمراعاة حركات الإعراب مشافهةً وتلقينًا، هو الذي حمل القراء على الحكم بشذوذ القراءة الأخرى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} برفع "اسم

_ 1 سورة فاطر 28.

الجلالة" فاعلًا، ونصب "العلماء" مفعولًا، وعزو هذه القراءة إلى عمر بن عبد العزيز, وحكايتها عن الإمام أبي حنيفة لم يدفعا عنها حكم الشذوذ1. ولولا الترف العلمي الذي أغرى العلماء بتوجيه القراءات الشاذة لتكون -بزعمهم- عونًا على صحة التأويل2، لما تجشم بعضهم عناء تفسير الخشية هنا بمعنى الإجلال والتعظيم لا الخوف، فكأن هذه القراءة الشاذة بيَّنَت أن الغرض من تخصيص العلماء بالخشية إظهار مكانتهم ودرجتهم عند الله3، وهذا من أعجب ما يجرؤ على قوله عبيد الله في حق الله! وَلْنُلَاحِظْ في الآية السابقة أن الوقف بالسكون على آخر "العلماء" اختياري لا شيء يمنعه، أما نصب اسم الجلالة فلازم لا يجوز فيه الوقف العارض؛ إذ لا يتم المعنى بدون حركة النصب, وإن اللبس فيه ليمكن قبل التحريك؛ يناظره في هذا جميع التراكيب المجردة من ظاهرة الإعراب؛ وإذا حُرِّكَ لفظ واحد من تركيب الآية بحركةٍ لم يخف على أحد أن السكون في آخر كلمة من هذا التركيب ليس إلّا عارضًا بسبب الوقف. وهذا السكون العارض يبدو أكثر وضوحًا في الفواصل القرآنية المرفوعة والمخفوضة، وما أكثر أمثلتها في القرآن, وقد يوقع في اللبس في الآيات التي تترجح فواصلها بين الرفع والخفض، كقوله تعالى:

_ 1 قارن بتفسير القرطبي 14/ 344. 2 البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 341, وارجع إلى "مباحث في علوم القرآن" للمؤلف ص252/ط5. 3 البرهان 1/ 341.

{بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 1، فهل القرآن المجيد محفوظ في لوحٍ، فتكون الفاصلة مرفوعة؟ أم القرآن المجيد كائن في اللوح المحفوظ، فتكون الفاصلة محفوضة؟ إن القارئ الذي يظن أنه وقع على المعنى الألطف من خلال الحركة الإعرابية المناسبة، لا يسمح لنفسه إلّا بخفض الفاصلة, فهي في نظره لازمة الحفض لا محال, وربما لا يغيب عنه أن ما ارتآه من الخفض يستلزم أن يكون قوله: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} بهذا التنوين الذي يفيد التنكير، مساويًا لقوله: "في اللوح المحفوظ" بالتعريف العهدي الذي يوحي بأن هذا اللوح هو "المحفوظ " المعروف في عالم الغيب, ولكنه يحسب قراءة الرفع أبعد عن سياق الآي، وأشدَّ مجافاةً للأسلوب العربيّ المبين2! وكثير من هذه المواقع الإعرابية المشكلة في فواصل القرآن قد خضع حتمًا لتنوع القراءات وتضارب بعضها مع بعض، وتَرَجُّحها بين صوتين متضادّين، وحركتين متقابلتين؛ كالضم والكسر مثلًا, ولكن اختلاف القراءات يرتَدُّ -في أكثر صوره- إلى نزول القرآن على سبعة أحرف3، وأهم هذه الأحرف جميعًا هو اختلاف اللهجات4؛ وقد رأينا القرآن حريصًا على ما فصح من لهجات العرب، رادًّا منها ما استقبحه واستهجنه5, فليس في إيثاره لهجةً على لهجة، أو في نزوله بحرف دون حرف، خروج على قوانين الإعراب, كيف وهذه القوانين

_ 1 سورة البروج 21-22. "وقارن بإملاء ما من به الرحمن للعكبري 2/ 152". 2 لذلك قرأ نافع وحده بالرفع، والباقون بالكسر "الإتحاف 436". 3 لم نقل: جميع صور الاختلاف بين القراءات يرتد إلى الأحراف السبعة، لئلَّا يظن ظانٌّ أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع, وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة. وانظر الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 1/ 138. 4 مباحث في علوم القرآن 113. "الطعبة الخامسة". 5 راجع ما ذكرناه في فصل "العربية الباقية وأشهر لهجاته"، ثم فصل "مقاييس اللغة الفصحى".

لم توضع إلّا حفاظًا عليه، ولم تستنبط -أول ما استنبطت- إلّا من نصوصه الفصحى؟! فهل سمعت بعد هذا البيان برأي أعجب، وخيال أخصب، وقول أدعى إلى الهزء والسخرية، مما ذهب إليه المستشرق فولرز K. Vollers من أن القرآن نزل أول الأمر بلهجة مكة المجردة من ظاهرة الإعراب؛ ثم نقَّحَه العلماء على ما ارتضوه من قواعد ومقاييس، حتى أضحى يقرأ بهذا البيان العذب الصافي، وغدا في الفصاحة مضرب الأمثال1؟! ألَا وإن كبار المستشرقين لم يستسيغوا هذا الرأي العقيم, فلقد قَيَّضَ الله لكتابه مستشرقًا آخر أشهر من فولرز, وأكثر منه تحقيقًا وتدقيقًا, هو نولدكه Noldeke، كفانا مؤونة الرد على هذه الرأي الصبياني وسفهه, وفنَّدَه ونقده نقدًا علميًّا موضوعيًّا، أقام فيه الحجة على أن أغلب ما توهمه فولرز تجردًا من الإعراب إنما كان صورًا من تساهل الناس في القراءة بعد اختلاطهم بالأعاجم وشيوع اللحن والتحريف، فليس للنص القرآني صلة بشيء من هذه الملاحن من قريب أو من بعيد2. ودقة المقاييس التي وصلت بها احاديث النبي الكريم تنهض حجة دامغة على أن أقواله نقلت معربة أيضًا، فقد كان الرواة على نقل أحاديث النبي أحرص منهم على أشعار الجاهليين، وكانوا يعتقدون أن هذا الأمر دين3، فبالغوا في رواية الحديث باللفظ، وشددوا

_ 1 Volkssprache und Schriftsprache im alten Arabien, Strassburg, 1906 2 وذلك في مباحثه: Neue Beitrage zur semitischen sprachwissen Schassburg, 1910 3 وذلك كقوله ابن سيرين: "إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغداد 1/ 15 وجه 2.

في روايته بالمعنى1؛ وأداء بعضهم شيئًا من الحديث بلهجتهم الخاصة لا يعني أداءهم إياه متجردًا من الإعراب، فهو على كل حالٍ نُطْقٌ عربيٌّ لا مطعن عليه ولا شبهة فيه، وظاهرة الإعراب واضحة فيه، إلّا أن الأمانة العلمية تقضي بذكر الراوي وذكر لهجته, لكيلا يخفى شيء من أحوال رجال السند. وكذلك مَنْ لَحَنَ من المحدثين كما يلحن الرواة2, ما كانوا يقصدون إلى التساهل في النحو، وإنما يريدون أن يتخففوا من كل عمل شخصي لهم في الرواية؛ لأنهم نقلة، وإنما يبلغ الناقل الشيء كما سمعه دون تغيير، ولا زيادة، ولا نقصان3. لا بدع إذا مال الكثير من العلماء المحققين -بعد الذي عرفوه واقتنعوا به من دقة المصطلحات في حديث النبي -عليه السلام- إلى تقديم الاستشهاد به على شواهد البدو، فكان نحوي كبير؛ كابن مالك, يرى أن القرآن يستشهد به في الدرجة الأولى، ثم يليه حديث النبيّ، وأخيرًا يأتي كلام الأعراب4. وشعور العرب بوراثتهم لغتهم معربة هو الذي كان يحملهم على أن يجتنبوا اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب5, وهل أتيح للهجة قريش أن تكون أفصح لهجات العرب وأبينها لو لم تخل في فساد اللسان ولحن الإعراب؟ وهل كان للقرآن أن يمتن على العرب بنزوله بلسان عربيٍّ مبينٍ6 لولا أنه يومئ بهذا الامتنان إلى انتفاء الفرق

_ 1 اقرأ في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" مبحث الأداء بالمعنى ص80 وما بعدها. 2 قارن بالكفاية في علوم الرواية للخطيب 186. 3 نفسه 182. 4 راجع بغية الوعاة 5. 5 الصاحبي 32. 6 كقوله تعالى في سورة النحل، الآية 103: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين} .

بين لغته المعربة ولغة العرب في عهده من أهل الفصاحة والبيان والإعراب1؟ على هَدْي هذه الأدلة العقلية والنقلية، لم يكد علماء الساميات يرتابون في صدق ما نطقت به كتبنا القديمة من انفراد العربية بالإعراب، بل زادنا استقراؤهم الدقيق لتلك اللغات السامية يقينًا بتجرد السريانية والآرامية من ظاهرة الإعراب, وضآلته في العبرية القديمة2 والبابلية القديمة3.

_ 1 قارن بيوهات فك، العربية ص4. 2 Renan, Langues Semitiques, 384 3 العربية "فك"، ص3. ويلاحظ الباحثون هنا أن البابلية القديمة عرفت الحركات الثلاث في النصوص التي ترتد إلى عهد حمورابي، ثم أنشأت هذه الحركات تتطور حتى استحالت حركتين فقط؛ إحداهما: الضمة في حالة الرفع، والأخرى الفتحة في حالتي النصب والجر، وانتهت بها مراحل التطور إلى الحركة الواحدة في الكسرة الممالة، قارن بدراسات في اللغة للدكتور إبراهيم السامرائي ص97. "ووجدت نقوش أكادية بحركات الإعراب منذ عام 2750ق م تقريبًا".

ليس الإعراب قصة

ليس الإعراب قصة: هذا الإجماع أو شبه الإجماع على انفراد العربية بظاهرة الإعراب لم يقبله بعض المستشرقين إلّا مقيدًا مشروطًا، فهذا كوهين Cohen مثلًا في "لغات العالم"1, لا ينكر وجود الإعراب في اللغة المثالية الأدبية؛ لغة الشعر والخطابة في الجاهلية والإسلام، ولكنه يستبعد مراعاتها في لهجات الحديث بين عرب الجاهلية، ويقيم رأيه على ملاحظتين فاسدتين: إما أحدهما: فهي تشعب هذه الضوابط الإعرابية ودقتها, إلى درجة يتعذر تطبيقها؛ وأما الثانية: فهي تجرد جميع اللهجات العامية الحديثة المتفرعة من العربية من آثار الإعراب وقوانينه.

_ 1 Langues du monde.

ولم تبد لنا هاتان الملاحظتان فاستدتين إلّا لأن الوقائع والوثائق تكذبهما قديمًا وحديثًا, فليست دقة الإعراب بمانعة أحدًا من التخاطب بلغة معربة؛ فهذه اللاتينية في العصور القديمة، والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منهما على قواعد وإعراب، ربما لا يقل في دقته وتنوعه عن قواعد العربية الفصحى، ومع ذلك لا تزال الألمانية لغة تخاطب بين الألمان، وظلت اللاتينية مدةً طويلةً لغة تخاطب بين الرومان. ويروي أحد الرحّالة الإنكليز "في القرن التاسع عشر الميلادي" أنه سمع الحركات الإعرابية تلتزم في وسط الجزيرة على ألسنة الناس في المدن"1. ولم تتجرد اللهجات العربية الحديثة كلها من آثار الإعراب، فما تبرح هذه الآثار ظاهرةً في أقوال البُداة من مواطن متفرقة من العالم العربي، كأنها تجميد لبقايا يستحيل عليها العدم التام، والاضمحلال المطلق2، أو كأن طبيعة هذه اللغة العربية تأبى عليها أن تفقد ظاهرة الإعراب إلى الأبد, وليس في وسع باحث محقق أن ينكر احتفاظ البدو الفصحاء بالإعراب حتى زمن الجاحظ، فإن أديب العربية الكبير كان يحض الرواة والمتأدبين في "البيان والتبين" على الاختلاف إلى الفصحاء العقلاء من الأعراب؛ ليستمعوا بأحاديثهم العذاب، ثم يرووها بمخارج ألفاظها وإعراب تراكيبها3. ولسنا نعجب لكوهين وأضرابه إذا ذهبوا إلى هذا الرأي الفاسد

_ 1 قارن "النحو العربي على ضوء اللغات السامية ص42" بأسرار اللغة ص139. 2 العربية "فك ص3". 3 البيان والتبيين 1/ 62, وذلك لا ينفي شيوع اللحن في عهد الجاحظ، بل لعل استماع المتأدبين إلى فصحاء الأعراب دليل واضح على تفشي اللحن بين العامة, وهذا ما نبه اليه الجاحظ أيضًا في موضع آخر، في كتابه "البخلاء" ص33 "طبعة الحاجري".

مستدلين بما وَهَى من الأدلة والبراهين، وإنما نعجب أشد العجب لبعض الباحثين العرب المعاصرين حين يهجمون على النحاة بحقٍّ وبغير حق، ويغلون في اتهامهم بوضع تلك القواعد الدقيقة وفرضها على الفصحاء من العرب، والفحول من الشعراء، وحتى رجال القراءات. وفي كتاب "من أسرار اللغة" للدكتور إبراهيم أنيس، "نموذج" من هذا الهجوم الصاعق على النحويين: فالإعراب قصة، ولكن -كما يقول ذلك المؤلف- "ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزية العربية، ثم حيكت وتَمَّ نسجها حياكةً محكمةً في أوخر القرن الأول الهجري, أو أوائل الثاني، على يد قوم من صناع الكلام, نشأوا وعاشوا معظم حياتهم في البيئة العراقية, ثم لم يكد ينتهي القرن الثاني الهجري حتى أصبح الإعراب حصنًا منيعًا، امتنع حتى على الكُتَّاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشقَّ اقتحامه إلّا على قوم سُمُّوا فيما بعد بالنحاة "1. وهذا غلو لا ريب فيه، فلقد يكون للنحاة عمل شخصي في تنسيق ما استنتجوه من أصول النحو وقواعده من كلام فصحاء العرب، ولقد يتشددون أحيانًا في رمي شاعر فحلٍ باللحن غير مبالين بضرورة شعرية ملجئة، ولقد ينكر بعضهم حتى على قرّاء القرآن ما صحَّ سنده من أوجه القراءات, ولعل من الممكن الاستغناء عن بعض مقاييسهم, أو تعويضها بأخرى أسهل وأيسر، ولكنَّ عملهم الأساسي في قواعد الإعراب يظلُّ أسمى من أن يُتَّهَمَ, وأوثق أن يجرح، فما جمعوا شواهدهم -كما رأينا- إلّا من البادية؛ موطن الفصاحة الأصيل, ولم تكمن معاييرهم التي نادوا بها إلّا صورةً معبرة عن طبيعة العربية الفصحى؛ في بنائها الصوتي, ودلالتها الموحية، وفي جميع مظاهرها البسيطة والمركبة،

_ 1 من أسرار اللغة ص125 "الفصل الخامس، قصة الإعراب".

والمقيسة والمسموعة، والمستعملة والمهملة، والمشتقة والمنحوتة1. على أننا لا نستبعد تطاول أيدي بعض النحاة إلى وضع شيء من الأحاديث الشريفة تارةً، وتأويلها على ما يحلو لهم تارةً أخرة، ليتخذوها حجةً لهم في إلزام الناس بمراعاة الإعراب، وتحذيرهم من اللحن ولا سيما في تلاوة القرآن. وفي طائفة من تلك الأحاديث ينسب إلى النبي الكريم ذكر اللحن صراحة، يأباه لنفسه، أو ضمنًا، يحذر منه صحبه, فتوشك تلك الأحاديث -بسبب هذا الفظ الصريح أو ذلك المفهوم الضمني- أن تتعرض لنقد شديد لا تسلم معه من التضعيف والتوهين، وربما الوضع في بعض الأحيان. من ذلك ما نسبوه إليه -صوات الله عليه- من قوله: "أنا من قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن! "2، فلفظ اللحن هنا يكاد يصرخ بنفسه، ثم يضج في الصراخ منكرًا وجوده في هذا السياق، مؤكدًا أن الذين أدرجوه في الحديث غُيُرٌ على النحو، هيّابون من اللحن، مأخوذون بسحر الإعراب. ذلك بأن التاريخ لم يعرف اللحن في دنيا العرب بمعنى مخالفة التعبير الصحيح, قبل أن يختلط هؤلاء بالأعاجم ويأخذوا في التفرقة بين فصاحة المنطق وفساد اللسان.

_ 1 حتى المستشرقون اعترفوا بدقة مقاييس النحاة وتعبيرها عن طبيعة العربية الفصحى, وتلخيصًا لآراء المنصفين منهم. اقرأ "العربية" فك ص2. 2 وقد أشار الأستاذ سعيد الأفغاني بحقٍّ إلى توهين المحدثين لهذا الخبر المنسوب إليه -صلوات الله عليه، وإن رواه السيوطي في الجامع الصغير عن الطبراني. "قارن بأصول النحو ص7 ح2". وقد شاع هذا الحديث بذاك اللفظ, واشتهر حتى أصبح يذكر في كتب اللغة. انظر على سبيل المثال المزهر 2/ 397.

فاللحن لم يكتب هذا المدلول الخاص إلّا في وقت متأخر بعد أن تعارف الناس على تغيير معناه اللغوي الأصلي1، فكيف يستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى الخطأ في اللغة, ويحرص على أن ينفي عن نفسه هذا الخطأ؟ لا سبيل لأن يسلم الحديث من النقد إذا أصرَّ المحتجون به على أن يجعلوا "اللحن" فيه مرادفًا للخروج على قواعد الإعراب؛ لأن العرب في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعرفوا لمثل هذا اللحن كنهًا أوحقيقة. فإن لم يرادف "اللحن" عندهم إلّا عيوب المنطق في الرُّتَّة واللُّفَّة واللَّجْلَجَة والحُبْسَةِ والعِيّ والحَصْر2، فلا ضير أن ينفي أفصح العرب -عليه السلام- عن لسانه المبين ولغته الفطرية البليغة عيوبًا تلحق باللسان، فتغض من البيان. وإن صح بعد هذا، أنه -صلوات الله عليه- حضَّ على قراءة القرآن بإعراب، فقال: "من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد"3، لم يكد عاقل في الدنيا يفهم من لفظ الإعراب التزام قواعد النحاة، فما ولد أولئك النحاة بعد ولا نحوهم، ولا ضبط شيء من مقاييسهم ومعاييرهم! وإنما يفهم من الإعراب حينئذ وضوح المنطق، وظهور المخارج، وخلوّ التلاوة من عيوب اللسان التي تذهب بالكثير من حلاوة القرآن ... وبهذا يسهل علينا تفسير ما عسى أن ينخدع به الناس من الأحاديث التي تتساهل في أمر الإعراب، أو تبدو كالمتساهلة فيه؛ إذ تتسامح

_ 1 أما معناه اللغوي الأصلي فهو أسلوب التعبير أو طريقته, ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . وقارن بالعربية "فك" 235. 2 راجع معاني هذه الألفاظ في فقه اللغة الثعالبي ص171. 3 قارن كنز العمال 1/ 475 بـ"آداب المعلمين فيما دَوَّنَ محمد بن سحنون التنوخي عن أبيه" ص40 "نشر حسن حسني عبد الوهاب، تونس 1350هـ".

بتلاوة القرآن كله غير معرب، مثلما تحض على قراءته كله أو بعضه بإعراب؛ كالحديث الضعيف الذي نسبوه إلى النبي -عليه السلام: "من قرأ القرآن فلم يعربه وُكِّلَ به ملكٌ يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات، فإن أعرب بعضه ولم يعرب بعضه وُكِّلَ به ملكان يكتبان له بكر حرف عشرين حسنة, فإن أعربه كله وُكِّلَ به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة"1. وكان على المنخدعين بمثل هذا الحديث أن يدركوا أنه لو كان الإعراب هنا إعراب النحو لما ساغ قط أن يتسامح النبي العربي بأمره، فيذكر ثوابًا معينًا لمن قرأ القرآن فلم يعربه، أو أعرب بعضه دون بعض؛ لأن في ترك الإعراب كله فسادًا أيّ فساد، أما التزام بعضه وإهمال بعضه فما أشد نبوته عن الفصاحة، وما أشد جفوته للنغم المرتل في القرآن!

_ 1 راجع مخطوطة "الإيضاح في الوقف والابتداء" لابن الأنباي، ورقة 3 وجه 2 "الظاهرية قراءات 36". وابن الأنباري يروي الحديث عن أبيه أنه قال: حدثنا إبراهيم بن الهيثم قال: حدثنا آدم -يعنى ابن أبي إياس- قال: حدثنا أبو الطيب المروزي قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي رواد, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الحديث ... " وقارن بتفسير القرطبي 1/ 23 "باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه, وثواب من قرأ القرآن معربًا". وقد وَثَّقَ المحدثون بعض رجال الإسناد. انظر ترجمة إبراهيم بن الهيثم البلوي في "لسان الميزان 1/ 123"، وترجمة آدم بن أبي إياس في "تهذيب التهذيب 1/ 169"، وترجمة عبد العزيز بن أبي رواد في "التهذيب 6/ 338". أما نافع وابن عمر فأشهر من أن يعرف بهما أو يترجم لهما. والحديث -مع ذلك- ضعيف، فإن آفته أبو الطيب المروزي -المعروف أيضًا بالحربي- فقد قال فيه أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى ورقة 271 مخطوطة المكتبة الظاهرية مصطلح الحديث "138، 9038": "ليس حديثه بالقائم"، وقال ابن حبان: "روى عن عبد العزيز بن أبي رواد الأعاجيب, لا يجوز الاحتجاج به", وقال ابن معين: أبو الطيب الحربي سمع من معمر: كذّاب خبيث، وروى عباس الدوري عن ابن معين قال: "كان أبو الطيب من الأنبار, وكان في الحديث كذابًا". ميزان الاعتدال 3/ 366, ولسان الميزان 6/ 399.

وإن الرسول لأحكم من أن يتساهل في هذا، وهو الذي امتنَّ عليه الرحمان، بتعليمه القرآن والبيان1، وأمره أن يرتل الوحي ترتيلًا, حتى غدا يحض أصحابه على التغني به, وتزيين أصواتهم بقراءته2. إن التساهل في إعراب بعض القرآن ضرب من التخفيف على قارئيه، لا شيء أكثر شبهًا به من الحروف السبعة التي قرأ عليها العرب القرآن، وكلها شافٍ كافٍ3، فكما سمعنا بعربيٍّ من إحدى القبائل لا يطيق أن يلحن بغير لحن قومه4، من الناحية الاجتماعية، لتأثره بلهجته القبلية، لا يعجزنا أن نتصور عربيًّا من الصحابة يضعف عن النطق ببعض الأحرف بنسبة واحدة في وضوح المخرج، لما في لسانه من العيوب، من الناحية الفردية الخاصة، فمثله يتساهل معه، ولا يكلف إلّا وسعه، وغيره من الفصحاء يشجع على سلامة نطقه، وترتيله القرآن بلسان عربين مبين. ومهما تكن البواعث النفسية التي أهابت ببعض النحاة إلى وضع شيءٍ من الحديث يكرِّه إلى الناس اللحن ويحبِّبُ إليهم الإعراب، ومهما نستبعد صحة ما وضعوه أو أوَّلوه على ما حلا لهم، فلسنا نجد باعثًا منطقيًّا يحملنا أيضًا على استبعاد الأخبار الموقوفة على بعض الصحابة الذين كانوا يحذرون من اللحن أو يظهرون الكراهة له؛ كحديث عمر مع القوم الذين أساءوا الرمي فقرعهم, فقالوا: "والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم

_ 1 سورة الرحمان "مطلعها". 2 انظر على سبيل المثال "منسد الدرامي" فضائل القرآن. 3 انظر "البرهان للزركشي 1/ 227", وقارن بكتابنا "مباحث في علوم القرآن 128 إلى 138". 4 كما رأينا في قصة الأعرابي مع أبي حاتم السجستاني حين قرأ "طيبي لهم" بدلًا من "طوبى", ولم يؤثر فيه التلقين. راجع ما ذكرناه ص27-28, وقارن بما ذكرنا أيضًا ص75-76 عن أبي المهدي في قصة "ليس الطيب إلّا المسك".

في رميكم "1. فمثل هذه الأخبار الموقوفة يؤكد إمكان وقوعها منطق الأحداث نفسه؛ إذ بدأ اختلاط العرب بالأعاجم، وأنشأت اللكنة الدخلية تلابس نطقهم بالمفردات، وتحريكهم أواخر التركيب, وإظهارهم علامات الإعراب. إلّا أن الإعراب -سواء أصحت هذه الأخبار أم لم تصح, سندًا أو متنًا، وعقلًا أو نقلًا- لم يكن بالقصة، ولا يعقل أن يكون كله نسيجًا محكمًا في عصر معين، ولا أن يقوم بحياكته كله بهذه الدقة وهذا الشمول قومٌ بأعيانهم, كأنه شيء أُنُفٌ يبتدعونه من تلقاس أنفسهم. فهناك حد أدنى من ظاهرة الإعراب لا بد من الإقرار بوجوده، كالذي عرفنا في الشعر الجاهلي، والذي رأيناه في المواقع القرآنية المشكلة، وهي المواقع التي لا يعين معناها الأدق إلّا تحريك الأواخر بحركة الإعراب2. ولا مَفَرَّ من الاعتراف أيضًا بتعسف بعض النحاة في طائفة من أحكامهم، كأنهم يحاولون فرض مقاييسهم على الناس، فقد حسبوا كما حسب اللغويون في كل زمانٍ ومكانٍ أن دراستهم يجب أن تتحكم بما له من حق وقدسية لا مراء فيهما3. ها هو ذا عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ، وهو من النحاة الموالي, يجرؤ على تخطئة الفرزدق وتلحينه في قوله:

_ 1 أصول النحو 7 عن إرشاد الأريب 1/ 67. 2 انظر ما ذكرناه ص119, وما بعدها حول قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . 3 المعيارية ص20.

مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب من نديف القطن منثور على عمائمنا تلقى، وأرحلنا ... على زواحف تُزْجَى مخهارير1 فيقول: "ألا قلت: على زواحف نزجيها محاسير؟ فيغض الفرزدق ويقول: "والله لأهجونك ببيت يكون شاهدًا على ألسنة النحويين أبدًا"، وإذا هو يهجوه بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا ويتعمد الفرزدق أن يقول: مولى مواليا، بدلًا من "مولى موالٍ" فينكر عليه عبد الله ويخطئه مرة أخرى2. وفرقوا مع ذلك بين ما يجوز للشاعر وما لا يجوز، فابن فارس لا يرى بأسًا في قصر الشعراء الممدود، ومدهم المقصور، وتقديمهم ما حقه التأخير، وتأخيرهم ما حقه التقديم؛ لأنهم أمراء الكلام, فأما لحن في إعراب أو إزالة عن نهج صواب فليس لهم ذلك, ولا معنى لقول من يقول: إن الشاعر عند الضرورة أن يأتي في شعر بما لا يجوز، ولا معنى لقول من قال: ألم يأتيك والأنباء تُنْمَى ... بما لاقت لبونُ بني زياد فهذا إن صح وما أشبه كله غلط أو خطأ"3. ولكي يجتنبوا مثل هذا الغلط أو الخطأ كانوا يسعون وراء الشعر ويصرحون بغايتهم من السعي وارءه, قال الجاحظ: "ولم أر غاية

_ 1 الرير والرار هو الذائب. 2 انظر الشعر والشعراء 1/ 35 بتحقيق أحمد محمد شاكر, وقارن بمراتب النحويين 12. 3 الصاحبي 231.

النحويين إلّا كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلّا كل شعر فيه الشاهد والمثل"1. ولقد ضاق الشعراء ذرعًا بجراءة النحاة فنظموا الأشعار في هجائهم, والشكوى من غرورهم، لعل هجاءهم لهم ينفس شيئًا من كربهم. ومن أشهر تلك الأشعار الهاجية قول عَمَّار الكلبيّ2: ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافيةً بكرًا بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا قالوا لحنت، وهذا ليس منتصبًا ... وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع وحرَّضُوا بين عبد الله من حُمُقٍ ... وبين زيدٍ فطال الضرب والوجع كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعرابهم طُبِعُوا ما كان قولي مشروحًا لكم فخذوا ... ما تعرفون، وما لم تعرفوا فَدَعُوا لأنّ أرضي أرضٌ لا تشب بها ... نار المجوس ولا تُبْنَى بها البِيَعُ ولم تقف سلطة النحاة عند الشعراء، بل جاوزتهم إلى القراء أيضًا، فإذا قرأ حمزة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} بكسر الميم في "الأرحام"3 أنكر النحاة قراءته وقالوا: لا يعطف على مضمر مخفوضٍ إلا بإعادة خافضه, وإذا قرأ ابن عامر: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} 4 بضم "قتل" وفتح "أولادهم" وكسر "شركائهم" أنكر النحاة هذه

_ 1 البيان والتبين 3/ 222. 2 معجم الأدباء 5/ 26. 3 انظر الإتحاف 185. وقارن بأسرار اللغة 132. 4 الإتحاف 217.

القراءة، حتى قال الزمخشري، "إن الفصل بين المتضايفين لو كان في مكان الضرورات وهو في الشعر لكان سمجًا مردودًا, فكيف به في القرآن المعجز؟ "1. لا يسعنا، أزاء هذا، أن ننكر تسلط بعض النحاة على الناس، بيد أن التسلط لا يعني أن ظواهر الإعراب كلها موضوعة، وأن الأخبار حولها جميعًا قصص خيالية طريفة، وإنما يعني أن النحاة لم يألوا جهدًا في إقرار قواعدهم وتثبيت مقاييسهم, وليس ثمة بواعث ذات شأنٍ تحمل الباحثين المعاصرين على رمي النحاة بوضع هذه الحقائق له جملة وتفصيلًا، كأنَّ أحدًا من العرب لم يعرب كلامه قط! ومن قبل الباحثين المعاصرين نادى ابن مضاء القرطبي2 بإلغاء بعض القواعد النحوية الهامة، واستبدال غيرها بها؛ كنظرية العامل التي تعتبر من أسس الإعراب الأولى، فهو لا يرى مسوغًا لهذه الاختلافات مثلًا حول عامل الرفع في المبتدأ، أهو الابتداء؟ كما يقول البصريون، أم الخبر؟ كما يزعم الكوفيون، وحول عامل الرفع في الفعل المضارع، أهو تجرده عن الناصب والجازم كما هو مذهب البصريين، أم هو حرف

_ 1 الكشاف 2/ 42, وقارن بأسرار اللغة 132, وإنما وقف الزمخشري من هذه القراءة موقف المستنكر، لاعتقاده بأن "القراءات اختيارية، تدور مع اختيار الفصحاء, واجتهاد البلغاء" انظر البرهان. وقد دافع الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر 117" عن ابن عامر في قراءته هذه، بأنه أعلى القراء السبعة سندًا وأقدمهم هجرة، وأنه من كبار التابعين الذي أخذو عن الصحابة، وهو مع ذلك عربي صريح من صميم العرب، وكلامه حجة وقوله دليل؛ لأنه كان قبل أن يوجد اللحن. 2 هو أحمد بن العباس بن محمد بن مضاء اللخمي، أبو العباس، أصله من قرطبة، وقد تركها إلى إشبيلية حيث درس كتاب سيبويه على ابن الرماك، وأخذ الحديث عن القاضي عياض, وكان فوق هذا عارفًا بالطب والحساب والهندسة, توفي سنة 592هـ. "راجع بغية الوعاة 139, والديباج المذهب 48".

المضارعة كما يرى الكسائي1؟ ويبدو أن ابن مضاء كان قليلًا من يؤمن بجدوى القياس في دراسة العربية، ويرى أنّ أكثر تعسف النحاة إنما جاءهم من إسرافهم في الصيغ والأبنية القياسية، فهو يحذِّرُ من هذه الوسائل المتحجرة الجامدة في صياغة الكلام العربي, فإذا قال ابن جني: "واعلم أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب"2. انبرى ابن مضاء ما في هذا الاعتقاد من التكلف فقال: "والعرب أمة حكيمة، فكيف تشبه شيئًا بشيء، وتحكم عليه بحكمه، وعلة حكم الأصل غير موجودة في الفرع؟ وإذا فعل واحد من النحويين ذلك جُهِّلَ ولم يقبل قوله، فلم ينسبون إلى العرب ما يجهّل به بعضهم بعضًا؟ وذلك أنهم لا يقيسون الشيء ويحكمون عليه بحكمه، إلا إذا كانت علة حكم الأصل موجودة في الفرع! وكذا فعلوا في تشبيه الاسم بالفعل في العمل، وتشبيههم إن وأخواتها بالأفعال المتعدية في العمل"3. وابن جني يحكي آراء النحويين، وتعجبه تعليلًاتهم لظواهر الإعراب، ولكنه يستشعر بين الحين والحين ضعف تلك العلل، فلا يملك نفسه من التصريح بضعفها، كأنه يراها لا تخلو من الصنعة والتكلف, فهو يقول مثلًا: "اعلم أن محصول مذهب أصحابنا، ومتصرف أقوالهم، مبنيٌّ على جواز تخصيص العلل، وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها أو أكثرها إنما تجري مجرى التخفيف والفرق، ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكنًا، وإن كان على غير قياس ومستثقلًا، ألَا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان وميعاد, لقدّرت على ذلك، فقلت: "مِوْزان

_ 1 انظر كتاب الرد على النحاة ص85 إلى 106. 2 الخصائص 1/ 119. 3 الرد على النحاة 156-157.

وموعاد"؛ وكذلك لو آثرت تصحيح فاء موسر وموقن لقدرت على ذلك، فقلت:"مُيْسر ومُيْقن" وكذلك لو نصب الفاعل، ورفعت المفعول، أو ألغيت العوامل من الجوار والنواصب والجوازم، لكنت مقتدرًا على النطق بذلك، وإن نفي القياس تلك الحال؛ وليست كذلك على المتكلمين، لأنها لا قدرة لها على غيرها"1. ولو لم يصرح ابن جني بهذا, لعدناه من متكلفي النحاة الذين يأبون إلّا أن يروا عللهم على وجه الحكمة كيف وقعت، مع أن اللغة وعللها وأقيستها ليست منطقية دائمًا، فبين لغة العقل والمنطق، ولغة الإرادة والرغبة، ولغة الانفعال والحساسية، فروق لا يجهلها أحد2. لذلك ردَّ بعض الباحثين كثيرًا من تعليلات الأقدمين، وأكدوا أنها ليست من المنطق في شيء، ورموا العرب بضعف التعليل، ونبهوا إلى أن عمل النحوي في دراسة التراكيب يمتثل في التمييز بين أنواع الجمل المختلفة، ثم تعيين المجموعات التي تسير على نظام ثابت، في كل نوع؛ إذ تخلو من الحروف المتنافرة, ويسهل النطق بها3. ولم ينكر أحد من الباحثين المعاصرين، مع ذلك، أن كثرة اشتغال النحاة العرب القدامى بالتعليل والقياس، وأخذهم بالأنبينة المقيسة, دليل على غنى مباحثهم اللغوية، بل على ترفهم في تلك المباحث4. وإذا كان بعض النقاد اليوم في هجومهم الصاعق على الإعراب يحسبون أنهم إنما يتبعون ابن مضاء، فإنه لم يبلغ بآرائه الجديدة في النحو حد إنكار ما للحركة الإعرابية من مدلول، بل كان -على العكس

_ 1 الخصائص 1/ 148-149, باب تخصيص العلل. 2 قارن بفندريس 182. 3 قارن بدلالة الألفاظ, للدكتور إبراهيم أنيس, ص28 وما بعدها. 4 النحو العربي على ضوء اللغات السامية 84.

من ذلك- يرى أن فقدان هذه الحركة في كلمةٍ ما, لا بد أن يؤثر في توجيه فهمها، حتى ليوشك أن يعتبر الحركات الإعرابية جزءًا من بنية الكلمة، فيقول: "وكما لا نسأل عن عين "عِظْلِم"1, وجيم "جعفر", وباء "برثن", لم فتحت هذه, وضمت هذه, وكسرت هذه، فكذلك أيضًا لا نسأل عن رفع "زيد". فإن قيل: "زيد" متغير الآخر، قيل: كذلك "عِظْلِم" يقال في تصغيره بالضم، وفي جمعه "فعالل" بالفتح, فإن قيل: للام أحوال يرفع فيها وأحوال ينصب فيها وأحوال يخفض فيها، قيل: إذا كانت تلك الأحوال معلومة بالعلل الأولى: الرفع بكونه فاعلًا, أو مبتدأ, أو خبرًا, أو مفعولًالم يُسَمَّ فاعله؛ والنصب بكونه مفعولًا، والخفض بكون مضافًا إليه، صار الآخر كالحرف الأول الذي يضم في حالٍ، ويفتح في حالٍ، ويكسر في حالٍ، يكسر في حال الإفراد, ويفتح في حال الجمع، ويضم في حال التصغير"2. وقد يكون القياس ابن مضاء الحركة الإعرابية على الحركة التي تكون جزءًا من بنية الكلمة قياسًا مع الفارق؛ وقد يكون في كلامه شيء من المغالطة أوقعه فيه حبه للنحو وولوعه بالإعراب، ولكن المغالطة الشديدة تتمثل في مذهب من يقول: "يكفي للبرهنة على أن لا علاقة بين معاني الكلام وحركات الإعراب أن نقرأ خبرًا صغيرًا في الصحف على رجل لم يتصل بالنحو أيَّ نوعٍ من الاتصال، فسنرى أنه يفهم معناه تمام الفهم مهما تعمدنا الخلط في إعراب كلماته، برفع المنصوب ونصب المرفوع أو جره.. إلخ"3, وإنما كانت هذه مغالطة لا تحتمل،

_ 1 العظلم "كزبرج" الليل المظلم، وعصارة شجر, أو نبت يصبغ به. 2 الرد على النحاة 160-161. 3 إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة، ص160-161.

لأن الشخص المذكور عندما نفسد عليه إعراب الكلمات سيجد نفسه أمام خليط من الألفاظ والتعابير ليس عاميًّا كله ففهمه فهم العامة، ولا فصيحًا كله، فيفهم منه بعض على قدر استعداده؛ وإنما سيفهم الفكرة فهمًا سقيمًا مشوهًا، فهو -على جهله التام بقواعد الإعراب- لا يستوعب حزئيات الفكرة, ولا يلمح الترابط بين أجزائها, إلا إذا قرئت عليه قراءة نحوية صحيحة, ولذلك يسلك هذا الشخص في السمعيين لا البصريين، فهو يفهم الخبر الذي يتلوه المذيع وهو يستمع إليه أكثر مما يفهمه إذا قرأه بنفسه وهو ينظر في الصحيفة؛ لأن المذيع يراعي أحكام الإعراب فيفصح ويبين، أما قارئ الصحيفة فيفقد الروابط الحقيقية بين ألفاظٍ يعرف بعضها عن طريق الإلف والعادة، ويجهل بعضها الآخر؛ لأنها لم تطرق سمعه، فهذا القدر المحدود من الفهم -الذي يتفاوت بتفاوت الأشخاص والثقافات- ليس مصدره فقدان الحركات الإعرابية، وإلّا لكان يجب أن يكون فهمًا تامًّا من كل وجه، وهو ما ينكره الواقع ويأباه. وحين ينقل لنا: أن ربيعة تقف بالسكون على الاسم المنون المنصوب فتقول: هل رأيت زيدْ، مثلما تقول: جاء زيدْ، ومررت بزيدْ، في المنون المرفوع والمجرور؛ وإن طيئًا تقف على جمع المونث السالم بإبداله تائه هاء فقتول: "دفن البناه، من المكرماه" كما في المفرد المنتهي بالتاء كالصلاة والزكاة1، بل إن لخمًا تقف على ضمير الغائبة بحذف ألفه؛ فتقول: والكرامة ذات أكرمكم الله به" أي بها، وقضاعة تقول: المال له، ومررت به2, حين يُنْقَل لنا هذا أو أضرابه نستطيع أن نفسره بظاهرة الشذوذ "اللاشعوري" في النطق، لا بظاهرة المخالفة

_ 1 اللهجات 124. 2 الخصائص 1/ 410.

المقصودة الواعية للإعراب، وبينهما اختلاف جوهري، فإن ربيعة لا تقول: رأيت زيدْ، بتسكين "زيد" إلّا في حالة الوقف، أما إذا لم تقف على الاسم المنون المنصوب بل واصلت تعبيرها وأتمت جملتها, فإنها تقول مثلًا: "رأيت زيدًا في بيته". ولم يُحفظ لنا إسقاطها حركة الإعراب في مثل هذا المقام، ولا إسقاطها في غير الاسم المنوّن المنصوب حين الوقف، ومعنى هذا أنها كانت تعرب الأسماء والأفعال في غير هذا المقام، أو أنها على الأقل, لم يُحْفَظْ عنها في باب الإعراب إلّا هذا الشذوذ، والقاعدة التي تتبعها في سائر كلامها بعد ذلك ظلت تحريك الأواخر بالسجية والسليقة. ومثل ذلك يقال في بَتْرِ لخمٍ ألف ضمير الغائبة حين تنطق "بهْ" بدلًا من "بها", فإنها كانت تلفظ لا شعوريًّا، ولو كان متعمدًا لأسقطت جميع علامات التأنيث في حالتي الإفراد والجمع؛ فقالت: البقر، وهي تقصد "البقرة", وقالت: البَقَرَا، وهي تقصد "البقرات"مثلًا، ولكن شيئًا من هذا لم يُعْرَف عنها, ومثل ذلك يقال أيضًا في وقوف طيء بالهاء بدلًا من التاء في جمع المؤنث السالم، فإنهم لم يعمموه على كل لفظ يشبه آخره آخر جمع المؤنث السالم، فما قالوا: "إني آه" يريدون "إني آت", ولا قالوا: "عليك بالثباه" يريدون "عليك بالثبات"؛ فالمثل المحفوظ عنهم ضرب من الشذوذ, فهمه الأقدمون الفهم المناسب له حين سلكوه في عداد اللغات الضعيفة, ولذلك لم نجد رَبَعيًّا يقرأ "َفألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق به، وأهله" بل {كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} ولا طائيًّا يقرأ "والمؤمنون والمؤمناه", بل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} . والقرآن بالتزام ترتيله على نمط معين، ونظام وقوفه أثناء الآية بصورة

عامة، وعلى رءوس الآي بوجه خاصٍّ، أكد فصاحة لغة قريش في تثبيت حركاته الإعرابية التي استلطفت تثبيتها، واستحسنت إبقاءها. وفي الوقف على الاسم المنون لم تبق قريش إلّا فتحة المنصوب لخفتها ووضوحها وحسن إيقاعها, وزادتها خفة وحسنًا بتحويلها إلى ألف مد فقالت: "رأيته يريد فرارا" ونظمت شعرها على هذا المنوال، ونظم سائر الشعراء من مختلف القبائل أشعارهم بلغتها الأدبية على هذا المنوال أيضًا، وجاء القرآن يثبت هذا ويخلده, ويحفظ عليه خصائصه الصوتية الموسيقية فقال: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} , وقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} , وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وبمجيء القرآن على لغة قريش المثالية الأدبية قد قيل في خاصة الإعراب القول الفصل، فكل ما ورد على غير ذلك فهو لحن أو شذوذ, سواء أوقع فيه قائله سهوًا أم قصد إليه في وعي وشعور.

الفصل الثالث: مناسبة حروف العربية لمعانيها

الفصل الثالث: مناسبة حروف العربية لمعانيها القيمة البيانية للحرف الواحدة: لم يخف على نفر من علمائنا الأقدمين أن "اللغة أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"1، فلما أفاضوا في دراسة هذه المادة اللغوية الصوتية عرفوا لكلِّ حرف صوته صفة ومخرجًا، مثلما عرفوا له إيحاء دلالة ومعنى. وقد عقدنا لدراسة أصوات العربية فصلًا خاصًّا ستجده في موضوعه المناسب بعد قليل, ونحن منذ الآن نحيلك عليه، ومنه يتضح لك ما يتلعق بمخارج الحروف وصفاته، وثبات المادة الصوتية في لغتنا، وتعليل بعض ظواهر القلب والإبدال الشائعة فيها, ولك إن شئت أن

_ 1 الخصائص 1/ 31.

تبدأ بذاك الفصل، لئلّا يخيّل إليك أننا نحيلك على مجهول لديك، وإن أرجأت قراءته كما أرجأنا بحثه فقد قدمت مثلنا لاجوهر على العرض، والروح على الهيكل, والمعنى على المبنى. أما الذي نريد الآن بيانه فهو ما لاحظه علماؤنا من مناسبة حروف العربية لمعانيها، وما لمحوه في الحرف العربي من القيمة التعبيرية الموحية؛ إذ لم يعنهم من كلِّ حرفٍ أنه صوت، وإنما عناهم من صوت هذا الحرف أنه معبر عن غرض، وأن الكلمة العربية مركبة من هذه المادة الصوتية التي يمكن حلّ أجزائها إلى مجموعة من الأحرف الدوالّ المعبرة، كل حرف منها يستقلّ ببيان معنًى خاصٍّ ما دام يستقل بإحداث صوت معين, وكل حرف له ظل وإشعاع؛ إذ كان لكل حرفٍ صدًى وإيقاع! وإثبات القيمة التعبيرية للصوت البسيط وهو حرف واحد في كلمة، كإثبات هذه القيمة نفسها للصوت المركب وهو ثنائي لا أكثر، أو ثنائي ألحق به حرف أو كثر، أو ثلاثي مجرد ومزيد، أو رباعي منحوت، أوخماسي أو سداسي على طريقة العرب مشتق أو مقيس. لكل حالٍ من هذه الأحوال التي تبدو لك أول الأمر ألغازًا مقعدة, أو طلاسم محيرة، ذكر علماء العرب الأمثلة، واحتجوا بالشواهد التي لا يسهل دفعها؛ فقد مالوا إلى الاقتناع بوجود التناسب بين اللفظ ومدلوله، في حالتي البساطة والتركيب، وطَوْرَي النشأة والتوليد، وصورتي الذاتية والاكتساب. أ- ففي حال البساطة: رأوا الحرف الواحد -وهو جزء من كلمة- يقع على صوت معين، ثم يوحي بالمعنى المناسب، سواء أكان في أول اللفظ, أم وسطه, أم آخره.

فمما وقع في أول الكلمة: صَعِدَ وسَعِدَ، فجعلو الصاد؛ لأنها أقوى لما فيه أثر مشاهد يُرَى، وهو الصعود في الجبل والحائط، ونحو ذلك؛ وجعلوا السين لضعفها، لما لا يظهر ولا يشاهد حسًّا، إلّا أنه مع ذلك فيه صعود الجد، لا صعود الجسم ... فجعلوا الصاد لقوتها فيما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة، وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس, وإن لم تره العين1. من ذلك قولهم: خَضِمَ وقَضِمَ؛ فالحضم لأكل الرطب؛ كالبطيخ والقثّاء، وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها2. من ذلك أيضًا: سَدَّ وصَدَّ، فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد والمنظرة ونحوها؛ والصد جانب الجبل والوادي والشعب، وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز وراس القارورة ونحو ذلك3. ومما وقع في وسط الكلمة: التاء، والطاء، والدال، في تركيب "ق ت ر", و"ق ط ر", و"ق د ر"، فالتاء خافية مُسْتَفِلَةٌ، والطاء سامية متصعِّدة، فاستعملتا لتعاديهما في الطرفين، كقولهم: قتر الشيء وقطره, والدال بينهما، ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء، فكانت لذلك واسطة بينهما، فعبّر بها عن معظم الأمر ومقابلته، فقيل: قَدْر الشيء لجماعه ومُحْرَنْجِِمِهِ4.

_ 1 الخصائص 1/ 553. 2 نفسه 1/ 549. 3 نفسه 1/ 553. 4 نفسه 1/ 554.

ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة، والصاد أقوى صوتًا من السين، لما فيها من الاستعلاء؛ والوصيلة أقوى معنًى من الوسيلة، وذلك أن التوسل ليس له عصمة الوصل، والصلة، بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء، ومماسَّته له، وكونه أكثر الأحوال بعضًا له، كاتصال أعضاء الإنسان وهي أبعاضه, ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسِّل جزءًا أو كالجزء من المتوسَّل إليه، وهذا واضح؛ فجلعوا الصاد، لقوتها، للمعنى الأقوى، والسين لضعفها، للمعنى الأضعف1. ومما وقع آخر الكلمة: النضج والنضخ، فالنضخ للماء ونحوه، والنضخ أقوى من النضح؛ قال الله سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} ، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف، والخاء لغلظها لما هو أقوى منه ... ومن ذلك قولهم: "قَرَتَ الدم، وقَرِدَ الشيء، وتَقَرَّدَ، وقَرَطَ، يَقْرُطُ، فالتاء أخفت الثلاثة، فاستعملوها في الدم إذا جفَّ؛ لأنه قصدٌ ومستخفٌّ في الحس عن القَرْدَدِ، الذي هو النّباك في الأرض ونحوها، وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتًا "للقَرْطِ" الذي يسمع2. ومن ذلك قولهم: الخذا في الأذن، والخذاء والاستخذاء في الذل، فجعلوا الواو في الخذا؛ لأنها دون الهمزة صوتًا، للمعنى الأضعف، وذلك أن استرخاء الأذن من العيوب التي يسبّ بها، ولا يُتَنَاهى في استقباحها، وأما الذل فهو من أقبح العيوب، وأذهبها في المَزْراة والسبّ، فعبروا عنه بالهمزة لقوتها، وعن عيب الأذن المحتمل، بالواو لضعفها:

_ 1 نفسه 1/ 552. 2 نفسه 1/ 550.

فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما1. وإذا كان علماء العرب قد استشهدوا بالأمثلة السابقة على القيمة التعبيرية للحرف الواحد، وهو صوت بسيط يقع في أول الكلمة تارةًً، وفي وسطها تارةً أخرى، وفي آخرها أحيانًا، فما جاءوا بشواهدهم تلك سدًى، ولا ألقوا بها جزافًا, بل اعتقدوا أن في تقديم ما قُدِّمَ منها، وتأخير ما أُخِّرَ، وترتيبها على نحوٍ معين، أسرارًا مدهشة يعجب الباحث اليوم كيف تنتبهوا إليها واستنبطوها، ويكاد يسلّم لها ولو استشعر فيها الكثير من التكليف. فهذا ابن جني يؤكد "أن في تقديم ما يضاهي أول الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسط ما يضاهي أوسطه، سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود، والغرض المطلوب"2. ويمثل لذلك بالمواد "بَحَثَ" و"صَدَّ" و"جَرَّ" ونكتفي باللفظة الأولى "بحث"، فالباء فيها لغلظها تشبه بصوته خفقة الكف على الأرض، والحاء فيها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والنبث للتراب، وهذا أمر تراه محصلًا، فأي شبهة تبقى بعده؟ أم أيّ شكٍّ يعرض على مثله؟ والآن، فَلْتَخْتَلِطْ هذه الأحرف ولتمتزج، ولتقلَّبْ في تركيب ثلاثي تقالليبها العقيلة الستة المحتملة، ولينظر في النهاية إلى الحرف الواحد من أحرفها، حيثما كان موضعه منها، على أنه صوت ما يزال بسيطًا له دلالته التعبيرية الخاصة، وليستطرف الباحثون ما استنتجه علماؤنا من أمر هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها، ولا يحاط

_ 1 نفسه 1/ 552. 2 نفسه 1/ 555.

بقاصيها، فما برح هذا الحرف البسيط -كما يتصورون- يوحي بمعناه الذاتي من خلال صوته وإيقاعه! ومن أوضح الأمثلة على هذه الظاهرة اللغوية العجيبة ما ذكره ابن جني من "ازدحام الدال، والتاء، والطاء، والراء، واللام، والنون, إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما"1. أما شواهده على ذلك ففيها ما نرضاه ولا يسعنا رَدَّه، كالشي التالف، والشيخ الدالف "الضعيف"، والدنف المريض، والفتور للضعيف، والطَّفْل للرخص، وهو ضد الشين. وسائرها بعد ذلك إلى التكلف أقرب، وذلك في الألفاظ التي تطورت معانيها بطريقة من طرق المجاز، كالطيف "المجَّان" وليست له عصمة الثمين، والطُّنُف، لما أشرف خارجًا عن البناء وهو إلى الضعف، لأنه ليست له قوة الأساس والأصل، والنَّطَف "العيب" وهو إلى الضعف، والتنوفة, وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك، ألا تراهم يقولون لها مهلكة؟ والطرف لأن طرف الشيء، أضعف من قلبه وأوسطه، والفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك، والفارط "المتقدم"، وإذا تقدم انفرد، وإذا انفرد هلك، ومنه الفرات؛ لأنه ليس له تمكن الأول، والتَّفْلُ للريح المكروهة، فهي منبوذة مطروحة، والفلتة لضعف الرأي؛ وفتل المغزل؛ لأنه تَثَنٍّ واستدارة، وذاك إلى وَهْيٍ وضَعْفةٍ، والفَطُر الشقّ، وهو إلى الوهن2.

_ 1 نفسه 1/557-558. 2 نفسه 1/558-559.

وواضح أن ابن جني يعوّل في هذه الأمثلة، طبيعها ومتكلفها، على حرف الفاء، فهو الذي أفاد بقيمته التعبيرية الخاصة معنى الوهن والضعف لدى ممازجته الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون, ولئن جاءت صورة هذه الممازجة أنماطًا من التقاليب الستة المعروفة في "الاشتقاق الكبير"، فإنه مصادفة محض, لم يقصد إليها ابن جني، وإلّا لسلك هذا المثال في باب "الاشتقاق الأكبر" الذي يعني هو به القلب اللغوي الشائع في "الاشتقاق الكبير"1، ولكننا نجده إنما سلك هذا في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني", كأنه يومئ إلى أنه شاهد على وجود العلاقة الذاتية الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، أو بعبارة أدق: بين صوت الحرف البسيط وقيمته البيانية. ب- وفي حال التركيب، لاحظ العلماء كذلك القيمة التعبيرية للحرف مع أخيه في لفظ ثنائي، على القول بثنائية اللفظ العربي، ولا سيما في نشأته الأولى. وهذه الثنائية قد اتخذت في أذهان القائلين بها صورًا مختلفة, وأشكالًا متنوعة، فكانت الثنائية التاريخية ذات المقطع الواحد، والثنائية المعجمية التي ضعف حرفها الثاني فأصبحت ثلاثية بوساطة الشدة، والثنائية التي كرر مقطعها بكلا حرفيه فأضحت رباعية بطريق المضاعفة والتكرار. ونحسب أنه لا يغيب عن أحد "إذا وقفنا من هذه النظرية موقف الشارح لها، الموضح لما غمض منها" أن الثلاثي المضعف، والرباعي المضاعف، إنما يرتدان حيئنذ إلى الأصل الثنائي للفظ العربي، وأن هذا الأصل الثنائي يرتدّ إلى الصوتين البسيطين اللذين ركَّبَا مقطعه؛ وأن كلًّا من هذين الصوتين ما يفتأ يوحي عند التركيب والامتزاج بما كان يوحي به في حال البساطة والإفراد.

_ 1 سنعرض بالبيان والتفصيل لأنواع الاشتقاق، ولا سيما الكبير والأكبر.

الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعية

الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعية ... الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعة: ج- أما الثنائية التاريخية: فتعود لدى أكثر القائلين بها إلى تفسير نشأة اللغة الإنسانية بمحاكاة الأصوات الطبيعية؛ كتقليد الإنسان أصوات الحيوان، وأصوات مظاهر الطبيعة، أو تعبيره عن انفعالاته الخاصة, أو عن الأفعال التي تُحْدِث عند وقوعها أصواتًا معينة1. "فالكلم وُضِعَت في أول أمرها على هجاء واحد، متحرك فساكن, محاكاة لأصوات الطبيعة، ثم فئمت -أي زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو في القلب أو الطرف- فتصرف المتكلمون بها تصرفًا يختلف باختلاف البلاد، والقبائل، والبيئات، والأهوية. فكان لكل زيادةٍ، أو حذفٍ، أو قلبٍ، أو إبدال، أو صيغة معناة، أو غاية، أو فكرة دون أختها، ثم جاء الاستعمال فأقرها مع الزمن على ما أوحته إليهم الطبيعة، أو ساقهم إليها الاستقراء، والتتبع الدقيق؛ وفي كل ذلك من الأسرار والغوامض الآخذة بالألباب، ما تجلت بعد ذلك تجليًّا بديعًا، استقرت على سُنَن وأصول وأحكام لن تتزعزع! "2. ومن علماء العرب مَنْ مال إلى تقرير هذه الظاهرة اللغوية في نصوص

_ 1 انظر عرض آراء العلماء المحدثين في محاكاة الأصوات الطبيعية، في كتاب جسبرسن "اللغة وطبيعتها وتطورها، وأصلها". Language, its nature, devlopment origin.,Chapter xx 2 نشوء العربية ونموها واكتمالها للأب أنستاس ماري الكرملي، ص1.

واضحة، كابن جني الذي ينسب هذا الرأي إلى بعض العلماء، ثم يبدي إعجابه به وتقلبه له، فيقول: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الطبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن لك فيما بعد, وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل"1. بل نجد ابن جني في موضع آخر من "خصائصه" يبذل جهدًا مشكورًا في توضيح هذا الرأي وتقريره، فيخصه ببحث قيِّمٍ عنوانه: "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني" ويستهلّ الباب بقوله: "اعلم أنّ هذا موضع شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: "كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صَرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صَرْصَرَ". وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو: النَّقَزَان2، والغَلَيَان والغَثَيَان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حر كات الأفعال، ووجدت أنا "ابن جني" من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حذياه، ومنهاج ما مثّلاه, وذلك أنك تجد المصادر الرباعية، المضعَّفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والجرجرة والقرقرة3, ووجدت أيضًا "الفَعَلَى" في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: البَشَكى والجَمَزى والوَلَقَى6"7.

_ 1 الخصائص 1/ 44-55. 2 النقزان: الوثب. 3 القرقرة: الضحك إذا استغرق فيه. 4 البشكى: امرأة بشكى اليدين والعمل, خفيفة سريعة. 5 الجمزى: حمار جمزى, سريع. 6 الولقى: عدو للناقة فيه شدة. 7 الخصائص 1/ 544.

وهذا النص عظيم الفائدة، شديد الإيحاء، وحسبنا أننا عرفنا منه أن هذه المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله قد تنبه إليها علماء اللغة القدامى، كالخليل وسيبويه، بل لقد نبه عليها الأخيران تنبيهًا شديدًا, سمح لابن جني أن يقول: "إن هذا الموضع الشريف تلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بحصته". وممن صرَّح بهذه الظاهرة وقرَّرَها عبَّاد بن سليمان الضيمريّ أحد رجال الاعتزل المشهورين في عصر المأمون؛ فقد ذهب "إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال: "وإلّا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمّى المعين ترجيحًا من غير مرجّح"1. وقد أثَّر عبَّاد في طائفة من اللغويين ظلت تدين بهذه المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، وربما تكلف بعضهم في إظهار هذه المناسبة حتى خرجوا على طبيعة العربية نفسها ليقولوا كلمتهم في هذا الموضوع في لغات أعجمية لا نعرف على وجه التحديد مدى إجادتهم لها. ويذكر السيوطي أن بعض من يرى رأي عبّاد "سئل ما مسمى "أذغاغ "؟ وهو بالفارسية الحجر، فقال: أجد فيه يبسًا شديدًا، وأراه الحجر"2. فهذه العلاقة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله, لا يقتصر فيها إذن -عند عبّاد وأتباعه- على اللغة العربية، بل تشمل سائر اللغات؛ لأن كلمة "أذغاغ" فارسية، ولكن هذا الذي يرى رأي عبَّاد -وهو يجهل الفارسية أو ربما كان ملمًّا بها إلمامًا خفيفًا- واستنبط المدلول من الصوت. وقد أشكل على بعض الباحثين إنكار الجمهور مقالة عباد، لما عرفناه

_ 1 المزهر للسيوطي 1/ 47. 2 المصدر نفسه والصفحة ذاتها.

آنفًا من أن "الجماعة -كما ينص ابن جني- تلقت هذا المذهب بالقبول". وليس مرد الخلاف في الحقيقة إلى وجود هذه المناسبة الطبيعية وعدم وجودها، بل إلى ما يراه عبّاد من أن هذه المناسبة ذاتية موجبة، بمعنى أنها لا تتخلف, ولا بد من وجودها, وإن كنا أحيانًا لا نستشعرها أو لا نفهمها. وهذا ما يوضحه السيوطي بعبارته التالية: "وأما أهل اللغة العربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني؛ لكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عبّاد, أن عبادًا يراها ذاتية موجبة، بخلافهم, وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى وجوبًا، وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قوهم: إنه تعالى يفعل الأصلح, لكن فضلًا منه ومَنًّا لا وجوبًا، ولو شاء لم يفعله"1. فقد أكَّد هذا العالم الجليل المتأخر إذن -بعد استيعابه مؤلفات اللغويين السابقين التي فقد منها الكثير- أن أهل اللغة بوجهٍ عامٍّ, والعربية بوجه خاصٍّ, قد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة الطبيعية بين الألفاظ والمعاني. وبذلك تلاقى مع ابن جني على صعيد واحد، فكان لا بد لنا من الاقتناع بهذه الظاهرة اللغوية التي تبعد فتحًا مبينًا في فقه اللغات عامة. على أنّ ابن جني يظل رائد اللغوين القدامى الذين لاحظوا هذه الظاهرة وقرروها، فهو يقول: "فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئبٌ2, عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها, فيعدلونها بها ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره, وأضعاف ما نستشعره ... ومن ذلك القد طولًا، والقط عرضًا، وذلك أن الطاء أخفض للصوت وأسرع قطعًا له من الدال, فجعلوا الطاء المناجزة

_ 1 المزهر للسيوطي حـ1/ ص47-48. 2 المتلئب: المستقيم.

لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال المماطلة لما طال من الأثر، وهو قطعه طولًا"1. ولا ريب أن في مراعاة اللين أو القوة، والخفة أو الشدة، والهمس أو الجهر، في التعبير عن هذه الطائفة من المعاني التي سبقت الإشارة إليها، دليلًا واضحًا على المحاكاة الإنسانية المقصودة لأصوات الظاهرات المعبر عنها. ونحن لا نحتاج إلّا كبير عناءٍ حتى نلمح العلاقة الطبيعية بين الألفاظ الموضوعة لمحاكاة الأصوات التي تصدر من الحيوانات، فالعصفور يزقزق، والحمام يهدل، والقمريّ يسجع، والهرة تموء، والكلب ينبح، والعجل يخور، والذئب يعوي ... إلخ. وأنت إذا قابلت مصادر هذه الأفعال: الزقزقة، والهديل، والسجع، والمواء، والنباح، والخوار، والعواء، بالأصواء التي تسمعها من الحيوانات أيقنت بأنها تقارب كثيرًا أصول تلك الأصوات. وقلْ مثل ذلك في هزيم الرعد، وحسيس النار، وخرير الماء، في حكاية أصوات الطبيعة، وفي شهيق الباكي، وتأوه المتوجع، وحشرجة المحتضر، ورنين المريض؛ وكرير المختنق، وتمتمة الحائر، وغمغمة الغامض، في حكاية الأصوات المعبرة عن الانفعالات الإنسانية المختلفة؛ وفي قدّ القميص، وقطّ القلم، وقطف الثمرة، وقطع الغصن، وقضم اليابس، وقطم العود، وفري الدم، وفرث البطن، وفرد الباب، وفرس العنق، وفرض الفضة، وفرض الخشبة، وفرع الرأس, في حكاية الأصوات الصادرة عن إحداث القطع.

_ 1 الخصائص لابن جني جـ1/ ص549-550.

من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية

من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية: د- ولكي يصح القول بالثنائية التاريخية في نشأة اللغة، كان ينبغي لهذه الثنائية أن تلازم وحدة المقطع المؤلف من صوتين بسيطين فقط. ولكننا في الاستشهاد على هذه الظاهرة أوردنا الكثير من المواد الثلاثية، ونقلنا عن القائلين بها بعض المواد الرباعية، فهل من رابط منطقي لا ينفك يلمح بين تلك الصيغ المزيدة وبين أصولها الثنائية في نشأتها الأولى؟ إن أصحاب هذا الرأي لا يعجزم إيجاد ذلك الرابط، مهما يك بعيدًا موغلًا في التكلف، فقد بدا لهم أن يتقصوا تلك الثنائية, وهي تنتقل من نطاق التاريخ إلى بطون المعاجم، فرأوها أجدر أن تسمى "ثنائية معجمية"، وألفوا في كثير مما أوردناه من المواد الثلاثية والرباعية أصولًا ثنائية زيد عليها صوت أو أكثر، والتمسوا بين صورتها الأصلية المجردة وصورتها المتطورة المزيدة جامعًا معنويًّا مشتركًا؛ حتى إذا وجدوه اقتنعوا بأن زيادة المادة الصوتية ربما أوحت بفارق معنوي جديد، ولكنها غالبًا تحتفظ بجوهر المعنى الأصلي القديم. وقد نبَّه الأب أنستاس ماري الكرملي إلى معرفة حذاق اللغويين العرب المقتدمين لهذه الثنائية المعجمية، "فممَّن قال بها ولم يحد عنها قيد شعرة، الأصبهاني صاحب كتاب غريب القرآن1، فإنه بنى معجمه على اعتبار المضاعف هجاءً واحدًا، ولم يبال تكرار حرفه الأخير،

_ 1 يريد بالأصبهاني "الحسين بن محمد بن الفضل، المعروف بالراغب", وهو أديب كبير كان يقرن بالغزالي، لسعة علمه, وكتابه "المفردات في غريب القرآن" مطبوع، وطبع كذلك من كتبه "محاضرات الآدباء ", ومقدمة تفسيره المسمى: "جامع التفاسير". ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "حل متشابهات القرآن" و"تحقيق البيان". اختلف في تاريخ وفاته، وفي "كشف الظنون 1/ 36": سنة نيف وخمس مئة, وفي "روضات الجنات 249"، أنه توفى سنة 602هـ.

فهو عنده من وضع الخيال، لا من وضع العلم والتحقيق، أي: أنه إذا أراد ذكر "مَدَّ يَمُدُّ مَدًّا" مثلًا في سفره، ذكرها كأنها مركبة من مادة "مَدْ" أي: ميم ودال ساكنة، ولا يلتفت أبدًا إلى أنها من ثلاثة أحرف، أي "م د د"، كما يفعل سائر اللغويين, ولهذا السبب عينه يذكر "مَدَّ" قبل "مَدَحَ" مثلًا، ولا يقدم هذه على تلك، على ما نشاهده في معظم معاجم اللغة؛ كالقاموس، ولسان العرب، وأساس البلاغة، وتاج العروس، وغيرها"1. وكان الأب أنستاس يدافع عن هذا الرأي في المجامع، ويدعمه في الأندية، ويفصل دقائقه، ويوضح كثيرًا من مناحيه في الصحف والمجلات منذ سنة 1881. 2 ولم يكن الأب مرمرجي الدومنيكي أقل حماسة من الكرملي في الدفاع عن هذا المذهب، وقد كتب فيه المباحث الكثيرة، ثم جمع طائفة منها في كتب ثلاثة صغيرة، نشرها بعنوان: "أبحاث ثنائية ألسنية"، وقد طبع أوله سنة 1937، ثم الثاني سنة 1947, وتلاه الثالث سنة 1950. وعوَّل الأب مرمرجي على طريقة الألسنية السامية: philologie semitique" أي: علم مقابلة والألسن السامية بعضها ببعض، لدعم نظريته في رَدِّ الثلاثيات إلى الثنائيات3. ومن طريف ما لاحظه أن "المضاعف العربي الذي يقال: إنه مركب من ثلاثة أحرف أصلية لا تجد مقابلة في السريانية إلّا بحرفين

_ 1 نشوء العربية ونموها 2. 2 نفسه ص1. 3 ابحاث ثنائية ألسنية ص6.

اثنين لا أكثر. مثلًا مقابل مَصَّ = مَصْ، وبحذاء حَمَّ = حَمْ، وبإزاء مَسَّ = مَسْ, وهكذا كل المضاعفات التي هي بالحقيقة ثنائيات، والثنائي وارد في كل الساميات، متصفًا بمعنى حقيقي وتام "1. ومن البراهين الحسية التي أوردها على سلامة هذه النظرة ما ضاعه العلماء من الأفعال المضاعفة والمكررة, مستخرجين عناصره الأولية من أسماء الأصوات، ودعاء الحيوانات، وزجرها، وبعض أسماء الأفعال، فهي جميعًا ثنائية. فمثلًا: أف: كلمة تكرُّه، بخ: لاستعظام الشيء, صع: اسم صوت يزجر به الجمل عند ترويضه، صه: أمر بالسكوت, مه: أمر بالكف. فمن هذه الثنائيات صيغت أفعالٌ, إما بتحريك الساكن وتشديده، وإما بتكرار الثنائي ذاته وتحريك الآخر، فقيل: أُفَّ، بَخَّ، صَعَّ، صَهْصَهَ، مَهْمَهَ3. لذلك أطلق بعض الباحثين العصريين القول بأن: "الذي يتقرّى كلم العربية بإمعان نظر, يجد أن لمعظم موادها أصلًا يرجع إليه كثير من كلماته إن لم نقل كلها, خذ على ذلك مثلًا مادة "فل" وما يثلثها، تجد الجميع يدور حول معنى الشق والفتح, مثل: فلح، فلج، فلع، فلق، فلد، فلى, ومثل ذلك مادة "قط" وما يثلثها, تقول: قطَّ، قطع، قطر، قطف، قطن، وكلها بمعنى الانفصال3. وكل حرف زيد على الأصل الثنائي يجري على قانون التطور اللغوي

_ 1 من كلمة الثنائية ألقاها في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ص8. 2 الكلمة السابقة ص8. 3 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 13/ 220 "بحث طه الراوي", وقارن بأصول النحو 125 ح1.

تتويجًا، أو إقحامًا، أو تذييلًا، مع بقاء اللُّحمة المعنوية بين الثنائي والثلاثي، كما هي مستمرة بين الثلاثي والرباعي، وما فوقه من المزيدات, فكان من أسرار العربية، تبعًا لهذا، أننا كلما ردَّدنا موادها المزيدة إلى الصورة الثنائية التاريخية، وجدنا الحرف الذي ثَلَّثَ أصلها, ما يبرح ذا قيمة تعبيرية ذاتية توجه المعنى الأصلي العام توجيهًا خاصًّا، وتزيده تنوعًا وتقييدًا2. فهذا ابن فارس في "المقاييس" يرد أصل "باب القاف والطاء وما يثلثهما" إلى معنى القطع، فيراه في "قطع" الذي يدل على صَرْمِ وإبانة شيء من شيء 3، وفي "قطف" الذي يدل على أخذ ثمرة من شجرة4، وفي "قطل" الذي يدل على قطع الشيء5، وفي "قطم" الذي يدل على قطع الشيء أيضًا6، فالعين والفاء واللام والميم جاءت أحرفًا زائدة على الأصل الثنائي "قط" فخصَّصَت" معنى القطع ونوَّعته بين الصرم والإبانة والأخذ، وردَّدته لأصواتها بين درجات الشدة والغلظة في إحداث القطع. وهذا ابن فارس أيضًا يرد أصل "باب الفاء والراء وما يثلثهما" إلى معنى التمييز والإفراد، وإذا بهذا المعنى يصير تفتحًا في الشيء وشقًّا في "فرج" بسبب الجيم7، ويصير بمعنى التوحد في "فرد" بسبب

_ 1 من كلمة الأب مرمرجي في الثنائية, ص9. 2 قارن بفقه اللغة "للمبارك" ص74, واقرأ بإمعان ما ذكره من الأمثلة. 3 المقاييس 5/ 101, ومن ذلك تقاطع الرجلان: إذا تصارما, وأقطعت الرجل إقطاعًا، كأنه طائفة قد قطعت من بلد, والمقطعات: الثياب القاصر, وكذلك مقطعات أبيات الشعر. 4 المقاييس 5/ 103, ومنه القطافة: ما يسقط من القطوف, والقطف: الخدش. 5 المقاييس 5/ 103, ومنه المقطلة: حديدة يقطع بها. 6 المقاييس 5/ 103, ومنه: قطم الفصيل الحشيش بأدنى فمه يقطمه. 7 المقاييس 4/ 498, وأهم ما في الباب الفرجة في الحائط وغيره.

الدال1، وبمعنى عزل الشيء عن غيره في "فرز" لمكان الزاي2، وبمعنى الدق في "فرس" لمكان السين3، وبمعنى اقتطاع شيء عن شيء في "فرص" بواسطة الصاد4، وبمعنى تأثير شيء في شيء من حزَّ أو غيره في "فرض" لصوت الضاد5، وبمعنى إزالة شيء عن مكانه وتنحيته عنه في "فرط" لقوة الطاء6، وبمعنى التمييز والتزييل بين شيئين في "فرق" للأصيل المجهور المقلقل في القاف7. ومن ذلك أنه يردّ باب الجيم والذال وما يثلثهما في "المجمل"8 إلى معنى "الأصل", فتجده واضحًا في "جذر" ومنها جذور اللسان: أصله، وفي "جذع" ومنها جذع النخلة: أصلها، وفي "جذل" ومنها جذل كل شيء: أصله، وفي جِذْم الشيء: أصله. بيد أن معنى "الأصل" يتفاوت قوة وضعفًا، وكثرةً وقلةً، وقربًا وبعدًا، وبين هذه المواد المذكورة، كأن الحرف المزيد الذي ثَلَّثَ أصلها الثنائي قد عيّن كيفها، ووصف كمَّهَا، ورسم حدَّها: فالجذل أصل عام للشجر، ولكنه للنخل جذع، والعين الحلقية أقوى من اللام المذلقة. والجذر أصل الحساب، حين تقول مثلًا: عشرة في عشرة مئة،

_ 1 المقاييس 4/ 500, ومنه الظبية الفارد: المنقطعة عن القطيع. 2 المقاييس 4/ 485, ومنه الفرزة: القطعة. 3 المقاييس 4/ 485, ومنه فرس الأسد فريسته. 4 المقاييس 4/ 488, وأهم ما في الباب: المفراض للحديدة التي تقطع بها الفضة, والفريضة: اللحمة عند ناغض الكتف من وسط الجنب. 5 المقاييس 4/ 488, ومنه المفرض: الحديدة التي يحز بها. 6 المقاييس 4/ 490, وأهم ما في الباب: فرطت عنه الشيء: نحيّته. 7 المجمل لأحمد بن فارس 1/ 146-147.

ولكن الجذع من الإبل هو الذي أتى له خمس، ومن الشاء ما تمت له سنة، ففي من معنى التكرار ما لا نظير له في العين على قوتها، إذ العين -كجميع أخواتها الحلقية- تخرج من الحلق دفعة واحدة تنبر بها نبرًا، ولا ريب أن في التكرار مضاعفة وكثرة، وأن في النبرة الواحدة تضاؤلًا وقلة. ومعنى "الأصل" في الجذام عند تقطع أصول الأصابع أقرب إلى الفهم من معناه لدى تسمية الرجل القصير بالمُجْذَر، وإن لوحظ فيه انقطاع شيء من أصل القامة الإنسانية المعتادة, ولا يبعد عند الاشتقاقين، كابن فارس وأضرابه، أن يكون الفارق بين المعنيين الأخيرين إنما جاءهما من شَفَويَة الميم وذلقية الراء1. وعندما اطَّلَع الباحثون المعاصرون على أمثال هذه الفروق الدقيقة التي أوضحها اللغويون المتقدمون، فظنوا إلى أن موقع الحرف الثالث الزائد على الأصل الثنائي تنويعًا للمعنى، وتحديدًا للفارق، يغلب أن يكون تذيلًا في آخر الكلمة، وإن جاء أحيانًا حشوًا في وسطها، أو تصديرًا في أولها. ولا حاجة للتمثيل على القيمة التعبيرية للحرف المزيد في آخر الكلمة، فأكثر ما أوردناه من الشواهد يدخل هذا الباب. أما الحرف المقحم حشوًا في وسط الكلمة بين حرفيها الأصليين، فمن أمثلته: شلق, من شقّ, فرق: من فَقَّ. قَرَطَ, من قط. قرص: من قص, شرق: من شق, لحس ولهس: من لس.

_ 1 ارجع إلى المصدر نفسه لتتبع الفروق الدقيقة بين معاني الأمثلة المذكورة, وفي ضوء هذا المقياس الذي وضعها الاشتقاقيون، يمكنك أن تكتشف الرابط المشترك بين جميع المواد التي ذكرها ابن فارس في هذا الباب، فقد اكتفينا بذكر بعضها, كما يمكنك أيضًا أن تلتمس الفروق بينها ولو تقاربت معانيها.

وأما الحرف المتوّج للكلمة صدرًا في أولها، فمن امثلته: رفت: من فت, لهب: من هب, رفض: من فض, لمس: من مس, فطح وبطح: من طح, نذل: من ذل, غلف: من لف1. ويكاد الاستشهاد بجيمع الأمثلة السابقة يكون قائمًا على اعتبار المضعَّف الثلاثي ثنائيًّا، فإذا زددنا مثلًا "فرق" إلى فق" فهو في الحقيقة "فق" بالتضعيف؛ إذ لم نقع في معاجمنا على مادة "فَقْ" مقطعًا صوتيًّا مؤلفًا من متحرك فساكن؛ قس على ذلك "لهب" مثلًا حين نأخذها من "هب", فإنها في معاجمنا "هَبَّ" بتضعيف الباء. قال ابن دريد: "الثنائي الصحيح لا يكون حرفين البتة إلّا والثاني ثقيل "أي: مضعف", حتى يصير على ثلاثة أحرف؛ اللفظ ثنائي والمعنى ثلاثي, وإنما سُمِّيَ "ثنائيًّا" للفظه وصورته, فإذا صرت إلى المعنى والحقيقة كان الحرف الأول أحد الحروف المعجمة، والثاني حرفين مثلين أحدهما مدغم في الآخر، نحو: "بَتَّ يبت بتًّا" في معنى قطع، وكان أصله "بتت", فأدغموا التاء في التاء فقالوا: بتَّ, وأصل وزن الكلمة فعل، وهو ثلاثة أحرف, فلما مازجها الإدغام رجعت إلى حرفين في اللفظ, فقالوا: بَتَّ، فأدغمت إحدى التائين من الحروف المعجمة"2. وعَدُّ المضعف الثلاثي من باب الثنائي ليس غريبًا على العصريين، ما داموا يحاذون الأصل العربي على سمت نظيره في اللغات السامية، فقد رأينا الأب مرمرجي يعقد أمثال هذه المقارنات؛ إذ وجد بحذاء "مَصَّ" العربية "مَصَّ" السريانية، وبإزاء "مَسَّ" بالعربية, "مَسَّ" السريانية، وهكذا دواليك3.

_ 1 جرجي زيدان، الفسلفة اللغوية 57. 2 جمهرة اللغة 1/ 13 "باب الثنائي الصحيح". 3 راجع ما ذكرناه قريبًا.

ولم يكن هذا بالغريب أيضًا على بعض المتقدمين من لغويي العرب, فإنهم كانوا يفتتحون المادة الثلاثية بالمضعفات منها، كأنَّ تكرار الحرف لا يخرج الصيغة عن أصلها الثنائي, ونرى ذلك أوضح ما يكون وأصرحه في "جمهرة اللغة" لابن دريد، وفي "المقاييس" لابن فارس. فأما ابن دُرَيْد, فقد أخذ بيد الناظر في كتابه إذا آثر التماس حرف ثنائي، فأرشده إلى البدء بالهمزة والباء إن كان الثاني باء ثقلية "مضعفة", أو الهمزة والتاء، وكذلك سائر الحروف1. وعلل ابن دريد منهجه هذا بما جاء في الكتاب2, وفي السمع على لفظ الثنائي وهو ثلاثي؛ لأنه على ثلاثة أحرف، أوسطه ساكن، وعينه ولامه حرفان مثلان، فأدغموا الساكن في المتحرك فصارا حرفًا ثقيلًا3. ثم يطبق صاحب الجمهرة منهجه هذا على المواد التي يفسرها، فيفتتح باب الثنائي الصحيح بمادة "أب ب"4، ويتبعها بـ"أت ت" ثم "أث ث" ثم "أج ج"5، وهكذا إلى آخر المواد المستعملة في المعجم العربي مبدوءة بالهمزة، فيقف عند مادة "أي ي"6؛ ثم ينتقل إلى "باب الباء وما يتصل بها من الحروف في الثنائي الصحيح"، فيبدأ بمادة "ب ت ت"7، ويختم البا بـ"ب ي ي"8، وكذلك يفعل بالتاء والثاء والجيم إلى آخر المعجم، وفي هذا كله يشير إلى الصور

_ 1 مقدمة الجمهرة ص3. 2 الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة. 3 مقدمة الجمهرة 13. 4 الجمهرة 1/ 13. 5 نفسه 1/ 14. 6 نفسه 1/ 22. 7 نفسه 1/ 22 أيضًا. 8 نفسه 1/ 38.

المعكوسة والألفاظ المماتة أو المهملة. وأما ابن فارس فيستهل "مقاييسه" في أول كتاب الهمزة بقوله: "باب الهمزةن في الذي يقال له المضاعف"1، فيبدأ بـ"أبّ" ويذكر أن للهمزة والباء في المضاعف أصلين، أحدهما المرعى، والآخر القصد والتهيؤ, ثم يتبع هذه المادة بالمستعملات من المضعَّفَات بعدها, نحو: "أتَّ"2، "أثَّ"، "أجَّ"3، "أحَّ"4، "أخَّ"5، إلى آخر الهجاء العربي، مما يراجع في موضعه. وإذا كان الثلاثي المضعف -في الأمثلة التي ذكرها ابن دريد وابن فارس وأمثالهما- صورة ثنائية غير صريحة ولا مباشرة، فإن من الممكن أحيانًا أن نرد الثلاثي إلى أصل ثنائي صريح "متحرك فساكن" في حكاية بعض الأصوات الطبيعية6 -وهي قليلة محفوظة مثل: طَقْ، دَقْ، لَبْ- فمنها: طرق ودلق ولزب، وهي تخلو من التضعيف في آخرها، كما تخلو من حروف اللين7 في وسطها، ونرى مع ذلك أن حروف اللين -لضعفها- لو وجدت فيه لا تخرجها عن ثنائيتها مثل "غاق" وشيب وعيط"8.

_ 1 المقاييس 1/ 6. 2 نفسه 1/ 7. 3 نفسه 1/ 8. 4 نفسه 1/ 9. 5 نفسه 1/ 10. 6 لكن رد الثلاثي المضعف إلى أصل ثنائي صريح يحكي صوتًا طبيعيًّا، ليس يقاس عليه لدى أكثر العلماء؛ لأن حكايات الأصوات ليست أصولًا, والقياس لا يكون إلّا في الأصول. المقاييس 1/ 362-33, وقارن بما ذكره هناك حول أه وآء. 7 سنرى أن أحرف اللين هي الألف الساكنة ما قبلها، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء الساكنة المكسورة ما قبلها, وتسمى أيضًا أحرف مد، وجوفية، وهوائية. 8 الاشتقاق "لعبد الله أمين" 128, ولفظ "غاق" حكاية صوت الغراب، وشيب: حكاية صوت مشافر الإبل عند الشرب, وعيط من العطعطة: وهي تتابع الأصوات واختلاطها في الحرب.

ويناظر حروف اللين في الضعف أحرف العلة الثلاثة: الألف والواو والياء، فتذييلها آخر الكلمة لا يخرجها عن ثنائيتها. لذلك جرى أصحاب المعاجم على إفراد باب خاصٍّ للمواد المعتلة، يؤخرونه إطلاقًا؛ كما فعل ابن منظور في "اللسان", والفيروزابادي في "القاموس المحيط"، أو يرجئون ذكره إلى آخر كل بابٍ على حدةٍ قبل الانتقال إلى باب جديد، فلا يوردون المواد المعتلة إلّا بعد سردهم جميع المواد السالمة الصحيحة, كما فعل بعض المعجميين الاشتقاقين. وقد انفرد ابن دريد، من بين أولئك الاشتقاقيين بمزية هامة حقًّا، حين لم يكتف بإتباع الصحيح بالمعتل، بل حرص على إتمام القول في الثنائي المعجمي صحيحًا ومعتلًّا قبل أن ينتقل إلى الثلاثي، فإذا ختم باب الثنائي الصحيح فاجأنا بباب "الثنائي المعتل وما تشعب منه"1، كأن الثنائية المعجمية لديه أمر قطعي صريح لا يقبل الجدل، وكأنه ما يزال يستأنس بذلك على صحة هذا المذهب وسلامة النظرة إليه. ولعل نظائر هذه الاعتبارات هي التي حملت الأستاذ عبد الله العلايلي على أن يرد إلى المعلَّات أكثر الثنائيات، وأن يفسر نشأة الثلاثي من الثنائي بوساطة تلك المعلَّات، حتى دعا إلى اتخاذ هذه المعلَّات المحفوظة في المعاجم المختلفة عُدَّةَ الدارس لفهم الثلاثي على وجهه؛ لأنه الأصل التاريخي الذي انفصل عنه. والنتيجة التي انتهى إليها العلايلي تتخلص في أن مطلق الثلاثي نشأ عن الثنائي على هذه الصورة التي عليها المعلًّات بزيادة حرف من الهجاء

_ 1 جمهرة اللغة 169, وابن دريد يبدأ الباب هنا بالباء والهمزة والحرف المعتل "ب أوي"، ومراده من ذلك "ب أو" للمعتل بالواو، و"ب أي" للمعتل بالياء, ويتبعه -على الطريقة نفسها- بمادة "ج أو", "ج أي" 1/ 171, ثم "ح أو"، "ح أي"، وهكذا حتى تنتهي المستعملات من معلَّات المعجم العربي عند المادة "هـ أو"، "هـ أي" 1/ 192, ومنها ينتقل ابن دريد إلى أبواب الثلاثي الصحيح وما تشعب منه 1/ 193.

غالبًا من يكون حشوًا في وسط الكملة1. ولكنه وقع في تكلف عجيب حين أخذ في تطبيق رأيه على بعض الأمثلة؛ فجعل "عبل" مأخوذة من "علا" المعتلة، أو أصلها "عل"، أما الباء فهي عين الكلمة مكنوفةً بالفاء واللام، كأنهما سياج لها، فسلمت من الحذف مع أنها هي الحرف المحشوّ المزيد، وبُذِلَ الحرف المعتل للعوارض حتى حذف، فكأن حرف الباء المزيد الصحيح المحشو تعويض عن حرف العلة الساقط المحذوف2. ولو أسقطنا حرف الباء المزيد -قياسًا على سقوط الحرف المعتل- لظهرت لنا الكلمة الثلاثية على صورتها الثنائية الحقيقة، فإذا هي "عل" فقط. فأيّ جامع يجمعها بعد هذا بهاتين المادتين "عبث وعبد" وما أشبههما من المواد التي تتوسطها الباء؟ إن "عبث" تعود حينئذ إلى "عث" وصورتها "عثا", أما "عبد" فتعود إلى "عد" وصورتها المعتلة "عدا". وإنما رمينا هذه النظرية بالتكلف؛ لأن تطبيقها العملي لا يتم -كما رأيت في المثال- إلّا بتجريد حرف الوسط، ثم تناول المادة ومعها المعلات التي وقع فيها الحرفان على ترتيبهما، مع أن تجريد مادة ما من حرف الوسط إنما يكون بمنزلة الحذف والإسقاط لذلك الحرف المحشو! فكيف يسلخ من بنية المادة جزء لا يتجزأ منها، ثم تظل هذه المادة معبرة -دونه- عن غرضها تعبيرًا دقيقًا كاملًا؟!

_ 1 مقدمة لدراسة لغة العرب 200-203. 2 توضيحًا للمقام، وزيادة في البيان، آثرنا هنا تخليص رأي العلايلي بعبارات صريحة, استعرنا أكثرها من ابن جني لدى بحثه تكرير العين في الكلمة، فقد خصوا بذلك العين لأنها أقوى من الفاء واللام، "وذلك لأنها واسطة لهما ومكنوفة بهما، فصارا كأنهما سياج لها, ومبذولان للعوارض دونها، ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونهما" الخصائص 1/ 547, وقارن بالمزهر 1/ 49-50.

ربما خُيِّلَ إلى الباحث أن في وسعه الدفاع عن هذه النظرية بذهابه إلى أن تجريد حرف الوسط -على نحو ما رأيت في المثال- ليس إلّا ضربًا من الافتراض العقلي يرد به الثلاثي إلى أصله الثنائي في صورة ذهنية، لا واقعية, وحينئذ لا نرتاب نحن في أن النظرية عقلية بحث، واحتمالية صرف؛ فما هي -بشهادة أصحابها- من الواقعية في شيء، ولا تمت إلى الحقيقة التاريخية بسبب. فأنى لنا بعد هذا، أن نَرُدَّ "عبل"، و"عبث" إلى "عثا"، و"عبد" إلى "عدا"؟ وأين كانت مواقع الباءات في الأصل قبل حشوها في أوساط هذه الكلمات؟ ولم زيدت عليها، دون غيرها من الحروف، مع أنها لم تكن قبل فيها، وما لنا، وقد رأيناها مزيجة بطريقة ما، لا نزال نتصور أن نفترض انسلاخها من الأبنية التي تأصلت فيه حتى استحالت جزءًا من صيغها؟ إن الأمر لا يعدو عن الاحتمال والظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا. من الإنصاف للاستاد العلايلي أن نؤكد استشعاره ما في هذه النظرية من "الأخذ الاحتمالي"؛ لأنها تقابل لديه الطريقة التي قررها أكثر اللغويين في دراسة المزيج على الثلاثي بأحرفه جميعًا "الفاء والعين واللام"، فلم تكن تلك الطريقة "التقليدية" إلّا أخذًا احتماليًّا أيضًا. والعلايلي لا ينكر أن هذا الأخذ الاحتمالي الشائع "قد يبدو على بعض الكلمات ضررويًّا حين لا يظهر تمام الجامع في الحشو"1. ومن الإنصاف له مرةً أخرى أن نشيد ببعد نظره، وسداد رأيه، حين لم يبال في العمل اللغوي بشيء من هذه الاحتمالات "قديمة وحديثة"، فقد صرَّح بقلة غنائها، وخلص إلى أن الثنائية، كما فهمها هو أو غيره من الباحثين، لم تكن سوى مرحلة تاريخية، وأكد بلهجة قاطعة

_ 1 مقدمة لدراسة لغة العرب "حاشية ص201".

أن العربية لم تعد على شيء سوى الثلاثي1. وللباحثين المحدثين نظرات في اللغة يحسبونها أصلية بكرًا، حتى إذا درسوا آثار القدماء وتصانيفهم تبيَّنَ لهم أن الأولين لم يتركوا للآخرين كثيرًا، وأن علماء السلف الصالح قتلوا هذه الدرسات اللغوية بحثًا كما يقولون، حتى أتوا على جُلِّ ما نقترضه الآن من النظريات، واحتجوا لكل افتراض بشواهد تنطق بصوابه أو فساده. من تلك النظرات التي يحسبها المحدثون جديدة، ما لاحظه بعضهم في أخذ الثلاثيات من الثنائيات من آثار النحت, فكثير من الصيغ الثلاثية منحوت من أصلين ثنائيين نحو: "قطف", ويفيد القطع والجمع، والأصل فيه: "قط+ لف"، الأول قطع، والثاني جمع, وبالاستعمال أهملت اللام ونقلت حركتها إلى ما قبلها فصارت قطف ... وهكذا في "بعج" فإنها ترد إلى "بَعْ بَجْ"2. إن مثل هذا المذهب ليس في الواقع إلّا صدًى لآراء بعض اللغويين القدماء في النحت، وفي طليعتهم ابن فارس الذي يؤكد "أن للرباعي والخماسي مذهبًا في القياس، يستنبطه النظر الدقيق, وذلك أن أكثر ما تراه منه منحوت, ومعنى النحت: أن تؤخذ كلمتان وتنحت منهما كلمة تكون آخذةً منهما جميعًا بحظ"3. والباحثون العصريون، رغم اقتباسهم أصول هذا المذهب من الكتب

_ 1 المصدر نفسه 203. 2 الفلسفة اللغوية 58. 3 المقاييس 1/ 328-329, وقد ذكر ابن فارس طائفة من الأمثلة نختار منها: "بحثرت الشيء" إذا بددته. فهذه منحوتة من كلمتين: إحداهما: بحث الشيء في التراب, والأخرى: البثر الذي يظهر على البدن؛ وهو عربي صحيح معروف, ولنا إلى هذا الموضع عودة في "فصل النحت".

اللغوية القديمة1، خيل إليهم أنهم قد ابتكروه؛ لأنهم حين عرضوه أحدثوا فيه شيئًا من التبديل، فما ردوا الرباعي وما فوقه إلى كلمتين ثلاثيتين، بل ضيقوا دائرة البحث وردوا الثلاثي الذي لم تَعُد العربية على شيء سواه إلى كلمتين ثنائيتين، مبالغة في تقصير الكلمات، وإثبات ضآلتها وقلة أصواتها في نشأتها الأولى. ولا ينادي بمثل هذا الرأي على ذاك النحو في الغلو إلّا مولع بضروب الاشتقاق، مأخوذ بما في الألفاظ من دلالة سحرية، مؤمِنٌ بأن السوابق واللواحق بقايا كلمات قديمة مستعملة 2, ولكن الغلو في الاشتقاق والنحت لا يأتي بخير3، وكذلك الذهاب إلى تقصير الألفاظ في نشاتها الأولى لم تقم الأدلة دامغةً على صحته، وإن كان أنصاره كثيرين في الشرق والغرب, ولقد قام مذهب يعاكس اتجاهه ويعارضه جملة وتفصيلًا. فمن علماء اللغة الغربيين اليوم مَنْ يرجِّحُ أن الكلمات بدأت طويلة في أصل بنائها، ثم أسهمت طائفة من العوامل المختلفة في تقصيرها, فكان في معظم اللغات ألفاظ كثيرة الحروف في أقدم نصوصها وأشدها إيغالًا في الماضي السحيق، ثم تطورت اللغات, وكان من أمارات تطورها ميلها نحو التقصير من بنية كلماتها، وتيسير أصواتها، وتجريديها من تنافر الحروف4. ومع علمنا بأنه لا يكفي لإثبات النظرية الثنائية -تاريخيه أو معجمية- أن نسوق عشرات أو مئات من الألفاظ فيها هذه الظاهرة في

_ 1 وقد اعترف جرجي زيدان بأن هذا النحت رأي بعض اللغويين في الرباعي، لكنه لم ير مانعًا من إطلاقه على الثلاثي أيضًا "الفلسفة اللغوية 58". 2 فندريس 216. 3 قارن بمنهج البحث في اللغة "مييه" ترجمته مندور "108". Jerpersen. Language, its natueue etc., 415.

كلمات لغتنا على حدة, أو في كلمات اللغات السامية عند المقارنة، نميل إلى الاعتقاد بأن اللغات تتفاوت في أنماط نشأتها وتطورها، وأن ما يصدق على اللغات الإنسانية المختلفة ربما لا يصدق تمامًا على لغتنا, فلا يبعد أن تكون هذه الظاهرة الثنائية أوضح في نشأة لغتنا, أو اللغات السامية خاصةً منها في نشأة اللغات الإنسانية الأخرى عامة. ولا ريب في أن لكلِّ لغة أسلوبًا خاصًّا في تأليف الألفاظ والتراكيب, وأن المألوف في لغة ما قد يكون مستهجنًا في غيرها، وأن طائفةً من الأصوات تجتمع وتتناسق في ألفاظ بعض اللغات, على حين تأبى التجمع والتناسق في ألفاظ لغات أخرى. إلى مثل هذه الفروق الدقيقة بين اللغات المختلفة وجَّهَ العلماء أنظارنا حين جزموا بأن هذا من كلام العرب، وذاك ليس من كلامهم في شيء؛ فهذا ابن دريد مثلًا, ينفي ائتلاف الكاف والقاف في كلمة واحدة إلّا بحواجز، ويقول باطمئنان: "ليس في كلامهم "قك ولا كق"، وكذلك حالهما مع الجيم؛ ليس في كلامهم "جك ولا كج" إلّا أنها قد دخلت على الشين لتفشي الشين وقربها من عكدة اللسان ... "1. وكان من اليسير، بعد هذا، أن يحصوا الكلمات الغريبة عن النسج العربي, وأن يحكم بعضهم بندرة اجتماع بعض الأصوات، كما حكم الخفاجي بندرة اجتماع الراء مع اللام، إلّا إذا تخللها حرف من حروف الذلاقة في الرباعي والخماسي2. فإذا صحَّ أن لكلِّ لغة نسيجًا خاصًّا في تآلف أصواتها, وفي نشأة مادتها الصوتية وتطورها, لم يبعد أن يصدق على لغتنا العربية في مطلع فجرها ما أكده ابن جني وأضرابه من قيمة تعبيرية للحرف الواحد،

_ 1 مقدمة الجمهرة ص6. 2 شفاء الغليل ص7.

بسيطًا ومركبًا، منفردًا ومجتمعًا، ولم يكن من الحق حكم أولئك الأعلام بوجود مناسبة طبيعية بن اللفظ ومدلوله1، فإن لكلِّ لغة أصولًا، وأوائل قد تخفى عنا، وتقصر أسبابها دوننا2. وكم كان هؤلاء العلماء يتهمون أنفسهم بالجهل حين يُنْعِمون النظر في هذه المناسبة الطبيعية, فلا تنقاد لهم فيما رسموه، ولا تتابعهم على ما افترضوه وتخيلوه! وإذا بقائلهم يقول: "فهذه الطرائق التي نحن فيها حَزْنَةُ المذاهب، والتورُّد لها وَعْرُ المسلك، ولا يجب مع هذا أن تستنكر ولا تستبعد! "3.

_ 1 هذا رأي فندريس في العلاقة بين اللفظ ومدلوله، فهو يعتقد أن الكلمة توقظ في الذهة صورة ما، وهي ما تزال مستقلة عن المعنى الذي تدل عليه. انظر: Vendryes, Langage, 237. 2 الخصائص 1/ 556. 3 نفسه 1/ 10.

بين الدلالة الذاتية والدلالة المكتسبة

بين الدلالة الذاتية والدلالة المكتسبة: هـ- ومع هذا الورع الشديد، هذا التواضع العلمي النادر، لم يسلم لغويو العرب من التكلف فيما عرضوه من مناسبة حروف العربية لمعانيها، فقد أحصى بعضهم مفردات اللغة ابتداءً من الحروف ذوات القيمة التعبيرية الحاصة، فكان إحصاؤهم "رياضيًّا" بحتًا، استوى فيه مجموع تلك المفردات هو ومجموع الاحتمالات الممكنة، "فما يمكن أن يتألف من حروفنا الهجائية يجاوز 12 مليونًا من الكلمات، قرَّرَ هذا الخليل من قبل، وتقرر صنعه الآن العمليات الحسابية الحديثة, ولكن المستعمل من الألفاظ لا يكاد يجاوز ثمانين ألفًا4، فيها يشبع حرف أكثر من حرف"5. والحق أن اللغة الإنسانية لا يمكن أن تحصى مفرداتها إحصاء "رياضيًّا"،

_ 1 هذا رأي فندريس في العلاقة بين اللفظ ومدلوله، فهو يعتقد أن الكلمة توقظ في الذهة صورة ما، وهي ما تزال مستقلة عن المعنى الذي تدل عليه. انظر: Vendryes, Langage, 237. 2 الخصائص 1/ 556. 3 نفسه 1/ 10. 4 وهو عدد مواد لسان العرب لابن منظور. 5 دلالة الألفاظ 73.

إذ لا قيمة للفظ لم يجر به الاستعمال، ولا مدلول للفظٍ شاع باستعمالٍ معين إذا قسر على إيحاء غير معناه الشائع الجاري، إنما اللفظ الذي تلتمس دلالته، ويستشعر ما بينه وبين دلالته من التناسب الطبيعي، هو اللفظ الذي جرى به الاستعمال حتى شاع فيه، وأطلق عليه، وعرف به. وإن علينا -حين نفهم دلالة الألفاظ على هذه الصورة- أن نفرق بوضوح بين القيمة التعبيرية الذاتية من نحو، والمكْتَسَبَة من نحو آخر، في كل من الحرف البسيط، والأصل الثنائي، والبناء الثلاثي، والصيغ المزيدة عل الأصول في استعمالها الوضعي الأول. وأفضل طريقة لمعرفة الفرق بين القيمة الذاتية والقيمة المتكسبة للفظ ما، تتمثل في تقصي الخطوات المَنْسِيَّة التي مر بها هذا اللفظ حتى تداولته الألسنة بمعنًى خاصٍّ ودلالة معبرة. وهذه الخطوات المنسية -على صعوبة الجزم بنوع المراحل التي مرت بها، طولًا وقصرًا، واتساعًا وضيقًا؛ وتصريحًا ورمزًا- لا تلقي على اللفظ من الأضواء ما يكفي لتحديد اللحظة التي وُلِدَ فيها، ولا لتعيين المدلول الذاتي الذي يناسبه بعد أن تَمَّ ميلاده، ولا لتبيان القرائن التي حملت الناطقين به على نقله من مفهوم إلى آخر، أو على توليد معنًى جديد من معناه الأصلي القديم1. وذلك يعني أنَّ لكل لفظٍ نشأة وميلادًا، وأن في كل لفظ اشتقاقًا وتوليدًا، وأن المناسبة الذاتية لا تلتمس إلّا في اللفظ عند نشأته الأولى، وأن هذه المناسبة فيما جدده الاستعمال من مدلولات ذاك اللفظ إنما تُحْتَمَلُ حملًا على المعنى الآصل الأقدم, ولا يخفى حينئذ على الباحث اللغوي أن المناسبة الأخيرة لم تنشأ مع اللفظ ولم تحضر ميلاده، بل اكتسبت إيحاءها ودلالتها من كثرة الاستعمال.

_ 1 قارن بما ذكره بللي في هذا الصدر: Bally, precis de Stylistique, 21-47

ومن الأمثلة الصريحة في ذلك ما رأيناه عند ابن جني خاصة من القيمة التعبيرية لحرف الفاء إذا مازج الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، فأكثر أحوالها -كما قال- أنها للوهن والضعف، لكنا وقعنا من معانيها على الطبيعي والمتكلف، ولا تجد الصلة بين اللفظ ومدلوله إلّا "مكتسبة" في كل ما وصمناه بالتكلف1. ولتجدنَّها ذاتية لا مجالة في واحد من تلك المعاني الطبيعية، وهو الذي يمكن عده أصل الاشتقاق في تقاليب هذه المادة وصورها التي جرى بها الاستعمال. وإما تَهُولنَّ الباحث كثرة الصور المتكلفة ذات الدلالة المكتسبة, فليعرض عنها حتى يجد في العربية مثلما يجد في غيرها من اللغات "نماذج" صريحة -وإن تَكُ قليلة- لألفاظ إنسانية اتضحت دلالتها التعبيرية الذاتية، وبلغت من الوضوح أن كانت لأصوات الطبيعة أشبه برجع الصدى أو ترداد النغم. هذا الضرب من الألفاظ التي تحكي الطبيعة اصطُلِحَ على تسميته Onomatopoeia"، وقد اعترف بوجوده في اللغات الإنسانية المختلفة كل باحثٍ محقق يدرس اللغة على أنها ظاهرة اجتماعية؛ حتى الذين عارضوا مذهب الصلة بين اللفظ ومدلوله في إطاره العام لم يستنكفوا أن يعترفوا بوجود هذا الحد الأدنى من "النماذج" اللفظية ذات الدلالة الطبيعية الصريحة2. فلنرض النتائج العلمية الباهرة التي انتهى إليها عباقرة سلفنا، ولنسلك سبيلهم في التزام الحيطة وأخذ الحذر قبل القطع في الصورة التي نشأت عليها لغة الإنسان، ولنلاحظ أنهم لم يدلوا برأي لا رجعة فيه حول النشاة الأولى للغات البشر، وأنّ ابن جني مثلًا -وهو من

_ 1 راجع ما ذكرناه سابقًا. 2 قارن بدلالة الألفاظ 66-67.

أثقبهم فهمًا؛ وأرسخهم علمًا، وأوسعهم أفقًا- يبدو كالمتردد الحائر الذي "يقف في الحالتين حسيرًا ويكاثرهما فينكفئ مكثورًا"1، فلم يجهر بإعلان ما نُسِبَ إليه وإلى أستاذه أبي عليّ الفارسي، وإلى الخليل وسيبويه من قبل من أنّ أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسوموعات، بل رأيناه لدى عرض هذا الرأي يعزوه في مستهلّ عبارته إلى بعضهم؛ كأنمما يمهد لما إليه من تقبله والأخذ به، ثم يجد مقنعًا في استحسانه بقوله: "وهو عندي وجه صالح ومذهب مُتَقَبَّلُ"2؛ فهو بين المذاهب الصالة أحدها, لكنه ليس المذهب الصالح الوحيد, وما هو لديه بالجدير أن يدافع عنه جهرة بإصرار وعناد. وإن هذه العبارة لتشي باحتمال استحسانه مذهبًا آخر, أو قل: مذاهب أخرى، ولا نلبث أن نجد هذا الاحتمال قد تردد في صدره, ثم تحقق فيما كتبه بنفسه مستحسنًا القول بأنَّ هذه اللغة العربية توقيف ووحي. قال ابن جني: "واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذ الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التعول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يطمح به أمام غَلْوَةِ السحر! فمن ذلك ما نبَّه عليه أصحابنا -رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتباعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وُفِّقُوا لتقدمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفُرِقَ لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة، بأنها من الله جلَّ وعَزَّ، فقوي في

_ 1 الخصائص 1/ 46. 2 الخصائص 1/ 44-45, وقارن بما ذكرناه سابقًا أيضًا.

نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه، وأنها وحي! 1. ولقد يظهر لنا هنا أن ابن جني لا يناقض نفسه، ولا يهدم ما كان تقبله من أن اللغة اصطلاحية؛ لأنه -وهو المسحور بالعربية، المأخوذ بأسرارها العجيبة المعجزة- وَدَّ لو يخصها بمزية في نشأتها، تجعلها آية البيان بين لغات الإنسان, فلم يعارض المذهب القائل "باصطلاحية" اللغات, وإنما أحاط نشأة العربية خاصة بشيء يسمو على الفكر، ويعلو عن السحر، ويكاد يلحقها بالمعجزات!! وإنه -في هذا كله- لكالباحث الذي يحرص الحرص كله على التجرد من عواطفه، فتأبى عليه عواطفه نفسها أن يتجرد، فيستسلم إلى وحي مشاعره استسلامًا لذيذًا يرى خلاله العربية لغة العبقرية او يرى في العربية عبقرية اللغات.

_ 1 الخصائص 1/ 45.

الفصل الرابع: المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق

الفصل الرابع: المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق الاشتقاق الأصغر: رأينا العلماء المتقدمين -في الفصل السابق- كيف أحاطوا العربية بشيء يشبه السحر تارةً، ويسمو عنه تارةً أخرى، عندما بحثوا المناسبة الطبيعية، بين حروف العربية ومعانيها في حالتي البساطة والتركيب، وطوري النشأة والتولد, ورأيناهم في التماس الأدلة على هذه المناسبة الطبيعة ربما خلطوا بين صورتي الذاتية والاكتساب, فجعلوا الدلالة المكتسبة المتطورة في قوة الدلالة الذاتية الأصلية، وفاتهم ما بين الدلالتين من فروق دقيقة لا تدرك على حقيقته إلّا بتتبع أصول الألفاظ، وأوائل وضعها، وضروب استعمالها، ومراحل تطورها. ولقد تكون مباحثهم في أنواع الاشتقاق، وما اكتنفها من الغلوّ

الذي سنراه في هذا الفصل، صورةً من خلطهم أيضًا من الدلالة الذاتية والدلالة المكتسبة، فكثير من قضايا الاشتقاق ردوه بلطف الصنعة إلى ما يشبه القول بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، كأنما ودوا لو يتجاهلون أن الاشتقاق وَضْعٌ لأنه أخذ صيغة من أخرى، فهو أجدر أن يكون ذا دلالة مكتسبة لا ذاتية، متطورة لا أصلية، منذ أن اكتسب بالوضع معنًى جديدًا متفرعًا عن الأصل القديم. وأيًّا ما خلط لغويو العرب بين الطبع والوضع، والأصل والفرع، في دراسة أبواب الاشتقاق، فلا غفران لنا اليوم -بعد أن اتسعت آفاق البحث اللغوي المقارن- في أن نعد الدلالة الاشتقاقية -وهي فرعية- كالدلالة الطبيعة التي كانت هي الأصلية. إنما ندرس الاشتقاق في ظلال دلالته الوضعية على أنه توليد لبعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصل واحد يحدد مادتها, ويوحي بمعناها المشترك الأصيل, مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد. وهذه الوسيلة الرائعة في توليد الألفاظ وتجديد الدلالات نجدها في أنواع الاشتقاق الثلاثة الشائعة: الأصغر، والكبير، والأكبر، وفي النوع الرابع الملحق بها، وهو النحت1 الذي يؤثر بعض المحدثين أن يسميه "الاشتقاق الكُبَار"2. والاشتقاق الأصغر أكثر أنواع الاشتقاق ورودًا في العربية، وهو محتجٌّ به لدى أكثر علماء اللغة "وطريق معرفته تقليب تصاريف الكملة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ كلها, دلالةَ اطراد أو حروفًا غالبًا؛ كضَرْب, فإنه دالٌّ على مطلق الضرب فقط، أما ضارب، ومضروب، ويضرب، وأضرب، فكلها أكثر دلالة وأكثر حروفًا،

_ 1 أصول النحو 126. 2 الاشتقاق "لعبد الله أمين" ص 389.

وضَرَبَ الماضي مُساوٍ حروفًا وأكثر دلالة، وكلها مشتركة في "ض ر ب" وفي هيئة تركيبها"1. وإذ كانت الصيغة المشتقة متفقة مع الصيغة المشتق منها في المادة الأصلية وهيئة التركيب، كما رأينا في "ضَرَبَ" وتصاريفه، كان لزامًا في كلِّ كلمة بها حروف المادة الأصلية، على ترتيبها نفسه، أن تفيد المعنى العام الذي وضعت له تلك الصيغة، وإن تخللها أو لحقها أو سبقها بعض الأصوات اللينة أو الساكنة؛ فالرابطة المعنوية العامة لمادة "ع ر ف"، التي تفيد انكشاف الشي وظهوره، تتحقق في جميع الكلمات الآتية: عَرَفَ، عَرَّفَ، تَعَرَّفَ، تَعَارَفَ، عُرِفَ، عُرْف، أَعْرَاف، عَرَّاف، تَعْريف، عِرْفَان، معرفة، وهكذا دواليك. على أننا في الوقت الذي نجد علماء اللغة يكادون يجمعون على وقوع الاشتقاق الأصغر في العربية وكثرته فيها وتوليده قسمًا كبيرًا من متنها، حتى "أفرد الاشتقاق بالتأليف جماعة من المتقدمين؛ منهم الأصمعي, وقطرب, وأبو الحسن الأخفش, وأبو نصر الباهلي, والمفضل بن سلمة, والمبرد, وابن دريد, والزجاج, وابن السراج, والرماني النحاس, وابن خالويه"2 نلفي طائفة قليلة من الباحثين القدامى ينكرون وقوع الاشتقاق بأنواعه كافَّةً زاعمين "أن الكلم كله أصل"، ولا يقل عن هذا الزعم غُلُوًّا وإغرابًا قول طائفة من المتأخرين اللغوين "كل الكلم مشتق". أما الراي العلمي الجدير بأن ننتصر له, فهو ما ذهب إليه المؤلفون في الاشتقاق الذين ذكرنا أسماءهم آنفًا من أن "بعض الكلم مشتق، وبعضه غير مشتق".

_ 1 المزهر 1/ 346. 2 المزهر 1/ 351. 3 المزهر 1/ 348, وقارن بمحنة الأديب 154/ 1.

وبعض الباحثين المعاصرين في فقه اللغة العربية، كالدكتور على عبد الواحد وافي، يؤثرون أن يسموا الاشتقاق الأصغر "بالاشتقاق العام"1 ولسنا نرى في التسمية الحديثة ما يجعلنا نستبدل بها التسمية القديمة، فإن وصف هذ الضرب من الاشتقاق بالأصغر كافٍ في رأينا لتمييزه من الاشتقاق الكبير والأكبر. وأهم ما الاشتقاق الأصغر ارتداد التصاريف المختلفة المتشعبة عن المادة الأصلية، إلى معنًى جامعٍ مشترك بينهما، يغلب أن يكون معنًى واحدًا لا أكثر، كما رأينا في تصاريف مادة "ع ر ف" أنها جميعًا تفيد الانكشاف والظهور، ولكن الباحث قد ينقِّب في بعض المعاجم عن طائفة من تصاريف هذه المادة ثم يجدها مردودةً إلى أكثر من أصل واحد، فلا يكون ملومًا إذ ذاك إن خُيِّلَ إليه أن كلًّا من الأصلين أو الأصول المقترحة يباين ما ذكرناه؛ أو يرتبط على الأقل ارتباطًا ضعيفًا بالمفهوم المشترك الذي أخذنا به في هذه المادة. إن ابن فارس يرى مثلًا أن "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكون الطمأنينة"2، لكن قوله هذا بتعدد الأصل لا يبدو لنا إلّا لونًا من الترف العقلي أو التزيّد العلمي, ربما أراد به ذلك العلامة الجليل أن يظهر قوة ساعده في تلمس الفروق الدقيقة بين المفردات التي يرجح البحث العلمي المنهجي أنها تفرعت من أصل واحد لا من أصول متفرقة. وإذا كان ابن فارس قد استشهد على الأصل الثاني "السكون والطمأنية" بنحو عشر كلمات، منها "المعرفة والعرفان" لأن من أنكر شيئًَا توحش منه ونبا عنه، و"العَرْف" وهي الراحئة الطيبة، لأن

_ 1 علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة ص197. 2 المقاييس 4/ 281. مادة "ع ر ف".

النفس تسكن إليها1، و"العُرْف" وهو المعروف؛ لأن النفوس تسكن إليه، و"تعريف" الضالة واللقطة ليعرف صاحبها، و"الاعتراف" بالشيء كأنه معرفة له وإقرار به، فإنه تكلف ما وسعه التكلف حتى وجد على الأصل الأول "تتابع الشيؤ متصلًا بعضه ببعض" شاهدًا في "عُرْف" الفرس الذي سُمِّيَ بذلك لتتابع الشعر عليه، وفي مجيء القطا "عُرْفًا عُرْفًا": بعضها خلف بعض؛ وردَّ إلى عُرْفِ الفرس "العُرْفَة" وهي الأرض المنقادة المرتفعة بين سهلتين. ولو أنصف لردَّ الأصل الأول إلى الثاني، مستبدلًا بلازم الثاني ملزمومه، وبدلالته المعنوية المجازية دلالته الحسية الحقيقية، فمعنى السكون والطمانينة في العِرْفَان والمعْرِفَة والعَرْف المشموم, والعُرْف بين الله والناس ليس إلّا نتيجةً لانكشاف الشيء وظهوره، تنشأ عنه نشوء الإلزم عن ملزومه2. وليس من المنطق في شيء أن يضع المتكلم لفظًا يدل على نتيجة الشيء قبل مقدمته، ومجازه قبل حقيقته، ولازمه قبل ملزومه. وحين نعيد مادة "عرف" إلى انكشاف الشيء وظهوره لا إلى أصل السكون والطمأنينية، يصعب علينا أن نربط بين عُرْف الفرس وعُرْفَة الأرض, ومجيء القطا عُرْفًا -لما فيها جميعًا من البروز والظهور- وبين ما في عرفان الشيء وتعريفه والمعروف والعَرْف الطيب من معنى البروز والظهور أيضًا. وإمكان الرجعة بالفروع المختلفة -مهما تتعدد صيغها- إلى أصل واحد يوحي بالرابط المشترك بينها، أمر في العربية ذو بالٍ يؤكد اختفاظ

_ 1 وقد فهم بعض المفسرين من قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أن التعريف هنا من العَرْف بفتح العين, وهو الريح الطيبة. انظر روح المعاني للآلوسي "25/ 43", وقارن بالمقاييس 14/ 281. 2 ويمكننا أن نلحق بذلك ما نقله ابن فارس من قولهم: النفس العروف: إذا حملت على أمر فاطمأنت به، والرجل العروف: إذا تحمَّل وصبر، فإن اطمئنان النفس وصبر الصبور ننتبجة لازمة لانكشاف الحقائق وظهورها والوقوف عليها. وقارن بالمقاييس 4/ 281.

هذه اللغة بأنسابها مثلها يحتفظ العرب بأنسابهم؛ "فالألفاظ العربية كالعرب أنفسهم، تتجمع في قبائل وأسر معروفة الأنساب، وتحمل هذه الألفاظ دومًا دليل معناها وأصلها وميسم نسبها, وذلك في الحروف الثلاثة الأصلية التي تدور مع ما يتولد عنها ويشتق منها من ألفاظ"1 وإنَّ في تجمع الألفاظ العربية في أصل واحد ينتظم فروعها لما يسهل على الباحث التمييز بين الأصيل والدخيل, فليس في العربية مادة "سردق" حتى نظن "السرادق" مشتقًّا منها. ولا مادة "سبرق" حتى نحسب "الإستبرق" متفرعًا عنها، ولا "سندس" حتى نخال "السندس" مقيسًا عليها، بل "السرادق" فارسي معرب, أصله "سرادار " وهو الدهليز، وليس في كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعدها حرفان2، و"الإستبرق" الديباج الغليظ، وهو بلغة العجم "استَفْرَه", وممن صرح بأنه بالفارسية أبو عبيد وأبو حاتم وآخرون3، ومن أعجب العجب أن ينقب بعض اللغوين عن أصل عربي لهذا اللفظ، منكرًا تعريبه لنزول القرآن به، فإذا بالجوهري يذكره تارةً في الباء من القاف، في مادة "ب ر ق" على أن الهمزة والتاء والسين من الزوائد، وتارةً في السين والراء. بينما يذكره الأزهريّ في خماسي القاف، على أن همزته وحدها زائدة, ويرى في مثله نمطًا خاصًّا من الألفاظ التي وقع فيها وفاق بين العجمية والعربية، ثم يقول: "هذا عندي هو الصواب"4.

_ 1 فقه اللغة "للمبارك" ص54. 2 انظر مخطوطة "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي 11/ ب, وقارن بالمعرب للجواليقي 200, ومفردات الراغب أيضًا. وأما ما ذكره ابن دريد "في الجمهرة 3/ 333" من قولهم: "سردق البيت: جعل له سرادقًا، فمن الواضح أنه ضَرْبٌ من التوسع في اشتقاق لفظ عربي من لفظ أعجمي. وبمثل هذا أيضًا نفسر استشهاد بان دريد على عربية الكلمة بشعر للأعشى. 3 المهذب 9 /1, والمعرب 15. 4 قارن بما ذكره العلامة أحمد محمد شاكر في الحاشية 10 من "المعرب للجواليقي ص15" والعلامة شاكر ينتصر لرأي الجوهري، والأزهري؛ لأنه ينكر المعرب في القرآن، عدا الأعلام.

وليس هذا من الصواب في شيء, فالتردد في رجعة هذا اللفظ إلى مواد متباينة كل التباين، والتكلف في التماس أصله بأي سبيل، والتضارب في الآراء المعزوة إلى العلماء بين تأييد لأعجمية اللفظ وإنكار لها، كل ذلك دليل لا ريب فيه على أن "الإستبرق" ليست خالصة العربية، وأن القرآن بنزوله بها عربها، ونقلها من عجمة فارس إلى لسانه المبين. وقل مثل ذلك في "السندس"، فهو رقيق الديباج، ولم يختلف أهل اللغة في أنه معرب1, وإنما اختلفوا في اللغة التي عُرِّبَ عنها، أهي الفارسي كما قال الثعالبي2، أم الهندية كما قال شيذالة3. ولقد أبى بعض اللغويين أن يستخدموا الاشتقاق وسيلة للتمييز بين الأصل والدخيل، فعطلوا هذه الوسيلة الرائعة وأبطلوها بجنوحهم إلى عربية كل لفظ أعجمي ما دام القرآن قد نزل به, وذلك جمود يبرأ منه القرآن الذي أذهب عجمة الكثير من الألفاظ باشتماله عليها, فإن يقل ابن دريد: "والفردسة السعة, صدر مفردس: واسع" ليستنتج من ذلك أن اشتقاق الفردوس من هناء جاء4، ولا يخفَ على ذي بصر أنما أخذ ابن دريد بهذا دفاعًا عن لغة القرآن الذي ذكر الفردوس, كأنما يغضّ ذكره لها من فصاحته وبيانه! والحق أن هذا غلوّ خرج فيه القوم عل ما أخذو به أنفسهم من التشدد في الاشتقاق من الأعجمي، إذ جعلوا مثل هذا الأخذ بمنزلة من

_ 1 المعرب للجواليقي 177 "أول باب السين". 2 فقه اللغة للثعالبي ص453, "فصل في سياقة أسماء تفردت بها الفرس دون العرب, فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي". 3 المذهب للسيوطي 12/ 1. 4 الجمهرة لابن دريد 3/ 333.

ادَّعَى أن الطير ولد الحوت! إلّا أنهم عكسوا الآية، فبدلًا من أن يعترفوا بأن الفردسة بمعنى السعة متفرعة عن "الفردوس" المعربة، جعلوا الفردوس مشتقة من الفردسة، ولم يزيدوا بذلك على أن صيّروا الأصل فرعًا، والفرع أصلًا، وخلطوا بين الاستعمال الأول والاستعمال الأخير، ونسبو إلى العربية من الإعجاز في موافقة اللغات الأجنبية ما لا يجوز أن يدور مثله في خلد الإنسان10! وأيًّا ما كان أمر الاشتقاق, فبه نحدد مادة الكلمة ونربطها بأخواتها وبالمجموعة التي تنسب إليها، فلا يلتبس علينا الفرع بالأصل إن أدركنا عملية الاشتقاق كيف تكون2. والمشتقات تَنْمِي وتكثر حين الحاجة إليها، وقد يسبق بعضها بعضًا في الوجود3, وليس من اليسير دائمًا أن ندرك أسبقها، وأن نعيّن متى استعملت مادتها الأصلية أول مرة, ومتى بدأت تدل على معنًى خاصٍّ, إلّا أننا نرجح دائمًا أن الحسي أٍسبق في الوجود من المعنوي المجرد، وهذا ما يجعلنا ننتصر للرأي القائل بأن أصل المشتقات هي الأسماء لا الأفعال، ولا سيما أسماء الأعيان, قال ابن مالك في "التسهيل": "فصل" انفرد الرباعي بفَعْلَلَ لازمًا ومتعديًا لمعانٍ كثيرة, وقد يصاغ من اسم رباعي. فصرَّح باشتقاق الفعل الرباعي "فعلل" من اسم رباعي، وهو يريد اسم العين لا شيئًَا آخر, ولقد كان ابن جني صرَّحَ من قبل

_ 1 المزهر 1/ 351, وقارن بالعلم الخفاق من علم الاشتقاق "لمحمد صديق حسن خان" 19. 2 لذلك قال الأب أنستاس ماري الكرملي بحق: "والفردوس البستان, فإن جمعه فراديس، وفراديس ترعيب لليونانية, واليوناينية من الزندية "بيردايزا". نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها ص84. 3 فقه اللغة "للمبارك" ص63. 4 من أسرار اللغة 46 "ط2". 5 انظر تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد ص56، طبع بمكة.

بأن "المصدر مشتق من الجوهر، كالنبات من النبت، والاستحجار من الحجر"1، فجعل المصدر نفسه -وهو أصل الاشتقاق- مأخوذًا من اسم الجوهر، أي: اسم العين, لكن العلماء بصورة عامة إذا ترددوا في تحديد أصل الاشتقاق رجَّحُوا الرد إلى المصدر إن كان أحد الأصول التي شكّوا فيها، ونبهوا على أن "اشتقاق العرب من الجواهر قليل جدًّا، والأكثر من المصدر"2؛ ولم يقبلوا الاشتقاق من الجواهر إلّا إذا كان أحد الأصلين جوهرًا والآخر عرضًا لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى3. ولو كانت موازنة العلماء -في بحث أصل الاشتقاق- بين الفعل والمصدر، لرأينا عبثًا ضائعًا ما ذهب إليه الكوفيون من أن الفعل هو أصل الاشتقاق4، ولما ترددنا قط في أن المصدر أجدر أن يكون هو أصل المشتقات كلها؛ "لأن المصدر -كما يقول الأستاذ الأفغاني بحقٍّ- يدل على حدث، والفعل يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمنٍ مع زيادة ثالثة؛ كالدلالة على الفاعل أو المفعول أو التفضيل أو المكان, فهذه الكثرة من المشتقات التي جعلت للغة سعتها، ومرانتها أخذت من المصادر التي هي جميعًا أسماء معانٍ"5. ولكن موازنة العلماء -في أصل الاشتقاق- ينبغي أن تكون بين المصادر التي هي أسماء معانٍ، وبين الجواهر التي هي أسماء أعيان, وعلى قلة ما حفل النحاة بالجواهر في هذا الباب، وعلى ضآلة ما وفروا من

_ 1 الخصائص 2/ 432. 2 العلم الحقائق 19. 3 نفسه 18. 4 راجع المسألة الثامنة والعشرين من "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري 1/ 144-152 لمعرفة مذهبي الكوفيين والبصريين وحججهم, وردود بعضهم على بعض في مسألة أصل المشتقات. 5 أصول النحو 134.

شواهد، لا نجد هذه الجواهر إلّا أصولًا للاشتقاق, معروفة موضوعة قبل أن تعرف أسماء المعاني أو توضع. فمن ذا الذي يصدق أن مصدر التَّأبُّل "أي: اتخاذ الإبل" قد وضع قبل أن يوضع لفظ أبل نفسه؟ أو أن مصدر التأرض "اللصوق بالأرض" وضع قبل لفظ الأرض؟ أو أن مصدر الاحتضان وضع قبل قبل لفظ الحضن؟ أو التضلع قبل الضلع؟ أو التبحر قبل البحر؟ أو السمو قبل السماء؟ إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس قبل أسماء المعاني التي تطورت وانتقلت من مضايق الحس إلى آفاق النفس، وما عُلِمَ أنه أقدم فهو أجدر أن يكون الأصل؛ إذ يكون قياسه مطردًا، وميزانه واضحًا، لذلك كانت أسماء الأعيان هي أصل الاشتقاق دون المصادر؛ لأن هذه المصادر كالأفعال لا تتقيد بموازين دقيقة، ولا تقاس أقيسة سليمة مطردة1. وكيف لا تكون أسماء الأعيان أصول المشتقات كلها وقد أكثر العرب من اشتقاق الأفعال والمصادر من هذه الأسماء؟ كيف قد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يحصى من الجوهر التي تفرعت عتها الصفات والأحوال، والمصادر والأفعال؟ ابدأ بالإنسان من رأسه إلى أخمس قدميه، فمن الرأس ذاته اشتقو رَأْستْه رأسًا إذ ما أصبت رأسه، ومن اليافوخ أفخْته أفخًا إذا ضربت يافوخه، فإن ضربت دماغه قلت دمغته، وإن حاذيت صدغه بصدغك في المشي فقد صدغته، وإن أصبت أذنه فقد أذنته، وإن أصبت منخره فقد نخرته، أو أنفه أنفته، أو ذقنه ذقنته، أو ظهره ظهرته،

_ 1 قارن بالاشتقاق "عبد الله أمين" 147.

أو فقاره فقرته، أوبطنه بطنته، أو كبده كبدته، أو يده يديته، أو ساقه سقته، أو رجله رجلته، أو كعبه كعبته1. ومن الأسماء الأقارب اشتقوا المصادر والأفعال، فالتبني من الابن, والتأبي من الأب، والتأمم اتخاذ الأم، والبعال والمباعلة: اتخاذ البعل2. وولّدوا كثيرًا من الألفاظ من أسماء الأمكنة فقالوا: أحرم القوم: دخلوا في الحرم، ساحلوا: أتوا الساحل، أسافوا: أتو السيف وهو ساحل البحر أيضًا, أعمن الرجل: أتى عمان، كوف: صار إلى الكوفة، قدّس: أتى بيت القدس, أيمن: أت اليمن، أهضب: نزل الهضاب3. ومن الأسماء الأزمنة اشتقوا اشتقاقًا صريحًا، فقالوا: أخرفوا، وشتوا, وأربعوا, وأصافوا، وأفجروا، وأظهروا وآصلوا, واستحروا, وابتكروا4. ولا حاجة لذكر اسم الزمان الذي اشتق منه كل لفظ من هذه المشتقات، فإنه أوضح من أن يخفى على أحد. أما الاشتقاق من أسماء الأصوات فقد عرضنا الكثير من شواهده خلال مبحث الثنائية التي فسر بعض العلماء في ضوئها نشأة اللغات الإنسانية، ومنها لغة العرب5, بيد أننا وجدنا من العلماء من ينكر أن تكون حكايات الأصوات مما يقاس عليه6, وان كان إنكاره لم يحل دون مخالفة السماع

_ 1 المخصص 6/ 104-106 "أفعال الضرب المشتقة من أسماء الأعضاء" وننصح القارئ بمراجعة هذ الفصل كله في المخصص، فإنما اجتزانا ببعض أمثلته، والشواهد فيه تتنتاول جميع المشتقات من أعضاء الإنسان، فلا صغيرة ولا كبيرة منها إلا حدث فيها شيء من الاشتقاق. 2 الاشتقاق "عبد الله أمين" 31. 3 نفسه 23-30. 4 أصول النحو 135. 5 راجع ص 48 إلى 152. 6 راجع ص 161.

للقياس، أو قل: إن إنكاره لم يكن ليمنع ورود السماع القديم بما نهى عنه القياس الحديث, وهل تجد تعليلًا لهذا أوضح من أن يقول ابن فارس مثلًا في "الهمزة والهاء": "ليس بأصل واحد؛ لأن حكايات الأصوات ليست أصولًا يقاس عليها, ثم يستدرك معقبًا: "لكنهم يقولون: أهَّ أهَّةً وآهةً"1؟ فإذا نقلوا عن الخليل بعد ذلك أن يقال لحكاية الأصوات في العساكر ونحوها: آه، واستشهدوا على هذا بقول الشاعر: في جحفلٍ لَجِبْ جَمٍّ صواهلُهُ ... بالليل تُسْمَعُ في حافاته آءُ ثم استنتجوا من مثل هذا الشاعر أن "الحكايات ليست أصولًا يقاس عليها"2، فلذلك لا يعني الحَجْر على ألسنة المطبوعين أن تولّد من "الآء" فعلًا أو مصدرًا أو صفة، فما يملك هذا الحَجْرَ نحويّ ولا لغوي إذا استخفَّ مطبوع ما استثقلاه، أو أطلق الاشتقاق من الأغلال بها قيداه! لكنّ الصحيح في هذا الأمر أن لسماع لم يثبت في مثله، وإن كان هذا السمع لا يعلل دائمًا في حالتي السلب والإيجاب تعليلًا منطقيًّا، فلو ثبت سماع هذا الضرب من الاشتقاق لما كان سرّ ثبوته خفة اللفظ ورشاقته، كما أنه لو انتفى سماعه ما كان استثقال اللفظ واستقباحه علة تركه وإهماله. وبمثل هذا النمط من البحث يعالج تشدد اللغويين في أمر الاشتقاق من الأسماء الأعجمية، فتحريمهم هذا النوع من الاشتقاق لا ندري على أيِّ مستند يقوم، وإنه لمستند واهٍ لا يطيق الوقوف على ساقيه أمام هذه الكثرة من الشواهد التي أكدت تعريب الفصحاء لطائفة من الأسماء

_ 1 المقاييس 1/ 22. 2 نفسه 1/ 33.

الأعجمية، ثم استعمالهم إياها بطلاقة وحرية خُيِّلَتَا إلى الباحثين أحيانًا أنها عربية خالصة1. وفي هذا كله برنهان قوي لا يمكن مدافعته على أن الاشتقاق من أسماء الأعيان مُقَدَّمٌ على الاشتقاق من أسماء المعاني. ولكن الروح الذي وجّه علماءنا إلى القول بأن المصدر لا الجواهر هي أصل الاشتقاق، هو الروح نفسه الذي وجههم أيضًا إلى ترجيح أصل على أصل إذا ترددت الكلمة بين رابطين أو أكثر من روابط الاشتقاق. وهذا هو الروح التقليلدي الذي يأبى أن يقيس الحقائق اللغوية إلّا بمقاييس الشرف واللياقة والسهولة والتقييد والتخصيص، وأكثرها نسبي, وبعضها من اصطلاح أهل المنطق. ولقد يكون من المستساغ إذا ترددنا في لفظ العُقَار مثلًا، هل نرده إلى عقر الفهم, أم إلى ما في العقار من الإسكار ثم عقر صاحبها، أن نرجح ما رجحوه من أن ردَّه إلى عقر الفهم أقرب, وكذلك نستسيغ رد "مهدد" علمًا إلى "المهد" لا إلى "الهد"؛ لأن باب "كَرُمَ" أمكن وأوسع وأفصح وأخف من باب "كَرَّ", فيرجح بالأمكنية. ولكننا لا نستطيع أن نفهم حين تدور كلمة "الله" فيمن اشتقها بين الاشتقاق من أله أو لوه أو وله، لماذا تكون من "أله" أشرف وأقرب؟! ولا نستطيع أن ندرك لِمَ يكون اشتقاق المعارضة من العرض بمعنى الظهور أولى من اشتقاقها من العرض وهو الناحية! ولا لِمَ يكون اشتقاق "هدى يهدي" من الهداية بمعنى الدلالة, لا من "الهوادي" المتقدمات2!

_ 1 قارن بأصول النحو 29 والاشتقاق "لعبد الله أمين" ص148-152, وسنزيد هذه الفكرة وضوحًا في فصل "التعريب". 2 العلم الخفاق ص18.

وأعجب من هذا كله أن يقال الشيء وضده، ومن كلٍّ منهما كان المشتق والمشتق منه، وكان الأصل والفرع، وذلك في شاهدهم "التقليدي" المشهور: أن أحد الأصلين إن كان أخص رُجِّحَ على الأعم؛ كالفضل والفضيلة, وقيل عكسه1!! وإنما يعود هذا الاضطراب، وتلك الحيرة، وذلك الخبط أحيانًا إلى ما أراد اللغويون من التنازل عن الاشتقاق للصرفيين, تنازل كان من اللغويين عن طواعية، ففرضت معه مقاييس الصرف وقواعد الصرفيين وتجرد من التعليل السليم والاستقراء الدقيق لحقائق اللغة وظواهرها وأطوارها في التكامل والنماء المطرد.

_ 1 المزهر 1/ 349.

الاشتقاق الكبير

الاشتقاق الكبير: أما الاشتقاق الكبير: فهو عبارة عن ارتباط مطلق غير مقيد بترتيب بين مجموعات ثلاثية صوتية, ترجع تقاليبها الستة وما يتصرف من كلٍّ منها إلى مدلول واحد مهما يتغاير ترتيبها الصوتي, وقد أولع بهذا النوع من الاشتقاق ابن جني، وسماه: "بالاشتقاق الأكبر"، وعقد له فصلًا خاصًّا1 ذكر فيه عددًا من الأمثلة الموضحة, نورد الآن منها تقاليب هذه المادة الثلاثية "س م ل". فابن جني يرى أن "س م ل" "م س ل" "س ل م" "م ل س" "ل س م" "ل م س" مهما تقلبت واختلف ترتيبها الصوتي كما رأيت, فإن "المعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة؛ منها الثوب "السَّمَلُ" وهو الخلق، وذلك لأنه ليس عليه من الوبر والزئبر2 ما على الجديد، فاليد إذا مرت عليها للمس لم

_ 1 الخصائص باب الاشتقاق الأكبر 1/ 525-531. 2 الزئبر ما يظهر من درز الثوب.

يستوقفها عنه حِدَّة المنسج، ولا خشنة الملمس؛ "والسَّمل" الماء القليل: كأنه شيء قد أخلق وضعف عن قوة المضطرب، وجمة المرتكض، ولذلك قال: حوضًا كأنَّ ماءه إذا عَسَلْ ... مِنْ آخر الليل رُوَيْزَيٌّ سَمَلْ وقال آخر: ورَّادُ أسماء المياه السُّدْمِ ... في أُخْرَيَاتِ الغَبَشِ المغمِّ ومنها "السلامة" وذلك أنّ السليم ليس فيه عيب تقف النفس عليه، ولا يُعْتَرَضُ عليها به، ومنها "المَسَلُ" و"المَسيلُ" كله واحد, وذلك أن الماء لا يجري إلّا في مذهب له, وإمام منقاد به، ولو صادف حاجزًا لاعتاقه فلم يجد متسربًا معه، ومنها "الأملس" و"الملساء"، وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له، ومنها "اللمس" وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصحّ هناك لمس، وإنما هو إهواء باليد نحوه, ووصول منها إليه، ولو كان هناك حائل لاستوقف به ... فأما "ل س م" فمهمل، وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح، إذا مرت مرًّا سهلًا ضعيفًا، والنون أخت اللام، وسترى نحو ذلك"1. وواضح من تمثيله للتقليب الأخير "ل س م" المهمل بـ"ن س م" بإبدال اللام نونًا لتقارب صوتهما -وهو أدخل في باب الاشتقاق الأكبر كما سنرى- أن ابن جني كان يجعل الاشتقاق الكبير والأكبر واحدًا، وقد جرينا نحن -تبعًا للمحدثين من فقهاء اللغة- على التفرقة

_ 1 الخصائص 1/ 529-530.

بين نوعي الاشتقاق المذكورين زيادة في التفصيل والإيضاح. وقد فطن الخليل بن أحمد الفراهيدي "المتوفى سنة 175هـ" إلى هذه الروابط المعنوية في الاشتقاق الكبير كما فطن إليها قبل ابن جني أستاذه أبو علي الفارسي "المتوفي سنة 377هـ" إلّا أن الذي توسَّع فيها وفي ضرب الأمثلة الموضحة لها هو ابن جني نفسه، وإن كان لم يزعم اطراد هذا النوع من الاشتقاق في جميع مواد اللغة، بل صرَّح باستحالة الاطراد والإحاطة فقال: "واعلم أنا لا ندَّعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة، بل إذا كان ذلك "الذي هو في القسمة سُدُسُ هذا أو خُمُسَه" متعذرًا 2 صعبًا، كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبًا، وأعزّ ملتمسًا"1. وإذا كان ابن جني -على ولوعه بهذا الاشتقاق الكبير- "أو الأكبر كما يسميه" يترفق فيه ولا يبالغ، فقد تكلف بعضهم فيه وفي غيره تكلفًا لا يطاق، فخرجوا على مدلول اللفظ الأصلي، وتعسَّفُوا في التعليل والتفسير؛ فهذا حمزة بن الحسن الأصبهاني يقول في كتاب "الموازنة": "كان الزجاج يزعم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف، وإن نقصت حروف إحداهما عن حروف الأخرى، فإن إحداهما مشتقة من الأخرى؛ فتقول: الرَّحْل مشتق من الرَّحيل، والثور إنما سمي ثورًا لأنه يثير الأرض، والثوب إنما سمي ثوبًا لأنه ثاب "أي رجع" لباسًا بعد أن كان غزلًا، حسيبه الله! "2. وأمثال هذه المبالغات التي يظهر عليها التكلف حملت السيوطي على أن يقول عن هذا الاشتقاق الكبير: "إنه ليس متعمدًا في اللغة، ولا يصح أن يستنبط به اشتقاق في لغة العرب"3، بل نجد ابن جني نفسه

_ 1 الخصائص 1/ 530. 2 انظر المزهر 1/ 354. 3 المزهر 1/ 347.

لا يسلم -رغم اعتداله وترفقه- من نقد السيوطي له في هذا الموضوع، إذ يتهمه بأنه توسَّعَ في هذا الاشتقاق "بيانًا لقوة ساعده, وردّه المختلفات إلى قدر مشترك، مع اعترافه وعلمه بأنه ليس موضوع تلك الصيغ، وأن تراكيبها تفيد أجناسًا من المعاني مغايرة للقدر المشترك"؛ وأخيرًا يفصل السيوطي هذا الباب برأيٍ معتدلٍ سديدٍ فيقول: "وسبب إهمال العرب له, وعدم التفات المتقدمين إلى معانيه, أن الحروف قليلة، وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكاد تتناهى؛ فخصوا كل تركيب بنوع منها، ليفيدوا بالتراكيب والهيئات أنواعًا كثيرة؛ ولو اقتصروا على تغاير المواد، حتى لا يدلوا على معنى الإكرام والتعظيم إلّا بما ليس فيه شيء من حروف الإيلام والضرب -لمنافاتها لهما- لضاق الأمر جدًّا، ولاحتاجوا إلى ألوف حروف لا يجدونها" إلى أن يقول: "ففي اعتباره المادة دون هيئة التركيب من فساد اللغة ما بينت لك، ولا يُنْكَرُ مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة المادة معنًى مشتركٌ بينها, هو جنس لأنواع موضوعاتها؛ ولكن التحيّل على ذلك في جميع مواد التركيبات كطلبٍ لعنقاء مغرب"1. ويميل بعض الباحثين المعاصرين إلى القول بأن أصحاب الاشتقاق الكبير "اقتبسوا فكرة تقليب الأصول من معجم العين "للخليل" وأمثاله؛ فقد سلك صاحب العين, وصاحب الجمهرة "ابن دريد", وغيرهما, مسلكًا عجبيًا في ترتيب الكلمات، فكان كلٌّ منهم حين يعرض لشرح كلمة من الكلمات يذكر معها تقلباتها، ويذكر معنى كل صورة من صورها دون التعرّض للربط بين دلالات تلك الصور, فهي طريقة إحصائية أو قسمة عقلية لجأ إليها أصحاب هذه المعاجم بغية حصر كل المستعمل من كلمات اللغة، وخشية أن يند بعضها عن أذهانهم, فلما جاء أصحاب الاشتقاق من أمثال

_ 1 المزهر، الصفحة ذاتها.

ابن جني وابن فارس, ربطوا أيضًا بين دلالات تلك الصور، واستنبطوا معاني عامة مشتركة بينها، وسمي هذا بالاشتقاق الكبير"1. وإذا كنا اليوم -في سبيل تأييد هذه الحقيقة- لا نملك من الوثائق العلمية عن معجم "العين" إلّا قيلًا، لا يبل ظمأ ولا يشفي غليلًا2، فإن بين أيدينا معجم "الجمهرة" الذي سار فيه ابن دريد على هدي الخليل، واتبعه فيما شاع عنه من تقليب الأصول، وإن كان لابن دريد نظام خاصّ في سرد المواد لا مكان هنا للحديث عنه ولا للخوض فيه. فمن "الجمهرة" سنلخص أهم ما جاء في مادة "ب ج ر" وتقاليبها، ونقارنها بما ورد في "الخصائص" حول تقليب "ج ب ر", ولن يصعب علينا أن نرى حينئذ أن ابن جني أوضح الرابط المشترك بين التقاليب المستعملة لهذه المادة, بينما اكتفى ابن دريد بعرض تلك التقاليب, وأهمل المعنى الذي اشتركت فيه. لقد رتَّبَ ابن دريد "تقاليب هذه المادة على هذا النحو: "ج ب ر", "ب ر ج", "ر ج ب", "ج ر ب", "ب ج ر", "ر ب ج"3, ومن الشواهد التي أتى بها على كل تقليب، يستنبط الباحث أن المادة مستعملة كيفما تقلبت وجوهها، وأنه ليس فيها مهمل أو ممات، إلّا أن شواهد بعض التقاليب أغنى من شواهد بعضها الآخر، كما أن ما تصرَّفت العرب باستعماله منها اسمًا أو فعلًا أو مصدرًا، أو صفةً, تفاوت بين تقليب وتقليب، فليست التقاليب جميعًا متساوية في جريان الاستعمال بها، ولا في كثرة الاشتقاق والتصريف منها.

_ 1 من أسرار اللغة 49 "ط 2". 2 راجع في مجلة المجمع العلمي العربي عام 1941 بحثًا دقيقًا محكمًا للدكتور يوسف العش, حول كتاب العين وأولية المعاجم العربية. 3 جمهرة ابن دريد 1/ 207-209.

وللقارئ أن يتساءل: ما بال ابن دريد يسمي مادته هذه "ب ج ر" مع أنه أدرجها بين التقاليب الخامسة في الترتيب، وبدأ بتقليب "ج ب ر"؟ أما تسميته المادة "ب ج ر" فلما أخذ به نفسه من ترتيب مواد جمهرته حسب الترتيب الهجائي لحروف أصولها، مع مراعاة أوائل هذه الأصول. ولا ريب في أن "ب ج ر" تقدم حينئذ على "ج ب ر", كما تقدم على بقية التقاليب، فإنها جميعًا مادة ثلاثية واحدة, أولها الباء وآخرها الراء وأوسطها الجيم. وأما ابتداؤه بتتقليب "ج ب ر" فربما كان السر فيه ما غلب على ظنه من أن العرب أكثرت من استعماله، وتصرفت في معانيه، ووفّرت الشواهد عليه, وإلا فهو أمر هكذا وقع لابن دريد، ومن العبث التساؤل عن تقديم ما قُدِّمَ، وتأخير ما أُخِّرَ. أ - وأهم ما ورد في تقليب "ج ب ر" جبور العظم1، والجبارة الخشب الذي يشد على العضو المكسور، وأجبرت الرجل على كذا فهو مجبر، والجبر الملك2، والجبار: للنخل الذي قد فات اليد. ب- وفي تقليب "ب ر ج" يذكر ابن دريد البُرْج من بروج الحصن أو القصر، ويرى أنه عربي معروف، أما البرج من بروج السماء فلم تعرفه العرب، إنما كانت تعرف منازل القمر3, ثم يذكر "البَرَجَ" وهو نقاء بياض العين وصفاء سوادها، ويربط بين تبرج المرأة وبَرَجَ

_ 1 ويلاحظ ابن دريد هنا أن العظيم يجبر بنفسه جبورًا، ولكن الله يجبر جبرًا، وهكذا يكون قد جبره الله فجبر "على وزن فعله ففعل" ولذلك يقول: وهذا من أحد ما جاء على "فعلته ففعل". 2 ومن الغريب أن ابن دريد فاته أن يعرض هنا لاسم الله "الجبار". 3 ألَا يكون في هذا اعترف ضمني بأن القرآن هو الذي عرَّبَ البرج "الذي هو من بروج السماء" عندما نزل بمثل هذه الآية {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ؟

العين، إذ يقول: وتبرَّجَت المرأة إذا أظهرت محاسنها، وكأني به يقول بعبارة أصرح، إذا أطهرت بَرَجَ عينيها وجمالها زهوًا واختيالًا1. ج- وفي تقليب "ر ج ب" يتحدث عن رَجْبَ الرجل: إكرامه وتعظيمه، ويرى أن شهر رجب سمي بهذا الاسم لتعظيمهم إياه، ويذكر أن ما تسند به النخلة إذا مالت وكرُمت على أهلها يسمى "الرجبة"، وأن النخلة توصف حينئذ بأنها "مرجَّبَة"، وأن أحد فصوص الأصابع يسمى "الراجبة"، والجمع "رواجب". د- أما تقليب "ج ر ب" فيذكر منه الجرب: وهو الداء المعروف، والجرْبَة: القرَاح، والجَرْبَاء: السماء، والجَرَبَّة: العانة من الحمير، وكذلك الجَرَبَّة: للأقوياء من الناس إذا اجتمعوا, والتجارب، والرجل المجرّب. والجِرْبياء: ريح الشمال. وجُرُبَّان السيف: قرابه2. هـ- وأما تقليب "ب ج ر" الذي سمى به المادة، فلا يجد فيه إلّا البَجْرَة أو البُجْرَة أو البَجَرَة وهي السرة الناتئة3، وقولهم: هذا أمر بُجْريّ أي عظيم، والجمع البَجَاري وهي الدواهي العظام. و وفي التقليب الأخير "ر ب ج" لم يذكر إلّا الرجل الرِّبَّاجي: إذا كان يفخر بأكثر من فعله, ويستشهد بقول الشاعر: وتلقاه رِبَاجيًّا فجورًا4. فإذا استطلعنا رأي ابن جني في تقاليب هذه المادة، وجدناه قد نفذ

_ 1 قارن بالمقاييس 1/ 239. 2 إلّا أنه هنا ينقل عن أبي حاتم أن هذا اللفظ معرب، فهو بالفارسية "كريبان". 3 ويذكر بهذه المناسبة أن كل عقدة في الجسد فهي عجرة، فإذا كانت في البطن فهي بجرة، ويستشهد بقول عليّ: "إلى الله أشكو عجريّ بجريّ" أي: ما أكتمه وما أخفيه, وقد ذهب هذا القول مثلًا. 4 فجورًا على وزن فعول، كثير الفجور, أي: الكذب, ويروى: فخورًا، من الفخر.

خلالها بفكره الثاقب، ونظره البعيد، وأيقنَّا من شروحه لمفرداتها أنه حفظها من "الجمهرة" في لوح قلبه، أو من كتاب آخر نقل منه صاحب الجمهرة، حفظه ابن جني وضيعناه، ولا يبعد أن يكون معجم "العين" نفسه أو واحدًا من تلك المعاجم القديمة الأُوَل. وقبل أن نُقِرَّ لابن جني بحدَّة الذكاء، وخصب الخيال، لدى استنتاجه الرابط المشترك بين تقاليب هذه المادة، نرى لزامًا علينا أن نعترف له بمقدرة الساحر الذي يظهر لك شيئًا بينما يخفي أشياء، ولكن براعته وخفة يده تبهران بصرك، فلا أنت تتبعه فيما أظهره، ولا أنت تلاحقه فيما أخفاه! لقد جمع ابن جني تقاليب هذه المادة وما علم أنه متصرف منها، فأهمل بلطف ورشاقة ما لم ينسجم مع المعنى العام الذي استنبطه، وسدَّ الثغرات فيما كان عليه شيء من الغموض، وأسهب العبارة وأطال النفس فيما بدا له متناسقًا مع المعنى الذي غاص عليه. وإذا هو يرى أن تقاليب "ج ب ر" إن وقعت، فهي للقوة والشدة1. أ- منها "جبرت" العظم والفقير: إذا قويتهما وشددت منهما، و"الجبر" الملك لقوته وتقويته لغيره. ب- ومنها "رجل مجرب" إذا جربته الأمور ونَجَدَتْه، فقويت مُنّته واشتدت شكيمته, ومنه "الجراب" لأنه يحفظ مال فيه، وإذا حفظ الشيء ورُوعِيَ اشتد وقوي، وإذا أغفل وأهمل تساقط ورَدِيَ. ج- ومنها "الأبجر والبجرة" وهو القوي السُّرّة، ومنه قول علي -رضي الله عنه: "إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري" تأويله: همومي وأحزاني2.

_ 1 الخصائص 1/ 527-528. 2 وهو هنا يفرق -كما فرّق ابن دريد- بين العجرة والبجرة.

د- ومنه "البُرْج" لقوته في نفسه وقوة ما يليه به، وكذلك "البَرَج" لنقاء بياض العين، وصفاء سوادها1 هو قوة أمرها، وأنه ليس بلون مستضعف. هـ- ومنها "رجبت الرجل" إذا عظمته وقويت أمره, ومنه "رَجَب" لتعيظيمهم إياه عن القتال فيه؛ وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعَّمُوها بـ"الرجبة"، وهو شيء تسند إليه لتقوى به2. و"الراجبة" أحد فصوص الأصابع، وهي مقوية. و ومنها "الرباجيّ" وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله, قال: وتلقها رِبَاجيًّا فخورًا3. تأويله: أنه يعظِّمُ نفسه ويقوي أمره! إن النظرة الأولى إلى صنيع ابن جني في هذه التقاليب لا تخطئ التكلف البعيد وقع فيه، وهو يلتمس الطريق نحو الرابط السحري العجيب الذي يَرُدُّ هذه التقاليب جميعًا إلى أصل واحد، وإمام منقاد، ولكن الرابط الذي اهتدى إليه ابن جني ليس عامًّا وحسب، بل هو شديد العموم؛ وبلغت شدة عمومه حَدَّ الإبهام والغموض، فهل ترى أعجب من أن تفسر هذه التقاليب كلها، وجميع الصور المتفرعة عنها، رغم ما لكلٍّ منها من مفهوم دقيقٍ وإيحاء خاصٍّ، بهاتين الكلمتين العامتين الموغلتين في العموم: "القوة والشدة؟ وهما كلمتان مبتذلتان من

_ 1 قارن بمعنى "البرج" في الجمهرة. 2 قارن هذه العبارة بما ذكره ابن دريد آنفًا عن "الرجبة". 3 وهنا لا يجد إلّا اللفظ الذي كره ابن دريد، ويفسره كما فسره، ويأتي عليه بالشاهد نفسه، إلّا أنه يورده "فخورًا" من الفخر، وهي إحدى روايتي الجمهرة, والصواب: فجورًا من الفجور وهو الكذب؛ لأنه على الأثر: "فعول من الكذب". وقد يكون في مطبوعة "الخصائص" تصحيف.

كثرة الاستعمال، تتردافان وتتعاقبان حين لا يجد المتلكم سبيلًا لتحديد المعنى وتفصيله، فلا تُنُمَّان إلى عن مقابلة حالٍ بحال، فحال القوة تقابل حال الضعف، وحال الشدة تقابل حال الوهن، ولا ضير أن يكون مبلغ القوة والشدة في البروج والحصون، كمبلغ القوة والشدة في بَرَج العيون!! لو قارنّا صنيع ابن جني في هذه التقاليب بصنيع ابن فارس المعاصر له الذي كان لا يؤمن بهذا الاشتقاق الكبير، لرأينا ابن فارس في هذا الموضع1 أكثر اعتدالًا وأهدى سبيلًا, فما من ريب عندنا في أنه اطلع على ما جاء في الجمهرة، إن لم نقل إنه حفظ جُلَّهُ في لوح قلبه، ولكنه حين ذكر في "المقاييس" صور هذه التقاليب في المواضع المناسبة لها، تبعًا لمنهه في معجمه، لم يفسّرها جميعًا بالقوة والشدة جملة واحدة، بل رَدَّ بعضها إلى أصل، وبعضها إلى أصلين؛ وتخرج مقتنعًا إذا تَلَبَّثْتَ في قراءة الأصول التي أوردها أن لا جامع يربط بين بعضها وبعض، وأن هذا الجامع -إن أدركه النظر الثاقب- ضعيف أوهن من خيط العنكبوت. أ- أما تقليب "ج ب ر" فيرى أنه أصل واحد، وهو جنس من العظمة والعلو والاستقامة2. ويفسر به "الجبار" الذي طال وفات اليد؛

_ 1 قلنا: في هذه الموضوع، لأنّا رأينا ابن فارس في موطنٍ قريب يتكلف في رد بعض المواد إلى أصولها. راجع ص176-177, ولكنه هنا أكثر اعتدالًا لقلة إيمانه بجدوى الاشتقاق الكبير. 2 يلاحظ مع ذلك أن ابن فارس لم يقع في مثل التعميم الذي وقع فيه ابن جني, فهو يرد المادة إلى أصل واحد، وإذ بنا نرى هذا الأصل الواحد جنسًا مؤلفًا من ثلاثة أمور: العظمة والعلو والاستقامة. فلو كان بين العظمة والعلوّ تناسب وارتباط، فما الرابط بينهما من نحو، وبين الاستقامة من نحوٍ آخر؟ لكنه، على كل حالٍ، أورد لمادة "جبر" معنًى يختلف عما سيورده لمادة "برج", أو "جرب" ومواد بقية التقاليب.

ومنه الفرس "الجبار"، والنخلة "الجبّارة", وذو الجُبّورة, وذو الجبروت: الله -جلَّ ثناؤه. فإذا عرض لجبور العظم، وللجبارة التي يضم بها العظم الكسير، كاد يفهمك أنه يقصد من هذا الأصل معنى "الاستقامة", وهكذا يبدو الأصل الذي ذكره ذا شعبتين؛ في أولاهما: العظمة والعلوّ، وفي الثانية الاستقامة1. فهل هذا الأصل من العظمة والعلو والاستقامة, يرادف أصل ابن جني العام في "القوة والشدة"؟ وهل نعصب عيوننا فلا نرى في الشيء العظيم العالي, أو المستقيم, إلّا أنه قوي شديد؟ ب- ووجد ابن فارس في مادة "ب ر ج" أصلين، أحدهما البروز والظهور، والآخر الوَزَر والملجأ؛ فردَّ إلى الأول بَرَج العيون الجميلة، وتبرج المرأة الحسناء؛ كأنها تحرص على إظهار محاسنها، ورَدَّ إلى الثاني بروج السماء والحصون والقصور، ولاحظ أنهم يسمون الثوب الذي صوروا عليه رسم البروج "ثوبًا مبرَّجًا"2. فإن يك بين الوَزَر والملجأ وبين القوة والشدة علاقة، فأيّ علاقة بين القوة والشدة وبين البروز والظهور؟ ألم يبرأ ابن فارس من التكلف والتصنعه حين رَدَّ برج العيون إلى البروز والظهور؟ أو لم يتكلف ابن جني تكلفًا لا يطاق حين أبى أن يرى في بَرَج العيون إلّا قوة أمرها، وأنه ليس بلون مستضعف؟ إن عجبي لا ينقضي من ذكر القوة في معرض الجمال، وذكر الاستضعاف لدى الحديث عن الألوان!!

_ 1 راجع المادة في المقاييس 1/ 501. 2 المقاييس 1/ 239.

ج- في مادة "ر ج ب" تجد ابن فارس يتلاقى مع ابن جني في ملاحظة معنى القوة، إلّا أن ابن فارس أدق تعبيرًا، فهو يرى أن الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته1, ومن الواضح أنه يقصد من القوة أحد معانيها الدقيقة وهو الدعم، ونبَّه عليه في أصل المادة الحسّيّ, كما نبه عليه فيما تطور عنه من معانٍ، بطريق الكناية والمجاز. فالأصل في الباب كله ترجيب الشجرة إذا دعمت بالرجبة، لئلَّا تنكسر أغصانها حين يكثر حملها2, أما قولك: "رجبت الشيء" أي: عظَّمته، فكأنك جعلته عمدة لأمرك، ومن الباب "رَجَب" لأنهم كانوا يعظمونه. د- وفي ماد "ج ر ب" يسلك ابن فارس مسلكًا عجيبًا، فلا يذكر شيئًا مما ذكره ابن جني ولا ابن دريد؛ من وصف الرجل بالمجرب إذا جربته الأمور ونجدته، ولا يعرض لتجارب الدهر وأثرها في الإنسان، بل يردد الجيم والراء والباء بين أصلين: أحدهما الشيء البسيط يعلوه؛ كالنبات من جنسه، والآخر شيء يحوي شيئًا3. ولا يعلم إلّا الله وحده كم تكلَّف ابن فارس حتى وجد لهذه المادة أصلها الأول، ظنًّا منه أن لا شيء كهذا الأصل يطوي مفهوم "الجَرَب" وهو الداء المعروف، فلا بدَّ من أن ينبت على الشيء نبات بسيط من

_ 1 نفسه 2/ 495. 2 وهنا يذكر ابن فارس حديث الأنصار: "أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب"، ويفسره بقوله: "يريد أنه يعول على رأيه كنا تعول النخلة على الرجبة التي عمدت عليها", ولا يخفى أنه -حتى في هذه العبارة المشهورة- يتعمد الربط بين صورة العذيق المرجب وصورة الرجل المجرب المحنك، أو قل: بين الصورة الحسية الواقعية، والصورة النفسية المجازية. 3 المقاييس 1/ 499-450.

جنسة أو شيء يشبه هذا النبات حتى يتم تصور الجرب, مع أن فكرة النبات هنا ليست من الوضوح بحيث تؤدي ما تؤديه فكرة الحكّ والتحكك مثلًا في الجُرْب من الإبل والناس. وإنك لتجد ابن فارس "كالذي يحاول إقناع نفسه بصلاح هذا الأصل للإيحاء بمفهوم "الجرب" حين يطير على جناح التشبيه من وصف الناقة بالجرباء إلى وصف السماء بالجرباء، فيقول: "ومما يحمل على هذا تشبيهًا تسميتهم السماء جبرباء، شبهت كواكبها بجرَب الأجراب" ويستشهد على هذا بقول أسامة بن الحارث: أرته من الجرباء في كل منظر ... طبابًا، فمثواه النهار المراكد1 وإذا لم يزد ابن فارس هنا على أن تكلف فأسرف، فلم يزد ابن جني على أن هرب فولى، فما عسى أن يقول في الجرب؟ وأيّ علاقة له بالقوة والشدة؟ وهل كان لأحد أن يستنبط من ضعف الداء قوة، ومن وهن المرض شدة؟! ترى، أمل يك ممكنًا أن يسلك ابن جني تقليب "ج ر ب" في باب التضاد الذي هو ضرب من المشترك، فيكون في الرجل المجرب معنى القوة، وفي الرجل الأجرب معنى الضعف؟ لا نستبعد أن يكون شيء من هذا دار في خلده، ولكن له الحق كل الحق إذا صرفه عنه ولم يأنس به، فإن فكرته التي نادى بها في "الاشتقاق الكبير" تملي عليه أن يستنبط بين التقاليب الستة كلها، أو بين صورها المستعملة على الأقل، جامعًا مشتركًا واضحًا صريحًا, وآية

_ 1 ويذكر ابن فارس هنا الجربة بمعنى القراح، ويرى أن ذلك هو القياس؛ لأنه شيء بسيط يعلوه ما يعلوه منه.

وضوحه وصراحته أن يكون إيجابيًّا لا سلبيًّا، وتثبيتيًا لا تعكيسيًّا. أما في الأصل الآخر لمادة "ج ر ب" وهو الشيء يحوي شيئًا، فقد أدرج فيه ابن فارس الجراب المعروف، وربط هذا بجراب البئر، وهو جوفها من أعلاها إلى أسفلها؛ لأن جوف البئر كالجراب الذي يحوي ماءها وغيره. ونقل معنى الاحتواء، بلطف الصنعة، إلى معنى التجمع، فرأى العانة من الحمير إذا تجمعت سميت "جَرَبّة"، ورأى الأقوياء من الناس إذا اجتمعوا سموا "جَرَبّة" أيضًا1. ولقد ذكر هذا ابن دريد في تقالبيه, ولكن ابن جني فاته أن يوميء إليه مع أنه أدنى إلى تحقيق معنى القوة والشدة من كثير من الأمثلة الأخرى التي أتى بها, ولعله أدرك مثلًا أن "الجربة" ليسوا أقوياء الناس في كل حال، بل في حال التجمع, فلم يشأ تأويل اللفظ على غير وجهه، أو حمله على غير محمله. هـ- وعندما نقرأ في "المقاييس" أن الباء والجيم والراء في "ب ج ر" أصل واحد, وهو تعقّد الشيء وتجمعه2, نشعر أن ابن فارس وقع على المعنى الأصوب والمفهوم الأدق للرجل الأبجر؛ فما هو بالقوي السرة كما أبى ابن جني إلّا أن يزعم، بل الذي تخرج سُرّتُه وتتجمع عندها العروق, وأصل ذلك كله البُجْرَة: وهي السرة الناتئة، فأين تجد بربك معنى القوة والشدة في مثل هذا؟ أو ليس هذا إلى العيب أقرب، وبالقبح ألصق؟ ومفهوم التعقد واضح هنا عند ابن فارس, حتى في وصف الدواهي

_ 1 واستشهد على هذا بقول الشاعر: ليس بنا فقر إلي التشكي جربة كحمر الأبك 2 المقاييس 1/ 198.

بـ"البَجَاري " إذ يعلل وصفها بأنها "أمور متعقدة مشتبهة". و أما في التقليب الأخير "ر ب ج" فقد ذكر ابن فارس كلمة واحدة هي "التربج" بمعنى التحيّر، وأبدى شيئًا من الارتياب في صحتها، ولكنه مع ذلك نسب إلى الخليل نفسه تفسيرها بالتحيّر2, ثم ذكر أن الرباجة بمعنى الفَدامة, قريبة من ذلك. ومع أن ابن دريد يقتفي أثر الخليل، وينقل كثيرًا من أقواله، لم يورد في "جمهرته" شيئًا من الرباجة، فلعله لاحظ معناها في "الرباجيّ" فهو فَدْم أحمق؛ لأنه لا يعول على ما فعل، بل يفخر بأكثر من فعله. وأيًّا كان، فمن أين طلع علينا ابن جني بمفهوم القوة والشدة حتى في هذا الرباجيّ الأحمق المغرور؟ وأي تكلف أبعد من أن نتصور هذا الفَخُور بنفسه يحسب أنه يحسن صنعًا، وهو -كما قال ابن جني- "يعظم نفسه ويقوي أمره"؟ قد يكون بين الرباجة والتعاظم الكاذب علاقة، ولكنّ كلّ رابط بينها وبين القوة مفقود، وكل سبب بينها وبين الشدة مبتوت! والحقّ أن ابن جني -في باب الاشتقاق الكبير- لو اكتفى بإحراج نفسه فيما قصر عنه علمه من إدراك الجامع المشترك بين بعض التقاليب، لقلنا: رجل حاول، وهذا مبلغ علمه، وحسبه شرفًا أن قد حاول التنقيب عن خفيّ الروابط ودقيق المعاني، ولكنه أحرج اللغة التي يعضّها ويؤمن بسحر ألفاظها؛ إذ أجاءها إلى مضيق كبح فيه أنفاسها، وحبس

_ 1 المقاييس 2/ 472. أما ما أظهره من الارتياب في صحة هذه الكلمة فواضح من قوله: "الراء والباء والجيم كلمة واحدة، وإن صحت، تدل على التحيّر". 2 وابن سيده يعزو أيضًا تفسير التربج بالتحير إلى الخليل", انظر في المخصص 12/ 128 لدى الحديث عن ألفاظ البهت والدهش "صاحب العين" التربج، التحير: وأنشد: وقلت لجاري من حنيفة سر بنا ... نبادر أبا ليلى، ولم أتربج

قواها عن التفلت والانطلاق، ألا وهو مضيق الاشتقاق الكبير الذي سماه هو "الاشتقاق الأكبر". ففي هذه المضيق يأبى ابن جني على كل تقليب أن يصرخ بأعلى صوته بالمدلول الدقيق الذي تنطوي فيه روحه، ويريده لينطق بالمدلول العام الذي تخضع له سائر التقاليب, وإن الكلمة التي تظل حبيسة في القلب، أو مكبوتة في الحنجرة، لا تجاوز عقدة اللسان، ولا تنفذ إلى الآذان، إلّا لتعبر عن معنًى غير معناه، وتوحي بمدلول عامٍّ يباين مدلولها الذاتي الخاصّ، لهي كلمة ميتة في صورة حية، وما أسرع ما تذهب كأنفاس المحتضر؟ ويبد لنا أن طبيعة الاشتقاق الكبير تقضي بالتجوز في التعبير والإكثار من إخراج الكلام عن ظاهره، والحرص على تلمس الألفاظ العامة، بل الشديدة العموم، لكي تصلح للربط بين صور متعددة, ربما تتلاقى في أشياء، ولكنها أيضًا تتباين في أشياء, وعذر ابن جني وأمثاله من أصحاب هذا الاشتقاق أن ألفاظ اللغة ليست إلّا رموزًا للتفكير، فما أعياها عن تبيان الفروق الدقيقة، وعن مسابقة الشعور! وعذر آخر لآصحاب الاشتقاق، وهو أنهم كانوا يخلدون أحيانًا إلى هذا الاشتقاق الكبير إذا أشكل عليهم الحرف: الفاء أو العين أو اللام، فيستعينون بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه, وقد شاهد ابن جني غير مرة شيخه أبا علي الفارسي1 يقلب الأصول لمعرفة بعض المواد،

_ 1 أبو علي الفارسي: هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، ولد في فسا "من أعمال فارس" وتجوَّلَ في كثير من البلدان، ولا سيما بغداد وحلب, إمام من أئمة العربية، صنَّف في عشرين مجلدًا كتابه "التذكرة في علوم العربية", وله "جواهر النحو", و"الحجة" محطوط أيضًا, "وتعاليق سيبويه", و"المقصور والممدود", و"العوامل". ومن تلامذته المشهورين ابن جني, توفي سنة 377هـ. الوفيات 1/ 131، إنباه الرواة 1/ 273، تاريخ بغداد 7/ 275.

فيعينه هذا التقليب ويأخذ بيده، ويفتح عليه من آفاق البحث ما لم يكن يحتسب: "ألا ترى أن أبا عليٍّ -رحمه الله- كان يقوي كون لام "أثفية" فيمن جعلها "أفعولة" واوًا بقولهم: جاء يَثفِه؟ ويقول: من الواو لا محالة؛ كيعده, فترجح بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يَثْفوه ويَثْفيه. أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف؟ وإنما ذلك لأنها مادة واحدة شكلت على صور مختلفة, فكأنها لفظة واحدة"1. لذلك افتتح ابن جني "خصائصه" بتقليب حروف القول والكلام، كأنهما أراد أن يرسم للقارئ منهجه وهو بعد في أول الطريق، وصرَّح بأنه إنما رسم له من منهجه رسمًا ليحتذيه ويتقبله فيحظى به، ويكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله2, فإن هذا "أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق3، لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرح واحد من تتالي الحروف من غير تقليب لها ولا تحريف4. بيد أن ابن جني -على استعانته بهذا الاشتقاق الكبير واسترفاده أياه- ما كان لينخدع بما وراء تقليب الأصول فيه من نتائج وأحكام، وما كان ليعمم هذه النتائج والأحكام على جميع المواد والأصول, فقد يتقارب أصلًا في التركيب بالتقديم والتأخير من غير أن يكون أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، كقولهم: "جذب، وجبذ، ليس أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، وذلك أنهما جميعًا يتصرفان تصرفًا واحدًا نحو: جذب يجذب جذبًا, فهو جاذب, والمفعول مجذوب، وجبذ يجبذ جبذًا, فهو جابذ, والمفعول مجبوذ؛ فإن جعلت مع هذا أحدهم أصلًا لصاحبه فسد

_ 1 الخصائص 1/ 531. 2 نفسه 1/ 530-531. 3 يقصد بصناعة الاشتقاق علم التصريف والاشتقاق، وكل ما يندرج تحت اسم "الاشتقاق الأصغر". 4 الخصائص 1/ 11.

ذلك، لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر"1. وما نسحب ابن جني إلّا مقتنعًا في هذا الموطن بأن كلًّا من جبذ وجذب لغة مستقلة من لغات العرب، حتى عَدَّ كلًا منهما أصلًا بنفسه, ونفى أن يكون أحدهما أصلًا لصاحبه، ولو لم يكن مقتنعًا بهذه الحقيقة لوجب عليه أن يعد أحدهما أصلًا، والآخر مقلوبًا عنه، ولكان له ولغيره أن يقلب أحد الأصلين على جهاته الست, فيكون بين يديه، في كلتا الحالتين، هذه التقاليب: "ج ذ ب", "ج ب ذ", "ب ج ذ", "ب ذ ج", "ذ ج ب", "ذ ب ج". وابن جني لا يمنع تقليب أحد الأصلين "جذب أو جبذ" على جهاته الست التي رأيت، ولكنه يشترط أن يعلم مقلب هذه الوجوه أنه ينبغي تقاليب "جذب" دون سواها، أو "جبذ" دون غيرها؛ إذ لا يفوته أن كلًّا منهما أصل مستقلٌّ قائم بذاته, ولعل هذا ما استنتجه ابن منظور حين قال في "اللسان": "جبذ جبذًا, لغة في جذب. وفي الحديث: "فجبذني رجل من خلفي". وظنه أبو عبيد مقلوبًا عنه, قال ابن سيده: وليس ذلك بشيء، وقال: قال ابن جني: ليس أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، وذلك أنهما جميعًا يتصرفان تصرفًا واحدًا"2 ... وأقل ما توحي به هذه التفرقة في الألفاظ المتقاربة بين الأصول وتقاليبها: الغلوّ في الحيطة والحذر عند تقليب المادة على وجوهما الممكنة، على لهجة، ولا تتداخل لغات العرب في ألفاظ شاع بينها اختلاف عليها، أو تباين في أسلوب أدائها, أو طريق استعمالها3.

_ 1 الخصائص 1/ 467. 2 اللسان 5/ 10 0 1 3 من ذلك مثلًا أننا عرفنا أن "جبذ" تميمية، وجذب "حجازية". راجع ما ذكرناه سابقًا.

وفي هذه التفرقة بين الأصول وتقاليبها، نجد أيضًا شيئًا من التضييق على المكثرين من الاشتقاق الكبير، المتطفلين عليه، المتكلفين فيه، المولعين بتقليب المواد على وجوها المختلفة تلذذًا بهذا التقليب, وفي أمثالهم يقول ابن جني نفسه متبرمًا ضجرًا: " ... فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه، فشيء لم يعرض له1, ولا تَضَمَّنَ عهدته. وقد قال أبو بكر2: "من عرف أنس، ومن جهل استوحش! ". وإذا قام الشاهد والدليل، وضح المنهج والسبيل"3. وللولوع بالاشتقاق الكبير ارتباط وثيق بمذهب المؤمنين بدلالة الحرف السحرية، وقيمته التبعبرية الموحية، عند أولئك الذي مالوا إلى الاقتناع بموجود التناسب بين اللفظ ومدلوله، في حالتي البساطة والتركيب، حتى رأوا إثبات القيمة التعبيرية للصوت البسيط, وهو حرف واحد في كلمة؛ كإثبات هذه القيمة نفسها للصوت المركب، كيفما كانت صورة تركيبه. ولقد رأينا ابن جني في طليعة القائلين بهذه القميمة التعبيرية، للحرف العربي، ورأيناه يخلط أحرفَ مادةٍ ما, ويمزج بعضها ببعض، ويقلبها في تركيبٍ ثلاثيٍّ على جهاتها الست المحتملة، ثم ينظر إلى الحرف الواحد من أحرفها، حيثما كان موضعها منها، على أنه صوت ما يزال بسيطًا, له دلالته التعبيرية الخاصة4. ورأيناه ورأينا غيره أيضًا عندما جنحوا إلى القول بثنائية اللفظ العربي في نشأته الأولى، يردون المواد المزيدة إلى

_ 1 أي: لم يعرض لذلك أبو إسحاق، فقد ذكره في العبارة السابقة مؤكدًا إخلاده إلى هذا الاشتقاق الكبير، ولكنه هنا ينفي تكلفه فيه كما ترى. 2 يقصد أبا بكر بن دريد، وقد سبقت ترجمته. 3 الخصائص 1/ 11. 4 راجع ص145-146.

الصورة الثنائية، ويكتشفون الحرف الذي ثلث أصلها قيمة بيانية خاصة1. فإذا كان حرفٍ في كلِّ مادةٍ يتمتع بهذه الدلالة السحرية الذاتية، فلا ضير في تقليب كل مادة على وجوها المحتملة، ولا ضير أن تأتي فاء الكلمة في موضع العين أو اللام، ولا أن تأتي اللام في موضع الفاء أو العين، ولا أن تحلَّ العين محل اللام أو الفاء، فإن كل حرف منها -قُدِّمَ أو أُخِّرَ- يوحي بمدلوله الذاتي الخاص، والفروق الدقيقة التي قد تنشأ أحيانًا عن هذا التقديم أو ذاك التأخير، إنما تنبيء عن أسرار هذه اللغة العجيبة المعجزة، من غير أن تؤثر في المعنى العام الذي تدل عليه المادة بمجموع حروفها المعبرة. وأكثر الأمثلة التي قُلِبَت هذا القَلْب اللغوي على طريقة الاشتقاق الكبير ثلاثية الأحرف, والقائلون بثنائية اللفظ العربي يوفرون شواهد القلب اللغوي من الثلاثي المضعَّف قبل سواه؛ لأن صورته أقرب إلى صورة الثنائية، ولأن جريان القلب فيه أيسر من جريانه في غيره, فما يتصور فيه عقلًا إلّا تقليبان فقط، نحو: جَرَّ - رَجَّ، ففي كليهما معنى التحرك والاهتزاز2؛ دقَّ - قدَّ, وفي كليهما معنى فصل أجزاء الشيء بعضها عن بعض3، تلَّ -لتَّ، وفي كليهما معنى البل والصبّ4. ويلي هذا القلب في اليسر والسهولة التقاليب العقلية المحتملة في الثلاثي غير المضعف، وجميع ما نقلناه عن ابن جني صورة واضحة عنها يحتذى على مثالها.

_ 1 راجع ص155. 2 الاشتقاق "لعبد الله أمين" 375. 3 راجع المادتين في القاموس المحيط، والمقاييس. 4 قارن بسر الليال، في القلب والإبدال "لأحمد فارس الشدياق" 329-332. ك, وتجد هنا أمثلة كثيرة من هذا القبيل.

على أنهما لاحظوا صورًا من القلب اللغوي فيما كان فوق الثلاثي، سواء أكان ثلاثيًّا مزيدًا، أم رباعيًّا مجردًا أو مزيدًا، أم خماسيًّا مما جرى على ألسنة العرب. فمن القلب في مزيد الثلاثي: أذهب في مشيئته وأهبذ، وكلَّب الأسير وكبله، وأشفى على الأمر وأشاف عليه1. ومن القلب في الرباعي ما لا يتصور فيه عقلًا إلّا تقلبيان فقط، وهو الرباعي المكرر أو المضاعف2، ونحو: هجهجت السبع وجهجهت: صحت به وزجرته, دهدهت الشيء وهدهدته: حدرته من علو إلى سفل4. بكبكت الشيء وكبكبته: طرحت بعضه على بعض5. ومن الرباعي المقلوب ما يتصور تقليبه على عشرين وجهًا كلها محتملة عقلًا, ولكن السماع فيه لم يرد إلّا في تقليبين شائعين, كثيرًا ما يرتدان إلى اختلاف اللهجات العربية، أو إلى تضارب الأخبار، وأحيانًا إلى تصحيف السمع، ونادرًا إلى تصحيف النظر. فلو راجعت في اللسام مادة "رهسم" لرأيتها كمادة "رهمس", تفيد الإتيان بطرف من الحديث، دون الإفصاح بجميعه, ولكن إحدى المادتين -واختر أيتهما شئت- يمكن أن تنقسم عقلًا إلى هذه التقاليب العشرين التي ينقلب عن كلِّ حرف من حروفها الأربعة خمسة أوجه: أ- فعن الراء تنقلب هذه الأوجه الخمسة: "ر س م هـ", "ر س هـ م", "ر م س هـ", "ر هـ س م", "ر هـ م س".

_ 1 الاشتقاق "أمين" 377. 2 فيشبه من هذه الناحية الثلاثي المضاعف, ولم ننس بعد أن الرباعي المضعف لا يزيد في نظر الثنائيين عن مقاطع ثنائي مكرر؛ لذلك لا تجيز القسمة العقلية فيه إلّا تقليبين فقط. 4 المخصص 14/ 27. 5 نفسه 1/ 126.

ب- وعن السين تنقلب هذه الأوجه الخمسة: "س ر م هـ", "س م هـ ر", "س ر هـ م", "س هـ م ر", "س هـ ر م". ج- وعن الميم تنقلب هذه الأوجه الخمسة: "م ر س هـ", "م س ر هـ", "م ر هـ س", "م هـ ر س", "م هـ س ر". د- وعن الهاء تنقلب أخيرًا هذه الأوجه الخمسة: "هـ ر س م", "هـ س ر م", "هـ م س ر", "هـ ر م س". ولقد يدهشك ألا يتوارد في هذه التقاليب العشريين على معنًى مشترك إلّا التقليبان اللذان ذكرهما ابن منظور، ثم تزداد دهشتك إلّا إذا لم تستطع أن تضم منها إلى ثروتك اللغوية إلّا تقليبًا ثالثًا جرى به الاستعمال في غير المعنى العام الملموح في التقليبين السابقين: ألا وهو تقليب "س م هـ ر" ومنه الرماح السمهرية1. ولكن القسمة العقليلة لمعرفة التقاليب المحتملة لمادة ما, ليست إلّا لغوًا وعبثًا، ولولا الرغبة في تبيان مفاسدها لما سوّدنا بياض هذا القرطاس بهذه التقاليب التي تشبه رموز الحساب, أو اصطلاحات المنطق، فهي بهذه كله أبعد المباحث عن منهج فقه اللغة الذي لا تدرس فيه إلا الحقائق والظواهر، لمعرفة ما وراءها من الخصائص والأسرار. ولقد قال مييه "Meillet" في أمثال هذه المباحث وأصاب: "إنها من بين أبحاث علم اللسان كافة أدقها وأقلها يقينًا، ومن ثَمَّ كثير فيها عبث الهواة"2. ومن التقليب في مزيد الرباعي: اضمحلَّ الشي وامضحلَّ، والسحاب المكفهر والمكرهف، وتبرقط الرجل على قفاه وتقرطب3.

_ 1 الرماح السهرية، الصلبة، أو المنسوبة إلى سمهر زوج ردينة، وكانا مثقفين للرماح, ومنها سمهر الزرع: لم يتوالد، كأنه حبة برأسها، ومنه اسمهرّ الظلام: تنكر وتراكم. "عن القاموس المحيط بتصرف 2/ 15". 2 منهج البحث في اللغة "ترجمة مندور" ص108. 3 قارن بالمخصص 14/ 27-28.

أما القلب في الخماسي فلَم تعرفه العرب إلّا على ندرة، كما ورد في الشعر خاصة "زبردج" بدلًا من "زبرجد"1. وفي جميع أنواع القلب التي رأيناها، توشك التقاليب الثنائية أن تستأثر بالنصيب الأكبر من المواد ثلاثية ورباعية، مجردة ومزيدة، وخماسية أيضًا. ففي كلٍّ من الثلاثي والرباعي المضعَّفين لا يتصور عقلًا إلّا تقليبان، وفي الرباعي غير المضاعف قلَّمَا يستعمل في تقاليبه العشرين المحتملة أكثر من تقليبين، أما الثلاثي غير المضعف، فعلى أنه كثيرًا ما يقلب على وجه الستة كما فعل ابن جني، لا تكفي الشواهد التي مثَّل بها عليه للقطع باستعمال وجوهه جميعًا، ولا لاستنباطٍ جامعٍ واحد مشترك بينها لو كتب لها جميعًا أن تستعمل, وما أكثر ما يقلب الاشتقايون مادة ثلاثية على وجوهها العقلية الستة، ثم يستثنون وجهًا واحدًا منها, ويقولون: مهمل أو ممات, وقد يستعيضون عنه بوجه يقاربه بعد إبدال حرف فيه أو أكثر بما يماثله صفة أو مخرجًا، وأقرب مثال يشهد لهذا, ما ذكره ابن جني في تقليب "س م م" من استبدال "ن س م" بـ"ل س م"، والنون أخت اللام كما قال2. وربما استثنتوا من الوجوه الستة أكثر من تقليب، فلا يذكر لنا الاشتقاقيون في المادة الثلاثية إلّا أربعة تقاليب مستعملة, وأحيانًا ثلاثة فقط؛ وأكثر صنعيهم على الاكتفاء بتقليبين لم يجر الاستعمال بغيرهما إذا لوحظ وقوعهما على مدلول واحد مشترك, ولا بأس في أن نمثَّل لهذه الحال الأخيرة، لأهميتها وقيمتها الخاصة، بالشواهد التالية: يقولون: طمس الطريق وطسم: درس، مَحُتَ يومنا وحَمُت: اشتد حره, تَبَلْتُ الشيء وبَلَتُّه: قطعته, شاءني الأمر وشآني: حزنني.

_ 1 الاشتقاق "أمين" 287. 2 راجع ص205.

غرس الشيء ورغسه: زرعه, وما أكثر ما يقال في طائفة من هذه الأمثلة: هذه اللفظة لغة لقبيلة من العرب، وتلك لغة1، كأنما يود اللغويون لو يردون هذه التقليبات الثنائية إلى اختلاف لهجات العرب. فإن يك في وسعنا أن نرجع بالكثير من هذه التقاليب إلى ضربٍ من اختلاف اللهجات، وقد تحدثنا عنها فأطلنا الحديث2، فهل نحكم على القلب اللغوي بقلة الجدوى؟ وهل نرى كل ما في الاشتقاق الكبير من عبث الهواة؟ وهل نعرض عن هذا اللون من البحث اللغوي الممتنع؛ لأنه لا يطَّرِد ولا ينقاد؟ لقد تساءل ابن جني هذا التساؤل كله، وأجاب عنه فأحسن الجواب إذ قال: "على أن هذا وإن لم يطرد ويَنْقَدْ في كل أصل، فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقيلب لشيء من حروفه، فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق، كان فيما تقلبت أصوله "فاؤه وعينه ولامه" أسهل، والمعذرة فيه أوضح. وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته، وتركت الضجر وتحاميته، لم تكد تعدم قرب بعض من بعض، وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله! "3. فمع هذا التحفظ, ومع هذا الحذر من الوقوع في التكلف, يظل بحث الاشتقاق الكبير -كما قال آدم متز: يؤتي ثمره إلى اليوم، حتى ليمكن القول: إن لغويي العرب لم يعرفوا إنتاجًا أعظم منه4!

_ 1 المخصص 14/ 27-28, وفيه أمثلة من هذا النوع. 2 ارجع إلى الفصل الذي عقدناه للهجة تميم وخصائصها, ولاحظ ما ذكرناه من أمثلة القلب في أواخر هذ الفصل. 3 الخصائص 1/ 11-12. 4 آدم "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع" ترجمة أبي ريدة 1/ 330 ط2 سنة 1947.

الاشتقاق الأكبر

الاشتقاق الأكبر: إن كل تكلف ارتكبه اللغويون في باب الاشتقاق بقسيمه السابقين: الأصغر والكبير، لا يعد شيئًَا إذا قيس بما اضطروا إلى ارتكابه لدى كل خطوة فيما سموه بالاشتقاق الأكبر. إنهم هنا لا يواجهون مادةً تدل بترتيبها نفسه على معنًى، ولا يخالفون في ترتيبها فيقلبونها على وجوهها المحتملة, وتظل مع ذلك هي بأحرفها وأصواتها، فيعتقدون باتحاد مدلولها أو تقاربه؛ وإنما يواجهون أول الأمر مادة، ويلاقون آخر الأمر مادةً جديدة، فيستبدلون الثانية بالأولى، ويستعيضون بأصوات الثانية عن أصوات الأولى، لأن المخارج متقاربة، أو الصفات متماثلة، ولأن أخا الصوت كأنه الصوت نفسه، فلا فرق بين الأصل والفرع، ولا بين الصوت وصداه، فلك أن تتصور مدى التكلف الذي يقع فيه الاشتقاقيون عندما يؤكدون في مثل هذا الاشتقاق الأكبر أن الصورة "البدلية" لا بد أن تعوض الصورة "الأصلية" في مدلولها وإيحائها، مثلما عوضتها في صوتها وصداها؛ لأن المناسبة الطبيعية التي حملت الواضع على أن يضع لفظة "ع ص ر" لإفادة معنى الحبس، هي التي حملته أيضًا على أن يعبر عن المدلول نفسه بلفظ "أزل"، فالعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي، والراء أخت اللام1. ولقد اصطلحوا على أن الاشتقاق هو ارتباط بعض المجموعات الثلاثية الصوتية ببعض المعاني ارتباطًا عامًّا لا يتقيد بالأصوات نفسها, بل بترتبيها الأصلي والنوع الذي تندرج تحته, وحينئذ، متى وردت إحدى تلك المجموعات الصوتية على ترتيبها الأصلي فلا بد أن تفيد الرابطة

_ 1 الخصائص 1/ 541.

المعنوية المشتركة، سواء أحتفظت بأصواتها نفسها أم استعاضت عن هذه الأصوات أو بعضها بحروف أخر تقارب مخرجها الصوتي, أو تتحد معها في جميع الصفات. من ذلك تناوب اللام والراء في هديل الحمام وهديره، والقاف والكاف في كشط الجلد وقشطته، والباء والميم في كبحت الفرس وكمحته.. وهذه الأمثلة كلها في تقارب المخرج الصوتي. ومن الأمثلة على الاتفاق في الصفات: تناوب الصاد والسين في سقر وصقر، وسراط وصراط، وساطع، وصاطع، ومسقع ومصقع، وهكذا. وابن جني قد أورد في باب "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" كثيرًا من الأمثلة المتلعقة بهذا الضرب من الاشتقاق, وقال فيه: "وهذا باب واسع، من ذلك قوله الله سبحانه: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء, فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهزّ ما لا بال له؛ كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك، ومنه العسف والأسف، والعين أخت الهمزة؛ فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين, ومنه القَرْمة وهي الفقرة تُحز على أنف البعير، وقريب منه قلمت أظفاري؛ لأن هذا انتقاص للظفر، وذلك انتقاص للجلد، فالراء أخت اللام، والعملان متقاربان، وعليه قالوا فيه الجَرْفَة وهي من "ج ر ف", وقريب منه الجَنَفَ وهو الميل، وإذا جلفت الشيء أو جرفته, فقد أملته عما كان عليه، وهذا من "ج ن ف"1.

_ 1 الخصائص 1/ 538.

وربما لا يكون في هذه الأمثلة تعسف في التطبيق وإيغالٌ في التعليل، ولكن التعسف يظهر أشد ما يكون بعدًا عن المنطق في مثل قول ابن جني: "نعم وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة الفاء والعين واللام، فقالوا: عصر الشيء، وقالوا: أزاله إذا حبسه، والعصر ضرب من الحبس، وذلك من "ع ص ر", وهذا من "أزل" والعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي, والراء أخت اللام، وقالوا: الأزم: المنع، والعصب: الشد، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء، وذاك من "أز م", وهذا من "ع ص ب", وقالوا: السلب والصرف، وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه، فذاك من " س ل ب", وهذا من "ص ر ف", والسين أخت الصاد، واللام أخت الراء، والباء أخت الفاء، قالوا: الغدر كما قالوا: الخَتْل، والمعنيان متقاربان, واللفظان متراسلان، فذاك من "غ د ر" وهذا من "خ ت ل" فالغين أخت الخاء، والدال أخت التاء، والراء أخت اللام، وقالوا: زأر, كما قالوا: سعل، لتقارب اللفظ والمعنى.... إلخ"1 وإذا كان الاشتقاق الكبير يقوم على القلب، فمن الواضح أن الاشتقاق الأكبر يقوم على الإبدال، ولقد أدرك لغويو العرب إمكان وقوع الإبدال مثلما تصوروا إمكان وقوع القلب، وأنشئوا يلتمسون الشواهد على تماثل المعنى بين الصورتين المبدلة والمبدل منها، وانطلقوا يؤكدون أن "من سنن العرب إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، ويقولون: مدحه ومدهه، وفرس رفل ورفن، وهو ثكير مشهور قد ألَّفَ فيه العلماء"2. وإن أدنى ملابسة لتكفي ليربط القدماء بين الصورتين، إذا بدل لهم أنهما اشتركتا في معنى متقارب، مع أن كثيرًا من هذا التقارب لا يزيد

_ 1 المصدر نفسه 1/ 541. 2 الصاحبي 173.

عن الترادف تارةً، والاشتراك تارةً أخرى, ومن العجيب أن ابن السكيت مثلًا في "القلب والإبدال" لم يذكر في الثلاث مئة كلمة التي اشتملت عليها رسالته إلّا القليل مما يكمن أن يُفَسَّر بظاهرة الإبدال تفسيرًا صريحًا، وسائر ما استشهد به بعد ذلك لم يختلف لفظه إلّا في حرف واحد، كالنون واللام في "التهتان" و"التهتال" وكلاهما يعين سقوط المطر. أما المحدثون فلهم في هذا الاشتقاق الأكبر رأي جريء يردّون في ضوئه أكثر صور الإبدال إلى ضرب من التطور الصوتي الذي يدخل أحيانًا في اختلاف اللهجات, قال الدكتور إبراهيم أنيس: "حين نستعرض تلك الكلمات التي فسرت على أنها من الإبدال حينًا، أو من تباين اللهجات حينًا آخر، لا نشك لحظة في أنها جميعًا نتيجة التطور الصوتي، أي: أن الكلمة ذات المعنى الواحد حين تروي لها المعاجم صورتين أو نطقين، ويكون الاختلاف بين الصورتين لا يجاوز حرفًا من حروفها, نستطيع أن نفسِّرَها على أن إحدى الصورتين هي الأصل, والأخرى فرع لها أو تطور عنها, غير أنه في كل حالة يشترط أن نلحظ العلاقة الصوتية بين الحرفين المبدل والمبدل منه"1. ورأي المحدثين -على جراءته- أسلم اتجاهًا، وأصحُّ نتيجة، من رأي تلك الطائفة من المتقدمين الذين ذهبوا إلى إكثار العرب من الإبدال كأنه سنة أو عادة، وكأن النطقين المختلفين عندهم متساويان يوضع أحدهما مكان الآخر، وكأنهم يتعمدون هذا الإبدال إعجابًا به، وتفننا فيه. على أننا لم نعدم بين المتقدمين من كان يرد كثيرًا من صور الإبدال إلى اختلاف اللهجات، مؤكدًا أن العرب لا تتعمد تعويض حرف من

_ 1 من أسرار اللغة ص58 "ط2".

حرف، "وإنما هي لغات مختلفة لمعانٍ متفقة؛ تتقارب اللفظتان في حرفٍ لمعنًى واحد، حتى لا يختلفا إلّا في حرف واحد"1. وعندما تحدثنا عن اختلاف اللهجات، ذكرنا كثيرًا من الأصوات التي تباين أداؤها بين قبائل العرب ولا سيما قريش وتميم؛ كالثاء والفاء في لثام ولفام، والظاء والضاد, في فاضت نفسه وفاظت، والسين والصاد في السمخ والصمخ، والقاف والكاف في قشطت وكشطت، والجيم والياء في صهريج وصهريّ2، فلا يعقل أن يشترك العرب في شيء من ذلك؛ إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون3. ومما يدل على أن هذه الأحرف لهجات مختلفة ما رواه اللحياني 4 قال: قلت لأعرابيّ: أتقول مثل حَنَك الغراب أو مثل حلَكه؟ فقال: لا أقول مثل حَلَكه! 5 وقال البَطَلْيَوْسي6 في شرح الفصيح: قال أبو بكر بن دريد، قال أبو حاتم7: قلت لأم الهيثم: كيف تقولين؟ أشد سوادًا مماذا؟ قالت: من حلََك الغراب, قلت: أفتقولينها من حنك الغراب؟ فقالت: لا أقولها أبدًا8!

_ 1 المزهر 1/ 460, وقارن بما ذكرناه ص96. 2 راجع بعناية واهتمام ما ذكرناه ص 91-96. 3 المزهر 1/ 460. 4 هو الإمام اللغوي المشهور علي بن حازم اللحياني، أبو الحسن، المتوفى سنة 215هـ. 5 المزهر 1/ 475. 6 هو عبد الله بن محمد بن السيد، المشهور بالبطليوسي, من كبار علماء اللغة, ولد ونشأ في بطيلوس بالأندلس, له تصانيف قيمة في اللغة والأدب منها:"الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لابن قتيبة" وقد طبع، وكتاب "المثلث" على مثال "مثلثات قطرب" وهو مخطوط؛ و"المسائل والأجوبة" وهو مخطوط أيضًا. توفي سنة 521هـ. "الوفيات 14/ 265؛ والبداية والنهاية 12/ 198. 7 هو سهل بن محمد السجستاتي, وقد سبقت ترجمته. 8 المزهر 1/ 475.

وليست قصة الاختلاف في الصقر والسقر والزقر عنا ببعيد1, ولا تقل عنها طرافة قصة إمام الصرفيين أبي عثمان المازني2 مع الخليفة الواثق بالله حين غَنَّت جارية بحضرته بقول العَرْجِيّ: أظلومُ إن مُصابكم رجلًا ... أهدى السلام تحيةً ظلمُ فاختلف من كان بالحضرة في إعراب "رجلًا" فمنهم من نصبه ومنهم من رفعه، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب, فأمر الواثق بإشخاصه. وقال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن, قال: أي الموازن؛ أمازن تميم, أم مازن قيس, أم مازن ربيعة؟ قلت: مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي, وقال: "با اسمك"؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا! قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر! فقلت: بكر يا أمير المؤمنين, ففطن لما قصدته وأعجب به3. فهذه الأمثلة كلها -على أنها من تنوع اللهجات- مرَّت بمراحل طويلة حتى تطورت فيها الأصوات، وتأثر بعضها ببعض، بسبب التجاور والتقارب في صفاتها ومخارجها. لكن الطريف في الأمر أنّ في الأمثلة المحفوظة عن الإبدال اللغوي ما تباعدت فيه الأحرف المبدلة صفة ومخرجًا، حتى قال العلماء: "قَلَّمَا تجد حرفًا إلّا وقد وقع فيه البدل، ولو نادرًا"4.

_ 1 راجع ص63. 2 هو بكر بن محمد بن حبيب بن بقية المشهور بالمازني، إمام الصوفيين، من أهل البصرة, من كتبه "التصريف", و"الألف واللام", و"الديباج", توفي سنة 249هـ. "الوفيات 1/ 92". 3 قارن باللهجات 104 نقلًا عن المبرد. 4 نقل أبو حيان هذا في شرح "التسهيل" عن شيخه أبي الحسن بن الصائغ، وذكره السيوطي في "المزهر 1/ 461".

ولذلك حرص العلماء على التفرقة بين الإبدال اللغوي والإبدال الصرفيّ، ففي الصرف حروف معينة يقع فيها الإبدال، لكن اللغة حين استقرئت وجمعت نصوها وأخبارها لم يقتصر الإبدال فيها على ما سنَّه الصرفيون فيما بعد من قواعد التبديل والتعويض، بل اشتملت على ظواهر مدهشة, أحيانًا أبدل فيها حرف من حرف من غير أن يتماثلا أو يتقاربا في الصفة أو المخرج، قال أبو علي القالي: "اللغويون يذهبون إلى أن جميع ما أمليناه إبدال، وليس هو كذلك عند علماء أهل النحو، وإنما حروف الإبدال عندهم اثنا عشر حرفًا، تسعة من الزوائد، وثلاثة من غيرها. فأما حروف الزوائد فيجمعها قولنا: "اليوم تنساه" وهذا عمله أبو عثمان المازني، وأما حروف البدل فيجمعها قولنا: "طال يوم أنجدته" وهذا أنا علمته1. ولقد لخص بعض العلماء المحدثين العلاقات التي تسوغ الإبدال اللغوي بين الحروف، على طريقة الاشتقاق الأكبر، فرآها لا تخرج عَمَّا يلي: 1- التماثل: وهو أن يتحد الحرفان مخرجًا وصفة؛ كالبائين، والتائين، والثائين. 2- التجانس: وهو أن يتفق الحرفان مخرجًا ويختلفا صفة؛ كالدال، والطاء2. 3 التقارب. أ- أن يتقارب الحرفان مخرجًا ويتحدا صفة؛ كالحاء والهاء.

_ 1 الأمالي 2/ 186, ويذكر القالي على الأثر أمثلة على حروف البدل عن نحو ما جمعها, فيراجع هذا في موضعه. 2 ننصح القارئ بالرجوع إلى فصل "الأصوات العربية" الذي أرجأناه لأسباب منهجية كما أوضحنا في مطلع حديثنا عن "مناسبة حروف العربية لمعانيها".

ب- أن يتقارب الحرفان مخرجًا وصفة؛ كاللام والراء. ج- أن يتقارب الحرفان مخرجًا، ويتباعدا صفة؛ كالدال والسين. د- أن يتقارب الحرفان صفة ويتباعدا مخرجًا؛ كالشين والسين. 4- التباعد: أ- أن يتباعد الحرفان مخرجًا ويتحدا صفة؛ كالنون والميم. ب- أن يتباعد الحرفان مخرجًا وصفة؛ كالميم والضاد1. وكان لزامًا على العلماء أن يضعوا حدودًا فاصلة بين التقارب والتباعد لأنهما ضدان متقابلان، مع أن الإبدال يقع فيهما كليهما على سواء, فلاحظوا أن التقارب في المخرج لا يكون إلّا في عضو واحد من أعضاء النطق، من غير أن يكون بين الحرفين فاصل؛ كالهمزة من أقصى الحلق، والعين من وسطه, أما التباعد في المخرج فيكون على حالتين: إحداهما خروج الحرفين من عضو واحد، مع أن بينهم فاصلًا؛ كالهمزة من أقصى الحلق، والخاء من أدناه، فالفاصل بينهما وسط الحلق؛ والثانية خروج الحرفين من عضوين مختلفين؛ كالعين من وسط الحلق؛ والثانية خروج الحرفين من عضوين مختلفين؛ كالعين من وسط الحلق، والجيم من وسط اللسان, ولم يشترطوا للتقارب في الصفة إلّا اتحاد الحرفين في أكثر الصفات؛ كالنون والراء, لذلك يقال في الحرفين اللذين لم يتحدا في أكثر الصفات: إنهما متباعدان صفة22. وبين هذه العلاقات الأربع التي تسوِّغ الإبدال ما يبدو بديهيًّا, حتى ليعجب الباحث من التصريح به، وذلك ما نجده في حال التماثل، فمن ذا الذي ينكر أن البائين مثلًا تحل إحداهما مكان الأخرى بعد أن اتحدتا صفة ومخرجًا؟

_ 1 الاشتقاق "أمين" 352؟ 2 قارن بالاشتقاق أيضًا 353.

وبين هذه العلاقات ما يبدو منطقيًّا مقبولًا، كما في حال التجانس, فقد لوحظ فيها الأمر الأهم، وهو اتفاق المخرج، أما اختلاف الصفة فليس بذي بالٍ؛ لأن المعوّل في معرفة نوع الصوت ودرجة إيقاعه على العضو الذي خرج منه من بين أعضاء جهاز النطق، وليس على الطريقة أو الكيفية التي تَمَّ بها انطلاق هذا الصوت، فالدال والتاء حرفان نطيعان، كلاهما يخرج من سقف غار الحنك الأعلى, المسمى بـ"النطع", فهما إذًا متجانسان، وعلى هذا المعوّل، فلا ضير بعد هذا أن توصف الطاء بالإطباق والاستعلاء، وهما صفتان قويتان، بينما توصف الدال بالصفتين المضادتين الضعيفتين: الانفتاح والاستفال. لكن بين هذه العلاقات المسوغة للإبدال ما لا يبدو منطقيًّا قط، بل يمكن القول فيه: إنه مضطرب تارةً، متناقض تارةً أخرى. والاضطراب واضح في بعض حالات "التقارب"، حين يلحظ في هذا "التقارب" مفهوم التباعد, فإن لم يكن لنا مأخذ على الحالين الأولين من حالات التقارب, حين يتقارب الحرفان مخرجًا ويتحدان صفة، وحين يتقاربان مخرجًا وصفة، ليكوننَّ مأخذنا الأول على الحال الثالثة التي يتقارب فيها الحرفان مخرجًا، ولكن يتباعدان صفة؛ كالدال والسين، ومأخذنا على هذه الحال ليس بالشديد؛ لأن التباعد لم يكن في "المخرج" المعوّل عليه، بل في الصفة, ثم ليكوننَّ لنا مأخذ أشد على الحال الرابعة التي يتقارب فيها الحرفان صفة، ولكن يتباعدان في الأمر الأهم, وهو المخرج؛ كالشين والسين، فما ندري كيف أدرجوا مفهوم التباعد في مفهوم التقارب, وكيف جمعوا بين النقيضين وسموهما مع ذلك باسم واحد، وكيف طوّعت لهم أنفسهم أن يبدلوا حرفًا بحرف وقد اختلف مخرجاهما, فانطلق كلٌّ منهما من مكانٍ بعيد عن المكان الذي خرج منه الآخر! أين تذهب إذن تلك القيمة التعبيرية والموحية للحرف العربي؟ وإذا

اكتشفت هذه القيمة في الصوتين "التوأمين" الخارجين من مكان واحد، فأنى تكشف في الصوتين "الغريبين" اللذين خرجا مخرجين متباعدين، ثم أحدثا إيقاعين متباينين؟! وهذا الاضطراب فيما سموه علاقة "التقارب", ليس شيئًا يذكر إذا قارنه بالتناقض الصريح الذي لا سبيل إلى دفعه فيما سموه علاقة "التباعد"، وعدُّوه -رغم اسمه هذا- من مسوغات الإبدال بين الحروف! وفي الحالتين اللتين أوضحوهما في علاقة "التباعد" يبدو التناقض صريحًا، وإن كان في الحال الثانية منهما بالغًا أشده، ففي الأولى يتحد الحرفان صفة، لكنهما يتباعدان مخرجًا؛ كالنون والميم، أما في الثانية فيتباعدان في كلا الأمرين: المخرج والصفة؛ كالميم والضاد، فأين مسوّغات الإبدال بعد هذا كله؟ ولم هذا التكلف كله في التماس الحالات النادرة التي لا يكاد العقل يتصور إمكان وقوعها في اللغة الواحدة، والبيئة الواحدة؟ إن لأنصار الاشتقاق الأكبر المولعين بصور الإبدال فيه, أن يدافعوا عن وجهة نظرهم بقولهم: إنهم في قضايا الإبدال ليسوا نقلةً أمناء، تقصوا الأحرف التي أبدل بعضها مكان بعض، فلم يجدوها متجانسة دائمًا، ولا متقاربة دائمًا، بل وقعوا فيها على أحرف محفوظ فيها الإبدال, وهي مع ذلك متباعدة المخارج حينًا، متباعدة الصفات حينًا آخر، فما كانوا ليكتموا ما عرفوه، وما زادوا على أن نقلوا هذا وبينوه, وإن الباحث ليميل إلى تَقَبُّل هذا الدفاع حين يرى طائفة من الشواهد المتضافرة على وقوع الإبدال حقًّا بين الأحرف المتباعدة صفة أو مخرجًا. ولو تتبعنا مسوغات الإبدال في حروف المعجم العربي على ترتيبها لوجدنا علاقة التقارب أكثر من تلك المسوغات, أما التجانس والتباعد

فقليلان نادران، وإن كانا يتفاوتان بين حرف وآخر. فمن أمثلة الإبدال المحفوظة في الهمزة أربع صور من التقارب: مع العين، والقاف، والواو، والياء؛ فقد عاقبت الهمزة العين في قولهم: آديته على كذا وأعديته: قويته وأعنته1, وموت ذؤاف وذعاف، وهو الذي يجعل القتل2. وعاقبت الهمزة القاف في قولهم: القوم زهاق مئة وزهاء مئة، بضم الزاي وكسرها فيهما، بمعنى واحد3. وعاقبت الهمزة الياء في الرجل الألمعي واليلمعي, وهو الظريف5، وفي العود الألنجوج واليلنجوج, وهو الذي يُتَبَخَّرُ به6, وفي أسنانة ألل ويلل, إذا كان فيها إقبال على باطن الفم7. أما التجانس فله في الهمزة صورة مع الهاء، فقد عاقبت الهمزة الهاء في أيا وهيا، واتمأل السنام واتمهل إذا انتصب، وأرقت الماء وهرقته8. وأما التباعد فله في الهمزة صورة مع الغين، مع أن كلًّا منهما حرف حلقي، لكنهما متباعدان مخرجًا وصفة9، كالمأص والمغص من

_ 1 الأمالي 2/ 78. 2 المزهر 1/ 462. 3 الاشتقاق "أمين" 362. وجميع الأمثلة التي سننقلها عنه إنما هي لابن السكيت. 4 المزهر 1/ 462, وقارن بما ذكرناه ص79 عن اختلاف الحجاز وتميم في مثل هذه الألفاظ. 5 الأمالي 2/ 160. 6 المزهر 1/ 463. 7 الأمالي 2/ 160. 8 المزهر 1/ 462. 9 ومن العجيب أن يكون بين الهمزة والغين تباعد مع أنهما حلقيان، يخرجان من عضو واحد، على حين يكون بين الهمزة والقاف تقرب كما رأينا؛ لأنهما متقاربان صفةً وإن تباعدا مخرجًا.

الإبل: البيض اللواتي قد فارقت الكوم1. والياء أبدلوها ميمًا، فكان في هذا الإبدال تجانس؛ كقولهم: هو يرمي من كثب ومن كثم, أي: من قرب وتمكُّن. وضربة لازم ولازب, وأدهقت الكأس إلى أصبارها وأصمارها: إذا ملأتها إلى رأسها2. وأبدلوا الباء حاءً وفاءًَ، فكان في هذا الإبدال تباعد, يقال للناس والدواب إذا مروا يمشون مشيًا ضعيفًا: مروا يدبون دبيبًا, ويدحون دحيحًا3. وجب القلب ووجف: خفق واضطرب. هبت الريح وهفت: ثارت وهاجت4. والتاء أبدلوها دالًا وطاءً، فتجانس المبدل والمبدل منه, نحو: قرت الدم وقرد الإثمد إذا جمدا5، والأقطار والأقتار: النواحي6. لكنهم أبدلوها على تباعد في المخارج والصفات سينًا وفاء وواوًا, فقالوا: النات والناس والأكياس والأكيات7، وقالوا: محتد كل شيء ومحفدة: أصله8، وقالوا: التكلان، والتراث، والتخمة، والتقوى وتترى، والتليد، والتلاد؛ أصلها من وكلت، وورثت، والوخامة، والوقاية، والمواترة، والولادة 9.

_ 1 الاشتقاق "أمين" 367, والواحدة من هذه الإبل: مأصة ومغصة. 2 الأمالي 2/ 53. 3 الاشتقاق "أمين" 367. 4 نفسه 369. 5 الخصائص 1/ 540. 6 عن الأصمعي "الأمالي 2/ 156" ومنه "ما أستطيع وما أستتيع", و "رجل طبن وتبن": فطن حاذق. 7 المزهر 1/ 464. 8 الاشتقاق "أمين" 368. 9 عن ابن السكيت "ذكره في المزهر 1/ 464".

والثاء أبدلوهها ذالًا، فتجانس الحرفان، نحو: ثروة وذورة: مال1، وأبدلوها فاء، فتقارب صفة وتباعدا مخرجًا، نحو: ثلغ رأسه وفلغه: إذا شدخه، والحُثَالة والحُفَالة: الرديء من كل شيء، والثوم والقوم، واللثام واللفام، والأثاثي والأثافي2. وقد سبق أن نبهنا على أن هذا الاختلاف في نطق الثاء والفاء يرتَّد إلى ضربٍ من تباين اللهجات، ولا سيما بين الحجاز وتميم3. وسنرى تقاربها مع السين ولو تباعدا مخرجًا. والجيم الشَّجْرية أبدلوها على تجانس بالشين والياء الشجريتين، وعلى تقارب في الصفة وتباعد في المخرج بالكاف والميم، وعلى تباعدٍ مخرجًا وصفة بالحاء. فمن التجانس بين الجيم والشين: الأجدر والأشدر4، وبين الجيم والياء: شجرة وشيرة5. ومن التقارب بين الجيم والكاف: جمل وكمل6، وبين الجيم والميم: جرن على الأمر جرنًا, ومرن عليه مرونًا ومرانة: تعوده7. ومن التباعد بين الجيم والحاء قول الأصمعي: تركت فلانًا يجوس بني فلان ويحوسهم: إذا كان يدوسهم ويطلب فيهم, وقد سمع المازني أبا سرار الغَنَويّ يقرأ: "فحاسوا خلال الديار" فقال له: إنما هو

_ 1 انظر مادة "ذرو" في لسان العرب, ومنه النبيشة والنبيذة: تراب البئر, وتعلتم وتلعذم "قارن بالمزهر 1/ 464، 465". 2 راجع المزهر 1/ 465. 3 راجع ص89. 4 الاشتقاق "أمين" 357. 5 المخصص 14/ 34, وقارن بما ذكرناه ص94-95 عن اختلاف اللهجات في مثل هذا. 6 مقدمة الجمهرة ص5. 7 الاشتقاق "أمين" 365.

جاسوا، قال الغنوي: جاسوا وحاسوا واحد1. ويلاحظ في مثل هذا إمكان وقوع التصحيف، وإمكان القول بالترادف الحقيقي2. والحاء أبدلوها خاء وههاء وكافًا على تقارب، وأبدلوها عينًا على تجانس، ولامًا على تباعد، ورأينا آنفًا الإبدال بينها وبين الباء والجيم على تباعد أيضًا. فمن التقارب بين الحاء والخاء: الطحرور والطخرور للسحابة، واطمحرّ واطمخرّ: امتلأ وروي3، وبين الحاء والهاء: مدحت الرجل ومدهته. قال النعمان بن المنذر لرجل ذكر عنده رجلًا: "أردت كيما تذيمه فمدهته" أي: تعيبه فمدحته4، وبين الحاء والكاف: سفح ما في إنائه وسفكه، وسفح دمه وسفكه5. ومن التجانس بين الحاء والعين أنهم قالوا: تجعَّد كما قالوا: شحط، وذلك أن الشيء إذا تجعد وتقبض عن غيره شحط وبعد عنه, ومنه قول الأعشى: إذا نزل الحيّ حلَّ الجحيـ ... ـش شقيًّا غويًّا مبينًا غيورًا وذاك من تركيب " ج ع د", وهذا من تركيب "ش ح ط", والعين أخت الحاء6.

_ 1 الأمالي 2/ 78، ومنه أيضًا قول الكسائي: أحم الأمر وأجم: إذا حان وقته. 2 قارن بأسرار اللغة ص 65 "ط2". 3 ومنه: يتحوف مالي ويتخوفه: ينقصه ويأخذ من أطرافه, قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} : الأمالي 2/ 111-112. 4 مقدمة الجمهرة ص6, ومنه قول رؤبة بن العجاج لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي ويروي: "المزه" أراد "المزح". ومن روى "المده" أراد "المدح". انظر المصدر نفسه. 5 الاشتقاق "أمين" 362. 6 الخصائص 1/ 542. ويلاحظ هنا أن الإبدال واقع في الأحرف الثلاثة.

ومن التباعد بين الحاء واللام قولهم: انداح بطنه واندال: عظم واسترسل1. والحاء أبدلوها هاء على تقارب، وجيمًا على تباعد، فقالوا: اطرخم واطرهم: إذا كان طويلًا مشرفًا2، وخلع وجلع: ذهب حياؤه3. والدال جانسوا في إبدالها تاء وطاء، وقاربوا في إبدالها باء وذالًا، وباعدوا في إبدالها لامًا. فمن التجانس بين الدال والتاء ما سبق ذكره من قرد الإثمد وقرت الدم ذا جمدا4، وبين الدال والطاء قولهم: مد الحرف ومطه بمعنى واحد5، والإبعاد والإبعاط، وما له عليَّ إلا هذا فَقَدْ، وإلا هذا فقط6. ومن المقارنة بين الدال والباء: قاد قوسين وقاب قوسين7، وبين الدال والذال: ادرعفَّت الإبل واذرعفت: إذا أسرعت، والدحداح والذحذاح: القصير8. أما المباعدة بين الدال واللام ففي مثل قولهم: معده ومعله: إذا

_ 1 الاشتقاق "أمين" 367. 2 المزهر 1/ 466. ومنه: بخ بخ وبه به: إذا تعجب من الشيء، وصخدته الشمس وصهدته: إذا اشتد وقعها عليه. 3 الاشتقاق "أمين" 367. 4 راجع ص221. 5 الأمالي 2/ 155. 6 نفسه 2/ 156. 7 ومنه: صاروا عباديد، وعبابيد: متفرقين. قارن بالاشتقاق "أمين" 365. 8 الأمالي 2/ 171. وقارن بذيل الأمالي ص55 قول العرب في بعض أدعيتها: دبلا دبيلا، وذبلا ذبيلًا، ولكنه بالدال غير المعجمة أجود.

اختلسه1، قال الشاعر: إني إذا ما الأمر كان معلًا ... وأوخفت أيدي الرجال الغسلا2 وقال الآخر: أخشى عليها طيئًا وأسدًا ... وخاربين خربا ومعدا3 والذال جانسوا في إبدالها ثاء كما رأينا في الثروة والذروة، وجانسوا أيضًا في إبدالها ظاء في قولهم: تركته وقيذًا ووقيظًا4، وقاربوا في إبدالها دالًا، على نحو ما استشهدنا بالذحذاح والدحداح، والأمثلة الأخرى. والراء قاربوا في إبدالها لامًا وميمًا ونونًا، وباعدوا في إبدالها دالًا وسينًا. فمن تقاربها مع اللام: جبر وجبل، وكلاهما يفيد الالتئام والتماسك، ومنه جبرت العظم ونحوه: قويته5، والجبل لشدته وقوته6. ومن تقاربها مع الميم وصفهم الشيخ المسن بالقحر والقحم7. ومن تقاربها مع النون جرف وجنف، وفي كليهما معنى الميل إلى الشيء8.

_ 1 المزهر 1/ 467. 2 معلًا: اختلاسًا، وأوخفت أيدي الرجل: قلبوا أيديهم في الخصومة "الأمالي 2/ 156". 2معدًا: اختلسا. والخارب: سارق الإبل خاصة، ثم يستعار فيقال لكل من سرق بعيرًا كان أو غيره "الأمالي 2/ 156". 4 ومنه "الموقوذة" الشاة تضرب حتى تموت، وكانت في الجاهلية فحرمها الإسلام. الاشتقاق "أمين " 357. 5 راجع ص 193. 6 الخصائص 1/ 538. 7 الاشتقاق 365. 8 الخصائص 1/ 538.

ومن التباعد في إبدال الراء دالًا عَكَدة اللسان وعكرته، وفي إبدالها سينًا الانغمار في الشيء، والانغماس في الماء1. والزاي تجانست مع السين في المكان الشأز والشأس: الغليظ، وفي تزلع الجلد وتسلعه: تشققه2، ومع الصاد في "العلز" الذي هو خفة وطيش وقلق يعرض للإنسان، "والعلوص" الذي هو وجع في الجوف يلتوي له الإنسان ويقلق منه، فذاك من "ع ل ز" وهذا من "ع ل ص"، والزاي أخت الصاد3. ولم يكن بين الزاي والذال إلا تقارب، في وصف الماء المالح بالزُّعاق والذُّعاق، ووصف السم بالزعاف والذعاف4. ومن الواضح أن يبنهما تباعدًا في المخرج وإن تقاربا في الصفة. والسين تجانست مع الزاي كما في المكان الشأس والشأز -وقد مر- ومع الصاد كما في قولهم: السحيل والصهيل. قال زهير: كأن سحيله في كل فجر ... على أحساء يمؤود دعاء وذاك من "س ح ل" وهذا من "ص هـ ل" والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء5. وتباعدت السين عن الثاء والشين مخرجًا وإن قاربتهما صفة، في مثل قولهم: ساخت رجله في الأرض وثاخت: إذا دخلت، والوطس

_ 1 الاشتقاق "أمين" 369. 2 الأمالي 2/ 185. 3 قارن بالخصائص 1/ 540. 4 الاشتقاق "أمين" 363. 5 الخصائص 1/ 540، ويلاحظ أن المضارعة هنا في الأصل الواحد بالحرفين، وذلك ما قصده ابن جني من هذا الشاهد، وإنما يعنينا منه التجانس بين السين والصاد.

والوطث: الضرب الشديد بالخف1، وفي مثل قولهم: حمس الشر وحمش: إذا اشتد، وسَئِفت يده وشئفت: إذا تشققت أصول أظفارها2. وتباعدت السين عن التاء مخرجًا وصفة كما رأينا في الناس والنات3. وقد نبهوا في إبدال السين صادًا على أنه موقوف على السماع، فكل سين وقعت بعدها عين أو غين أو خاء أو قاف أو طاء جاز فيها صادًا، مثل: يساقون ويصاقون، وصقر وسقر، وصخر وسخر: مصدر سخرت منه إذا هزأت، فأما الحجارة فبالصاد لا غير. واشترطوا أن تكون السين متقدمة على هذه الحروف لا متأخرة بعدها، وأن تكون هذه الحروف مقاربة لها لا متباعدة عنها، وأن تكون السين هي الأصل، فإن كانت الصاد هي الأصل لم يجز قلبها سينًا؛ لأن الأضعف يقلب إلى الأقوى، ولا يقلب الأقوى إلى الأضعف4. والشين تقاربت مع الثاء والسين صفة، فأبدلوها بهما ولو تباعدت منهما مخرجًا. قالوا: نثر الحب: رمى به متفرقًا، ونشر الراعي غنمه: بثها5. وقالوا: الغبش والغبس: السواد، ومنه: غبش الليل وأغبش، وغبس وأغبس6. وقد نبهنا على تجانس الشين والجيم في مثل الأجدر والأشدر. والصاد أبدلوها سينًا وزايًا على تجانس، نحو: ما كدت أتملص منه وأتملس وأتلمز7: بمعنى أتحلص. لكنهم باعدوا في إبدالها تاء في مثل

_ 1 الأمالي 2/ 114. 2 نفسه 2/ 125. 3 راجع هذا في صفحة 221. 4 هذه التنبيهات وا لشروط وردت في كتاب "الفروق بين الأحرف الخمسة" لأبي محمد البطليوسي، وقد سبقت ترجمته ص214. ونقله السيوطي في "المزهر 1/ 469". 5 الاشتقاق "أمين" 365. 6 المخصص 13/ 278. 7 ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانية "للأصمعي" الورقة 130/ أ "مخطوطة الظاهرية، 119 تصوف".

اللص واللصت1، وطاء في مثل الناقة المملص والمملط2، وضادًا في قولهم: رجع إلى صئصئه وضئضئه: وهو أصله3، وياء في وصفهم الحجر الصلب بالأصر والأير4. والضاد أبدلوها ظاء على تقارب، ودالًا وذالًا على تباعد. فمن التقارب: فاضت نفسه وفاظت، وإن كان الخلاف في هذا يرتد غالبًا إلى اختلاف اللهجات5. ومن التباعد: ربض في المكان وربد: أقام، ونبض العرق ونبذ: ضرب، وغمضه وغمطه: احتقره وازدراه6. وعرفنا ما في تعاقبها مع الصاد من تباعد. والطاء تجانست مع التاء والدال، وقد استشهدنا على ذلك، وتقاربت مع الظاء، وتباعدت عن الجيم والصاد. فمن التقارب: اطرورى واظرورى: انتفخ بطنه7. ومن التباعد: بط فلان جرحه وبجه: شقه8. وتباعدها عن الصاد عرفناه. والظاء تجانست مع الذال، وتقاربت مع الضاد والطاء، وقد مثلنا لهذا كله.

_ 1 وقد رووا هذا عن أبي عبيد، إلا أنه قال مرة: اللص في لغة طيئ، وغيرهم: اللصت، فرد الإبدال إلى اختلاف اللهجات "قارن بالمخصص 13/ 281". 2 هذا وصف الناقة إذا ألقت ولدها ولم ينبت شعره. وإذا كان ذلك من عادتها قبل: مملاص ومملاط "انظر الأمالي 2/ 155". 3 المخصص 13/ 279. 4 نفسه 13/ 288. 5 قارن بما ذكرناه ص92-93. 6 الاشتقاق "أمين" 368. 7 المخصص 5/ 80. 8 نفسه 13/ 287.

والعين تقاربت مع الغين والهاء، ورأينا تقاربها مع الهمزة، وتجانسها مع الحاء. ومن تقاربها مع الغين: نُشعت بالشيء ونشغث به: أولعت1، ومن تقاربها مع الهاء قولهم: عاث في الأرض فسادًا وهاث2. والغين عرفنا تقاربها مع العين، وتجانسها مع الحاء. إلا أنها متباعدة مخرجًا وصفة عن الهمزة، وإن كانت كلتاهما من أحرف الحلق3. والفاء أبدلوها ثاء على تقارب -كما رأينا- وأبدلوها قافًا وكافًا على تباعد. فمن تباعدها عن القاف قولهم: الزحاليف والزحاليق4، وعن الكاف قولهم: في صدره عليَّ حيفة وحسيكة: غل وعداوة5. ولاحظنا ما بينها وبين الباء والتاء من التباعد. والقاف أبدلوها على تقارب جيمًا وكافًا، فقالوا: عانقت الرجل وعانجته6، وقالوا: إنا قربان وكربان: إذا دنا أن يمتلئ، وقهرت الرجل أقهره، وكهرته أكهره7. وأبدلوها على تقارب أيضًا همزة وعلى تباعد فاء كما علمنا. والكاف تقاربت مع الجيم في مثل قولهم: مر يرتك ويرتج: إذا

_ 1 المخصص 13/ 275. 2 نفسه 13/ 284. 3 راجع ص220 والحاشية "9". 4 الاشتقاق "أمين" 367. والزحاليف أو الزحاليق: آثار تزلج الصبيان من أعلى إلى أسفل. 5 المزهر 1/ 468. 6 الاشتقاق "أمين" 363. 7 المخصص 13/ 277. وقارن بما ذكرناه عن اختلاف اللهجات وتباين القراءات في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ففي مصحف ابن مسعود: قشطت. راجع ص95، وانظر ما ذكرناه بهذا الخصوص سابقًا.

ترجرج1. ولا حاجة للتمثيل على تقاربها مع القاف، وتباعدها عن الفاء، فقد استشهدنا على هذين الأمرين. واللام أبدلوها راء ونونًا على تقارب، وحاء ودالًا على تباعد. وتعاقبها مع الراء، وتباعدها عن الحاء والدال، سبق الاستشهاد عليهما2. أما تقاربها مع النون فمنه قول الأصمعي: رأيت في أرض بني فلان لعاعة حسنة ونعاعة: وهو نبت ناعم في أول ما يبدو رقيق ثم يغلظ3. والميم أبدلوها فاء على تقارب، وقافًا ونونًا على تباعد، وواوًا على تجانس، ورأيناهم يبدلونها باء على تجانس، وجيمًا وراء على تقارب. وتقاربها مع الفاء واضح، فهما على تباعدهما في المخرج متقاربان صفة4؛ وأوضح منه تباعدها عن القاف، فلا اتفاق بينهما في المخرج ولا الصفة5. وتجانسها مع الواو أيضًا لا يوقع في اللبس. ولكن الغريب تباعدها عن النون، على ما اشتهر لدى أكثر العلماء من أنهما خيشوميتان، وإن كان لتلقيبهما بهذا اللقب شروط سنعرفها قريبًا. وقد أكثروا من إبدالهما حتى خيلوا إلى الباحين أنهما متقاربتان، فقالوا لما غلظ من الأرض: حزن وحزم6، وقالوا للسحاب: الغيم والغين، وللغاية: المدى والندى، وللون المتغير: امتُقع وانتُقع7.

_ 1 والرواية هنا عن الأصمعي "انظر المخصص 13/ 277". 2 راجح في صفحة سابقة من هذا الفصل. 3 المخصص 13/ 281. وقارن بما ذكرناه عن اللحياني "ص214 " في حنك الغراب وحلكه: سواده. ولاحظ كيف رد اللحياني مثل هذا الإبدال إلى اختلاف اللهجات. وقارن أيضًا بقصة أبي حاتم مع أبي الهيثم، السابقة. 4 انظر الاشتقاق "أمين" 363. مثل هوامي الإبل وهوافيها: ضوالها. 5 نفسه 367. نحو: أرمد وارفد: مضى على وجهه. 6 المخصص 13/ 284. 7 المزهر 468.

وفي بعض الصور التي أبدلت فيها الميم باء لاحظ العلماء إمكان القول بالإتباع، كما في قولك: مهلًا وبهلًا، فإنها بمعنى واحد، وأتبع ثانيها أولهما1. وسنرى أن كثيرًا من صور الإبدال ينبغي أن يسلك في باب الإتباع، لا في باب الاشتقاق الأكبر. والنون أبدلوها على تقارب باء وراء ولامًا، وعلى تباعد جيمًا، وأوضحنا قصة تباعدهما عن الميم. أما تقاربها مع الباء فمنه قولهم: بأرض فلان نُعاعة حسنة وبعاعة2. ومر أمثلة على تقاربها مع الراء واللام. وأما تباعدها عن الجيم فمنه قولهم: استَوثَنَ من المال واستوثج: استكبر منه3. والهاء أبدلوها على تباعد ثاء4 ونونًا ولامًا5، ورأينا تجانسها مع الهمزة، وتقاربها مع الحاء والخاء والغين، ومثلوا على تقاربها صفة مع الفاء وإن تباعدت عنها مخرجًا بالهودج والفودج: وهو مركب النساء6. والواو أبدلوها على تقارب همزة، وعلى تباعد تاء، وعلى تجانس ميمًا. وقد سبق التمثيل على كل ذلك. ومن تقاربها مع الهمزة: ذأى البقل يذأى، وذوى يذوي7، وإن كان مثله أقرب إلى أن يكون من تباين اللهجات.

_ 1 المخصص 13/ 285. 2 الاشتقاق "أمين" 356. وقد رأينا أيضًا لعاعة "باللام"، وكلها بمعنى واحد. والتصحيف محتمل في مثل هذا ولا سيما بين نعاعة وبعاعة. 3 نفسه 368. 4 ومنه: الهرب "بضم الهاء" والثرب: شحم رقيق يغشي الكرش "الاشتقاق 366". 5 فمن التباعد مع النون تفكه وتفكن: تندم، ومع اللام: شاكهه وشاكله "المخصص 13/ 287". 6 نفسه 362. 7 راجع ص83، وقارن باللسان 18/ 307.

والياء أبدلوها على تقارب همزة، وعلى تجانس جيمًا، وقد مثلنا لذلك. وأبدلوها على تباعد لامًا، كما في قولهم: وصلت الشيء ووصيته1. وفي الياء صور من الإبدال يستبعد الباحث كل ارتباط بينها وبين الاشتقاق الأكبر، فهي إلى الإبدال الصرفي أقرب منها إلى اللغوي. وأوضح ما يكون ذلك في المحول من المضاعف عندما يبدل مكان لامه ياء كراهة التضعيف، نحو قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وهو من دسست، وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّه} من مسنون، وقولهم: سُرِّيَّة من تسررت، وتلعيت من اللعاعة2. وتحويل المضاعف على هذا النحو لم يطرد عند العلماء، بل سلكه بعضهم في باب الشذوذ، ومنهم سيبويه3، وآثر بعضهم أن يعده مما يجري مجرى البدل، كأنه يرتاب في أن يكون من البدل حقيقة، حتى زعم ابن سيده أن أبا عبيد أدخل في هذا الحيز ألفاظًا ليست جارية على أحكام البدل، وأكد ابن سيده أنه لم ينقل تلك الألفاظ ولم يسمح لنفسه بذكرها إلا مخافة أن يظن به إغفال4. ومن صور الإبدال الصرفي في الياء تناوبها مع الواو، نحو ميقات فإن أصلها مِوْقات، وميعاد فإن أصلها موعاد، فهما من أحرف العلة التي هي أحق بالإبدال من كل ما عداها من الحروف لخفتها وكثرتها في اللسان العربي ومناسبة بعضها لبعض، واتساع مخرجها، ولما فيها من

_ 1 المخصص 13/ 287. 2 المزهر 1/ 468. وقد نقل السيوطي هذه الأمثلة عن أبي عبيد. 3 المخصص 13/ 288. 4 نفسه 13/ 278. ويقرب من هذا أيضًا الرباعي المضعف الذي يرجح أن أصله ثنائي، نحو: دهدهت الحجر، فقد حول تضعيفه ياء، فقيل: دهديت الحجر.

المد واللين، وما تكسب الشعر من النغم والتلحين1. ولكن هذه الصور من الإبدال -على خفتها وكثرتها وجريان اللسان بها- ولا ترتبط بالاشتقاق الأكبر من قريب ولا من بعيد، ولا يرضاها اللغويون شواهد على الإبدال الذي أخذوا به، وفرقوا بينه وبين الإعلال، وإنما يرضاها ويكثير منها الصرفيون الذين لم يروا بأسًا في عد الإعلال تابعًا للإبدال2. ولم يفت الصرفيين أن يفرقوا في الإبدال بين شائع مشهور ونادر لا ينقاس، فقد رأوا الشائع يكثر وقوعه في حروف لا تزيد على اثني عشر كالتي جمعها أبو علي القالي في قوله: "طال يوم أنجدته"3.وجعلها بعضهم أربعة عشر حرفًا، وبلغ بها ابن مالك اثنين وعشرين4، وأراد ابن يعيش5 أن يعلل حصرها في واحد من تلك الأعداد المذكورة، فرأى أن مراد الصرفيين استقراء الحروف التي كثر إبدالها واشتدت واشتهرت بذلك، ولم يريدوا أنه لم يقع البدل في شيء من الحروف سوى ما ذكر6. أما النادر الذي لا ينقاس، فقد لاحظ الصرفيون إمكان وقوعه في جميع حروف الهجاء. ولعلهم بإدراكهم هذه الحقيقة فتحوا الباب للغويين على مصراعيه حتى استكثروا في الإبدال من الغرائب

_ 1 قارن بالمخصص 13/ 367. وانظر الأمثلة التي أوردها توضيحًا وتبيانًا. 2 قارن برأي أبي علي القالي "الذي ذكرناه ص219-217" حول التفرقة بين الإبدال اللغوي والإبدال الصرفي. 3 الأمالي 2/ 186. وقارن بما أوضحناه ص217. 4 قارن بشرح الأشموني 4/ 211. 5 هو يعيش بن علي بن يعيش، موفق الدين، أبو البقاء الأسدي، والاسم الذي غلب عليه وعرف به هو ابن يعيش، ويسميه بعضهم أيضًا ابن الصانع، بصاد مهملة ونون "كما في البغية 419" أحد كبار العلماء بالعربية، توفي بحلب سنة 643هـ بعد أن درس فيه كثيرًا. له شرح على كتاب "المفصل" للزمخشري. وهو مطبوع "قارن بالوفيات 2/ 341". 6 شرح المفصل 7.

والنوادر، وطلعوا على الباحثين بأحرف وقع فيها الإبدال على الرغم من تباعدها صفة ومخرجًا. وقد تكون شواهدهم التي أتوا بها تقريرًا لهذه الظاهرة اللغوية المدهشة أقل وأندر من أن يبالي بها أو يقام لها وزن أو يستنتج منها قانون، وربما لا تجاوز شواهدهم على الحرف الواحد المبدل أحيانًا أصابع اليد الواحدة، وقد تكون صور كثيرة مما استشهدوا به مهجورة في لغة العرب، أو نادرة الاستعمال فيها، أو لم يستعملها العرب قط وإن جاءت على النسيج العربي وكانت جائزة الاستعمال. ولكن اللغويين في هذا كله لم يعرفوا أنفسهم إلا نقلة أمناء، فرووا القيل النادر مثلما رووا الكثير الشائع، وحرصوا على أن يعرضوا هذا وذاك كما سمعوهما دون زيادة ولا نقصان1. وكنا نحسب لغويي العرب قد مضوا جميعًا يحاكي بعضهم بعضًا في قصة الإبدال، فيقلبون دون نقاش ما ترامى إليهم من صور هذا الإبدال ولو تباعدت الأحرف المبدلة والمبدل منها صفة ومخرجًا، ويسلمون بها تسليمًا ولو وقعوا فيها على تسوية تامة بين تباعد الصفة وتباعد المخرج، فما أنقذنا من هذا الظن وما أخرجنا من هذا الوهم إلا نص في "المخصص" صرح فيه ابن سيده بما نميل إليه من أن "ما لم يتقارب مخرجاه البتة فقيل على حرفين غير متقاربين فلا يسمى بدلا، وذلك كإبدال حرف من حروف الفم من حروف الحلق"2. فلو استندنا إلى هذا النص الصريح القاطع لحكمنا بتناقض الذين لاحظوا في مسوغات الإبدال إمكان التباعد التام بين الحروف المبدلة، كما في حال التباعد صفة ومخرجًا، وحكمنا أيضًا بتناقض الذين لاحظوا في مفهوم التقارب إمكان

_ 1 قارن بما ذكرناه ص 219. 2 المخصص 13/ 274 "باب ما يجيء مقولًا بحرفين وليس بدلًا".

تباعد المخرج شريطة تقارب الصفة1. فالمعول في باب الإبدال -كما قلنا- على المخرج لا على الصفة، ولو تقيد اللغويون بهذا الشرط الهام لجاءت شواهدهم على الإبدال اللغوي قليلة في العدد ثقيلة في الميزان، ولكانت مثل أكثر الشواهد التي ذكرها ابن جني في "الخصائص" أقوى من أن ترد وأمتن من أن تنقض! ذلك بأن ابن جني -على ولوعه بتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني- لم يذكر من صور الإبدال إلا ما تقارب مخرجًا، بل ما تآخى مخرجًا، حتى كان يعلل هذا التقارب بقوله في الأحرف المبدل منها: "إنها أخوات الأحرف المبدلة"، ولم يكد ينسى هذه العبارة التقليدية في شيء مما أورده من صور الإبدال. وما رأيناه يجري مجرى البدل مثل يدب ويدح؛ لأن الحاء ليست أخت الباء، ولا مثل جاسوا وحاسوا؛ لأن الجيم ليست أخت الحاء، ولا انداح بطنه واندال؛ لأن الحاء ليست أخت اللام، ولا معده ومعله؛ لأن الدال ليست أخت اللام، وإنما أجري مجرى البدل مثل الأز والهز، والهمزة أخت الهاء، ومثل العسف والأسف، والعين أخت الهمزة2، والحمس والحبس، والعلم والعلب، والميم أخت الباء3.

_ 1 ارجع إلى مسوغات الإبدال التي ذكرناها "ص216-217"، واقرأ بعناية نقاشنا لها قبل صور الإبدال التي تتبعناها على ترتيب حروف المعجم. 2 الخصائص 1/ 538، وقارن ما نقلناه من قبل بعبارة "الخصائص" نفسها. 3 الخصائص 1/ 329. وإذا مضيت في تتبع ابن جني في جميع ما ذكره في هذا الباب لم نجده مرة واحدة ذهب إلى إبدال حرفين متباعدين. ولا غرو فهو يسمى "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" والتصاقب تقارب، بل اتحاد وتمائل.

ولكي يتصاقب المعنيان في الاشتقاق الأكبر، لا بد أن يتصاقب اللفظان تصاقبًا حقيقيًّا لا تجوز فيه. ولا يظهر التصاقب اللفظي على حقيقته إلا استعماله فما وضع له، فإن استعمل في غير ما وضعته العرب عُدَّ خطأ ولم يكن من الإبدال في شيء. إن بعض العرب يقول مثلًا: جَمَسَ الوَدَك وجمد الماء، ولا يقال: جمس الماء ولا جمد الودك، وقد خطَّأ الأصمعي ذا الرمة في وصفه الماء الجامد بالجامس في قوله: ونقري سديف الشحم والماء جامس فإذا ادعى بعضهم -مع ذلك- أن السين أبدلت دالًا في قولهم: جمس الودك وجمد، ردت عليه دعواه، ولم يكن هذا بدلًا قط1، فليس بين الحرفين تصاقب ولا تقارب، بل بينهما تباعد في المخرج لا يسمح لمعنييهما أن يتصاقبا إلا بضرب من التجوز والاتساع في التعبير. ولا يتم تصاقب المعنين إلا إذا أمن التصحيف في اللفظين ليعلم أن كلا منهما مادة مستقلة. وأصل التصحيف "أن قومًا كانوا أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير"2. وهذا التصحيف عند اللغويين على قسمين: تصحيف نظر وتصحيف سمع، وإن كان أصله الأول من أخطاء النظر في الصحف. وأكثر ما يقع تصحيف النظر في الأحرف المتشابهة رسمًا إذا لم تعجم، كالباء والتاء والثاء والنون، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال، والراء

_ 1 المخصص 13/ 287. 2 التصحيف "لأبي أحمد العسكري" ص9. وقارن بما ذكرناه عن المصحف في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه" 272-280.

والزاي، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين، والفاء والقاف، وأكثره هذه الأحرف متباعدة المخارج، وبعضها متقارب في الصفات. أما تصحيف السمع فأكثر ما يقع في الأحرف المتقاربة صفة أو مخرجًا، وهي غالبًا لا تتشابه رسمًا عند إهمال نقطها: كالهمزة، والهاء، والباء والميم، والتاء والطاء، والثاء والفاء والسين، والجيم والشين، والدال والضاد، والذال والزاي والظاء، والسين والصاد، والقاف والكاف. فمما ورد بوجهين وأمن فيه تصحيف النظر قولهم في وصف الشيء الذي يذاق: عَدوف وعذوف، بالدال والذال، فهما لغتان، والإبدال فيها محتمل لولا تباعد مخرجيهما.1 قال أبو حسان: "سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: ما ذقت عدوقًا ولا عدوفة. قال: وكنت عند يزيد بن مزيد الشيباني فأنشدته بيت قيس بن زهير: ومجنَّبات ما يذقن عذوقة ... يقذفن بالمهرات والأمهار بالدال، فقال لي يزيد: صحفت أبا عمرو! قال: فقلت له: لم أصحف أنا ولا أنت، تقول ربيعة هذا الحرف بالذال، وسائر العرب بالدال". وفي رواية "المزهر": لغتكم عذوف ولغة غيركم عدوف! 2 ويتسرع بعض الباحثين برمي الأئمة الأجلاء بتصحيف النظر، فيما شكوا بروايته بأحد الحرفين، وغالبًا ما يرتد هذا الشك إلى الورع الزائد والحيطة البالغة في نقل الأخبار، فإن يكن أبو عمر بن العلاء شك في الدحداح "الرجل القصير" بالدال أو بذال؟ فقد رجع فقال: بالدال.

_ 1 لسان العرب، مادة "عدف" 11/ 139-140. 2 المزهر 1/ 537.

وقال أبو عبيد: "والصواب عندنا بالدال"1. فمثل هذا اللفظ الذي صوب فيه أحد الوجهين وخطئ الآخر لا يلتمس فيه إبدال، وإنما يلتمس في مثل العدوف والعذوف مما ورد بوجهين، وأما فيه التصحيف، بيد أن الذال ليست أخت الدال، فلم يصح القول بالإبدال هنا لاختلاف المخرجين. ومن العسير الوقوع على صورتين مبدلتين فما يتوهم فيه تصحيف النظر؛ إذ لا تتشابه فيه الحروف إلا برسمها، أما تقارب المخارج والصفات فليس شرطًا في مثله. لكن صور الإبدال فيما توهم فيه تصحيف السمع أكثر شيوعًا وانتشارًا؛ لأن تقارب الأصوات فيها هو الذي أوقع الباحث في اللبس، فلولا ما نعرفه من ورود اتمأل واتمهل، ومن كثب ومن كثم، والأقطار والأقتار، واللثام واللفام، والوقيذ والوقيظ، والوطس والوطث2، لاختلط علينا أكثرها3، وحسبناه لفظًا واحدًا ولم نمز الأصل من الفرع، فأنى لنا إذن أن نقول بالإبدال؟ فلما ورد كل لفظ مما ذكر بوجهين وأمن فيه التصحيف، وظن في بعضه تباين اللهجات، أيقنا من تجاوره الصوتي أن فيه إبدالًا لا ريب فيه. ومقياسنا فيما ورد بوجهين؛ لتمييز الأصل من الفرع، هو كثرة الشواهد المتعلقة بأحد الوجهين4: فما أكثر الأمثلة على كثب، والأقطار،

_ 1 المخصص 13/ 287. 2 ارجع إليها متعاقبة فيما تقارب وانسجم من ضروب الإبدال بين هذه الحروف ابتداء من ص220. 3 ويكون هذا الاختلاط واللبس أشد عند الألثغ. ولقد عقد السيوطي فصلًا في "المزهر 1/ 556" لمعرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب، والأصل في هذا النوع ما ذكره الثعالبي في "فقه اللغة" قال: أنا أستظرف قول الليث عن الخليل: الذعاق كالزعاق، سمعنا ذلك في بعضهم، وما ندري ألغة أم لثغة؟! 4 قارن بأسرار اللغة 62 "ط2".

واللثام، وما أقلها في كثم، والأقتار، واللفام. وارتداد بعض هذه الألفاظ إلى قبيلة وبعضها الآخر إلى قبيلة أخرى لا ينبغي أن يقلل من قيمة المقياس الذي ذكرناه؛ لأنه لم يقطع برأي حاسم في قضية اختلاف اللهجات، وما تزال أدلتنا عليها أضعف من أن يفسر في ضوئها كل هذه الظواهر اللغوية النادرة. ومن صور الإبدال ما يمكن إدراجه في باب الإتباع، لكن للقول بذلك قيودًا لا بد من التنبه إليها وإدراكها على وجهها الصحيح، فالإتباع على ضربين: فضرب يكون فيه الثاني بمعنى الأول فيؤتى به توكيدًا؛ لأن لفظه مخالف للفظ الأول، وضرب فيه معنى الثاني غير معنى الأول1. فمن الأول قولهم: رجل قسيم وسيم، وكلاهما بمعنى الجميل، وضئيل بئيل بمعنى واحد، وجديد قشيب، ومضيع مسيع2. ومن الثاني حار يار، وعطشان نطشان، وجائع نائع، وحسن بسن، والكلمة الثانية في هذا الضرب الثاني إنما هي تابعة للأولى على وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بالثانية منفردة، فلهذا قيل إتباع3. وقد لاحظ ابن فارس كلا هذين الضربين حين عرف الإتباع بقوله: "وهو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويها إشباعًا وتأكيدًا"؛ وأراد أن ينبه على الضرب الثاني تنبيهًا خاصًّا فحكي عن بعض العرب أنه سئل عن حكمة هذا الإتباع، فقال: "هو شيء نتدبه كلامنا"4. وفي هذا المعنى ما حكاه ابن دريد من أنه سأل أبا حاتم السجستاني عن بسن من قولهم "حسن بسن" فقال: لا أدري ما هو5.

_ 1 المخصص 14/ 28. 2 المزهر 1/ 416 نقلًا عن أمال القالي. 3 المزهر 1/ 415 عن الكسائي. 4 الصاحبي 226، وقارن بالمزهر 1/ 414. 5 المزهر 1/ 417.

فلو كان أحد يجهل هذا الإتباع بكلا ضربيه، وسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشبرم1: "إنه حار يار" لظن الياء بدلًا من الحاء، مع إنهم نبهوا على أن هذا من الإتباع2، ويكون الإبدال في زعمه حينئذ واقعًا بين حرفين متباعدين. فإن صحف الحديث وقرأ الحاء جيمًا فقال: "إنه جار يار" فرك يدًا بيد فرحًا مسرورًا؛ لأن الجيم أخت الياء، فكلتاهما شجرية، وقد فاته أن العلماء نبهوا أيضا على أن هذا من الإتباع، وفسروا الجار بالذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته كأنه ينزعه ويسلخه مثل اللحم إذا أصابه، أو ما أشبهه3. وقس على ذلك لفظ وسيم في قولهم "قسيم وسيم" فهذا إتباع، وليست الواو بدلًا من القاف. ولفظ بئيل من قولهم: "ضئيل بئيل" فليس الباء بدلًا من الضاد، ولفظ جديد من قولهم "جديد قشيب" فليست القاف بدلًا من الجيم، وهكذا دواليك. ولعلنا نجرؤ على أن نستنتج من هذه المقدمات المتعاقبة أن الصور المترجحة في نظر العلماء بين الإبدال والإتباع ينبغي أن تكون شواهدها من النوع الذي يتجانس فيه -بين اللفظين- الحرف المظنون إبداله؛ لأن فرص القول بالإبدال تنقل عند التباعد، أو قل: إنها حينئذ تصبح نادرة جدًّا. وقد رأينا في الإتباع أنه على ضربين، تكون الكلمة الثانية في أحدهما غير واضحة المعنى ولا بينة الاشتقاق4، فلا تفيد وحدها شيئًا، وإنما

_ 1 الشبرم: ضرب من الشيح. 2 المخصص 14/ 23. 3 المخصص 14/ 34، وقارن بما ذكرناه عن "جار يار" من احتمال ارتداده إلى اختلاف اللهجات، وإن كان ضربًا من الإتباع. راجع ص94- 95. 4 وهو الضرب الثاني الذي قلنا: إن معنى الكلمة الثانية فيه غير معنى الأولى. وقارن بخطبة ابن فارس في كتابه "الإتباع والمزواجة" نشر المستشرق رودلف برونو، بمدينة غيسن سنة 1906، وانظر المزهر 1/ 404.

تفيد بتقدم الأولى عليها، فلا سبيل إلى الظن بأنها مرادفة للأولى، وإن أوهمت الترادف وبدت كأنها من قبيله1، أما الإبدال فيحتمل كثيرًا في لفظتيه أن تكونا مترادفتين، تفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت؛ بل ربما كان أنصار تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني يشترطون هذا الضرب من الترادف بين اللفظتين المبدلة والمبدل منها، وإلا لتصاقبت الألفاظ من غير أن تتصاقب معانيها! ومع أن العرب أمة حكيمة لا تضع شيئًا سدى -كما علمنا أسلافنا في آثارهم وكتبهم- ومع أنها قصدت من التابع أن يفيد التقوية، وجعلته أشبه شيء بأوتاد تَتِد به كلامها2، لم يستنكف العلماء أن يعترفوا بجهلهم معناه، كما قال أبو حاتم السجستاني في بسن3: لا أدري ما هو! وإذا بطائفة من الباحثين لا يجدون في جهل معنى التابع بأسًا ولا ضررًا، حتى قال التاج السبكي: "وجهل أبي حاتم بمعناه لا يضر، بل مقتضى قوله: إنه لا يدري، معناه أن له معنى، هو لا يعرفه". ومضى التاج يفرق بين معنى التقوية في التابع ومعنى التقوية في التأكيد، فقال: "والفرق بينه وبين التأكيد أن التأكيد يفيد في التقوية نفي احتمال المجاز. وأيضًا فالتابع من شرطه أن يكون على زنة المتبوع، والتأكيد لا يكون كذلك"4. فإن يكن التابع -عند القائلين بأنه له معنى- لا يزيد معناه عن التقوية، مشابهة للتأكيد أو مختلفة عنه، فكيف بهم يخلطون بعض صور الإبدال ببعض صور الإتباع، على الرغم مما يشترط في الصورة المبدلة

_ 1 قارن بما ذكره السيوطي في "المزهر 1/ 415" التاج السبكي في "شرح منهج البيضاوي". 2 قارن بما ذكرناه قبل قليل. 3 من قولهم على سبيل الإتباع: حسن بسن، وقد سبقت الإشارة إليه. 4 ذكره في المزهر "1/ 416" نقلًا عن السبكي في كتابه الذي سميناه آنفًا "شرح منهاج البيضاوي".

من وضوح المعنى ودقته، فضلًا عن ترادفه مع الصورة المبدل منها؟! أحسب أن الذين وقعوا في مثل هذا اللبس كانوا من غلاة الاشتقاقيين الذين لم يشف صدورهم ما في الإتباع من صور محكية مكرورة، فانطلقوا إلى الاشتقاق الأكبر يسترفدونه في ضروب "إبداله" المتنوعة التي تهيب بالباحث إلى إعمال فكره، وكد ذهنه، وابتكار ناردة أو غريبة من الغرائب!! ألا تعجب منهم إذن إن تجاهلوا أن أسوان أتوان1، وعريض أريض، وفقير وقير، وخائب هائب2، ولا تارك الله فيه ولا دارك، ويوم عك أك وعكيك أكيك: شديد الحر3، وشيء فذ بذ4، كلها من قبيل الإتباع، وودوا لو يجعلونها صورًا من الإبدال لما لاحظوه في بعضها من تقارب في المخارج والصفات؟! وبعد، فإن غلو القوم في الاشتقاق الأكبر لا يستكثر عليهم، فإن حدوده غير واضحة المعالم، وإنه لمن الأبحاث البكر التي وجدت من فراغ الوقت ونعومة البال وترف الفكر عند بعض العلماء ما أغنى العربية بآراء إن يك فيها وهم كثير، ففيها أيضًا خيال خصيب!

_ 1 للحزين المتردد الذي يذهب ويجيء من شدة الحزن "المزهر 1/ 416". 2 المزهر 1/ 419. 3 المزهر 1/ 420. 4 نفسه 1/ 421.

الفصل الخامس: النحت أو "الاشتقاق الكبار"

الفصل الخامس: النحت أو "الاشتقاق الكبار": ها نحن أولاء أمام لون من الاشتقاق لم يعرفه العرب كثيرًا، ولم يغلوا فيه غلوهم في أنواع الاشتقاق الثلاثة الشائعة، ولعلهم لم يؤنسوا دافعًا للغلو فيه؛ لأن أنواع الاشتقاق أغنتهم عنه، فلم يخلفوا لنا من الشواهد عليه إلا النزر اليسير. ولكن قلة النحت في لسان العرب لا تنفي الشواهد المحفوظة فيه ولا الصلة الوثيقة التي تربطه بالاشتقاق، فإن مراعاة معنى الاشتقاق تنصر جعل النحت نوعًا منه1، ففي كل منهما توليد شيء من شيء، وفي كل منهما فروع وأصل، ولا يتمثل الفرق بينهما إلا في اشتقاق كلمة من كلمتين أو أكثر على طريقة النحت، واشتقاق كلمة من كلمة في قياس

_ 1 أصول النحو 126. ولذلك عده بعض الباحثين المحدثين نوعًا من الاشتقاق، وسماه الاشتقاق "الكبار" الاشتقاق "أمين ص379".

التصريف، قال ابن فارس: العرب تنحت من كلمتين كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار1. وذلك "رجل عبشمي" منسوب إلى اسمين، وأنشد الخليل: أقول لها ودمع العين جارٍ ... ألم تحزنك حيعلة المنادي من قوله: حي على2. ويُعد ابن فارس إمام القائلين بالنحت بين اللغويين العرب المتقدمين، فلم يكتفِ بالاستشهاد على هذه الظاهرة اللغوية بالأمثلة القليلة الشائعة التي ربما لا تجاوز الستين عددًا، بل ابتدع لنفسه مذهبًا في القياس والاشتقاق حين رأى أن الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد "ضبطر" من "ضبر"3، وفي قولهم: "صهصلق" إنه من "صهل" و"صلق"4، وفي "الصلدم"5 إنه من "الصلد" و"الصدم"6. وقد بنى معجمه "المقاييس" على هذا المذهب في كل مادة رباعية أو خماسية أمكنه أن يرى فيها شيئًا من النحت، حتى كثرت المواد المنحوتة على مذهبه لو استخرجت من مواطنها المتفرقة في "معجمه". وأراد أن يرسم للقارئ منهجه في النحت فقال: "اعلم أن للرباعي والخماسي مذهبًا في القياس، يستنبطه النظر الدقيق. وذلك أن أكثر ما تراه منه منحوت. ومعنى النحت: أن تؤخذ كلمتان

_ 1 قارن بالمزهر "1/ 483 " نقلًا عن ابن دحية في "التنوير". 2 الصاحبي ص277 "باب النحت"، وقارن بفقه اللغة "للثعالبي" 578. 3 ضبر: اكتنز. 4 الصهصلق: الصوت الشديد للمرأة والرعد والفرس "فقه اللغة للثعالبي 324". 5 الصلدم: الشديد الحافر. 6 الصاحبي ص227. وقارن بالمزهر 1/ 482.

وتنحت منهما كلمة تكون آخذة منهما جميعًا بحظ"1. وكما استشهد ابن فارس في "الصاحبي" بما أنشد الخليل2؛ ليؤكد أن هذا النحت من سنن العرب في اشتقاق الكلام وتوليد بعضه من بعض، جاء في "المقاييس" يؤيد هذه السنة العربية، ويلتمس للنحت أصلًا أصَّله الخليل نفسه، فقال: والأصل في ذلك ما ذكره الخليل من قولهم: حيعل الرجل، إذا قال: "حي على"3، فها هو ذا الخليل يذكر في النحت قول العرب ويحكيه، وينشد فيه الشعر ويرويه. بيد أن ابن فارس يستشعر في نحت لفظ "الحيعلة" مولدًا إسلاميًّا ما عرفه فصحاء العرب في الجاهلية، فكيف يكون أصلًا في هذا الضرب من الاشتقاق الذي لم يشع في لسان العرب كثيرًا؟ فليحتج إذن بشاهد فصيح على النحت لا يسع أحدًا إنكاره، وليذكر العلماء بنوع من النحت كاد العرب الأقحاح ينفقون عليه، ولينشد فيه بيتًا للشاعر الجاهلي عبد يغوث بن وقاص الحارثي4، وليقل: مطمئنًا إلى صواب رأيه: "ومن الشيء الذي كأنه متفق عليه قولهم: "عبشمي" وقوله: [و] تضحك مني شيخة عبشمية5

_ 1 المقاييس 1/ 328 "باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله باء". وقارن بما ذكرناه في هذا الباب عن تأثر الباحثين برأي ابن فارس فيما زعموه من أخذ الثلاثيات من الثنائيات. 2 في البيت الذي فيه "حيعلة المنادي" المنحوتة من قوله: "حي على". 3 المقاييس 1/ 329. 4 سيتضح لك من نقل عبارة ابن فارس أنه لم يذكر اسم هذا الشاعر الجاهلي، ولم يورد البيت كاملًا، بل اكتفى بصدره؛ لأنه فيه موطن الاستشهاد. وتجد تتمة البيت مع اسم الشاعر في "المفضليات 1/ 153". 5 المقاييس 1/ 329. وتمام البيت كما في "المفضليات": وتضحك منى شيخة عبشمية ... كأن لم ترَ قبلي أسيرًا يمانيا

ولسنا نرتاب في أن ابن فارس عند استشهاده بهذا البيت الفصيح علم أن الأمثلة التي تحاكيه قليلة نادرة، وأن النحاة لا يعدون نظائره مما يقاس، وأنه لا يقاس منه إلا ما قالته العرب: "والمحفوظ عبشمي في عبد شمس، وعبدري في عبد الدار، ومرقسي في امرئ القيس، وعبقسي في عبد القيس، وتيملي في تيم الله"1، فكيف تساهل ابن فارس في بناء مقاييس الرباعي على حكم لا يطرد، وأصل لا ينقاس؟ أكبر الظن أنه لم يبتدع مثل هذا المذهب -ودنيا النحاة ما تزال تضج في عهده بالقول المشهور: "القليل لا يقاس عليه"2- إلا حين رأى رأي العين فساد الأدلة على أصالة الحروف في الأسماء الرباعية والخماسية، وإذا هو ينكر هذه الأصالة فيما نحت من كلمتين، أو زيد عليه حرف في أوله أو وسطه أو آخره، لا في الأسماء وحدها، بل في الأفعال والصفات أيضًا، معولًا في هذا الكتاب على ما سمع من العرب -وإن يكُ قليلًا- من النسب إلى اسم منحوت من اسمين3. ولقد كان بعيد النظر ثاقب الفكر حين نبه على أن الرباعي لا يفسر دائمًا بظاهرة النحت؛ لأنه على ضربين: "أحدهما: المنحوت الذي

_ 1 عن أبي حيان في شرحه لتسهيل ابن مالك "ذكره في المزهر 1/ 485". 2 ومن المعلوم أن النحاة -بعد ابن فارس- ظلوا متمسكين بهذا القول بل أمسوا أكثر تشددًا فيه. وعبارة متأخريهم في هذا الباب ما زالت تعنف وتشتد حتى قرأناها في شرح المفصل "1/ 767". على هذه الصورة: "وذلك ليس بقياس، وإنما يسمع ما قالوه، ولا يقاس عليه لقلته". 3 والنسب إلى اسم منحوت من اسمين كان معروفًا حتى عصر ابن فارس في تلك الأسماء الشائعة المحفوظة فقط. فالجوهري المعاصر لابن فارس في معجمه "الصحاح" هذه العبارة: "يقال في النسبة إلى عبد شمس: عبشمي، وإلى عبد الدار: عبدري، وإلى عبد القيس: عبقسي، يؤخذ من الأول حرفان ... " الصحاح 1/ 458. وحكى مثل هذه العبارة فيما بعد ابن منظور في اللسان "7/ 4".

ذكره، والضرب الآخر: الموضوع وضعًا لا مجال له في طريق القياس1". وابن فارس لا يعنيه كثيرًا أن يستشهد على ذلك الرباعي الموضوع وضعًا، فإنه معلوم مشهور، وإنما يريد أن يلفت الأنظار إلى كثير مما يحسبه الناس أصيلًا منذ وضع، إلا أنه عند التحقيق يتبين ما فيه من ضروب الزيادة التي تلحقه بالاشتقاق، وهو -رغم الزيادة فيه- صورة من الاخترال، أو "جنس من الاختصار" كما قال2. ولا تناقض في شيء مما رآه ابن فارس، فإن الأمثلة التي قفى بها على تعريفه للنحت، والأمثلة التي فرقها على مواد معجمه تبعًا لمذهبه في مزيد الثلاثي، كلها تؤكد اعتقاده بأن السوابق والأواسط واللواحق، أو كما اصطلح عليها بعض العصريين: التصدير والحشو والكسع3، بقايا كلمات قديمة مستعملة4 تناسب ما يلح في الحرف العربي من قيمة تعبيرية، فكأن المزيد بحرف في أوله أو وسطه أو آخره إنما نحت من كلمتين اختزلتا على سواء، أو اختصرت إحداهما أكثر من الأخرى، أو ظلت إحداهما على حالها بينما رمز للأخرى بحرف منها يغلب أن يكون أوضح حروفها بيانًا وتعبيرًا. ونكاد لا نرتاب في أن ابن فارس آنس في الحرف العربي قيمة بيانية تعبيرية حتى اجتزأ بحرف من الكلمة عن الكلمة كلها، وأطلق القول في "الصلدم" مثلًا وصفًا للناقة بأنه منحوت: أصله "صلد"5، ثم رأى في موطن آخر أنه منحوت من "الصلد" و"الصدم"6

_ 1 المقاييس 1/ 329. 2 راجع ما سبق في هذا الفصل ص244. 3 وسماها بعضهم: التتويج، والإقحام، والتذييل. وقد مر ذلك في هذا الكتاب. 4 فندريس 216، وقارن بما ذكرناه ص 166. 5 الصاحبي 70. 6 نفسه 227.

فكأن الميم المزيدة في "الصلدم" إنما أخذت من "الصدم" وهي فيه الحرف الأخير، ولعلها أقوى أحرفه وأشفاها بيانًا؛ لذلك رُمز بها إليه واستعيض بها عنه، وألصقت "بالصلد"، فتألفت كلمة جديدة من كلمتين اختزلت إحداهما وظلت الأخرى على حالها. وابن فارس نفسه حين أنشأ يذكر في "المقاييس" أمثلته على نحت الرباعي من كلمتين ثلاثيتين، إنما استهل هذه الأمثلة بلفظ "البلعوم"، وجعله وما أشبهه توطئة لما بعده، مع أنه أوضح أن أصله "بلع" ولم يذكر الثلاثي الآخر الذي فيه الميم، بل اكتفى بملاحظة أن لفظ "بلع" زيد عليه ما زيد لجنس من المبالغة في معناه، فكأن الميم الزائدة هي الحرف التعبيري البارز في الثلاثي الآخر الذي قدره بعض العلماء "طعم"، وقد اجترئ بها عنه وألصقت ببلع، مع الواو تارة كما في بلعوم، ودونها تارة أخرى كما في "بلعم"1. وقياسًا على هذا، لا فرق عند ابن فارس بين رباعي كان في الأصل ثلاثيًّا ثم زيد عليه حرف في آخره أو أوله أو وسطه، ورباعي آخر مستخرج على طريق النحت من ثلاثيين اختزلا معًا، أو اختزال أحدهما دون الآخر، أو أحدهما أكثر من الآخر، فهذا وذاك إنما تم الأمر فيهما بهذه الوسيلة الرائعة من وسائل الاشتقاق، وهي النحت الذي يزيد صورة الكلمة ظاهرًا، ولكنه يختصرها في الحقيقة لتعبيره بها عن كلمتين

_ 1 وإليك عبارة ابن فارس كما وردت في المقاييس "1/ 329": "فمما جاء منحوتًا من كلام العرب في الرباعي أوله باء "البلعوم": مجرى الطعام في الحلق؛ وقد يحذف فيقال: بعلم. وغير مشكل أن هذا مأخوذ من بلع، إلا أنه زيد عليه ما زيد لجنس من المبالغة في معناه. وهذا وما أشبهه توطئة لما بعده". على أن الدكتور إبراهيم أنيس يلاحظ في مثل هذه الميم أنها علامة التنوين في اللغة الحميرية القديمة: "قارن بأسرار اللغة 74".

أو كلمات التصقت أركانها الأساسية وما زال في الكلمة الجديدة حظ من معنى كل منها مثلما أن فيه حظا من حروفها وأصواتها. ولقد اتفق أن استشهدنا بالسلدم والبلعوم، فكان الحرف المزيد تذييلًا في آخر الكلمتين، أو كانت أولاهما صفة والأخرى اسمًا، ولكن الحرف المزيد يقع أولًا ووسطًا، مثلما رأيناه يقع آخرًا، ثم يزاد بطريق النحت في الفعل، مثلما رأيناه مزيدًا في الصفة والاسم. وإذا ضممنا ما عرفناه من النحت بالنسب إلى اسمين كعبدري وعبقسي، إلى النحت في الاسم والصفة والفعل، كانت أنواع النحت الرئيسة لا تخرج عن هذه المصطلحات: نحت فعلي، ووصفي، واسمي، ونسبي1؛ وكأنما قسم ابن فارس النحت في رأيه هذه القسمة الرباعية حين استشهد في "المقاييس" و"الصاحبي" بمثال أو أكثر على كل واحد من هذه الأقسام الأربعة، وكأنه أيضًا لاحظ وظيفة الحرف المزيد المعبر تصديرًا وحشوًا وكسعًا، أو سبقًا وتوسطًا وإلحاقًا، حين قال في "المقاييس" خاصة: "ومن هذا الباب ما يجيء على الرباعي وهو من الثلاثي على ما ذكرناه، لكنهم يزيدون فيه حرفًا لمعنى يريدونه من مبالغة، كما يفعلون في زرقم2 وخلبن3. ولكن هذه الزيادة تقع أولًا وغير أول4. ومن ذلك "البحظلة" ... ومن ذلك "البرشاع" ... " إلخ5.

_ 1 انظرها مع أمثلتها في الاشتقاق والتعريب "للمغربي" ص13-14، وقارن بأصول النحو "للأفغاني" ص 126. 2 الزرقم: الشديد الزرق. 3 الخلبن في وصف امرأة: الخرقاء. 4 إنما استدرك على هذا النحو لأنه عاد مرة أخرى يستشهد بزيادة الميم في آخر "الخلبن"، على مثال استشهاده بالبلعوم والصلدم، والحرف المزيد فيها جميعًا قد وقع أخيرًا، مع أنه لاحظ إمكان وقوعه وسطًا وأول الكلمة، فكالن لزامًا عليه أن يصرح بهذا، وجاء تصريحه دقيقًا صحيحًا. 5 المقاييس 1/ 332.

وإن قليلًا من الترتيب المنطقي لهذه النماذج التي أيد بها ابن فارس مذهبه في النحت، ليرسم لنا في خطوط بيانية دقيقة جميع الصور المنحوتة: فعلية واسمية ووصفية1؛ ويومئ إلى الحرف المعبر الموحي الذي رمز به إلى المادة المختزلة ثم ألصق بالمادة المزيد عليها، سواء أبقيت على حالها بجميع أحرفها، أم اختزلت هي الأخرى قليلًا أو كثيرًا. فمن الأفعال المنحوتة تصديرًا بزيادة حرف معبر في أولها "بحظل الرجل بحظلة" قفز قفزان اليربوع. فالباء زيادئة على "حظل"، قال الخليل: الحاظل الذي يمشي في شقه. يقال: مر بنا يحظل ظالعًا2. ومن ذلك "بَلْذَم": إذا فرق فسكت3 والباء زائدة، وإنما هو لذم، إذا لزم بمكانه فرقًا لا يتحرك4. ومن ذلك "بركل يبركل بركلة": إذا مشى في الماء والطين5. فالباء زائدة "ب + ركل"، والتركل معروف، وهو ضرب الرجل

_ 1 وهي التي تعنينا؛ لما فيها من مراءاة معنى الاشتقاق والقياس بوساطة النحت، أما صورة النحت النسبي كعبدري وعبشمي وما أشبه هذا فقد علمنا أنها سماعية لا نورد منها إلا المحفوظ عن العرب. 2 المقاييس 1/ 332. 3 بلذم وبلدم: بالذال والدال كما في المجمل 1/ 95. إلا أن ابن فارس في "المجمل" لا يصرح بأن مثل هذا اللفظ منحوت، بل يدرجه في باب "ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله باء". ويسلك في هذا الباب نفسه أمثلة من الرباعي الذي وضع وضعًا، كأنه لم يكن حينئذ يفكر بإثبات النحت ولا سلبه؛ من ذالك أنه ذكر في هذا الباب البهصلة: المرأة القصيرة، وحمار بهصل: قصير، والبخنق: خرقة توقي بها المرأة الخمار من الدهن على الرأس، ورجل بلعث: سيئ الخلق ... إلخ "المجمل 1/ 94". وهذه الألفاظ نفسها نفى ابن فارس القول فيها بالنحت في "المقاييس 1/ 335" وسلكها في باب "الرباعي الذي وضع وضعًا". 4 المقاييس 1/ 333. 5 قارن المجمل 1/ 95 بالجمهرة 3/ 309.

بإحدى رجليه وإدخالها في الأرض عند الحفر1. ومن الأفعال المزيدة حشوًا بحرف في الوسط: "بَرجَم يبرجم برجمة" إذا أغلظ في الكلام، فالراء زائدة، وإنما الأصل: البجم2. قال ابن دريد: بجم الرجل يبجم بجومًا: إذا سكت من عي أو هيبة فهو باجم3. ومن ذلك "تبعثرت نفسي": إذا غثث4، فالعين زائدة وإنما هو من بثر في "الباء والثاء والراء" ومنه البثر الذي يظهر على البدن5. ومن الأفعال المزيدة كسعًا بحرف في آخرها: بَرْعم النبت: إذا استدارت رءوسه، والأصل "برع": إذا طال 6. فالميم زائدة. ومن ذلك: "بلسم" الرجل إذا كره وجهه7، فالميم فيه زائدة وإنما هو من مادة "ب ل س" ومنه "الْمُبْلِس" وهو الكئيب الحزين المتندم8. ومن الطريف أن ابن فارس لا يرى بأسًا في أن يكون اسم إبليس مشتقًا من ذلك9. ومن الأسماء المزيدة تصديرًا في أول الكلمة "البِرْقِع": وهو اسم سماء الدنيا10 فالباء زائدة، والأصل الراء والقاف والعين؛ لأن كل

_ 1 المقاييس 1/ 334. 2 نفسه 1/ 333. 3 الجمهرة 1/ 213. 4 في المجمل "تبغثرت" بالغين 1/ 95. 5 المقاييس 1/ 335. 6 نفسه 1/ 234، وقارن بالمجمل 1/ 95. 7 المجمل 1/ 95. 8 المقايس 1/ 334. 9 المجمل 1/ 84. 10 نفسه 1/ 95.

سماء رقيع والسماوات أرقعة1. ومن الأسماء المزيدة حشوًا "البِرْشاع": الذي لا فؤاد له. فالراء زائدة وإنما هو من بشع2. ومن الأسماء المزيدة كسعًا "البرزخ": الحائل بين الشيئين، كأن بينهما برازًا: أي متسعًا من الأرض. فالحاء زائدة في آخر الكلمة3. ومن الصفات المزيدة تصديرًا "بردس": الرجل الخبيث4. والباء زائدة، وإنما هو من الردس، وذاك أن تقتحم الأمور5. ومن الصفات المزيدة حشوًا: ناقة "بَلْعك": مسترخية اللحم. واللام زائدة، وأصل المادة "بعك" تجمع6. ومن هذه الصفات المزيدة كسعًا ما رأيناه في مثل رعشن وخلبن وزرقم. ومنه: سِمْعَنة نِظْرَنة: للمرأة الكثيرة التسمع والنظر7. وهكذا صلحت الأمثلة التي أوردها ابن فارس للاستشهاد على نحت كلمة من كلمتين: إحداهما بقيت على حالها، واحتفظت بجميع أحرفها، فعلًا كانت أو اسمًا أو صفة، والأخرى اجتزئ عنها اختصارًا واختزالًا بحرف واحد معبر من أحرفها ألحق بالكلمة الأولى أولًا أو وسطًا أو آخرًا. بيد أننا رأينا ابن فارس إنما ذكر هذا الضرب من المنحوت -بوساطة زيادة الحرف المعبر- توطئة لما يأتي بعده من الرباعي المنحوت من

_ 1 المقاييس 1/ 334. 2 قارن المجمل 1/ 94 بالمقاييس 1/ 332. 3 المقاييس 1/ 333 وقارن بالمجمل 1/ 95. 4 المجمل 1/ 95. 5 المقاييس 1/ 333. 6 نفسه 1/ 334. 7 الصاحبي 70.

ثلاثين، كل منهما معروف محفوظ، وإن اجتزئ بحرف من أحدهما عن المادة الثلاثية لم يتعذر على الملم بهذه اللغة تقدير أصل تلك المادة قبل أن تختصر ويستعاض عنها بحرف ما. فلو ارتاب الباحث في عد الأمثلة السابقة من قبيل النحت؛ لعجزه عن تعيين المادة الثلاثية التي استعيض عنها بحرف أول أو أوسط أو آخر، ولتوهمه أن مثل هذا أقرب إلى الزيادة الصرفية السماعية، لما وسعه أن يرتاب في الشواهد التي تم فيها النحت بتأليف كلمة رباعية واحدة من كلمتين ثلاثيتين معروفتين التصقت أركانهما وتعين في المختزلة منهما الحرف "الركن" الذي يقوم مقامها كلها بجميع حروفها. وانظر مثلًا إلى هذه الأفعال المزيدة بحرف واحد في أولها: بخذع، بزمخ، بلخص، بزعر، فابن فارس يرجع أن كلا منها منحوت من فعلين ثلاثيين اشتركا في حرفين واختلفا في الحرف الثالث، فكان هذا الحرف المختلف فيه باء في أحدهما وغير الباء في الآخر، وكان علينا أن نستنتج أن الفعل الثلاثي الذي في أوله باء قد غلب ببائه وحدها الفعل الثلاثي الآخر الخالي من الباء رغم اجتماع حروفه كلها وبقائها كلها؛ لأن ابن فارس إنما عد هذه الأمثلة المذكورة "مما جاء منحوتًا من كلام العرب في الرباعي أوله باء"1. وهكذا كانت الباء في الأمثلة جميعًا، أفعالًا وأسماء وصفات، هي الحرف البارز المعبر الذي يقوم في العربية مقام "السابق prefixe" في اللغات الإلصاقية Agglomerantes2. ولنتابع الآن صنيع ابن فارس في هذه الأفعال الأربعة التي ذكرناها، لنرى كيف نشأت صيغها الرباعية بهذه الطريقة الإلصاقية: أما بخذع فقد استعملوه في قولهم "بخذعت الرجل": أفزعته، وقد نحت من

_ 1 المقاييس 1/ 329. 2 قارن بما ذكرناه في هذا الكتاب الفصل الأول ص45.

"بذع" بمعنى أفزع1، ومن "خذع" بمعنى قطع وحز. ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: فتناديا وتواقفت خيلاهما ... فكلاهما بطل اللقاء مخذع2 فاشتراك هذين الفعلين في الذال والعين واضح، وإنما اختلفا في الباء والخاء، وقد اختزل "بذع" واستعيض عنه بأقوى أحرفه "الباء" التي غلبت وحدها "خذع" كلها، فألصقت بها ونشأت الكلمة الجديدة على هذا النحو "ب + خذع". وقل مثل ذلك في "بزمخ" فقد نشأت على طريقة النحت من الباء في "بزخ" بعد إلصاقها بمادة "زمخ"، والبزخ هو خروج الصدر ودخول الظهر3. أما الرجل "الزامخ" بأنفه فهو الشامخ تكبرًا4. فلهذا رأى ابن فارس: أن "بزمخ " منحوتة من "زمخ" و"بزخ"، يقال: بزمخ الرجل: إذا تكبر5. وإذن يكون الفعل الثالث "بلخص" ومنه "تلبخص لحمه":

_ 1 القاموس المحيط 3/ 4. 2 قارن المقاييس 1/ 330 "حيث لا يذكر إلا عجز البيت الذي فيه الشاهد" بالمفضليات 2/ 228 وفيها البيت بتمامه. غير أن الرواية المشهورة "مخدع" بالدال المهملة: بمعنى المجرب، وهي -على هذه الصورة- لا تلائم مذهب ابن فارس في النحت في "بخذع"؛ لأنه يستشهد بمادتين في كل منهما ذال معجمة ألصقتا ونشأت منهما كلمة واحدة. 3 قارن بالجمهرة 1/ 234 "مادة ب خ ز وتقاليبها". والبزخ -على هذه الصورة- كناية عن التكبر والخيلاء، قال ابن فارس في مثل هذا المعنى: " مشى متبازخًا: إذا تكلف إقامة صلبه" المقاييس 1/ 331. 4 أساس البلاغة 195. 5 المقاييس 1/ 331.

غلظ، منحوتًا من "بخص" و"لخص"1 بإلصاق باء "بخص" المختزلة بمادة "لخص" الباقية على صورتها الثلاثية. ويكون الفعل الرابع المستشهد به "بزعر" ومنه "تبزعر الرجل": ساء خلقه2، منحوتًا من "بزع" و"زعر"3 بإلصاق باء "بزع" المختصرة بمادة "زعر" التي لم يختصر منها شيء4. وعلى هذه الصورة أيضًا يتم نحت اسم رباعي من كلمتين ثلاثيتين، كالبِرْقش -وهو طائر- فإنه مأخوذ من "برش" التي عوضتها الباء و"رقش" الباقية على حالها5، كما يتم نحت صفة رباعية من مادتين ثلاثيتين كوصفك الذي حرم الطول بـ"البُحتُر"؛ فإنه منحوت من "بتر" التي رمز إليها بأقوى أحرفها "الباء" بعد إلصاقها بمادة "حتر" التى حفظت أحرفها جميعًا6. ويلاحظ في جميع المواد التي اقتبسناها حتى الآن من "المقاييس" أنها تصلح شواهد على الاجتزاء -في الرباعي المنحوت- بحرف الباء وحده

_ 1 البخص "محركة": لحم القدم وأصول الأصابع "القاموس المحيط 2/ 293 " وهو في "المقاييس 1/ 331" لحمة الذراع والعين وأصول الأصابع. أما اللخص فهو كثرة اللحم، واشتقاقة من "اللخصة" محركة: لحمة باطن المقلة. ومنه لخصت عينه: ورم ما حولها "القاموس 2/ 314". 2 في "القاموس 1/ 368" تبزعر علينا: ساء خلقه. 3 استعمل من مادة "بزع" تبزع الشر: تفاقم "القاموس 3/ 4" أما الزعر والزعارة فمعناهما: سوء الخلق. يقال: زعر الرجل زعرًا إذا ساء خلقه وقل خيره "أساس البلاغة 191". 4 انظر كيف تم النحت في "تبلخص" و"تبزعر" في المقاييس 1/ 331، وقارن بما ذكرناه واستنتجناه. 5 البرش معروف، وهو اختلاف اللونين، والرقش كالنقش. وانظر نحت البرقش من هاتين المادتين في المقاييس 1/ 331. 6 البتر معروف، وكأن القصير بتر خلقه حين حرم الطول، وأما "الحتر" فهو من حترت وأجترت. وذلك ألا تفضل على أحد، وابن فارس يزعم أن هذا المعنى صار في القصير؛ لأنه لم يعط ما أعطي الطويل "المقاييس 1/ 329".

اختزالًا لمادة ثلاثية تلصق بمادة ثلاثية أخرى وتقع صدرًا في أولها، ويكاد الباحث يحسب ابن فارس راميًا منذ البداية إلى تقرير هذه الظاهرة، تمشيًا مع عبارته الصريحة: "فمما جاء منحوتًا من كلام العرب في الرباعي أوله باء ... "1، إلا أن النظرة الفاحصة المدققة في بقية المواد الرباعية التي سردها مبتدأة بالباء تؤكد أن بعضها أجدر ألا تكون الباء فيه هي الحرف المعبر الرامز إلى المادة المختزلة، بل أحد الحرفين الآخرين المؤلفين لكل من المادتين؛ لأن أحدهما هو الحرف الذي لم يتكرر في كلتا المادتين، وإنه لأَوْلَى إذن من الباء المكررة فيهما2 بأن يكون الحرف الأبرز الأقوى. ومن الطبيعي أن يلصق هذا الحرف ذيلًا في آخر الكلمة المنحوتة، أو حشوًا في وسطها، ما دامت الباء -كما رأينا- صدرًا في أولها. تلك هي الراء الرامزة إلى فعل "بثر" المختزل، كسعت إلحاقًا "Suffixe" بآخر فعل "بحث" الباقي على صورته الثلاثية، فنشأ بهذا الكسع مثل الفعل الجديد "بحثر" بمعنى بدَّد3. وهذه اللام المتوسطة في مادة "بلط" هي حرفها المعبر الذي ألصق حشوًا بـ"بطح" فتكون بإقحامه فعل "بلطح": إذا ضرب بنفسه الأرض4.

_ 1 المقاييس 1/ 329. وقارن بما ذكرناه سابقًا عن ذلك. 2 هذا لا يعني أن غير الباء لا يكون مكررًا، فإنما هي أحرف ثلاثة واحد منها غير مكرر؛ لأنه الحرف المختلف بين المادتين، والحرفان الباقيان مكرران غالبًا، كما هي الحال في جل الأمثلة ألتي اقتبسناها من "المقاييس" حتى الآن. ففي هذه الأمثلة إذن تتكرر الباء ويتكرر معها حرف آخر. 3 قارن بالمقاييس 1/ 329. ويلاحظ هنا أن الحرف المتباين هو الراء من "بثر" والحاء من "بحث"، أما الباء فمكررة في كلتا المادتين، ومثلها الثاء؛ لذلك عددنا الراء لا الباء الحرف الرامز إلى المادة المختزلة "بثر". وقس على ذلك ما سيأتي من الأمثلة التي تكررت فيها الباء. 4 المستعمل من مادة "بلط" أبلط الرجل: إذا لصق ببلاط الأرض. والبطح معروف. فكأن الذي بلطح الأرض وضربها بنفسه قد بطح وأبلط "قارن بالمقاييس 1/ 330".

أما البُرْجُد "وهو اسم للكساء المخطط" فإنما اختيرت لنحته الجيم المتوسطة في "البجاد" حشوًا لكلمة "برد"1. وأمثلة النحت الأخرى التي بثها ابن فارس في بعض مواد "مقاييسه" وذكر بعضها في "الصاحبي"، ليست إلا براهين جديدة تؤيد ما لمحه في الحرف العربي من قيمة تعبيرية "تعويضية" أعني أنها تعوض المادة المختزلة المنحوتة. فالعين من "صعب" ألفت وصف "الصقعب" للطويل من الرجال2، عندما أضيفت إلى "الصقب" بمعنى الطويل؛ على طريقة الحشو والإقحام3. والراء من "ضبر" أنشأت وصف "الضِّبَطْر" للرجل الشديد. حين ألحقت بـ"ضبط" على سبيل الكسع والتذييل4. ومثلها الميم في "لقم" كونت وصف "الصلقم" للشديد العض، لدى إلصاقها بـ"صلق" على أسلوب الكسع والتذييل أيضًا5. وما يصدق على باب الرباعي المنحوت الذي أوله باء، "من أن الباء ليست فيه دائمًا الحرف "التعويضي" المعبر" يصدق كذلك على سائر الأبواب التي ختم بها ابن فارس أبحاث كل حرف من حروف المعجم على ترتيبها الهجائي، تبعًا للمنهج الذي رسمه لنفسه وبنى عليه

_ 1 البجاد هو الكساء، والبرد معروف. "قارن المجمل 1/ 94 بالمقاييس 1/ 330". 2 قارن بمختصر تهذيب الألفاظ "لابن السكيت" ص148 "الباب 39- باب الطول". 3 وعبارة ابن فارس في "المقاييس 3/ 352": "الصقعب: الطويل من الرجال. فهذا منحوت من كلمتين: ممن صقب وصعب. أما الصقب فطويل، والصعب من الصعوبة". ولكن ابن فارس نفسه في مادة "صقب" يرى أن الصاد والقاف والباء لا يكاد يكون أصلًا، ويفسر الصقب -مع ذلك- بالقرب تارة وبالعمود تارة أخرى "المقاييس 3/ 296". 4 الصاحبي 227. وقارن بما ذكرناه 244. 5 أما أخذها من "لقم" فلأن الصلقم يجعل الشيء كاللقمة، وأما "الصلق" فمشتق من الأنياب الصلقات "قارن بالمقاييس 3/ 350".

"مقاييسه". فإذا قال مثلًا: "باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله تاء"1 احتمل أن يكون الحرف التعويضي المزيد -فيما ذكره من الأمثلة- التاء وغير التاء، فلا شيء يعين حينئذ التاء دون سواها، وإن يقل: "على أكثر من ثلاثة أحرف أوله ثاء، أو جيم، أو حاء"2 يحتمل غير الثاء، وغير الجيم، وغير الحاء، وهكذا حتى تنتهي حروف المعجم. وما زال بنا هذا البحث يستهوينا حتى أغرانا بدراسة "المقاييس" دراسة إحصائية دقيقة، فاستخرجنا من أبواب مزيدات الثلاثي وحدها أكثر من ثلاثمائة كلمة منحوتة بين فعل وصفة، وهي جميعًا مما صرح ابن فارس بنحته بعبارة قاطعة، وكان لزامًا علينا أن نهمل في إحصائنا ما تردد فيه، ولقد تردد في كثير تواضعًا منه وحذرًا من أن يقول في لغة القرآن ما لا يعلم. ولم يكن بد من أن يتردد صاحب "المقاييس" في بعض تلك المواد المزيدة؛ لأنه يعلم أن ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف لم يرد على صورة واحدة، بل تعددت أشكاله وضروبه؛ "فمنه ما نحت من كلمتين صحيحتي المعنى مطردتي القياس، ومنه ما أصله كلمة واحدة، وقد أحلق بالرباعي والخماسي بزيادة تدخله3. ومنه ما يوضع

_ 1 تجد هذا الباب في المقاييس "1/ 364". ولم يذكر فيه ابن فارس سوى ثلاث كلمات منحوتة. 2 وقد أصبحت هذه العبارة "تقليدية" في المقاييس، يختم بها ابن فارس أبواب كل حرف من حروف الهجاء. ولم تتخلف مرة واحدة في معجمه، ولو اضطر في بعضها إلى الاكتفاء بالعنوان فقط كما في "باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله ميم" المقاييس 5/ 352، أو إلى الاكتفاء بقوله: "لم نجد إلى وقتنا شيئًا" كما في الذي أوله طاء "3/ 476" أو إلى إظهار ندرته كما في الذي أوله ذال "3/ 273". 3 يقصد هنا الزيادة الصرفية القياسية، فلا وجه لالتباسها بما عددناه نحتًا من مثل الزرقم والصهصلق؛ لأنها زيادة لغوية سماعية، وابن فارس يريد -كما أوضحنا- أن يجعلها قياسية منحوتة من كلمتين مطردتي القياس، تبعًا لمذهبه في الاشتقاق والنحت.

كذا وضعًا"1. وهذا الضرب الأخير الذي وضع وضعًا يوقع أحيانًا في لبس شديد؛ إذ يخيل إلى الباحث فيه أن في وسعه إلحاقه بالنحت بتعيين الحرف التعويضي المزيد عليه وتقدير المادة المختزلة منه، ثم يتبين له أن العرب سمعته هكذا ووضعته على هذه الصورة، فلا سبيل إلى التنقيب فيه عن الزيادة ولا عن الاختزال، وفي مثله يؤثر ابن فارس أن يقول في حذر بالغ: "ومما وُضع وضعًا ولا أظن له قياسًا"2، أو "لا يكاد يكون له قياس"3، أو يقول مستشعرًا بعض النقص في استقرائه: "وهذا ما أمكن استخراج قياسه من هذا الباب. أما الذي هو عندنا موضوع وضعًا فقد يجوز أن يكون له قياس خفي علينا موضعه. والله أعلم بذلك"4. فإن تبلغ منحوتات ابن فارس في مزيدات الثلاثي وحدها ثلاثمائة كلمة، رغم إغفالنا ما أغفله منها مما تردد فيه، فإنى للعلماء القول بقلة النحت في كلام العرب؟ وما الذي طوع لهم أن يروا هذا المنحوت لا يجاوز الستين عددًا؟ 5 إنما قللوا من شأن النحت، وحقروا من شواهده لتعويلهم فيه على ما سمعوه وحفظوه مما شاع وتناقلته الألسنة؛ فأما ما كان قياسيا مبنيا

_ 1 انظر "باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله جيم" المقاييس 1/ 505. 2 ذكر ابن فارس هذا حول "الضمعج" وهو الناقة الضخمة "المقاييس 3/ 402". 3 علق به على "الطفنش": الواسع صدور القدمين "3/ 458". وشبه بذلك قوله "5/ 194": "ومما لعله أن يكون موضوعًا وضعًا من غير قياس "الكرنافة": أصل السعفة الملتزق بجذع النخلة". 4 لم يقل هذا إلا بعد أن سرد نحو تسعة عشر مثالًا على نحت ما زاد على الثلاثي أوله حاء. قارن بالمقاييس 2/ 146. 5 كما ذكرنا نقلًا عنهم ص236. وقد رأى بعضهم المنحوتات لا تجاوز الثلاثين.

على قواعد سليمة في الاشتقاق، فما كان ليكثر منه أحد إلا أن يكون ابن فارس الذي أصَّل أصوله، ورسم منهجه، وكان فيه كل من أتى بعده عالة عليه! ويا ليت صنيعنا لا يوسم بالنقل الساذج لو عينَّا مواضع هذه المنحوتات كلها من "المقاييس"، وفصلنا المواد التي اختزلت فيها حتى نشأت بوساطتها هذه المئات الثلاث من الكلمات الجديدة، أو اكتفينا -على الأقل- بذكر عدد المنحوتات في كل باب من أبواب ما جاء فوق الثلاثي ... 1، إذن لبطلت تلك الخرافة الشائعة المتوارثة عن قلة النحت في لسان العرب! على أن القارئ الآن بين أمرين: إما أن يثبت بنفسه ما ادعيناه بعد إحصائه ما أحصيناه؛ وإما أن يسلم بأننا كفيناه مؤونة هذا الاستقصاء فيتقبل نتائج دراستنا. وحسبنا حينئذ أن نستشهد له -على سبيل المثال- بشاهد واحد على كل حرف مزيد تعويضًا ونحتًا. ونستهل شواهدنا بزيادة التاء، فلا حاجة للتمثيل على الباء، وقد بدأ بها ابن فارس، وأسهبنا في الحديث عنها في مطلع هذا البحث. وحين نمضي من التاء إلى آخر حروف المعجم، لن نعين من المواد المختزلة إلا ما قطع فيه ابن فارس، وإلا قنعنا بالحرف المعوض لها، الرامز إليها. ولئن صرح بعض العلماء في بحث الإبدال اللغوي، على طريقة الاشتقاق الأكبر، بأنه ما من حرف إلا وقد وقع فيه البدل، ولو نادرًا2، ومضينا نؤيد بالشواهد رأيهم هذا، لقد وجدنا في النحت

_ 1 حسبنا أن نشير إلى ترجح هذه الأعداد بين ثمانين منحوتًا كما في باب ما أوله عين "المقاييس 4/ 357-373" وثلاثة منحوتات أو أربعة كما في باب ما أوله تاء "1/ 364 " أو ثاء "1/ 403" أو راء "2/ 509-510" أو زاي "3/ 52-55" ... إلخ. 2 قارن بما ذكرناه سابقًا. وانظر شواهدنا عليه بعد ذلك.

أيضًا -على ما استنبطناه من "المقاييس"- أن من الممكن أن نجزم بأنه ما من حرف إلا وقد اختزل مادة على طريقة الاشتقاق الكبار، ولو نادرًا. فـ" التُّرنوق"مؤلف من "رنق + ت" بعد إشباع الواو1. و"ثعلب الرمح" منحوت من "علب + ث"، وهذه الثاء هي الحرف المعوض لمادة "ثعب"2. و"الْمُحَدْرَج" منحوت من "حدر + ج"، وهذه الجيم هي الحرف الأخير من "درج"3. و"الْحَبْجَر" منحوت من "بجر + ج"4 و"الخُضارع" منحوت من "ضرع + خ"5، و"دَمْشَقَ عمله" منحوت من "دمشق + د"6. و"الشرذمة" منحوتة من "شرم + ذ"7. و"اثبجر" القوم في أمرهم منحوت من "ثبج + ر"8. و"ازلغب الشعر" منحوت نم "لغب + ز"9. و"الْخُلابس"

_ 1 الترنوق: الطين يبقى في سبيل الماء إذا نضب "المقاييس 1/ 364". 2 وهو في خلقته يشبه المثعب، وهو سعلوب "المقاييس 1/ 403". 3 المحدرج: المفتول حتى يتداخل بعضه في بعض. وحدر: قتل. أما درج فمعروف "2/ 146". 4 الحبجر: الوتر الغليظ. وقارن بما ذكرناه عن تقاليب "ر ب ج" و"ج ب ر" في الجمهرة والخصائص "ص190-200". 5 الخضارع: البخيل، فهو خاضع ضارع "2/ 250". 6 دمشق عمله: إذا أسرع فيه. وإنما هو من "المشق": الطعن السريع "2/ 338". 7 الشرذمة: القليل من الناس. وإنما هي من "الشرم": التمزيق "3/ 273". 8 اثبجر القوم في أمرهم: شكوا فيه. منحوت من الثبج والثجرة "1/ 404". 9 واللغب أضعف الريش. والزاي من "الزغب" وهو معروف. ويقال: ازلغب الشعر: إذا نبت بعد الحلق "3/ 53".

منحوت من "خلب + س"1. و"الشناعيف" منحوتة من "نعف + ش"2. و"اصمقرَّ اللبن" مأخوذ من "مقر + ص"3. و"الْجَهْضَم" مشتق من "جهم + ض"4. و"العِفْضاج" زيدت فيه الضاد على "عفج"5. و"العُطْبول" زيدت فيه الطاء على "عبل"6. و"الجمعرة" أضيفت فيها العين إلى "جمر"7. و"التخطرف" مشتق من "خطر" والفاء من "خطف"8. و"الثفروق" منحوت من "ثفر" والقاف من "فرق"9. "والحِسْكِل" مأخوذ من "الحسل" بزيادة الكاف10. و"اللهذم" مما زيدت فيه اللام، وأصله من مادة "هذم "11.

_ 1 الحلابس: الحديث الرقيق. والسين فيه من "خلس" فهو منحمت من خلب وخلس "2/ 250". 2 الشناعيف: الواحد شنعاف، وهي رءوس تخرج من الجبل. والنعف: ما ينسد بين الجبلين. أما الشين المزيدة عليها فهي من "الشعفة": رأس الجبل "3/ 273". 3 اصمقر اللبن: اشتدت حموضته. والمقر: الحامض، والصاد المزيدة من "الصقر" وهو الشيء الخاثر "3/ 350". 4 الجهضم: الضخم الهامة المستدير الوجه. والضاد: من "الهضم" ومنه "أهضام الوادي": أعاليه "1/ 507". 5 المفضاج: السمين الرخو. وهذا مما زيدت فيه الضاد، وهو من العين والفاء والجيم، كأنه ممتلئ الأعفاج، وهي الأمعاء "4/ 362". 6 العطبول من النساء: الممتلئة. وهذا ما زيدت فيه الطاء، وإنما هو من عبالة الجسم "4/ 365". ويلاحظ هنا أننا لم نأتِ بشاهد على زيادة الظاء؛ إذ لم نجد شيئًا رغم البحث الدقيق. 7 الجمعرة: الأرض الغليظة، فالعين فيه من "جمع" وقد أضيفت إلى الجمر، وفيه أيضًا معنى الاجتماع "قارن بالمقاييس 1/ 507". 8 المقاييس 2/ 252. وتخطرف الشيء: جاوزه، فكأنه يخطر واثبًا ويخطف شيئًا. 9 الثفروق: قمع التمرة. وهذا منحوت من الثفر وهو المؤخر. ومن فرق لأنه شيء في مؤخر التمرة يفارقها "1/ 403". 10 الحسكل: الصغار من كل شيء. وإنما كان مأخوذًا من "الحسل" لأنه يقال لولد الضب حسل أيضًا "2/ 144". 11 اللهذم: الحاد. ومن مادة "هذم" الهذام: السيف القاطع الحاد. فهو مما زيدت فيه اللام "5/ 265".

ورأينا كثيرًا من الأمثلة على زيادة الميم والنون، فلا حاجة للتكرار. والهاء من "جهر" زيدت على مادة "جمر" فنحتت كلمة "الجمهور"1. والواو زيدت على "دغل" فكانت "الدغاول" وهي الغوائل2. والياء زيدت أخيرًا في أول مادة "عفر" فنحتت كلمة اليعفور3. فهل من ريب -بعد هذه الشواهد الصريحة على زيادة كل حرف من حروف الهجاء تعويضًا ونحتًا- في أن مذهب ابن فارس في النحت يضاهي أدق النظريات العلمية في الاشتقاق بطريق السوابق واللواحق المعروفة في اللغات الإلصاقية؟ وهل من ريب بعد هذا كله في أن للنحت أصولًا مؤصلة عرفتها العربية ولم تنكرها، وحفظها رواتها ولم يهملوها؟ إن إمام النحاة سيبويه نفسه أشار إلى النحت إشارة صريحة لا يمكن تأويل كلامه بغيرها عندما عقد مقارنة بين الأسماء التي جاءت في كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف وبين الأسماء المنحوتة لدى النسب في الإضافة كعبشمي من عبد شمس، وعبدري من عبد الدار، فقد قال: "وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسمًا بمنزلة جعفر، ويجعلونه من حروف الأول والأخير، ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف، كما قالوا: سِبَطْر4 فجعلوا فيه حروف السبط إذا كان المعنى واحدًا، وسترى بيان ذلك في بابه إن شاء الله. فمن ذلك عبشمي، وعبدري"5. فالراء في "سبطر" ليست مقحمة دون تصاقب في المعنى بين مادة

_ 1 الجمهور: الرملة المشرفة على ما حولها. وفي "الجهر" علو، وفي "الجمر" اجتماع؛ فكأن الجمهور شيء مجتمع عالٍ "قارن بالمقاييس 1/ 506". 2 المقاييس 2/ 240. 3 اليعفور: الخشب، سمي بذلك لكثرة لزوقه بالعفر. وهو وجه الأرض والتراب "3/ 372". 4 السبطر من الشعر: الممتد، ضد الجعد. 5 سيبويه "الكتاب 2/ 88".

"سبط" والصورة الجديدة التي اتخذتها في "سبطر"، بل أقحمت إقحامًا مقصودًا على طريقة النحت؛ إذ كانت الحرف التعويضي الرامز إلى مادة ثلاثية مختزلة يتصاقب معناها مع "سبط" التي عينها سيبويه. ولعل هذا الاستنباط يتبين صوابه من مقارنة نص سيبويه السابق بنص آخر لعبقري اللغويين ابن جني عندما قال في مطالع فصله المشهور حول "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني": "هذا غور من العربية لا يُنتصف منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهوًّا عنه. وهو على أضرب: منها اقتراب الأصلين الثلاثيين: كضياط وضيطار ... 1، ومنها اقتراب الأصليين، ثلاثيا أحدهما ورباعيا صاحبه: كدَمِث ودمثر، وسبِط وسبَطر ... 2". فقد صرح في المثل نفسه بتصاقب "السبطر" الرباعي مع "السبط" الثلاثي، ورأى أن أكثر كلام العرب على مثل هذا، وإن كان لم يُعنَ هنا بتقرير ظاهرة النحت عنايته بتقرير ظاهرة التقارب في اللفظ والمعنى. على أننا لو سألناه رأيه في هذه الراء المزيدة على "السبط" لما كان له أن يعدها حشوًا من غير فائدة وهو في طليعة القائلين بالقيمة التعبيرية للحرف العربي، بل الذي نرجحه أنه يعد هذه الراء الحرف الأبرز الأقوى في مادة ثلاثية مختزلة. أما الاختلاف حول تقدير هذه المادة المختزلة التي فيها الراء ليس بذي بال. ولقد رأينا إمام أصحاب النحت ابن فارس يقنع غالبًا، لبيان وقوع النحت، بحرف واحد يعوض المادة كلها ويقوم مقامها. ولقد كان للنحت أنصار من أئمة اللغة في جميع العصور، وكلما امتد الزمان بالناس ازداد شعورهم بالحاجة إلى التوسع في اللغة عن طريق هذا

_ 1 الضخم الجنبين. 2 الخصائص 1/ 537.

الاشتقاب الكبار، وانطلقوات يؤيدون "شرعية" ذلك التوسع اللغوي بما يحفظونه من الكلمات الفصيحات المنحوتات. فهذا الإمام النحوي المشهور الظهير بن الخطير النعماني1، من علماء القرن الهجري السادس، يملي من حفظه في نحو عشرين ورقة "كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب"، عندما سأله الشيخ أبو الفتح عثمان بن عيسى النحوي البلطي2 عما وقع في ألفاظ العرب على مثال "شقحطب3". وإذا قرأنا في "معجم الأدباء" قصة الظهير هذه4، ثم رأينا السيوطي "المتوفى سنة 911هـ" يحكيها في "المزهر"5، ووجدناه حريصًا في "باب النحت" خاصة على أن يقول: "معرفته من اللوازم"6 أردكنا مدى اهتمام الناس بالبحث عن هذه الوسيلة للتوسع والتوسيع، وشعورهم بضرورة استخدامها وتجديدها وتأصيل أصولها؛ لئلا يبطل سحرها ويكتب عليها الممات.

_ 1 جاء في "المزهر 1/ 482" العماني، تطبيعًا أو سهوًا، وإنما هو النعماني، فقد كان يكتب على كتبه في فتاويه "الحسن النعماني" فسأله تلميذه أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي عن هذه النسبة فقال: أنا نعماني، أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقرية ترعف بالنعمانية. وكان الظهير النعماني عالمًا بفنون من العلم، كان قارئًا بالعشر والشواذ، عالمًا بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه، والفقه والكلام والمنطق، مبرزًا في اللغة والنحو ورواية أشعار العرب وأيامها. وقد عرف بلقب الظهير، أما اسمه الكامل فهو الحسن بن الخطير بن أبي الحسين، وقد توفي سنة 598هـ "ترجمته في معجم الأدباء 8/ 100-108 دار المأمون، وبغية الوعاة 219". 2 جاء في "المزهر 1/ 482 أيضًا" الملطي بالميم، وإنما هو البلطي بالباء، وكان شيخ الناس يومئذ بالديار المصرية. 3 معجم الأدباء 8/ 102-103. 4 وقد ذكر ياقوت أن الذي حدثه بهذه القصة وبجميع أخبار الظهير تلميذه الشريف أبو جعفر الإدريسي "الذي سبق ذكره" سنة 612هـ بالقاهرة. 5 المزهر 1/ 482-483. 6 نفسه 1/ 482.

ولكن النحت ظل -مع ذلك- قصة محكية، أو رواية مأثورة تتناقلها كتب اللغة بأمثلتها الشائعة المحدودة، ولا يفكر العلماء تفكيرًا جديًّا في تجديد أصولها وضبط قواعدها، حتى كانت النهضة الأدبية واللغوية في عصرنا الحاضر، وانقسم العلماء في النحت إلى طائفتين: فمنهم من يميل إلى جواز النحت والنقل اللفظي الكامل للمصطلحات، ومنهم من يرى "أن لغتنا ليست من اللغات التي تقبل النحت على وجه لغات أهل الغرب كما هو مدون في مصنفاتها. والمنحوتات عندنا عشرات. أما عندهم فمئات، بل ألوف؛ لأن تقديم المضاف إليه على المضاف معروف عندهم، فساغ لهم النحت. أما عندنا فاللغة تأباه وتتبرأ منه"1. وكلتا الطائفتين مغالية فيما ذهبت إليه، فإن لكل لغة طبيعتها وأساليبها في الاشتقاق والتوسع في التعبير. وما من ريب في أن القول بالنحت إطلاقًا يفسد أمر هذه اللغة، ولا ينسجم مع النسيج العربي للمفردات والتركيبات، وربما أبعد الكلمة المنحوتة عن أصلها العربي. وما أصوب الاستناج الذي ذهب إليه الدكتور مصطفى جواد حول ترجمة "الطب النفسي الجسمي psychosomatic"، فإنه حكم بفساد النحت فيه "خشية التفريط في الاسم بإضاعة شيء من أحرفه، كأن يقال: "النفسجي" أو النفسجسمي" مما يبعد الاسم عن أصله، فيختلط بغيره وتذهب الفائدة المرتجاة منه"2. إلا أن الدكتور جوادًا سرعان ما ذهب بحسنات رأيه السابق حين أطلق القول بتشويه النحت للكلم العربي، ورمى شواهد

_ 1 هذا رأي أنستاس ماري الكرملي، نشره في مجلة لغة العرب "مج5 ص293 نيسان سنة 1928" ردا على من سأله عن النحت والحاجة إليه. 2 من محاضرة قيمة ألقاها الدكتور مصطفى جواد في مؤتمر أدباء العرب في بيت مري "بلبنان". وقد أقيم هذا المؤتمر في 18 أيلول "سبتمبر" سنة 1954. "وقارن بالمباحث اللغوية في العراق للدكتور جواد أيضًا ص86".

ابن فارس في "المقاييس" بالظن والتخمين والتأويل البعيد1؛ بل زعم أن صاحب "المقاييس" ارتكب برودة وتكلفًا وتعسفًا ليقود كلمة "البحتر" إلى النحت، وأنشأ بين الصحيح عنده! في هذه الكلمة، فأتى برأي لا يخلو في نظرنا من التكلف والتعسف2، ولم يبال بجسامة دعواه التي أرسلها جزافًا وهو يقول: "وكل ما ثبت عندي منه "من النحت" عدة رموز جمليَّة مثل سبحل فلان: أي قال سبحان الله، وحوقل: قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وطلبق: قال أطال الله بقاءه، ودمعز: قال أدام الله عزك. ولولا أن هذه الجمل كانت من الشهرة والتكرار بالمكان المعلوم ما استجازوا لها هذا الاختصار"3. ومن الواضح أن الذي ثبت عند الدكتور مصطفى جواد أن النحت مأخوذ من كتب اللغة المتداولة التي تتناقل الأمثلة القليلة الشائعة، وهي عشرات لا تغني شيئًا، وله أن يرى من خلالها أنها متخذة للأفعال لا للأسماء، فلم تكن المصادر مرادة في استعمالهم النحت مع أن وضع المصطلحات يعني الأسماء قبل غيرها. إلا أنه لو نظر نظرة تفصيلية في جميع أبواب المنحوتات من مزيدات الثلاثي المذكورة في المقاييس، وصنفها تصنيفًا جديدًا على النحو الذي أخذنا به، لرأى النحت في الأسماء والمصادر واقعًا تصديرًا وحشوًا وتذييلًا كمان ذكرناه في موضعه. ولسنا بنرئ ابن فارس من التكلف في بعض ما ادعى فيه النحت،

_ 1 وإليك عبارة الدكتور جواد، كما وردت في المباحث اللغوية ص86: "وعلى ذكر النحت أود أن أشير إلى أني لا أركن إليه في المصطلحات الجديدة؛ لأنه نادر في العربية ويشوه كلمها، وما ذكره ابن فارس في مقاييس اللغة وفقه اللغة لا يعدو الظن والتخمين والتأويل البعيد". 2 أبى أن يكون "البحتر" منحوتًا من "حتروبتر" كما أوضحناه ص255ح؛ وقال: "والصحيح عندي أن "بحتر" مأخوذ من مادة "بتر" المضعفة التاء، ثم قلب أحد الضعفين حاء كما في "درج تدريجًا" أخذوا منه "دحرج" ... إلخ" المباحث اللغوية 95. 3 المباحث اللغوية 86.

ولقد رميناه بالكثير من التعسف في غير بحث النحت، كلما وجدناه يعين أصول المواد ومدلولاتها تعيينًا لا يقوم على ذوق سليم. ولكن تكلفه في بعض أمثلة النحت لا يعني فساد مذهبه فيما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف، كما أن تكلفه في بعض المواطن لا ينفي اعتداله في سائر المواطن الأخرى. ومن تكلف ابن فارس في هذا الباب أنه علل في "المجمل" قولهم: هو أزلي، بهذا لتعليل السقيم: "الأزل: القِدَم، يقال: هو أزلي. وأرى الكلمة ليست بالمشهورة، وفيما أحسب أنهم قالوا للقديم: لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار1، فقالوا: يزلي ثم أبدلت الياء ألفًا2 لأنها أخف فقالوا: أزلي، وهو كقولهم في الرمح المنسوب إلى ذي يزين: أزني"3. ومن تكلفه أنه رد إلى أصلين كلمة عربية أو معربة مع أن لها أصلًا واحدًا عربيا أو أعجميا، فخلط المنحوت بالمشتق تارة، وبالمعرب تارة أخرى. فمن خلطه المنحوت بالمشتق مثل قوله: "فمن المنحوت قولهم للباقي من أصل السعفة إذا قطعت: "جُذْمُور" ... وذلك من كلمتين: إحداهما الجِذْم وهو الأصل، والأخرى الجذر وهو الأصل. وقد مر تفسيرهما4. وهذه الكلمة من أول الدليل على صحة مذهبنا في هذا الباب"5.

_ 1 إذ لولا الاختصار لكان عليهم في النسب أن يقولوا: لم يزلي! ومثل هذا لا يستقيم. 2 يقصد بالألف الهمزة، وكثيرًا ما يجعلون إحداهما مكان الأخرى، ولكن التفرقة بينهما أفضل. 3 المجمل 1/ 27، وقارن بالمزهر 1/ 458. 4 يريد أنه فسر هاتين الكلمتين في معجمه "المقاييس". وقد رأيناه في "المجمل" في باب الجيم والذال وما يثلثهما يفسر هاتين الكلمتين أيضًا، وما يقاربهما من الكلمات التي جاءت جميعًا بمعنى "أصل الشيء". ارجع إلى ما ذكرناه حول هذا ص157. 5 المقاييس 1/ 506.

والحق أن هذه الكلمة كانت تعد من أدل الدليل على فساد مذهبه لو أنه أخذ بمثلها في جميع هذا الباب، إلا أن منهجه كان أدق وأسلم من أن ينزلق دائمًا إلى مثل هذا الدرك. فالنحت يجمع بين كلمتين متباينتين معنى وصورة، ولا ضير في اتفاقهما في بعض الحروف ما دام حرف واحد بينهما مختلفًا، ولا بأس في تقاربهما في المعنى شريطة أن يكون بين المعنين المتقاربين فرق ملموح مهما يكن ضئيلًا دقيقًا، والجذمور هنا مؤلف من كلمتين: الجِذْم والجِذْر، فما مختلفتان صورة لتباين الحرف الثالث بينهما، ولكنهما -بشهادة ابن فارس- متحدتان معنى؛ إذ تفيد كل منهما عنده معنى "الأصل" مطلقًا من كل قيد، مجردًا من كل فارق دقيق. وأولَى بالجذمور أن يكون مشتقا من "الجذر" بزيادة الميم إقحامًا والواو إشباعًا، أو من "الجذم" بزيادة الراء كسعًا والواو إشباعًا، وكلتاهما زيادة سماعية لا قياسية، وإذن تكون لغوية لا صرفية، إلا أنها -مع خروجها عن قياس التصريف- لم تنحت كلمة جديدة من كلمتين متباينتين في المعنى، بل ترادفت الكلمتان حتى صح أن تكون الكلمة الجديدة مشتقة من إحداهما اشتقاقًا سماعيًّا، من غير أن يتعين في واحدة منهما أنها أصل في هذا الاشتقاق1.

_ 1 ولا ينبغي أن يتعارض هذا مع ما سبق ذكره من الأمثلة الكثيرة "عن المقاييس وغيرها" من زيادات سماعية عد فيه الحرف المزيد معوضًا لمادة غير معينة؛ لأننا نفترض في المادة المقدرة المختزلة أن صورتها ومعناها يختلفان عن المادة الباقية المزيدة نحتًا وتعويضًا. فإن قدرنا المادة المختزلة مرادفة للمادة الباقية المزيدة عددنا هذه الزيادة ضربًا من الاشتقاق اللغوي السماعي -كما قلنا في الجذمور- واستبعدنا فكرة النحت. ولك إن شئت أن تطبق هذا المنهج على "الترنوق" الذي استشهدنا به على زيادة التاء نحتًا "ص261 ح1" فمتى قدرت التاء معوضة لمادة ترادف "رنق" لم يصح القول بالنحت. وقل مثل ذلك في جميع ما استشهدنا به من المنحوت بزيادة حرف تعين أنه اختزال لمادة مرادفة للكلمة الباقية على حالها.

ومن خلطه المنحوت بالأعجمي المعرب قوله بنحت "جردب الرجل طعامه" إذا ستره بيديه كي لا يتناول1، من كلمتين: من "جدب" لأنه يمنع طعامه، فهو كالجدب المانع خيره، ومن الجيم والراء والباء، كأنه جعل يديه جرابًا يعي الشيء ويحويه2، مع أن للكلمة أصلًا أعجميًّا هو "كَرْدهْ بانْ" أي حافظ الرغيف3. ومن ذلك أنه استهل "باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف أوله فاء" بالفرزدقة التي هي القطعة من العجين، فرأى أنها كلمة منحوتة من كلمتين، من "فرز" ومن "دق"؛ لأنه دقيق عجن، ثم أفرزت منه قطعة، فهي من الفرز والدق4. لكن للكلمة أصلًا أعجميًّا هو "برارده"، فهي معربة عن الفارسية5. وإنه ليبدو لنا -رغم هذا الخلط بين المنحوت والمشتق، وبين المنحوت والمعرب- أن ابن فارس كان دقيق الحس في التمييز بين ما زيد اشتقاقًا وما زيد نحتًا، ففرق بين البلعوم والحلقوم -وهما على وزن واحد- إذ جعل البلعوم منحوتًا من "بلع" بزيادة الميم التي قدرها العلماء رمزًا لفعل "طَعِم"6، ونفى أن يكون الحلقوم منحوتًا؛ لأن أصله الحلق، وإنما زيدت فيه الميم7، كأنه يرى الميم المزيدة فيه لا تعوض مادة مختزلة مقدرة، وإنما جيء بها مع الواو المشبعة على

_ 1 وفي الجمهرة "3/ 289": "يقال رجل مجردب إذا كان نهمًا، وقال بعضهم: بل المجردب الذي يستر يمينه بشماله ويأكل". 2 المقاييس 1/ 506. 3 الجواليقي "المعرب 110". 4 المقاييس 4/ 513. 5 انظر تعليق العلامة عبد السلام هارون في الحاشية "1" من المصدر السابق نفسه. 6 قارن بما ذكرناه ص248 وبما أوردناه تعقيبًا عليه في الحاشية. 7 المقاييس 2/ 249.

طريقة الاشتقاق اللغوي السماعي المعروف في أحرف قليلة محفوظة. وهو -حين يأتي بالشواهد على هذه الزيادة اللغوية السماعية- آية في التدقيق والتحقيق، يصحح الكثير من الأخطاء الشائعة. فمن يقرأ في المعاجم أن الرماح السمهرية منسوبة إلى سمهر1، يظن المادة من الرباعيات الموضوعة وضعًا، ثم لا ثلبث أن يكتشف أن أصلها "السمرة" وأن الهاء فيها زائدة، كما نبه على ذلك ابن فارس. وتمييزه بين المنحوت والمولد دقيق أيضًا، فلئن اشتبهت عليه "الفرزدقة" المعربة حتى عدها منحوتة من كلمتين، لم تشتبه عليه "الحذلقة" المولدة بلامها الزائدة على "الحِذْق"، بل كشف حقيقة أمرها فقال: "وأظنها ليست عربية أصلية، وإنما هي مولدة، واللام فيها زائدة، وإنما أصله الحذق"2. وإن يكن ابن فارس مولعًا بالنحت، يفسر أحيانًا في ضوئه كثيرًا من الكلم العربي ويتعسف في التفسير، وبجانب الدقة في بعض المواطن، لا يصلح هذا لأن يكون ذريعة للكفر بالنحت، والحكم بفساده، والاستغناء عنه في تنمية اللغة وتوليد المصطلحات. فلا عذر لعالم مطلع في إنكار ما وقع للعرب من النحت ولو قليلًا، ولا ما وقع لابن فارس مما لا تكلف فيه، وإنه ليسعنا في تقبل النحت ما وسع هذا العلامة الجليل الذي عرفناه "تقليديًّا محافظًا"3 أكثر مما عرفناه "مبتكرًا أصيلًا"، فلولا

_ 1 القاموس المحيط 2/ 51. وناظر بين رأي ابن فارس هنا في زيادة الهاء في "سمهر" وما كنا لاحظناه في تقاليب "رهمس" العشرين، بحسب القسمة العقلية، على طريقة الاشتقاق الكبير "ص206-207". 2 المقاييس 2/ 249. 3 نرجو أن يتسامح معنا السادة أعضاء المجامع العربية "في القاهرة ودمشق وبغداد" في استعمال "تقليدي" ترجمة للكلمة الفرنسية Traditionaliste، واستخدام "محافظ" بإزاء Conservateur. فقد جرت بهما الألسنة، وصرت بهما الأقلام، وخفت وقعهما على الأسماع.

استناده إلى نصوص لا تقبل الجدل لما تجرأ على الذهاب في النحت ذاك المذهب البعيد. على أن في النحت شبهة ما تزال قائمة، فكل باحث منصف يعلم أن اللغويين عولوا على الاشتقاق في تعريب المصطلحات، فوجدوا عربيات فصيحات قتلت الأعجميات الدميمات. واستعملوا القياس للسولوجسموس، والخطابة للريطوريقي، والشعر للبيوطيقي1. وكل باحث منصف يعلم أيضًا أن إمام القائلين بالنحت، ابن فارس نفسه، فسر بأمثلته الكثيرة ما اعترى بعض مزيدات الثلاثي من زيادة اللفظ واختزال المعنى، فعلل بذلك ما لاحظه من النحت في كلمات يرجح أن العرب ألفتها وألصقت أركانها ولم تضعها رباعية أو خماسية وضعًا، ولكنه لم يقترح من تلقاء نفسه نحت كلمة من كلمتين أو أكثر لأداء معنى علمي، أو ترجمة اصطلاح فني، أو تعريب مفهوم فلسفي، أفلا يكفي عمل اللغويين وأصحاب النحت لإثبات أن اختزال الكلمات سماعي، وأننا لا ننحت من الكلام إلا ما أخبرنا عنه الرواة أنه منحوت؟ ولقد أجاب اللغويون العصريون عن هذه الشبهة فأحسنوا الجواب، فما اللغة إلا أداءة مرنة مطواع للتعبير عن حاجات الأفراد والجماعات. وإن لم يجد اللغويون القدامى دافعًا لترجمة المصطلحات نحتًا واختزالًا فقد اشتدت بنا الحاجة إلى مثل هذه الترجمة بأقصر عبارة ممكنة، بعد أن اتسعت آفاق البحث العلمي والفني بما لم يحلم به أسلافنا من قبل. ولسنا نرتاب في أن الاشتقاق هو أهم الوسائل "لتكوين كلمات جديدة بقصد الدلالة على معان جديدة"2، فلا يكون استعمالنا للنحت إلا وسيلة إضافية

_ 1 قارن بالمباحث اللغوية في العراق ص100. وهذا رأي الأب أنستاس الكرملي. وهو صحيح لا ريب فيه. 2 من مقال للأستاذ ساطع الحصري في مجلة التربية والتعليم "مج6 ص361-375 سنة 1928".

متممة للاشتقاق القياسي القديم. "ولكن النحت يحتاج إلى ذوق سليم خاصة، فكيرًا ما تكون ترجمة الكلمة الأعجمية بكلمتين عربيتين أصلح وأدل على المعنى من نحت كلمة عربية واحدة يمجها الذوق ويستغلق فيها المعنى"1. ومع أن أكثر المحدثين يميلون إلى الوقوف من النحت موقفًا معتدلًا، ولا يسمحون به إلا حين تدعو الحاجة الملحة إليه، لم يجدوا بأسًا في أن يقال "درعمي" نسبة إلى دار العلوم2 و"أنفمي" للصوت الذي يتخذ مجراه من الأنف والفم معًا3، ولم يستثقلوا كلمة "لُبْأرْز" المنحوتة من لبنان وأرز، وهو اسم شجر من فصلية الصنوبريات، سموا جنسه باللغة العلمية "Libocedrus" نحتًا من "Cedrus Liban"4 ولم يستهجنوا نحت كلمة "قبل" بشكل "قب" وحذف حرف التعريف حتى يمكن أن يقال: "قبتاريخ" Phehistoire" فتقابل "قب" العربية "pre" الإفرنجية5. وكلتاهما حينئذ من السوابق المزيدة نحتًا وتصديرًا "Perfixe". وكان قرار مجمع اللغة العربية في القاهرة حكيمًا حين وافق السادة الأعضاء سنة 1948 على جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة6.

_ 1 المصطلحات العلمية في اللغة العربية "محاضرات للأمير مصطفى الشهابي" ص15. 2 من أسرار اللغة 75 "ط2". 3 الأصوات اللغوية 68. 4 المصطلحات العلمية14. 5 من مقال ساطع الحصري السابق. وفي المقال ذكر طائفة من الكلمات العلمية المنحوتة، واقتراحات لا تزال -رغم تعاقب الأيام- طريقة مبتكرة. وقارن بالمباحث اللغوية ص95. وانظر بعض الأمثلة الجديدة على النحت في "الاشتقاق" لعبد الله أمين ص436 إلى 444. 6 وقد أصدر المجمع في الجلسة الثانية عشر للمؤتمر "في 21 من فبراير "شباط" سنة 1948م" قراره العلمي بشأن النحت: "انظر مجلة المجمع 7/ 158".

ونِعِمَّا اشتراط العلماء في النحت انسجام الحروف عند تأليفها في الكلمة المنحوتة، وتنزيل هذه الكلمة على أحكام العربية، وصياغتها على وزن من أوزانها1. فبمثل هذه الشروط يكون النحت -كجميع أنواع الاشتقاق- وسيلة رائعة لتنمية هذه اللغة وتجديد أساليبها في التعبير والبيان من غير تحيف لطبيعتها، أو عدوان على نسيجها المحكم المتين.

_ 1 قارن بالاشتقاق "أمين" 431، وسنزيد هذه الشروط وضوحًا في فصل "التعريب"، ولا سيما انسجام الحروف عند تأليفها.

الفصل السادس: الأصوات العربية وثبات أصولها

الفصل السادس: الأصوات العربية وثبات أصولها الأصوات العربية وألقاب الحروف: ذكرنا في فصل "مناسبة حروف العربية لمعانيها" أن نفرًا من علمائنا الأقدمين عرفوا لكل حرف صوته صفة ومخرجًا، مثلما عرفوا له إيحاءه دلالة ومعنى1. وها نحن أولاء نتحدث في فصلنا هذا عن مخارج الحروف وصفاتها، وهو الموضوع الذي أرجأناه لأسباب منهجية، فلم نجد حاجة لتقديمه على الفصول السابقة التي هي في نظرنا أدخل في خصائص العربية. على أن حديثنا عن ألقاب الحروف لن يتناولها لذاتها، وإلا لكنا اكتفينا بالإحالة على كتيب في التجويد، بل لما نود أن نؤكده من أن

_ 1 ارجع إلى ص141.

دراسة علمائنا للأصوات العربية لا يضاهيها في العمق والدقة والاستقصاء جميع الدراسات التي يقوم بها اللغويون الآن فيما يسمونه "علم الأصوات اللغوية"، ولما نريد أن نثبته من أن حروفها العربية محفوظة الأصول، معروفة الأنساب. لسنا نزعم طبعًا أن الدراسات الحديثة لم تَعُدْ بالفائدة على الأبحاث اللغوية، فما يجرؤ على مثل هذا القول باحث منصف. ومن ذا الذي ينكر على علماء الأصوات دقتهم في ملاحظة المسموعات، وتسجليها بالأجهزة والآلات؟ 1 لم يكن شيء من هذا متيسرًا لعلمائنا المتقدمين لدى دراستهم الأصوات، وكيفية خروجها من أعضاء النطق، وما يعتريها من التغيير، وما يصيبها من الانحراف، وجاءوا مع ذلك بوصف دقيق لجهاز النطق ووظائف أعضائه عندما أرادوا أن يرتلوا القرآن ترتيلًا، فكانوا أول الرواد لعلم الأصوات اللغوية، وعلى كثير من ملاحظاتهم بنيت المباحث الحديثة في مخارج الحروف وصفاتها2. وأول ما يبنغي التنبه إليه في الجهاز النطقي أن الأعضاء المتحركة فيه هي الشفتان واللسان من طرفه إلى لسان المزمار ثم الفك الأسفل والطبق -ومعه اللهاة والحنجرة- والأوتار الصوتية والرئتان. أما الأسنان واللثة والغار والجدار الخلفي للحلق فهي جميعًا أعضاء ثابتة في جهاز النطق3.

_ 1 انظر في هذا "مناهج البحث في اللغة 69-72". 2 ليس من شأننا هنا أن نخوض في الموازنة بين علم التجويد وعلم الأصوات اللغوية، فذلك خارج عن نطاق بحثنا، ولا بد لمثل هذه الموازنة من سفر مستقل. 3 مناهج 64. ويرجى القارئ أن يرى صورة من جهاز النطق يتبين من خلالها أشكال الأعضاء المذكورة ومواضعها. وأفضل مرجع نحيله عليه في هذ الصدد هو كتاب الدكتور إبراهيم أنيس "الأصوات اللغوية، الفصل الثاني ص18 أعضاء النطق". وإنما منعنا من تصوير الجهاز النطقي والإسهاب في وظائف أعضائه خروج مثل هذا التفصيل عن بحثنا الأساسي الذي نتناول فيه خصائص العربية في المقام الأول.

وما برح علماء الأصوات العصريون يبحثون الأحرف المستعملة في كل لغة بحثًا مرددًا بين أفقين: أحدهما حركي عضوي، والآخر تنفسي صوتي، فلا يخرجون في كلا الأفقين عن المنهج الثنائي الذي رسمه علماء التجويد حركيًّا عضويًّا في المخارج. تنفسيًّا صوتيًّا في الصفات. لا شيء يمنعنا إذن من التمسك باصطلاحات علمائنا المتقدمين في تسمية حروف الفصحى ومعرفة ألقابها. والتميز بين مخارجها وصفاتها. ولا شيء يدعونا إلى تفضيل التسميات الحديثة، أو الأخذ بالتقسيمات العصرية التي يعمد إليها بعض العلماء اليوم، ولا سيما إذا اتضح لنا أن تغيير المصطلحات القديمة يوقعنا في لبس شديد لدى فهم ظواهر الاشتقاق قلبًا وإبدالًا1، ومدلولات الحروف العربية تعبيرًا وبيانًا2. ولقد اختلف العلماء في مخارج الحروف. فمال أكثر النحويين وأكثر القراء إلى أنها سبعة عشر مخرجًا3 تجمعها عشرة ألقاب فقط. وبهذا الرأي أخذنا؛ لأنه أكثر شيوعًا وأدق تفصيلًا. ونلاحظ -قبل الشروع في تسمية هذه الألقاب- أن المعول عليه في الحرف معرفة مخرجه لا صفته؛ لأن معرفة المخرج بمنزلة الوزن والمقدار، ومعرفة الصفة بمنزلة المحك والمعيار4. ومن هنا جاء اشتقاقهم

_ 1 نعني هنا بوجه خاص الاشتقاق الكبير والأكبر. وقد احتجنا لدى الحديث عنهما إلى معرفة مخارج الحروف وصفاتها. ولا سيما في الاشتقاق الأكبر. وبنينا دراستنا هناك على ألقاب الحروف كما عرفها علماؤنا المتقدمون. وما كان يجوز لنا أن نصنع غير هذا. 2 لأن القيمة التعبيرية الموحية للحرف العربي لا تلمح -كما رأينا- إلا عند القائلين بمناسبة حروف العربية لمعانيها. وهذه المناسبة يتعذر القول بها على من يجهل الأسرار الصوتية المودعة في مخارج الحروف وصفاتها كما عرفها العرب ولمحوها واستشعروا وقعها على الأسماع، وأثرها في النفوس. 3 وثمة رأيان آخران: أحدهما أن عدة المخارج ستة عشر، والآخر أنها أربعة عشر فقط. انظر تفصيل الخلاف في "نهاية القول المفيد في علم التجويد ص32-33". 4 نهاية القول المفيد 33.

ألقاب الحروف من مخارجها لا صفاتها، فكل مجموعة من الحروف تشترك في لقب لتقاربها في المخرج، وإن كان تقاربها لا يعني اتحادها؛ إذ لو اتفق حرفان في المخرج والصفة لما صح أن يسميا حرفين بل كانا أجدر أن يعدا حرفًا واحدًا1. وأفضل وسيلة لمعرفة مخرج الحروف أن تسكنه أو تشدده، وتدخل عليه همزة الوصل بأي حركة وتتسمعه؛ فحيث انقطع الصوت كان مخرجه المحقق، وحيث يمكن انقطاع الصوت في الجملة كان مخرجه المقدر. وإليك الآن ألقاب الحروف، موزعة كل مجموعة منها على مخارجها، وعلى مواقعها من جهاز النطق: 1- الأحرف الجوفية الهوائية: وهي أحرف المد الثلاثة التي تسمى أيضًا أحرف اللين: وهي الألف، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء الساكنة المكسور ما قبلها. ويراد بالجوف الذي تنسب إليه فراغ الحلق والفم، حيث ينقطع مخرجها2. وسميت هوائية لأنها تنتهي بانقطاع هواء الفم. 2- الأحرف الحلقية: وهي الهمزة والهاء، والعين والحاء، والغين والخاء، وللحلق ثلاثة مخارج، فأقصاها مما يلي الصدر للهمزة والهاء، وأوسطها مما يلي الصدر للعين والحاء، وأدناها مما يلي الفم للغين والخاء3. 3- الأحرف اللهوية: وهما حرفان: القاف والكاف. ومع نسبتها إلى اللهاة بين الفم والحلق، يختلف مخرج كل منهما عن الآخر. فالقاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق وما يحاذيه من الحنك الأعلى من منبت اللهاة. والكاف من أقصى اللسان بعد مخرج القاف4.

_ 1 مناهج 123. 2 النشر في القراءات العشر 1/ 199. 3 مقدمة الجمهرة ص8. 4 القول المفيد 35.

4- الأحرف الشَّجْرية: وهي ثلاثة: الجيم، والشين، والياء غير المدية، ومخارجها متقاربة، ونسب إلى شَجْر الفم، وهو ما بين وسط اللسان وما يقابله من الحنك الأعلى1. 5- الأحرف الذليقة: وهي ثلاثة: اللام، والنون المظهرة، والراء. واللام هي أوسع الحروف مخرجًا؛ إذ يمكن إخراجها من كلتا حافتي اللسن وما يحاذيهما من لثة الضاحكتين والنابين والرباعيتين. والنون المظهرة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا، أسفل من اللام قليلًا. أما الراء فهي أدخل في ظهر اللسان، ما بين رأسه وما يحاذيه من لثة الثنيتين العليين. وتسمى ذليقة لخروجها من ذلق اللسان أي طرفه2. 6- الأحرف النِّطْعية: وهي ثلاثة: الطاء، والدال، والتاء، ومخارجها متقاربة. ونسبت إلى النطع: وهو سقف غار الحنك الأعلى3. 7- الأحرف الأسلية: وهي ثلاثة: الصاد، والسين، والزاي، ومخارجها متقاربة، ما بين رأس اللسان وبين صفحتي الثنيتين العليين، والصاد أدخلها في هذا المخرج، والسين أوسطها، والزاي أبعدها4. 8- الأحرف اللثوية: وهي ثلاثة: الظاء والذال والثاء، ومخارجها متقاربة، ما بين ظهر اللسان مما يلي رأسه وبين رأسي الثنيتين العللين. وتسمى لثوية لخروجها من قرب اللثة5.

_ 1 النشر 1/ 200. 2 القول المفيد 36-37. 3 النشر 1/ 201. 4 وتسمى صفيرية أيضًا، واللقب حينئذ جاءها من الصفة. أما تسميتها "أسلية" فلخروجها من أسلة اللسان، وهو ما دق منه "النشر 1/ 200". 5 القول المفيد 38.

9- الأحرف الشفهية أو الشفوية: وهي أربعة: الفاء، والباء، والميم، والواو غير المدية، وتسمى شفوية لأن مخرجها إلى الهواء من الشفتين1، غير أن الفاء مما بين باطن الشفة السفلى ورأس الثنيتين، والثلاث الباقية مما بين الشفتين معًا2. 10- الأحرف الخيشومية: وهي النون الساكنة والتنوين، حين إدغامهما بغنة أو إخفائهما، والنون والميم المشددتان3. وإذا جمعنا المخارج المختلفة الموزعة على هذه الألقاب العشرة المسماة وجدناها ستة عشر مخرجًا4، ثم يصبح سبعة عشر بإضافة الضاد التي أغفل العلماء تلقيبها. غير أن بعضهم أشار إلى إمكان تسميته "شجرية"5 ومخرجها ما بين إحدى حافتي اللسان ما يحاذيها من الأضراس العليا6. تلك هي مخارج الحروف، وعليها المعول -كما أوضحنا- في توضيح التباعد والتقارب، ولا سيما في معرفة القلب والإبدال اللغويين. أما الصفات قد اختلفوا أيضًا في تعدادها، ولكن أكثر العلماء والقراء على أنها سبع عشرة صفة7. وإليك هذه الصفات كما أوردها القراء باختصار8.

_ 1 مقدمة الجمهرة 7. 2 القول المفيد 38. 3 النشر 1/ 201. وقارن بما ذكرناه "ص230" عن تباعد الميم عن النون مخرجًا، واستغرب هذا التباعد. ويلاحظ هنا دقة الشروط لإمكان تلقيب الميم والنون بالخيشوميتين. 4 عندما نقول "مخارج متقاربة" نعد الأحرف المشتركة في لقب واحد ذات مخرج واحد؛ لعدم تباعدها. 5 كالخليل من المتقدمين "انظر النشر 1/ 200" والزمخشري من المتأخرين "راجع الكشاف 4/ 191". 6 القول المفيد 36. 7 ومنهم من جعلها أربع عشرة. وبلغ بها بعضهم أربعًا وأربعين "القول المفيد 45". 8 قارن النشر 1/ 202-205 بالقول المفيد 46-62.

1- الجهر: وهو انحباس جري النفَس عند النطق بالحرف لقوته؛ وذلك لقوة الاعتماد على مخرجه. وحروف الجهر تسعة عشر حرفًا1، وهي: أب ج د ذ ر ز ض ط ظ ع غ ق ل م ن وي ا. 2- الهمس: وهو ضد الجهر، فهو انطلاق النفس عند النطق بالحرف لضعفه؛ وذلك لضعف الاعتماد على مخرجه2. وحروف الهمس عشرة وهي: ت ث ح خ س ش ص ف ك هـ3. 3- الشدة: وهي انحباس الصوت عند النطق بالحرف لتمام قوته؛ وذلك لتمام قوة الاعتماد على مخرجه، وحروف الشدة ثمانية وهي: أب ت ج د ط ق ك4. 4- الرخاوة: وهي ضد الشدة، فهي انطلاق الصوت عند النطق بالحرف لتمام ضعفه؛ وذلك لتمام ضعف الاعتماد على مخرجه5. وهي ستة عشر: ث ح خ ذ ز س ش ص ض ظ ع ف هـ وي ا. 5- التوسط بين الشدة والرخاوة: وذلك حين لا يتم انطلاق الصوت ولا انحباسه. وحروف التوسط خمسة هي: ر ع ل م ن6. ومما سبق يتضح أن الذي يجري مع حروف الهمس ولا يجري مع حروف الجهر إنما هو النفس لا الصوت، وأن الذي يجري مع حروف

_ 1 ومن عادة القراء أن يجمعوا الحروف المتحدة الصفات بعبارة تيسر حفظها. وربما لا يكون معنى العبارة واضحًا أحيانًا، كما في حروف الجهر هذه، فقد جمعها بعضهم بقوله "عظم وزن قارئ ذي غض جد طلب". 2 ويظهر كل من الجهر والهمس إذا حرك الحرف وكرر، فإما أن ينطلق النفس عند النطق بالحرف وإما أن ينحبس. 3 ويجمعها قولك: "سكت فحثه شخص". 4 ويجمعها قولك" "أجد قط بكت". 5 ويظهر كل من الشدة والرخاوة إذا سكن الحرف. 6 يجمعها قولك: "لن عمر".

الرخاوة ولا يجري مع حروف الشدة إنما هو الصوت لا النفس1. 6- الاستعلاء: وهو خروج صوت الحرف من أعلى الفم؛ وذلك لعلو اللسان عند النطق بالحرف إلى الحنك الأعلى. وحروف الاستعلاء سبعة وهي: خ ص ض ط ظ غ ق2. 7- الاستفال3: وهو ضد الاستعلاء، فهو خروج صوت الحرف من أسفل الفم؛ وذلك لتسفل اللسان عند النطق بالحرف إلى الحنك الأسفل. وحروف الاستفال اثنان وعشرون، وهي: أب ت ث ج ح د ذ ر ز س ش ع ف ك ل م ن هـ وي ا. 8- الإطباق: وهو انحصار صوت الحرف بين اللسان والحنك الأعلى؛ لارتفاع ظهر اللسان إلى الحنك الأعلى حتى يلتصق. وحروف الإطباق أربعة، وهي: ص ض ط ظ. 9- الاستفتاح4: وهو ضد الإطباق، فهو جريان النفس لانفراج ظهر اللسان عند النطق بالحرف وعدم إطباقه على الحنك الأعلى. وهذه الحروف خمسة وعشرون، وهي: أب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ع غ ف ق ك ل م ن هـ وي ا5. 10- الصفير: وهي ثلاثة: ص، س، ز6. وسميت صفيرية

_ 1 الاشتقاق "أمين" 343. 2 يجمعها قولك: "خص ضغط قظ". 3 أو التسفل أيضًا. 4 أو الانفتاح. 5 يجمعها قولك: "من أخذ وجد سعة فزكا حق له شرب غيث! وفيه ما فيها من التكلف، إلا أنها تعين على الحفظ! 6 ويلاحظ أن هذ الحروف الصفيرية الثلاثة هي الحروف الأسلية نفسها، ولا لبس بين التسميتين، فتلك للمخرج، وهذه للصفة.

لأنها تخرج من بين الثنايا وطرف اللسان، فينحصر الصوت هناك إذا سكنت وكصفير الطائر. 11- القلقلة: وهي اضطراب الحرف وتحركه بحركة عند النطق به وهو ساكن حتى يسمع له نبرة قوية. وحروف القلقلة خمسة، وهي: ب ج د ط ق1. 12- الانحراف: وهو ميل الحرف بعد خروجه إلى طرف اللسان. وحروفه الراء واللام. 13- التكرار: وهو ارتعاد طرف اللسان بالحرف عند النطق بالراء. 14- الاستطالة: وهي امتداد الصوت بالضاد من أول حافة اللسان إلى آخرها. 15- التفشي: وهو انتشار النفس في الفم عند النطق بالشين. 16- اللين: وهو إخراج الحرف بعد كلفة على اللسان. وحروف اللين: الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما، نحو خوف وبيت. 17- الغنة: وهي خروج صوت الحرف من الخيشوم، وحروفها: الميم، والنون، والتنوين. وكما رأينا مخارج الحروف يجمعها عشرة ألقاب، نلاحظ أن صفات الحروف يجمعها لقبان: المصمتة والمذلقة2. "فالمذلقة" ستة أحرف: ب ر ف ل م ن. وهي أخف الحروف وأسهلها وأكثرها امتزاجًا بغيرها؛ لسرعة النطق بها3. ولا يجوز الخلط بين الأحرف

_ 1 يجمعها "قطب جد". 2 مقدمة الجمهرة 6. 3 ولذلك كان لا بد في كل كلمة على أربعة أحرف أو خمسة أن يكون فيها مع الحروف المصمتة حرف من الحروف المذلقة لتعادل خفة المذلق ثقل المصمت "مقدمة الجمهرة 7".

الذلقية مخرجًا، والمذلقة صفة، فالذلقية لا تخرج إلا من ذلق اللسان، أما المذلقة فمنها ما يخرج من ذلق اللسان كراء واللام والنون، ومنها ما يخرج من ذلق الشفة وهي الباء والفاء والميم. ففي صفة الذلاقة شمول وعموم، وفي مخرج الذلاقة تضييق وتحديد. والاتفاق في الاسم لا يوقع في اللبس عند التفرقة بين الصفة والمخرج. أما "المصمتة" فهي ضد المذلقة، وهي الأحرف الهجائية الباقية ما عدا الستة المذلقة، ويصعب على اللسان النطق بها، فلا تنفرد بنفسها في كلمة مؤلفة من ثلاثة أحرف. وسميت مصمتة لأنها أصمتت -أي منعت- أن تختص ببناء كلمة في لغة العرب إذا كثرت حروفها1. ويظن بعض الباحثين المحدثين أن القراء والنحاة العرب خلطوا خلطًا كبيرًا في تحديد المخارج والصفات2، ويستشهدون على ذلك بتردد بعض الحروف بين مخرجين أو أكثر، أو بين مخرج وصفة، أو إسقاط بعض الصفات والتفصيل في بعضها. والحق أن هذا الخلط إنما جاء النحاة من شدة أمانتهم وحرصهم على أن ينقلوا الآراء جميعًا، فالنون مثلًا عند بعضهم تسمى ذلقية تارة؛ لأنها تخرج من ذلق اللسان، وخيشومية تارة أخرى؛ إذ ينطق بها في تجويف الفم وهو الخيشوم؛ وكل يراعي ناحية، وكل جدير أن ينقل قوله، ولا يهمل. على أنك لو أخذت بمنهج واحد منهم وقنعت بتقسيماته واصطلاحاته لما وجدته يخلط أو يناقض نفسه، وهم جميعًا -بعد هذا كله- أسمح من أن يضيق بعضهم على بعض فيما ذهبوا إليه أو اصطلحوا عليه، فمخارج الحروف وصفاتها تخضع للملاحظة المباشرة، وكلما تجددت هذه الملاحظة ولدت مصطلحات جديدة، وتسميات مستحدثة، ومن هنا رأينا هؤلاء القراء -بعد تفصيل رأيهم في صفات الحروف مثلًا- ينبهون إلى التقسيمات الأخرى ويقولون بكثير من الحيطة والحذر: "وللحروف صفات أخرى غير مشهورة تركناها خوفًا من الإملال والتطويل"3.

_ 1 مقدمة الجمهرة 7. 2 مناهج البحث في اللغة 85. 3 القول المفيد 62.

ثبات الأصوات في العربية

ثبات الأصوات في العربية: ومن يدرس أصوات هذه اللغة دراسة إحصائية دقيقة يؤخذ بظاهرة مدهشة حقًّا حين يرى رأي العين ثبات هذه الأصوات، فمن خصائص لغتنا احتفاظها بأنسابها اللغوية، فلم يعترها من التغير في النطق بحروفها ما اعترى سائر اللهجات في العالم؛ والسبب في ذلك سعة مدرجها الصوتي، فإن أحرف الهجاء العربي تشتمل على جميع الأصوات الإنسانية ومخارجها، حتى "P V" وهما الحرفان اللذان لا ننطق بهما يوشكان أن يكونا من صميم لغتنا؛ لأن مخرجي الباء والفاء يغنيان عنهما أو يعوضانهما عند الحاجة إليهما1. وإذا كان اللغويون المحدثون يلاحظون بوجه عام "أن النظام الصوتي بعيد كل البعد من أن يكون ثابتًا طوال تطور لغة من اللغات"2، فإن معجزة الكلمة العربية تتجلى في ثبات أصواتها التي تومئ إلى مدلولاتها، حتى لو أن عربيًّا جاهليًّا بعث الآن وسمعنا ننطق بلفظ فصيح لفهمه؛ لأن أصوات لغتنا الفصحى لم يطرأ عليها تغيير، فطريقة النطق بها اليوم لا تختلف في شيء عن طريقة النطق بها بالأمس البعيد، ونحن حريصون على تقييد لغتنا في هذه المواطن "بالفصحى" لئلا يعترض علينا ببعض

_ 1 مقدمة الجمهرة ص4. لدى الحديث عن كلمة "بور" إذا اضطرت العرب إلى نطقها قالت "فور" بين الفاء والباء. وقارن بالصاحبي 25. 2 فندريس ص 64.

الحرفين "au" على عادة سكان روما، فأخذ عليه هذا النطق السناتور فلورس Florus فأجابه Vespasien مداعبًا: "تحية يا فلوري Salue, Flaure ولم يقل له: فلوري Flore1. فإذا تركنا جانبًا هذه التغيرات الصوتية الناشئة عن نطق الأفراد في ظروف معينة لأسباب خاصة، وجدنا أن الانحدار الطبيعي الذاتي إلى أمثال هذه التغيرات في لغات العالم في مجموعاتها الكبرى واضح جدًّا وشائع ومعروف، على حين لا نرى له في العربية الفصحى أثرًا مهما يكن ضيئلًا؛ ففي كثير من اللغات يعتدي حرف على حرف، فيستبدل أحدهما بالآخر؛ لتأثير كلمة في أخرى: فالكاف اللاتينية "c" تنقلب في الفرنسية شينًا "ch" إذا وقعت قبل فتحة قديمة "a" مثال ذلك: في اللاتينية ... ... ... وفي الفرنسية Cantor ... ... "مغن" ... Chantre Capsa ... ... "صندوق يشتمل على آثار الصالحين" ... Chasse Canem ... ... "كلب" ... Chien Caballum ... ... "فرس" ... Cheval Capram ... ... "شاة" ... Chevre وإذا كانت التبدلات الصوتية في الأمثلة السابقة خاضعة للقياس الصرافي analogie2، فإن هذا القياس يظل مجهولًا حتى لدى الخاصة. وإنما يعرف ما وقع في هذه الألفاظ من التبدل الصوتي العالم اللغوي الذي

_ 1 فندريس، اللغة، ص80-81. 2 قارن بمنهج اللغة "مييه 110".

أصبحت هذه المباحث شغله الشاغل. فليس ثمة مجال لمقارنة هذه التبدلات الصوتية بأمثلة في العربية تخفى فيها المادة الأصلية بعض الخفاء، كما في "أب، ويد، ودم" فإن النسبة إلى هذه الكلمات -صادرة عن متوسط الثقافة كصدورها عن الفقيه اللغوي- تومئ إلى الواو الكامنة في الأصول الثلاثة في كل من هذه الكلمات الثلاث؛ إذ تقول "حنان أبوي، وعمل يدوي، ومزاج دموي"؛ فأصول الأنساب اللغوية ما ضاعت، وحقيقة الأصوات اللغوية ما اختلط بعضها ببعض، ولا التبس أمرها على أحد ممن له إلمام بسيط بالعربية. والأمثلة الفرنسية السابقة ذات أصل لاتيني قد انقلبت بعض أصواتها عنه، ولكنك تجد في الفرنسية ضربًا عجيبًا من التغير الصوتي لا يقع مثله في العربية بحال من الأحوال. فإذا صرفت بعض الأفعال الشاذة في الفرنسية كفعل الذهاب aller فستجد فيه "أذهب je vais " في الحاضر "سأذهب j'irai" في الاستقبال، وستجد "يذهبون ils vont" في الحاضر "سيذهبون ils iront" في الاستقبال، فقد ضاعت الأنساب الصوتية عند التصريف. ولذلك يحصر الفرنسيون هذه الأفعال في طائفة خاصة وإن كانت غير قليلة، ويسمونها الأفعال الشاذة Les verbes irreguliers. والمزودجات Les doublets في أكثر اللغات تنشأ من التركيبات الصوتية التي اشتقت أول الأمر من مادة أصلية واحدة ثم دخلت قواميس لغة ما بصور مختلفة وأصوات متغيرة؛ لتفيد معاني خاصة قد يكون لها علاقة بالمعنى الأصيل المشترك، ولكنها -على كل حال- تكف هيئة التركيب الأولية التي لم تتغير عن أداء مفهوم ذهني يقارب مفهومها الذاتي المتطور الجديد؛ لأن جدة مفهومها تعود إلى جدة تراكيبها الصوتية؛ ففي اللغة الفرنسية القديمة كان فعل الطي plier يصرف على النحو التالي: في الحاضر "present".

تطوون vous ployez يطوي il plie أطوي je plie يطوون ils plient نطوي nous ployons تطوي Tu plies ويلاحظ أن فعل plier أصبح ployer عند إسناده إلى ضمير المتكلمين والمخاطبين، وهو التغير عينه الذي كان يصيب هذا الفعل عند إسناده إلى الضميرين المذكورين في صيغة الأمر lmperatif. فالفرنسي كان يقول: لتطووا ployez ولنطوِ ployons ولكن الفرنسية الحديثة اكتسبت عن طريق هذا التغيير الصوتي معنى جديدًا لهذه المادة يختلف عن معناها الأصيل، فمادة plier أصحبت الآن تفيد معنى طي الشيء وثنيه مرة أو مرارًا، على حين صارت مادة ployer تعني لَيَّ الشيء الذي يبدي حركة مقاومة1، فتقول: je plie la robe pour la repasser أطوي الثوب لأكويه. وتقول: je pli la cou de l'ane ألوي عنق الحمار. ومن ذلك في غير تصريف الأفعال: الوصفات الفرنسيان rigide, raide فكلاهما يفيد الآن معنى الصلابة والجمود والخشونة، ولكننا لو تعمقنا البحث فيهما لرأينا أن rigide في الأصل لفظ يستخدم في عمل الآليات mecanique. فالفرنسي يصف مثلًا قطعة في المعدن شديدة الصلابة فيقول: une corde metallique rigide، وينتقل من معناه الحقيقي إلى المجازي فيصف به رجلًا جامدًا به من الصلابة مثل ما في الحديد الصلب، فيقول فيمن هذه حاله: qu'il est rigide ما أشد جموده! ولا يستطيع هنا أن يستخدم لفظ raide فهو لا يوحي إلا بمعنى الصلابة في أعم صورها فيقول: il danse sur la corde raide يرقص على حبل قوي متين2.

_ 1 A.Darmesteter, La vie des mots. p. 140-141. 2 Darmesteter, La v ie des mots. p. 142.

وفي الوقت الذي لا يخفى في العربية صوت من أصواتها مهما تتقلب تصاريف موادها المختلفة، فمادتها الأصلية محفوظة ورابطتها المعنوية مصونة، يعترف علماء اللغة الغربيون بعقم أكثر تعليلاتهم لما وقع في لسانهم من التغييرات الصوتية، فهم لا يعرفون مثلًا كيف اختفى من اليونانية الحديثة كل من صوت الهاء المنفسة h والفاء w "Digama". وقد أشار فندريس إلى هذا، بيد أنه لو كلف نفسه بحث سبب اختفاء هذه الهاء المنفسة h" aspire" في لغته الفرنسية نفسها -فضلًا على اختفاء الهاء الساكنة h muet في مثل عشب herbe، رجل homme، بومة hibou- لوجد نفسه مضطرًّا إلى الاعتراف بعجزه عن تعليل هذا التشويه الصوتي، أو قل هذا المسخ الصوتي الشنيع. وعلماء اللغة الغربيون -بدلًا من التنقيب عن الأسباب الجوهرية للانقلابات الصوتية في لغاتهم- يقنعون أنفسهم بالتنبيه على صعوبة هذه المحاولات في القانون الصوتي، "فالقوانين اللغوية التي يصوغها علماء اللغة لا تعبر إلا عن حالات وسطى، سواء أكان ذلك في الزمان أم في المكان؛ إذ لا يتم التحول الصوتي دفعة واحدة على رقعة من الأرض مترامية الأطراف كتلك التي يتكلم فيها بالفرنسية أو الألمانية أو الإغريقية أو اللاتينية. ومع ذلك، في وسعنا أن نقرر أن الفرنسية قد غيرت الفتحة الممالة المقفلة "e " -التي كان في اللاتينية- إلى "وا" oi، وأن الألمانية تستعمل في داخل الكلمات السين المضعفة مكان التاء t في الإنجليزية سواء أكانت بسيطة أم مضعفة"1.

_ 1 مثل Wasser الإلمانية تقابل Water الإنجليزية "ماء"، besser الإلمانية تقابل Better الإنجليزية "أحسن".

إن لغتنا العربية -إزاء كل هذه التغيرات الصوتية في سائر اللغات- تحتفظ لنفسها بثبات أصواتها، وتبقى فيها المادة الأصلية المشتق منها ظاهرة واضحة مهما تبدو مشتقاتها الفرعية متغيرة عنها، كما رأينا في أنواع الاشتقاق.

الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير

الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير الترادف ... الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير: أ- الترادف: حين نصف العربية بسعة التعبير، وكثرة المفردات، وتنوع الدلالات، وحين نتجرأ أكثر من هذا فنزعم أن لغتنا في هذا الباب أوسع اللغات ثروة، وأغناها في أصول الكلمات الدوال على معانٍ متشعبة، قديمة وحديثة -جدير بنا أن نذكر أن اللغات جميعًا، دون استثناء، تزداد ثروتها وتبلغ مفرداتها من الكثرة حدًّا لا نهاية له إذا كتب لها من شروط النماء والحياة والخلود ما كتب للعربية، فقد أتيح للغة القرآن من الظروف والعوامل ما وسع من طرائق استعمالها، وأساليب اشتقاقها، وتنوع لهجاتها، فانطوت من هذا كله على محصول لغوي، لا نظير له في لغات العالم. والقاعدة في فقه اللغات بوجه عام أن الكلمة الواحدة تعطي من المعاني

والدلالات بقدر ما يتاح لها من الاستعمالات؛ لأن كثرة الاستعمال1 لا بد أن تخلق كلمات جديدة تلبي بها مطالب الحياة والأحياء. ولعل أبرز العوامل في اشتمال لغتنا على هذا الثراء العظيم أن المهجور في الاستعمال من ألفاظها كتب له البقاء، فإلى جانب الكلمات المستعملة كان مدونو المعجمات يسجلون الكلمات المهجورة. وما هجر في زمان معين كان قبل مستعملًا في عصر من العصور، أو كان لهجة لقبيلة خاصة انقرضت أو غلبتها لهجة أقوى منها، وهجران اللفظ ليس كافيًا لإماتته؛ لأن من الممكن إحياءه بتجديد استعماله. فالاستعمال في العربية على نوعين: مهجور قد يستعمل، ومستعمل قد يهجر، واحتفاظ علمائنا بالنوع الأول كأنه إرهاص لإحيائه، وفي هذا كانت المزية للعربية؛ إذ لا تختفظ سائر اللغات إلا بالنوع الثاني وهو مهدد بالهجران، معرض لقوانين التغير الصوتي، فإذا أميت بالهجر لم يكن في طبائعها ما تعوض به المهجور الجديد بمهجور قديم، فتضطر إلى الاستجداء من لغات أخرى وأحيانًا إلى غصبها والسرقة منها. ليس من الغريب إذن أن نجد باحثًا كرينان Renan في دراسته للغات السامية تأخذه الدهشة وهو ينقل عن الأستاذ دوهامر De Hammer أنه توصل إلى جمع أكثر من 5644 لفظًا لشئون الجمل، رفيق الأعرابي في الصحراء ومؤنسه في وحشته2. ليس من الغريب هذا؛ فإن دوهامر لم يقصر بحثه على أسماء الجمل ومرادفاته، بل جمع كل ما يتعلق بشئونه، وهو الكائن الحي الذي لا يستغني عنه العربي لحظة في حياته. وإذن تكون هذه الأسماء الكثيرة نعوتًا للجمل في أحواله المختلفة: في

_ 1 انظر فندريس 242. 2 Renan, Langues Semitiques, p. 387

حسنه وتمام خلقه، وهزاله وقلة لحمه، وإقامته في المرعى وحبسه، وخطره بذنبه وورده، وشدته في السير ورفقه1. ولا بد أن تلمح حينئذ فروق بين هذه الأسماء، فإذا عجلت الناقة أو الجمل للورد فهي "الميراد"، وإذا توجهت إلى الماء فهي "القارب"، وإذا كانت في أوائل الإبل فهي "السَّلوف"، وإذا كانت في وسطهن فهي "الدَّفون"2. على أن بين علماء العربية من قصر بحثه على أسماء تطلق على مسمى معين وبلغ بها الألوف، لا أقول المئات، كما صنع مجد الدين الفيروزآبادي3 صاحب القاموس في كتابه "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف". ونحن بعد مثل هذا الكتاب سوف نستصغر ونستقل كل ما يشيع على ألسنة المتحذلقين من أن أحدهم جمع للأسد مثلًا خمسمائة اسم، وللحية مائتين4، وأن آخر جمع من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة، وذكر أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي5، بل نستقل كتاب "ترقيق الأَسَل لتصفيق العسل" نفسه؛ لأنه لم يذكر فيه من

_ 1 انظر كتاب الإبل في "المخصص 7/ 2-175" فقد أفرد ابن سيده هذا السفر السابع -ما عدا عشرين صفحة من آخره- لنعوت الإبل وكل ما يتلعق بشئونها. ونظن هذا السفر قد جمع فأوعى، فهو يغني عن جميع المصنفات في شئون الإبل، ولا تجد واحدًا منها يغني عنه. 2 انظر على سبيل المثال: فرائد اللغة في الفروق ص266، والكتاب من جمع الأب لامنس. 3 هو محمد بن يعقوب، أبو طاهر، مجد الدين الفيروزآبادي. إمام في اللغة. له كتب كثيرة أشهرها "القاموس المحيط" وقد طبع في أربعة أجزاء. ومما طبع في رسائله اللغوية "تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين". ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "المثلث المتفق المعنى" و"الجليس الأنيس في أسماء الحندريس" و"البلغة في تاريخ أئمة اللغة". توفي في زبيد سنة 817هـ "بغية الوعاة 117". 4 وهو ابن خالويه كما في "المزهر 1/ 325". وقارن فيما يتعلق بصفات الأسد بذيل الأمالي ص180. 5 وهو حمزة بن حسن الأصبهاني نقلًا عن الثعالبي في "فقه اللغة ص 457"، وقارن بالمزهر 1/ 325.

أسماء العسل إلا ثمانين: منها الحميت، والتحموت، والطَّرْيَم، والدستفشار1، والْمِحْران، والعِكْبر، والبلة، والصبيب، والصموت، واللواص، والرُّحاق، فضلًا على أسمائه المشهورة كالشهد، والذوب، وريق النحل، وقيء الزنابير2. ونلاحظ هنا شيئًا جديرًا بالاهتمام، فعدا عن أن أوصاف المسمى تصبح أسماء مرادفات، هنالك ألفاظ أعجمية معربة لا يلبث جامعو القواميس أن يجعلوها من عناصر اللغة ومفرداتها نفسها، وعليها يبنون نظرتهم في انفراد اللغة بمزية الثراء العظيم. ولكيلا نضرب إلا مثلًا واحدًا، نشير إلى ما علق به صاحب اللسان على كلمة "دستفشار" فإنه قال: "هو معرب، وهو العسل المعتصر بالأيدي إذا كان يسيرًا. وإن كان كثيرًا فبالأرجل، ومنه قول الحجاج في كتابه إلى بعض عماله بفارس: ابعث إليَّ بعسل خُلار، من النحل الأبكار، من الدستفشار، الذي لم تمسه نار"3. ولكن بعض العلماء القدامى ينكرون وقوع الترادف في العربية، وفي إنكارهم معنى أخطر كثيرًا مما يتصوره أي باحث من المحدثين، فلا سبيل معه إلى القول بانفراد العربية بكثرة المفردات وسعة التعبير. قال أبو علي الفارسي4: "كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة

_ 1 وردت في "المزهر 1/ 407" المستفشار، بالميم، وهي الدستفشار بالدال، كما في اللسان 5/ 144. 2 المزهر 1/ 407. والأسماء الثمانون كلها مذكورة في المزهر، ولكن من الغريب حقًّا أن يعلق السيوطي على ذلك بقوله: "قلت: ما استوفى أحد مثل هذا الاستيفاء، ومع ذلك فقد فاته بعض الألفاظ، فقد أنشد القالي في أماليه: ولذ كطعم الصرخدي تركته. وقال: الصرخدي: العسل". 3 اللسان 4/ 144 مادة "بكر". 4 سبقت ترجمته.

من أهل اللغة، ومنهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسمًا، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسمًا واحدًا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفات"1. وإنكار الترادف، والتماس الفروق الدقيقة بين الكلمات التي يظن فيها اتحاد المعنى، والقول بالتباين بين اسم الذات واسم الصفة أو صفة الصفة، ذهب إليه بعض العلماء في أواخر القرن الهجري، فكان عالم كبير كثعلب2 يرى أن "ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات"3، وبمثل قوله قال تلميذه أحمد بن فارس. وإذا الجدل يبلغ أشده في القرن الرابع الهجري حول هذا الموضوع، فمن منكر للترادف، ومن مغالٍ في وقوعه، ومن معتدل فيه. فأما ابن فارس فكان يقول: "يسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام. والذي نقول في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى"4. وإذا اعترض أصحاب الترادف بأن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يعبر عن الشيء بالشيء فيكون التعبير عن معنى الريب بالشك خطأ، ويكون التعبير عن معنى البعد بالنأي

_ 1 المزهر 1/ 405. 2 هو أحمد بن يحيى أبو العباس، المعروف بثعلب. إمام الكوفيين في النحو، وأحد كبار الراوة الحفاظ. من كتبه المطبوعة "الفصيح" و"مجالس ثعلب" و"شرح ديوان زهير" و"شرح ديوان الأعشى" و"قواعد الشعر" وله في اللغة كتب أخرى أهمها "معاني القرآن" و"إعراب القرآن". توفي سنة 129هـ "تاريخ بغداد 5/ 204". 3 المزهر 1/ 403. 4 الصاحبي 65.

خطأ في قول الشاعر: وهند أتى من دونها النأي والبعد أجاب ابن فارس: "إنما عبر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول: إن اللفظتين مختلفتان فيلزمنا ما قالوه، وإنما نقول: إن في كل واحدة منهما معنى ليس في الأخرى"1. ولم يكن ابن فارس يكتفي بملاحظة الفروق الدقيقة بين الاسم والوصف أو بين اسم وآخر، بل كان يرى مع شيخه ثعلب أن معاني الأحداث التي تفيدها الأفعال تشتمل كذلك على فروق دقيقة لا تسمح بالقول بالترادف فيها "نحو مضى وذهب وانطلق، وقعد وجلس، ورقد ونام وهجع، ففي قعد معنى ليس في جلس، وكذلك القول فيما سواه"2. وبسبيل إثبات هذه التفرقة وإيضاحها يقول ابن فارس: "ألا ترى أنا نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد ... ثم نقول: كان مضطجعًا فجلس، فيكون القعود عن القيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الْجَلْس المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله"3. ولقد نجد في لغات العالم، القديمة والحديثة، كلمات قليلة محدودة للتعبير عن أصوات الحركات الخفية مثلًا، فإن التمسنا في العربية ما وضع لأداء هذه الأصوات أدركنا العجز عن استيعاب تلك الكثرة من الكلمات الدالة على فروق دقيقة جدًّا؛ فالهمس صوت حركة الإنسان

_ 1 نفسه 66. 2 المزهر 1/ 405. 3 الصاحبي 66.

وقد نطق به القرآن، ومثله الجرس والْخَشْفة. وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: "إنني لا أراني أدخل الجنة فأسمع الخشفة إلا رأيتك". وقريب منها الهمشة والوقشة. فأما النامة فهي ما يتم على الإنسان من حركته أو وطء قدميه. والهسهسة عام في كل شيء له صوت خفي كهساهس الإبل في سيرها. والهميس صوت نقل أخفاف الإبل في سيرها. "ومنه قول القائل": وهن يمشين بنا هميسا1 وتبلغ العربية حد الإعجاز وهي تعبر عن صوت الشيء الواحد بألفاظ مختلفة تراعي معها التفاوت في علوه وهبوطه، وعمقه وسطحيته. فإذا كان صوت الإنسان الخفي -كما رأينا- قفد يكون همسًا أو جرسًا أو خشفة أو همشة أو وقشة، فإن صوت الماء إذا جرى خرير، وإذا كان تحت ورق أو قماش قسيب، وإذا دخل في مضيق فقيق، وإذا تردد في الجرة أو الكوز بَقْبَقة، وإذا استخرج شرابًا من الآنية قرقرة ... وهكذا2. ولقد حَرَصَ العلماء على إظهار الفروق الدقيقة بين الألفاظ المستعملة، فعقدوا فصولًا لأشياء تختلف أسماؤها باختلاف أحوالها، ونقلوا مثلًا أنه "لا يقال كأس إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان. ولا كوز إلا إذا كانت له عروة، وإلا فهو كوب"3.

_ 1 فقه اللغة للثعالبي ص308. 2 فقه اللغة للثعالبي 321. 3 انظر خصائص اللغة 152/ ب "مخطوطة الظاهرية تصوف 206" والكتاب منسوب إلى الثعالبي وهو في الحقيقة مختصر من كتابه "فقه اللغو وسر العربية" والذي اختصره الإمام النسفي، المفسر المشهور. وهذا واضح من مقدمة المخطوط، وقد زاده وضوحًا عندنا مقابلته بنسخة منه يملكها الأستاذ أحمد عبيد أحد أصحاب المكتبة العربية بدمشق.

ولسنا نريد بهذا أن ننكر مع أحمد بن فارس وقوع الترادف، بل نؤثر أن نعتدل في رأينا، فلا ضير علينا إذن أن نأخذ بمذهب من يقول في شأن الترادف: "وينبغي أن يحمل كلام من منعه على منعه في لغة واحدة، فأما في لغتين فلا ينكره عاقل"1. وقد تنبه إلى هذا علماء الأصول حين فسروا وقوع الترادف بوجود واضعين مختلفين، "وهو الأكثر: بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان، أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر، وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية"2. وإن خفاء الواضعين حين لم يمنع اشتهار الوضعين قد زاد من ثروة اللغة المثالية حتمًا، فقد انتقل إلى هذه اللغة كثير من مفردات القبائل الأخرى، وأصبحت في الحقيقة تؤلف جزءًا من صيغها وألفاظها، وتنوسيت الفروق الدقيقة التي تميز لهجة من لهجة، أو حفظ بعضها وأهمل البعض الآخر. وعلى هذا الأساس نقر بوجود الترادف في القرآن الكريم؛ لأنه وقد نزل بلغة قريش المثالية يجري على أساليبها وطرق تعبيرها، وقد أتاح لهذه اللغة طول احتكاكها باللهجات العربية الأخرى اقتباس مفردات تملك أحيانًا نظائرها ولا تملك منها شيئًا أحيانًا أخرى، حتى إذا أصبحت جزءًا من محصولها اللغوي فلا غضاضة أن يستعمل القرآن الألفاظ الجديدة المقتبسة إلى جانب الألفاظ القرشية الخالصة القديمة، وبهذا نفسر ترادف

_ 1 انظر المزهر 1/ 405. يقرب من هذا قول ابن جني في "الخصائص 1/ 378": "وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن يكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هنا وهناك" وقارن بما ذكرناه ص63. 2 المزهر 1/ 405-406.

أقسم وحلف في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} ، وترادف بعث وأرسل في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} ، وترادف فضَّل وآثر في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وقوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} فقريش كانت تستعمل في بيئتها اللغوية الخاصة أحد اللفظين في هذه الأمثلة الثلاثة، وإنما اكتسبت اللفظ الآخر من احتكاكها بلهجة أخرى لها بيئتها اللغوية المستقلة. وهكذا لم نجد مناصًا من التسليم بوجود الترادف ولا مفرًّا من الاعتراف بالفروق بين المترادفات، لكن هذه الفروق -على ما يبدو لنا- تنوسيت فيما بعد، وأصبح من حق اللغة التي ضمتها إليها أن تعتبرها ملكًا لها، ودليلًا على ثرائها، وكثرة مترادفاتها. وتكاد تُجْمِع كتب الأدب على رواية قصة تعتبر حجة دامغة على صحة ما نميل إليه؛ فقد خرج رجل من بني كلاب أو من بني عامر بن صعصعة1 إلى ذي جَدَن من ملوك اليمن، فاطلع إلى سطح والملك عليه، فلما رآه الملك قال له: ثب، يريد "اقعد". فقال الرجل: ليعلم الملك أني سامع مطيع، ثم وثب من السطح ودقت عنقه. فقال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن، إن الوثب في كلام نزار الطمر "أي الوثوب إلى أسفل" فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم، من دخل ظفار حَمَّر "أي من دخل مدينتنا اليمنية "ظفار" فعليه أن يتكلم بلهجة حمير"2. وواضح أننا لا نقصد من هذه القصة أن نجري وراء المبالغين في الترادف، فنهول كما هولوا، ونزعم الترادف المطلق بين مئات الأسماء

_ 1 سماه ابن فارس في "الصاحبي 22" زيد بن عبد الله بن دارم. 2 قارن بالصاحبي 22.

وعشراتها لمسمى واحد، فإننا من قبل ومن بعد أمام قصة ستظل مهما تجمع عليها كتب الأدب قصة، ولكن مصدر احتجاجنا بها يعود إلى أن الذين وضعوها -إن كانت موضوعة- إنما استشعروا فيها إمكان التعبير عن شيء واحد بلفظتين مختلفتين ما دامت البيئتان اللغويتان متباينتين. ولو صدر لفظ "وثب وقعد" بمعنى واحد عن قبيلة واحدة، وفي بيئة لغوية واحدة، لما كان ثمة احتمال للترادف بين اللفظين. وإذا كنا نعتبر الكلمة التي تقتبسها اللهجة الأقوى ملكًا لها ودليلًا على ثرائها متى تثبتنا من اختلاف البيئتين اللغويتين، فإننا نود أن ننبه -مخافة الوقوع في اللبس- على أن الاختلاف بين لغتين يراد منه الاختلاف بين لهجتين كلتاهما فرغ للغة واحدة، وت فرعهما عن أصل واحد هو الذي يسوغ ضم ما عند هذه إلى تلك، فيصح لنا -على هذا الأساس- التغني بمآثر لغتنا التي تشتمل على محصول لغوي لا مثيل له بين لغات العالم. أما متى بلغ الاختلاف بين اللغتين مرحلة التباين الأصلي، كما بين العربية والفارسية، أو بين العربية واليونانية مثلًا، فإن الكلمات المكتسبة لا يستدل بها على ثراء اللغة إلا من زعم أن الطير ولد الحوت!

في المشترك اللفظي

ب- في المشترك اللفظي: ما دام فقهاء اللغة يقررون أن الكلمة يكون له من المعاني بقدر ما لها من الاستعمالات، فإن كثرة الاستعمال التي لوحظت في المترادفات أو في إظهار الفروق الدقيقة بين الألفاظ التي يظن فيها الترادف، هي تلك التي تلاحظ في الألفاظ المشتركة أو التي يظن فيها الاشتراك؛ فكما يتسع التعبير في العربية عن طريق الترادف -سواء أبولغ فيه فكان للمسمى الواحد ألوف من الأسماء، أم اقتصر منه على الأمور الهامة والتمست الفروق في سائره- لا بد أن يتسع التعبير عن طريق الاشتراك، سواء أسُلِّم وروده على سبيل الحقيقة، أم التُمست له معانٍ متطورة على سبيل المجاز. ولعل تعريف أهل الأصول للمشترك هو أدق ما يحد به، فهو عندهم "اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة"1. ومثلوا له بعين الماء، وعين المال، وعين السحاب. وإن شئت أن تختصر تعريفه أمكنك أن تقول: "المشترك هو ما اتحدت صورته واختلف معناه". ولولا تنوع الاستعمال لما تنوع معناه؛ لأن اتحاد صورته مع اتحاد استعماله ما كان لينتج إلا اتحاد معناه، ولكن الصورة وحدها تماثلت في المشترك، بينما تغايرت طرائق استعمالها، أما لتغاير البيئات اللغوية وإما لتفاوت المستعملين في مدى ولوعهم بالمجاز أو إيثارهم الحقيقة. ولسنا نزعم أن العربية تنفرد بالمشترك اللفظي، ففي سائر اللغات ألفاظ مشتركة Homonymes يدرو النقاش حولها بين أصحاب الاشتراك ومنكريه، كما يدور مثله بين أصحاب الترادف ومنكريه. بيد أن كثرة المشترك النسبية في لغتنا -كالذي رأيناه من كثرة الترادف فيها نسبيًّا- هي التي تجعل بحث المشترك مندرجًا تحت اتساع العربية في التعبير على أنه خصيصة لا تنكر من خصائصها الذاتية. ولئن توسع الأصمعي والخليل وسيبويه وأبو عبيدة2 في إيراد الأمثلة على المشترك اللفظي في شواهد عربية لا سبيل إلى الشك فيها، فإن طائفة

_ 1 المزهر 1/ 369. 2 سبقت تراجمهم جميعًا.

من العلماء القدامى لم ترَ في تلك الأمثلة والشواهد إلا مصادفات محضة تنوسيت فيها خطوات التطور المعنوي عن طريق المجاز والكناية، ولو أمكن تتبع تلك الخطوات واحدة واحدة لوقعنا على المعنى الأصلي الحقيقي للفظ ثم رأيناه آخذًا في التطور، يلبس كل يوم زيًّا جديدًا، ويعبر في كل بيئة تعبيرًا معينًا. وفي طليعة هؤلاء العلماء المنكرين للاشتراك، المسرفين في إنكاره، وابن دُرُسْتَوَيه1 في كتابه "شرح الفصيح"2. فإذا ظن الناس من قبيل المشترك مثل لفظ "وجد" الذي لم يفد معاني مختلفة إلا بسبب العوارض التصريفية، فيقال: "وجد الشيء وُجدانًا إذا عثر عليه، ووجد عليه مَوْجِدة إذا غضب، ووجد به وَجْدًا إذا تفانى بحبه؛ لم يسلم ابن درستويه بأن هذا لفظ واحد قد جاء لمعانٍ مختلفة، "وإنما هذه المعاني كلها شيء واحد، وهو إصابة الشيء خيرًا كان أو شرًّا؛ ولكن فرقوا بين المصادر؛ لأن المفعولات كانت مختلفة، فجعل الفرق في المصادر بأنها أيضًا مفعولة، والمصادر كثيرة التصاريف جدًّا، وأمثلتها كثيرة مختلفة، وقياسها غامض، وعللها خفية، والمفتشون عنها قليلون، والصبر عليها معدوم، فلذلك توهم أهل اللغة أنها تأتي على غير قياس؛ لأنهم لم يضبطوا قياسها، ولم يقفوا على غورها"3. ويبدو أن أبا علي الفارسي كان ينظر إلى الموضوع نظرة معتدلة، لا يغالي فيها في إنكار الاشتراك مغالاة ابن درستويه، ولا يبالغ في جميع صوره مبالغة الفريق الأول، فهو يقول: "اتفاق اللفظين واختلاف

_ 1 هو عبد الله بن جعفر، المعروف بابن درستويه من علماء اللغة، فارسي الأصل. طبع من تصانيفه "الكتاب". ومن كتبه التي لا تزال مخطوطة "تصحيح الصحيح" وهو المعروف بشرح الفصيح أي فصيح ثعلب. توفي سنة 347هـ "بغية الوعاة 279". 2 أي شرح فصيح ثعلب كما ذكرناه في الحاشية السابقة. 3 المزهر 1/ 384.

المعنيين ينبغي ألا يكون قصدًا في الوضع ولا أصلًا ولكنه من لغات تداخلت، أو أن تكون لفظة تستعمل لمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتصير بمنزلة الأصل"1. وقد لعب تداخل اللغات دورًا خطيرًا في استعمال الألفاظ المشتركة، فكان مادة صالحة للتورية والتجنيس عند المشغوفين بالمحسنات اللفظية، فمن السهل أن يكرر الشاعر أو الناثر لفظ "الألف" قاصدًا به الأحمق كما هو في لغة قيس، أو الأعسر كما في لغة تميم2، أو لفظ "الهِجْرِس" قاصدًا به القرد كما في لغة الحجاز، أو الثعلب كما عند تميم3، أو لفظ "السليط" قاصدًا له الزيت كما يقول عامة العرب، أو دهن السمسم خاصة كما عند أهل اليمن4. وهنا تسمح قريحة الشعراء المجنسين بما يعتبرونه عبقرية في الشعر، وإن كان الشعر براء من هذا السخف كله، فليأخذ الزهو رجلًا كسلامة الأنباري وهو ينشد في شرح المقامات: لقد رأيت هذريًا جَلْسا ... يقود من بطن قديد جَلْسا ثم رقى من بعد ذاك جَلْسا ... يشرب فيه لبنا وجَلْسا مع رفقة لا يشربون جَلْسا ... ولا يؤمون لهم جَلْسا وكيف لا يأخذه الزهو وقد صلح لفظ "جلس" عنده لستة معانٍ مختلفة في ثلاثة أبيات فقط؟ فالأول: رجل طويل، والثاني: جبل عالٍ،

_ 1 المخصص 3/ 259. 2 المزهر 1/ 381. 3 في اللهجات العربية 185. 4 المزهر 1/ 381. وقد صرح السيوطي في هذا النوع بأنه "من المشترك بالنسبة إلى لغتين"، ونقل مثلي الألفت والسليط عن "الغريب المصنف".

والثالث: اسم جبل، والرابع: عسل، والخامس: خمر، والسادس: نجد1 ... والواقع أن لفظ "جَلْس" كان يستعمل في الأصل لمعنى خاص هو الارتفاع مثلًا، وقد يكون من السهل ملاحظة هذا المعنى الأصلي في وصف الرجل بالجلس إذا كان طويلا؛ لأن الطول ارتفاع، وقد تكون ملاحظته أيسر في الجبل العالي أو في تسمية الجبل بالجلس بسبب ارتفاعه، وإن كان البحث عن المعنى الأصلي في العسل والخمر والنجد لا يخلو من تكلف واصطنع. لكن الشيء الذي لا بد من ملاحظته هو أن المعنى الأصلي أن تنوسي أو حفظ في بطون المعجمات، قد كان يلاحظ وحده حين أطلق لفظه للمرة الأولى، ثم جاءت بعض المصادفات المحضة التي قد تظل مجهولة لدينا في بعض جوانبها أحيانًا كثيرة فغيرت معنى هذا اللفظ واستعملته في غير المراد الأصلي البدائي منه، فوجوده بين الألفاظ المهجورة التي قد تستعمل أو حفظه في كتب اللغة بين الألفاظ المستعملة التي قد تهجر لا ينفي أن له في الأصل معنى خاصًّا يدل عليه دون سواه. ولعل بلي Bally لم يكن يقصد غير هذا حين كان يقول: "الكلمات لا تستعمل في واقع اللغة تبعًا لقيمته التاريخية؛ فالعقل ينسى خطوات التطور المعنوي التي مرت بها، إذا سلمنا بأنه عرفها في يوم من الأيام. وللكلمات دائمًا معنى حضوري actuel محدود باللحظة التي تستعمل فيها، ومفرد، خاص بالاستعمال الوقتي الذي تستعمل فيه"2. وإذا كان تطور اللفظ المشترك -بأي طرق التطور- لا ينم في طبيعة المفردات إلا عن فكرة تاريخية عجلى غالبًا ما تكون زائفة، فإنه وقد حصل مقدمة لثراء كل لغة تشتمل على جملة طيبة منه،

_ 1 المزهر 1/ 376-377. 2 ch. Bally precis de stylistique 21-47

ففائدته تقوم على الكم الا الكيف؛ إذ تُوسع من القيم التعبيرية، وتبسط من مداها اللفظي؛ بينما لا تسعفنا إلا بصورة مموهة عن كيفية وصولها إلينا معبرة عن عدد من المعاني بعد أن كانت في الأصل لا تعبر إلا عن معنى واحد. نحن إذن لا نستغرب موقف لغوي كبير مثل لروا B Leroy من هذه الألفاظ المشتركة في اللغة الفرنسية بوجه خاص، واللغة الإنسانية بوجه عام. فهو يرى "أننا حينما نقول: إن لإحدى الكلمات أكثر من معنى واحد في وقت واحد إنما تكون ضحايا الانخداع إلى حد غير قليل؛ إذ لا يطفو في الشعور من المعاني المختلفة التي تدل عليها إحدى الكلمات إلا المعنى الذي يعينه سياق النص"1. ولقد كان علماؤنا القدامى أكثر الناس تقديرًا لحدود ما يعرفون وحدود ما يجهلون، فقد تخفى موارد الاشتقاق عليهم جميعًا، ولا يدل خفاؤها على عدم ملاحظة العرب لها. "قال أبو العباس عن ابن الأعرابي: كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، وربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا، فلم نلزم العرب جهله. وقال: الأسماء كلها لعلة خصت العرب ما خصت منها. ومن العلل ما نعلمه ومنها ما نجهله. قال أبو بكر2: يذهب ابن الأعرابي إلى أن مكة سميت مكة لجذب الناس إليها، والبصرة سميت بصرة للحجارة البيض الرخوة بها، والكوفة سميت الكوفة لازدحام الناس بها، من قولهم: قد تكوف الرمل تكوُّفًا إذا ركب بعضه بعضًا، والإنسان سمي إنسانًا لنسيانه، والبهيمة سميت بهيمة لأنها أبهنت عن العقل والتمييز، من قوله: أمر مبهم إذا كان لا يعرف بابه،

_ 1 B Leroy Le langage 97 2 يعني أبا بكر بن الأنباري في كتابه "الأضداد".

ويقال للشجاع: بهمة؛ لأن مقاتله لا يدري من أي وجه يوقع الحيلة عليه"1. وإذا كان القدماء يصرحون بصعوبة الكشف عن العلاقة بين بعض الألفاظ ومدلولاتها، ولا يتصدون لتعليل أسماء المسميات أو توضيح جميع موارد الاشتقاق، فليس من اللائق أن يرميهم المحدثون بالاضطراب في الرواية مؤكدين مثلًا أن ليس من علاقة بين "الليث بمعنى الأسد، وضرب من العنكبوت، واللسن البليغ" أو بين "الفخت بمعنى ضوء القمر، ونشل الطباخ الفدرة2 من القدرة، وثقوب مستديرة في السقف" أو بين "البلد بمعنى كل قطعة من الأرض عامرة، ومكة، والتراب، والقبر، والدار، والأثر"3 لأن الراوبط المشتركة بين هذه المسميات يمكن أن تلمح بإحدى طريقتين: سلبية أو إيجابية، فإذا كان في الليث معنى القوة الحسية ففي اللسن البليغ معنى القوة البيانية، وفي العنكبوت معنى الضد المقابل، فكان الرابط فيها سلبيًّا عكسيًّا كما سنرى في بحث الأضداد، وإذا كان في الفخت معنى ضوء القمر الذي يخترق الليل وينفذ خلاله ويثقبه ففي الثقوب المستديرة اختراق للسقف ونفوذ فيه، وفي امتداد يد الطباخ إلى القدرة ولانتشال الفدرة منها نفوذ فيها واختراق لها؛ فالمعنى الحسي الذي لاحظه العرب في ضوء القمر الثاقب يمكننا ملاحظته بيسر وسهولة في المعنيين الآخرين المتطورين اللذين يثيران الدهشة عند المحدثين. وإذا كان في البلد معنى اقتطاع الشيء لسكناه وعمرانه، ففي مكة تجسيد لهذا المعنى عن طريق العلمية، وفي التراب تحقيق لهذا المعنى؛ لأنه وسيلة البناء والعمران الحسيين، ويزداد هذا المعنى تحققًا في

_ 1 الأضداد لابن الأنباري 6-8. 2 القدرة من اللحم: القطعة المطبوخة الباردة. 3 اللهجات 187.

الدار التي تم بناؤها لتكون جزءًا من البلد العامر، ثم في القبر والأثر معنى عكسي للسكنى والعمران، فما القبر إلا بلد الموتى ومسكنهم، وما الأثر إلا الدليل على عمران المكان قبل أن يعفو ويدرس. ولقد يكون في التماس هذه الروابط المشتركة بعض التكلف، ولكنه يظل خيرًا ألف مرة من التسرع في رمي القدماء بقلة التثبت، فما أمثالنا بأهل لكيل الاتهامات جزافًا لأمثالهم. والسياق هو الذي يعين أحد المعاني المشتركة للفظ الواحد، وهذا السياق لا يقوم على كلمة تنفرد وحدها في الذهن، وإنما يقوم على تركيب يوجد الارتباط بين أجزاء الجملة، فيخلع على اللفظ المعنى المناسب. وعلى هذا لا يجد الباحث كبير عناء في فهم لفظ "الغروب" يتردد ثلاث مرات في ثلاثة أبيات على قافية واحدة يستوي لفظها ويختلف معناها: يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إذ رحل الجيران عند الغروبْ أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا ... ودمع عيني كفيض الغروبْ كانوا وفيهم طفلة حرة ... تفتر عن مثل أقاحي الغروبْ فليس متعذرًا أن يُفهم من وحي السياق أن الغروب الأول: غروب الشمس؛ والثاني جمع غرب: وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث جمع غرب: وهو الوهاد المنخفضة1. إن في المشترك لتنوعًا في المعاني بسبب تنوع الاستعمال، وإن في اشتمال العربية على قدر لا يستهان به من الألفاظ التي تنوع استعمالها بتنوع السياق -لدليلًا على سعتها في التعبير عن طريق الاشتراك كسعتها فيه عن طريق الترادف.

_ 1 المزهر 1/ 376. وقارن بمراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص35.

في الأضداد

جـ- في الأضداد: أما اتساع التعبير في العربية عن طريق التضاد فليس في وسعنا أن نبالغ فيه ونكبر من أمره؛ لأننا -بعد مراجعة رصيدنا اللغوي من الأضداد- سنجد أنفسنا وجهًا لوجه أمام مقدار ضيئل من الكلمات، وسرعان ما نلاحظ أن هذا المقدار الضئيل نفسه يأخذ في التضاؤل شيئًا فشيئًا حتى ليكاد ينعدم. وقد ألف في الأضداد جماعة من أئمة اللغة أشهرهم أبو بكر بن الأنباري1 الذي اختار في كتابه ما يزيد على أربعمائة من الكلمات توهم فيها التضاد، وجعل منهجه "ذكر الحروف التي توقعها العرب على المعاني المتضادة، فيكون الحرف منها مؤديًا عن معنيين مختلفين، ويظن أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أن ذلك منهم لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم"2. وأربعمائة من الأضداد ليست بالمقدار العظيم، ولا سيما إذا اتضح لنا أن أكثرها يرد بيسر وسهولة إلى ضرب من المشترك اللفظي تنتقل به تلك الكلمات من معنى التضاد إلى معنى الاشتراك، وقد لاحظ السيوطي ذلك حين افتتح في المزهر باب "معرفة الأضداد" بقوله: "هو نوع من المشترك"3، وأيد ما رآه من اندراج التضاد تحت الاشتراك بقول

_ 1 هو النحوي المشهور محمد بن القاسم، المعروف بأبي بكر بن الأنباري، من أعلم أهل زمانة بالعربية. لعل أهم كتبه في اللغة "الزاهر" ولا يزال مخطوطًا. توفي سنة 328. 2 الأضداد "لابن الأنباري" ص2. وقارن بالمزهر 1/ 387. 3 المزهر، النوع السادس والعشرون 1/ 387.

أهل الأصول وقول بعض العلماء الذين يذهبون إلى "أن المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين، فما يقع على الضدين كالْجَوْن وجلل، وما يقع على مختلفين غير ضدين كالعين"1. وقد جنحنا إلى هذا الرأي حين اكتشفنا في تسمية العنكبوت بالليث معنى سلبيًّا عكسيًّا للقوة الواضحة حسيًّا في الليث بمعنى الأسد الواضحة بيانيًّا في الليث بمعنى اللسن البليغ، وحين اكتشفنا في تسمية القبر والأثر بالبلد معنى سلبيًّا عكسيًّا أيضًا للسكنى والعمران في مقابل البلد بمعنى كل قطعة من الأرض عامرة، ومكة، والتراب. ويمكننا اكتشاف هذه المعاني السلبية في عدد من الكلمات التي جاء اشتراكها عن طريق مقابلة بعضها ببعض لنكتة بلاغية، أو بسبب تداخل اللغات. فمن النكات البلاغية أن تعبر عن الشيء السيئ بالعبارة الحسنة، واثقًا من فهم المخاطب كلامك؛ كتعبيرك عن الأعمى بالبصير، وعن الأسود بالأبيض. وأكثر ما يكون ذلك على سبيل التفاؤل. وهو أمر يعود بالدرجة الأولى إلى العقلية الاجتماعية السائدة في بيئة ما. ونحسب أن أبا حاتم السجستاني في كتابه عن "الأضداد" لم يكن يقصد غير هذا حين قال: إنما قيل للعطشان: يا ريان، وللملدوغ: سليم -أي سيسلم- وسيَرْوَى، ونحو ذلك؛ لأن معنى فاز: نجا، فالمفازة المنجاة، كما قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} أي: بمنجاة2. والأسرار البلاغية لا عَلاقة لها في الواقع بوضع اللغة، فهي أمور

_ 1 المزهر 1/ 387. 2 الأضداد لأبي حاتم ص99 "ضمن ثلاثة كتب في الأضداد". واسم الكتاب "المقلوب لفظه في كلام العرب والمزال عن جهته والأضداد".

نسبية تتفاوت طرق التعبير عنها بتفاوت الأشخاص، فلم يكن ضروريًّا أن يكون ما استعمل على سيبل التقابل لغرض ما دالًّا على التضاد الحقيقي الوضعي، ولكن الناس إذا تناسوا علاقة التقابل هذه "تستدعيها الصور والألفاظ والأفكار المتداعية" نقلوا هذه الألفاظ متوهمين فيها التضاد الحقيقي، فاجتمع لديهم من ذلك ما اجتمع مما يسمونه "بالأضداد". وأما التداخل في اللغات فلم يَفُتِ الأقدمين التنبيه عليه فقالوا: "إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء، قالوا: فالجون الأبيض في لغة حي من العرب والجون الأسود في لغة حي آخر، ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر كما قالت قريش: حَسِب يحسِب"1. وعلى هذا الأساس ما كان ينبغي أن يكون لفظ "السُّدْفة" من الأضداد؛ لأن أبا زيد الأنصاري يقول فيه: "السدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء"2. ونستطيع أن نقيس على ذلك وثب بمعنى قعد وجلس، وما سببه الاختلاف بين الحيين في معناها من دق عنق الأعرابي3. وكما رأينا -في بحث المشترك اللفظي- أن بعض المصادفات المحضة قد تغير معنى لفظ ما وتستعمله في غير المراد الأصلي البدائي، نرى كذلك في بحث التضاد "باعتباره ضربًا من المشترك" صورًا من هذه

_ 1 المزهر 1/ 401. 2 نقلها السيوطي من الغريب المصنف لأبي عبيد في باب الأضداد. وفيه يذكر أبو عبيد أنه سمع هذه العبارة من أبي زيد الأنصاري "المزهر 1/ 389". وقارن بالأضداد لابن الأنباري ص97. 3 راجع ما ذكرناه في فصل سابق.

المصادفات تكون بعض الأضداد. وبهذا نلقي ضوءًا كافيًا لفهم ما يقوله بعض علماء اللغة القدامى: "إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك: الصريم، يقال لليل صريم، وللنهار صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل؛ فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع، وكذلك الصارخ: المغيث، والصارخ: المستغيث، سميا بذلك لأن المغيث يصرخ بالإغاثة، والمستغيث يصرخ بالاستغاثة، فأصلهما من باب واحد. وكذلك السدفة: الظلمة، والسدفة: الضوء، سميا بذلك لأن أصل السدفة الستر، فكأن النهار إذا أقبل ستر ضوؤه ظلمة الليل، وكأن الليل إذ أقبل سترت ظلمته ضوء النهار"1. ويظل السياق هو الذي يعين الغرض من اللفظ، ويشعر بنوع العلاقة فيه سلبية كانت أم إيجابية، فالاشتراك بالتضاد كالاشتراك في التناظر لا يخفى مقصد المتكلم منه إذا وعى السامع نظم الجملة وأسلوب تركيب الكلام، فكلام العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره، ولا يُعْرَف معنى الخطاب فيه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين؛ لأنها تتقدمهما ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، فلا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد، فمن ذلك قول الشاعر: كل شيء ما خلا الموت جَلَلْ ... والفتى يسعى ويلهيه الأمَلْ فدل ما تقدم قبل "جلل" وتأخر بعده، على أن معناه كل شيء ما خلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه عظيم2.

_ 1 المزهر 1/ 401. 2 المزهر 1/ 397-398.

وبمعونة السياق فسر بعض العلماء المنكرين للتضاد طائفة من الألفاظ التي يأبى المبالغون في هذا الباب إلا أن يكتشفوا فيها التقابل التام والتعاكس الحقيقي. فابن درستويه في "شرح الفصيح" يقول مثلًا: "النَّوء: الارتفاع بمشقة وثقل. ومنه قيل للكوكب: قد ناء إذا طلع، وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضًا، وأنه من الأضداد، وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد"1. على أننا لن نذهب مذهب ابن درستويه في إنكار التضاد إطلاقًا؛ فإن قدرًا منه ولو ضئيلًا لا بد من التسليم به، ولكننا في القدر الذي نسلم به وفي القدر الذي ننكره ونؤوله تأويلًا آخر مناسبًا للسياق نجد أنفسنا طوعًا أو كرهًا أمام كلمات حفظ لنا فيها معنى التعاكس، كما وجدنا أنفسنا قبل أمام كلمات حفظ لنا فيها معنى الترادف أو الاشتراك، فمهما نحاول أن نرد تطوراتها المعنوية إلى أصولها اللغوية الوضعية البدائية لن نستطيع أن نقاوم قانون الصراع اللغوي الذي إنما يحفظ المعاني المتماثلة أو المتناظرة أو المتقابلة بوحي من الظروف الاجتماعية المحيطة بكل أمة. وإذن، فالتضاد على ضآلة مقداره، أصبح وسيلة من وسائل التنوع في الألفاظ والأساليب، ووسع تنوع استعماله من دائرة التعبير في العربية، فكان بهذا المعنى خصيصة من خصائص لغتنا في مرانتها وطواعيتها في التنقل بين السلب والإيجاب، والتعكيس والتنظير، وهو ما ليس له في اللغات الحية نظير.

_ 1 المزهر 1/ 396.

الفصل الثامن: تعريب الدخيل

الفصل الثامن: تعريب الدخيل لاحظنا -ونحن ندرس مقاييس الفصحى1- أن بُعد قريش عن بلاد العجم من جميع جهاتها لم يَحُلْ دون تسرب بعض الألفاظ الفارسية والرومية إليها. وأكدنا أن مقدرة لغة ما على تمثل الكلام الأجنبي تعد مزية وخصيصة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وأنزلته على أحكامها، وجعلته جزءًا لا يتجزأ من عناصر التعبير فيها. ولم تكُ هذه إلا دعوى تفتقر إلى دليل يثبتها، وحجة تشهد لها. وفي فصلنا هذا بيان شافٍ لذلك كله. إن العربية ليست بدعًا من اللغات الإنسانية، فهي جميعًا تتبادل التأثر والتأثير، وهي جميعًا تُقرض غيرها وتقترض منه، متى تجاورت أو

_ 1 راجع ص115-116.

اتصل بعضها ببعض على أي وجه، وبأي سبب، ولأي غاية. ومن يرم العربية مقصورة على الإعراب، محبوسة عن التعريب، ويزعم أنها بصيغها وأنواع اشتقاقها وحدها أعربت عن خصائصها الذاتية، وأنها أن أدخلت على نفسها بالتعريب مصطلحات الحضارة شوهت محاسنها وفقدت خصائصها وأنكرت نفسها بنفسها، فليس يريد لهذه العربية إلا الموت، وليس يعيش بعربيته إلا في بروج من العاج بناها له خيال سقيم! إن تبادل التأثير والتأثر بين اللغات قانون اجتماعي إنساني، وإن اقتراض بعض اللغات من بعض ظاهرة إنسانية أقام عليها فقهاء اللغة المحدثون أدلة لا تحصى. وقد رأينا فيما مضى من مباحث هذا الكتاب صورًا من ذلك التأثر المتبادل. ونماذج من هذا الاقتراض المستمر، إلا أنها صورة جزئية "ونماذج" مصغرة لهذه الحقيقة اللغوية التي لا يملك مدافعتها إلا جاهل أو مكابر؛ إذ تعلقت غالبًا باللهجات العربية وأخذت بعضها عن بعض، ومراعاة بعضها بعضًا، وتبادلها الألفاظ والتراكيب ووسائل التعبير1. وما يصدق على العربية من تبادل التأثير بين لهجاتها، لا بد أن يصدق عليها فيما اضطرت إلى إدخاله في ثروتها من لغات الأمم المجاورة لها أو التي كان لها معها ضرب من الاتصال، ولم يكن ما أدخلته من هذه الألفاظ الأجنبية قليلًا؛ لأنها عربت منه الكثير قبل الإسلام حتى رأيناه في لغة الشعر الجاهلي، وقرأناه في سور القرآن، واستخرجناه من بعض الحديث النبوي، ثم عربت منه الكثير بعد الإسلام فوجدناه أعجميًّا في زي عربي على ألسنة الأمراء والشعراء، وفي البيوت والأسواق، وبين الخاصة والدهاء!

_ 1 ارجع إلى بحث "العربية الباقية وأشهر لهجاتها". ثم بحث "لهجة تميم وخصائصها"، وأخيرًا بحث "مقاييس اللغة الفصحى".

ففي الجاهلية عُرب عن الفارسية مثل: الدولاب، والدسكرة، والكعك، والسميد، والجُلُنَّاز؛ وعند الهندية أو السنسكرييتية مثل: الفلفل، والجاموس، والشطرنج، والصندل، وعن اليونانية مثل: القبان، والقنطار، والترياق1. وورد في القرآن كثير من معربات الجاهلية حتى قال ابن جرير: "في القرآن من كل لسان! "2. ولقد ذكر السيوطي في "المتوكلي" نماذج مما ورد في القرآن بالرومية3 والفارسية4 والهندية5 والسريانية6 والحبشية7 والنبطية8 والعبرية9 حتى التركية10. ومع أن بعضها ليس صحيح النسبة إلى إحدى اللغات المذكورة، كان للسيوطي في جمعه فضل التنسيق والتصنيف، وتوجيه الأنظار وجهة جديدة لا ترى في تعريب القرآن للأعجمي خطرًا، بل ترى في ذلك مزية له على الكتب السابقة، فـ"من خصائص القرآن على سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم،

_ 1 المصطلحات العلمية "للأمير مصطفى الشهابي" ص17. 2 انظر مخطوطة "ما وقع في القرآن من المعرب للسيوطي" 2/ 1. وقد رجعنا إلى نسخة الصديق الكريم الأستاذ أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية بدمشق. وسنرمز إليها بـ"المتوكلي" لأن السيوطي سماها بهذا الاسم في المقدمة. 3 كالقسطاس، فإنه بلغة الروم. الميزان "المتوكلي 3/ ب". 4 كالإستبرق، فإنه بالفارسية. الديباج الغليظ "3/ ب". 5 مثل طوبى: اسم الجنة بالهندية "4/ 1". 6 مثل السري: النهر، بالسريانية "4/ 1". 7 مثل الأرائك: السرر، بالحبشية "3/ ب". 8 مثل {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} : كتابنا، بالنبطية "5/ 1". 9 مثل {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} : امح عنهم، بالعبرية "4/ ب". 10 مثل "غساق": هو البارد المنتن، بلسان الترك! "5/ ب". وتجد في الصفحة نفسها، ما ورد في القرآن بالزنجية والبريرية!!

والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير"1. وحين نقرأ عن بعض الأئمة الأعلام أنهم شددوا النكير على القائلين بوقوع المعرب في القرآن، حتى قال أبو عبيدة: "من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول! "2، فلنفهم من ذلك منع وقوعه إن بقي على حاله من العجمة، فأما إذا نُزل على أحكام العربية، وحُول إليها، وطبع بميسمها، فلا ضير أن نرى فيه ما رأى أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء، والقول بالمنع عن أهل العربية؛ إذ قال: "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها أعجمية فصادق! "3. وليس في هذه العبارة الأخيرة تناقض، فالمراد منها -كما فهم الجواليقي"4- "أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ... ثم

_ 1 نسب السيوطي هذا القول إلى الإمام ابن النقيب في تفسيره "قارن بالمتوكلي 2/ 1". 2 المهذب للسيوطي "6/ ب" وهو مخطوط صغير يتلو مخطوط "المتوكلي" الذي سبق ذكره، وقد ضم أحدهما إلى الآخر في مجلدة صغيرة أتاح لنا الاطلاع عليها مالكها الأستاذ أحمد عبيد، فله جزيل الشكر. وقارن بالمعرب للجواليقي ص4. 3 قارن المزهر 1/ 269 بالمهذب 8/ 1 والصاحبي 29. 4 الجواليقي هو موهوب بن أحمد، أبو منصور، صاحب كتاب "المعرب من الكلام الأعجمي على حروف العجم" الذي حققه وشرحه ونشره العلامة أحمد محمد شاكر. وله كتب أخرى أشهرها "شرح أدب الكاتب" وقد طبع بمكتبة القدسي في القاهرة سنة 1350هـ "وتكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة" الذي أكمل به "درة الغواص للحريري" وقد طبع سنة 1355هـ بدمشق بمطبعة ابن زيدون. توفي الجواليقي سنة 540هـ "انظر ترجمته في مقدمة الشيخ شاكر لكتاب المعرب، ومقدمة الأستاذ عز الدين التنوخي لكتاب التكملة".

لفظت به العرب بألسنتها، فعربته فصار عربيًّا بتعريبها إياه فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل"1. ولكن اللغويين العرب حين ألفوا الكتب في المعرب والدخيل، لم يحسنوا دائمًا التمييز بين العربي والأعجمي، فكثيرًا ما نفوا أعجمية لفظ لأن القرآن نزل به، وليس في القرآن عندهم دخيل، وكثيرًا ما زعموا عجمة لفظ من غير أن يقيموا عليها الدليل. وما بحث الاشتقاق عنا ببعيد، ففيه وجدنا وسيلة رائعة للتمييز بين الأصيل والدخيل، ولكن علماءنا عطلوا هذه الوسيلة وأبطلوها بحنوحهم مثلًا إلى عربية "الفردوس" لنزول القرآن بها، حتى اشتقوها من "الفردسة" بمعنى السعة، وكان عليهم أن يعترفوا بأن الفردسة مشتقة من اللفظ الأجنبي "الفردوس"2. وقل مثل ذلك في الإستبرق والسندس وسائر ما ورد في القرآن من الألفاظ الأعجمية المعربة التي أذهب القرآن عجمتها باشتماله عليها3. وقد ادعوا العجمة أحيانًا دون بيان الأصل، مثل كلمة "جرداب" معرب "كرداب" وهو وسط البحر، أو الدوامة في الماء، وكلمة "جاموس" وهي تعريب "كاوميش"4.

_ 1 المعرب "للجواليقي" ص5. 2 راجع ص179. 3 قارن بما ذكرناه ص178. وقد رتب السيوطي في كتابه "المهذب" على حروف المعجم ما رجع أنه أعجمي مع أنه وارد في القرآن. وفي الكتاب زهاء مائة كلمة من هذه المعربات القرآنية، فلو أن دراسًا للغات الأجنبية المذكورة قارن هذه المائة من المعربات بما يظن أن يقابلها في تلك اللغات لخرج -كما نقدر- بنتيجة لا تسر، فسيرى أن علماءنا كانوا يجهلون تلك اللغات، ويخلطون بينها، ويجعلون اللغات السامية شقيقات العربية، على نسبة واحدة من العجمة مع سائر اللغات الأجنبية "قارن بأسرار اللغة 113 ط/ 2". 4 انظر تقديم المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام لكتاب المعرب "للجواليقي" ص4 من أسفل.

وحين ألف هؤلاء كتبهم في "المعرب والدخيل" ذهبوا إلى فارسية أكثر تلك المعربات، كأنما أرادوا بذلك أن يأتوا ببرهان على أن تأثر العربية بالفارسية كان أبلغ وأعمق من تأثرها بسائر اللغات الأخرى. ولعلنا بهذا نفسر إطلاقهم لفظ "أعجمي" كلما أردوا أن يذكروا لفظ "فارسي". ولم يكن بد من أن تعترضهم أصوات فارسية غريبة على العربية: كالجيم الخالية من التعطيش، والباء المهموسة "P"، والفاء المجهورة "V"، وإذا هم يتناولونها بالتغيير، أو يستبدلون بها صوتًا عربيًّا خالصًا، فالجيم الخالية من التعطيش أبدلت جيمًا معطشة أو كافًا أو قافًا، أو قل حرفًا مترددًا صوته بين هذه الثلاثة، مثل جورب: أصلها "كورب". والباء المهموسة "P"، أبدلوها فاء أو باء مجهورة، فقالوا: فرند، وبرند1. والفاء المجهورة "V" أبدلوها واوًا، وأمثلتها كثيرة. والعربية -على اتساع مدرجها الصوتي- ازدادت سعة على سعة يوم أدخلت بين حروفها الهجائية أصواتًا تقاربها مخرجًا أو صفة؛ إذ عربت هذه الأصوات الدخيلة، وحددت لها مواقعها من جهاز النطق" فلم تستعصِ على ألسنة العامة فضلًا على الخاصة، فقطع بذلك الشوط الأول من التعريب: ألا وهو تعريب المادة الصوتية، وتطويعها لأصوات العربية! ولا ريب في أن هذا الشوط الأول من تعريب الأصوات هو أهم الأشواط، فمن بعده لن يكون عسيرًا أن تعرب الكلمات الدالة على مفهوم حضاري معين، ولا سيما إن كانت غير مألوفة للعرب أو غير

_ 1 قارن بما ذكرناه ص285 عن قول العرب "فور" بين الفاء والباء اضطرت إلى نطق "بور" بالباء المهموسة. وانظر مقدمة الجمهرة ص4.

شائعة بينهم. فحينئذ تتابع اللغة عملها في ضم ما تحتاجه من تلك الكلمات إلى ثروتها بعد أن تصنعه على قوالبها، أو تنسجه على منوالها. ومن المعلوم أن أكثر الألفاظ التي احتاج العرب إلى تعريبها هي ألفاظ الحضارة والعلوم والفنون. ونستثني من العلوم مصطلحات الفقه والحديث والتفسير وما إليها من العلوم النقلية، ما آنس علماؤنا حاجة إلى تعريبها مثل حاجتهم إلى تعريب العلوم الدخيلة؛ إذ كانت تعابيرها من صلب العربية، وجاءت في كتبهم فصيحة محكمة1. أما العلوم الدخيلة فقد اتسعت العربية أيضًا لترجمتها وتعريب مصطلحاتها. وبلغت حركة الترجمة في عصر المأمون أوجهًا حين عربت ألفاظ الطب والطبيعة والكيمياء والفلك والرياضيات والفلسفة، وما يزال كثير من هذه الألفاظ صالحًا للتعبير عن هذه العلوم إلى يومنا هذا. ولقد لخص الأمير العلامة مصطفى الشهابي القواعد التي اتبعها النقلة في وضع المصطلحات في تلك الأيام، فرآها لا تخرج عن هذه الوسائل الأربع: أ- تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية، وتضمينها المعنى العلمي الجديد. ب- اشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد. جـ- ترجمة كلمات أعجمية بمعانيها. د- تعريب كلمات أعجمية بمعانيها. وخلص الأمير إلى القول بأن هؤلاء النقلة لم يجمدوا في أداء مهمتهم، وأن قواعدهم هي التي ينبغي لنا اتباعها في وضع المصطلحات الحديثة2.

_ 1 قارن بالمصطلحات العلمية 23. 2 المصطلحات العلمية 24.

ولمصطلحاتنا الحديثة هذه لا بد من النهوض هيئات وأفرادًا بأعباء التعريب، حتى ننمي لغتنا بألفاظ العلوم التي تتكاثر يومًا بعد يوم، ويميل العلماء فيها إلى التعبير "الفني" الدقيق. وليس من شأننا هنا أن نعرض للنهضة الحديثة في الفنون والآداب والعلوم في مصر والشام ومختلف الأقطار العربية، وما وضعه النقلة المعاصرون لتعريب مصطلحاتها، ولا من شأننا أن نصف جهد الأفراد وعمل المجامع والجامعات في وضع تلك المصطلحات، فالمقام لا يتسع لهذا كله، وقد استقصاه الأمير الشهابي أتم الاستقصاء في كتابه "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث". والكتاب في نظرنا أدق ما ألف حول تعريب المصطلحات في هذا العصر. وإنما نريد أن نلفت الأنظار إلى شروط لا بد من مراعاتها عند القيام بالنقل والتعريب. أ- ألا نلجأ إلى التعريب إلا عند الضرورة، انسجامًا مع القرار الحكيم الذي اتخذه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ونصه: "يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم"1. ب- أما قبل تحقق هذه الضرورة فالترجمة الدقيقة تقوم مقام التعريب، إذا تحرى الناقل العليم بأسرار العربية اللفظ العربي الأنسب لأداء مدلول اللفظ الأعجمي. فنحن نترجم مثلًا Microscope بالمجهار، وDensimetre بالمكثف2، وFloriculture بزراعة الأزهار3 وهكذا.

_ 1 وقد علق الأمير الشهابي على قيد "الضرورة" بقوله: "أرى أن قيد "الضرورة" الذي وضعه المجمع للتعريب هو ضرورة، أقول هذا لأنني عارف بسخافات بعض أساتيذ العلوم الحديثة، الذين عربوا ألفاظًا علمية أعجمية، كان في استطاعتهم أن يجدوا لها ألفاظًا عربية مقبولة بقليل من الجهد، ومن المعرفة بأصول تلك الألفاظ الأعجمية وبمعانيها" المصطلحات العلمية 63. 2 قارن بالمصطلحات العلمية 67. 3 نفسه 66.

جـ- الكف عن استعمال اللفظ المعرب إذا كان له اسم في لغة العرب، إحياء للفصيح وقتلًا للدخيل. ولقد عقد السيوطي فصلًا في المزهر للمعرب الذي له اسم في لغة العرب1، نقل فيه أمثلة من كتب اللغة المختلفة تشهد بأن العرب عرفت مثلًا في لسانها الصرفان قبل أن تعرب "الأرزرز" بالرصاص2، والمَغْد قبل أن تعرب الباذنجان3، والحُرُض قبل الأشنان4. والفصل الذي عقده الثعالبي5 في فقه اللغة للأسماء التي تفرت بها الفرس، يؤكد أن طائفة من تلك الأسماء عربتها العرب أو تركتها كما هي6، ولكنها غالبًا مما له اسم في لسان العرب رغم تعريبها إياه7. فلنقتل الأعجميات الذميمات باستعمال العربيات الفصيحات. د- أن نحاول -كلما اضطررنا إلى التعريب- أن ننزل اللفظ المعرب على أوزان العربية، حتى يكون عربيًّا أو بمنزلته. ولقد كان أهل اللغة يتصرفون في الكلمة المعربة ويُعْمِلُون مباضع الاشتقاق في بنيتها، فقالوا في زنديق: زندقة وتزندق، وفي سردق: بيت مسردق، وفي

_ 1 المزهر 1/ 283. 2 الرواية هنا عن ابن درستويه في "شرح الفصيح" انظر المزهر 1/ 284. 3 عن أمالي ثعلب. قارن بالمزهر 1/ 284. 4 عن "صحاح" الجوهري. وقارن بالمزهر 1/ 283. 5 الثعالبي هو عبد الملك بن محمد، أبو منصور. نسب إلى صناعته إذ كان يخيط جلود الثعالب. أحد أئمة اللغة والأدب في عصره. طبع له الكثير من تصانيفه، وأشهرها " فقه اللغة وسر العربية" و"يتيمة الدهر" و"لطائف المعارف". ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "غرر البلاغة" و"يواقيت المواقيت" و"المتشابه" و"المقصور والممدود". توفي الثعالبي سنة 429هـ. "الوفيات 1/ 290". 6 انظر فقه اللغة "للثعالبي" فصل في سياقه أسماء تفردت بها الفرس دون العرب، فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي "ص253-255". 7 مثلًا: السكرجة تسمى عند العرب الثقوة "المزهر 1/ 283" والياسمين يسمى "السمسق" والباذنجان "الأنب" والنرجس "العبهر". نفسه 1/ 284.

ديوان: دون تدوينًا، وفي النوروز: نورز ينورز1. ومن تنزيل الكلمة الأعجمية على أحكام العربية أن نختار لتعريبها وزنًا يشبه بعض الأوزان العربية، فكلمة "physique" يمكن أن تترجم بعلم الطبيعة، ولكن الترجمة ليست دقيقة، وخير منها تعريب اللفظة نفسها منتهية بالألف الممدوة لكيلا يضيع أصل التسمية فنقول "الفيزياء" على نحو ما قال الأستاذ العلامة عز الدين التنوخي في كتابه "مبادئ الفيزياء"، فقد نبه على أنه "لم يراع في الاصطلاح إلا الأفضل مما اشتد إليه مسيس الحاجة، ولو كانت الكلمة أعجمية الأصل، فإنا إذا ما تعربت بنزولها على أحكام العربية خفت على اللسان وعذبت بصقله إياهاه في البيان، يدل على ذلك مثلًا اسم الكتاب: مبادئ الفيزياء"2. والعليم بأسرار هذه اللغة لا يختلط عليه الأعجمي والعربي، ولا يلتبس عنده الأصيل والدخيل، فإن للكلمة العربية نسيجها المحكم وجرسها المتناسق وإيقاعها المعبر. ولم يضن علينا أئمة العربية بمقاييس نعرف بها عجمة الاسم؛ لكي نتناوله بالتغيير إن شئنا صياغته على أوزان العربية، أو نعرف حقيقته على الأقل إن آثرنا تركه على لفظه دون تبديل فيه. وأكثر هذه المقاييس يقوم على النقل والسماع، فبنية الكلمة وحدها تسمها بالعربية أو بالعجمة، وحسبك أن تردد في سمعك لفظ "إبريسم" لترى أن وزنه مفقود في العربية. ولن تجد كلمة عربية أولها نون ثم راء مثل "نرجس"، ولا آخرها زاي بعد دال مثل "مهندز"، أو كلمة يجتمع فيها الصاد والجيم نحو "الجص"، أو يجتمع فيها الجيم

_ 1 الاشتقاق والتعريب "للمغربي" 48. 2 انظر الجزء الأول، صفحة "ج". وقارن بالمباحث اللغوية في العراق 86.

والقاف نحو "المنجنيق"1. ولن تجد كلمة رباعية أو خماسية عارية عن حرف أو أكثر من حروف الذلاقة2، فإنها متى كانت عربية فلا بد أن يكون فيها حرف ذلقي، نحو: سفرجل، وقُذَعْمِل3.. هـ- ولا مانع من النحت إذا اضطررنا إليه في تعريب المصطلحات العلمية والفنية، ولكننا -رغم انتصارنا للنحت وذهابنا إليه وعدنا إياه نوعًا من الاشتقاق4- نود أن نقيد الضرورة فيه بـ"القصوى" لأن أساليب الاشتقاق الشائعة تغني عنه غالبًا، ولأن للذوق دخلًا كبيرًا في النحت، فما كل مركب مزجي ترجم به لفظ أعجمي يثقل في السمع أو يستكره، ولا كل لفظ منحوت مختزل يخف في الأسماع، وتكتب له السيرورة في المجتمعات. ولأن تقول: هذه السمكة من شائكات الزعانف "Acanthopterigiens" خير وأقرب إلى الفهم من أن تقول: "هي من الشوجنيات". والذوق يمج وصف الحشرات بالمسجناحيات؛ بينما يرضى عن وصفها بمستقيمات الأجنحة "Orthopteres". وإن المعنى ليستغلق على من يسمع أو يقرأ تسمية عصبيات الأجنحة من الحشرات "Nevropteres" بالعصجناحيات5. ولا ريب في أن التركيب المزجي في جميع الأمثلة المتقدمة أوضح دلالة وأخف وقعًا من الكلمات المنحوتة المختزلة، بل ربما كان ألطف في الأسماع وأقصر في الرسم حتى من بعض الكلمات الأعجمية.

_ 1 المزهر 1/ 270. 2 أحرف الذلاقة -كما رأينا ص 283-384- ستة: ب ر ف ل م ن. 3 المعرب للجواليقي 12 وقارن بالجمهرة 11. 4 راجع فصل النحت أو الاشتقاق الكبار. 5 قارن بالمصطلحات العلمية 98.

وكما أدخلت اللغات الحية على بعض ألفاظها العلمية صدورًا وكواسع "prefixes et suffixes" من لغات الحضارة القديمة "كاليونانية واللاتينية"، يسوغ الذوق أحيانًا إدخال مثل تلك السوابق واللواحق على بعض الألفاظ العربية. ويبدو لنا أن أساتذة جامعة دمشق لم يرتكبوا شططًا حين اضطروا إلى تعريب "Carbonyle" بالفَحْمِيل، و"formyle" بالنَّمْلِيل، و "Amyloide" بالنَّشَوِيد، و"Alcoyle" بالغَوْلِيل، فقد ملكوا العربية المطواع بهذه الكواسع ألفاظًا علمية مختزلة يرضى عنها الذوق ولا يأباها نسيج الكلمة العربية1. ومن الصدور التي نظن أن لا ضير في ترجمتها لنؤلف بها على طريقة النحت كثيرًا من مصطلحات العلوم والفنون: الصدر اليوناني "A" الذي يكتب "An" أما الأحرف الصوتية، ويفيد بكلا رسميه معنى النفي، فقد قرر مجمع القاهرة ترجمته بكلمة لا النافية مركبة مع الكلمة العربية

_ 1 إذا رغبت في الاطلاع على نماذج من هذه التعريبات العلمية التي وفق إليها زملاؤنا الكرام أساتذة جامعة دمشق، فعليك بالنسخة العربية لمعجم "كلارفيل Clairvlle" التي أشرفت على طبعها في مطعبة الجامعة لجنة مؤلفة من الأساتذة الدكتور مرشد خاطر، والدكتور أحمد حمدي الخياط، والدكتور محمد صلاح الدين الكواكبي. والمعجم -كما هو معروف- خاص بالمصطلحات الطبية. ولا يسعنا إلا أن نكبر هؤلاء الأساتذة وإخوانهم الذين أعانوهم في هذا العمل الضخم. ونذكر بكثير من الفخر كتاب الدكتور خاطر في علم الجراحة، والدكتور خياط في علم الجراثيم، والدكتور الكواكبي في الاصطلاحات الكيماوية، والدكتور حسني سبح في الأمراض الباطنية، والمرحوم محمد جميل الحاني في علم الطبيعة، فقد برهن هؤلاء جميعًا على أن اللغة العربية تصلح للتعبير عن أدق المصطلحات العلمية.

المنحوتة1. ولقد صدر المجمع في قراره هذا عن المنهج الذي أخذ به المتقدمون أنفسهم في التعبير عن الشيء الذي لا يتناهى باللامتناهي، وعن الذي لا يدوم باللادائمي، وعن طائفة من الفلاسفة العناديين باللاأدريين؛ فيسعنا منا وسعهم حين نقول اليوم: لا أخلاقي "Amoral" لا اجتماعي Asocial" لا تناظري "Asymetrique"، لا مائي "Annydrique"، لا هوائي "Anaerobe"2. وحين يسوغ الذوق ترجمة صدر أو كاسعة "perfixe ou Suffixe" لتركيبها مع كلمة عربية نحتًا واختزالًا، لا ريب أنه سيكون أقرب إلى تسويغ النحت في كلمتين عربيتين خالصتين يتألف منهما اصطلاح علمي مختصر، فلا ضير في استعمال "الزمكان"3 نحتًا من الزمان والمكان، و "الْحَيْنَب والحينبات"4 نحتًا من الحيوان والنبات Zoopgyle، و"الحيزمن" نحتًا من الحيز والزمن Espace- Temps5. ومقياسنا في هذا كله الذوق السليم الذي نرجو أن يصدق فيه قولنا: لا يجتمع ذوق المطبوعين على مستكره في السمع مستثقل على اللسان!

_ 1 وكان قرار المجمع حكيمًا حين قيد هذا النوع من النحت بموافقته للذوق. فقد أذن باستعمال "لا" مركبة مع الاسم المفرد، دون أن يتخذ قرارًا باستعمالها دائمًا أو عدم استعمالها دائمًا "مجلة المجمع، المجلد 6 ص172". 2 انظر في ترجمة هذه الصدور والكواسع على طريقة النحت مقالًا ممتعًا لساطع الحصري في مجلة التربية والتعليم سنة 1928 "المجلد 6 ص361-375". 3 رأينا هذا الاصطلاح في أبحاث المشتغلين بنظرية النسبية، وانظر على سبيل المثال مقدمة كتاب "نظرية النسبية" للدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا. 4 هذه من نحت الأستاذ عز الدين التنوخي. 5 المباحث اللغوية في العراق 98.

وإننا على يقين من أن نقلة العلوم الحديثة في هذا العصر إذا وضعوا ما ذكرناه من الشروط نصب أعينهم خدموا لغتهم أخلص خدمة، وعبروا عن خصائصها أصدق تعبير، فما هي باللغة الجامدة الميتة، بل هي اللغة المرنة المطواع التي كتب الله لها النماء والبقاء والخلود.

الفصل التاسع: صيغ العربية وأوزانها

الفصل التاسع: صيغ العربية وأوزانها رأينا في أنواع الاشتقاق أن العربية أصابت ثروة لغوية واسعة بما تشعب عن أصولها من فروع، وما تكاثر في موادها من صنوف وألوان، فكان العمل الاشتقاقي حركة حية دائمة تلد للغتنا كل لحظة مولودًا جديدًا، وتلبي للأحياء أدق مطالب التعبير. لكننا -سواء ألاحظنا قوالب المشتقات أم لم نلاحظها- لا يخفى علينا أن حركة الاشتقاق الدائمة تنشئ لمشتقاتها صيغًا مقدودة على قدها، مرسومة على حدها، لا شيء أكثر شبهًا بها من القوالب التي تصنع على مثالها السبائك الذهبية، ففي العربية إذن ظاهرتان متعاكستان، وهما على تعاكسهما متداخلتان بل متكاملتان: ظاهرة الحركة الاشتقاقية فيما تلده وتحييه، وظاهرة الصياغة القالبية فيما تسبكه وتبنيه. وكلتا الظاهرتين تعود على العربية بالغنى والثراء، وتهبها القدرة على

التطور والنماء، بل لعل ظاهرة "السبك القالبي" -رغم ما توحي به من رتابة وجمود- أعود في بعض الوجوه على اللغة بالثراء والنماء من ظاهرة الحركة الاشتقاقية؛ لما امتازت به العربية من كثرة الأبنية والصيغ التي تعوض بأوزانها المتناسقة، المتنوعة، أجمل آيات الاشتقاق والتوليد. وإن لك إذن أن تقدر جسامة الخطأ الذي وقع فيه بروكلمان Brockelmann حين أطلب القول بأن اللغات السامية تخلو من الصياغة التركيبية1، شاملًا بحكمه هذا حتى العربية التي لا يرتاب باحث محقق في شدة تعويلها على البناء والتركيب. ولقد حاول العلماء من قبل -حين أدهشتهم هذه اللغة بأبنيتها المتكاثرة- أن يحصوا صيغ الأسماء والأفعال لعلهم يحصرون القوالب التي يبني الفصحاء على مثالها ألفاظهم ثقالًا أو خفافًا في تطابق نفسي كامل مع حال المخاطبين، لكن محاولاتهم باءت بالخسار، فما تيسر لأحد منهم -مهما يكن قد أكثر- أن يستوعب هاتيك القوالب، فإذا هم يستعيضون عن هذا البحث الإيجابي العسير ببحث سلبي يسير؛ فمن لم يحصر الأشباه والنظائر عن طريق الأبنية التي جاءت على لسان العرب اضطلع بحصر الألفاظ التي خرجت عن هذا اللسان المصطفى، وظن بعد ذلك أنه بلغ بسعيه ذروة المنتهى! على هذا الأساس وضع ابن خالويه2 مصنفه الحافل "كتاب ليس" في مجلدات ثلاث ضخام3، وأنشأ يتحدث عن كل ما لم يرد في لغة

_ 1 Brockelmnn Grudeiss, l. s. 5 2 ابن خالويه هو الحسن بن أحمد، أبو عبد الله، أصله من همذان، من كبار النحاة. طبع كتابه "ليس في كلام العرب" كما طبع من مصنفاته أيضًا "إعراب ثلاثين سورة من القرآن العزيز" و"مختصر في شواذ القراءات" و"كتاب الشجر" الذي يقال: إنه لأبي زيد. توفي ابن خالويه سنة 370هـ "بغية الوعاة 231" واسمه في "إنباه الرواة 1/ 324" الحسين بن محمد. 3 المزهر 2/ 3.

العرب إلا على مثال معين، حتى ليقوم الكتاب في جل مواطنه على هذه العبارة "التقليدية" التي تظل إلى السلب أقرب مهما تبد حاصرة موجبة: "ليس في اللغة من كذا إلا كذا"، ولم يكن بد -وقد تجرأ ابن خالويه على مثل هذا الحصر العجول- من أن يتعقبه المحققون ويردوا عليه ما تعجل فيه، ويلصقوا بالسلب ما أوجبه، أو بالإيجاب ما كان قد سلبه، وربما كانت تحقيقات الحافظ مغلطاي1 في هذا الموضوع أغزرها فوائد، وأدقها ملاجط، وأشدها تنبيهًا على نوادر اللغة وشواردها، وأقربها حقًّا إلى موارد العربية الصافية. ومن يقرأ في "مزهر" السيوطي باب "الأشباه والنظائر" يقع على وصف دقيق لتعاقب التأليف في أوزان العربية وصيغها، ففي مستهل هذا الباب أخبر السيوطي قارئه بأنه رأى كتاب "ليس" لابن خالويه وطالعه قديمًا، وانتقى منه فوائد، فهو إذن قادر على أن يذكر من صيغ الأسماء والأفعال ما يقضي الناظر فيه العجب، ويقول إذا وقف على غرائبه: ذلك منتهى الأرب! 2 ثم يجول السيوطي جولة عجلى يطوف خلالها بما صُنف من كتب في حصر الصيغ الاسمية والفعلية، فيروي عن ابن القطاع3 في كتاب "الأبنية" أن العلماء قد صنفوا في هذه القوالب وأكثروا منها، وما منهم من استوعبها، وأن أول من حاول إحصاءها سيبويه في كتابه؛ إذ أورد للأسماء ثلاثمائة بناء وثمانية أبنية؛ وأن ابن السراج4

_ 1 هو العلامة في الأنساب، الحافظ العارف بفنون الحديث، مغلطاي بن قليج، علاء الدين، المتوفى سنة 762هـ. 2 المزهر 2/ 3-4. 3 ابن القطاع هو إمام وقته بمصر في علوم العربية. واسمه علي بن جعفر السعدي، أبو القاسم. قرأ على أبي بكر الصقلي، وروى عنه الصحاح للجوهري. توفي سنة 515هـ. 4 هو محمد بن السري البغدادي، أبو بكر بن السراج. أخذ عن المبرد، وأخذ عنه الزجاجي والسيرافي. توفي سنة 312هـ.

زاد على ما أورده سيبويه اثنين وعشرين بناء، ثم زاد عليه الجرمي1 صيغًا قليلة. ثم أضاف ابن خالويه أمثلة يسيرة، وما منهم إلا من ترك أضعاف ما ذكر. ويروي صاحب "المزهر" بعد ذلك عن ابن القطاع نفسه أنه جمع ما تفرق في تآليف أولئك الأئمة فانتهى وسعه بعد البحث والاجتهاد إلى ألف مثال ومائتي مثال وعشرة أمثلة "1210". وأسلوب السيوطي في حكاية عدد الأوزان عن ابن القطاع قد يحمل بعض الباحثين على نسبة هذا العدد إليه هو لا إلى ابن القطاع، فإن ما أطمع به السيوطي قارئه من إخباره بما يقضي منه العجب لا يرادفه إلا شيء واحد: ألا وهو سرد صيغ للأسماء والأفعال كثيرة من نحو: غريبة غير متعارفة من نحو آخر، أو الإتيان على الأقل بجديد في هذه الأوزان لم يفتح الله به على غير السيوطي العلام! بيد أن السيوطي -مع ذلك- ليس له من هذا العدد الضخم الذي بلغ ألف مثال ومائتي وعشرة أمثلة إلا مزية الإشارة إليه أولًا، واختيار "نماذج" منه ثانيًا، وإلحاق أوزان أخرى به وقع عليها في مصنفات أكثرها مجهول لدينا ثالثًا وأخيرًا. فمن السذاجة -بل من الغفلة الشديدة إذن- إحصاء أبنية السيوطي التي جمعها من مواطن شتى ثم محاسبته على ما نقص عن العدد الذي بلغ إليه وسع ابن القطاع. ولنا -إن شئنا- أن نحاسب السيوطي من زاوية أخرى أكبر شأنًا من تلك الزاوية الشكلية التي يأخذها عليها القارئ العجول، فإنه ليبدو لنا أن المنهج العلمي يكاد يكون مفقودًا في بحثه للأوزان، فبينا يكون في صيغ الأسماء يستطرد بعيدًا في بحث عن الأفعال أو عن مسألة صرفية

_ 1 هو اللغوي المعروف أبو عمر الجرمي صاحب المختصر المشهور في النحو. أخذ اللغة عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي. توفي سنة 225هـ.

لا مسوغ لذكرها في هذا المجال، أو يخلط بين صيغ الأسماء وصيغ الصفات1، أو يكرر للمرة العشرين صيغة وردت للاسم أو للفعل في نص طويل ينقله برمته غير مبال ارتباطه ببحثه أو انقطاعه عنه، وفي جميع ما اختاره من أبنية الأسماء أو الأفعال لا تعرف له مصدرًا أساسيًّا إليه يستند، أو مقياسًا شخصيًّا عليه يقيس، فنحن من "مزهره" أمام منجم فيه المعدن الخبيث وفيه الذهب الإبريز، ونحن من أبنيته تلقاء ركام فيه الصيغة المستعملة الحية، والبناء النادر الغريب، والوزن المهمل الممات! وتلك ثمرة الفخر بالعلم والاعتداد بطول الباع في معرفة الغرائب النادرات! والحق أننا إذا تقصينا الكلم العربي وجدنا كل لفظ فيه يرتد إلى قالب حُذِي على مثاله إلا أن يكون حرفًا أو ظرفًا جامدًا. بل يرى بعض الباحثين أن الحروف والظروف اشتقت أيضًا من صيغ مستعملة جارية، فإن لم ترتد بنفسها إلى قالب أو مثال فإن أصلها عينه ذو قالب ومثال2. وأدنى ما يتفق عليه العلماء أن لكل اسم صيغة وأن لكل فعل وزنًا، وأن من الأبنية ما تشترك صياغته بين الأسماء والأفعال. فإن ننسق الأوزان الواردة في المزهر تنسيقًا مفيدًا نصنف بالمقام الأول أشهر أبنية الأسماء والأفعال الحية المستعملة، ثم نعرضها على المطبوعين من الكتاب والشعراء لاستخدامها في أغراض التعبير والتصوير، فإن من المؤسف حقًّا أن نرى المتحذلقين من أدبائنا يميتون بالهجر ما جرى به الاستعمال، ويستحيون بالاستعمال ما أميت وهجر من ثقال الأوزان! ولا غرو إذا اضطررنا في مثل هذه الحال إلى استرفاد المسائل الصرفية

_ 1 من ذلك أيضًا أنه يذكر الصيغة ويمثل لها بمثال واحد من غير أن يعين أصفة هو أم اسم، فيقول مثلًا لصيغة "فعل" اسمًا: هو فهد، وصفة: هو صعب. 2 قارن بدراسات في اللغة "للدكتور إبراهيم السامرائي" ص52.

والاستعانة بالصرفيين، فإن ما وضعه هؤلاء من قواعد التصريف في الأسماء والأفعال ما ينفك نابضًا بالحياة، ويسعنا دائمًا -في جميع البيئات وتلبية لجميع الحاجات- أن نستخدمه في مختلف شئون الحياة. وأول ما نلاحظه هو أن الصرفيين تنبهوا إلى أن أوزان الأفعال يمكن ضبطها وحصرها، فإنها لا تجاوز بضعة وعشرين بناء1، وهي التي نعرفها في دراسة الفعل ثلاثيًّا ورباعيًّا مجردين ومزيدين بمعانيهما الداخلة تحت كل قالب من قوالب هذه الأوزان. أما الأسماء فإن من العسير دخولها تحت حصر، ولو ذكرنا منها أشهرها وحده لطال بنا الحديث، فنجتزئ بذكر بعض أمثلتها لما نعلمه من شهرتها حتى لدى المبتدئين في علم التصريف. وحين نستشهد على بعض أوزان الأفعال والأسماء لا يعنينا التعرض لأصولها التي لا زيادة فيها؛ لأن تجردها من الزيادة يجعل مدلولاتها محصورة في قوالبها ذاتها، وما قوالبها إلا أشكال صبت صبًّا أصليًّا ووضعت وضعًا ذاتيًّا، فأنى نكتشف في هذه المحفوظات حفظًا، والمنقولات نقلًا، صياغة مبتكرة تومئ إلى معانٍ مكتسبة جديدة؟ لن نردد هنا مع ابن جني مثلًا أن الأسماء التي لا زيادة فيها تكون على ثلاثة أصول: أصل ثلاثي، وأصل رباعي، وأصل خماسي؛ وأن الأفعال التي لا زيادة فيها تكون على أصلين فقط: ثلاثي ورباعي؛ وأننا لا نجد على خمسة أحرف فعلًا لا زيادة فيه2، ولن نقول مع الصرفيين: إن الأسماء الثلاثية تكون على عشرة أمثلة تصلح جميعًا لأن

_ 1 انظر فقه اللغة "لمحمد المبارك" ص112. 2 المنصف "لابن جني" 1/ 18، والمنصف هو شرح ابن جني لكتاب التصريف "للمازني" نشرته مطبعة البابي الحلبي بالقاهرة بتحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين.

تكون اسمًا وصفة1؛ ولن نقطع مع حملة اللغة بأنه "ليس في الكلام اسم على فعل بضم الفاء وكسر العين، إنما هذا بناء يختص به الفعل المبني للمفعول نحو: ضُرب وقُتل إلا في اسم واحد وهو دُئِل2؛ ولن نحظى بطائل إذا حصرنا هنا الأسماء الرباعية التي لا زيادة فيها في ستة أمثلة: خمسة وقع عليها إجماع أهل العربية، وواحد تجاذبه الخلاف3، أو حصرنا الأفعال الرباعية في مثال "فَعْلَلَ" للمعلوم وفُعْلِل للمجهول4، ولن نجزم كما جزم الأوائل بأن الأسماء أقوى من الأفعال، فجعلوا لها على الأفعال فضيلة لقوتها، واستغنائها عن الأفعال، وحاجة الأفعال إليها5؛ ولن نستقرئ أمثلة الأسماء الخماسية سواء أكانت أربعة أم خمسة6؛ ولن نحصي الزوائد في الأسماء والأفعال ثلاثية أو رباعية أو خماسية ما دامت زيادتها تمت بضرب من الإلحاق الصرفي7، فكل هذه الحقائق الدقيقة يعرفها المشتغلون بأبحاث الصرف، ومن جهلها منهم خفيت عليه أصول الكلمات فلم يكن صرفيًّا، ولكنها -رغم وجوب العلم بها- تظل تبعد بصاحبها عن مصنع القوالب اللغوية الذي تسبك فيه كل لحظة ألفاظ

_ 1 وهي: فَعْل، وفَعِل، وفَعُل، وفِعْل، وفِعَل، وفُعْل، وفُعُل، وفُعَل. المنصف ص18. 2 قارن بالمنصف ص20. 3 وهي: فَعْلَل، وفِعْلِل، وفُعْلُل، وفِعْلَل، وفِعِلّ، وفُعْلَل "المنصف 25". 4 المنصف 28. 5 المنصف أيضًا 28. 6 قارن بقول ابن جني: "اعلم أن الأسماء الخماسية تجيء على أربعة أمثلة وخامس لم يذكره سيبويه: وهي: فَعَلَّل وفِعْلَل وفَعَلَل وفُعَلِّل". المنصف 30. 7 نقصد بهذا مثل "كوثر وجدول وجيئل" فهذا كله ملحق ببناء جعفر، والواو والياء فيه زائدتان زيادة صرفية إلحاقية. قارن بالمنصف 34.

جديدة على نمط الأوزان تلبية لحاجات الأفراد والمجتمعات. والأوزان في ضوء هذا المقياس ذات فئتين: فئة تقليدية رتيبة تلتزم التزامًا، حتى في صيغها الملحقات، وفئة تجديدية منتقاة تختار اختيارًا، ولا تكون إلا مشتقات مزيدات، بيد أن في زيادة مبناها زيادة لمعناها، فهي وثيقة الصلة بالاشتقاق، ولا ترتبط قط بالإلحاق. ولعل أبسط ما يستنبط من هذه التفرقة بين فئتي الأوزان المستعملة أن الإلحاق -كاتباع الأصل- ضرب من العمل الشكلي بينما ترقى الصياغة القالبية بزياداتها المقصودة إلى ذروة العمل المبدع الجوهري، فتعدد الأوزان الملحقة -كتنوع الألفاظ بصيغها الأصلية المتكاثرة- أمارة على غنى اللغة لا على حياتها، وتصريح بجنوحها إلى الزخرف والتنميق لا إلى التحقيق والتدقيق، ووصم لها بالسذاجة والبدائية لا بالعمق والحضرية. وما من ريب في أن العربية مستغنية بقوالبها المتناسقة مع معانيها، وبدلالاتها المعبرة عن مدلولاتها، عن أن تلصق بها تهمة الجمود وهي أم اللغات في الاشتقاق والتوليد. وما يزال في الباحثين العرب من يقودهم تعصبهم للغتهم إلى عد الجموع القياسية سالمة وغير سالمة، وطرائق التصغير المختلفة، وأنواع المصادر المتغايرة، وأشكال التأنيث والتذكير، إحدى خصائص العربية التي لا تضارى في الصيغ والأوزان، وفاتهم أن هذه الكثرة لا تزن شيئًا إن لم تشارك الأذهان النيرة في وضعها موضع الاستعمال، وقلما كانت تضعها هذا الموضع سوى أذهان المتكلفين المتصنعين! ولقد رأينا في بحث الترادف أن أعقل اللغويين ذهبوا إلى إنكار الترادف ما لم يكن صفات للموصوف، أو تنوعًا في الاستعمال1، فكذلك نلاحظ هنا أن تعدد الجموع القياسية -سواء أسمعت أم لم تسمع واستعملت أم

_ 1 راجع ما ذكرناه في بحث الترادف.

لم تستعمل- لا يعني شيئًا أثكر من فوضى اللغويين في تحديد الفروق بين الجموع، إذا لم يوضحوا لكل جمع دلالة مطردة، ولم يغربلوا صيغ الجموع وينقحوها ليجعلوا كلًّا منها صالحًا للاستعمال في موطن بعينه بحيث لا يجوز استعمال سواه، بل ألصقوا بالعربية أثوابًا مزركشة كلها صنعة زائفة وألوان براقة. استمع إليهم يقولون في جمع اسم الشهر المعروف "رمضان": رمضانات - أرمضة - أرامضة - أراميض - رماضي - رمضاين - أرمض - رمضانون، ويقولون في جمع السبت أحد أيام الأسبوع: أسبت - سبوت - أسبات - سابت - أسابيت؛ فهل يعنينا أن نختار واحدًا من هذه الجموع المتكافئة المتساوية، الخالية من أدنى الفروق، إلا في سجعة متكلفة، أو تورية مصنوعة، أو جناس صفيق، أو قافية من الشعر تجر جرًّا وتقاد مقادًا؟ ولنقل إذن مثل هذا في أضرب الفعل الثلاثي وفي عين الفعل المضارع، فما حفظ لنا من تنوع تلك الأضرب وتغاير حركات هاتيك العين لا ينبغي أن يخدعنا كثيرًا، فإنه -إن لم يرتد كما رأينا إلى اختلاف اللهجات1- لم ينم عن غنى العربية وثرائها بقدر ما ينم عن فوضى الرواة في التقاط الروايات، وولوعهم بجمع الصيغ النادرات. ومن المؤكد أن العربي رمى -منذ استعمالاته الفعلية الأولى- إلى صور تطرد في الفعل الثلاثي وصيغ تطرد في عين المضارع، ولو لم تتكاثر عوامل التطور وتتضافر على العربية تكاثرها وتضافرها على جميع اللغات لحفظت لنا في الثلاثي صورة "فَعَلَ" وحدها مثلًا، وصِينَ لنا في عين المضارع شكله بالفتح مثلًا في صيغة "يَفْعَلُ" فقط من

_ 1 راجع ما ذكرناه ص77- 78.

غير ما حاجة إلى تلك الصيغ المعضلة التي تغايرت معانيها -بصورة أغلبية- بتغاير أضربها وصيغها المقترحات. ولعل القارئ يظن أننا ما نزال -من وراء كلامنا هذا- نحاول أن نعض من قيمة التصريف، ونعري الباحثين اللغويين بإهماله وتركه، فنسارع إلى التأكيد له بأننا -مع فقهاء اللغة القدامى والمحدثين- نرى أن "هذا القبيل من العلم يحتاج إليه جميع أهل العربية أتم حاجة، وبهم إليه أشد فاقة؛ لأنه ميزان العربية، وبه تعرف أصول كلام العرب من الزوائد الداخلة عليها، ولا يوصل إلى معرفة الاشتقاق إلا به"1. ونرى أيضًا أن "جزءًا كبيرًا من اللغة يؤخذ بالقياس، ولا يوصل إلى ذلك إلا من طريق التصريف". إلا أن معرفة التصريف وحفظ قواعده وفهم أصوله شيء، وسبك القوالب وبناء الأوزان وتشكيل الصيغ شيء آخر، وما كان لنا -لما بين التصريف والسبك القالبي من نسب قريب- أن نعد المسائل الصرفية بمقاييسها الجزئية كالقوالب اللغوية بوحداتها الكلية الكبرى. فإن نتنبه إلى ما بين الصيغ والتصريف من فرق مثلما نتنبه إلى ما بينهما من لحمة ونسب نجد كثيرًا من دلالات الأبنية -كما اصطلح عليها الصرفيون- تشبه دلالات الأبنية عند اللغويين، فكلا الجانبين يتحدث في الأفعال مثلًا عن استعمال صيغة "فاعَل" للدلالة على المشاركة الحقيقية للفاعل والمجازية للمفعول، نحو: خاصم، وجاذب، والتكثير نحو: ضاعف، والموالاة نحو: تابع؛ واستعمال صيغة "افتعل" لمطاوعة "فَعَل" نحو: نبهته فتنبه، وللاتخاذ نحو: اختتم اتخذ خاتمًا، وللتصرف بجهد نحو: اكتسب، وللاختيار نحو: انتقى، وكلا الجانبين أيضًا يتحدث في الأسماء -وهي

_ 1 المنصف ص20.

الصيغ الأكثر شيوعًا في اللغة- عن "فِعالة" للدلالة على الحرفة كالنجارة والحدادة والزراعة، و"فُعالة" للدلالة على فضلات الأشياء "كالقلامة والنفاية"، و"فَعِيل" للدلالة على السير كالرحيل، و"مَفْعَلة" للدلالة على المكان الذي يكثر فيه الشيء نحو: مأسدة ومكلأة؛ وكلا الجانبين أخيرًا يعترف بأن صيغ "فَعَل" و"فَعِل" و"أفْعَل" و"فَعْلَل" و"فَاعَل" مشتركة بين الاسم والفعل، فتقول على التوالي: جمل وكتب، حذر وعلم، وأبيض وأقدم، وجعفر ودحرج، وخاتم وسابق1. بيد أننا نتساءل: هل نجد أنفسنا مدفوعين إلى وضع هذه الصيغ ونظائرها جميعًا في صف واحد بحث نستعملها كافة على التساوي مثلما يفرض علينا حفظ قواعدها الصرفية دون تفريق بينها، أم نوازن بين بعضها وبعض، ونستخلص من بينها أبنية حية مستعملة فنظل ننفخ فيها الحياة، ونستبعد صورًا أخرى ربما تبدو ثقلية في السمع الرهيف، متجافية عن اللسان المبين؟! والجواب عن هذا التساؤل: أن من اليسير جدًّا فصل الصيغ الميتة عن الحية، وتمييز المطردة من الشاذة، إذا نحن عولنا على الذوق السليم والملكة الشخصية، بل من اليسير جدًّا -تبعًا لهذا- أن ننقص من الأوزان أو نزيد عليها، وأن نميت منها ونحيي طائفة، وأن نطلق في ذلك أيدي الأفراد النابغين والمجامع العلمية النشيطة، ولكن كثيرًا من الباحثين لا يحكِّمون الذوق في مثل هذه الأشياء، ويتهمون الملكات في هذا الزمان بالضعف والفساد. ومن هنا تعذر علينا أن نتقبل في هذا الصعيد كل ما زاده المطبوعون من الصيغ وأن نهجر كل ما هجروه من الأوزان، ولو كان للذوق

_ 1 قارن بفقه اللغة "للمبارك" ص112.

دخل في هذه الموضوعات لجعلنا خلق القالب -لا الصنع على مثاله- من حق الأفراد النابغين من أدباء وشعراء ومؤلفين. ولا أدل على صعوبة هذا الأمر من مواقف اللغويين "المحافظين" إزاء اقتراحات العلايلي وزيدان والكرملي. أما الأستاذ عبد الله العلايلي فيقوم تجديده على طريقتين؛ إحداهما: تأخذ الوزن القديم وتوسع دلالته، أو تجدد معناه، والأخرى: لا تكفيها الأوزان القديمة على النحو الذي وردت به اللسان العربي فتضع أوزانًا جديدة تختلف عن القديمة الفصحى في تحريك وتسكين، أو في طول وقصر، أو في تحت وإلصاق وتئول غالبًا إلى ضرب من الترقيع ليس عليه جلال ولا فيه رواء الثوب القشيب. فعلى الطريقة الأولى أدخل العلايلي وزن "فَعَلان" الذي جاء في المصادر الدالة على الاضطراب في باب الأوصاف، فبدلًا من أن يكتفي بمثل "الغليان" مصدرًا من غلى أنى "بالهرمان" وصفًا من هرم، لكنه لا يقول في كل شيخ هم طاعن في السن "هرمان" بل يطلقه على كل من بلغ من الكبر عتيًّا حتى بات يضطرب من الهرم. ومن الطريف نقله وزن "فَعْلاء" من الدلالة على الاسم المؤنث كصحراء والصفة المؤنثة كحمراء للدلالة على المكان الذي يتعدد فيه الشيء من غير انفصال، كصنعاء للمكان الذي تكثر فيه الصناعة، وحرجاء لمكان الغابات الكثيرة1. وأطرف من ذلك كله نقله وزن "فعَّال" من مبالغة اسم الفاعل إلى إظهار الملكة الثابتة والتخصص في الأمر، فلفظ "نَوَّار" مثلًا يفيد الشيء الذي ينير إنارة خاصة عن ملكة ثابتة2.

_ 1 مقدمة لدرس لغة العرب 65-95. 2 وقريب من هذا نقله "فعلل" إلى دلالة الشيء الذي يجمع أفعالًا من الوصف ويفعلها دفعة، نحو: "قفلل" للقفل الذي يقف من جهتين دَفْعَة واحدة، وانظر المقدمة 67.

وإذا كان العلايلي هنا لم يمس هذه الأوزن الثلاثة بشيء من التغيير في قالبها1، بل تعسف فقط في بسط معناها، ظانًّا أنه بهذا البسط يمنح العربية مقدرة على التعبير عن آفاق الحضارة الجديدة، فإنه في طريقته الثانية تناول بالتغيير الدال والمدلول، والوزن والموزون، والقياس والمقيس، وفيما جاء به على هذا المنوال صنف لا يبعد عن الوزن العربي كثيرًا، فله به شبه، وبه منه روح، وصنف آخر لا يمت إلى الوزن العربي بصلة، فهو منه كالأعجمي الدخيل حتى ليعجب الباحث كيف طوعت للعلايلي نفسه جراءة كهذه تجاوزت الحدود. فمما له شبه بالوزن العربي "فَعُولاء" الذي يومئ إلى الخاصية المتفردة أكمل ما تكون، كالليلة البروقاء2، و"فَعَلاء" الذي يدل على التثني والامتداد هنا وهناك، كالنهراء، بدلًا من النهر3، "وفَعالاء" الذي يدل على الاتصاف بالشيء مع محاولة خلافه، كالرجل "الشراراء" وهو الذي يقترف الشر مع أنه يحاول احتذاء طريق الخير4. وسائر ما ذكره العلايلي -بعد ذلك- إلى العجمة أقرب، وبالوزن الدخيل ألصق. ولا ريب أنه استشعر هذا بنفسه؛ فإن في معجمه القيم الذي نرجو أن يتم قريبًا لم يركب الوعر باستخدام هذه الأوزان المبتدعة

_ 1 لكنه تجاهل أحيانًا القوانيين الصرفية تجاهلًا عجيبًا، ففي وزن "فعل" الذي اقترح أن يكون مفيدًا معنى الاتصاف بوحدة المادة ذكر مثالًا لذلك لفظ "غلق". ومن الواضح أن الثلاثي من هذه المادة غير فصيح، فأي مسوغ للعلايلي أو سواه للخروج على الميزان الصرفي ما دامت لنا غنية بفصيحه عن ضعيفه؟ 2 مقدمة العلايلي 68. 3 نفسها 77. 4 نفسها 67.

إذا لم يرح فيها رائحة العربية الصافية1. ومن ذلك "تَفْعَلُوت" للدلالة على الذي يتصف بالشيء عند حدوث الحادث فقط، نحو" ترغموت" الذي لا يرغم إلا عند اليأس، و"فَعْلُوت" للدلالة على الاستحالة من شيء إلى شيء نحو: "فلزوت" لتحول المعادن أشياء عنصرية، و"فَعَلَّان" للدلالة عل الألف الألفي، نحو "عقدان" للشيء الذي فيه أكثر من مائة ألف عقدة، و"فَعَلَيَّا" للدلالة على النفاذ إلى الصميم، نحو "حزنيا" لحالة الحزن التي تمزق الأحشاء التياعًا، و"فُعُلّ" للدلالة على الإطباق في الانتشار، نحو "دخن" للدخان المنتشر الذي يطبق الآفاق. وكل ذلك يهون أمام تلك التاء الأعجمية الممدودة في آخر الاسم المذكر المفرد التي اقترحها العلايلي في وزن "الفَعْلَت" للدلالة على سرعة التأثر والانفعال وعلى سرعة الاحتراق، نحو "العصبت" لتأثر الأعصاب السريع!! ولقد ظننت بادئ الأمر -لشديد ثقتي برهافة الحس للغوي لدى العلايلي- أن هذه التاء الهجينة الممدودة الطويلة ربما ألحقت بآخر الوزن

_ 1 وقس على ذلك وزن "فعلل" للدلالة على ما تعددت فيه الوحدات من الوصف، نحو "زبدد" المتعدد الزبد، ووزن "فعل" للدلالة على الاتصاف بالمادة مع توزع، نحو "رعج" لذي المال الكثير الموزع في أيدي الناس. و"فعيلل" الدال على كون الوصف ذا قوة مولدة، نحو خليدد للذي فيه قوة تولد فيه الخلود. ووزن "فعلن" للدلالة على نفوذ الوصف إلى غاية الباطن، نحو "نفسن" للرجل المختص بالأعمال النفسية. أما وزن "فعلني" الدال على ما يحدث إثارة عظيمة فقد مثل له العلايلي بلفظ "فنيني" للقذيفة "القنبلة" التي تثير الفناء، وفي هذا خروج صريح على القياس الصرفي، فإن في مادة الفناء الثلاثية لزومًا لا يوحي بشيء من التعدية، وإنما تفيد المعنى الذي قصده مادة الافناء المتعدية بزيادة الهمزة، على نحو ما قلنا في وزن "فعل" والاستشهاد عليه بالغلق بدلا من الإغلاق، ولعل هذا يشير إلى مدى وجوب التقيد بقوانين الصرف لكل من يريد أن يجدد في صيغ اللغة وأوزانها.

الاسمى المفرد تطبيعًا أو سهوًا؛ إذ لا يعقل أن يخالف الأستاذ متعمدًا إحدى بديهيات اللغة والصرف والرسم والإملاء من غير ما اضطرار إلى ذلك، ومتى ضاقت بمثله مسالك التعير حتى لم يجد إلا هذه التاء الدميمة يمسخ بها عربية الوزن وصفاء البناء؟! لكنني -وقد تفهمت قاعدته فيما جدد، ومنهجه فيما استحدث- أيقنت أنه قاصد هذه التاء، وأن لا سبيل إلى الدفاع عن إتيانه بها بحال، فإنه في أوزانه المبتدعة كلها -ما قرب منها من الوزن العربي وما بعد عنه- لم يحد قيد شعرة عن حروف الزيادة الصرفية التي يجمعها قولنا "سألتمونيها" أو "اليوم تنساه"1. على أنه رغم لجوئه إلى مواد الزيادة المعروفة لصياغة قوالبه غالَى وأسرف حتى كاد يجعل صور قوالبه الزائدة عملية عقلية رياضية بحتة أدخل فيها كل حرف من حروف الزيادة أولًا وآخرًا ووسطًا في كل وزن كان من قبل معروفًا -إما شائعًا وإما مهجورًا- فلو كتب لرأيه السيرورة لكان الذي تقبل منه أبعد ما يكون عن العربية الفصحى بوجهها الصريح. وإنما أتى أولئك الباحثون من قبل الاستقراء الناقص، فحكموا المثال الواحد أو الأمثلة القليلة في القاعدة، ووضعوا المقاييس مع خلطهم بين القياس والمقيس، وإذا هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا حين أغنوا العربية بزعمهم بأوزان تحييها، وقوالب "جاهزة" لكل اصطلاح فيها وتعبير. ولتجدن هذا الاستقراء أنقص ما يكون فيما كتبه جرجي زيدان في "الفلسفة اللغوية" حول الأوزان المهملة التي اندثرت وأميتت. ونزداد يقينًا بأن هذا رجل يخوض فيما لا يعلم، ويتطفل على ميدان اللغة وليس من أهليه، حين نجده يرطن رطانة الأعجمي وهو يؤكد الأثر العبري

_ 1 الأمالي 2/ 186.

في العربية من نحو وإهمال بعض أبنية العربية من نحو آخر، فيقول: "ولكي نصل إلى الحقيقة يقتضي لنا الاستفهام عن أصل هذه التاء "في تفعل وتفاعل" وكيف تأتت لها هذه الخاصة. وعند البحث والمقابلة في أخوات العربية يظهر لنا أنها بقية "ات" أو ما يعادلها، وهي لفظة من الألفاظ لم تزل مستعملة في العبرانية بمعنى "ذ ات" ... ". إلى أن يقول: "وليست هذه كل مزيدات الأفعال في العربية، وإنما هي ما غلب استعماله منها. وهناك مزيدات كثيرة أهملت فاندثرت. ومنها ما لم يبق منها إلا أمثلة قليلة حفظت في بعض المظان وهي نادرة؛ فمن مزيدات الثلاثي المهملة مما زيد فيه حرف واحد ما هو على وزن "تَفْعَل" مثل ترمس، أو "نَفْعَل" مثل نرجس، أو "هفعل" مثل هلقم، و"سفعل" مثل سنبس بمعنى نبس، و"مفعل" مثل مرحب بمعنى رحب، و"فيعل" مثل بيصل ... "1. إن من الغريب حقًّا أن يحاول جرجي زيدان -بعد أن زعم انقراض بعض الأوزان- أن يأتي بأمثلة على الصورة التي كان يتخيلها لما ظن فيه الاندثار والإهمال. وإن هذا الحكم المتسرع لو صدر عن رجل مختص بالموضوع لأنبأ عن شيء من الجهل، فكيف به وهو أثر عجول من باحث يتكلم في كل شيء ولا يصيب الحقيقة في شيء؟ ويا ليت المحدثين احتذوا في تجديدهم خطوات الأب آنستاس ماري الكرملي الذي لم يأل جهدًا في إحياء الأوزان القديمة وإحياء مدلولاتها، فتوسع في كتب الصرف ونصح بالرجوع إليها فهو أسلم2؛ ذلك بأن الكرملي حين ألف كتابه "نشوء العربية ونموها واكتهالها" لم يبتعد عن الأوزان العربية قط، ولم يستبدل بها غيرها، بل لاحظ فيها

_ 1 الفلسفة اللغوية 45. 2 نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها ص113-114.

مدلولات جديدة أوشكت أن تنسى، فبسط من معنى المدلول، واستحدث بعض التمييز في توضيح الفروق بين وزن وآخر، ولا عيب في كتابه سوى أنه استعجل الحكم بالتفرقة بين وزن وآخر يشبه مع أنه لم يقم دليلًا على صحة هذه التفرقة فيما فصح من لسان العرب. وأقرب مثل لذلك استناده إلى ما جاء في كتاب "الكليات" للتفرقة بين العلاقة بالفتح والعلاقة بالكسر، فالأولى المفتوحة العين تستعمل في الأمور الذهنية كعلاقة الحب والخصومة ونحوهما، والثانية المكسورة العين تستعمل في الأمور الخارجية كعِلاقة السوط والقوس ونحوهما، وإن عجبنا لا ينقضي من تعويله في قضية الأوزان وفي التفرقة بينها على باحث متأخر كالعكبري صاحب "الكليات" وهو يعلم أن المتقدمين من محققي العلماء لم يذهبوا هذا المذهب ولم يقيموا على صحته الدليل. وكاد الكرملي يرتكب الخطأ الذي ارتكب مثله العلايلي حين أشار إلى صيغ لم يقررها النحاة في تصانيفهم وإن كانت القسمة العقلية الرياضية البحتة تستدعي وجودها وامتيازها فوق ذلك بمعان جديدة مبتكرة. ولكن الكرملي هم بارتكاب هذا الخطأ ولم يرتكبه حقًّا؛ إذ كان له مقنع بترديد الأوزان المتشابهة المحتمل ورودها عقلًا في إحدى ثلاث فصائل: رباعية وثلاثثية وثنائية. أما الفصيلة الرباعية فمن أمثلتها "فُعْلان - فِعْلان - فَعْلان - فَعَلان"؛ وأما الثنائية فمن أمثلتها "فَعَلْعَل، فَعَلْعَلان"؛ وأما الثلاثية الباقية فأمثلتها لا تكاد تتناهى كما لا تتناهى في العربية المثلثات المشهورة: وأهمها "فُعال، فِعال، فَعال"، و"فُعالة، فِعالة، فَعالة"، و"فُعالّ، فِعالّ، فَعالّ"، و"فُعالّة، فِعالّة، فَعالّة"، و"فُعْلَة، فِعْلَة، فَعْلَة"، و"فُعُل1، فِعِل، فَعَل"؛ ولا ريب أن القارئ لمح في

_ 1 يلاحظ هنا أن الكرملي بمحاولته العقلية الاحتمالية البحتة انتهى إلى وزن "الفعل" كما انتهى إليه العلايلي في "الدخن" ونظائره.

بعض هذه المثلثات أوزانًا معروفة لديه سواء أكانت شائعة أم نادرة الاستعمال، ولكنه أدرك الاتجاه الجديد الذي كان الكرملي يقود إليه معاني هذه الأوزان، لتستحيل في أيدي العرب المعاصرين مقاييس حية تستعمل في كثير من الميادين الحضرية الجديدة. ومن هنا رأى الكرملي مثلًا أن "الفِعالة" بالكسر لا ينبغي أن تحصر في مدلول الصناعة كالحراثة والزراعة والمساحة والنجارة والحدادة؛ بل يبسط معناه ليشمل الدلالة على الآلة والإدراة، كأن "فعالة" تأنيث لفِعال الدال بنفسه على الآلة كالبساط واللباس والحزام والشكال1، وبذلك يتضح لنا معنى الآلة من نظائر هذه الألفاظ الفصيحة المتداولة: الإداوة اوالرحالة والضبارة والكنانة والقلادة2. ويُحمد للكرملي بصورة عامة ذهابه إلى توسيع مدلولات الأوزان أو بسط مداها من غير أن يمس سلامة اللغة أو فصاحة مقاييسها؛ كدعوته إلى إحياء وزن "فَعَلْعَل" كعصبصب، وغشمشم، وسمعمع، وعرمرم، باستعماله في كل وصف يكثر تحلي صاحبه به. وليس من شأننا هنا -لدى موازنة آراء المحدثين التي أشرنا إليها- أن نخوض في قضايا القياس التي أفاض فيها المناطقة والمتكلمون والأصوليون من الفقهاء والنحاة، ولا من شأننا أيضًا التعرض للحالات التي يجب فيها القياس، فلهذا كله مواطن أخرى رحبة لا يتسع لها هذا المجال، وإنما يجدر بنا أن نعترف بالحقيقة الاجتماعية اللغوية التي تقول: "كلما قويت اللغة قوي القياس وكثرت الصيغ القياسية"3، فلنرحب بكثرة ما

_ 1 ولذلك رأى الكرملي أيضًا أن وزن "فعال" لا ينبغي أن يحصر في معنى الامتناع عن الشيء كالإباء والنفار والشراد، بل يشمل قياسيًّا مختلف معاني الآلة. 2 راجع نشوء العربية أيضًا 114. 3 المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية 32.

يستعمل من صيغنا وما يدخل معمل السبك القالبي من ألفاظنا ومفرداتنا، ولنكن إيجابيين في نشر لغتنا واستخدام مقاييسها في أغراض حياتنا بدلًا من أن نكون سلبيين نثور في وجه كل من استعمل وزنًا نجهله زاعمين أنه "ليس في العريبة من كذا إلا كذا، وهوكلام يخلو من المنطق والحكمة، بل هو جهل مطبق، فإن المرء ليحار ويتساءل: "من جمع لهم العربية في طبق فأحصوا كلمها ثم حكموا متثبتين: ليس في العربية من كذا إلا كذا؟ ولو قال قائلهم: "لا أعرف من كذا إلا كذا" لكان أقرب إلى النصفة وأصدق قيلًا"1. وإن يكن قد ضُرب بالأسداد على جل ما يحاوله بعض الأفراد المطبوعين المعاصرين من تحديد معاني الأوزان أو بسط دلالاتها، فإننا ما نزال بحمد الله نجد في مجامعنا العربية في القاهرة ودمشق وبغداد روحًا تجديديًّا لن يأذن للجهلة الجامدين بتجميد هذه اللغة الكريمة وتعطيل نشاطها. وما القرارات الحكيمة التي اتخذت في مجمع القاهرة بشأن الصياغة والاشتقاق إلا أدلة لا تنقض وبراهين لا تناهض على أن حاجات المجتمع إن لم يبلها النحاة لبتها الحياة، فليست اللغة عجينة طيعة في أيدي المتحذلقين، ولكنها أداة حية في أيدي صناع التاريخ وبناة الحياة2.

_ 1 أصول النحو 129. 2 انظر مجلة المجمع في القاهرة مجلد 1/ 36-37.

الفصل العاشر: العربية في العصر الحديث

الفصل العاشر: العربية في العصر الحديث لا يرتاب أحد من الباحثين اللغويين، قدامى ومحدثين، شرقين وغرببين، في أن العربية من أقدم اللغات وأقواها أصالة، وأوسعها تعبيرًا؛ بل يتصدى بعضهم اليوم -عن طريق ما يسميه بالتأثيل والترسيس1- إلى اعتبار العربية فوق اللغات الإنسانية قاطبة، فهي أم اللغات الآريات، لا الساميات والحاميات فحسب2. ولم يكن بد أن يستشعر صاحب هذا الرأي الأخير ما قد يعتري القارئ عن الذعر حين يواجه لفظي التأثيل والترسيس أول مرة، فأماط

_ 1 انظر اللسان العربي، العدد الرابع ص14 "لمحات من التأثيل اللغوي" للأستاذ عبد الحق فاضل، والعدد الخامس ص18 "علم الترسيس" للكاتب نفسه. واللسان العربي مجلة دورية للأبحاث اللغوية يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي "جامعة الدول العربية" الرباط - المغرب الأقصى. 2 علم الترسيس 19.

اللثام عن مدلوليهما منتهيًا إلى أن التأثيل هو علم أصول الألفاظ، وأنه مشتق من "الأثل" -بمعنى الأصل- فهو على هذا اصطلاح مقابل لكلمة etymologie، وأن الترسيس هو رد الألفاظ إلى بدايتها، وأنه مشتق من "الرس" -بمعنى البداية- ومن الممكن أن يقابله في اللغات الأوربية اصطلاح radixation. وأيا ما يكن وقع هذين اللفظين على القارئ العادي أو المختص، فلنا أن نستخرج في ضوئهما عددًا من الحقائق اللغوية التي تؤكد إقراض العربية سواها من لغات الإنسان أكثر من اقتراضها منها، فما اقتبسته العربية من مختلف اللغات لا يجاوز ثلاثة آلاف لفظ على أكبر الاحتمالات1، على حين دخل تلك اللغات من العربية وغيرها شيء كثير لم يحصه حتى اليوم الراسخون في علم اللغات. وربما انطوت هذه الدعوى على كثير أو قليل من الغلو يعارض ما أكدناه في فصل "تعريب الدخيل" من أن العربية ليست بدعًا من اللغات، فهي تقرضها مثلما تقترض منها، وتخضع في ذلك كله لقانون اجتماعي لغوي هو تبادل التأثير والتاثر بين اللغات2 وقد يستنتج من ذلك أن لا داعي لانفراد العربية بقلة ما اقتبسته من سواها، ولا مسوغ للمبالغة فيما اقتبسه غيرها منها أو سواها؛ لذلك نبادر إلى حصر الغاية في مثل هذه البحوث بتقرير الحقائق معززة بالشواهد، ونقر بخضوع العربية للقانون اللغوي المذكور، ونرفض ألوان المبالغة جميعًا في هذا الموضوع، ونلح -رغم ذلك كله- على امتياز العربية

_ 1 قارن بكتاب "غرائب اللغة العربية" للأب رفائيل نخلة اليسوعي. 2 راجع هذ الفصل ص314.

2- اختلاف المصطلحات التي تم وضعها وتعريبها. 3- افتقارنا إلى مراجع علمية عربية كافية في مختلف العلوم للتدريس الجامعي. 4- صعوبة اللغة العربية من حيث القواعد والكتابة. 5- منافسة بعض اللغات الإقليمية الدارجة للعربية الفصحى. ولنا - إزاء هذه المعضلات- موقفان؛ أحدهما: دفاعي عام، والآخر: إيجابي تفصيلي. وإنا لنحرص في كلا الموقفين على أن نأخذ بالرأي القائل: إن اللغة عنصر علمي مستقل وظاهرة اجتماعية وعامل حضاري، فإذا ما عزونا إليها طواعيتها للاكتشاف والاختراع والتوليد قديمًا وحديثًا فليس لنا أن نستسلم في ذلك استسلامًا شعريًّا لذيذًا نرى خلاله العربية لغة العبقرية أو عبقرية اللغات. أما موقفنا الأول فقد كفانا مئونة الإفاضة فيه عدد من البحوث اللغوية الرصينة التي تصف دور العربية في الكشوف العلمية، وتبرز مقدرتها الذاتية على التعبير الفني الدقيق، فإذا كانت من مصادر البحث العلمي القديم فلماذا لا تكون اليوم مرجعًا ولغة عالمية؟ 1 ولقد أوضحنا -في غضون كتابنا هذا- كيف كانت العربية مرنة مطواعًا تلبي أدق مطالب الأحياء بألوان اشتقاقاتها من صغير وكبير وأكبر وكُبَّار2، في تلك الحركة الدائمة التي تلد كل لحظة مولودًا

_ 1 انظر في اللسان العربي، العدد الرابع، البحوث التالية: العرب والكشوف العلمية الدكتور يحيى الهاشمي ص7، اللغة العربية على المحك للأستاذ خليل الهنداوي ص48، اللغة العربية والعالم الحديث للأستاذ شارل بيلا ص50. 2 انظر بحث "المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق" ص173.

جديدًا، وبأنواع صيغها أسماء وأفعالًا وصفات1، في تلك القوالب التي تنسبك بها كل التعابير، وباستعدادها الأصيل للاقتباس والتعريب2. في تلك الألفاظ التي خلقتها الحضارة والفنون، فما يكُ من عيب فهو في الباحثين العرب لا في اللغة العربية، وما تقع عليه العين من تخلف في أي ميدان من الميادين فمصدره الوحيد قلة اهتمامنا بتطوير فكرنا العلمي، فمن المعروف أن انتشار اللغة -أي لغة كانت- رهن بمدى إسهامها في الواقع الحضاري، ولئن ثبت في ماضينا المجيد أن لغتنا كانت لغة حضارة مرت بتجربة ضخمة أبرزت طواعيتها للاكتشاف والتوليد فعلينا أن نثبت نحن اليوم أنها ما تبرح تمر بالتجارب الضخام، بل بتجارب أضخم مما سلف، وأنها تواكب نماءنا الحضاري وما تنفك قادرة على اختراع التعابير الحية لجميع الفنون. ولعل هذه النظرة الإجمالية العامة -في الموقف الدفاعي- هي التي يتبناها في مؤلفاتنا الحديثة وفي بحوثنا بالمجلات العلمية والأدبية كل غيور على لغة الضاد، من الأدباء والدارسين وغيرهم أحيانًا، أما النظرة التفصيلية، في الموقف الإيجابي، فما تكفل بإيضاحها على الوجه الأكمل إلا المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي3 الذي وجه في أواخر سنة 1966 استفتاء حول اللغة العربية، والمشكلات التي تعترض سيرها، وحلول هذه المشكلات، ومعضلات التدريس الجامعي بالعربية، وحلول تلك المعضلات4. ويبدو أن مقترحات العلماء هاهنا تشابهت إلى حد كبير، فلمعالجة

_ 1 راجع بحث "صيغ العربية وأوزانها" ص328. 2 راجع بحث "تعريب الدخيل" ص314. 3 هذا المكتب تابع لجامعة الدول العربية، ومركزه الرباط في المغرب الأقصى. 4 وقد تلقى هذا الاستفتاء عدد كبير من العلماء ينتمون إلى أحد عشر قطرًا، ويدرسون في تسع عشرة كلية من الكليات الجامعية.

بطء حركة التعريب في العالم العربي مال أكثرهم إلى تكوين لجنة جامعية من هيئة التدريس تشرف على نقل ما يوضع من دروس إلى العربية السهلة الميسرة، ودعوا الجامعات العربية إلى الإسهام في وضع المصطلح العلمي الأدق، والسعي لنشر معجم للمصطلحات العلمية والفنية والأجنبية مع جميع مقابلاتها العربية1. ولم يرَ بعضهم بأسًا في قبول طائفة من المصطلحات العلمية بألفاظها أسوة بجميع اللغات الحية، ومن بينها الروسية، فلا داعي لانفراد العرب بنقل تلك المصطلحات من اللاتينية إلى العربية دون جدوى؟ 2 ولم يتورع بعض الباحثين -تسابقًا إلى حركة التعريب- عن اقتراح الاقتصار على التعريب الحرفي لجميع المصطلحات. فلم يكن بد من نبذ هذا الا قتراح؛ لأنه يوسع شقة الخلاف القائم في المصطلحات بحيث يكون في العالم العربي من اللغات العربيات عدد مماثل للغات الأجنبية المنتشرة فيه3. والأفضل إذن أن نقصر التعريب على الألفاظ الدولية للمصطلحات العلمية المستعملة بألفاظها اللاتينية في جميع لغات العالم.

_ 1 جدير بالذكر أن المكتب الدائم لتنسيق العرب أنجز الجزء الأول من "معجم الفقه والقانون"، وهو الآن يعد معجمات في كل من الرياضيات والفيزياء والكيمياء تشتمل على المصطلح العربي المقترح من قبل مختلف البلاد العربية. 2 من الذين نبهوا إلى هذه المسألة المستشرق شارل بيلا، ففي بحثه عن "اللغة العربية والعالم الحديث" ص54 يقول: "يعلم الجميع أن علماء النبات والحيوان يستعملون في العالم أجمع اسمًا ونعتًا لاتينيين لكل جنس ونوع من النبات والحيوان، فهذه الأسماء والنعوت مجمع عليها كما قلت في العالم كله. والروس أنفسهم الذين يكتبون بخط خاص يذكرون لكل حيوان ونبات اسمه ونعته باللاتينية". 3 وحينئذ تكون مصطلحات مصر والعراق مثلا إنكليزية اللفظ، ومصطلحات سورية ولبنان فرنسية اللفظ، فتكثر بهذا السبب اللغات الإقليمية، وتتسع بينها مع الأيام شقة الخلاف.

أما بقية المصطلحات فلن تعجز العربية عن توليد اللفظ الملائم لها عن طريق الاشتقاق. أما مشكلة اختلاف المصطلحات التي تم تعريبها في البلدان العربية فلها حل عملي عن طريق الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، والمجامع العلمية واللغوية القائمة اليوم في القاهرة ودمشق وبغداد. فليس عسيرًا أن نضع حدًّا لاختلاف الاصطلاح العلمي إذا سعينا لأيجاد مجمع عربي لغوي وعلمي موحد، وعقدنا مؤتمرات علمية بالتعاون مع المكتب الدائم لتنسيق التعريب، ابتغاء الوصول إلى الوحدة الثقافية العربية، وتوحيد المناهج والكتب الدراسية. ووضع مقاييس عامة لإيثار مصطلح على آخر حتى تكتب له السيرورة1. وأما افتقارنا إلى مراجع علمية عربية لتدريس جميع العلوم على المستوى الجامعي فمشكلة عويصة لن يحلها إلا تشجيع التعريب لمختلف المصادر العلمية الجامعية التي يقع عليها اختيارًا أكابر علمائنا وباحثينا، كل في ميدان اختصاصه وخبرته. ومما يعين على حل هذه المشكلة أيضًا إسهام الدول العربية عن طريق جامعتها بتمويل مشروع على جانب عظيم من الأهمية؛ ألا وهو إصدار معجمين عربيين، أحدهما لغوي والآخر علمي، تعدهما الهيئات العلمية واللغوية في الوطن العربي. ولو أثيرت هذه المشكلة من زاوية صلاح العربية أو عدم صلاحها للتدريس الجامعي لما اكترثنا لذلك ولا اهتممنا به قط؛ لأن واقع

_ 1 لقد أقيم في الجزائر سنة 1964 مؤتمر لهذه الغاية شاركت فيه جميع الدول العربية. وإذا لم يكتب للمحاولة النجاح الكامل في ذلك الحين، فلا مانع من إعادة الكرة في محاولة جديدة.

التدريس الجامعي في كثير من البلاد العربية يؤكد اليوم أنا قطعنا أشواطًا في هذا الصدد، "فالدراسات القانونية والاجتماعية بوجه عام إنما تدرس باللغة العربية، وكذلك الدراسات العلمية من طبيعة وهندسة ورياضة، بل يدرس في جامعات الجمهورية العربية المتحدة نظريات الذرة والإليكترونات باللغة العربية، ولم يبقَ إلا بعض الدراسات الطبية التي لم تستكمل وسائلها في المكتبة العربية"1. وإذا تيسر وضع المعجمين اللذين أشرنا إليهما آنفًا فنحن نؤيد كل التأييد استعمال الكلمات المدونة فيهما، على حالها التي وردت عليها، ولو كان لدى المؤلفين أفضل منها، "على أن يبين المؤلف في آخر كتابه أو في هوامشه نقده والكلمة المفضلة لديه، لتنظر فيها لجنة المعجم فتقرها إذا اقتنعت بها في الطبعة الجديدة، ويقضي ذلك بأن يطبع المعجم لا أقل من مرة كل ثلاث سنوات"2. وإنا لفي أشد الحاجة إلى عقد مؤتمر لغوي عام لتبسيط قواعد اللغة، وتيسير كتابتها وطباعتها. ومن المعلوم أن مؤتمر التعريب المنعقد بالرباط سنة 1961، والذي انبثق عنه المكتب الدائم لتنسيق التعريب، قد اتخذ طائفة من التوصيات، كان من بينها "وضع كتاب في قواعد اللغة والنحو يراعى فيه أن يكون مبسطًا واضحًا سهل التناول، وأن

_ 1 هذا ما أفتى به مجمع اللغة العربية في القاهرة تحت عنوان "حتى علوم الذرة والإلكترونات تدرس باللغة العربية" لما استفتاه المكتب الدائم لتنسيق التعريب، انظر اللسان العربي ص98. وذلك أيضًا ما اقترحه المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة تحت عنوان "ضرورة التعجيل بتعريب التعليم" انظر اللسان العربي أيضًا ص105. 2 هو اقتراح الدكتور أحمد شوكت الطي الأستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق، وذلك في مقاله باللسان العربي ص136 تحت عنوان: "اللغة العريبة طاقات خلاقة، ولكن تنقصنا وسائل التنسيق".

يزين بفهارس دقيقة تمكن الباحث من العثور على ما يريد بأقل مشقة". ولقد اقترح كثير من الباحثين، في عدد من البلدان العربية، طرائق لشكل الكلمات كتابة وطباعة، وما يزال التنافس شديدًا بين أولئك الأفراد، ولكن الخطأ يكمن هنا، فإن هذه المشكلة لا تعالج بصورة فردية، بل في مؤتمر عام كبير. ومهما نحاول التجديد فلا مفر من الإبقاء على الحروف العربية بأشكالها الراهنة، على أن نرمز إلى بعض ما ينقصنا من الأصوات الأجنبية. وكل محاولة لاستبدال الحروف اللاتينية بالأبجدية العربية مقضي عليها بالإخفاق، لسنا نحن نقول هذا بل ينادي به المستشرقون: "فلا تجاوز بعض الناس الحق إلى الباطل، فاقترحوا استبدال الحروف اللاتينية بالإبجدية العربية، ولكني أعتقد أن مثل هذا المشروع مكتوب عليه الفشل؛ لأن العربية غير التركية، وأيقنت أن الخط العربي سيدوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"1. على أنه يتحتم علينا تشكيل الحروف كتابة وطباعة، ضبطًا للفظ بما تمليه قواعد الإعراب، وتيسيرًا للقراءة الصحيحة التي يقال فيها دائمًا عن العربية: إن علينا أن نفهمها لنقرأها، بينما نقرأ غيرها فنفهمها. ومن المناسب ألا نفرق في هذا الصدد بين الكتب المؤلفة للمبتدئين وكتب المطالعة للمثقفين، مع التخفف من بعض الحركات التي

_ 1 المستشرق شارل بيلا، الأستاذ في جامعة السربون، في مقاله السابقة "اللغة العربية والعالم الحديث" ص54.

لا حاجة إليها على النحو الذي أوضحه بعض الباحثين1. وخليق بنا هنا أن ندرك أن تيسير العربية لا ينبغي أن يخص به أبناؤها وحدهم، فقد كانت هذه اللغة العالمية وما تزال مطلوبة من غير بنيها، ولعل أقدم محاولة للاتصال بالثقافة العربية ترتد إلى مدرسة المترجمين في طليطلة، وهي المدرسة التي أنشأها ألفونسو العالم "1252-1284" ثم تعهدها بالرعاية رايموندو المطران، وتيسر لها أن تنقل عن التراث العربي كثيرًا من الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات والطبيعة2، وما برح الأجانب إلى يومنا هذا يتعلمون اللغة العربية ليفهموا تراثنا وحضارتنا، ولا سيما ما ارتد إلى ماضينا التليد، ولكنا نود بلا ريب أن يتجاوزوا الماضي إلى الحاضر، فيدركوا روح الأمة العربية في واقعها الذي تعيشه اليوم، ومن الراغبين في الاستشراق من يقبل على دراسة العربية بهذا الروح وبهذه الحماسة، غير أنهم بعد أن يقضوا في تحصيلها مراحل طوالًا يشعرون بصعوبة قواعدها وصعوبة كتابتها شعورهم بمنطقيتها وجمال حرفها، فهل علينا -من أجل ذلك- أن ننحي بترثنا اللغوي وبحرفنا الجميل الذي يعد بذاته ضربًا من الفن الرفيع؟ إن الباحثين الأجانب أنفسهم يعلمون أن صورة الحرف العربي مرتبطة

_ 1 انظر مثلًا في اللسان العربي، العدد الخامس، ص58 بحث الأستاذ رشاد دارغوث "هل اللغة العربية صعبة؟ كيف يمكن تفسيرها؟ ". وقد اقترح الأستاذ هنا حذف العلامة المعروفة بالسكون حيثما وجدت، وعدم تحريك الحرف في حال الوقف، وحذف الحركات قبل حروف المد، وحذف الفتحة قبل تاء التأنيث، وأمورًا أخرى تراجع في موضعها، ومعظمها مستساغ ومقبول. 2 انظر بحث الدكتور الطاهر أحمد مكي، أستاذ الأدب الأندلسي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بعنوان "تيسير العربية للأجانب" اللسان العربي، عدد 5، ص 64.

بكتابة القرآن الذي انتشر بانتشار الإسلام، وبفضل الكتابة العربية حمل الإسلام خصائص العرب إلى كل مكان أمسى عقيدة عامة فيه: فهذا إرنست كونل يؤكد "أن الإسلام منح العرب اللغة والخط، وانتشر الخط العربي في العالم الإسلامي فأصبح رابطة لجميع الشعوب الإسلامية رغم الحدود الحاضرة"1. ومن المعروف أن الخط العربي -بعد أن بات عنصرًا من عناصر الزخرفة الجميلة- قام بسياحات بعيدة المدى، وترك أروع الآثار، ولقي في كل مكان هاجر إليه في أوربة من العناية والاحتفال ما لقيه في أرض العرب والمسلمين، حتى قال مارسيه عن قصر إشبيلية: "إنه رغم الترميمات التي أدخلت عليه بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر ما ينفك يكشف عن مشاركة الفنانين الغرناطيين، ويؤكد بصورة قاطعة تأثير طابع الفن الإسلامي على الملوك المسيحيين"2. وندرك قيمة الكتابة العربية حين نعلم مثلًا أن الحرف العربي قد امتد إلى أنحاء لا يحكمها العرب في الجزيرة الإيبيرية، حتى استعمل المستعربون الخط العربي لكتابة اللاتينية نفسها، وإذا بألفونس يسك النقود بالعربية، وإذا ببطرس الأول المتوفى عام 1104 من ملوك الأراغون لا يحسن إلا العربية كتابة وخطًّا3. وبعد سقوط غرناطة كان للموريسكو "المسلمين الذين لم يهجروا البلاد" لهجة رومانسية "أي محرفة عن اللاتينية" لكنهم ظلوا يستخدمون

_ 1 قارن بفن الخط العربي "المقدمة 1943" ذكره الدكتور عفيف بهنسي في بحثه القيم: الحرف العربي وجولاته في العالم ص 77 "اللسان العربي". 2 انظر Marcais lArt musulman, p 169 ed 1962 3 هذا ما يقوله جورج غراف Georges Graff، وقارن بالحرف العربي وجولاته في العالم ص81.

الحرف العربي لكتابة ما يعبرون عنه بلهجتهم، وقد أطلقوا عى أدبهم هذا لقب الجمياد al- Jamiado وهو محرف عن لفظ "أعجمي" الذي يسمى به في العربية من لم يكن عربيًّا1. فإذا كان ممكنًا أن يكتب الناس غير العربية بالخط العربي والحرف العربي، لما استشعروا فيه من الجمال والفن، فليس من المنطق في شيء أن نضحي بذلك كله ابتغاء تيسير الكتابة العربية على الأعاجم. وخير من هذا في نظرنا أن يقترح المختصون في التربية لا فقهاء اللغة المراحل التدريجية التي ينبغي أن يمر بها الطالب الأجنبي حتى لا يجد عسرًا في تعلم العربية. وأكثر ما قيل في تيسير القواعد والخط العربي يصدق على غير العربي، مع توسع في تعليم الأجنبي العربية المكتوبة المبسطة الحية لا العربية الأدبية المتقعرة التي أوشكت أن تموت2. ولا بد -لحل هذه المشكلة حلًّا جذريًّا- من دعوة الحكومات العربية وجامعة الدول العربية إلى فتح مراكز ثقافية ومعاهد لتعليم العربية لغير العرب في مختلف بلدان العالم، ولا سيما في الأقطار الإسلامية غير العربية. ولا بد -من الزاوية التربوية المحضة- من العناية بإعداد المتخصصين في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وتأليف الكتب الميسرة، ووضع ما يصلح لهذا التعليم من الأفلام المصورة والأشراطة المسجلة. والمشكلة الأخيرة التي تعترض مسيرة العربية في العصر الحديث تتمثل في هذا الجدل البيزنطي العقيم حول العامية والفصحى. فمن دعاة العامية اليوم من يحتج بعصوبتها وتعقيدها، وقد يبينا كيف يمكن تيسيرها،

_ 1 قارن بالمرجع نفسه، الصفحة ذاتها. 2 هنالك اقتراحات تفصيلية وجيهة دعا إليها الدكتور الطاهر أحمد مكي في بحثه الذي ذكرناه سابقًا "تيسير اللغة العربية للأجانب" فتراجع في موضعها.

ومنهم من يميل إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية أسوة بالأتراك، وقد أوضحنا أن الحرف العربي أجمل الحروف وأن لا جدوى من استبدال غيره به، ومنهم من يبالغ في تصوير الخيبة التي تساور الأوربي المستشرق عندما يرى في البلد العربي الذي يقدم إليه أن عامة الناس تتحدث بغير الفصحى التي تعلمها، وقد اقترحنا واقترح غيرنا ما نظنه كافيًا لسد هذه الثغرات جميعًا. والحق أنا عندما نأخذ بتطبيق هذه النظريات، حلًّا لتلك المشكلات، لن نجد مسوغًا للدعوة إلى العامية؛ لأن عدواها لا تسري إلا حيثما يكون الجهل والمكابرة والعناد. ذلك بأن الأقطار الناطقة بالضاد مترامية الأطراف، تمتد من المحيط إلى المحيط. وإنك لتجد حتى في القطر العربي الواحد من تعدد اللهجات ما لا ينقضي له عجبك، ففي لبنان -على ضيق رقعته بالنسبة إلى مصر مثلًا- تفاوت ملحوظ بين لهجات الجنوب والشمال والبقاع وكسروان1، بل الأحياء في كل مدينة من مدن لبنان تتفاوت لهجاتها تفاوتًا عجيبًا، فلهجة الميناء في طرابلس تختلف عن كل من لهجات ساحة التي وباب التبانة وبوابة الحدادين. ولئن بلغ التفاوت بين الأحياء في كل مدينة، وبين الأقاليم في كل قطر، وبين الأقطار المتباعد بعضها عن بعض، هذا الحد الواسع الهائل، فما هي اللهجة العامية التي يسعنا اختيارها من بين هذا الركام المختلط العجيب؟ إلى هذا لفت الدكتور طه حسين الأنظار وهو يقرع ناقوس الخطر

_ 1 وكذلك في مصر تختلف لهجة الصعيد عن لهجة البحري، وفي سورية تختلف لهجات دمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية اختلافًا غير قليل.

ويقول: "أحب أن ألفت نظر أدبائنا الذين يطالبون بالالتجاء إلى اللهجات العامية إلى شيء خطير ما أرى أنهم قد فكروا فيه فأحسنوا التفكير. هو أن العالم العربي الآن، وكثيرًا من أهل العالم الشرقي كله يفهم العربية الفصحى ويتخذها وسيلة للتعبير عن ذات نفسه وللتواصل الصحيح القوي بين أقطاره المتباعدة، فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتدابر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سورية ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين، وكما يترجم هؤلاء عن الفرنسين. ولنسأل أنفسنا آخر الأمر: أيهما خير؟ أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى، يفهمها أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق، أم أن تكون لهذا العالم لغات بعدد الأقطار التي تتألف منها، وأن يترجم بعض عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة هذه فهي خليقة بأن يجاهد في سبيلها المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون". ومهما تتطور اللهجات الإقليمية العامية في بعض الأقطار العربية، ومهما يحاول الدعاة إليها وضع القواعد لها والأصول، فمما لا ريب فيه أن العامية متفرعة عن الفصحى، ومتأثرة بها، وإن كانت أحيانًا تشويهًا وتحريفًا لها، وليس لداء العامية من علاج إلا محاربة الأمية، وتعميم التعليم الإجباري، وتمكين أجهزة الإعلام في الدول العربية من الارتفاع بالعامية إلى الفصحى المبسطة الميسرة، فيما تبثه بالإذاعة والتلفزيون من أشرطة مسجلة وأسطوانات، وفيها تنشره من أدبنا المسرحي الحي

الذي يتكاثر مع الأيام غير متجانف عن تفصيح العامية ولا تيسير الفصحى. ومرة أخرى نقول: إن العربية الفصحى -التي انطوت على خصائصها فصول هذا الكتاب- ليست هي المتخلفة، فلقد أدت دورها في حضارة الإنسان وما تزال تؤديه، وإنما التخلف فينا، في عقلياتنا ونفسياتنا، وفي مناهجنا وطرائقنا، وفي تلهينا بالقشور عن اللباب. ولسوف تظل العربية الفصحى نافذتنا الوحيدة التي نطل منها على العالم كله شرقًا وغربًا، ولسوف تظل رمز وحدتنا ما كر الجديدان، وتعاقب الملوان.

خاتمة

خاتمة: أردنا هذا الكتاب ليكون مرآة للغة العرب، بوجهها الصريح دون طلاء، وملامحها المعبرة دون اصطناع، فلم يكذب القلم ما أردناه، وكان كتابنا حقًّا كالمرآة! وفي مرآة هذه الكتاب رأينا لغة العرب مرنة مطواعًا، لها من خصائصها في الاشتقاق، ومزاياها في التوليد، وأسرارها في الصياغة، وطرائقها في التعبير، ما يفي بترجمة روائع الفكر، ومبتكرات العلم، وبدائع الفن، وما يلبي مطالب الحياة والأحياء في الأنفس والآفاق. ولم نزعم في هذا كله أن العربية كانت بدعًا من اللغات، ولم نذهب إلى تفضيلها عليهن أو على كثير منهن انسياقًا وراء عاطفتنا الدينية أو شعورنا القومي، ولم نصدق الأسطورة الخيالية التي تحيط العربية بشيء يسمو على الفكر، ويعلو عن السحر، ويكاد يلحقها بالمعجزات، ويراها لغة العبقرية أو يرى فيها عبقرية اللغات! ذلك بأنه لا سبيل إلى تفضيل لغة على أخرى، وإنما يكون التفاضل بين الوسائل المتبعة لتنمية اللغات وإغناء تراثها التعبيري.

ولقد رأينا -في أكثر مباحث الكتاب- أن وسائل التنمية في العربية -على تنوعها وتعددها- آخذة في الزيادة والاتساع يومًا بعد يوم. إننا آمنا بأن المنهج الصالح في دراسة فقة اللغة هو المنهج الاستقرائي الوصفي الذي يعترف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية بها تستقصي الملامح المميزة لكل مجتمع، فلم نحاول أن نفرض معايير اللغويين العرب المتقدمين ولا آراء الباحثين المعاصرين كما تفرض أحكام القانون، بل قمنا أو رغبنا في القيام بوظيفة اللغوي في وصف الحقائق، ونقد الوثائق، وتمحيص النصوص، والموازنة بين الآراء قديمها وحديثها، ومعتدلها ومغاليها، واستخلصنا بعد ذلك أحكامنا بتأنٍّ وروية، ثم لممنا شتات هذه الأحكام فكانت ضربة قاصمة للشعوبية. إن الباحث المنصف قد وجد في كتابنا هذا -وهو في معزل عن المنطق الصوري، وبمفازة من عدواه- أهم خصائص العربية الفصحى، لا من خلال الزاوية التي تعبجه أو تعجبنا، بل من خلال مقارنة الخصائص في اللغة الفصحى بما يقابلها في اللهجات الأخرى أو في اللغات التي تربطها بها أواصر القربى. وفي ضوء هذا المقياس العلمي الدقيق، لم يكُ من ضرورة لتعليل كل صوت لغوي أو رمز دلالي في العربية بأنه على وجه الحكمة كيف وقع. ولم يكُ من مسوغ للظن بأن خصائص العريبة تميز لهجة قريش لذاتها، فإنما ميزتها هاتيك الخصائص لتمثلها خير ما في اللهجات العربية الصحيحة بالتوليد والاشتقاق، وخير ما في اللغات الأجنبية بالنقل والتعريب. وفي دراستنا لخصائص العربية، برز في كل فصل من فصول الكتاب وجه عربي أصيل؛ فالإعراب ليس قصة، ولقد ورث فصحاء العرب لغتهم آيات معربات بينات. ولمح بعض العلماء في كل حرف

عربي قيمة تعبيرية موحية يسرت لهم القول بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله. والثنائية واضحة في نشأة العربية وأخواتها الساميات، خلافًا لما يفترضه المذهب اللغوي الجديد من ابتداء الكلمات طويلة في أصل بنائها، ثم ميلها نحو التقصير. والاشتقاق في ظلال دلالته الوضعية وسيلة رائعة للتمييز بين الأصيل والدخيل، والحسي فيه أسبق في الوجود من المعنوي المجرد، لكن في الاشتقاق الكبير تجوزًا في التعبير، وفي الاشتقاق الأكبر تعسفًا في التأويل. والنحت أيضًا وسيلة من الاشتقاق نادرة لا يلجأ إليها إلا عند الضرورة القصوى, ولا بد من تنزيل المنحوت على أحكام العربية وصياغته على وزن من أوزانها. وفي فصل "الأصوات العربية" لاحظنا أن علماءنا المتقدمين عرفوا لكل حرف صوته صفة ومخرجًا، مثلما عرفوا له إيحاءه دلالة ومعنى، وأن وصفهم لجهاز النطق ووظائف أعضائه اتسم بالدقة والاستقصاء، وأن علم الأصوات اللغوية إنما بني على مباحثهم في التجويد. وفي العربية ظاهرة مدهشة تتعلق بأصواتها، فقد ظلت محتفظة بها ثابتة الأصول، ومعروفة الأنساب. ولها محصول لغوي ضخم من المترادفات والمشتركات والأضداد أتاحه لها تنوع الاستعمال. وليست العربية باللغة الجامدة، فهي تقترض من اللغات كما تقرضها، وتتأثر بها مثلما تؤثر فيها، وتدخل في ثروتها الكثير من ألفاظ الحضارة الإنسانية، ومن مصطلحات العلوم والفنون، بعد أن تسبكها على قوالبها سبكًا. وتنزلها على أوزانها تنزيلًا. تلك لغة العرب بوجهها الصريح دون طلاء، وملامحها المعبرة دون اصطناع، كما برزت بوضوح في مرآتها: هذا الكتاب.

جريدة المراجع على حروف المعجم

جريدة المراجع على حروف المعجم: 1- باللغة العربية 1: أبحاث ثنائية السنية "للأب مرمرجي الدومينيكي" ثلاثة كتب صغيرة 1937 ثم 1947 ثم 1950م. الإتباع والمزاوجة "لأحمد بن فارس" نشره المستشرق رودلف برو بمدينة غيسن سنة 1906م "في 24 صفحة". إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر "لأحمد الدمياطي الشهير بالبنا" نشر عبد الحميد أحمد حنفي. القاهرة سنة 1359هـ. الإتقان في علوم القرآن "للسيوطي" جزآن، مطبعة حجازي بالقاهرة ط3، 1360هـ-1941م.

_ 1 لم نسرد في هذه الجريدة إلا الكتب التي رجعنا إليها أكثر من مرة. أما ما ذكرناه مرة واحدة فقد اكتفينا بالإشارة إليه غالبًا في الهوامش. ورمزنا بـ"*" قبل عنوان الكتاب إلى ما كثر رجوعنا إليه من المطبوعات والمخطوطات.

إرشاد الأريب: انظر معجم الأدباء. أسرار اللغة: انظر من أسرار اللغة "للدكتور إبراهيم أنيس". * الاشتقاق "لابن دريد" طبع بعناية المستشرق وستنفلد سنة 1853م. * الاشتقاق "لعبد الله أمين" القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط1، 1376هـ-1956م. الاشتقاق والتعريب "للمرحوم عبد القادر المغربي" ط2، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1366هـ-1947م. الأصوات اللغوية "للدكتور إبراهيم أنيس" ط2 سنة 1950م. * أصول النحو = انظر في أصول النحو. * الأضداد "لأبي حاتم السجستاني" ضمن ثلاثة كتب في الأضداد، نشرها الدكتور أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1912م. * الأضداد في اللغة "لابن الأنباري" المطبعة الحسينية بالقاهرة 1325هـ. * إعراب القراءات الشاذة "للعكبري" صورة شمسية للمخطوط بالمجمع العلمي العربي بدمشق "رقم 59". * الاقتراح = كتاب الاقتراح في علم أصول النحو "للسيوطي" ط2 حيدر آباد 1359هـ "ورجعنا أيضًا إلى الطبعة الأولى بحيدرآباد 1310هـ". * الأمالي "لأبي على القالي" ط دار الكتب بالقاهرة 1344هـ-1926م. إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن "للعكبري" مطبعة التقدم، القاهرة 1347هـ.

الإنصاف في مسائل الخلاف "لابن الأنباري" مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1364هـ. الإيضاح في الوقف والابتداء "لابن الأنباري" مخطوطة الظاهرية، قراءات 36. البداية والنهاية في التاريخ "لابن كثير" 14 جزءًا، بالقاهرة 1351-1358هـ. البرهان في علوم القرآن "للزركشي" بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية 1376هـ-1957م. * بغية الوعاة "للسيوطي" القاهرة 1326هـ. * تاريخ بغداد "للخطيب البغدادي" ط الخانجي بالقاهرة 1349هـ-1931م. تاريخ اللغات السامية "لإسرائيل ولفنسون: أبي ذؤيب" القاهرة سنة 1929م. تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد "لابن مالك" طبع مكة المكرمة. التصحيف والتحريف، وشرح ما يقع فيه "لأبي أحمد العسكري" طبعة ناقصة "نصف الكتاب" القاهرة 1326هـ. * تهذيب التهذيب "لابن حجر العسقلاني" حيدر آباد 1325-1327هـ. الجامع لأحكام القرآن "للقرطبي" دار الكتب بالقاهرة 1358هـ-1939م.

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "للخطيب البغدادي" مخطوطة البلدية بالإسكندرية "برقم 3711" وقد أعارني الدكتور بوسف العش نسخة مصورة عن هذه المخطوطة. * جمهرة لغة العرب "لابن دريد" حيدر آباد 1344هـ. * الخصائص "لابن جني" الجزء الأول فقط: مطبعة الهلال بمصر 1331هـ-1913م "وإذا ذكرنا الجزء الثاني فإنما نريد طبعة دار الكتب بالقاهرة 1381هـ". * خصائص اللغة "مخطوطة الظاهرية، تصوف 206". والكتاب منسوب إلى الثعالبي، وهو في الحقيقة مختصر من كتابه "فقه اللغة وسر العربية". والذي اختصره هو الإمام النسفي المفسر المشهور. وقد اطلعت على نسخة منه أعارنيها الأستاذ أحمد عبيد. دراسات في اللغة "للدكتور إبراهيم السامرائي" بغداد سنة 1961م. * دلالة الألفاظ "للدكتور إبراهيم أنيس" القاهرة ط1 سنة 1958م. * ذيل الأمالي والنوادر "لأبي علي القالي" دار الكتب بالقاهرة سنة 1344هـ-1926م. * الرد على النحاة "لابن مضاء القرطبي" نشره وحققه الدكتور شوقي ضيف، ط1 "دار الفكر العربي" 1336هـ-1947م. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني = تفسير الآلوسي 30 جزءًا، المطبعة المنيرية بالقاهرة دون تاريخ. سر الليال، في القلب والإبدال "لأحمد فارس الشدياق" الأستانة، المطبعة العامرة 1248. شرح شذور الذهب "لابن هشام" القاهرة 1305هـ.

شرح المفصل "لابن يعيش" إدارة الطباعة المنيرية بالقاهرة. الشعر والشعراء "لابن قتيبة" بتحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة سنة 1364هـ. شفاء الغليل، فيما ورد في كلام العرب من الدخيل "لشهاب الدين الخفاجي" القاهرة مط. السعادة 1325هـ. * الصاحبي = الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "لأحمد ابن فارس" المكتبة السلفية بالقاهرة 1328هـ. طبقات النحويين واللغويين "للزبيدي" طبع بالقاهرة 1373هـ-1954م. * العربية = دراسات في اللغة واللهجات والأساليب "ليوهان فك" نقله إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار، القاهرة 1951م. * العكبري = إذا أطلقناه أردنا الصورة الشمسية لمخطوطته: "إعراب القراءات الشاذة". * العَلم الخفاق = العلم الخفاق من علم الاشتقاق "لمحمد صديق حسن خان " المكتبة الأزهرية، دون تاريخ. * علم اللغة "للدكتور علي عبد الواحد وافي" ط3، القاهرة 1369هـ-1950م. علوم الحديث ومصطلحه، عرض ودراسة "لمؤلف هذا الكتاب" مطبعة جامعة دمشق 1379هـ-1959م. وانظر الطبعة الرابعة سنة 1966 بدار العلم للملايين بيروت. فرائد اللغة في الفروق "للأب هنير لامنس اليسوعي" بيروت المطبعة الكاثوليكية 1889م. * فقه اللغة وسر العربية "للثعالبي" مطبعة الاستقامة بالقاهرة، دون تاريخ.

* فقه اللغة "للدكتور علي عبد الواحد وافي" ط4، القاهرة 1375هـ-1956م. * فقه اللغة "للأستاذ محمد المبارك، عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق" مطبعة جامعة دمشق 1377-79هـ/ 1958-60م. * الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية "لجرجي زيدان" القاهرة، ط2 سنة 1904. فوات الوفيات "لابن شاكر الكتبي" القاهرة 1299هـ "مجلدان". * في أصول النحو "للأستاذ سعيد الأفغاني، رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب وعميد هذه الكلية في جامع دمشق" مطبعة جامعة دمشق ط2، 1376هـ-1957م. * القاموس المحيط "للفيروزابادي" ط3 بولاق سنة 1301هـ. * القراءات الشاذة = انظر إعراب القراءات الشاذة "للعكبري". * القول المفيد: انظر نهاية القول المفيد. الكتاب = كتاب سيبويه، ط. سنة 1316هـ. الكشاف = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل "للزمخشري" القاهرة، مطبعة مصطفى محمد، ط1، 1354هـ "4 أجزاء". الكفاية في علم الرواية "للخطيب البغدادي" حيدر آباد، 1357هـ. كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال "للمتقي الهندي" 8 أجزاء في 4 مجلدات، حيدر آباد 1313هـ. * لسان العرب "لابن منظور" طبعة بولاق، 20جزءًا.

لسان الميزان "لابن حجر العسقلاني" حيدر آباد 1331هـ. * اللغة "لفندريس" تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، القاهرة 1950. * اللغة بين المعيارية والوصفية "للدكتور تمام حسان" القاهرة، 1958م. اللغة العبرية "ربحي كمال" مطبعة جامعة دمشق 1378هـ-1958م "ط1". * اللهجات: في اللهجات العربية "للدكتور إبراهيم أنيس" ط2، القاهرة 1952م. * ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه "للأصمعي" مخطوطة الظاهرية، 129 تصوف. * ما وقع في القرآن من المعرب "للسيوطي" مخطوطة صغيرة مضمومة إلى مخطوطة "المهذب" للسيوطي أيضًا. وقد أعارني إياها الأستاذ أحمد عبيد. مباحث في علوم القرآن "لمؤلف هذا الكتاب" مطبعة جامعة دمشق، 1377هـ-1958. وط5 سنة 1387هـ-1967م في دار العلم للملايين. * المباحث اللغوية في العراق "للدكتور مصطفى جواد" معهد الدراسات العربية العالية القاهرة 1955. * المبرد = إذا أطلقناه فإنما نريد مخطوطة "المذكر والمؤنث". * المتوكلي = انظر ما وقع في القرآن من المعرب "للسيوطي".

* مجلة التربية والتعليم "أبحاث متفرقة" بغداد. * مجلة لغة العرب "أبحاث متفرقة، أكثرها للأب أنستاس ماري الكرملي". * مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق "أبحاث متفرقة". * مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة "أبحاث متفرقة". * المجمل "لأحمد بن فارس" الجزء الأول فقط، 1331هـ-1913م "مطبعة السعادة بالقاهرة". * محنة الأديب "إملاء أبي علي الحسين بن أحمد الاستراباذي" مخطوطة الظاهرية، مجموع 9 "138". مختصر تهذيب الألفاظ "لابن السكيت" المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1897م. * المخصص "لابن سيده" بولاق 1316هـ "17 جزءًا". * المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية "لعبد المجيد عابدين" القاهرة ط1، 1951م. * المذكر والمؤنث "للمبرد" مخطوطة الظاهرية، مجموع 113. مراتب النحويين "لعبد الواحد اللغوي" القاهرة 1375هـ. * المزهر = المزهر في علوم اللغة وأنواعها "للسيوطي" ط3، دار إحياء الكتب العربية. * المصطلحات العلمية "في اللغة العربية في القديم والحديث" لأمير مصطفى الشهابي، معهد الدراسات العربية العالية، 1955م. معجم الأدباء "لياقوت الحموي" ط. مرجليوث، القاهرة 1907-1925م "وانظر طبعة دار المأمون أيضًا".

* المعرب "من الكلام الأعجمي، على حروف المعجم" للجواليقي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار الكتب بالقاهرة، 1361هـ. * المعيارية = انظر اللغة بين المعيارية والوصفية "للدكتور تمام حسان". * المفضليات "للضبي" بتحقيق شاكر وهارون، القاهرة. * المقاييس = مقاييس اللغة "لأحمد بن فارس" ط1 القاهرة 1366هـ، تحقيق وضبط عبد السلام هارون. * مقدمة لدراسة لغة العرب "لعبد الله العلايلي". * من أسرار اللغة "للدكتور إبراهيم أنيس" ط1 القاهرة 1950م. "وقد رجعنا أيضًا في بعض الفصول إلى الطبعة الثانية 1958م. * مناهج = مناهج البحث في اللغة "للدكتور تمام حسان" القاهرة 1955م. المنصف "لابن جني" القاهرة 1373هـ. * منهج البحث في الأدب واللغة "القسم المتعلق باللغة للأستاذ مييه" نقله إلى العربية الدكتور محمد مندور، بيروت، دار العلم للملايين 1946م. * المهذب "فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي. مخطوط صغير يتلو مخطوط "المتوكلي = ما وقع في القرآن من المعرب للسيوطي أيضًا"، والمخطوطان في مجلدة واحدة أعارنيها الأستاذ أحمد عبيد. * النحو العربي على ضوء اللغات السامية = انظر المدخل إلى دراسة النحو العربي ... إلخ "لعبد المجيد عابدين".

* النشر في القراءات العشر "لابن الجزري" طبعة دمشق 1345هـ، نشر محمد أحمد دهمان. * نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها "للأب أنستاس ماري الكرملي" القاهرة 1948. * نهاية القول المفيد في علم التجويد "لمحمد مكي نصر" القاهرة 1308هـ "ط1 ببولاق". وفيات الأعيان "لابن خلكان" مجلدان، القاهرة 1310 "المطبعة الميمينة".

باللغات الأجنبية

2- باللغات الأجنبية: - Le langage (B. Leroy) Paris, 1905. - Le langage (J. Vendryes) Paris, 1923, dern. edit. Language (L. Bloomiield) New York, 1938, edit. 1935. - Language, its nature, development and origin (G. Jespersen) London, 1950. (Lea) langues du monde par un groupe de linguistes sous la direction de A. Meillet et Marcel Cohen, lere 6dit. Paris, 1924. - La linguistique (Jean Perrot) coll. que sais-je, Presses Univ. de France,, 1953. Nene Baitrage zur semilischen sprachwisaen schaft (Noldeke) Strasbourg 1910. Personality and language (Firth) in Society-sociological Review, vol. II, sect. Two, I960. Precis de Stylislitique (Bally) , Geneve, 1905. - (La) vie des mots, etudiee dans leur signification, Paris, 1950. Vie de language (Witnney) trad, francaise. Seme edit. Paris 1880. Valkesprache und Schriftsprache in alten Arabian (K. Vol-lers) , Strasbourg, 1906.

مسرد الأعلام "الأشخاص فقط"

مسرد الأعلام 1 "الأشخاص فقط": أ: آدم أبو البشر 33، 34 آدم بن أبي إياس 129 ح1 آم متز 209 إبرايهم "عليه السلام" 50 إبراهيم أنيس 59 ح1، 66 ح1، 101 ح2، 126، 136، ح3 137 ح3، 213، 248، ح1 276 ح3 إبراهيم السامرائي 124 ح3، 332 ح2 إبراهيم مصطفى 333 ح2 إبراهيم بن الهيثم 129 ح1 أبو أحمد الحاكم 129ح1 أحمد راتب النفاخ 81 ح1 أحمد شوكت الشطي 354 ح2 أحمد عبيد 298 ح3، 316 ح2، 317 ح2 أحمد فارس الشدياق 205 ح4 أحمد بن فارس = انظر ابن فارس أحمد محمد شاكر 132 ح2، 178ح4 الأخفش الأكبر * 73 ح4، 175 أخناتون 50 إرنست كونل 357

_ 1 أسقطنا في ترتيب الأسماء الأحرف التالية: الـ، أبو، ابن. ورمزنا بحرف "ح" إلى الحاشية، وأشرنا بنجمة هكذا "*" قبل رقم الصفحة إلى الموضوع الذي ترجم فيه العلم المبحوث عنه.

الأزهري 178 ح4 أسامة بن الحارث 198 الأسود بن يعفر 66 الأشموني 233 ح3 الأصمعي "عبد الملك بن قريب" 23، * 63ح3، 75، 98، 175، 222، 227 ح7، 230، 236، 302 الأعشى 98، 178 ح2 الأفغاني = انظر سعيد الأفغاني الآلوسي "صاحب روح المعاني 177 ح1 امرؤ القيس بن عمرو "ملك العرب" 75 أمنوفيس الثالث 50 أمنوفيس الرابع 50 ابن الأنباري "أبو بكر" 129 ح1، 181 ح4، 306 ح2، 307 ح1، * 309 ح1، 311 ح2 أنستاس ماري الكرملي "الأب" 148 ح2، 153، 154، 180 ح2، 266 ح1، 272 ح1، 343-345 أوس بن حجر 66 أولسهوزن 48 إياس بن قبيضة 66 إيكهورن 47 ب: البراق بن روحان 66 برجيه 70 ح1 بروكلمان 48، 329 برونو "رودلف" 103 ح1، 240 ح4 البشبيشي "صاحب التذييل" 24 بطرس الأول 357 البلطليوسي * 214 ح6، 227 ح4 أبو البقاء = انظر العبكري. البلطي "أبو الفتح عثمان بن عيسى" * 265 ح2 بللي 169 ح1، 305 بلوك 32 ح1 بلومفيلد 21 ح2 بيرو 19 ح1، 21 ح1، 22ح1 35 ح1، 45 ح1، 49 ح2 البيضاوي 341 خ4 ت: التاج السبكي 241 التنوخي = انظر عز الدين التنوخي.

تمام حسان 30 ح3 ث: الثعالبي "صاحب فقه اللغة" 24، 128 ح2، 179، 244 ح2، 294 ح5، 298 ح1 * 322 ح5 ثعلب "أبو العباس، أحمد بن يحيى" * 296 ح2، 303 ح2، 322 ح3 ج: جابو 52 ح1 الجاحظ 125، 132 جرجي زيدان 159 ح1، 166 ح1، 342، 343 الجرمي "أبو عمر النحوي" * 331 ح1 جرير "الشاعر المشهور" 77، 81 جسبرسن 148 ح1، 166 ح4 أبو جعفر الإدريسي 265 ح4 أبو جعفر "من قراء المدينة" 78 ابن جني "أبو الفتح، عثمان" 23، 30، 33، 34، * 61 ح1، 62، 63، 74، 82، 94، 114، 115، 135، 136، 146، 147، 149-152، 163 ح2، 167، 170-172، 186-188، 192-195، 199-205، 209، 211، 226 ح5، 235، 264، 299 ح5، 235، 264، 299 ح1، 333 الجواليقي "صاحب المعرب" 24، 187 ح2، 179 ح1، 270 ح3، * 317 ح4، 318 ح1، 324 ح3 جورج غراف 357 ح3 الجوهري "أبو نصر الفارابي، صاحب الصحاح" * 112 ح3، 178، 246 ح3، 322 ح4 ح: أبو الحاتم السجستاني "سهل بن محمد" 27، 28، * 75 ح3، 130 ح4 178، 214، 230 ح3 239، 241، 310 حاتم الطائي 66 الحاجري "طه" 125 ح3 حام "بن نوح" 48 الحجاج بن يوسف الثقفي 295 الحريري "صاحب المقامات" * 93 ح3

حسني سبح 325 ح1 حمزة بن الحسن الأصبهاني 188، 294 ح5 حمزة "القارئ" 133 حمورابي 124 ح2 أبو حنيفة "الإمام" 120 أبو حيان "الأندلسي" * 64 ح2، 76، 215 ح4، 246 ح1 خ: خاطر "الدكتور مرشد" 325 ح1 ابن خالويه 175، 294 ح4، 296، 302، * 329 ح2، 330، 331 الخاني "محمد جميل" 325 ح1 الخطيب البغدادي 122 ح3، 123 ح2 الخفاجي "شهاب الدين" 25 ابن خلدون 110، 112 خلف الأحمر 75 الخليل بن أحمد الفراهيدي 150، 168، 184، 188، 189، 190، 200، 238، ح3، 244، 245، 280 ح5، 302 خليل هنداوي 350 ح1 خويلد بن خالد "الشاعر" 66 الخياط "الدكتور أحمد حمدي" 325 ح1 أبو خيرة "من فصحاء الأعراب" 114 د: الدارمي 130 ح2 ابن دحية 244 ح1 ابن درستويه * 303 ح1، 313، 322 ح2 درمستنز 289 ح1 ابن دريد "صاحب الجمهرة" * 75 ح2، 79 ح5، 87 ح7، 95 ح4، 159، 160، 162، 167، 175، 178 ح2، 179، 189-192، 193 ح2، 194 ح2، 200، 204، 239 دلافوس، موريس 44 الدمياطي "صاحب إتحاف فضلاء البشر" 134 ح1 دوهامر 293 ذ: ذو جدن "من ملوك اليمن" 300 ذو الرمة 69، 92، 236

أبو ذؤيب الهذلي 66، 254 ر: الراغب الأصبهاني "الحسين بن محمد" * 153 ح1، 178 ح2 رايت "المستشرق" 86 رايموندو "المطران" 356 ربحي كمال 51 ح1 رشاد دارغوث 356 ح1 رفائيل نخلة اليسوعي "الأب" 348 ح1 الرماني 175 رؤبة بن العجاج 79 ح4، 223 ح4 أبو ريدة "محمد عبد الهادي" 209 ح4 رينان، إرنست 48، 293 ز: أبو زبيد الطائي "الشاعر" 66 الزجاج 175، 188 الزركشي "برهان الدين" 120 ح2، 130 ح3 الزمخشري * 85 ح1، 134، 280 ح5 أبو الزناد "التابعي" 100 زهير بن أبي سلمى 226 أبو زيد الأنصاري * 74 ح1، 77، 92، 311 زيد بن عبد الله بن دارم 300 ح1 س: ساطع الحصري 272 ح2، 273 ح5 سام "بن نوح" 48 السجاعي 30 ح2 السجستاني = سبق في "أبي حاتم". ابن السراج "محمد بن السري" 175، 330 ح4 أبو سرار الغنوي 222 سعيد الأفغاني 64، 81، 249 ح1 ابن السكيت "يعقوب" 79 ص4، 92، * 97 ح3، 99، 213، 257 ح2 سلامة الأنباري "الشاعر" 304 سلامة بن جندل "الشاعر" 66 سمرفلت 35 ح3 سميث "أرنولد" 26 ح1 سيبويه * 73 ح1، 102، 103، 110، 150، 232، 264، 302

ابن سيده "صاحب المخصص" 24، 73 ح3، * 80 ح3، 81 ح1، 90، 92، 200 ح2، 232، 234، 294 ح1 ابن سيرين 122 ح3 سيف الدولة 295 السيوطي "جلال الدين" 250، 79 ح1، 82 ح5، 86، 118 ح1، 121 ح3، 127 ح2، 150، 151، 178 ح2 179 ح3، 189، 215 ح4، 227 ح4، 232 ح2، 238 ح3، 241 ح1، 295 ح2، 304 ح4، 311 ح2، 316 ح2، 317 ح1، 318 ح3، 322، 330-332 ش: شارل بيلا 350 ح1، 352 ح2، 355 ح1 شليجل 45 شلوتزر 48 الشيباني = يأتي في "أبو عمر الشيباني" شيذلة 179 ص: ابن الصائغ "أبو الحسن" 215 ح4 الصاحب بن عباد 24 ابن الصانع = انظر ابن يعيش "صاحب شرح المفصل". ط: الطاهر أحمد مكي 356 ح2 طه الحسين 359 طه الراوي 155 ح3 الطبراني 127 ح2 أبو الطيب اللغوي * 96 ح2، 308 ح1 أبو الطيب المروزي الحربي 129 ح1 ظ: الظهير بن الخطير النعماني * 265 ح1 ع: عامر بن حُليس "الشاعر" 66 ابن عامر "القارئ" 133، 134 ح1 عباد بن سليمان الصيمري 30، 150، 151 عباس الدوري 129 ح1

ابن عباس "الصحابي" 30 عبد الحق فاضل 347 ح1 عبد السلام هارون 270 ح5 عبد العزيز بن أبي رواد 129 ح1 عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي 131، 131 عبد الله أمين 161 ح8، 174 ح4 182 ح1، 183 ح2، 185 ح4 و7، 223 ح5، 224 ح1، 225 ح4، 226 ح1، 227 ح5، 228 ح6، 229، ح4، 230 ح4، 231 ح2، 243 ح1، 273 ح5، 333 ح2 عبد الله بن عمر بن الخطاب 129 ح1 عبد الله العلايلي 162-194، 339-342 عبد الله بن مسعود "الصحابي" 229 ح7 عبد الوهاب عزام 318 ح4 عبد يغوث بن وقاص الحارثي 245 أبو عبيد "القاسم بن سلام" 87 ح7، * 99 ح1، 178، 228 ح1، 232، 238، 311 ح2، 317 أبو عبيدة "معمب بن المثنى" 79 ح5، * 95 ح2، 302، 317 عثمان بن عيسى البلطي = سبق في "البلطي". عدي بن زيد "الشاعر الجاهلي" 66 العرجي "الشاعر" 215 عز الدين التنوخي 317 ح4، 323، 326 ح4 العسكري "أبو أحمد، صاحب كتاب التصحيف" 236 ح2 العطار 30 ح2 عفيف بهنسي 357 ح1 ابن عقيل 85 العكبري 73 ح3، 78 ح6، * 79 ح1، 102 ح5، 121 ح1، 344 علقمة بن عبدة "الشاعر" 66 علي بن جعفر = انظر ابن القطاع. علي بن حازم = سبق في "اللحياني". علي بن أبي طالب 192 ح3 أبو علي الفارسي 33، 188، * 201 ح1، 295، 296، 303 أبو علي القالي = انظر "القالي". عمار الكلبي 133

عمر بن الخطاب 130 عمر بن عبد العزيز 120 عمرو بن الأهتم "الشاعر" 66 أبو عمرو الشيباني 237 أبو عمر بن العلاء * 68 ح6، 75، 77، 92، 1145، 237 عيسى بن عمر الثقفي * 75 ح4، 76، 77 ف: ابن فارس 24، ح2، 30، * 63 ح5، 95 ح4، 103 ح1، 117، 132؛ 156-158، 161، 165 ح3، 176-179، 190، 195-200، 240 ح4، 244-263، 267-271، 296، 297، 299 الفراء "يحيى بن زياد" * 67 ح2 الفرزدق "الشاعر المشهور" 77، 131، 132 فرنكل 55 ح1 فسباسيان الروماني 287 فلورس "السناتور" 287 فندريس 32 ح2، 36 ح1 109 ح1، 112 ح2، 166 ح2، 168، 247 ح4، 285 ح3، 287 ح1، 293 ح1 فنسنك 86 فولزر 122 فيرث 22 ح2 الفيروزابادي "صاحب القاموس" 162، * 294 ح3 ق: القالي "أبو علي، صاحب الأمالي" * 75 ح1، 216، 233، 239 ح2، 295 ح2 القرطبي 120 ح1، 129 ح1 القطامي "الشاعر" 94 ح3 ابن قطاع "علي بن جعفر" 330 ح3، 331 قطرب 175 قيس بن زهير "الشاعر" 237 ك: الكسائي * 99 ح5، 223 ح1، 239 ح3 كعب بن حارثة 75 كلارفيل 325 ح1

الكواكبي "محمد صلاح الدين" 325 ح1 كوهين "مارسيل" 45، 125 كيشارد 34 ل: لامنس "الأب هنري" 294 ح2 اللحياني * 214 ح4، 230 ح3 لروا 306 لوط "عليه السلام" 50 ليتمان "انو" 55 ح2، 56 ليبنز 34، 35 م: المازني "أبو عثمان" * 215 ح2، 222، 333 ح2 ماكس مولر 42 ابن مالك "النحوي، صاحب الألفية" 85، * 93 ح1، 79 ح5، 123، 180، 246 ح1 المأمون "الخليفة العباسي" 150 المبارك "محمد" 33 ح2، 156 ح2، 178 ح1، 180 ح3، 286 ح1، 333 ح1، 338 ح1 المبرد * 87 ح8، 88-91، 175، 215 ح3 محمد بن سحنون التنوخي 128 خ3 محمد صديق حسن خان 180 ح1 مرحبا "محمد عبد الرحمن" 326 ح3 مرسيه 357 ح2 مرمرجي الدومينيكي "الأب" 49 ح1، 154، 155، 156 ح1 ابن مسعود = سبق في "عبد الله بن مسعود". مصطفى جواد 266 ح2، 267 مصطفى الشهابي "الأمير" 273 ح1، 316 ح1، 320، 321 ابن مَضاء القرطبي "صاحب الرد على النحاة" 29، * 134 ح12 135، 136، 137 ابن معين "يحيى" 129 ح1 معمر 129ح1 المغربي "عبد القادر" 249 ح1، 323 ح1 مغلطاي بن قليج * 330 ح1 المفضل بن سلمة 175 المفضل الضبي * 98 ح2 مندور "محمد" 166 ح3، 207 ح2

ابن منظور "صاحب اللسان" * 73ح2، 162، 168 ح4 203، 246 ج3، 295 أبو المهدي 75، 130 ح4 ميشع 50 مييه 45، 166 ح3، 207، 287 ح2 ن: نافع "من قراء المدينة" 78، 121 ح2، 1269 ح1 النحاس 175 النسفي "المفسر" 298 ح3 أبو نصر الباهلي 175 أبو نصر الفارابي = سبق في "الجوهري". النعمان بن المنذر 223 ابن النقيب 317 ح1 نوح "عليه السلام" 48 نولدكه 122 هـ: أبو هريرة "الصحابي" 100 ابن هشام "النحوي" * 60 ح1، 97 ح2 الهمداني "صاحب صفة جزيرة العرب" 65 أم الهيثم "الأعرابية الفصيحة" 230 ح3 و: الواثق بالله "الخليفة العباسي" 215 الواسطي "أبو بكر" 111 ح1 وافي "علي عبد الواحد" 19 ح1، 41 ح1، 46 ح1، 48 ح5، 56 ح2، 176 ح1 ولفنسون "أبو ذؤيب" 47 ح2، 48 ح2، 49 ح2، 51 ح1، 52 ح1، 54 ح1، 55 ح1، 56 ح2 ويتني 286 ح2 ي: يافث "بن نوح" 48 يحيى الهاشمي 350 ح1 يحيى اليزيدي 75، 76 يزيد بن مزيد الشبياني 237 ابن يعيش 185 ح1، * 233 ح5 يوسف العش 190 ح2 يوهان فك 118 ح3، 124 ح1، 295 ج2، 127 ح1، 128 ح1

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة "5 - 6". المقدمة "7 - 15". الباب الأول: فقه اللغة، نشأته وتطوره "17 - 37": الفصل الأول: بين فقه اللغة وعلم اللغة "19 - 25": التفرقة بين التسميتين 19 - منهج فقه اللغة واستقلاله 21 - تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب 23 - 25. الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة "26 - 31": من وصف الحقائق إلى فرض القواعد 26 - غلو اللغويين في سليقة الأعرابي 27 - موقفهم من لهجة قريش 28 - قطعهم ما بين العربية والساميات من صلات 29 - مقاييس العربية على وجه الحكمة كيف وقعت 29 - عدوى المنطق في الدراسات النحوية 30 - 31. الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة "32 - 37": أصلح المناهج هو المنهج الاستقرائي الوصفي 32 - آراء ساذجة في تأويل نشأة اللغات 33 - ابن جني ورأيه في نشأة اللغات بصورتها الصوتية السمعية 34 - التناسق الصوتي في اللغات المتفرعة عن العبرية 34 - أصل اللغة غامض مجهول لا فائدة من البحث فيه 35 - ضرورة المقارنة بين العربية والساميات والعناية بدراسة اللهجات العربية 36 - 37. الباب الثاني: العربية بين أخواتها السامية "39 - 105": الفصل الأول: أشهر فصائل اللغات "41 - 46": صلات القرابة اللغوية 41 - الفصيلة الهندية الأوربية 42 - الفصيلة الحامية السامية 43 - فصائل اللغات الإنسانية الأخرى 44 - طريقة أخرى لتقسيم اللغات إلى فصائل: التحليلية، والإلصاقية، والعازلة 45 - 46.

الفصل الثاني: لمحة تاريخية عن اللغات السامية "47 - 85": الساميون ومهدهم الأول 47 - هل العربية أقدم اللغات السامية؟ 48 - من خصائص اللغات السامية 48 - شجرة اللغات السامية 49 - تقسيم الساميات إلى شرقية وغربية 49 - تقسيم الغربية إلى شعبتين: شمالية وجنوبية 50 - في الشمالية: الكنعانية والآرامية 50 - اشتمال الكنعانية على اللهجات الأجريتية، والكنعانية القديمة، والمؤابية، والفينيقية، والعبرية 50 - 51 - الآرامية ولهجاتها الشرقية والغربية 51 - اشتمال الشعبة الجنوبية "من اللغات السامية الغربية" على العربية الجنوبية والعربية الشمالية 52 - أهم اللهجات العربية الجنوبية: المعينية، والسبئية، والحضرمية، والقتبانية ومعها اللغات السامية في الحبشة 52 - 53 - العربية الشمالية وتقسيمها إلى بائدة وباقية 55 - أهم اللهجات العربية البائدة: الثمودية، والصفوية، واللحيانية 55 - 57 - التقارب الزماني والمكاني بين جميع هذه اللغات السامية 58. الفصل الثالث: العربية الباقية وأشهر لهجاتها "59 - 70": كيف وصلت العربية الباقية؟ 59 - ليس في آثار اللغويين الأقدميين عرض مفصل للهجات العربية 60 - تساوي اللهجات في جواز الاحتجاج بها 60 - من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي 62 - تساوي اللغتين الأقوى والأضعف في كلام الفصحاء 62 - لا شذوذ في تركب اللغات وتداخلها 63 - خصائص اللهجات المتباينة وإقحامها على الفصحى 64 - العرب كانوا فئتين: عامة وخاصة، وبيئتين: حضرية وبدوية 65 - أشهر القبائل التي رويت لهجاتها: تميم، وطيئ، وهذيل 66 - القسمة الثنائية للهجات العربية الباقية: الحجازية والغربية أو "القرشية"، والنجدية الشرقية أو "التميمية" 67 - صفاء لهجة قريش 68 - المذموم من لهجات العرب: الكشكشة، والفحفحة، والطمطمانية، والعجعجة، والشنشنة، واللخلخانية، والعنعنة 67 - 69 - القرآن سما بلغة العرب إلى ذروة الكمال بعد أن كانت لهجة محدودة 70 - صورة بيانية لشجرة اللغات السامية 71. الفصل الرابع: لهجة تميم وخصائصها "72 - 105": كثير من قواعد اللهجة التميمية أقوى قياسًا من بعض القواعد القرشية 72 - كسر أوائل الأفعال المضارعة لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز 73 - استعمال ما كثر استعماله أولى 74 - فوارق إعرابية بين تميم وقريش: ما التميمية وما الحجازية 74 - قصة "ليس الطيب إلا المسك" 75 - لكل قبيلة لحن خاص يستحيل تلقينها سواه 76 - تمييز كم

الخبرية بن الحجاز وتميم 77 - نبر الهمزة وتسهيلها 77 - في بعض القراءات غلو في نبر الهمزة 78 - استقراء اللغويين دقيق في باب الهمزة 80 - إدغام المثلين وفكهما بين تميم وقريش 81 - ليس الإدغام إلا تقريب صوت من صوت 82 - الاختلاف في عين الفعل 82 - اختلاف في صيغ بعض الأفعال 83 - اختلاف في صيغ بعض الأسماء 84 - الاختلاف حول اسم الفعل "هلم" وصيغة "فعال" 84 - حول اسم الإشارة وحول الظرف "منذ" 85 - تذكير الأسماء وتأنيثها بين تميم وقريش 86 - هل أمارات التأنيث حقيقية في مفهوم التأنيث؟ 86 - الصفات الدالة على التأنيث من غير علاماته لا تخضع للمنطق 87 - الأصل في الأسماء تجردها من هذه العلامات 89 - تردد جمع الجنس بين التذكير والتأنيث 89 - نزول القرآن بتذكير بعض الألفاظ تارة وتأنيثها أخرى يؤكد عدم استقرار هذه الألفاظ لدى فصحاء العرب 91 - اختلاف تميم وقريش في أصوات بعض الحروف: الثاء والفاء، الهمزة والعين 91 - بين الظاء والضاد 93 - بين الطاء والتاء، والصاد والسين، والقاف والكاف 93 - إبدال الباء جيمًا مطلقًا عند فقيم 95 - تميم تجنح إلى الأشد وقريش تختار الأرق 96 - الضم لتميم والكسر لقريش 97 - ربط المعاقبة الحجازية بالميل إلى الكسر 97 - قد تحدث المعاقبة عند القبيلة الواحدة من العرب 98 - التنبيه إلى الفصحى عند دخول الياء في الواو أو الواو في الياء 100 - الإمالة والفتح بين قريش وتميم 101 - تسكين تميم عين الماضي وتسكين أواسط بعض الكلمات 102 - الإتباع الصوتي عند تميم 102 - بعض صور الإتباع لا يوحي باختلاف اللهجات 103 - تقديم الحروف وتأخيرها عند تميم 103 - التوسع في دراسة اللهجات يزيد لغتنا ثروة 104 - حاجة العرب إلى مراعاة بعضهم لغة بعض 105. الباب الثالث: خصائص العربية الفصحى "107 - 361": الفصل الأول: مقاييس اللغة الفصحى "109 - 116": خصائص العربية لا تميز لغة قريش لذاتها 109 - منهج الأقدمين في جمع اللغة علمي دقيق 110 - أخذ اللغة عن العرب الموثوق بهم 110 - لماذا رجح العلماء لهجة قريش وما هي من البداوة في شيء؟ 111 - اللغة إذا تقادم عهدها بالغ الناس في تقديسها 111 - الذين نقلت عنهم اللغة العربية 112 - الحيلولة دون تسرب الدخيل إلى العربية ما لم يطبع بطابع

الفصحى 113 - سبب امتناعهم من الأخذ عن أهل المدر 114 - تخوف العلماء من الذين يدعون الفصاحة 115 - لماذ اصطنع العرب لغة قريش للتفنن في القول؟ 116. الفصل الثاني: ظاهرة الإعراب "117 - 140": العرب ورثوا لغتهم معربة 117 - لولا اختلاط العرب بالأعاجم ما لحنوا في نطق 118 - ترتيلهم القرآن معربًا 119 - رأي فولرز بنزول القرآن أول الأمر بلهجة مكة المجردة من ظاهرة الإعراب 122 - رد نولدكه على هذا الرأي 122 - نقل الحديث الشريف معربًا 123 - تقديم الاستشهاد بالحديث على شواهد البدو 123 - خلو لهجة قريش من لحن الإعراب 123 - ليس الإعراب قصة 124 - رأي المستشرق كوهين في الإعراب 124 - اللهجات العربية الحديثة لم تتجرد كلها من آثار الإعراب 125 - رأي الدكتور إبراهيم أنيس في الإعراب 126 - معايير النحاة صورة معبرة عن طبيعة العربية الفصحى 126 - إدراج عبارة "أنى لي اللحن" في حديث النبي عليه السلام 127 - لعل اللحن يرادف عيوب المنطق في ذلك الحين 128 - هل حض النبي على قراءة القرآن بإعراب؟ 128 - التساهل في إعراب القرآن ضرب من التخفيف 130 - وضع بعض النحاة الحديث حثًّا على الإعراب 130 - تعسف بعض النحاة في فرض طائفة من قواعدهم 131 - هجاء الشعراء للنحاة 133 - تسلط بعض النحاة حتى على القراء 133 - رأي ابن مضاء في إلغاء بعض القواعد النحوية 139 - استشعار ابن جني ضعف بعض العلل النحوية 134 - رد بعض الباحثين المحدثين كثيرًا من تعليلات الأقدمين 135 - الحركات الإعرابية جزء من بنية الكلمة حتى عند ابن مضاء 136 - مغالطة لإنكار حركات الإعراب 137 - ظو اهر معروفة عند بعض القبائل العربية، ربما أوهمت إسقاط الحركة الإعرابية 138 - القرآن وتثبيته حركات الإعراب، وتأكيده فصاحة اللغة القرشية 139 - ما ورد على غير هذه اللغة المثالية لحن أو شذوذ 140. الفصل الثالث: مناسبة حروف العربية لمعانيها "141 - 172": القيمة البيانية للحرف الواحد 141 - الحرف الواحد في حال البساطة في أول الكلمة ووسطها وآخرها 142 - في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر أسرار مدهشة 145 - الحرف الواحد البسيط يوحي بمعناه الذاتي حيثما كان موضعه من التقاليب العقلية الستة لمادة ثلاثية 145 - مثال

من "الخصائص" على هذه الظاهرة العجبية 146 - تكلف ابن جني في هذا المثال 146 - القيمة التعبيرية للحرف في لفظ ثنائي عند التركيب 147 - الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعية 148 - الكلم وضعت في أول أمرها على هجاء واحد، متحرك فساكن 148 - أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات 149 - تنبه الخليل وسيبويه إلى المناسبة الطبيعية من اللفظ ومدلوله 149 - هذه المناسبة ذاتية لا تتخلف في رأي عباد بن سليمان الصيمري 150 - إنكار الجمهور مقالة عباد 151 - أهل العربية كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني 151 - محاكاة الإنسان أصوات الطبيعة 152 - من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية 153 - معرفة حذاق اللغويين العرب المتقدمين لهذه الثنائية المعجمية 153 - دفاع الأب أنستاس الكرملي عن هذه الثنائية 154 - رد الثلاثيات إلى الثنائيات في رأي الأب مرمرجي الدومنكي 154 - بقاء اللحمة المعنوية بين الثنائي التاريخي 156 - القيمة التعبيرية للحرف الذي يثلث الأصل الثنائي التاريخي 156 - باب القاف والطاء وما يثلثهما ورده إلى معنى القطع 156 - باب الفاء والراء وما يثلثهما ورده إل معنى التمييز والإفراد 156 - باب الجيم والذال وما يثلثهما ورده إلى معنى الأصل 157 - زيادة الحرف الثالث تذييلًا في الغالب، وتصديرًا وحشوًا أحيانًا 158 - اعتبار المضعف الثلاثي ثنائيًّا 159 - ابن دريد ورأيه في هذا المضعف الثلاثي 160 - ابن فارس ورأيه في هذا المضعف أيضًا 161 - الأصل الثنائي الصريح في حكاية بعض الأصوات الطبيعية 161 - حروف اللين وحروف اللعلة - لضعفها - لا تخرج الثلاثيات عن الثنائية 162 - تقديم ابن دريد الثنائي المعتل على الثلاثي، وسر هذا التقديم 162 - الأستاذ العلايلي ورده أكثر الثنائيات إلى المعلات، ومناقشة رأيه 162 - استشعار العلايلي ما في هذه النظرية من "الأخذ الاحتمالي" 164 - الثنائية مرحلة تاريخية، ولم تعد العربية على شيء سوى الثلاثي 165 - آثار النحت في أخذ الثلاثيات من الثنائيات 165 - هذا المذهب صدى لرأي ابن فارس في النحت 165 - الذهاب إلى تقصير الألفاظ في نشأتها الأولى لا دليل عليه 166 - هل بدأت بنية الكلمات طويلة ثم مالت نحو التقصير؟ 166 - الثنائية أوضح في نشأة العربية منها في سائر لغات العالم 167 - لكل لغة أسلوب خاص في تأليف الألفاظ والتراكيب 167 - لكل لغة أصول وأوائل قد تخفى عنا 168 - اللغة الإنسانية لا تحصى مفرداتها إحصاء رياضيًّا 168 - الفرق بين الدلالة

الذاتية والدلالة المكتسبة للفظ ما 169 - لكل لفظ ميلاد، وفي كل لفظ توليد 169 - الدلالة التعبيرية الذاتية في الألفاظ التي تحكي الطبيعة 170 - حيرة ابن جني في نشأة اللغات 171 - العربية تطمح بالفكر أمام غلوة السحر 171 - ابن جني يرى في العربية لغة العبقرية، أو يرى في العربية عبقرية اللغات 172. الفصل الرابع: المناسبة الوضعية وأنواع الاشتقاق "173 - 242": الاشتقاق الأصغر 173 - إنما ندرس الاشتقاق في ظلال دلالته الوضعية 174 - الرابطة المعنوية العامة للمادة الأصلية 174 - بعض الكلم مشتق وبعضه غير مشتق 175 - المعنى الجامع المشترك واحد غالبًا 175 - القول بتعدد الأصل في الاشتقاق لون من الترف العقلي 176 - لا يضع المتكلم لفظًا يدل على نتيجة الشيء قبل مقدمته 177 - الاشتقاق وسيلة للتمييز بين الأصيل والدخيل 178 - القرآن أذهب عجمة الكثير من الألفاظ باشتماله عليها 179 - المشتقات تنمي وتكثر حين الحاجة إليها 180 - الحسي أسبق في الوجود من المعنوي المجرد 180 - أصل المشتقات هي الأسماء لا الأفعال 181 - موازنة بين أسماء الأعيان وأسماء المعاني 181 - وضع الجواهر قبل المصادر 182 - المصادر كالأفعال لا تقاس قياسًا مطردًا 182 - إكثار العرب من الاشتقاق من الجواهر 182 - أليست حكايات الأصوات مما يقاس عليه؟ 183 - قياس الحقائق اللغوية بمقاييس أكثرها نسبي، وبعضها من اصطلاح أهل المنطق 185 - الشيء وضده ومن كل منهما الأصل والفرع 186 - مصدر الخطأ: تنازل اللغويين عن الاشتقاق للصرفيين 186 - الاشتقاق الكبير وولوع ابن جني به 186 - هذا الاشتقاق لا يطرد في جميع مواد اللغة 188 - نقد السيوطي لهذا النوع من الاشتقاق 189 - اقتباس تقليب الأصول من معجم العين وأمثاله 189 - مادة "ب ج ر" وتقاليبها في "الجمهرة" 190 - تقاليب "ب ج ر" من "الخصائص" 193 - تأثر ابن جني بابن دريد في تقاليب هذه المادة 194 - موازنة بين "المقاييس" و"الخصائص" في التماس الروابط المشتركة بين تقاليب "ج ب ر" 195 - تكلف ابن جني في المدلول العام الذي تخضع له التقاليب 196 - طبيعة الاشتقاق الكبير تقضي بالتجوز في التعبير 201 - عذر لأصحاب الاشتقاق الكبير 201 - قد يتقارب أصلان في التركيب بالتقديم والتأخير من غير أن يكون أحدهما مقلوبًا عن صاحبه 202 - الحذر الشديد عند تقليب المواد على وجوهها الممكنة 203 - الولوع بالاشتقاق الكبير

وارتباطه بدلالة الحرف السحرية 204 - أكثر الأمثلة المقلوبة ثلاثية الأخرف 205 - القائلون بالثنائية وتقديمهم الثلاثي المضعف 205 - صور من القلب في الثلاثي غير المضعف وفيما فوق الثلاثي مجردًا ومزيدًا 206 - من الرباعي المقلوب ما يتصور تقليبه على عشرين وجهًا كلها محتملة عقلًا 206 - عبث الهواة في الاشتقاق الكبير 207 - في كل من الثلاثي والرباعي المضعفين لا يتصور عقلًا إلا تقليبان 208 - رد كثير من هذه التقاليب إلى اختلاف اللهجات 209 - لم يعرف لغويو العرب إنتاجًا أعظم من الاشتقاق 209 - الاشتقاق الأكبر 210 - الصورة "البدلية" تعوض الصورة "الأصلية" في هذا الاشتقاق 210 - تناوب الأصوات فيه: أمثلة 211 - المضارعة بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام، والتكلف في هذه المضارعة 212 - من سنن العرب إبدال الحروف 213 - أكثر ما ذكره ابن السكيت في "القلب والإبدال" من قبيل الترادف 213 - الإبدال في الاشتقاق الأكبر نتيجة التطور الصوتي 213 - العرب لا تتعمد تعويض حرف من حرف 213 - أكثر هذه الأحرف لهجات مختلفة 214 - قلما تجد حرفًا إلا وقد وقع فيه البدل ولو نادرًا 215 - التفرقة بين الإبدال الغلوي والإبدال الصرفي 216 - العلاقات التي تسوغ الإبدال اللغوي 216 - اضطراب هذه العلاقة تارة، وتناقضها تارة أخرى 218 - علاقة التقارب أكثر تلك المسوغات 219 - أمثلة على الإبدال اللغوي في جميع حروف المعجم "من الألف إلى الياء" 220 - 232 - في الياء صور من الإبدال الصرفي لا اللغوي 232 - تفرقة الصرفيين في الإبدال بين الشائع والنادر 233 - فتحهم بذلك الباب للغويين للاستكثار من غرائب الإبدال 234 - الإبدال اللغوي المقبول هو ما تقارب مخرجًا، بل ما تآخي مخرجًا 235 - اشتراط التصاقب الحقيقي لفظًا ليتصاقب المعنيان في الا شتقاق الأكبر 236 - لا يتصاقب المعنيان إلا إذا أمن التصحيف 236 - بين تصحيف السمع وتصحيف النظر 237 - 238 - صور الإبدال فيما توهم فيه تصحيف السمع أكثر 238 - كثرة الشواهد المتعلقة بأحد الوجهين هي المقياس لتمييز الأصل من الفرع 238 - بين الإبدال والإتباع 239 - بعض صور الإبدال من قبيل الإتباع 240 - متى تترجح بعض الصور بين الإبدال والإتباع؟ 240 - التابع كالوتد تقوي به العرب كلامها 241 - الفرق بين معنى التقوية في التابع ومعنى التقوية في التأكيد 241 - الخلط بين الإبدال والإتباع جهل أو تجاهل 242 - في بحوث الاشتقاق الأكبر وهم كثير. وفيها أيضًا خيال خصيب 242.

الفصل الخامس: النحت أو "الاشتقاق الكبار" "243 - 274": مراعاة معنى الاشتقاق تنصر جعل النحت نوعًا منه 243 - مذهب ابن فارس في أن ما زاد على الثلاثي أكثره منحوت 244 - للنحت أصل أصله الخليل 245 - النحت قليل في مذهب النحاة، والقليل لا يقاس عليه! 246 - الرباعي على ضربين: منحوت، وموضوع وضعًا 246 - التصدير والحشو والكسع بقايا كلمات قديمة مستعملة 247 - الحرف التعبيري التعويضي عند ابن فارس 247 - النحت فعلي، ووصفي، واسمي، ونسبي 249 - أمثلة على الأفعال المنحوتة تصديرًا ثم حشوًا ثم كسعًا 250 - 251 - أمثلة على الأسماء المنحوتة في الأحوال الثلاث 251 - أمثلة على الصفات المنحوتة في الأحوال الثلاث أيضًا 252 - نحت الرباعي من ثلاثيين كل منهما محفوظ 252 - أمثلة على هذا النوع من النحت في الأفعال والأسماء والصفات 253 - 257 - الحرف المزيد نحتًا يعوض المادة المختزلة، ويقع أولًا ووسطًا وآخرًا 257 - استخراج أكثر من ثلاثمائة كلمة منحوتة من أبواب مزيدات الثلاثي في "المقاييس" 258 - ما وضع وضعًا ولا يكاد يكون له قياس 259 - إنما قلل العلماء من شأن النحت لتعويلهم فيه على المسموع المحفوظ 259 - ما من حرف إلا وقد اختزل مادة على طريقة النحت ولو نادرًا 261 - مثال واحد على كل حرف من حروف الهجاء يختزل مادة ويعوضها نحتًا 261 - 263 - إشارة سيبويه إلى النحت 263 - ابن جني بين ظاهرة النحت وظاهرة التقارب في اللفظ والمعنى 264 - كان للنحت أنصار في جميع العصور 264 - كتاب في النحت يمليه الظهير بن الخطير من حفظه 265 - معرفة النحت من اللوازم في رأي السيوطي 265 - هل العربية لا تقبل النحت حقًّا؟ 266 - القول بالنحت إطلاقًا يفسد أمر هذه اللغة 266 - الدكتور مصطفى جواد وإطلاقه القول بتشويه النحت للكلم العربي 266 - لا نكران في وقوع النحت إذا صنفنا كتب اللغة تصنيفًا جديدًا 267 - تكلف ابن فارس في بعض ما ادعى فيه النحت 267 - الفرق بين المنحوت والمشتق 268 - خلط ابن فارس المنحوت بالأعجمي المعرب 270 - كان ابن فارس، مع ذلك، دقيق الحس في التمييز بين المنحوت والمشتق 270 - وبين المنحوت والمولد 271 - تكلف ابن فارس ليس ذريعة للحكم بفساد النحت 271 - شبهة في النحت ما تزال قائمة: تعريب المصطلحات 272 - لا نستعمل النحت إلا وسيلة إضافية متممة للاشتقاق القياسي القديم 272 - قرار

مجمع القاهرة بجواز النحت عند الضرورة 273 - تنزيل الكلمة المنحوتة على أحكام العربية في انسجام حروفها وصياغة وزنها 274. الفصل السادس: الأصوات العربية وثبات أصولها "275 - 291": الأصوات العربية وألقاب الحروف 275 - علماء التجويد ووصفهم الدقيق لجهاز النطق ووظائف أعضائه 276 - الأعضاء المتحركة في الجهاز النطقي 276 - تغيير المصطلحات القديمة في ألقاب الحروف يوقع في لبس شديد 277 - المعول عليه في الحرف معرفة مخرجه لا صفته 277 - أفضل وسيلة لمعرفة مخرج الحرف 287 - ألقاب الحروف العشرة المشتقة من المخرج 278 - هل الضاد شجرية؟ 280 - صفات الحروف، وهي سبع عشرة 280 - صفات الحروف يجمعها لقبان: المصمتة والمذلقة 283 - هل خلط النحاة في تحديد المخارج والصفات؟ 284 - هذا الخلط إن كان جاء النحاة من شدة أمانتهم 284 - ثبات الأصوات العربية 285 - العربية وسعة مدرجها الصوتي 285 - النظام الصوتي ليس ثابتًا طوال تطور اللغات 285 - اللغات الأجنبية وانحدارها الطبيعي الذاتي نحو التبدل الصوتي 286 - هذا التبدل الصوتي لا أثر له في العربية 287 - انفراد العربية بحفظ أنسابها اللغوية 287 - نشأة المزدوجات في أكثر اللغات من التركيبات الصوتية 288 - تعليلات سقيمة لما وقع في لغات الغرب من التغيرات الصوتية 290 - لغتنا العربية تحتفظ بثبات أصواتها إزاء كل هذه التغيرات 291. الفصل السابع: اتساع العربية في التعبير "292 - 313": الترادف 292 - كثرة الاستعمال تخلق كلمات جديدة 292 - مهجور قد يستعمل، ومستعمل قد يهجر 293 - جمع دوهامر أكثر من 5644 لفظًا لشئون الحمل 293 - الفروق الدقيقة بين تلك الأسماء 294 - ألوف الأسماء لمسمى واحد 294 - تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي 294 - ألفاظ أعجمية مغربة عدت من مفردات اللغة وعناصرها 295 - إنكار بعض العلماء وقوع الترادف 295 - ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات عند ثعلب وتلميذه ابن فارس 296 - الاسم واحد وما بعده من الألقاب صفات 296 - الفروق الدقيقة تلمح بين الاسم والوصف، كما تلمح في معاني الأحداث التي تفيدها الأفعال 297 - التعبير عن أصوات الحركات الخفية في العربية 297 - أشياء

تختلف أسماؤها باختلاف أحوالها 298 - علماء الأصول وتفسيرهم وقوع الترادف بوجود واضعين مختلفين 299 - الترادف في القرآن 299 - قصة "من دخل ظفار حمر" 300 - الاختلاف بين لغتين يراد منه الاختلاف بين لهجتين هنا 301 - المشترك اللفظي 301 - في جميع اللغات ألفاظ مشتركة 302 - شواهد المشترك ليست سوى مصادفات محضة لدى بعض العلماء 303 - أبو علي الفارسي ونظرته المعتدلة إلى المشترك 303 - تداخل اللغات وعلاقته بالاشتراك 304 - استخدام المشترك في التورية والتجنيس لعب بالألفاظ 304 - الكلمات لا تستعمل تبعًا لقيمتها التاريخية 305 - العقل ينسى خطوات التطور التي مرت بها الكلمات 305 - سياق النص يعين المعنى الذي تدل عليه الكلمة 306 - صعوبة الكشف عن العلاقة بين بعض الألفاظ ومدلولاتها 307 - الروابط المشتركة تلمح بإحدى طريقتين: سلبية وإيجابية 307 - في المشترك تنوع في المعاني بسبب تنوع الاستعمال، وهو دليل على سعة العربية في التعبير 308 - الأضداد وقلتها في العربية 309 - التضاد نوع من الاشتراك 309 - النكات البلاغية في ألفاظ التضاد 310 - العقلية الاجتماعية وأثرها في استعمال هذه الأضداد 310 - الأسرار البلاغية لا علاقة لها بالوضع اللغوي 310 - تداخل اللغات وأثره في التضاد 311 - المصادفات المحضة قد تكون بعض الأضداد 311 - الاشتراك بالتضاد كالاشتراك في التناظر يعين معناه السياق 312 - إنكار ابن درستويه للتضاد 313 - غلوه في هذا الإنكار 313 - تنوع الاستعمال في العربية أغنى تراثها التعبيري 313. الفصل الثامن: تعريب الدخيل "314 - 327": العربية تقرض اللغات وتقترض منها 314 - الاقتراض بين اللغات ظاهرة إنسانية وقانون اجتماعي 315 - ألفاظ عربت في الجاهلية 315 - في القرآن من كل لسان 316 - مراد أبي عبيدة من قوله: "من زعم أن في القرآن غير العربية فقد أعظم القول" 317 - توفيق أبي عبيد القاسم بن سلام بين القائلين بالتعريب ومنكريه في القرآن 317 - لم يحسن لغويو العرب التمييز بين العربي والأعجمي 318 - ادعاء العجمة دون بيان الأصل 318 - أكثر المعربات عن الفارسية 319 - تعويض الأصوات الفارسية بأصوات عربية 319 - تعريب ألفاظ الحضارة والعلوم والفنون 320 - قواعد النقلة في تعريب المصطلحات العلمية 320 - لا يلجأ إلى التعريب إلا عند الضرورة 321 - الترجمة

الدقيقة تقوم مقام التعريب 321 - إحياء الفصيح وقتل الدخيل 322 - تنزيل اللفظ المعرب على أوزان العربية 322 - نسيج الكلمة العربية 323 - النحت عند الضرورة القصوى في تعريب المصطلحات العلمية 324 - للذوق شأن كبير في النحت 324 - ترجمة الصدر اليوني "A" 325 - تسويغ النحت في كلمتين عربيتين خالصتين 326 - ليست العربية باللغة الحامدة 327. الفصل التاسع: صيغ العربية وأوزانها "328 - 346": ظاهرة الصياغة القالبية، وتشبيه قوالبها بالسبائك الذهبية 328 - خطأ بروكلمان في إطلاقه القول بخلو الساميات من الصياغة التركيبية 329 - محاولة العلماء حصر الأوزان العربية في الأسماء والأفعال 329 - حصرهم الأوزان التي خرجت عن لسان العرب وعيوب هذه المحاولة 329 - ابن خالويه ومصنفه "كتاب ليس في لغة العرب" 329 - تعقب المحققين لابن خالويه 330 - أول من حاول إحصاء الأبنية سيبويه 330 - لم يستوعب صيغ العربية أحد وما من المحصين إلا من ترك أضعاف ما ذكر 331 - انتهاء ابن القطاع بعد البحث والاجتهاد إلى ألف مثال ومائتني مثال وعشرة أمثلة 331 - المنهج العلمي يكاد يكون مفقودًا في بحث السيوطي للأوزان في "مزهره" 331 - كل لفظ في الكلم العربي يرتد إلى قالب حذي على مثاله 332 - الاستعانة بالصرفيين لتصنيف أشهر الأوزان الحية المستعملة 333 - يمكن حصر الصيغ الفعلية ولكن حصر الصيغ الاسمية عسير 333 - التعرض لما لا زيادة فيه من الأصول لا يجدي 334 - أبحاث صرفية ينبغي استبعادها منهجيًّا في باب الأوزان 334 - كثير من مباحث الصرف الدقيقة لا علاقة لها بظاهرة الصياغة القالبية 334 - الأوزان فئتان: تقليدية وتجديدية 335 - الفرق بين الزيادة الإلحاقية الصرفية والزيادة القالبية اللغوية 335 - تعدد الأوزان الملحقة أمارة على غنى اللغة لا على حياتها 335 - لا قيمة للأوزان إن لم تشارك الأذهان النيرة في وضعها موضع الاستعمال 335 - فوضى اللغويين في تحديد الفروق بين الجموع 336 - ولوع الرواة بجمع الصيغ النادرة في أضرب الفعل الثلاثي وعين الفعل المضارع 336 - عوامل التطور وآثارها في تنوع الصيغ 336 - التصريف ميزان العربية ولا يغض أحد من قيمته 337 - معرفة التصريف شيء وتشكيل الصيغ شيء آخر 337 - تشابه دلالة الصيغ عند اللغويين بدلالتها في مصطلح الصرفيين 337 - وجوب التمييز مع ذلك بين الأوزان لاستخلاص أرشقها

وأوضحها وأقواها 338 - هل للذوق السليم والملكة الشخصية دخل في هذا التمييز؟ 338 - بين خلق القالب والصنع على مثاله 338 - مواقف اللغويين "المحافظين" إزاء اقتراحات العلايلي وزيدان والكرملي في صياغة الأوزان 339 - عبد الله العلايلي وطريقتاه في التجديد القالبي 339 - نقله الأوزان من باب إلى باب في الطريقة الأولى وأمثلة 339 - ليس في هذه الطريقة خطر على العربية 340 - ما في طريقته الثانية من تشابه بالوزن العربي أو تباعد عنه 340 - تناوله بالتغير -على هذه الطريقة- الدال والمدلول 340 - أمثلة مما جدد به العلايلي وهو شبيه بالوزن العربي 340 - سائر ما ذكره بعد ذلك إلى العجمة أقرب، وعدم احتفاله بمثله في معدمه القيم 340 - أمثلة على ما لم يشبه الوزن العربي من مقترحات العلايلي 341 - ابتداعه وزن "الفعلت" بتائه الأعجمية المبسوطة الدميمة في آخر الاسم المذكر المفرد 341 - لم يدد العلايلي عن حروف الزيادة الصرفية في شيء مما ابتدعه، ولكنه خالف السبك القالبي 342 - الاستقراء الناقص وراء هذه الأحكام العجلي 342 - جرجي زيدان وخوضه فيما لا يعلم ورطانته كالأعجمي 342 - غلوه في إبراز الأثر العبري في العربية 343 - زعمه انقراض بعض الأوزان العربية وإتيانه بصور متخيلة لتلك الأوزان 343 - الأب آنستاس ماري الكرملي وجهوده في إحياء الأوزان القديمة وإحياء مدلولاتها 343 - استحداثه بعض التمييز في توضيح الفروق بين وزن وآخر 344 - استعجاله الحكم أحيانًا بالتفرقة بين وزن وآخر يشبهه دون دليل 344 - القسمة العقلية الرياضية البحتة للأوزان كادت توقع الكرملي في مثل خطأ العلايلي 344 - اكتفاء الكرملي بالأوزان المحتمل ورودها لتكون مقاييس حية في ميادين الحضارة 345 - بسطه معنى وزن "الفعالة" بالكسر، وسداد رأيه في هذا 345 - لا ضير في توسيع مدلولات الأوزان إذا لم تمس سلامة اللغة 345 - كلما قويت اللغة قوي القياس وكثرت الصيغ القياسية 345 - من أفحش الخطأ قول من يقول: "ليس في العربية من كذا إلا كذا" 346 - حاجات المجتمع إن لم يلبها النحاة لبتها الحياة 346. الفصل العاشر: العربية في العصر الحديث 347 - 361": العربية من أقدم اللغات وأكثرها أصالة 347 - اعتبار العربية فوق

اللغات الإنسانية قاطبة عن طريق التأثيل والترسيس 347 - التأثيل مشتق من الأثل، والترسيس من الرس 348 - إقراض العربية سواها من لغات الإنسان أكثر من اقتراضها منها 348 - رفض ألوان المبالغة جميعًا في هذا الموضوع 348 - امتياز العربية بظاهرة الإقراض يرتد إلى نسيجها الذاتي 349 - وضوح هذه المقارنة بين العربية واللغات الأوربية 349 - أخذ الأوربيون علم الاشتقاق عن العرب وتوسعو افيه لحاجتهم إلى تأثيل موادهم اللغوية 349 - باحثون آخرون يرمون العربية بالعقم 349 - نقاط خمس تصم العربية بالتخلف عن مجاراة الحضارة 349 - اللغة عنصر علمي مستقل وظاهرة اجتماعية 350 - إذا كانت العربية من مصادر البحث القديم فلماذا لا تكون اليوم مرجعًا ولغة عالمية؟ 350 - العيب في الباحثين لا في اللغة العربية 351 - استفتاء المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي 351 - تشابه مقترحات العلماء إلى حد كبير 351 - نقل ما يوضع من دورس إلى العربية السهلة الميسرة ونشر معجم للمصطلحات العلمية والفنية مع مقابلاتها العربية 352 - مساوئ الاقتصار على التعريب الحرفي 352 - قصر التعريب على الألفاظ الدولية 352 - مشكلة اختلاف المصطلحات في البلدان العربية 353 - إيجاد مجمع عربية لغوي وعلمي موحد 353 - توحيد المناهج والكتب الدراسية 353 - تشجيع التعريب لمختلف المصادر العلمية الجامعية 353 - إصدار الهيئات العلمية واللغوية معجمين أحدهما لغوي والآخر علمي 353 - في كثير من البلدان العربية قطعنا أشواطًا في التدريس الجامعي 354 - عقد مؤتمر لغوي عام لتبسيط قواعد اللغة وتيسير كتابتها وطباعتها 354 - توصيات مؤتمر التعريب في الرباط 354 - تنافس الأفراد في شكل الكلمات العربية كتابة وطباعة 355 - ينبغي ان تعالج المشكلة في مؤتمر عام 355 - الإبقاء على الحروف العربية بأشكالها الراهنة 355 - استبدال الحروف اللاتينية بالأبجدية العربية مقضي عليها بالإخفاق 355 - العربية غير التركية باعتراف المستشرقين 355 - تشكيل الحروف كتابة وطباعة لجميع المستويات 355 - تيسير العربية للأجانب أيضًا 356 - العربية كانت وما تزال مطلوبة من غير بنيها 356 - مدرسة المترجمين في طليطلة ومحاولتها الاتصال بالثقافة العربية 356 - ينبغي أن يدرك المستشرقون روح الأمة العربية في واقعها الذي تعيشه اليوم 356 - صورة الحرف العربي مرتبطة بكتابة القرآن 356 - إرنست كونل يؤكد أن الإسلام منح العرب اللغة والخط 357 - امتداد الحرف

العربي إلى أنحاء لا يحكمها العرب 357 - استعمال المستعربون الخط العربي لكتابة اللاتينية نفسها 357 - ما في الخط العربي من الجمال والفن 358 - ليس من المنطق أن نضحي بذلك كله 358 - فتح مراكز ثقافية ومعاهد لتعليم العربية لغير العرب 358 - استخدام الأفلام المصورة والأشرطة المسجلة 358 - الجدل العقيم حول العامية والفصحى 358 - عدوى العامية لا تسري إلا حيثما يكون الجهل والمكابرة والعناد 359 - تعدد اللهجات حتى في القطر العربي الواحد 359 - أمثلة من تفاوت اللهجات حتى في أحياء كل مدينة 359 - ما هي اللهجة العامية التي يمكن اختيارها؟! 359 - الدكتور طه حسين يقرع ناقوس الخطر 359 - خير للعالم العربي كله أن تكون له لغة واحدة هي اللغة الفصحى 360 - العامية متفرعة عن الفصحى 360 - ليس لداء العامية من علاج إلا محاربة الأمية وتعميم التعليم الإجباري 360 - التخلف فينا نحن لا في العربية الفصحى 361 - سوف تظل الفصحى رمز وحدتنا 361. خاتمة "362 - 364": عبقرية اللغات أسطورة، ولا سبيل إلى تفضيل لغة على أخرى 362 - المقياس العلمي الدقيق الذي درسنا في ضوئه خصائص العربية 363 - هذا الكتاب مرآة للغة العربية بوجهها الصريح دون طلاء، وملامحها المعبرة دون اصطناع 364. جريدة المراجع 365 - 375. مسرد الأعلام 377 - 386. فهرس الموضوعات 387 - 405.

§1/1