دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل

محمد بكر إسماعيل

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد, فإن القرآن الكريم هو المعجزة العقلية الباهرة التي أيَّدَ الله بها خير خلقه، وخاتم أنبيائه -صلوات الله وسلامه عليه. وهو خالد في إعجازه لا يزيده التقدُّم العلميُّ إلا رسوخًا في الإعجاز, وهو حجة الله البالغة على خلقه، تعبدهم بتلاوته وتدبره، وفهمه والعمل به، وأطلعهم من خلاله على بعض أسراره في ملكه وملكوته. وهو كتاب الهداية، ومنهج الحياة، بيَّنَ فيه لعباده ما يحلُّ لهم، وما يحرِّمُ عليهم، وما ينفعهم, وما يضرهم, بإسلوب واضح مشرق، لا عوج فيه ولا التواء. وعبَّرَ عن واقعهم، ولبَّى رغباتهم على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم، وأزمانهم. فما من شيء يحتاجون إليه في شئونهم الخاصة والعامة إلَّا شمله تشريعه، ووسعه بيانه. قال تعالى في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 1. فكان بحقٍّ كتابًا جامعًا أفاض في شرح الحقوق والواجبات إفاضة واسعة، تضمنتها أحكام جامعة، وقواعد كلية، يندرج تحتها كل ما جَدَّ ويَجِدُّ في شئون الحياة، وأناط بالرسول -عليه الصلاة والسلام- بيان ما قد يغمض على بعض

_ 1 آية: 89.

الناس فهمه، فكان بيانه للقرآن مستنبطًا من القرآن نفسه، وبقدرة خاصة منحها الله، وكيفية معينة علَّمه الله إياها. قال تعالى في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. وهو الذكر الحكيم الذي علَّمَ الناس الحكمة -وبالحكمة يستطيعون أن يضعوا الأمور في موضعها، ويتعرَّفوا النهج القويم للحياة المطمئنة، والسعادة المرجوّة في داري الدنيا والآخرة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2. وهو مأدبة الله التي لا ينفذ زادها، ولا ينضب معينها ولا يملها أهلها. وهو للمؤمنين دواء وشفاء وغذاء، وروح وريحان، هو الحياة في أسمى صورها وأجلِّ معانيها، هو نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. لهذا جمع المسلمون الأوائل كل قواهم, وكرَّسُوا جُلَّ حياتهم لخدمة هذا الكتاب العظيم، ولم يدَّخِروا جهدًا في حفظة وتدوينه، وتفسيره، واستنباط أحكامه، والتنقيب عن لطائفه وأسراره، والعمل به والسير على نهجه في عباداتهم وعاداتهم ومعاملاتهم، فتركوا لنا تراثًا خالدًا غصَّت به المكتبات في مشارق الأرض ومغاربها. وتتابه الغيث من بعدهم إلى يومنا هذا، يفتح للباحثين في كتاب الله تعالى أبوبًا واسعة من العلم والمعرفة, ويتيح لهم أن ينهلوا من معينه ما شاء الله أن ينهلوا في سهولة ويسر، ولا سيما بعد أن تقدَّمت أدوات الطباعة ووسائل النشر.

_ 1 آية: 16-19. 2 الجمعة: 2.

وما على الباحثين إلّا أن يشمِّرُوا عن ساعد الجدِّ, ويخترقوا أسوار التقليد إلى الآفاق الرحبة يفتحها لهم القرآن بعباراته وإشاراته، فيستنبطوا منه ما ينفع أمتهم في دينها ودنياها، ويستلهموا منه الرشد في حلِّ المشكلات المعاصرة التي بلغت الغاية في التعقيد والتعجيز. وإنا لقادورن -إن شاء الله تعالى، إذا ما تمسَّكْنَا بهذا الكتاب المبين، وتدبَّرْنَاه بحرية وأمانة وفق المقاييس التي رسمها لنا فيه -على تحقيق ما نصبو إليه في حاضرنا ومستقبلنا. وإني أحاول أن أضرب في كتابي هذا بسهم متواضع في تبصير الناس ببعض ما يتعلَّق بهذا القرآن العظيم من البحوث المهمة التي تعينهم على تدبره، وفهم معانيه ومراميه, والعمل بما جاء فيه، عسى أن أُحْشَر يوم القيامة مع خدمته فأفوز فوزًا عظيمًا، وهو رجاء عبد ليس له من العمل الصالح ما يجعله أهلًا له إلّا أن رحمة الله واسعة، وفضله عظيم. وقد التزمت في تأليف هذا الكتاب أمورًا ثلاثة: الأول: تهذيب الأسلوب وتيسيره بحيث يكون -بفضل الله تعالى- مناسبًا لأهل العصر على اختلاف درجاتهم في الثقافة والفهم، مبينًا كل لفظ أراه غامضًا، وموضحًا كل قول أراه يحتاج إلى مزيد بيان. وهذا الإلتزام جعلني أتحاشى النصوص الوعِرَة التي تكثر فيها الصناعة اللفظية المتكلفة، أو الألفاظ المعقدة أو الغريبة، واختار النصوص السهلة الجزلة التي تخلو من الركاكة والتعقيد. فإن كان النص لا يتمشَّى مع سهولة الأسلوب وعذوبته، وفيه من العلم ما نحن في حاجة إليه نقلته بالمعنى، وقلت في نهايته: أفاده فلان أو ذكره فلان بمعناه. أو قلت في أوله: ذكر فلان ما حاصله، أو ما فحواه كذا وكذا. أو كتبت في هامش الصفحة: راجع كتاب كذا وكذا أو انتهي بتصرف، وما أشبه ذلك.

فإن كان النص سهلًا في أسلوبه نقلته بين علامتي تنصيص، وأشرت إلى مصدره في هامش الصفحة فقلت: كتاب كذا ج كذا ص كذا. فإذا غيَّرت فيه ضميرًا أو حرفًا ليناسب الكلام قلت في هامش الصفحة: انظر كتاب كذا. وإذا حذفت منه شيئًا، وضعت مكان المحذوف ثلاث نقط كما هو مُتَّبَعٌ في كتابة البحوث والرسائل، وبذلك يكون أسلوب الكتاب متشابهًا متماسكًا كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا، لا يجد القاريء فيه ما يعكِّر صفو الفهم عليه من تغاير الأساليب، وتباعد المعاني، وتفكُّك الجمل، وتنافر الألفاظ. الثاني: توخي الإيجار في العبارة، والاختصار على المقيَّد من المسائل، وتحري الدقة والأمانة العلمية في البحث والدراسة بقدر الطاقة البشرية. الثالث: ترتيب الموضوعات بحسب أهميتها, وبحسب صلة بعضها ببعض، أو تقارُب بعضها من بعض, مع الاقتصار على ما تكون إليه الحاجة ماسَّة والضرورة إليه ملحة. فعلوم القرآن بحر زخار لا يستطيع أحد أن يجمعها في كتاب، مهما اتسع جهده، وطال عمره. هذا وقد بذلت وسعي في التحليل والتعليل والتحقيق والتنقيح والاستنباط، والكشف عن الجديد من المسائل العلمية المتعلقة بمعاني هذا الكتاب العزيز. فإن أكن وفِّقْتُ في شيء من ذلك فإنما هو بحمد الله تعالى وتوفيقه. والله المستعان، وله الفضل، وبه الثقة, وعليه المعتمد. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. المؤلف

المبحث الأول: معنى علوم القرآن

المبحث الأول: معنى علوم القرآن علوم القرآن مركَّب إضافي، مؤلَّف من كلمتين, يقتضينا منهج البحث البحث التحليلي أن نعرِّفَ كل كلمة على حدة أولًا، ثم نبيِّنُ معنى كلمة علوم مضافة إلى القرآن الكريم، فنقول: 1- أما العلوم فجمع علم، والعلم مصدر "علم - يعلم" وهو مرادف للفهم والمعرفة واليقين، والجزم على الجملة، وبينها فروق دقيقة تُطْلَبُ من كتب فقة اللغة، مثل كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري. والعلم مصدر -كما قلنا- يصح إطلاقه على المفرد والجمع، تقول: تلقيت العلم في الجامع الأزهر، تعني: علم التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والصرف، وغير ذلك من أنواع العلم. وإن أريد الكثرة، جمع على علوم, ولهذا سميت المباحث القرآنية: "علوم القرآن" لكثرتها وتشعُّب مسائلها. كما يقول الفقهاء في كتبهم: "باب البيع"، فإن أرادوا الكثرة قالوا: "باب البيوع". ويطلق العلم في لسان الشرع العام على معرفة الله تعالى وآياته، وأفعاله في عباده وخلقه. ومعناه عند علماء التدوين: المعلومات المنضبطة بجهة واحدة، أي: موضوع معين. فمسائل النحو مثلًا تُسَمَّى: علم النحو. ومسائل الفقة تُسَمَّى: علم الفقه. أو هو إدراك المسائل المنضبطة تحت موضوع معين. أو هو الملكة التي تحصل بها تلك المعارف. والتعريف الأول هو الأَوْلَى بالقبول، وهو الأشهر عند العلماء.

أما القرآن في اللغة فهو مصدر "قرأ". يُقَال: قرأ يقرأ قراءة، وقرآنًا. قال تعالى في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} 1. ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجُعِلَ اسمًا للكلام المعجِِزِ المنزَّلِ على النبي -صلى الله عليه وسلم، من باب إطلاق المصدر على مفعوله. فالقرآن على هذا يكون بمعنى المقروء. هذا ما اختاره أكثر العلماء استنادًا إلى موارد اللغة وقوانين الاشتقاق. "أما القول بأنه وصف من القرء -بسكون الراء- بمعنى الجمع، فهو قولٌ ليس براجح، وكذلك قول من قال: إنه مشتق من قرنت الشيء، أو أنه مرتجل, أي: موضوع من أول الأمر علمًا على الكلام المعجِز المنزَّل، فكل ذلك -كما يقول الزرقاني- لا يظهر له وجه وجيه، ولا يخلو توجيه بعضه من كلفة"2. هذا هو مفهوم لفظ "قرآن" في اللغة. واما مفهومه في اصطلاح علماء العقيدة والشريعة واللغة, فهو منتَزَعٌ من خصائصه ومقاصده الكبرى. وأشهر تعريف له قولهم: القرآن كلام الله المعجِز، المنزَّل على محمد -صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المُتعبَّد بتلاوته. بهذا عرَّفه اكثر أهل العلم. وتوضيحه: إن الكلام البشري نفسي ولفظي، فالنفسي هو المعاني التي تجول بالفؤاد

_ 1 آية: 16-18. 2 انظر مناهل العرفان ج1 ص7.

قبل أن تخرج بها الأصوات, واللفظ هو قالب تلك المعاني, وهي التي نسمعها من الأصوات. فقولنا: القرآن كلام الله, قد يُرَاد به الكلام النفسيّ, وقد يُرَادُ به الكلام اللفظي -ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم- فالمتكلمون يطلقون كلام الله على الكلام النفسي فقط، ويقررون أنه كلام قديم غير مخلوق، فيجب تنزهه عن الحوادث وأعراض الحوادث، وتجرده عن الحروف اللفظية المتعاقبة المستلزمة لتجدد الزمان والحدوث. والأصوليون والفقهاء اهتمُّوا بإطلاق القرآن على الكلام اللفظي؛ لأن غرضهم الاستدلال على الأحكام، وهو لا يكون إلّا بألفاظ، وكذلك علماء اللغة العربية يهتمون بالكلام اللفظي؛ لأن عنايتهم بالإعجاز، وطريقة الألفاظ"1. وهذا التعريف جمع أشهر خصائص القرآن وأهم مقاصده. وكان بعضها كافيًا في التعريف، فلو قالوا: القرآن كلام الله المعجز. أو قالوا: هو كلام الله المُتعبَّد بتلاوته. أو قالوا: هو كلام الله المكتوب في المصاحف، لكان وافيًا بالمقصود في تحديد ما هو قرآن من غيره، لكنهم أطنبوا في التعريف مبالغة في التوضيح، ورغبةً في ذكر أهم خصائصه ومقاصده، فهو ليس تعريفًا بالمعنى الاصطلاحي الذي يُرَاعَى فيه الاختصار، والاقتصار على ما هو جامع مانع. ومن هذا التعريق يُعْرَفُ الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي, على ما سيأتي بيانه قريبًا -إن شاء الله تعالى. ومن خلال هذا التعريق أيضًا يُعْرَفُ الفرق بين القراءة المتواترة وغير المتواترة، فما تواتر منها فهو قرآن يُتْلَى ويتعبَّد بتلاوته. وما هو غير متواتر لا يُتْلَى ولا يُتَعَبَّد بتلاوته، ولا يُسَمَّى قرآنًا، وإن جاز الاحتجاج بها في تصحيح لغة على لغة، وترجيح مذهب فقهي على آخر, بالشروط التي ذكرها الفقهاء في كتهبم. هذا -ويطلق لفظ القرآن على الكتاب المُنزَّل كله وعلى بعضه.

_ 1 انظر "اللآليء" للدكتور موسى شاهين لاشين ص9.

فيُقَال لمن قرأ منه ولو آية إنه قرأ قرآنًا. 3- وأما تعريف علوم القرآن بالمعنى الإضافي، أي: باعتبار إضافة العلوم إلى هذا الكتاب المنزَّل، فهو عبارة عن طوائف المعارف المتصلة بالقرآن. وهذا التعريف يشمل بعمومه جميع العلوم الشرعية من التفسير والحديث والفقه، وأصول الفقه، وجميع العلوم التي تعين على فهم معانيه ومقاصده، كالعلوم اللغوية والتاريخية، وغيرها, فكل ما يتصل بالقرآن من قريب أو من بعيد داخل تحت هذا التعريف. غير أن المشتغِلِين بدراسة القرآن الكريم -فيما يبدو لنا- يقتصرون في بحوثهم على العلوم الوثيقة الصلة بالقرآن الكريم، والتي تعين على فهمه بطريق مباشر، مثل البحوث التي تضمَّنها كتاب "البرهان" للزركشي، وكتاب "الإتقان" للسيوطي. وانفرد التفسير عن هذه العلوم بالتأليف والتصنيف، مع أنه داخل فيها لمسيس الحاجة إليه من غيره عند جميع المكلَّفين بلا استثناء. أما غيره من علوم القرآن، فلا يكاد يحتاج إليه إلّا المتخصصون في دراسة كتاب الله تعالى، على نحو من تفسيره للناس، تفسيرًا صحيحًا، وفق هذه العلوم التي يعنون بدراستها. فعلوم القرآن سوى التفسير، من شأن أولي العلم والنُّهَى، ورجال التفسير والتأويل الذي يُنَاطُ بهم فهم القرآن أولًا، وبيان معانيه للناس ثانيًا. وأما التفسير، فالأمر فيه ما قد علمت، فلا تغفل عن ذلك، وقد كانت علوم القرآن قبل عصر التدوين وبعده بزمن غير يسير متصلة بسائر العلوم الشرعية, بل والعلوم العربية أيضًا, ثم انفصلت عنها. وفيما يلي نبذة تاريخية يتبين لك فيها المراحل التي مرَّ بها هذا العلم, حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن.

المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها

المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها 1- كان الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه، ما عرف العلماء، وفوق ما عرف العلماء من بعد. أما الرسول -صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعلم من القرآن ظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وعامَّه وخاصَّه، ومطلقه ومقيده، وغير ذلك من الأمور الجلية والخفية، التي اشتملها هذا الكتاب العظيم. فقد كتب الله على نفسه الرحمة ليجمعنَّه له في صدره، وليطلق لسانه بقراءته وترتيله، وليميطنَّ اللثام عن معانيه وأسراره. قال جل شأنه في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. وأما أصحابه، فقد نهلوا من معينه، فعلموا منه بقدر طاقتهم ما أعانهم على فهم ما يتعلق بشئون دينهم ودنياهم، وعرفوا من أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- مراد الله تعالى من كلامه المنَزَّل، أعان بعضهم بعضًا على ذلك، بعد أن لقي الرسول -صلى الله عليه وسلم ربه، فكان منهم يسأل الآخر عَمَّا غمض عليه فهمه، أو جهل حكمه. وكان منهم من دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعلم والفقه؛ كابن عباس -رضي الله عنهما، والخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم. وكان الصحابة عربًا خُلَّصًا، متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة، وذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير

_ 1 آية: 16-19.

للأساليب، ووزن لما يسمعون بأدق المعايير، حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم، وصفاء فطرتهم، ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع زحمة العلوم, وكثرة الفنون. وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- مع هذه الخصائص أمِّيين، وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم, والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهاهم أن يكتبوا عنه شيئًا غير القرآن، وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه, عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدِّثُوا عني فلا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره، أو يختلط بالقرآن ما ليس منه. فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن, كما لم يكتب الحديث الشريف، ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر. ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه، والقرآن وعلومه، والسنة وتحريرها تتلقينًا لا تدوينًا، ومشافهة لا كتابة" أ. هـ1. 2- ولما اتسعت رقعة الإسلام في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه، واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية، خاف بعض المسلمين على القرآن أن يختلف المسملون في قراءته إن لم يجتمعوا على مصحف واحد، فأشاروا على عثمان بكتابة القرآن الكريم في مصحف واحد, وتنسخ منه عدة مصاحف يُبْعَثُ بها إلى أقطار الإسلام، وأن يحرق الناس ما عداها، على ما سيأتي بيانه مفصَّلًا عند الكلام على جمع القرآن. فاستجاب -رضي الله عنه- لهذه النصيحة الغالية؛ فجمع المسلمين على مصحف واحد عُرِفَ بمصحف الإمام، وبهذا العمل وضع عثمان -رضي الله عنه- الأساس لما نسميه علم رسم القرآن، أو علم الرسم العثماني.

_ 1 انتهى بتصرف يسير من مناهل العرفان ج1 ص22، 23.

ثم جاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، فلاحظ أن العُجْمَة تكاد تحفيف على اللغة العربية، وسمع بعض الناس يلحنون في اللسان العربي، فأمر أبا الأسود الدؤليّ أن يضع بعض القواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل، ووضع له المنهج، وقال له: انح للناس على هذا النحو. وبذلك يكون -رضي الله عنه- أول مَنْ وضع علم النحو, وتبعه فيما بعد علم إعراب القرآن، وهو علم يعين المفسِّر على فهم كتاب الله تعالى كما هو معلوم, والإعراب فرع المعنى كما يقولون. ومضى المسلمون بعد الخلافة الرشيدة في نشر علوم القرآن، بالمشافهة والتلقين، حتى جاء عهد التدوين بعد المائة الأولى من الهجرة، فأُلِّفَت كتب في أنواع شتَّى من علوم القرآن، واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير بوصفه رأس العلوم وعمدتها، لما فيه من التعرُّضِ لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز. ومن أوائل الكاتبين في التفسير: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، وهم من علماء القرن الثاني. ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفَّى سنة 310هـ, وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، لأنه أوَّل من عرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض, كما عرض للإعراب والاستنباط. وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا. أما علوم القرآن الأخرى، ففي مقدمة المؤلفين فيها: على بن المديني شيخ البخاري، إذ ألَّفَ في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام، إذ كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث. وفي مقدمة من ألَّفَ في غريب القرآن: أبو بكر السجستاني, وهو من علماء القرن الرابع.

وفي طليعة من صنَّف في إعراب القرآن: علي بن سعيد الحوفي، وهو من علماء القرن الخامس. ومن أوائل من كتب في مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي، وهو من علماء القرن السادس. كذلك تصدَّر للتأليف في مجاز القرآن: العز بن عبد السلام, وفي القراءات: عَلَمُ الدين السخاوي، وهما من علماء القرن السابع. وهكذا قويت العزائم، وتبارت الهمم، ونشأت علوم جديدة للقرآن، وظهرت مؤلفات في كل نوع منها، لهذا اشرأَبَّت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علمًا جديدًا يكون كالفهرس لها، والدليل عليها والمتحدِّث عنها، فكان هذا العلم هو ما نسميه "علوم القرآن" بالمعنى المدوَّن. قال الزرقاني: "ولا نعلم أن أحدًا قبل المائة الرابعة للهجرة ألَّفَ أو حاول أن يؤلِّفَ في علوم القرآن بالمعنى المدوَّن؛ لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف، وإن كنَّا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء، على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم. ولقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أوَّل عهد ظهر فيه هذا الإصطلاح، أي اصطلاح علوم القرآن، وهو القرن السابع. لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتابٍ لعلي بن إبراهيم بن سعيد، الشهير بالحوفي, المتوفَّى سنة 330هـ، اسمه "البرهان في علوم القرآن", وهو يقع في ثلاثين مجلدًا، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدًا غير مرتبة، ولا متعاقبة، من نسخة مخطوطة. وإذن نستطيع أن نتقدّم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان، أي: إلى بداية القرن الخامس بدلًا من القرن السابع. ثم جاء القرن السادس فألَّفَ فيه ابن الجوزي, المتوفَّى سنة 597هـ كتابين: أحدهما اسمه "فنون الأفنان في علوم القرآن"، والثاني اسمه: "المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن", وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية.

وفي القرن السابع ألَّفَ علم الدين السخاوي المتوفَّى سنة 641هـ كتابًا سماه: "جمال القرَّاء". وألَّفَ أبو شامة المتوفى سنة 665هـ كتابًا أسماه: "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز", وهما -كما قال السيوطي- عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ قصيرة، بالنسبة للمؤلفات التي أُلِّفَتْ بعد ذلك في هذا النوع. ثم أهلَّ القرن الثامن، فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794هـ كتابًا سماه: "البرهان في علوم القرآن", ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة، فدرج فيه وترعرع، إذا ألَّف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة 873هـ كتابًا يقول السيوطي عنه: إنه لم يسبق إليه. وفي هذا القرن أيضًا وضع جلال الدين البلقيني كتابًا سماه: "مواقع العلوم من مواقع النجوم". وفي هذا القرن التاسع أيضًا ألَّف السيوطي كتابًا سماه: "التحبير في علوم التفسير", ضمَّنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، وأضاف إليه فوائد سمحت قريحته بنقلها، وقد أوفى هذا الكتاب على الاثنين بعد المائة من الأنواع، وفرغ الإمام من تأليف تحبيره هذا سنة 872هـ, غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا المجهود العظيم, بل طمح إلى التبحُّر والتوسُّع والترتيب، فوضع كتابه الثاني "كتاب الإتقان في علوم القرآن", وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن، ذكر فيه ثمانين نوعًا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج"1. ثم فترت الهمم بعد السيوطي المتوفى سنة 911هـ, لكنها لم تلبث حتى انبعثت مرة أخرى تجدد لهذه العلوم ثوبها، وتضيف إليها من البحوث ما يزيل شبه المستشرقين، ومن لف لفهم حول بعض ما جاء في كتب الأقدمين من روايات، وتَقَّول، وتطفوا على هذه العلوم القرآنية نظريات جديدة دعت إليها

_ 1 انتهى بتصرف من مناهل العرفان ص28، 30.

ضرورة العصر الذي تميَّزَ بظهور كثير من الاكتشافات العلمية في العلوم الطبيعية والفلسفية، وغيرها، فألفت في هذه العلوم القرآنية كتب كثيرة، منها: 1- "البيان في علوم القرآن" للشيخ طاهر الجزائري، يقع في قريب من ثلاثمائة صفحة، وفرُغَ من تأليفه سنة 1335هـ. 2- "منهج الفرقان في علوم القرآن" للشيخ محمد علي سلامة. 3- "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز. 4- "مناهل العرفان" للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. 5- اللآلئ الحسان في علوم القرآن" للدكتور موسى لاشين. 6- "مباحث في علوم القرآن" للشيخ منَّاع القطان. هذا وهناك بحوث ورسائل كثيرة كُتِبَت في بحوث مختلفة نُشِرَت في جامعة الأزهر، وجامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وغيرها من جامعات العالم. ولو جُمِعَ من هذه البحوث والرسائل أنقاها وأزكاها في موسوعة بالغة ما بلغت من الحجم لكان عملًا رائعًا يستحقه الإكبار والتقدير. إذ يجد الباحث في هذه الموسوعة ما يبتغيه من أيسر طريق، وبأقل جهد.

المبحث الثالث: أسماء القرآن

المبحث الثالث: أسماء القرآن سُمِّيَ القرآن الكريم بأسماء كثيرة، أخذت من أوصافه التي وردت فيه، وأشهر هذه الأسماء: 1- القرآن: وقد تقدَّمَ تعريفه لغة، وشرعًا. 2- الكتاب: وهو مصدر من الكتب، ومعناه الضمِّ والجمع، ومنه الكتيبة، وهي القطعة من الجيش. وهذا الاسم موافق للذي قَبِلَه في المعنى، فالقرآن جمع الحروف، وضمّ بعضها إلى بعض في النطق، والكتاب جمع الحروف وضمّ بعضها إلى بعض في الخط. 3- التنزيل: وهو مصدر "نزَّل" بتشديد الزاي, قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين} 1. 4- الفرقان: سُمِّيَ بذلك لأنه يفرِّقُ بين الحق والباطل بالحجة القاطعة والبرهان الساطع، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 2. 5- الهدى: قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} .

_ 1 الشعراء: 192. 2 الفرقان: 1.

وقال جلَّ شأنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} 1. 6- الصراط المستقيم: لأنه المنهج الواضح الذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، ولا تناقضَ فيه ولا اختلاف. وقد صنَّف الحرالي من أسماء القرآن جزءًا، وأنهى أساميه إلى اثنين وتسعين، كما قال الزركشي في البرهان. وقد عَدَّ الزركشي منها جملة، وبيَّنَ اشتقاقها2، ولكن أكثرها غير مشهور، والمشهور منها ما ذكرناه، والأوصاف لا تنزل منزلة الأسماء، إلّا إذا اشتهر بها الموصوف, وكانت دالَّة عليه بالأصالة, قائمة مقام العلم عند حذفه. وأكثر ما ذكره الحرالي والزركشي وغيرهما أوصاف للقرآن، وليست أسماء، ولا هي كالأسماء؛ لعدم استقلالها في الدلالة عليه.

_ 1 الصف: آية9. 2 راجع ج1 ص273 "النوع الخامس عشر".

المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي

المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي يجدُرُ بنا بعد أن ذكرنا لك مفهومه لفظ "قرآن" في اللغة وفي الاصطلاح, أن نبيِّنَ لك الفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي، فنقول: إن كان المراد بالحديث القدسي ما نَزَلَ لفظه ومعناه من عند الله تعالى, فالفرق بينه وبين القرآن الكريم من وجوه. الأول: أن القرآن معجزة تحدَّى الله به الإنس والجن، والحديث القدسي ليس كذلك. الثاني: أن القرآن الكريم متعبَّدٌ بتلاوته، والحديث القدسي ليس كذلك. الثالث: القرآن متواتِرٌ، نقله الجمع الغفير ممَّن بلغ الغاية في العدالة والضبط عن مثلهم، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، والحديث القدسي منه الصحيح ومنه الحسن، ومنه الضعيف. الرابع: لا تجوز رواية القرآن بالمعنى، بخلاف الحديث القدسي، فإنه يجوز أن يروى بمعناه، بشرط أن يكون الراوي محيطًا بالمعاني، فقيهًا بمباني الألفاظ واشتقاقها. الخامس: لا يجوز للجنُبِ قراءة القرآن ولا مسَّ المصحف، ويجوز له قراءة الحديث القدسي ومسُّ الكتاب الذي يحتويه. السادس: أن الله تكفَّلَ بحفظ القرآن، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. فلا يضيع حرف من حروفه حتى يأتي أمر الله. بخلاف الحديث القدسي، فإنه قد يبدل لفظ من ألفاظه, أو ينسى بعضه بمرور الزمان، وذهاب الحافظين.

_ 1 الحجر: آية9.

السابع: أنه من أنكر لفظًا من ألفاظ القرآن الكريم كفر؛ لأنه متواتر كله، بخلاف الحديث القدسي, فإنه من أنكر شيئًا منه لم يُعْلَمْ من الدين بالضورة لا يكفر، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان. وأما إن قلنا: إن الحديث القدسي هو ما نَزَلَ من عند الله بمعناه دون لفظه، فلا يكون هناك ما يستدعي ذكر هذه الفروق. وهذا القول هو الأولى بالقبول من سابقه. قال محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم"1 مرجِّحًا هذا القول: "وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا؛ لأنه لو كان منَّزلًا بلفظه لكان له في الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنَّظْمِ القرآني، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منَزَّلَين من عند الله، فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعًا, وحرمة مسِّ المحدِّث لصحيفته، ولا قائل بذلك كله. وأيضًا فإن القرآن لما كان مقصودًا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، والحديث القدسي لم ينزل للتحدُّث ولا للتعبُّد، بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه. فالقول بإنزال لفظه، قول شيء لا داعي في النظر إليه, ولا دليل في الشرع عليه، اللهمَّ إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة "يقول الله تبارك وتعالى كذا". لكن القرائن التي ذكرناها آنفًا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية، فإنك تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: "يقول الشاعر كذا", وتقول حينمًا تفسِّر آية من كتاب الله بكلام من عندك "يقول الله تعالى كذا"، وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون، وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم.

_ 1 ص11.

فإن زعمت أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدَّس وراء المعنى لصحَّ لنا أن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيًّا أيضًا، لوجود هذا المعنى فيه, فجوابه: إننا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورود النصِّ الشرعي عن نسبته إلى الله بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "قال الله تعالى كذا" سميناه قدسيًّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية، فإنها لما لم يرد فيها مثل هذا النص، جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلمًا بالوحي، وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد والرأي، فسمي الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحدِّ المقطوع به، ولو كانت لدينا علامة تمييز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيًّا كذلك".

المبحث الخامس: تنزلات القرآن

المبحث الخامس: تنزلات القرآن 1- نزل القرآن أولًا من الله تعالى إلى اللوح المحفوظ بكيفية لا نعلمها، الله يعلمها. قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 1. "ومعنى إنزاله في اللوح المحفوظ مجرَّد إثباته فيه، من غير نظر إلى علوٍّ وسفل، وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة من وجود اللوح نفسه, فإنه السجل الجامع لما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، وقد بيَّن الله حكمة وجوده بقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 2، 3. 2- ثم نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة مباركة هي ليلة القدر. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} 4. وقال جل شأنه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وقال عز من قائل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 5. وليلة القدر من ليالي شهر رمضان كما هو معلوم. فهذه الآيات الثلاث تدل بمجموعها على أن هذا القرآن العظيم قد نزل غير مُنَجَّمٍ, مما يدل على أنه نوع آخر من أنواع التنزُّلات غير النوع الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 البروج: 21-22. 2 الحديد: 22-23. 3 الآلئ الحسان ص12. 4 الدخان: 3. 5 البقرة: 185.

"وإنما قلنا ذلك جمعًا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعًا للتعارض فيما بينها، ومعلوم بالأدلة القاطعة -كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- مفرَّقًا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددًا، فتعيَّنَ أن يكون هذا النزول الذي نوَّهت -هذه الآيات الثلاث نزولًا آخر غير النزول على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا. أخرج الحاكم بسنده, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أنه قال: "فُصِّلَ القرآن من الذكر"1 فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي -صلى الله عليه وسلم". وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أُنْزِل بعد ذلك في عشرين سنة"2 ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 3. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 4. وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: "أُنْزِلَ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض". وأخرج ابن مردويه والبيهقي, عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5.

_ 1 أي: من اللوح المحفوظ. 2 هذا التحديد تقريبي؛ لأن القرآن نزل منجمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، والعرب يتجاوزون عن الكسور في كلامهم. 3 الفرقان: 33. 4 الإسراء: 106. 5 البقرة: 185.

وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} . وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم, وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: "إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ورسلًا في الشهور والأيام" قال أبو شامة: رسلًا أي: وفقًا، وعلى مواقع النجوم أي: مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقًا، يتلو بعضه بعضًا على تؤدة ورفق. هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب، وكلها صحيحة كما قال السيوطي، وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس، غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، لما هو مقرر من أن قول الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، حكمه حكم المرفوع، ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلّا من المعصوم، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات, فثبت الاحتجاج بها. وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك، بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا"1 والحكمة في هذا التنزل لا نعلمها على وجه اليقين, ولسنا مكلفين بمعرفتها. وأبلغ الظن أنه تفخيم لشأن القرآن الكريم، وشأن من نزل عليه، بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزَّلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم.

_ 1 انظر مناهل العرفان ص37-39.

3- ومن بيت العزة نزل به جبريل -عليه السلام- على قلب محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة هدًى للناس، وتبيانًا لكلِّ شيء، يتعلَّق به شأن من شئونهم الدنيوية والأخروية, قال -جلَّ شأنه- في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1. "والذي يجب الجزم به أن جبريل نزل بألفاظ القرآن المعجِزَة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس, وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده، لا دخل لجبريل ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في إنشائها ولا في ترتيبها، فالألفاظ التي نقرؤها ونكتبها هي من عند الله، وليس لجبريل -عليه السلام- في هذا القرآن سوى حكايته للرسول -صلى الله عليه وسلم, وليس للرسول -صلى الله عليه وسلم- سوى وعيه وحفظه وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره، ثم تطبيقه وتنفيذه"2. وقد تلقَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله بواسطة جبريل -عليه السلام- بقلبه، إذ هو المالك لجميع جوارحه؛ به يسمع، وبه يعقل، وبه يبصر. وقد قال الله -عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} . للدلالة على أنَّ ما نزل عليه محفوظ بعناية الله تعالى, وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- متمكن من تلقيه واستيعابه حفظًا وفهمًا. "والقلب هو المخاطَبُ في الحقيقية؛ لأنه موضع التمييز والاختيار، وسائر الأعضاء مسخرة له. يدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب} 3.

_ 1 آية: 192-195. 2 اللآلئ الحسان ص13. 3 ق: 37.

وأما الحديث: فقوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صلُحَت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". وأما المعقول: فإن القلب إذا غُشِّيَ عليه، وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات"1. هذا ما انتهى إليه علمنا في كيفية التلقي، لا تجاوزه إلى ما لا علم لنا به، ولا قدرة لنا على تحصيله وفهمه. وقد كان الوحي ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بكيفيات مختلفة، ويلقي إليه القرآن كما أمره ربه -عز وجل, فيسمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأذنَي قلبه, والناس من حوله لا يسمعون شيئًا. وهذا أمر من أمر الله، وآية من آيات قدرته الباهرة، وسرٌّ من أسراره الخفية, وبرهان على أن رسوله الكريم طراز فريد، له روح ليست كالأرواح البشرية, وله قلب من معدن خاصٍّ يسمع به ويرى ما لا يسمعه غيره ويراه.

_ 1 انظر حاشية الجمل على الجلالين ج3 ص292.

المبحث السادس: تنجيم القرآن

المبحث السادس: تنجيم القرآن عرفنا أن القرآن الكريم قد نَزَلَ من لدن الحكيم العليم إلى اللوح المحفوظ أولًا، بمعنى: أن الله -عز وجل- أثبته فيه، كما أثبت كل شيء كان ويكون إلى ما شاء الله جل جلاله، وذلك لحكمة خفيت علينا. وعرفنا أن القرآن الكريم قد نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- منجمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، على حسب الوقائع والأحداث، ومقتضيات الأحوال, ولكن هل هو الكتاب الوحيد الذي نزل منجَّمًا؟ ذهب كثير من أهل العلم إلى أن التنجيم خصوصية من خصائص القرآن الكريم، بدليل أن الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم قالوا -شاكين ومشككين في صحة نزوله من الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم: هلَّا نزل هذا القرآن من الله جملة واحدة, كما أنزلت الكتب السابقة، فأبطل الله شبهتهم, وأبان عن الحكمة من إنزال القرآن على وجه الخصوص منجمًا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 1. والدليل على أن الكتب السماوية السابقة قد نزلت جملة واحدة, أن الله -عز وجل- قد عدل عن الجواب على سؤالهم إلى بيان الحكمة من التنجيم، ولو كانت

_ 1 الفرقان: 32-33.

الكتب السماوية السابقة نزلت مفرقة لكان يكفي في الردِّ عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة. والقول بأن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة، هو مذهب كثير من رجال العلم. ويرى القاسمي أنه لم يثبت على وجه قاطع أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة، ويرجِّح أنها نزلت منجَّمة بمقدار مكث النبي -صلى الله عليه وسلم، فيقول في تفسيره النفيس المسمَّى بمحاسن التأويل، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} . إلى قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} . "يذكر المفسرون ههنا أن الآية ردٌّ على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة، كنزول بقية الكتب جملة، ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة صحيح، فيأخذون لأجله في سرِّ مفارقة التنزيل له. والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له, وليس عليه أثارة من علم, ولا يصححه عقل، فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت لمقدار مكث النبي -صلى الله عليه وسلم، إذ ما دام بين ظهراني قومه فالوحي يتوارد تنزله ضرورة، ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين يتجلَّى له ذلك واضحًا لا مرية فيه، وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك، وما كلّ كلام معرض به، وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص، وتعنّت متفنِّن فيه -والله أعلم". ورأي القاسمي عندي جدير بالاعتبار، للأسباب الوجيهة التي ذكرها، ولعدم الدلالة في الآية على ما ذهب إليه المفسرون على وجهٍ تطمئن إليه النفس، ولأن حاجة النبيين قاضية بتجدد الوحي على حسب مقتضيات الأحوال، وحاجتهم إلى التثبيت والمواساة، كحاجة نبينا -صلى الله عليه وسلم, فقد واجهوا أممًا عاتية لا تقلُّ في ضلالها وغلوائها عن أهل مكة.

وكانوا أيضًا في حاجة إلى دفع شبهات المشركين بالوحي الذي يتنزل عليهم, كحاجة نبينا -صلى الله عليه وسلم لذلك، فأصول الدين واحدة، وقلوب المشركين متشابهة، فكان تنجيم الكتب السماوية جميعًا أمرًا لا بُدَّ منه شرعًا وعقلًا -والله أعلم. الحكمة من تنجيم القرآن: أما الحكمة في نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- منجَّمًا فقد أطلعنا الله عليها في محكم هذا التنزيل. وهي تتلخص المقاصد الآتية: 1- تثبيت قلب النبي -صلى الله عليه وسلم، وتسليته ومواساته، ورفع الحرج عنه، وإزالة ما يعتري صدره من ضيق وحزن، وإدخال السرور عليه الفَيْنَة بعد الفينة, ومده بالقوة التي تدفعه إلى المضي في دعوته، وتبليغ رسالته على خير وجه وأكمله، وتهوِّن عليه ما يلقاه من قومه من أذى وعنت وصدود، وليدفع عنه شبح اليأس كلما حام حوله، واعترض طريقه, لتظل همته دائمًا في الذروة العليا. قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} 1. وقال -جل شأنه- في سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 2. 2- ومن أهداف التنجيم أيضًا تيسير حفظ هذا القرآن العظيم على النبي -صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، وقد كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب ولا عهد لهم بمثل هذا الكتاب المعجِز, فهو ليس شعرًا يسهل عليهم حفظه، ولا نثرًا يشبه كلامهم, يسهل عليهم نقله وتداوله، وإنما هو قول كريم, ثقيل في معانيه ومراميه، يحتاج المسلم في حفظه وتدبره إلى تريِّثٍ وتؤدة وإنعام نظر.

_ 1 الفرقان: 32. 2 آية: 120.

قال تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} . "قال القاشاني: الترتيل هو أن يتخلَّل بين كل نجم وآخر مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه, وأن يصير ملكة لا حالًا"1. وقال جل شأنه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 2. "أي: نزَّلْنَاه مفرقًا منجَّمًا لتقرأه على الناس على مهل وتؤدة وتَثَبُّت، فإنه أيسر للحفظ، وأعون في الفهم ونزلناه تنزيلًا من لدنا على حسب الأحوال والمصالح"3. 3- ومن أهم الأهداف التي أُنْزِلَ من أجلها القرآن مفرَّقًا "التدرج بالأمة في تخليهم عن الرذائل، وتحليهم بالفضائل، والترقي بهم في التشريعات، فلو أنهم أُمِروا بكل الواجبات، ونُهوا عن جميع المنكرات دفعة واحدة لشقَّ عليهم، ولضعُفَت الهمم الصغيرة عن التجاوب والمسايرة. تمامًا كالطبيب الذي يعطي المريض دواءه على جرعات, ولو أعطاه له مرة واحدة لتحقق أحد أمرين، إما رفض المريض للدواء والصد عنه، وإما القضاء عليه"4. 4- نزل القرآن منجَّمًا لمواكبة الحوادث، وهي متتجددة متعددة. فكان كلما جَدَّ جديد من الأمور الصحية التي تتعلق بمصالح العباد في العاجل والآجل، جاء حكم الله فيها, فيرسخ في النفوس، وتتجاوب معه وترتضيه. وفي القرآن آيات كثيرة نزلت على سبب أو أكثر، إذا جهل سببها لا يعرف حكمها، على ما سيأتي بيانه في أسباب النزول, فكم من قضية توقَّفَ النبي

_ 1 انظر محاسن التأويل, القاسمي, ج12 ص4576. 2 الإسراء: 106. 3 انظر المرجع السابق ج10 ص4009. 4 الآلئ الحسان ص16.

صلى الله عليه وسلم- في البتِّ فيها، حتى نزل في شأنها قرآن يُتْلَى، فكان ما نزل فيها تقريرًا شافيًا، وحكمًا عادلًا، لا يستطيع أحدٌ رده، ولا يسع المسلمين إلّا قبوله والرضى به. 5- الردّ على شبه المشركين، ودحض حجج المبطلين؛ إحقاقًا للحقِّ، وإبطالًا للباطل، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . وفي ذلك لكيدهم في نحروهم أولًا بأوَّل، حتى يتمادوا في غيهم وإضلالهم لضعفاء النفوس منهم, وحتى لا يتأثَّر أحد من المسلمين بأقوالهم، فينعكس ذلك على إيمانه وطاعته لله رب العالمين، والقلوب تحتاج دائمًا إلى تطهير من الشبهات والوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية، فكان القرآن الكريم كفيلًا بذلك كله، كما قال -جل شأنه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} 1. 6- وهناك أمر آخر يغفل عنه كثيرٌ من أهل العلم في حكمة التنجيم، وهو الدلالة على الإعجاز البياني، والتشريعي للقرآن، فإنه -وإن كان قد نزل مفرَّقًا في نحو ثلاث وعشرين سنة, وفي أوقات متباينة، وأحكام مختلفة، وحوادث متعددة, قد رُتِّبَ ترتيبًا عجبًا لا ترى فيه بترًا، ولا خللًا بين آياته، ولا تنافرًا بين ألفاظه، ولا تناقضًا في معانيه، ولا اختلافًا في مقاصده ومراميه. {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2. إنه كلام الله تعالى قد استوت ألفاظه ومعانيه على محجة بيضاء، لا يعرف الناس لها عوجًا ولا أمتًا، وانتظمت في عقدٍ فريد لا يبلغ كلام أحد شأوه، ولا يعرف كنه جلاله وجماله إلا من أنزله.

_ 1 الإسراء: 82. 2 هود: 1.

المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل مدخل ... المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل هذا بحث تاريخي مداره على النقل والتوقيف، ولا مجال للعقل فيه إلّا بالترجيح بين الأدلة, أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها، شأنه في ذلك شأن كثير من مباحث علوم القرآن، كمعرفة المكي والمدني, وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك. ولهذا البحث فوائد منها: 1- تمييز الناسخ من المنسوخ, فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هذه الآيات يغاير الحكم في الأخرى. 2- معرفة تاريخ التشريع الإسلامي، ومراقبة سيره التدريجي، والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذه الناس بالهوادة والرفق، والبعد بهم عن غوائل الطفرة والعنف، سواء في ذلك هدم ما مردوا عليه من باطل، وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق. 3- إظهار مدى العناية التي أحيط بها القرآن الكريم حتى عُرِفَ فيه أول ما نزل، وآخر ما نزل، كما عُرِفَ مكيه ومدنيه، وسفرّيه وحضرّيه، إلى غير ذلك، ولا ريب أن هذا مظهر من مظاهر الثقة به، ودليل على سلامته من التغيير والتبديل: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1، 2. 4- ويضاف إلى هذه الفوائد فائدة أخرى، وهي معرفة الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم، عن طريق ربط أول ما نزل منه بآخره، فإن من ينظر في أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل يعرف الصلة الوثيقة بين آياته كلها في ألفاظها ومعانيها ومراميها، ويتبين له بوضوح أن أول ما نزل مقدمة تقود الباحث إلى ما في هذا الكتاب العزيز من مقاصد وعبر، وأحكام وحكم، وآخرما نزل يوجز

_ 1 يونس: 64. 2 انظر مناهل العرفان ج1 ص85.

كل ما ورد فيه من تلك المقاصد والعِبَر، والأحكام والحكم, فيلتقي الآخر بالأول في نسق واحد، ونسج فريد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما ستعرف ذلك عند معرفة أول ما نزل من الآيات، وآخر ما نزل على الصحيح من أقوال المحققين. وإني لا أتتبع هنا أول ما نزل وآخر ما نزل في كل باب من أبواب العبادات والمعاملات، أو في كل ضربٍ من أضرب الآداب الشرعية والأخلاق المرعية, فذاك أمر عسير يحتاج تتبعه واستقصاؤه إلى طاقات فكرية وعلمية لا تتوفر لأمثالي. ولكني أتكلم هنا عن أوَّل ما نزل بإطلاق، وآخر ما نزل على الراجح من أقوال العلماء بإطلاق.

أول ما نزل بإطلاق

أول ما نزل بإطلاق: 1- اتَّفَق جمهور المحققين على أن أوَّلَ ما نزل من القرآن الكريم بإطلاقٍ أوائل سورة العلق، إلى قوله -جل شأنه: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وذلك لما رواه البخاري ومسلم "واللفظ للبخاري", عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها قالت: "أوَّلَ ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث1 فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك, ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ, فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ثم أرسلني، فقال: أقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم. الحديث"2.

_ 1 يتحنَّث: يتعبَّد. 2 الحديث بطوله رقم 3, باب: "كيف كان بدء الوحي".

وفي بعض الروايات: حتى بلغ "ما لم يعلم". وهناك أحاديث كثيرة غير هذا الحديث، تفيد صراحةً أن هذه الآيات من سورة "العلق" هي أوَّل ما نزل من القرآن الكريم، ضربنا صفحًا عن ذكرها، مخافة التطويل. 2- وقيل: إن أوَّلَ ما نزل من القرآن أوائل سورة المدثر، واستدلَّ أصحاب هذا القَوْلِ بما رواه البخاري ومسلم, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل قبل؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} , وفي رواية نبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَْ} , فقال: أحدثكم ما حدَّثنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت, فاستبطنت الوادي -زاد في رواية: فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي- ثم نظرت إلى السماء فإذا هو "يعني: جبريل" -زاد في رواية: جالس على عرشٍ بين السماء والأرض- فأخذتني رجفة, فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} . لكن هذه الرواية ليست نصًّا فيما نحن بسبيله من إثبات أوَّل ما نزل من القرآن إطلاقًا، بل تحتمل أن تكون حديثًا عَمَّا نزل بعد فترة الوحي، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضًا، عن أبي سلمة, عن جابر أيضًا: "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء, فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسيٍّ بين السماء والأرض, فجثثت 1 حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي، فقلت: زملوني، فزملوني, فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان. أ. هـ.

_ 1 جثثت على وزن "فرحت"، معناه: ثَقُلَ جسمي عن القيام، وسببه فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخوفه.

"فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرًا استند في كلامه على أن أوَّل ما نزل من القرآن هو المدثر، إلى ما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو يحدِّث عن فترة الوحي، وكأنه لم يسمع بما حَدَّثَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم عن الوحي قبل فترته، من نزول الملك على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حراء بصدر سورة اقرأ "كما روت عائشة", فاقتصر في إخباره على ما سمع ظانًّا أنه ليس هناك غيره، اجتهادًا منه، غير أنه أخطأ في اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة في القول الأول، ومعلوم أن النصَّ يُقَدَّمُ على الاجتهاد، وأن الدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال، سقط به الاستدلال, فبطل إذًا القول الثاني، وثبت الأول"1. أقول: لعل جابر بن عبد الله أراد أن أوائل المدثر نزل في أول الرسالة، وآيات سورة العلق نزلت في بدء النبوة، وبذلك يرتفع الإشكال بدليل قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} . أول أن آيات المدثر من أوائل ما نزل، لا أول ما نزل على الإطلاق -والله أعلم.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص87، 88.

آخر ما نزل

آخر ما نزل: اختلف العلماء في آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق اختلافًا كثيرًا، لعدم وجود أثر صحيح مسند إلى رسول الله -صلى الهل عليه وسلم، يُعْتَمَد عليه في تحقيق ذلك على وجهٍ يقطع الخلاف، ويزيل الالتباس، وقد انتهت أقوال العلماء في هذا الأمر إلى عشرة أقوال أشهرها أربعة: الأول: آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} 1.

_ 1 آية: 281.

أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس. وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم قال: "آخر ما نزل من القرآن كله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، الآية. وعاش النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نزولها تسع ليال، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول. الثاني: إن آخر ما نزل هو قول الله تعالى في سورة البقرة أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. أخرجه البخاري عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن عمر. الثالث: أن آخر ما نزل آية الدَّيْن في سورة البقرة أيضًا, وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . إلى قوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 2. وهي أطول آية في القرآن. أخرج بن جُرَيج عن سعيد بن المسيب "أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدين". أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: "آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين". ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي -رضي الله عنه- من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف؛ لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح. قال الزرقاني في مناهل العرفان3 بعد أن سرد هذه الأقوال: "ولكن النَّفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولًا هو قوله الله تعالى:

_ 1 آية: 278. 2 آية: 282. 3 ج1 ص90.

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . وذلك لأمرين: أحدهما: ما تحمله هذه الآية في طيَّاتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين، بسبب ما تحثّ عليه من الاستعداد ليوم المعاد، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله، واستيفاء الجزاء العادل من غير غبنٍ ولا ظلم، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها. ثانيهما: التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاش بعد نزولها تسع ليالٍِ فقط، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص ِّمثله". الرابع: أن آخر ما نزل هو سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} رواه مسلم عن ابن عباس. ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعِرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما روي من أنه -صلى الله عليه وسلم- قال حين نزلت: "نعيت إلى نفسي"، وكذلك فهم بعض كبار الصحابة. كما ورد أن عمر -رضي الله عنه- بكى حين سمعها وقال: "الكمال دليل الزوال". ويحتمل أيضًا أنها آخر ما نزل من السور فقط, ويدل عليه رواية ابن عباس: آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} . ويظن بعض أهل العلم أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1. والحق أنها ليست آخر ما نزل بإطلاق.

_ 1 آية: 3.

ولعلك لم تنس أن آية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} . كانت آخر الآيات نزولًا على الإطلاق، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاش بعدها تسع ليالٍ فقط، وتلك قرينة تمنعنا أن يفهم إكمال نزول القرآن من إكمال الدين في آية المائدة المذكورة. والأقرب أن يكون معنى إكمال الدين فيها يومئذ هو إنجاحه وإقراره، وإظهاره على الدين كله، ولو كره الكافرون.

المبحث الثامن: جهات نزول القرآن

المبحث الثامن: جهات نزول القرآن ... المبحث الثامن: جهات نزل القرآن نعني بالجهات: الأماكن التي نزل فيها القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة. فمنه ما نزل بمكة، ومنه ما نزل بالمدينة، ومنه ما نزل بالجحفة، ومنه ما نزل ببيت المقدس، ومنه ما نزل بالطائف، ومنه ما نزل بالحديبية. وقد حاول الباحثون أن يتتبعوا ما نزل في هذه الأماكن وغيرها، معتمدين في ذلك على الروايات الصحيحة، ليستعينوا بمعرفة جهات النزول على فهم الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيات، وليعرفوا الناسخ منها والمنسوخ، وغير ذلك من الفوائد التي سيأتي بيانها. وقد نقل السيوطي في الإتقان1 عن أبي القاسم النيسابوري في كتابه "التنبيه على فضل علوم القرآن" قوله: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله، وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني, وما نزل بالمدينة وحكمه مكيّ، وما نزل بمكة من أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعًا، وما نزل مفردًا، والآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكيات في السور المدنية، وما حُمِلَ من مكة إلى المدينة, وما حُمِلَ من المدينة إلى مكة، وما حُمِلَ من المدينة إلى أرض الحبشة، وما أُنْزِلَ مجملًا، وما نزل مفصَّلًا، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي. فهذه خمسة وعشرون وجهًا مَنْ لم يعرفها ويميِّزُ بينها, لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى".

_ 1 ج1 ص36.

أقول: في هذا الكلام شيء من المبالغة؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال. ومعرفتها جميعًا من فضول العلم لا من أصوله، وقوله: "مَنْ لم يعرفها ويميِّز بينها لم يحِلّ له أن يتكلم في كتاب الله تعالى" حكم غير صحيح، فإن أراد بعضها كمعرفة المكي والمدني، فمسلم. والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعًا، ومع ذلك كانوا يتكلمون في كتاب الله تعالى بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقولٍ منه أو بفعل. نقل الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر في الانتصار: إن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم, غير أنه لم يكن من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول, ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أنَّ قدر ما نزل بمكة كذا، وبالمدينة كذا، وفصَّله لهم، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله؛ لأنه لم يؤمر به, ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة. وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، ليُعْرَف الحكم الذي تضمنها، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول -صلى الله عليه وسلم، وقوله هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبوا أنَّ من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربًا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذِكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه، مكية أو مدنية.

فيجوز أن يقف في ذلك، أو يغلب على ظنه أحد الأمرين، وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا، أو شهرته في الناس، ولزوم العلم به لهم, ووجوب ارتفاع الخلاف فيه. لهذا لا يجب أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن كل هذه الوجوه التي ذكرها أبو القاسم النيسابوري, ولكننا نكتفي بما تتعلق به فائدة في معرفة حكم من أحكام الدين. وأشهر ما يعنى به العلماء من هذه الوجوه معرفة المكي والمدني. وفيما يلي بيان ما اصطلحوا على تسميته مكيًّا، وما اصطلحوا على تسميته مدنيًّا، ومناقشة هذه المصطلحات بإيجاز.

المبحث التاسع: المكي والمدني

المبحث التاسع: المكي والمدني مدخل ... البحث التاسع: المكي والمدني للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات: الأول -وهو الأولى والأشهر: أن المكي ما نزل قبل هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا التعريف جامع مانع، روعي فيه زمان النزول، وهو أولى من رعاية المكان؛ لأن معرفة التدرج في التشريع ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من الفوائد متوقفة على معرفة المتقدِّم والمتأخِّر في الزمان، لهذا كان هذا التعريف هو المعتمد عند أكثر أهل العلم. وعليه تكون آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} 1 -مثلًا- مدنية، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 2. فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم. وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره -عليه الصلاة والسلام؛ كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر، فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور. الثاني من المصطلحات: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة ضواحيها، كالمنزَّل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بِمِنَى وعرفات والحديبية، ويدخل في المدينة ضواحيها أيضًا، كالمنزَّل عليه في بدر وأحد، وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزل كما ترى.

_ 1 المائدة: 3. 2 النساء: 58.

وهذا التعريف لما روعي فيه المكان لم يكن ضابطًا صحيحًا لاختلاف الأماكن التي نزل فيها القرآن، بخلاف التعريف الأول، فإنه يحدِّد المكي بزمان معين، وهو ما قبل الهجرة، ويحدِّد المدني بزمان معين، وهو ما كان بعد الهجرة، ونحن نعلم أن من القرآن ما لم ينزل بمكة ولا بالمدينة, بل أنزل بأماكن أخرى متباعدة. فقوله تعالى -مثلًا- في سورة التوبة: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} 1، نزلت بتبوك. وقوله -جل شأنه- في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} 2. فإنها نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. الثالث: أن المكي ما وقع خطابًا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابًا لأهل المدينة. وعليه يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قال: إن ما صدر في القرآن بلفظ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} فهو مكي، وما صدر فيه بلفظ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني؛ لأن الكفر كان غالبًا على أهل مكة؛ فخوطبوا بيا أيها الناس، وإن كان غيرهم داخلًا فيهم، ولأن الإيمان كان غالبًا على أهل المدينة، فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا، وإن كان غيرهم داخلًا فيهم أيضًا، وأَلْحَق بعضهم صيغة {يَا بَنِي آَدَم} بصيغة {يَا أَيُّهَا النَّاس} . أخرج أبو عبيد في فضل القرآن عن ميمون بن مهران قال: "ما كان في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاس} أو {يَا بَنِي آَدَم} فإنه مكي، وما كان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه مدني.

_ 1 آية: 42. 2 آية: 45.

وهذا التعريف غير ضابط، لأنه لوحظ فيه المخاطبون، فإن في المكي ما صدر بيا أيها الذين آمنوا، وفي المدني ما صدر بيا أيها الناس. وفيهما ما لم يصدر بأحداهما. سورة الحج -مثلًا- مكية وفي آخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. وسورة النساء مدينة وأولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} 2. ومن ذلك في المكي والمدني كثير. ويمكننا أن نقول: إن هذا التعريف يجري مجرى الغالب، إلّا أنه من شأن التعريف أن يكون جامعًا مانعًا، وجريانه مجرى الغالب لا يجعله كذلك. فالمراد لا يدفع الإيراد -كما يقولون.

_ 1 آية: 77. 2 النساء: 1.

ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني

ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني: علمنا أن طريق معرفة المكي والمدني من القرآن النقل الصحيح عن الصحابة، ثم عن التابعين ومَنْ بعدهم، وعلمنا أن أشهر المصطلحات وأصحَّها في تعريف المكي والمدني, هو أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، ونريد أن نعرف هنا أن هناك ضوابط كلية لمعرفة كلٍّ منهما، مبناها على الغالب والكثير ترجع إلى اللفظ، أو إلى أمور معنوية، وأن هناك أيضًا خواص ومزايا، ومقاصد وأغراض، انفرد بها كلٌّ منهما عن الآخر، وهي أمور دقيقة يتوقف إدراكها على شيء من إعمال الفكر، وإنعام النظر، ومعرفة واسعة بعلوم الشريعة واللغة.

ويلاحظ أن هذه الضوابط توجد في بعض السور دون بعض، فإذا وجد في سورة من السور شيء من هذه الضوابط عُلِمَ أنها مكية أو مدنية. فيما يلي بيان بعض هذه الضوابط بإيجاز: 1- كل سورة فيها لفظ "كَلَّا" فهي مكية، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة، كلها في النصف الأخير؛ لأن هذا النصف نزل أكثره بمكة، وأكثرهم جبابرة، فتكررت فيه على وجه التهديد. 2- كل سورة في أولها حرف من حروف المعجم مثل "المص -ق - ن" فهي مكية، إلّا الزهراوين1، وفي الرعد خلاف. 3- كل سورة فيها سجدة فهي مكية. 4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية, فهي مكية سوى البقرة فهي مدنية، وكذا آل عمران. 5- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية، سوى البقرة. 6- كل سورة فيها ذكر الجهاد، من الإذن فيها وبيان أحكامه، فهو مدنية، وكذا ما يتعلق به كالمعاهدات. 7- كل سورة فيها ذِكْرُ المنافقين فهي مدينة، ما عدا سورة العنكبوت، والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الأولى منها، وهي إحدى عشرة، فإنها مدنية، وهي التي ذُكِرَ فيها المنافقون. 8- كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض فإنها نزلت بالمدينة، والمراد بالفريضة هنا فريضة الميراث، لا مطلق الفريضة، وإلّا ففي المكي فرائض كثيرة كالصلاة والعدل، والتواضي بالحق، والتواصي بالصبر، والوفاء بالعهد وغيرها. وقد اشتهرت أحكام الميراث باسم الفرائض، حتى قال صلى الله عليه وسلم -كما روى الإمام أحمد بإسناد صحيح: "أفرضكم زيد".

_ 1 البقرة، وآل عمران.

مقاصد المكي

مقاصد المكي والمدني: القرآن الكريم بوجه عام كتاب هداية، ومنهج حياة، بيَّن الله فيه للناس ما يجب لهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم، وما يحرم عليهم، بأسلوب واضح ناصع البيان، وقد كان في مرحلته الأولى يمتاز بمميزات تأسيسية عقدية وشرعية مجمَلة، وكان في مرحلته الثانية يمتاز بمميزات فرعية تابعة لما سبقها, مفصِّلَةٌ لها، ومبينة لشروطها وأسبابها وعللها، وغير ذلك مما يقتضيه مقام البيان والتفصيل. فما نزل بالمدينة تابع لما نزل بمكة في أصوله العامة, ومحمولٌ عليه، ومؤيِّدٌ لها. وإليك بيان ما امتاز به القرآن المكي عن القرآن المدني، وبيان ما امتاز به المدني عن المكي بوجه عام: 1- يعنى القرآن المكي أولًا بترسيخ الأصول الاعتقادية التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية. وهي توحيد الله -عز وجل، وإفراده بالعبادة، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بذاته تعالى، وتصديق الرسل في كل ما جاءوا به، والإيمان بالكتب المنزَّلة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، إلى آخر ما هنالك من الأصول الاعتقادية. 2- وعُنِيَ القرآن المكي أيضًا كلَّ العناية بالقضاء على ما ورثوه عن آبائهم، وما ابتدعوه من عند أنفسهم من عادات سيئة، ومعتقدات فاسدة، كسفك الدماء، وأكل مال اليتيم، ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، وغير ذلك من الرذائل. 3- ودعاهم إلى أصول التشريعات العامة، والآداب السامية، بوصفها برهانًا عمليًّا على سلامة الفطرة وصحة الاعتقاد. وهذه الأصول التي دعاهم إليها القرآن المكي فصَّلها القرآن المدني، ووضع لها الشروط والقواعد والضوابط، كما سيأتي بيانه بعد قليل.

4- ولتثبيت هذه الأصول والمعتقدات الصحيحة في قلوب الناس جميعًا؛ مؤمنين وكافرين، عُنِيَ القرآن المكي عناية فائقة بأخبار الأنبياء والأمم السابقة، لما فيها من عظاتٍ وعِبَرٍ وتبيانٍ لسنة الله تعالى في هلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين. ولقد كان إيراد القصص في القرآن المكي بكثرةٍ من أبلغ الأدلة على أن القرآن كان وحيًا من الله تعالى. ولو تأخَّر إيراده إلى العهد المدني، لقال الكفار: تعلمه محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب, ولكان لقولهم هذا مبرِّرٌ على نحوٍ ما؛ لأن أهل الكتاب كانوا على علمٍ ما بقصص الأنبياء، وأخبار الأمم. ولقد قال المشركون في مكة: إنما يعلمه بشر، وادعوا أنه يخلو إلى غلام رومي، ويتلقى عنه هذا القرآن، ولم يكن لقولهم هذا شاهد من العقل، ولا من الواقع. قال تعالى: {لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. فلو قالوا عن القرآن المدني: تعلَّمه محمد من اليهود حين جاورهم واتصل بهم، قيل لهم: ومَنْ الذي علمه القرآن الذي نزل عليه بمكة، متضمنًا من أخبار الأولين والآخرين ما لا يعلمه اليهود ولا غيرهم. 5- ومن خواص هذا القسم قِصَرُ معظم آياته وسوره, ولا سيما أوائل ما نزل، ولعل ذلك كان كذلك ليتمكن المؤمنون من حفظه بسهولة ويسر، فهم في أول عهدهم به لم تتعوَّد ألسنتهم على النطق به مرتلًا كما أمر الله تعالى أن يُتْلَى، وفيهم الشيخ الكبير، والمرأة المسنة، والطفل الصغير، وأكثرهم أمِّيُّون، فكيف يستطيعون قراءة الآيات الطويلة المقاطع، وهم لم يتعودوا بعد على مثل

_ 1 النحل: 103.

ذلك، فكان من رحمة الله بهم أن أنزل الله هذه السور القصيرة في آيتها ومقاطعها ليتمكنوا من حفظها وتلاوتها في يسر ونشاط. وأمَّا مقاصد القرآن المدني فهي -كما قلنا- تابعة للمقاصد السابقة، ومبنية عليها، ومبيِّنَة لمجملها، ويمكننا أن نجملها فيما يلي: 1- بيان الأحكام العقدية والشرعية بالتفصيل، بيانًا يكشف دقائقها وأسبابها، وشروط صحتها، والحكمة من تشريعها. 2- ظهرت في العهد المدني تشريعات لم تكن في العهد المكي، مثل مشروعية الصوم، ومشروعية القتال، وفريضة الحج، وتحريم الخمر، وتحريم الربا، وغير ذلك. 3- الكشف عن أحوال المنافقين الذين كانوا أشدَّ الناس خطرًا على الإسلام والمسلمين، وبيان ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر وخداع، وحرصٍ وطمع، وإعلام المسلمين بمآلهم بعد إعلامهم بحالهم، وإيصائهم باتخاذ الحيطة والحذر من كيدهم وألاعيبهم، ومراقبتهم في جميع تصرفاتهم المغرضة، ومجاهدتهم بالحجة والبرهان، والإغلاظ عليهم في القول والمعاملة، مع بذل النصح لهم بالرجوع إلى الله تعالى، والتمسُّك بدينه الحنيف. 4- دعوة أهل الكِتَاب إلى الإسلام ومجادلتهم بالحُجَّة والبرهان في معتقاداتهم الباطلة، وشبههم المزيفة، وبيان جناياتهم على الكتب السماوية بالتحريف والتبديل، وردِّهم عن غيِّهم إلى الرشد الذي جاءهم به الإسلام.

فائدة العلم بالمكي والمدني

فائدة العلم بالمكي والمدني: بعد أن عرفنا ما هو المكي والمدني، وخصائص كلٍّ منهما، يجدُر بنا أن نختم هذا البحث ببيان ما يعود على الباحثين فيه من الفوائد، فنقول: 1- تمييز الناسخ من المنسوخ، فيما لو وردت آيتان أو أكثر مختلفة الحكم، وعلمنا أن إحداها مكية، والأخرى مدنية، فإننا نحكم حينئذ بأن المدنية ناسخة للمكية لتأخرها عنها.

2- معرفة تاريخ التشريع، والوقوف على سنة الله في التدرج بالأمة من الأصول إلى الفروع، ومن الأخفِّ إلى الأثقل، وهذا يترتب عليه الإيمان بسموِّ السياسة الإسلامية في تربية الفرد والجماعة. 3- تفيد هذه الدراسة في الوقوف على الخصائص البلاغية لكلٍّ من المكي والمدني، والكشف عن ظواهرها المختلفة، ومقارنة بعض هذه الظواهر ببعض، والبحث في مواضع الجمال في كلٍّ منهما من غير تفضيل ولا موازنة، لأن القرآن كله متساوٍ في الفصاحة والبلاغة، والحلاوة والطلاوة والجمال، على ما سيأتي بيانه عند الكلام على أسلوب القرآن وبيان إعجازه. لهذا عُنِيَ المسلمون عناية فائقة بتتبُّع ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة، بل عُنِيَ بعضهم بتتبع جهات النزول في أمكانها وأوقاتها المختلفة، وبذلوا في ذلك جهودًا مضنية. وفي ذلك دليل على سلامة القرآن من أي تغيير أو تحريف، فقد تلقَّاه الجمع الغفير من التابعين عن الجمع الغفير من الصحابة، وتلقَّاه الأواخر عن الأوائل بالمشافهة والتلقين, مع الوقوف على أماكن نزوله وأوقاته وأسبابه، وغير ذلك مما يتصل بألفاظه ومعانيه ومقاصده. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.

_ 1 الحجر: 9.

المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها

المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها معنى الآية ... المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها عرفت فيما سبق أن القرآن الكريم قد نزل منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، على حسب الحوادث والوقائع ومقتضيات الأحوال. وتعرف في هذا البحث -إن شاء الله تعالى: معنى الآية وطريق معرفتها، وسبب اختلاف العلماء في عد الآي، وفوائد معرفة الآي، وخلاف العلماء في ترتيبها، وغير ذلك مما يقتضيه مقام البحث. معنى الآية: 1- تطلق الآية في اللغة على المعجزة، والعلامة، والدليل، والعبرة، والأمر العجيب. وهذه المعاني كلها مرادة في تسمية القطعة ذات المبتدى والمنتهى، المدرَجَة في السورة من القرآن. فالآية القرآنية معجزة، يعجز الجن والإنس عن الإتيان بمثلها، إذا كانت في مثل سورة الكوثر طولًا1. وهي أمر عجيب غاية في العجب لما لها من حلاوة وطلاوة، وتأثير خاص يأخذ بتلابيب العقول، ومجامع القلوب. وهي علامة على أنها من عند الله تعالى، لا يسع القارئ والسامع إلّا أن يشهد بذلك طوعًا أو كرهًا. وهي دليل قاطع على صدق من نزلت عليه؛ لأنه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس في حياته إلى معلم. وهي عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ، تقشعرُّ منها جلود الذين يخشون ربهم، وتلين قلوبهم إلى ذكر الله.

_ 1 سيأتي مقدار المعجز من القرآن بالتفصيل عند الكلام على إعجازه -إن شاء الله.

ولسنا في حاجة إلى ذكر الشواهد على ذلك، فهي كثيرة قد استوعبها هذا الكتاب المبين. 2- والآية القرآنية في اصطلاح العلماء: طائفة من القرآن لها مبدأ ومقطع, مندرجة في سورة.

طريق معرفة الآي

طريق معرفة الآي: طريق معرفة الآية القرآنية هو السماع من النبي -صلى الله عليه وسلم. فقد كان يحدِّد بقراءته مبادئ الآيات وخواتيمها، حتى علم ذلك أصحابه، فنلقوا إلينا عدد الآيات في كل سورة كما وقفوا عليه من قراءته -صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه، ولذلك عدوا {الم} حيث وقعت -وهي ست- و {المص} ، ولم يعدوا {المر} ولا {الر} وهي في خمسة سور، وعدوا {حَم} آية في سورها، وهي سبعة، و {حم، عسق} آيتان. وكذا {طه} و {يس} ، ولم يعدوا {طس} النمل و"طسم" آية في الشعراء والقصص. ومما يدل على أنه توقيفي أيضًا, قول ابن العربي: ذكر النبي -صلى اله عليه وسلم- أن الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية، وصحَّ أنه قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران. قال: وفي آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون في أثنائه كقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} على مذهب أهل المدينة, فإنه يعدونها آية، وينبغي أن يعوَّل في ذلك على فعل السلف1.

_ 1 البرهان ج1 ص268, والإتقان ج1 ص66، 67.

سبب الخلاف في عد الآي

سبب الخلاف في عد الآي: سبب اختلاف السلف في عد الآي، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقف على رءوس الآي ليعلمهم أوائلها وأواخرها، فلما رآهم قد عرفوا ذلك صار يقف أحيانًا على ما يتم به المعنى، فحسب بعضهم أن ما وقف عليه رأس آية. ومن هنا اختلفوا في عد الآي. أضف إلى ذلك أن بعضهم كان يَعُدُّ البسملة آية من السورة. فسورة الفاتحة -مثلًا- عند الجمهور سبع آيات، لكنهم اختلفوا فيما بينهم في البسلمة، هل هي آية من الفاتحة أم ليست بآية منها. فمن عدَّها آية من الفاتحة كالكوفيين والمكيين، لم يعتبر: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} رأس آية. ومن لم يعدها آية من الفاتحة -وهم من سوى أهل الكوفة وأهل مكة- يعدون: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} آية، ويقفون عليها. فوائد معرفة الآي: لمعرفة الآيات فوائد كثيرة منها: 1- إدراك الحد الذي يقع به الإعجاز، فقد صحَّ عند المحققين أن الآية الواحدة إذا كانت في طول سورة "الكوثر" وقع بها التحدي، وثبت عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثلها، وسيأتي بيان ذلك بشيء من التفصيل عند الكلام على الإعجاز -إن شاء الله تعالى. 2- معرفة ما يجزئ من القراءة في الصلاة بعد الفاتحة، فإن أقلَّ ما يجزئ فيها قراءة سورة أو آية في طولها أو ثلاث آيات، تقوم مقامها على خلاف يسير في ذلك بين الفقهاء. 3- اعتبارها فيمن جهل الفاتحة، فإنه يجب عليها بدلها سبع آيات، واعتبارها في خطبة الجمعة، فإنه يجب فيها قراءة آية كاملة, ولا يكفي شطرها -قاله السيوطي في الإتقان. والعجيب فيمن يجهل الفاتحة كيف يحفظ من القرآن سبع آيات تقوم مقامها في الصلاة. 4- معرفة الوقف والابتداء، فإنَّ مَنْ عرف أوائل الآيات وأواخرها أمكنه أن يقف على رأس كل آية، والبدء بالآية التي بعدها.

ترتيب الآي

ترتيب الآي: اتفق العلماء على أن ترتيب آيات القرآن كانت بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- تلقاه من ربه -عز وجل- بطريق الوحي. وقد حكى الإجماع في ذلك غير واحد من المحققين. كما ذكر الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما، وقد ورد في ذلك نصوص مترادفة تدل على ذلك منها: ما أخرجه أحمد بإسناد حسن, عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ شَخَصَ ببصره، ثم صوَّبَه، ثم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذه الموضع من هذه السورة". {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 1. إلى آخرها. ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} 2 قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئًا منه من مكانه. ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالًا ما ثبت من قراءته -صلى الله عليه وسلم- لسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران في الصلاة وغيرها، بمسمَعٍ من الصحابة، وما كان الصحابة ليرتِّبوا ترتيبًا سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك التواتر. وروى الترمذي والحاكم وابن حبَّان وأبو داود وأحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض مَنْ كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". حسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.

_ 1 النحل: 90. 2 البقرة: 240.

المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها

المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها تعريف السورة ... المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها نتكلم في هذا المبحث عن معنى السورة لغة واصطلاحًا، وعن الحكمة من تسوير القرآن، وتقسيم السور بحسب الطول والقصر، وعن أسماء السور, هل كانت بتوقيف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أم باجتهاد من الصحابة -رضوان الله عليهم. ثم نتحدث عن ترتيب السور، هل كان بالتوقيف أم بالاجتهاد، أم كان بعضها بالتوقيف، وبعضها بالاجتهاد، مع بيان الراجح من هذه الأقوال بالدليل، والله المستعان. تعريف السورة: عرفت فيما سبق تعريف الآية لغة واصطلاحًا, ونذكر لك هنا تعريف السورة أيضًا لغة واصطلاحًا، فنقول: السورة في اللغة إما أن تكون مشتقة من سور المدينة، شبهت به لإحاطتها بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور. أو من التسوّر، بمعنى التصاعد والتركيب، لعلوِّ شأنها وشأن قارئها. والسورة -في اللغة أيضًا- تطلق على المنزلة الرفيعة، قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك حولها يتذبذب وهي في الاصطلاح: طائفة من الآيات القرآنية لها بدء ونهاية.

حكمة تسوير القرآن

حكمة تسوير القرآن: ذكر العلماء في ذلك حكمًا تلمَّسوها بخواطرهم، واستنبطوها بعقولهم، فكان مما قالوه: 1- "إنَّ جَعْلِ القرآن سورًا ييسر حفظه، فتجزئة العمل باعث على إنجازه، مبيِّنٌ للقدر الذي أنجز، والقدر الذي بقي، باعث على المواصلة للإحاطة به واستكماله.

وفي كونه سورًا طويلة وقصيرة وترتيبه الترتيب المعروف -تيسير آخر لتعليم الأطفال، والتدرج بهم من السور القصار إلى ما فوقها. 2- وإن جعل القرآن سورًا يشوق قارئ القرآن ودارسه إلى المواصلة، ويبعث فيه الهمة والنشاط لاستيعابه. 3- وإن في جعل القرآن سورًا رسوخًا لموضوعات السور، ودلالة على عناصر كل منها، وما تناولته من أحكام. 4- وإن جعل القرآن سورًا طوالًا وقصارًا يشير إلى أن الطول ليس شرطًا في التحدي والإعجاز، فالسور معجزة برأسها، وإن بلغت في القصر ثلاث آيات. 5- وقال الزمخشري في فوائد تجزئة القرآن: إن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابًا واحدًا. وعلى هذا النمط ألَّفَ المؤلفون كتبهم، وبوَّبوا مصنفاتهم أبوابًا، صدَّروا كل باب بعنوان خاص. 6- وإن التفصيل لتلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض يساعد على ملاحظة المعاني وأسرار النظم الكريم" أ. هـ.1.

_ 1 انتهى بتصرف يسير من "اللآلئ الحسان في علوم القرآن" ص34، 35.

تقسيم السور بحسب الطول والقصر

تقسيم السور بحسب الطول والقصر: تنقسم السور من حيث الطول والقصر إلى أربعة أقسام: 1- السبع الطوال وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة. وسميت بالطوال لطولها، والطوال جمع طولى. 2- المئون: وهي ما ولي السبع الطوال، سُمِّيَت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها. 3- المثاني: وهي ما ولي المئين، ويُسَمَّى القرآن كله مثاني، كما جاء في قوله تعالى:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} 1. وسُمِّيَ "مثاني" لأن الوعد فيه مقرون بالوعيد، وقيل غير ذلك. 4- المفصَّل: وهو ما ولي المثاني من قصار السور، سُمِّيَ مفصلًا لكثرة الفصول التي بين السور ببسم الله الرحمن الرحيم. "واختلف في تحديد أوله: 1- فمن العلماء من قال: أوله الجاثية. 2- ومنهم من قال: أوله القتال، وقال الماوردي: إنه قول الأكثرين. 3- ومنهم من قال: أوله الحجرات. 4- والصحيح: أن أوله "ق"، قال الماوردي في تفسيره: حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة، وهو الذي يؤيده الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث أوس بن حذيفة، وفيه قال أوس: "فسألت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كيف تحزِّبُون القرآن؟، فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده". وعلى هذا فإذا جمعنا الأحزاب الستة الأول كان الحاصل ثمانيًا وأربعين سورة، فتكون التي بعدهن سورة "ق". أ. هـ2.

_ 1 الزمر: آية 23. 2 راجع البرهان ج1 ص245، وانظر الحديث في سنن أبي داود "باب تحزيب القرآن", وسنن ابن ماجه كتاب الإقامة ج1 ص427، 428، والفتح الرباني ج18 ص28، 29.

أسماء السور

أسماء السور: اختلف العلماء في أسماء سور القرآن، هل كانت بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم؟ أم كانت باجتهاد من الصحابة, مأخوذ من موضوع السورة؟ "فذهب السيوطي إلى أن كل سورة سُمِّيَت باسم خاص بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال: وقد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من

الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك، واستدل بما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، وسورة العنكبوت، يستهزئون بها فنزل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين} 1. وقد يكون للسورة الواحدة أسماء متعددة، كالفاتحة. وقد يكون للسورة اسم واحد، وهو الكثير. والذي ينبغي التزامه المحافظة على الاسم الوارد وعدم تغييره، فإن في فتح باب جواز التسمية إهدارًا لكيان السورة، وما اشتهرت به، وتعمية للجلي الواضح، ووضعه في ثوبٍ من الجهل والخفاء، مما لا يليق وعظمة سور القرآن.

_ 1 راجع النوع السابع عشر من كتاب الإتقان.

ترتيب السور

ترتيب السور: اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن الكريم على ثلاثة أقوال: الأول: إن ترتيب السور على ما هو عليه الآن في المصاحف كان باجتهاد الصحابة، ولم يكن بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم. وينسب هذا القول إلى الإمام مالك، وجمهور غفير من العلماء. واستدلَّ أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة، منها: 1- أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب سورها, ولو كان الترتيب توقيفًا ما ساغ لهم أن يرتبوا على غير الوارد. فمصحف ابن مسعود كان مبدوءًا بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، وهكذا على اختلاف واسع بينه وبين الترتيب الذي في المصحف اليوم. ومصحف أُبَيِّ بن كعب كان مبدوءًا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، إلخ، مع خلاف كبير. ومصحف علي -كرَّم الله وجهه- كان مرتَّبًا على حسب النزول, فأوله سورة أقرأ، ثم المدثر، ثم "ن والقلم"، ثم المزمل، ثم تبت؛ ثم التكوير، وهكذا إلى آخر سورة المكية، ثم السور المدنية.

2- أخرج ابن أشتة في المصاحف عن أبي محمد القرشي قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال، فجعلت سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع، ولم يفصل بينهما "بسم الله الرحمن الرحيم". 3- روى أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم"، وضممتوها في السبع الطوال؟ فقال عثمان -رضي الله عنه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا أُنْزِلَ عليه شيء دعا بعض من يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقضتها، فظننت أنها منها، فقُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" ووضعتهما في السبع الطوال. فهذا الحديث يدل على اجتهاد الصحابة في ترتيب سور القرآن. 4- ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورًا ولاء1 على غير ترتيبها التي هي عليه الآن, فقرأ سورة النساء قبل سورة آل عمران. ويعبِّر عن هذا الرأي ابن فارس في كتابه المسائل الخمس، فيقول: جُمِعَ القرآن على ضربين، أحدهما تأليف، كتقديم السبع الطوال، وتعقيبها بالمئين، فهذا الذي تولته الصحابة -رضي الله عنهم. وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور، فذلك شيء تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم، كما أخبر به جبريل عن أمر ربه -عز وجل. أ. هـ.

_ 1 أي: متوالية على غير الترتيب الذي هو في المصحف الآن.

الثاني: أن ترتيب جميع السور كان بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- كترتيب الآيات، ويعبِّر عن هذا الرأي الكرماني في البرهان، فيقول: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين. أ. هـ. ويقول أبو بكر بن الأنباري: أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرق في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر، ويقف جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف, كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورة، أو آخرها فقد أفسد نظم القرآن2. واستدلوا لهذا الرأي بالأدلة الآتية: 1- روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سعيد بن خالد: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسبع الطوال في ركعة، وفيه أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يجمع المفصَّل في ركعة. 2- روى أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزب من القرآن، فأردت ألا أخرج حتى أقضيه"، فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قلنا: كيف تحزِّبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل من "ق" حتى نختم.

_ 1 انظر البرهان ج1 ص259. 2 انظر البرهان ج1 ص260.

فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن, كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. 3- أخرج ابن أشته في كتاب المصاحف, عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟، فقال: قُدِّمَتَا وألِّفَ القرآن على علم ممن أَلَّفه، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه, ولا يسأل عنه. 4- أن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كُتِبَ في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد، فلو كان هذا الإجماع عن اجتهاد لتمسَّك أصحاب المصاحف المخالفة بترتيب مصاحفهم. 5- لو كان ترتيب السور عن اجتهاد لظهرت العلة التي بُنِيَ عليها، فمن الواضح أنه لم يرتَّبْ على حسب النزول الزمني، ولا على الطول والقصر، فسور طوال بين قصار وبالعكس، ولا على المكي والمدني, فسور مكية بين سور مدنية وبالعكس، ولا على تجانس الموضوعات وقربها؛ فبين سور القصة الواحدة سور أخرى، ولا على حسب الفواتح، فلم تذكر المسبحات ولاء، مع أن الحواميم رتبت ولاء، كذلك اختلَّ ترتيب الطواسين حيث فصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس". وحيث لم تظهر علة لهذا الترتيب مع الإجماع عليه، كان بتوقيف وتسليم وإذعان لصاحب القرآن. وقد حاول الزركشي أن يجعل الخلاف بين هذين القولين لفظيًّا، فقال في البرهان: والخلاف بين الفريقين لفظيّ؛ لأن القائل بالثاني يقول: إنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله، ومواقع كلماته. ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي -صلى الله عليه وسلم، مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي؟ أو بمجرد إسناد فعلي؛ بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر؟ أ. هـ.

والمتأمل في أدلة الفريقين يبستبعد وجهة نظر الزركشي, ويحكم بحقيقة الاختلاف. القول الثالث: أنَّ سور القرآن ترتيبها توقيفي إلّا قليلًا منها؛ فترتيبيه عن اجتهاد من الصحابة، واختلف أصحاب هذا القول في مقدار هذا القليل وتحديده، فابن عطية يرى: أن كثيرًا من السور كان قد عُلِمَ ترتيبها في حياته -صلى الله عليه وسلم؛ كالسبع الطوال، والحواميم والمفصَّل، وإن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فُوِّضَ الأمر فيه إلى الأمة بعده. وأبو جعفر بن الزبير يرى: أن الآثار تشهد بأكثر مما نصَّ عليه ابن عطية. والبيهقي في المدخل يرى: أن القرآن كان مرتَّبًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- سوره وآياته على هذا الترتيب إلّا الأنفال وبراءة. وأدلة هذا القول عبارة عن الأخذ بأدلة الفريقين السابقين والجمع بينهما. وقد ناقش العلماء هذه الأدلة مناقشة موضوعية لترجيح بعضها على بعض، فاستقرَّ أكثرهم على ترجيح القول الثالث واعتماده لخلوه من الاعتراض، وجمعه بين الأقوال على نحو تطمئن إليه النفس. وقد لخَّص الدكتور موسى لاشين هذه المناقشة بقوله: "إن استدلال أصحاب القول الأول باختلاف مصاحف الصحابة في ترتيبها, يمكن أن يُرَدَّ بأن الصحابة إنما رتبوا ترتيبهم قبل علمهم بالتوقيف، فلما علموا سلَّموا واعتمدوا الترتيب المُجْمَع عليه، وحرقوا مصاحفهم. وأما استدلالهم الثاني والثالث: فيمكن حصر عدم التوقيف في السورتين الواردتين في الدليلين "الأنفال والتوبة", ولا يصلح دليلًا لسحب حكم التوقيف على جميع سور القرآن. وأما الاستدلال الرابع: فإنه في القراءة والتلاوة، وهي غير موطن النزاع، إذ لا خلاف في جواز وقراءة السور على غير ترتيبها، وإن كان الأولى قراءتها مرتَّبة, ومحل النزاع هو اعتقاد موافقة ترتيب القرآن في المصاحف لترتيبه في اللوح، وفي أن هذا الترتيب بتعليم النبي -صلى الله عليه وسلم, أو باجتهاد من الصحابة.

وأما استدلال أصحاب القول الثاني بالحديث الأول والثاني والثالث, فإن غاية ما فيها الدلالة على أن بعض السور أو أكثرها رُتِّبَ بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم، لكنه لا دلالة فيها على أن جميع السور بتوقيف. وأما دليلهم الرابع فيمكن أن يكون رجوع الصحابة عن ترتيبهم إلى ترتيب عثمان, بدافع قطع دابر النزاع والحفاظ على وحدة الأمة، لا عن اعتقاد خطأ ما كانوا عليه. وأما دليلهم الخامس فهو مقبول في غير السور التي ورد فيها النص بالاجتهاد، ورد فيها بيان علة الترتيب كما في حديث سؤال ابن عباس لعثمان -رضي الله عنهما. وعلى هذا: فالقول الثالث أمثل الأقوال، وهو السليم من الاعتراض والمناقشة، وأمثل ما فيه رأي البيهقي. ولذا قال السيوطي في نهاية المطاف: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي، إلا براءة والأنفال. قال الدكتور موسى لاشين بعد هذا التلخليص المفيد: سواء كان ترتيب السور توقيفيًّا أم اجتهاديًّا, فإنه ينبغي احترامه، خصوصًا في كتابة المصاحف؛ لأن أقلَّ الأمرين رعاية صدوره عن الإجماع، والإجماع حجة واجبة القبول. والله أعلم"1.

_ 1 اللآلئ الحسان ص42، 43.

المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه

المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه 1- أجمع من يُعْتَدُّ بإجماعه من أهل العلم على أن عدد سور القرآن: مائة وأربع عشرة سورة. وقيل: مائة وثلاث عشرة, سورة يجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة، لعدم الفصل بينهما بالبسملة، ولكنَّ هذا القول مردود؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سَمَّى كل واحدة منهما. وأما عدم الفصل بينهما بالبسملة فلأن سورة "براءة" نزلت بالسيف، أي: نزلت لتفضح المشركين والمنافقين وأهل الكتاب وتتوعدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وتكشف اللثام عَمَّا انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر، وزيغ وضلال، هذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه "ففي المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب: لِمَ لَمْ تكتب في براءة "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف"1. 2- وأما عدد آياته فقد اختلف العادُّون فيها اختلافًا يسيرًا. "قال صاحب التبيان ما نصُّه: وأما عدد آي القرآن فقد اتفق العادُّون على أنه ستة آلاف ومائتا آية وكسر، إلّا أن هذا الكسر يختلف مبلغه باختلاف أعدادهم: ففي عدد المدني الأول سبع عشرة، وبه قال نافع، وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة عند شيبة، وعشر عند أبي جعفر. وفي عدد المكي عشرون. وفي عدد الكوفي ست وثلاثون، وهو مروي عن حمزة الزيات. وفي عدد البصري خمس، وهو مروي عن عاصم الجحدري.

_ 1 الإتقان ج1 ص225.

وفي رواية عنه أربع، وبه قال أيوب بن المتوكل البصري. وفي رواية عن البصريين أنهم قالوا: تسع عشرة، وروي ذلك عن قتادة، وفي عدد الشامي ست وعشرون، وهو مروي عن يحيى بن الحارث الذماري" أ. هـ1. وقد تقدَّم سبب اختلاف العاديين قريبًا. 3، 4- أما عدد كلماته وحروفه, فقد شغل العلماء أنفسهم بعدِّها تتمةً للفائدة، فذكروا أن عدد كلماته "77934" أربع وثلاثون وتسعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة. وذكر بعضهم غير ذلك: قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز، ولفظ ورسم، واعتبار كل منها جائز. قال السخاوي: "لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة؛ لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان، والقرآن لا يمكن فيه ذلك". أ. هـ. ولكن ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذيّ عن ابن مسعود مرفوعًا: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف". وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعًا: "القرآن ألف ألف حرف, وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابرًا محتسبًا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين".

_ 1 مناهل العرفان ج1 ص336.

قال السيوطي بعد أن أورده: "رجاله ثقات إلّا شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس، تكلَّمَ فيه الذهبي ثم قال: وقد حمل ذلك -أي: العدد المذكور في هذا الحديث- على ما نُسِخَ رسمه من القرآن، إذ الموجود الآن لا يبلغ هذا العدد، وهو يريد أن هذا الرقم الكبير الذي روي في هذا الحديث ملحوظ فيه جميع الحروف النازلة من القرآن ما نسخ منها، وما لم يُنْسَخ، والله تعالى أعلم"1.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص341، 342.

المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف

المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف مدخل ... المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة أحرف صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن القرآن أُنْزِلَ على سبعة أحرف، كلها كافٍ شافٍ، ورُوِيَ ذلك عن جمع كبير من الصحابة -رضوان الله عليهم. منهم: عمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة؛ وأبو بكرة، وأبو جهم، وأبو سعيد الخدري، وأبو طلحة الأنصاري، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف, وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأنس، وحذيفة، وأم أيوب امرأة أبي أيوب الأنصاري، وغيرهم ممن رواه، أبو شهد أنه سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، على ما سيأتي بيانه. وقد نصَّ أبو عبيد القاسم بن سلام على تواتر1 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف. ولكن العلماء اختلفوا في معنى هذه الأحرف اختلافًا كثيرًا، حتى قال ابن حبان: "اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا". وقال السيوطي: "اختُلِفَ على معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولًا"2.

_ 1 قال الزرقاني: لكنك خبير بأنَّ من شروط التواتر توافر جمعٍ يؤمَنُ تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الرواية، وهذا الشرط إذا كان موفورًا هنا في طبقة الصحابة، كما رأيت، فليس بموفور لدنيا في الطبقات المتأخرة. أقول: إن لم تكن هذه الأحاديث متواترة في اللفظ، فهي متواترة في المعنى، بلغت من الشهرة حدًّا لا يسع أحدًا إنكاره، مناهل العرفان ج1 ص132. 2 الإتقان ج1 ص40، ط. الهيئة المصرية.

وذكر كثيرًا منها. وإني بحمد الله تعالى سأذكر من هذه الأقوال ما أراه جديرًا بالذكر, مرجِّحًا ما أحسبه أولى بالقبول. ولنبدأ بذكر الأحاديث الواردة في هذا الأمر، ثم نتبع ذلك بذكر الأصول المستنبطة منها، ثم نذكر أهم الأقوال في المراد بالأحرف السبعة سردًا، ثم نكر عليها بالمناقشة والتمحيص لنقف من وراء ذلك كله على الراجح منها بالدليل، ونختم المبحث بذكر فوائده.

بعض ما ورد في ذلك

بعض ما ورد في ذلك: وردت في نزول القرآن على سبعة أحرف أحاديث كثيرة, نكتفي هنا بذكر بعضها، لتتحقق أن هذه الأحاديث في جملتها بلغت الغاية في الصحة، وأنها تفيد اليقين الذي لا يرتفع بالشك، ولا يسوغ لأحد إنكاره بحال. ولتعلم من خلالها المراد من الأحرف السبعة، من حيث ما تستلزمه من أصول عامة يقاس عليها عند التصحيح أو الترجيح. 1- روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". زاد مسلم: "قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحدًا لا يختلف في حلال ولا حرام". 2- وروى البخاري ومسلم أيضًا "واللفظ للبخاري" أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فاستمعت لقراءته , فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره1 في الصلاة فانتظرته حتى سلَّم، ثم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟

_ 1 أي: أواثبه وأقاتله -قاله ابن الأثير في النهاية.

قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله, إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام"، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه". 3- وروى مسلم بسنده عن أُبَيّ بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه, فأمرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ، فحسَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قد غشيني, ضرب في صدري، ففضت عرقًا، وكأنما أنظر إلى الله -عز وجل- فرقًا، فقال لي: "يا أُبَيّ، أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي، فردَّ إلي الثانية: أقرأه على حرفين فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي، فردَّ إلي الثالثة: أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليومٍ يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم". 4- وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلًا يقرأ آية سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ خلافها، قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كلاكما محسن فأقرأ". قال شعبة أحد رواة هذا الحديث: أكبر علمي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإن مَنْ كان قبلكم اختلفوا فأُهْلِكُوا".

5- روى مسلم بسنده عن أُبَيِّ بن كعب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند أضاة بني غفار1، قال: "فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين, فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا". 6- وروى الترمذي عن أُبَيّ بنب كعب أيضًا قال: لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل عند أحجار المروة، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "إنما بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ الفاني، والعجوز الكبيرة والغلام"، قال: فمرهم فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف". قال الترمذي: حسن صحيح، وفي لفظ: "فمن قرأ بحرفٍ منها فهو كما قرأ". وفي لفظ حذيفة: "فقلت: "يا جبريل, إني أرسلت إلى أمة أمية, فيهم الرجل، والمرأة، والغلام، والجارية، والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابًا قط"، قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف". 7- أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو, أن رجلًا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأيّ ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا". أي: فلا تشكوا، ولا تجادلوا.

_ 1 وأضاة بني غفار -بفتح الهمزة في أضاة، وبكسر الغين في غفار: "مستنقع الماء كالغدير، وكان بموضع من المدينة المنورة يُنْسَب إلى بني غفار، لأنهم نزلوا عنده.

الأصول المستفادة من هذه الأحاديث

الأصول المستفادة من هذه الأحاديث: ونستطيع أن نستلخص من هذه الأحاديث وما في عناها أصولًا خمسة، نرجع إليها عند مناقشة الأقوال المنقولة عن قائليها في المراد من الأحرف السبعة, وترجيح بعضها على بعض، لتنتهي إلى القول الذي تطمئن إليه النفس، وهو القول الخالي من التعارض السالم من النقد والنقض. الأصل الأول: الإلزام بقراءة القرآن على حرف واحد في أول العهد به أمر يَشُقُّ على هذه الأمة الأمية، وهم مختلفون في لغاتهم ولهجاتهم, غير مدرَّبين على أسلوبه ولحنه، وهو قمة في الفصاحة والبلاغة ودقة النظم، وجمال التعبير. وفيهم الشيخ الكبير، والطفل الصغير، ففي إلزامهم بقراءته على حرف واحد حرج ومشقة، والشريعة الغراء مبنيةٌ على رفع الحرج ودفع المشقة. الأصل الثاني: مبني على الأصل الأول، وهو أن المقصود من إنزال القرآن على سبعة أحرف هو التيسير على هذه الأمة في القراءة والفهم. الأصل الثالث: أن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف من هذه الأحرف السبعة، فكلها كافٍ شافٍ كما جاء في بعض الروايات. الأصل الرابع: أن الصحابة كانوا يقرأون على وجوه مختلفة، بحسب ما تعلَّم كلٌّ منهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى أنكر بعضهم على بعض قراءته, لعدم سماعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الأصل الخامس: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ كل قارئ على القراءة التي أقرأه إياها، على أنها جميعًا منَزَّلَةٌ من عند الله -عز وجل. فهذه الأصول الخمسة ينبغي أخذها في الاعتبار عند تقرير كلِّ قول من الأقوال الواردة في معنى الأحرف السبعة، بحيث يستنبط القول الصحيح على مقتضاها، فإن بعض الأقوال التي نقلها السيوطي في الإتقان وغيره, بعضها قد بَعُدَ عنها كل البعد، وبعضها قد انحرف عنها قليلًا، وبعضها قد اقترب منها ومشى في ضوئها، لكن لم يسلم من المعارض.

وواحد منها أصاب الحق، وصادف القبول. وإليك بعض هذه الأقوال ومناقشتها، وبيان الراجح منها بالدليل.

بعض الأقوال في معنى الأحرف

بعض الأقوال في معنى الأحرف: 1- ذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف مشكَلٌ لا يُعْرَف المراد منه؛ لأن الحرف في اللغة من المشترك اللفظي الذي لا يتعين المعنى المراد منه إلا بقرينة. فالحرف يطلق في اللغة -كما في القاموس- على: طرف الشيء، وشفيره، وحده، ومن الجبل أعلاه المحدد، وعلى أحد حروف التهجي، وعلى الناقة الضامرة، ومسيل الماء، وعلى الوجه. وليس في الكلام قرينة توضح المراد من هذه المعاني، فكان المعنى المراد مبهمًا لا يُعْرَف على وجه الحقيقة. 2- وذهب بعضهم إلى أن العدد لا مفهوم له، بمعنى: أن حقيقته غير مرادة، وإنما المراد به التيسير والتسهيل والتوسعة على الأمة بوجوه متعددة كثيرة، لا تنحصر في سبعة. والتعبير بالسبعة يراد به في الشرع أحيانًا المبالغة في الكثرة، كما في قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 1. وقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّه} 2. وقوله -جل شأنه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ} 3. فالسبعة يُرَادُ بها الكثرة في الآحاد، والسبعون يراد بها الكثرة في العشرات، والسبعمائة يراد بها الكثرة في المئات.

_ 1 لقمان: 27. 2 التوبة: 80. 3 البقرة: 261.

وإلى هذا القول جنح القاضي عياض ومن تبعه، كما قال الزرقاني في المناهل1. 3- قال بعضهم: المراد من الأحرف السبعة لغات سبع متفرقة في القرآن كله. على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن، أو كنانة، أو تميم، أو اليمن، فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع. وذهب إلى هذا القول: أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حاتم السجستاني، واختاره الأزهري في التهذيب، واختاره أيضًا ابن عطية، حيث قال: "معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي: فيه عبارة سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبَّر عن المعنى فيه تارةً بعبارة قريش, ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوفر في اللفظ، ألا ترى أن "فطر" معناه عند غير قريش "ابتدأ"، فجاءت في القرآن، فلم تتجه2 لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، فقال ابن عباس: ففهمت حينئذ معنى قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} . وقال أيضًا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك، أي: أحاكمك, وكذلك قول عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} ، أي: على تنقص لهم، وغير ذلك. ثم قال: وقد قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} .

_ 1 ج1 ص166. 2 لم يتبين معناها.

ولم يقل: "قرشيًّا"1. 4- ذهب بعضهم إلى أن الأحرف لغات عربية في كلمة واحدة, وكان من تيسير الله على الأمة أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذليّ يقرأ "عتى حين" يريد: "حتى حين"، والأسدي يقرأ: "تعلمون" بكسر أوله، والتميمي يهمز, والقرشي لا يهمز، ولو أراد كل منهم أن يزول عن لغته، وما جرى عليه لسانه طفلًا وناشئًا وكهلًا لشقَّ عليه غاية المشقة، فيسَّر الله عليهم، واستمرَّ هذا التيسير حتى جمع عثمان الناس على قراءة واحدة. 5- ذهب بعض أهل الفقه والحديث، منهم سفيان وابن وهب وابن جرير الطبري، والطحاوي، إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة، ذات معنى واحد، مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وعجل، وأسرع، وقصدي، ونحوي، هذه ألفاظ سبعة في معنى طلب الإقبال. ويستدل لهذا الرأي بقراءة أُبَيّ بن كعب، إذا كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه} . "كلما أضاء لهم مروا فيه". "كلماء أضاء لهم سعوا فيه". وما جاء في قراءة ابن مسعود: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أمهلونا". "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أخرونا نقتبس". ويلتزم أصحاب هذا الرأي أن يقولوا: إن هذه الأوجه كانت جائزة في أول الأمر، ثم نسخت إلا وجهًا في العرضة الأخيرة، وهي التي نسخ عليها عثمان مصاحفه. 6- وبعضهم يرى أن الأحرف السبعة هي ما فيه من أمر ونهي، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.

_ 1 انظر اللآلئ الحسان ص118.

أو: وعد ووعيد، وحلال وحرام، ومواعظ وأمثال، واحتجاج. أو: محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم، وقصص. أو: مطلق ومقيد، وعام وخاص، ونص ومؤول، وناسخ ومنسوخ، واستثناء، وغير ذلك. 7- وذهب جماعة من أهل العلم، وعلى رأسهم الإمام الرازي, إلى أن الأحرف السبعة هي وجوه سبعة يقع فيها التغاير بين قراءة وأخرى: الأول: اختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع، والتأنيث والتذكير. ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} . إذ قرئ: "لأماناتهم" جمعًا، و"لأمانتهم" بالإفراد. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض ومضارع وأمر، ويمثِّل له بقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . قرئ بنصب "ربنا" على النداء، وبلفظ "باعد" على فعل الأمر. وقرئ "ربنا بعد" برفع "رب" على الابتداء, وبلفظ "بعّد" ماضيًا مضعف العين، خبر المبتدأ. الثالث: اختلاف وجوه الإعراب: ويمكن التمثيل له في الأفعال بقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} . قرئ بفتح الراء، على أن "لا" ناهية والفعل مجزوم، وقرئ بضم الراء، على أن "لا" نافية والفعل بعدها مرفوع. ويمكن التمثيل في الأسماء بقوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد} . قرئ برفع لفظ "المجيد" على أنه نعت لكلمة "ذو", وقرئ بجره، على أنه نعت لكلمة "العرش".

وهذه الأحرف الثلاثة موافقة لرسم المصحف العثماني؛ لأنه كما سبق كان خاليًا من النقط ومن الشكل. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة. ويمكن التمثيل له بقوله تعالى في سورة التوبة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} . وقرئ "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة لفظ "من"، وهما قراءتان متواترتان، وقد وافقت كلٌّ منهما رسم المصحف، فالأولى بدون "من" وافقت رسم غير المصحف المكي، والتي بزيادة "من" وافقت رسم المصحف المكي. ومن هذا الوجه -الزيادة والنقص- ما لا يوافق رسم المصحف قراءة: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" بزيادة لفظ "صالحة" وقراءة: "والذكر والأنثى" بحذف لفظ وما خلق، فإن زيادة "صالحة", ونقص "وما خلق", مخالفة لخطِّ جميع المصاحف العثمانية، ولذلك تركت هذه القراءة, وعُدَّت منسوخة في العرضة الأخيرة. الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير. ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} . فقد قرئ: "وجاءت سكرة الحق بالموت", ولكن القراءة الثانية لا توافق رسم مصحف من المصاحف العثمانية، فتُرِكَت وعُدَّت منسوخة التلاوة، في العرضة الأخيرة. ومثال ما وافق رسم المصحف من هذا الوجه، قوله تعالى في سورة التوبة: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} . قرئ الفعل الأول مبنيًّا للمعلوم، والثاني مبنيًّا للمجهول، وقرئ بالعكس، الأول مبني للمجهول، والثاني مبني للمعلوم، والقراءتان متواترتان.

السادس: الاختلاف بالإبدال: ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} . قرئ "ننشزها" بالزاي وبالراء قراءتان متواترتان. وكذا قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . وقرئ "فتثبتوا" قراءتان متواترتان، موافقتان لرسم المصحف. ومثال ما لم يوافق رسم المصحف قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . قرئ "فامضوا إلى ذكر الله", وهي مخالفة لرسم جميع المصاحف العثمانية، فتُرِكَت، وعُدَّت منسوخة التلاوة في العرضة الأخيرة. السابع: اختلاف اللغات "أي: اللهجات" كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم، والإظهار والإدغام، ونحو ذلك. ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} . بالفتح أو الإمالة في "أتى", وفي "موسى", وهذا الوجه موافق دائمًا لرسم المصحف؛ لأنه تغيير في النطق الشكلي، وليس في جوهر الكلمة. مناقشة الأقوال السابقة وبيان الراجح منها: أما "القول الأول": وهو أن حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" مشكَلٌ لا يُعْرَف المراد منه، فإنه لا إشكال فيه بحمد الله تعالى؛ لأن المشترك اللفظي إذا وجدت قرينة تبين المعنى المراد منه لا يكون مشكلًا، وقد قامت قرائن تمنع بعض معانيه، وتعين بعضها الآخر. لأنه لا يصح أن يراد أحد حروف التهجي؛ لأن القرآن مؤلَّف من جميع حروف الهجاء, لا من سبعة منها فقط. ولا يصحُّ أن يراد به طرف الشيء، ولا الناقة الضامرة, ولا مسيل الماء، فتعيَّن أن يراد منه الوجه, وإذا تعيَّن أحد وجوه المشترك اللفظي بمثل هذه القرائن لم يكن مشكلًا.

أما "القول الثاني": وهو أن حقيقة العدد غير مقصودة فهو غير صحيح، لما جاء في حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل استزيده، ويزيدني، حتى بلغ سبعة أحرف". ولما جاء في حديث أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة". فهذان الحديثان مع المراجعات الثابتة في الأحاديث السابقة, تدل على أن المراد بالسبعة حقيقة العدد الواقع بين الستة والثمانية. وأما "القول الثلث": وهو أن المراد من الأحرف السبعة لغات سبع متفرقة في القرآن كله، فليس بالقول المرضي، وذلك لوجوه: الأول: أن عدم فهم ابن عباس وابن عمر لبعض ألفاظ القرآن لا يدلُّ على أن هذه الألفاظ غير قرشية أو مستعملة في لغة قريش؛ لأنه لا يمكن إدعاء إحاطة كلٍّ منهما بجميع ألفاظ لغة قريش، فقد قالوا: إنه لا يحيط باللغة إلا معصوم. الثاني: أن هذا القول يتنافى مع ما عُلِمَ من الأحاديث المتقدِّمَة من أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان الهدف منه التيسير على الأمة, بأن يقرأ كلُّ واحد بأيِّ حرف منها شاء. فإذا كان معنى الأحرف السبعة على ما قالوا, لم يكن هناك تخيير في القراءة, بل يكون الكل ملزمًا بحرف واحد. الثالث: إن هذا الرأي لا يمكن معه تصوّر اختلاف الصحابة في القراءة، وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- كلًّا منهم على قراءته. الرابع: أن لغات العرب أكثر من سبع، وفي القرآن كلمات لقبائل كثيرة تزيد على هذا العدد بكثير. الخامس: أن هذا القول يقتضي أن يكون القرآن أبعاضًا، منه ما هو بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، وهكذا. وهذا المذهب يستلزم أن كلَّ شخص لا يمكنه أن يقرأ إلّا البعض الذي نزل بلغته, دون البعض الذي نزل بلغة غيره.

وهذا يتنافى مع التيسير المقصود من نزول القرآن على سبعة أحرف كما قدمنا. وهو مخالف لما صورته لنا الروايات السابقة من اختلافٍ في القراءت بين الصحابة، فإن المقروء فيها كان واحدًا لا محالة. أما "القول الرابع": وهو أن المراد بالأحرف السبعة لغات عربية في كلمة واحدة؛ فهو رأي له وجاهته, غير أنه يلزم منه أن بعض هذه اللغات التي قرأ بها المسلمون قد ضيَّعَها عثمان -رضي الله عنه- لمَّا جمع الناس على حرف واحد، فيحتاج أصحاب هذا الرأي إلى مبرِّرٍ يدفع عنه التهمة، وعن المسلمين الذين أقرُّوه على ذلك، بأن يقولوا: إن المسلمين قد خُيِّرُوا في القراءة بأيِّ وجه9 شاءوا, فاختاروا هذا الوجه على غيره حسمًا للخلاف ودرءًا للفتنة. وأما "القول الخاس": وهو أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة ذات المعنى الواحد مثل: هلمَّ، وأقبل، وتعال، وعجِّل، وأسرع، وقصدى، ونحوي. فقد رجَّحه جماعة منهم سفيان بن عيينة، وابن جريج الطبري، وابن وهب، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء. واستدلوا على هذا القول بما جاء في حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل، استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شافٍ كافٍ ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلمَّ وتعال وأقبل، واذهب وأسرع وعجل"1. قال ابن عبد البر: "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معانٍ متفق مفهومها, مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها

_ 1 أخرجه أحمد والطبراني بإسناد جيد، وهذا اللفظ لأحمد.

معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافًا ينفيه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب"1. ويؤيده أحاديث، منها: قرأ رجل عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فغيَّرَ عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يغيِّر علي، قال: فاختصما عند النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "بلى" , قال: فوقع في صدر عمر شيء، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في وجهه قال: فضرب صدره وقال: "أبعد شيطانًا" -قالها ثلاثًا, ثم قال: "يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة" 2. وعن بسر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري أخبره أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فسألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن, فإن المراء فيه كفر" 3. وعن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية: "إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأصوب قيلًا". فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي "وأقوم", فقال: أقوم، وأصوب وأهيأ واحد4. وعن محمد بن سيرين قال: نُبِّئْتُ أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال له ميكائيل:

_ 1 انظر الإتقان ج1 ص47. 2 أخرجه أحمد بإسنادٍ رجاله ثقات، وأخرجه الطبري. 3 رواه أحمد في "المسند" ورواه الطبري، ونقله ابن كثير في "الفضائل", والهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال: رجاله رجال الصحيح. 4 رواه الطبري وأبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح.

استزده، قال: حتى بلغ سبعة أحرف، قال محمد: لا تختلف في حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، هو كقولك: تعالى: وهلمَّ، وأقبل، قال: وفي قراءتنا: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} في قراءة ابن مسعود: "إن كانت إلا زقية واحدة"1. ولكن هذا القول مردود من وجهين: الأول: أن الكلمة التي يوجد لها سبع مرادفات في القرآن نادرة، فلا يتأتَّى التيسير، ولا رفع الحرج الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف من أجله. وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه. الثاني: أنه يؤدي إلى أن الاختلاف في أوجه القراءة قد انتهى، مع أن الأمة أجمعت على صحة القراءات الكثيرة التي نُقِلَت بالتواتر. وأمَّا "القول السادس": وهو أن الأحرف السبعة هي ما فيه من أمر ونهي، وحلال وحرام، ... إلى آخره, فإنه قول لا دليل عليه، فهو مخالف لظاهر الأحاديث الواردة في أنَّ نزول القرآن على سبعة أحرف كان تيسيرًا على الأمة. وظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة: أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة توسعةً للأمة، والشيء الواحد لا يكون حلالًا وحرامًا في آية واحدة، والتوسِعَة لم تقع في تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة. والذي ثبت في الأحاديث السابقة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءة، احتكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فاستقرأَ كلَّ رجل منهم، ثم صوَّب جميعهم في قراءتهم على اختلافهم، حتى ارتاب بعضهم لتصويب إياهم، فقال -صلى الله عليه وسلم- للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف". ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك لو كان فيما دلَّت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم، والوعد والوعيد, وما أشبه ذلك، لكان مستحيلًا أن

_ 1 رواه الطبري، ومحمد -هو ابن سيرين التابعي- فالحديث مرسل.

يصوّب النبي -صلى الله عليه وسلم- جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لما يلزم عليه من اجتماع الضدين على شيء واحد. فظهر أن هذا القول ساقط لا يعوَّل عليه، ولا يلتفت إليه. وأما "القول السابع": وهو أن الأحرف السبعة هي حروف سبعة يقع فيها التغاير بين قراءة وأخرى, فهو القول الصحيح الجامع لكلِّ ما تقدَّم من الأحاديث الصحيحة، والموافق للأصول الخمسة التي استنبطها العلماء منها، والذي لا يلحقه اعتراض فيما أرى، ولا يتوجَّه إلى المسلمين فيه أيِّ اتهام. كما أنه يعتمد على الاستقراء التامِّ لمرجع اختلاف القراءات, ويتمشَّى مع بقاء الأحرف السبعة إلى اليوم. وهذا القول ذهب إليه في جملته فحول من العلماء، على رأسهم أبو الفضل الرازي -كما ذكرنا, وتبعه فيه أو قاربه كل القرب ابن قتيبة، وابن الجزري، والقاضي ابن الطيب -رحمهم الله جميعًا. شبهات مردودة: قد أورد بعض الكُتَّابِ في كتبهم شبهات حول حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وقاموا مشكورين بدحضها وتفنيدها. الشبهة الأولى: ذهب بعض من لا علم له إلى القول بأن المراد بالأحرف السبعة, القراءات السبعة المنقولة عن الأئمة السبعة المعروفين عند القراء. قال ابن الجزري في الردِّ على هذه الشبهة: "لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القراء المشهورين, وإن كان يظنُّه بعض العوام؛ لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خُلِقُوا ولا وُجِدُوا"1. "وقال أبو شامة: "ظنَّ قومٌ أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يَظُنُّ ذلك بعض أهل الجهل"

_ 1 النشر ج1 ص75.

وقال ابن عمار: لقد فعل مُتَّبِعُ هذا السبع ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة، بإبهامه كل من قلَّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة". وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يُقْرَأُ بها اليوم، وصحَّت رواياتها عن الأئمة، هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. ثم قال: وأما من ظنٍّ أن قراءة القرَّاء كنافع وعاصم، هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقد غلط غلطًا عظيمًا، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة، مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خطَّ المصحف، أن لا يكون قرآنًا، وهذا غلط عظيم"1. وابن مجاهد الذي جمع القراءات السبع لم يقتصر على السبع لاعتقاده أنها هي المرادة بقوله -صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" , وإنما كان ذلك منه على سبيل الصدفة، أو كان كما يقول شهاب الدين القسطلاني في مقدِّمَة إبراز المعاني من حرز الأماني" لأبي شامة: "جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءاتهم"2. قال أبو شامة في إبراز المعاني: "فذكرت تصانيف الأئمة في القراءات المعتبرة والشاذة، ووقع اختيار أكثرهم على الاقتصار على ذكر قراء سبعة من أئمة الأمصار، وهم الذين أجمع عليهم، وإن كان الاختلاف أيضًا واقعًا فيما نُسِبَ إليهم، وأول من فعل ذلك الإمام أبو بكر بن مجاهد قبيل سنة ثلاثمائة أو في نحوها، وتابعه بعد ذلك من أتى بعده إلى الآن، وكان من كبار أئمة هذا الشأن، وبعضهم صنَّف في قراءة أكثر من هذا العدد، وبعضهم في أنقص منه. واختار ابن مجاهد ومن بعده هذا العدد موافقة لقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".

_ 1 اللآلئ الحسان ص127. 2 ص22.

فإن كان المراد بها غير ذلك على ما ذكرناه في كتاب مفرد لذاك، وتأسيًا بمصحف الأئمة التي أنفذها الصحابة إلى الأمصار، فإنها كانت سبعة على ما نطقت به الأخبار, ووقع اختيارهم من أئمة القراءة على كل مختار"1. الشبهة الثانية: يقول المفترون من المستشرقين ومن نحا نحوهم من أهل الزيغ والضلال: إن اختلاف القراء في قراءة القرآن على سبعة أحرف، والأحاديث الدَّالة على أنه نزل على سبعة أحرف, تدل على أن في القرآن اختلافًا كثيرًا, بينما ينفي الله عن هذا القرآن الاختلاف, ويجعل وجوده دليلًا على أنه ليس من عنده. والجواب أن الاختلاف الناشئ عن الأحرف السبعة هو اختلاف في طرق الأداء في دائرة محدودة، لا تعارض بين معانيها، ولا تضارب بين أحكامها. والاختلاف المنفي إنما هو التعارض في المعاني، والتناقض في الأحكام والأخبار. الشبهة الثالثة: "قالوا: إن بعض الروايات في اختلاف القراءات تثير الشك في القرآن، وتفقد الثقة فيه، ففي بعض الروايات تخيير الشخص أن يأتي باللفظ أو بمرادفه، أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى، من ذلك حديث أبي بكرة من رواية أحمد، وفيه: "كلها شافٍ كافٍ، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعالى، وأقبل، وهلمَّ، وأسرع، وعجِّل". ومن ذلك أيضًا ما روي عن ابن مسعود، "أنه أقرأ رجلًا: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال الرجل: طعام اليتيم، فردها عليه، فلم يستقم بها لسانه، فقال: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم، قال: فأفعل". والحقيقة أن كثرة الأقوال، وتهافتها، وضعف الروايات وسقوطها، مكَّن لأعداء الإسلام من التهجُّم على الكتاب الخالد، الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه", وأتاج لهم فرصة الاعتراض والتشكيك. نعم، وإن سماحة الإسلام فتحت مجال القول والكتابة على مصراعيه،

_ 1 ص5، 6.

فدخله العالم والجاهل، فكتب فيه -بحسن قصد- ما ليس منه، ووجد من كلام أبنائه معاول هدم أخطر من سيوف المبشِّرين والمستشرقين، وصدق القائل: لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه فما أحوج ثروة الإسلام العلمية إلى جملة نقاء وتصفية في كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب السير، بل وكتب الأحكام الفقهية الفرعية. ونرى بعض العلماء يسلِّمُ بصحة هذه الروايات لمجرد اطمئنانه للمسند، ويحاول الرد بأن هذا كان جائزًا في أول الإسلام حتى تلين ألسنة المبعوث إليهم, مع ملاحظة أن الكلَّ نازل من عند الله. وتلك المحاولة -رغم حسن القصد الباعث عليها- لا تزيد الشبهة إلّا اشتباهًا, فإن القرآن لم ينزل للعرب وحدهم, وكان حريًّا به أن يراعي المشقة بالنسبة لجميع الأمم لا بالنسبة لبعض القبائل العربية التي تقف ألسنتها عند كلمات منه محدودة. والأولى ردَّ هذه الروايات من أساسها؛ لأن ما جاءت به يخالف الأمر المجمع عليه"1.

_ 1 انتهى بتصرف يسير من اللآلئ الحسان ص125، 126.

المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء

المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء مدخل ... المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء علم القراءات من أجلِّ العلوم قدرًا, وأرفعها منزلة، وهو لا يقل عن علم التفسير شأنًا؛ لأنه يعنى ببيان الوجوه التي أُنْزِلَ بها القرآن، وحفظها وضبطها وتصحيح أسانيدها، وتوثيق رواتها، وتمييز متواترها وآحادها وشاذِّها، وغير ذلك مما يتعلَّق بها من الأحكام. وإنه لمن العلوم التي لا يستغني عنها مشتغِلٌ بالدراسات الشرعية واللغوية, لهذا اعتنى به فريق كبير من العلماء، وفرَّغُوا أنفسهم له حتى نبغوا فيه واشتهروا به ولقِّبُوا بالقراء، وهم كثير -بحمد الله- في كل زمان ومكان، وعلى جانبٍ عظيم من الورع والتقى وشرف المكانة وعلوِّ المنزلة بين علماء الشريعة واللغة بوجه خاصٍّ، وبين الناس بوجه عام. وهذا العلم بحر واسع عميق الأغوار، لا يجيد السباحة فيه إلّا من عَلَت همته، وقويت عزيمته، وتعدَّدت مواهبه, واتسعت مداركه، وكان على حظٍّ وافر من الورع والتقى والإخلاص. وسنتكلم في هذا المبحث عن تعريف هذا العلم، وبيان الحكمة من تعدد القراءات، ونشأة علم القراءات، وأقسامها باعتبار السند وضوابط قبولها، وخلاف العلماء في شرط التواتر في كل قراءة، وغير ذلك مما يأتي عرضًا في ثنايا البحث. والله ولي التوفيق.

تعريف القراءات

تعريف القراءات: "القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوًّا لناقله. فخرج بهذا التعريف علم: اللغة، والنحو، والتفسير"1. "أو هي مذهب يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفًا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات عنه. وهي اختلاف في اللهجات وكيفية النطق وطرق الأداء فقط، من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتشديد وتخفيف، وتليين، إلخ، نزل بها جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته. فكانوا إذا أخذ أحدهم كيفية مخالِفَة لما أخذ الآخر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ على مسمع أخيه أنكره، واحتكما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فأقرَّ كلًّا على قراءته، وأعلن أنها مطابقة لما أنزل"2. وقد مرَّ بك ما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المبحث الذي قبله. وما رواه مسلم عن أُبَيّ بن كعب.

_ 1 انظر مقدمة تحقيق "إبراز المعاني" ص12. 2 انظر اللآلئ الحسان ص90.

الحكمة من تعدد القراءات

الحكمة من تعدد القراءات: 1- قد عرفت في المبحث السابق أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان تيسيرًا على الأمَّة، فإنها كانت قبائل شتَّى, لكل قبيلة لهجة خاصة يصعب عليها أن نتكلم بغيرها، فكان من فضل الله على الناطقين بالعربية على اختلاف لهجاتهم, أن أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ، بأيِّ حرف قرأ منها المسلم أصاب. 2- ومن حكمة تعدد القراءات: التعرُّف من خلالها على حكم الصحيح

وحسم مادة الخلاف عنه التعارض في أقوال الفقهاء، أو ترجيح بعضها على بعض، فإن الفقيه يلجأ في تصويب رأيه إلى وجوه القراءات؛ لعلمه أن القرآن يفسِّر بعضه بعضًا. فمثلًا: قراءة "يطَّهّرن" بتشديد الطاء والهاء في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1. فقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة، ومن نحا نحوهم إلى عدم جواز وطء المرأة حتى تغتسل اعتمادًا على قراءة "يطَّهَّرن" بالتشديد، أي: حتى يقمن بتطهير أنفسهن من الحيض بالاغتسال. ومثل ترجيح غسل الرجلين على مسحهما، بقراءة نصب "أرجلكم" عطفًا على قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} . ومن رجَّح مسح الرجلين على الغسل اعتمد على قراءة "أرجلكم" بالجر. وهكذا ترى الفقهاء يعتمدون على وجوه القراءات في تصويب قراءاتهم، وتصحيح أقوالهم، وترجيح بعضها على بعض. "ولم تزل العلماء تستنبط من كل حرف يقرأ به قارئ معنًى لا يوجد في قراءة الآخر. فالقراءات حجة الفقهاء في الاستنباط، ومحجَّتهم في الاهتداء إلى سواء الصراط"2. فتنوع القراءات بمثابة تعدد الآيات، وسعت مدارك العلماء، وفتحت لهم مجالًا رحبًا للتأمُّل والنظر، وفي ذلك من الإعجاز التشريعي والبياني ما لا يخفى. 3- وفي تعدُّد القراءات تعظيم لأجر الأمَّة في حفظها, والعناية بجمعها، ونقلها بأمانة إلى غيرهم، ونقلها بضبطها مع كمال العناية بهذا الضبط إلى الحدِّ الذي حاز الإعجاب.

_ 1 البقرة: 222. 2 مقدمة تحقيق "إبراز المعاني" ص12.

نشأة علم القراءات

نشأة علم القراءات: من المعلوم لدى المشتغلين بالعلوم الشرعية أن المعوّل في تلقي القرآن الكريم هو السماع والمشافهة من ثقة عدل ضابط عن مثله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الصحابة القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسماع والمشافهة، ومن لم يسمع منهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، سمعه من مثله، ومنهم مَنْ أخذ القرآن عنه -صلى الله عليه وسلم- بحرف واحد، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرَّقوا في البلاد, فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابع التابعين من التابعين، وهلمَّ جرَّا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها، ويعنون بها، وينشرونها بين العباد في كل وادٍ وناد. "هذا منشأ علم القراءات واختلافها، وإن كان الاختلاف يرجع في الواقع إلى أمور يسيرة بالنسبة إلى مواضع الاتفاق الكثيرة كما هو معلوم، لكنه -على كل حالٍ- اختلاف في حدود السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن، وكلها من عند الله، لا من عند الرسول، ولا من عند أحد من القراء أو غيرهم"1. وقد اشتُهِرَ في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظ القرآن وتحفيظه. فاشتُهِرَ بذلك من الصحابة عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأُبَيّ ابن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وغيرهم. وقد بعث عثمان بن عفان مع كل مصحف أرسله إلى الأمصار قارئًا ماهرًا من القراء، يجيد القراءة التي عُنِيَت بها النسخة التي يحملها ليعلِّمَ الناس ويقرئهم. وممن اشتُهِرَ من التابعين بالحفظ والتحفيظ بالمدينة: ابن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وزيد بن أسلم، ومسلم بن جندب، وابن شهاب الزهري، ومعاذ بن الحارث, المشهور بمعاذ القارئ.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص406.

وبمكة اشتُهِرَ: عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وابن أبي مليكة، وعبيد بن عمير، وغيرهم. وبالبصرة اشتُهِرَ: عامر بن عبد القيس، وأبو العالية, وأبو رجاء، ونصر ابن عاصم، ويحيى بن يعمر، وجابر بن زيد، والحسن البصري، وابن سيرين، وقتادة، وغيرهم. وبالكوفة اشتُهِرَ: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، والربيع بن خيثم، والحارث بن قيس، وعمر بن شرحبيل، وعمر بن ميمون، وأبو عبد الرحمن السلمي، وزِرّ بن حبيش، وعبيد بن فضلة، وأبو زرعة بن عمرو، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي، وغيرهم. وبالشام: المغيرة المخزوميّ، وخليد بن سعيد صاحب أبي الدرداء. ثم تفرَّغَ قوم للقراءات يضبطونها، ويعلمونها, ويعنون عناية فائقة بأسانيدها حفظًا وتمحيصًا, فكان بالمدينة منهم: أبو جعفر بن يزيد القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن أبي نعيم. وكان بمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن محيصن. وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، وسليمان الأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي. وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو، وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي. وكان بالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الزماري، ثم شريح بن يزيد الحضرميّ. وذاعت شهرة بعض هؤلاء في الأمصار، حتى صاروا أئمة يُرْحَل إليهم، ويُتَلَقَّى منهم، وزادت الثقة فيهم وفي سعة علمهم أكثر من غيرهم.

فكان الناس بالمدينة على قراءة نافع، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالشام على قراءة ابن عامر. هذا وأوَّل مَنْ ألَّفَ في علم القراءات: أبو عبيد القاسم بن سلَّام، وأبو حاتم السجستاني، وأبو جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق. ولم يقتصرْ واحد منهم في تأليفه على هؤلاء السبعة المشهورين، وظلَّ الحال على ذلك حتى اشتهرت من القراءات على كثرتها سبع قراءات لسبعة أئمة أعلام، ولكنها لم تأخذ طريقها إلى التدوين مجموعة في كتاب واحد حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أو قبل نهايته بقليل. ثم جاء أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي، المولود في بغداد سنة 245 للهجرة، والمتوفَّى سنة 324 للهجرة، فألَّفَ كتابًا في هؤلاء السبعة المشهورين، فناقش فيه أصحاب القراءات السبعة ورواتهم، وذكر أنسابهم وأساتذتهم وتلاميذهم، وذكر وجوه قراءتهم على كثرتها، ووثَّقَها بالأسانيد الصحيحة. والسبب في اقتصاره على السبعة، مع أن في أئمة القرَّاء مَنْ هو أجلَّ منهم قدرًا، أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرين جدًّا، فلمَّا تقاصرت الهمم اقتصروا بما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتُهِرَ بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراء, والاتفاق في الأخذ عنه، فأفردوا من كل مَصْرٍ إمامًا واحدًا. وقد أراد ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- كما قلنا في الشبهة الأولى من المبحث السابق موافقة المصاحف السبعة التي أرسل بها عثمان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، ولم يرد -رحمه الله تعالى- حصر وجوه الكلمات في سبعة، ولم يرد إلزام أحد بهذه القراءات المروية عنه. وقد أضيف إلى القراءات السبع ثلاثة أخر، اشتُهِرَت عن الأئمة الأعلام، وصحَّت أسانيدها واشتهرت، فقامت الشهرة مقام التواتر، وهي:

قراءة يعقوب، وأبي جعفر، وخلف. وهناك قراءات أخرى شاذة، لم تصل أسانديها إلى حدِّ التواتر، ولا إلى حدِّ الاشتهار، مثل قراءة الحسن البصري، وابن محيصن، ويحيى اليزيدي، والشنبوذي.

أقسام القراءات باعتبار السند

أقسام القراءات باعتبار السند: ضبط علماء القراءات الأسانيد التي وصلت إليهم عن طريقها ضبطًا محكمًا، وقسَّموا هذه الأسانيد إلى أربعة أقسام: قراءة، ورواية، وطريق، ووجه. فالقراءة: ما كان الخلاف فيها لأحد الأئمة السبعة أو العشرة، أو الأربعة عشر أو نحوهم، واتفقت عليه الروايات والطرق. والرواية: ما كان الخلاف فيه للراوي عن الإمام، واتفقت الطرق عنه. والطريق: ما كان الخلاف فيه لمن بعد الراوي عن الإمام فنازلًا. والوجه: هو الخلاف الراجع إلى تخيير القارئ فيه.

ضوابط قبول القراءات

ضوابط قبول القراءات: اشترط أهل هذا العلم لقبول القراءة ثلاثة شروط نصَّ عليها ابن الجزري في "النشر في القراءات العشر" فقال: قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصحَّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها، ولا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختلَّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أُطْلِقَ عليها ضعيفة، أو شاذّة، أبو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عَمَّن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف, صرَّح بذلك الإمام الحافظ أبو عمر وعثمان بن سعيد الداني، ونصَّ عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحقَّقه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة.

وهو مذهب السلف الذي لا يُعْرَف عن أحد منهم خلافه. ثم أخذ ابن الجزري يشرح هذه الضوابط واحدًا تلو الآخر، فقال -رحمه الله تعالى: وقولنا في الضابط: ولو بوجه، نريد به وجهًا من وجوه النحو, سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضرُّ مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وتلقَّاه الأئمة بالإسناد الصحيح؛ إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتَبَرْ إنكارهم، بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها؛ كإسكان "بارئكم"، ويأمركم" ونحوه. قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان", بعد ذكره إسكان "بارئكم" "ويأمركم" لأبي عمرو، وحكاية إنكار سيبويه له، قال: والإسكان أصحُّ في النقل، وأكثر في الأداء، وهو الذي اختاره وأخذ به، ثم لما ذكر نصوص رواته قال: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فَشْوَ لغة، لأنَّ القراءة سنَّة متَّبَعة يلزم قبولها والمصير إليها. قال ابن الجزري: ونعني بموافقة أحد المصاحف: ما كان ثابتًا في بعضها دون بعض، كقراءة ابن عامر: "قالوا اتخذ الله ولدًا" في البقرة بغير واو. "وبالزُّبرِ وبِالكِتَابِ الْمُنِير" بزيادة الباء في الاسمين، ونحو ذلك، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي. وكقراءة ابن كثير: "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار" في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة "من" فإن ذلك ثابت من المصحف المكي. وكذلك: {فإنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} في سورة الحديد بحذف "هو". وكذا {سَارِعُوا} بحذف الواو.

وكذا "منهما مُنْقَلَبًا" بالتثنية في الكهف، إلى غير ذلك من مواضع كثيرة في القرآن اختلفت المصاحف فيها، فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم، فلو لم يكن ذلك كذلك في شيء من المصاحف العثمانية لكانت القراءة بذلك شاذة؛ لمخالفتها الرسم المجمَع عليه. وقولنا بعد ذلك: "لو احتمالًا" نعني به: ما يوافق الرسم ولو تقديرًا، إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقًا وهو الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديرًا وهو الموافقة احتمالًا. فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعًا نحو السماوات، والصلحات، واليل، والصلوة، والزكاة، والربوا. وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقًا، ويوافقه بعضها تقديرًا، نحو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف، فقراءة الحذف تحتمله تحقيقًا، كما كتب {مَلِكِ النَّاس} وقراءة الألف محتملة تقديرًا، كما كتب {مَالِكَ الْمُلْك} فتكون الألف حذفت اختصارًا. ثم قال ابن الجزري في شرح الشرط الثالث: وقولنا: "وصحَّ سندها" فإنا نعني به: أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شَذَّ بها بعضهم1.

_ 1 انتهى بتصرف من النشر ص53: 58.

هل التواتر شرط في صحة القراءة

هل التواتر شرط في صحة القراءة: من المعلوم أن القرآن الكريم قد نقل إلينا كله بالتواتر، ولكن هل يشترط التواتر في كل حرف من حروفه لصحة القراءة به، أم يكفي أنه اشتهر بين القراء سلفًا وخلفًا, فتقوم الشهرة مقام التواتر؟ قال ابن الجزري: "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبُت إلّا بالتواتر، وأن ما جاء

مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه؛ فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذا ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب قبوله، وقُطِعَ بكونه قرآنًا, سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة، وغيرهم. ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف"1. وإلى هذا القول جنح أبو شامة في "مرشده", وغيره من الباحثين المحقِّقين في هذا العلم. والمعوَّل عليه في صحة القراءة وقبولها والقراءة بها هو النقل الصحيح. قال الإمام أبو محمد مكي في مصنَّفه الذي ألحقه بكتاب "الكشف" له: فإن سأل سائل فقال: فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به، وما الذي يقبل ولا يقرأ به؟ فالجواب: أن جميع ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به اليوم، وهو ما اجتمعت فيه الشروط الثلاثة المتقدمة. والقسم الثاني: ما صحَّ نقله عن الآحاد، وصحَّ وجهه في العربية، وخالف لفظه خط المصحف، فهذا يقبل ولا يقرأ به. والقسم الثالث: هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية, فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف.

_ 1 النشر ج1 ص58.

المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور

المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور مدخل ... المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور جمع الله -عز وجلَّ- القرآن في صدر نبيه -عليه الصلاة والسلام, كما وعده بذلك في قوله سبحانه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} 1. فوعاه قلبه، فلم ينس منه شيئًا، كما دلَّ على ذلك قوله -جلَّ وعلا- في سورة الأعلى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 2. "أي: سنجعلك قارئًا، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، والمعنى: نجعلك قارئًا للقرآن فلا تنساه"3. وتلقَّاه عنه أصحابه، فحفظه بعضهم بتمامه عن ظهر قلب، وحفظ بعضهم منه ما شاء الله أن يحفظ، واستعانوا على حفظه بكتابته، ولم يكن أكثرهم يعرِفُ القراءة والكتاية، فكان أحدهم إذا أنسي شيئًا ترقَّب قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتابعها، ليتذكَّر من خلالها ما أنسيه، أو سأل عنه من يحفظ القرآن في صدره أو في مصحفه، وكان يعين بعضهم بعضًا على الحفظ والتدبُّر؛ إيمانًا منهم بضرورة نشر العلم بوجه عام، ونشر القرآن بوجه خاصٍّ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرغِّبُهم في ذلك، حتى أنه جعل مهر امرأة تعليم آيات من كتاب الله. فقد روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلًا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ " فقال: ما عندي إلّا إزاري هذا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إزارك

_ 1 القيامة: 16-17. 2 آية: 6-7. 3 محاسن التأويل للقاسمي, ج17 ص6131.

جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا" , فقال: ما أجد شيئًا، فقال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟ " قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور يسميها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن". ولقد أعانهم على حفظه أيضًا كثرة تلاوته في الصلوات الخمس، وفي قيام الليل، وفي مجالسهم المختلفة، فقد تعبَّدهم الله بتلاوته وسماعه وتدبره والعمل به، وجعله منهج حياتهم ونور قلوبهم، وشفاء أرواحهم وأبدانهم، فجعلوه شغلهم الشاغل في حِلِّهم وترحالهم، فملك عليهم بحلاوته شغاف قلوبهم، وكان لهم الروح والريحان، فحفظه في صدورهم، واستعانوا على حفظه بكتابته كما قلنا، لئلَّا يفوتهم منه شيء. وجمع القرآن معناه: حفظه في الصدور، ومعناه أيضًا: كتابته في الصحف, وضم بعضه إلى بعض. وجمعه -بمعنى كتابته- حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى: في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم. والثانية: في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه. والثالثة: على عهد عثمان -رضي الله عنه. وسنتكلم عن جمعه في كل عصر من هذه العصور الثلاثة بشيء من التفصيل.

جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم

جمعه في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم: حَفِظَ القرآن الكريم كله في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- كثير من أصحابه، واشتهر بالحفظ منهم عدد؛ لكثرة تلاوتهم له, والتصدي لتعليمه وتفسيره, وجمعه في كتبهم, وغير ذلك من أسباب الشهرة الطيبة. فما ورد من أنهم سبعة أو أقل، فإنه يحمل على من اشتُهر منهم، لا على إرادة الحصر. فقد أورد البخاري في صحيحه ثلاث روايات، ذكر في مجموعها سبعة

من القراء، هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء. 1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبَيّ بن كعب". وهؤلاء الأربعة: اثنان من المهاجرين هما: عبد الله بن مسعود، وسالم، واثنان من الأنصار هما: معاذ، وأُبَيّ. 2- وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبَىّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي". 3- وروي من طريق ثابت عن أنس كذلك قال: "مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الددراء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد". وأبو زيد المذكور في هذه الأحاديث جاء بيانه فيما نَقَلَه ابن حجر بإسنادٍ على شرط البخاري عن أنس: أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه: قيس بن السَّكَن، قال: وكان رجلًا منا, من بني عدي بن النجار أحد عمومتي، ومات ولم يدع عقبًا، ونحن ورثناه. وبيَّن ابن حجر في ترجمة سعيد بن عبيد أنه من الحفاظ, وأنه كان يُلَقَّبُ بالقارئ1. وذِكْرُ هؤلاء الحفاظ السبعة أو الثمانية لا يعني -كما قلنا- الحصر، وإنما هو محمول على أن هؤلاء هم الذني جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم، واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة

_ 1 الإصابة ج2 ص28.

القرآن -وهم كُثُر- فلم تتوفر فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما وأن الصحابة تفرَّقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن بعض، ويكفي دليلًا على ذلك أن الذين قُتِلُوا في بئر معونة من الصحابة كان يقال لهم القرّاء، وكانوا سبعين رجلًا كما في الصحيح. قال القرطبي: "قد قُتشلَ يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتِلَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ببئر معونة مثل هذا العدد"1. وهذا هو ما فهمه العلماء وأولوا به الأحاديث الدالة على حصر الحفاظ في السبعة المذكورين. "إذ يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء السبعة أنهم هم الذين جمعوا القرآن كله بجميع وجوهه التي نزل عليها. أو أنهم هم الذين تلقَّوْه من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير واسطة، بخلاف غيرهم ممن عرف حالهم، فحصر الراوي من علمه منهم، فأخبر به. أو أنهم هم الذين تصدَّوْا لإلقائه وتعليمه، وخفي حال غيرهم عَمَّنْ عرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه. أو أنهم هم الذين جمعوه كتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب. أو المراد أنهم سمعوا له وأطاعوا، فجمعوا بين حفظه والعمل به. وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية أن رجلًا أتى أبا الدرداء، فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال: "اللهم غفرًا، إنما جَمَعَ القرآن من سمع له وأطاع". هذه بعض الأجوبة التي ذكرها السيوطي في الإتقان2 نقلًا عن القاضي أبي بكر الباقلاني، ولا يخلو بعضها عن تكلُّفٍ كما قال ابن حجر. وأصحّ هذه الأقوال ما قدَّمناه من أن هؤلاء المذكورين في روايات البخاري هم الذين اشتهروا بين الناس بحفظ القرآن كله لكثرة تلاوتهم له، وتصديهم لتعليمه، ولكثرة مَنْ روى عنهم، وغير ذلك من الأسباب.

_ 1 الإتقان ج1 ص245ط، الهيئة. 2 ج1 ص246، 247.

وقد نال هذه الشهرة كثير من الصحابة مما يدلُّ على أن الحصر في الأحاديث المتقدِّمَة وغيرها ليس مرادًا. منهم على سبيل المثال: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبد الله، وابن مسعود، وحذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وتميم بن أوس الداري، وعقبة بن عامر، وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في الإتقان1، والزركشي في البرهان2، وغيرهما من الباحثين. هذا، وقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له كُتَّابًا يكتبون ما ينزل من القرآن؛ مبالغة في صيانته من الضياع والتحريف والتبديل. من أشهرهم: زيد بن ثابت الذي أسلم بعد الهجرة، وأُبَيِّ بن كعب، وهو أول مَنْ كتب له بالمدينة، وممَّنَ كتب له أيضًا الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن رواحة, وآخرون. وقد كانوا يكتبون القرآن على سعف النخيل، وصفاح الحجارة، والجلود، والرقاع، وغيرها. وكان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم ما شاء الله أن يكتبوا، ويحتفظون به في بيوتهم ليرجعوا إليه متى أرادوا. عن زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نؤلِّفُ القرآن من الرقاع"3. وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحمَّلُها الصحابة في كتابة القرآن، حيث لم تتيسَّرْ لهم أدوات الكتابة إلّا بهذه الوسائل، فأضافوا الكتابة إلى الحفظ.

_ 1 ج1 ص251. 2 ج1 ص242. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك بسنده على شرط الشيخين، ومعنى: "نؤلِّفُ القرآن" نجمعه لترتيب آياته.

وكان جبريل يُعَارِضُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، كما جاء في رواية البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان, حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسَلَة". وكان الصحابة يعرضون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لديهم من القرآن حفظًا وكتابة كذلك. ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجتمعة في مصحف عام، بل عند هذا ما ليس عند ذاك، وقد نقل العلماء أن نفرًا منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود, قد جمعوا القرآن كله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وذكر العلماء أن زيد بن ثابت كان عرضه متأخرًا عن الجميع. وقُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن محفوظ في الصدور والسطور، ولكن لم يُجْمَعْ في مصحف عام؛ لأن الوحي كان ينزل، فلو جُمِعَ في مصحف واحد لأدَّى ذلك إلى مشقَّة كبيرة في ترتيبه؛ إذ لم يكن ترتيب الكتابة وفق ترتيب النزول، بل كانوا يكتبون الآية بعد نزولها؛ حيث يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة كذا، ولو جُمِعَ القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدَّى هذا إلى التغيير كُلَّمَا نزل شيء من الوحي. "قال الزركشي: "وإنما لم يُكْتَب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصحف لئلَّا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كَمُلَ نزول القرآن بموته -صلى الله عليه وسلم". وبهذا يفسر ما روي عن زيد بن ثابت، قال: "قُبِضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيء". أي: لم يكن جُمِعَ مرتَّبَ الآيات والسور في مصحف واحد.

قال الخطَّابي: إنما لم يجمع -صلى الله عليه وسلم- القرآن في المصحف لما كان يترقَّبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلمَّا انقضى نزوله بوفاته, ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاءً بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر"1.

_ 1 الإتقان ج1 ص245.

جمعه في عهد الصديق رضي الله عنه

جَمْعُه في عهد الصديق -رضي الله عنه: بُويِعَ أبو بكر -رضي الله عنه- بالخلافة في العام الحادي عشر من الهجرة، فواجه في طريقه مشكلات جسامًا كادت تعوق مسير الدعوة، لولا عناية الله تعالى ورحمته. كان من أهمها ارتداد كثير من العرب عن الإسلام، وخروجهم على إمام المسلمين، وتجنيد أنفسهم لمحاربته, والقضاء عليه وعلى المسلمين في المدينة وغيرها، فنهض الصديق لقتالهم بكل قوة أودعها الله فيه، وانضوى المسلمون تحت لوائه يقاتلون عدوَّ الله في كل مكان، شعارهم: احرصْ على الموت تُوهَبْ لك الحياة، واستطاع -رضي الله عنه- أن يُخْضِعَ المرتدين، ويهزمهم شرَّ هزيمة في كثير من المواطن، فحفِظَ بذلك للإسلام عزه ومجده وهيبته، وأنسى أولئك المرتدين وساوس أنفسهم وشياطينهم. غير أن كثير من قراء القرآن قد قُتِلُوا في هذه المعارك، فخاف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يضيع شيء من كتاب الله -عز وجل، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن كله مرتَّب الآيات والسور في كتاب جامع يرجع إليه المسلمون عند الاختلاف، فاستخار أبو بكر -رضي الله عنه- ربه بعد أناة وروية، فشرح الله صدره لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت يعرض عليه هذا الأمر، ويكلفه القيام به. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ1 بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ التقل بالقراء

_ 1 استحرَّ: أي اشتد.

في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم! قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شابٌّ عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه -فوالله لو كلَّفُوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن- قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم! قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر، فتتبَّعتُ القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر". وأخرج ابن أبي داود في المصاحف بسندٍ حسن عن عبد خير قال: سمعت عليًّا يقول: "أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر, هو أول مَنْ جَمَعَ كتاب الله". أي: أمر بجمعه في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور، وقد شهد الناس لزيد بن ثابت -رضي الله عنه- ببلوغ الغاية في التثبُّت، فقد كان يجمع القرآن من صدور الرجال ومن صحفهم، ولا يُثْبِتُ في المصحف إلّا ما كان محفوظًا في الصدور والسطور، لا يكتفي بأحدهما دون الآخر, كما اقتضته أمانته العلمية. وقد أمره أبو بكر -رضي الله عنه- بذلك من باب التنبيه والتذكير، وهو يعلم أنه يراعي ذلك حتمًا، لخصالٍ حميدة تميَّزَ بها عن غيره، سنذكر بعضها فيما

أخرج ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر فقال: من كان تلقَّى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان". وأخرج ابن أبي داود أيضًا من طريق هشام بن عروة, عن أبيه, أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: "اقعدا على باب المسجد, فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فأكتباه" ورجاله ثقات مع انقطاعه. وهذا يدل على أن زيدًا كان لا يكتفي بمجرَّد وجدانه مكتوبًا حتى يشهد به من تلقَّاه سماعًا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط -كما قلنا. "قال ابن حجر: "وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب". وقال السخاوي في "جمال القراء": "المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتِبَ بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. قال أبو شامة: "وكان غرضهم أن لا يُكْتَبَ إلّا من عين ما كَتَب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: "لم أجدها مع غيره" أي: لم أجدها مكتوبة مع غيره؛ لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة"1. وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبًا من قبل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور، وأن تكون كتابته غاية في التثبُّت, مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أوَّلَ من جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف، وإن وجدت مصاحف فردية عند بعض الصحابة، كمصحف علي، ومصحف أُبَيّ، ومصحف ابن مسعود، فإنها لم

_ 1 الإتقان ج1 ص205، 206.

تكن على هذا النحو، ولم تنلْ حظها من التحرِّي والدقة، والجمع والترتيب، والاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، والإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع. فلم تكن إذًا كتابة القرآن الكريم أمرًا مستحدَثًا، فقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا يكتبونه، وأذن لأصحابه بكتابته، فكتبوه مفرَّقًا في الجلود والرقاع وسعف النخل، وغير ذلك مما أتيح لهم الكتابة عليه. "وقال الحارث المحاسَبي في كتاب "فهم السنن": كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعًا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع, وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء، قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه"1. لماذا اختار الصديق زيدًا لجمع القرآن؟: كان الصديق -رضي الله عنه- أعلم الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقادير الرجال ومواهبهم، وكان من أحرص الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وكان زيد هو أنسب الناس في نظره، ونظر أكثر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجمع القرآن؛ لما امتاز به من خصال كريمة لم تتوفَّر إلّا للقليل من أقرانه.

_ 1 المرجع السابق.

وهذه الخصال كثيرة، نكتفي بذكر بعضها معتمدين في ذلك على ما جاء في ترجمته1. 1- كان زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الخزرجي البخاري الأنصاري من أحسن الناس إسلامًا، فقد أسلم في الحادية عشرة من عمره، فترعرع في أحضان الإسلام، وتأدَّب بأدبه، وشرب من معينه الصافي، وهو دون البلوغ، ولازم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الكثير والكثير من علمه ومحاسن سيرته، فكان عبدًا ربانيًّا ينقاد لأمر الله تعالى وأمر رسوله -صلوات الله وسلامه عليه. 2- وإنه كان من كُتَّاب الوحي، بل كان على رأسهم. فقد قال -رضي الله عنه- كما روى الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أنزل عليه الوحي، بعث إلي فكتبته". 3- وكان من الراسخين في العلم, كما قال مسروق -رحمه الله. وقد روى الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله2 أنه كان يقول في أخوات لأب وأم، وأخوة وأخوات لأب: للأخوات للأب والأم الثلثان، فما بقي فللذكور دون الإناث. فقدم مسروق المدينة، فسمع قول زيد فيها فأعجبه، فقال له بعض أصحابه: أتترك قول عبد الله؟ فقال: أتيت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم، يعني: كان زيد يشرّك بين الباقين3. وعن ابن عباس قال: لقد علم الحافظون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم4.

_ 1 راجع ترجمته إن شئت التوسُع في "سير أعلام النبلاء" للذهبي ج2 ص426. 2 يعني: ابن مسعود. 3 إسناده صحيح، وهو في "تهذيب ابن عساكر" ج5 ص451، وقوله: "يشرِّك بين الباقين" أي: يسوي بينهم في القسمة. 4 تهذيب ابن عساكر ج5 ص451.

4- وكان -رضي الله عنه- من أعلم الناس بالفرائض1. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفرض أمتي زيد بن ثابت" 2. أي: أكثرهم علمًا بالفرائض. 5- وكان أقرأ الناس للقرآن، وأعلمهم بوجوهه. روى عاصم عن الشعبي قال: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن3. وأخرج ابن سعد في الطبقات4, وابن عساكر في التاريخ5, عن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدًا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء. 6- وكان من أذكى الناس وأعقلهم -كما شهد له الصديق وغيره. 7- وكان شابًّا يوم اختاره لجمع القرآن، والشباب قوة وعافية، وتجعل المرء قادرًا على صنع ما يعجز عنه الكثير من الشيوخ. 8- كان -رضي الله عنه- من أشد الناس تثبيتًا في أمر القرآن، وتحريًا للدقة في الحفظ والكتابة. 9- وكان زاهدًا ورعًا تقيًّا، لا يلتفت إلى الدنيا، ولا ينظر إلى ما في أيدي الناس، ولا يخشى في الله لومة لائم. 10- وكان -رضي الله عنه- قد تعلَّم خطَّ اليهود بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 المواريث. 2 إسناده صحيح, وهو في الطبقات ج2 ص359 من طريق عفَّان بن مسلم عن وهيب بهذا الإسناد. 3 تهذيب ابن عساكر مسافة ج5 ص449. 4 ج5 ص450. 5 ج2 ص359.

فقد روى ابن أبي الزناد, عن أبيه, عن خارجة1, عن أبيه قال: أتى بي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدمه9 المدينة فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنْزِلَ عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعجبه ذلك، وقال: "يا زيد، تعلَّم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمنهم على كتابي". قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت اكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كتب إليهم2. وتعلَّم السريانية أيضًا. فقد روى الأعمش عن ثابت, عن عبيد, قال زيد: قال لي رسول الله: "أتحسِنُ السريانية؟ ": قلت: لا. قال: "فتعلمها" فتعلمتها في سبعة عشر يومًا3. 11- وكان -رضي الله عنه- مِمَّن شهد العرضة الأخيرة، كما يقول الزركشي4، وغيره. لهذه الخصال وغيرها اختاره الصديق لجمع كتاب الله تعالى, واختاره عثمان أيضًا لكتابة المصحف مع آخرين يأتي ذكرهم فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وظلَّ زيد في خدمة كتاب الله تعالى، حتى لقي ربه سنة خمس وأربعين من الهجرة، وله ست وخمسون سنة -رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1 خارجة هو ابن زيد. 2 إسناده حسن من أجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعلقة البخاري في صحيحه ج13 ص161 في الأحكام، باب ترجمة الحكام, وهل يجوز ترجمان واحد. 3 إسناده صحيح, أخرجه أحمد ج5 ص182. 4 البرهان ح1 ص237.

جمعه في عهد عثمان

جمعه في عهد عثمان: استعت الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان -رضي الله عنه, وتفرَّق القراء في الأمصار وفي ميادين القتال، وأخذ أهل كل مَصْرٍ عَمَّنْ وفد إليهم قراءته.

ووجوه القراءة التي يؤدون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها. فكانوا إذا ضمَّهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو، وسمع كل قراءة الآخر، عجب منها لعدم علمه بها، ووقع في نفسه شك في صحتها. وقد كان الأمر في بادئ الأمر هينًا، لكثرة الحفَّاظ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، واجتماعهم في مكة والمدينة، والكوفة والشام. فلمَّا تفرقوا في الأمصار، واختلط العجم بالعرب، خاف عثمان ومن معه من كبار الصحابة أن يفشوَ اللحن في قراءة القرآن، وأن يدخل في وجوه القراءات الصحيحة ما ليس منها، وأن يؤدي اختلاف الناس في وجوه القراءات إلى الشكِّ في صحة الصحيح منها, وتخطئة بعضهم بعضًا في القراءة، فينشأ النزاع بينهم، وتحتدم الخصومة، وتتمزَّق الأواصر بين المسلمين، وتقع الفرقة في صفوفهم، وفي ذلك من الأخطار الجسيمة ما لا يخفى. فاستخاروا الله -عز وجل- في جمع الناس على مصحف واحد يكون جامعًا للوجوه السبعة التي نزل عليها القرآن, دون سواها من الوجوه التي لم يثبت نقلها بسند صحيح يخلو من الشذوذ والقدح. روى البخاري عن أنس: "أن حُذَيْفَة بن اليمان قدم على عثمان- وكان يغازي أهل الشام في فتح فرج أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق- فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدْرِك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام, فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصُّحُف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحَفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.

قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف, قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها, فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . فألحقناها في سورتها في المصحف". "قال ابن حجر: وكان ذلك في سنة خمس وعشرين، قال: وغفل بعض من أدركناه, فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر له مستندًا، انتهى. وأخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة، قال: حدثني رجل من بني عامر، يُقال له: أنس بن مالك، قال: اختلفوا في القراءة على عهد عثمان, حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذّبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشدَّ تكذيبًا وأكثر لحنًا، يا أصحاب محمد اجتمعوا, فاكتبوا للناس إمامًا، فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، فيرسَلُ إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فقال له: كيف أقرأك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية كذا وكذا؟، فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها, وقد تركوا لذلك مكانًا"1. ولم يكن كلهم يكتبون القرآن، بل اختار عثمان منهم أربعةً عهد إليهم بكتابته نسخًا من المصحف الذي كان عند حفصة -رضي الله عنها, هم: "زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام"2. وقيل: إنه اختار لهذا العمل اثني عشر رجلًا من خيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال السيوطي في الإتقان: "أخرج ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين, عن كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء

_ 1 الإتقان ج1 ص209. 2 النشر ج1 ص51.

بها، وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارؤا في شيء أخروه، قال محمد: فظننت إنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونه على قوله".

خطة عثمان في نسخ المصاحف

خطة عثمان في نسخ المصاحف: وحدَّد عثمان مع هؤلاء الكُتَّاب -رضي الله عنه- الأسس التي يعتمدون عليها في نسخ المصاحف، تتلخَّص فيما يأتي: 1- "لا يُكْتَب شيء إلّا بعد التحقق من أنه قرآن. 2- لا يكتب شيء إلّا بعد العلم بأنه استقرَّ في العرضة الأخيرة. 3- لا يكتب شيء إلّا بعد التأكُّد من أنه لم يُنْسَخ. 4- لا يكتب شيء إلّا بعد عرضه على جمع من الصحابة. 5- إذا اختلفوا في شيء من القرآن كتبوه بلغة قريش. وقد اختلفوا في "التابوت والتابوه" فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرُفِعَ الخلاف إلى عثمان، فقال اكتبوه "التابوت", فإنه نزل بلسان قريش. 6- يحافظ على القراءات المتواترة، ولا تكتب قراءة غير متواترة. 7- اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات يرسم بصورة واحدة. 8- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات، ويمكن رسمه في الخطِّ محتملًا لها كلها -يكتب برسم واحد، مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . فإنها تصلح أن تقرأ بالقراءة الأخرى "فتثبتوا"؛ لأن الكتابة كانت خالية من النقط والشكل، ومثلها: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} . فإنها تصلح أن تقرأ بالقراءة الأخرى "ننشرها".

9- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات ولا يمكن رسمه في الخطِّ محتملًا لها, يكتب في نسخة برسم يوافق بعض الوجوه، وفي نسخة أخرى برسم يوافق الوجه الآخر. كقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} . فإنها تكتب في نسخة أخرى، "وأوصى" بالهمز لأنهما قراءتان. ومثل قوله تعالى في سورة التوبة: {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار} . فإنها تكتب في نسخة أخرى "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة "من" لأنهما قراءتان. وتحاشَوْا أن يكتبوا الرسمين في مصحف واحد، أحدهما في الأصل، والآخر في الحاشية, لئلَّا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول، أو أن الأول أصل، والثاني فرع محتمل، فتضعف قراءة أحد اللفظين عن الآخر بدون مرجع"1. وعلى هذه الأسس القيمة نَسَخَ زيدٌ ومن معه القرآن من المصحف الذي كان عند حفصة -رضي الله عنها- نسخًا دقيقًا, بلغ الغاية في التحري والضبط، ورعاية الوجوه الصحيحة التي صحَّ سندها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكان هذا النسخ موضع الرضا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، قرَّت به أعينهم، وطابت به نفوسهم؛ إذا آمنوا بذلك على كتاب ربهم ووحدة أمتهم. وهو لعمري من أجلِّ الأعمال التي قام بها عثمان -رضي الله عنه، وإنه لا يقلّ قدرًا عن الفتوحات الإسلامية التي حدثت في عهده؛ فحماية كتاب الله تعالى وصيانته من التحريف والتبديل لا تنزل بحال عن حماية الأعراض والحرمات ونشر الإسلام هنا وهناك.

_ 1 اللآلئ الحسان ص58، 59.

فالقرآن دستور الإسلام وصراطه المستقيم ومنهجه القويم، قد تكفَّل الله بحفظه، فقيَّضَ له فريقًا كبيرًا من خيار الخلق، فأودعه صدورهم، فحملوه إلينا، فأخذنا منهم كما أنزل بالتلقي مشافهة وكتابة، من غير أدنى لبس أو تحريف، بكل الوجوه التي تَلَقَّوْهَا من فم النبي -صلى الله عليه وسلم.

عدد ما نسخ من المصاحف

عدد ما نُسِخَ من المصاحف: قد اختلف الرواة في عدد المصاحف التي نسخها زيد ومن معه في عهد عثمان. أ- فقيل: كان عددها سبعة، أُرْسِلَت إلى: مكة، والشام، والبصرة، والكوفة، واليمن، والبحرين، والمدينة. ب- وقيل: كان عددها أربعة: العراقي، والشامي، والمصري، والمصحف الإمام، أو: الكوفي، والبصري، والشامي، والمصحف الإمام. ج- وقيل: كان عددها خمسة، وذهب السيوطي في الإتقان1 إلى أن هذا هو المشهور. د- وذكر ابن الجزري أنها ثمانية: مصحفٌ أُرْسِلَ به إلى البصرة، ومصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى الشام، ومصحف تركه في المدينة، ومصحف خصَّ به نفسه، وهو الذي يُسَمَّى بالمصحف الإمام، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين2. ويبدو أنها كانت كثيرة، أُرْسِلَت إلى جميع الأقطار الإسلامية, ونسخ الناس منها نسخًا أودعوها مساجدهم وبيوتهم حتى بلغت آلافًا مؤلفة. "والمصاحف التي كتبها عثمان لا يكاد يُوجَدُ منها مصحف واحد اليوم، والذي يروى عن ابن كثير في كتابه "فضائل القرآن" أنه رأى واحدًا منها بجامع دمشق بالشام، في رقٍّ يظنه من جلود الإبل، ويروى أن هذا المصحف الشامي نُقِلَ إلى إنجلترا بعد أن ظلَّ في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد فترة، وقيل: إنه احترق في مسجد دمشق سنة 1310 هجرية"3.

_ 1 ج1 ص211. 2 راجع النشر في القراءات العشر ج1 ص51. 3 مباحث في علوم القرآن ص115، 114.

مصير مصحف حفصة

مصير مصحف حفصة: ولما نسخ عثمان -رضي الله عنه- المصاحف، وحرق ما سواها، ردَّ إلى حفصة المصحف الذي أخذه منها, وظل عندها حتى ماتت، وقد ردَّه إليها ولم يحرقه كما حرق غيره وفاءً بعهده لها، وعملًا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . وقد علم أن وجوده عندها لا ينشأ عنه ما يخشى على القرآن منه؛ لأنها لا تسمح بتداوله بين المسلمين، ولولا مصلحة المسلمين في جمع الناس على مصحف واحد ما أرسلت به إلى عثمان، ثم إن حفظ هذا المصحف كتراثٍ تاريخي أمرٌ مهم. لهذه الأسباب مجتمعة رَدَّ عثمان إليها المصحف. "فلما كان مروان أميرًا للمدينة من جهة معاوية, أرسل إلى حفصة يطلب الصحف، فأبت أن ترسلها له، فأخذ يسألها وتأبى حتى توفيت". قال سالم بن عبد الله بن عمر: فلما توفيت حفصة, ورجعنا من دفنها, أرسل مروان بالعزيمة1 إلى عبد الله بن عمر ليرسلنَّ إليه الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فغسِلَت غسلًا، ثم شُقِّقَت، ثم أحرقت، ثم قال: إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب"2.

_ 1 أي: بالأمر الذي لا ينبغي مخالفته. 2 انظر اللآلئ الحسان ص93.

العجم بالعرب، والخوف على القرآن من أن يدخل فيه من وجوه القراءات ما لا يثبت سندها عن النبي -صلى الله عليه وسلم. ب- كان جمع الصديق نقلًا مما تفرَّق في الرقاع، والأكتاف, والعسب، في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور, مقتصرًا على ما لم تُنْسَخ تلاوته، مشتملًا على الأحرف السبعة التي نزل بها. وجَمْعُ عثمان كان نَسْخًا لهذا المصحف الذي جمعه الصديق في عِدَّةِ مصاحف تحمل الأحرف التي أنزل عليها القرآن, وإحراق ما عداها؛ حملًا للناس على القراءة بما في هذه المصاحف التي نُسِخَت، وأُرْسِلَت إلى الأمصار، وقطعًا لدابر الخلاف الذي اشتدَّ واحتدم بين القراء الذين بَعُدَتْ بهم الشُّقَّةُ عن حملة القرآن من كبار الصحابة المشهود لهم بالتثبُّت والتحرِّي للأحرف التي أُنْزِلَ عليها القرآن. وفي نظري أن الجمع الثالث كان توكيدًا للثاني، فلم يكن في المصحف الذي جمعه الصديق خلل، أو نقص، أو وجه غير صحيح من وجوه القراءات، وإنما كان تامًّا مرتَّب الآيات والسور، صحيحًا كله بحمد الله تعالى. لهذا طلبه عثمان دون سواه من المصاحف التي كانت بأيدي الصحابة، ليجعله عمدةً في النسخ، وأصلًا يُرْجَع إليه عند الاختلاف. إلّا أن هذا الجمع الثالث كان عزيمةً من أمير المؤمنين عثمان, لا ينبغي على المسلم أن يقرأ القرآن بأي وجه ليس في مصحفه، بخلاف الجمع الثاني، فإنه لم يحمل أحدًا على أن يقرأ بحرفٍ لم يثبت فيه، فكان لبعض الصحابة مصاحف خاصَّة يقرأون منها، وفيها بعض الوجوه التي لم يثبت تواترها فيما بعد، لكن هذه المصاحف حُرِقَت بأمر عثمان، وبمشورة المسلمين لئلَّا يكون للناس حُجَّة في القراءة بما فيها مما يخالف المصاحف التي نسخها زيد ومن معه، وأُرْسِلَت إلى الأمصار. وهذا فرق يجب الالتفات إليه، والعناية بذكره في هذا المقام. واختلاف الباعث أيضًا بين الجمعين له وجه من وجوه الاتفاق لا ينبغي

إغفاله، فكلٌّ من الصديق وعثمان -رضي الله عنهما- كان يخشى على القرآن من ضياعه أو ضياع شيء منه، إلّا أن الصديق كان يرى هذا الضياع من خلال اشتداد قتل القراء، وعثمان كان يرى ضياعه أو ضياع شيء منه بسبب آخر, هو انتشار الوجوه التي لم يثبُت تواترها، وفَشْو اللحن على ألسنة الصبيان وغيرهم، بسبب اختلاط العرب بالأعاجم. فجزاهم الله عن القرآن وأهل القرآن خير الجزاء.

حكم تحريق المصاحف

حكم تحريق المصاحف: ونختم هذا المبحث ببيان حكم تحريق أوراق المصحف, والأوراق التي فيها اسم الله تعالى، فنقول: يجوز التخلُّص من أوارق المصحف البالية، والأوراق التي فيها اسم الله تعالى بإحراقها. فقد حرق عثمان -رضي الله عنه- المصاحف بعد أن نسخ منها ما أَجْمَعَ المسلمون على صحة القراءة به، وكان ذلك بمرأى ومسمع من الصحابة -رضوان الله عليهم، لم ينكر عليه أحد منهم، إلّا من أراد أن يشهِّرَ بعثمان ويحطَّ من شأنه، وهو الرفيع الشأن عند الله، وعند رسوله -صلى الله عليه وسلم، وعند صالحي المؤمنين أجمعين. روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: "سمعت عليّ بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- يقول: يا معشر الناس، اتقوا الله وإياكم والغُلُوِّ في عثمان، وقولكم: حرَّاق مصاحف، فوالله ما حرقها إلّا عن ملأ منا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "لو كنت الوالي وقت عثمان، لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان"1.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص255.

قال ابن بطَّال: في حديث البخاري جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وأن ذلك إكرام لها وصَوْن عن وطئها بالأقدام، وكرَّهه بعضهم. وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت، وأما الآن فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته. قال الأستاذ موسى لاشين بعد أن نقل كلام ابن بطَّال وابن حجر: "والذي تستريح إليه النفس أن الحكم يتبع القصد والنية، فما دام القصد صيانته من الامتهان, جاز التخلُّص منه بأية وسيلة، الحرق، والخرق، أو الحك، أو الغسل، أو الإلقاء في بحر، أو إرساله إلى مصانع الورق لتصنيعه من جديد، إلى غير ذلك من الوسائل، وكلُّ ما يلزم أن تكون الوسيلة كريمة، فلا يلقى في مزبلة، أو في مكان قضاء الحاجة مثلًا، أما إذا كان القصد الإهانة، فإن التخلُّص منه حرام, ولو بطريقة كريمة"1. أقول: لا يجوز أن يُجْمَعَ الورق الذي فيه القرآن إلى مصانع الورق ليعاد تصنيعه من جديد, كما يقول الأستاذ موسى لاشين؛ لأنه حتمًا سيخلط بغيره من الأوراق البالية، وكثيرًا ما تكون فيها أوراق نجسة، وكثيرًا ما تسقط من أوراق القرآن على الأرض أثناء الحمل والنقل والتصنيع. وإن بعض العلماء قد كَرَّه غسلها بالماء, حتى لا تنزل الغسالة على الأرض فتطؤها الأقدام, كما ذكر السيوطي في الإتقان2. والذي عليه الأكثر جواز التخلُّص من أوراق المصحف البالية, وما في حكمها من الأوراق التي فيها التفسير والحديث والفقه، بإحراقها أو بإلقائها في البحر، أو بمحوها بماء أو خل، ونحو ذلك مما يزيل أثر الكتابة تمامًا، مع إلقاء الغسالة في مكان طاهر لا تطؤه الأقدام, مثل الحياض التي أُعِدَّت للوضوء أو غسل الأواني، ونحو ذلك.

_ 1 اللآلئ الحسان ص60. 2 راجع الإتقان ج1 ص190.

المبحث السادس عشر: رسم المصحف

المبحث السادس عشر: رسم المصحف مدخل ... المبحث السادس عشر: رسم المصحف نعني برسم المصحف الخطَّ الذي كُتِبَ به في عهد عثمان -رضي الله عنه، وهو خطٌّ متميز يختلف بعض الشيء عن القواعد الإملائية التي وضعها علماء اللغة بعد كتابة هذه المصاحف العثمانية بحقبةٍ من الزمن. "وهذا الرسم العثماني يضع أمامنا نموذجًا صادقًا لما كانت عليه الكتابة العربية في النصف الأول من القرن الهجري الأول، حين كان الناس في تلك الأيام لا يحسُّون بفرقٍ بين كتابتهم وما يجدونه في المصحف، وكان أكثر الصحابة ومن وافقهم من التابعين، وأتباعهم, يوافقون الرسم المصحفي في كل ما يكتبونه, ولو لم يكن قرآنًا ولا حديثًا، واستمرَّ الأمر على ذلك إلى أن ظهر علماء البصرة والكوفة، وأسَّسُوا لهذا الفن ضوابط وروابط بنَوْهَا على أقيستهم النحوية وأصولهم الصرفية، وسمَّوْهَا علم الخط القياسي أو الاصطلاحي المختَرَع، وسموا رسم المصحف بالخطِّ المتَّبَع. والموقف الحق والمنهج الصواب في فهم حقيقة العلاقة بين الرسم المصحفي والإملاء العربي, هو أن الكتابة العربية أتى عليها حين من الدهر كانت تكتب بالصورة التي نجدها في الرسم العثماني، تشهد لذلك النقوش التي ترجع إلى القرن الهجري الأول، ولكن اتِّساع استخدام الكتابة العربية في القرون الهجرية الأولى قد أظهر الحاجة بوضوح إلى قواعد للكتابة أكثر تحديدًا وضبطًا، فاتجه الناس منذ القرن الأول إلى تكميل ما يبدو في الكتابة العربية من نقص، وإلى توحيد ما فيها من تعدد القواعد، وأسهم علماء العربية في هذه الحركة، وألْفَوْا مع مرور السنين رسائل وكتبًا في هذا الموضع، لكن هذه الحركة التكميلية والتقعيدية للكتابة العربية لم تبتعد بها عمَّا هي عليه في رسم المصاحف الأئمة"1.

_ 1 انظر "رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية" للأستاذ/ غانم قد روى الحمد ص730-736.

العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي

العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي: عرفت مما سبق أن البَوْنَ ليس واسعًا بين الخط الإملائي والرسم المصحفي، وأن كُتَّاب المصاحف قد كتبوها على ما عرفوه من قواعد الخط، وكان شائعًا في كتبهم. وأن الرسم المصحفي كان ولا يزال هو الأساس للقواعد الإملائية التي استُحْدِثَت بعده، والتي دعت الضرورة لوضعها. ونبيِّنُ هنا بإيجاز شديد بعض الفروق بين الخطَّيْن، فنقول: الهجاء في المصحف يكاد النطق مطابقة تامة، كما هو الشأن في الهجاء المعروف لدينا الآن، لولا ما يبدو أحيانًا من حذف رموز بعض الحركات الطويلة "الألف والواو والياء" في مثل: "العلمين - يَلْونَ - النبين - أيُّهَ - يَدْعُ - يأت"، وزيادة بعض تلك الرموز في الكلمات المهموزة خاصَّة في مثل: "بأييد - أولئك - مائة - نبإى - لقاءي - لا أذبحنه". ومثل زيادة الألف بعد الواو المتطرفة في نحو "ملاقوا - يعفوا". وما يبدو من كتابة بعض الأصوات بغير رموزها التي خُصِّصَت لها، من مثل: كتابة الفتحة الطويلة واو أو ياء في مثل: "الصلوة - الزكوة - رمى - يسعى - الذكرى"، وما يشبه هذه الحالات التي تظهر مخالفة جزئية للنطق، غير ذلك مما ذكره أهل هذا الشأن في كتبهم.

عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه

عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه: وقد بلَغَت عناية العلماء بالقرآن الكريم أنهم درسوا الخط الذي كُتِبَ به، والذي لا تجوز مخالفته. فقد قدَّموا لنا وصفًا كاملًا عن كل حرفٍ كُتِبَ به أثناء جمعه في مصحف واحد، وما طرأ على هذا النسخ من نقط وشكل، وغير ذلك من علامات تُعِينُ على قراءته وتجويده. فما إن كتبت المصاحف بالمدينة، وأُرسِلَ بعضها إلى الأمصار, حتى سارع المسلمون إلى نسخ مصاحف منها كلمة بكلمة، وحرفًا بحرف.

وانبرى فريق كبير من العلماء إلى ضبط هذه المصاحف وإقامتها على نحو ما جاء في المصحف الإمام الذي وجِّهَ إليهم، وهكذا قامت المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول؛ لأنها نسخة منقوله عنها. فروى الأئمة عن المصاحف العثمانية -أصولًا وفروعًا- طريقة رسم الكلمات. وما أن وصلت تلك الرواية إلى عصر انتشار تدوين العلوم حتى سارع العلماء -في وقت مبكر- إلى تسجيل تلك الروايات في كتبٍ كانت أساسًا لحفظ صور الكلمات في المصاحف، ومرجعًا -إلى جانب المصاحف المنسوخة- لمن أراد أن ينسخ مصحفًا. وقد ظهر في كل مَصْرٍ من الأمصار إمامٌ روى ما ورد في مصحف بلده، إذ إن أئمة القراءة كانوا يروون كيفية رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة، وتوفَّرت روايات رسوم مصاحف الأمصار لدى العلماء في وقت مبكر فظهرت لهم مؤلفات سجلت لهم في تراجمهم، ثم تتابع الغيث من بعدهم، فظهرت مؤلفات كثيرة في هذا الفن، نذكر منها على سبيل المثال: 1- كتاب "اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق". 2- "مقطوع القرآن وموصوله" كلها لإمام الشام عبد الله بن عامر اليحصبي, ت118هـ, ذكرهما ابن النديم في الفهرست1. 3- "اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة" للكسائي, "ت 189هـ", ذكره ابن النديم أيضًا في الفهرست2. 4، 5- كتاب "المحرر", وكتاب "علم المصاحف", كلاهما لأبي بكر محمد بن عبد الله بن أشتة الأصفهاني "ت بمصر 360هـ"، وهو كتاب ينقل عنه السيوطي وغيره كثيرًا. 6- "هجاء المصاحف" لمكي بن أبي طالب القيس الأندلسي "ت437 هـ", ذكره ياقوت3 وغيره.

_ 1 ص36. 2 ص36. 3 انظر معجم الأدباء ج19 ص170.

7- "المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" لأبي عمرو عثمان بن سعد الأموي الداني، المعروف في زمانه بابن الصيرفي "ت444هـ". 8- كتاب "المحكم" في نقط المصاحف له أيضًا. 9- القصيدة الرائية, للإمام القاسم بن فيره بن خلف الشاطبي "ت في القاهرة 590هـ"، المسماة "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد", التي نظم فيها مسائل المقنع لأبي عمرو الداني، وزاد عليه أحرفًا يسيرة جملتها ست كلمات. وقد أهتم العلماء بهذه القصيدة وكتبوا عليها شروحًا كثيرة، ونظم كثير منهم على منوالها قصائد زادوا فيها عليها. 10- ومن الكتب المؤَلَّفة في هذا الفن كتاب "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل" لأبي العباس أحمد بن محمد بن عثمان المراكشي, الشهير بابن البناء "ت 721هـ", ألفه في توجيه ما خالف قواعد الخط من رسم المصحف، ومنهجه أقرب إلى منهج الصوفية الباطنية, كما سيظهر لنا عند الكلام عن موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم. وقد ألفت في هذا الفن رسائل علمية جامعية، منها: 1- رسالة عن "رسم المصحف ونقطه" تقدَّمَ بها إلى كلية أصول الدين جامعة الأزهر, عبد الحي حسين الفرماوي لنيل درجة العالمية "الدكتوراه", سنة "1975م", ناقش فيها الحكم الشرعي في التزام الرسم العثماني في طبع المصاحف ونسخها، وتعرَّض لدراسة ظواهر الرسم العثماني في المبحث الثالث في الفصل الثالث، ولم يخرج في مناقشته للموضوع عَمَّا روي عن أبي العباس المراكشي في تفسير ظواهر الرسم من تعليلات. 2- وخير كتاب أُلِّفَ في هذا الفن في العصر الحديث كتاب "رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية" للأستاذ: غانم قدوري الحمد, المدرس في كلية الشريعة بجامعة بغداد.

وهو في الأصل رسالة علمية أُعِدَّتْ في قسم علم اللغة بكلية دار العلوم، بجامعة القاهرة، وقد نال كاتبها درجة الماجستير بتقدير "ممتاز", وأوصت اللجنة بطبعها وتبادلها مع الجامعات. وطبعته اللجنة الوطنية بالجمهورية العراقية سنة "1402هـ-1982م". وهو وافٍ في موضوعه، سهلٌ في أسلوبه، جامعٌ لما تفرَّق من مسائل هذا العلم، في ترتيب بديع. تناول فيه مؤلفه المنهج اللغوي والتاريخي لرسم المصحف في ستة فصول. تكلَّمَ في الفصل الأول -وقد جعله فصلًا تمهيديًّا- عن تاريخ الكتابة العربية، وخصائصها قبل مرحلة الرسم العثماني، إلى جانب بيان الأسس التي تقوم عليها الكتابة. وتحدَّث في الفصل الثاني عن تاريخ كتابة القرآن الكريم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، وجمعه في خلافة الصديق -رضي الله عنه، ونسخه في المصاحف في خلافة عثمان -رضي الله عنه، مع بيان بعض القضايا المتعلقة بذلك. ودرس في الفصل الثالث مصادر الظواهر الهجائية في الرسم العثماني، وبيان موقف علماء السلف من قضيتين. الأولى: موقفهم من التزام الرسم العثماني في كتابة المصحف. والثانية: موقفهم من تفسير الظواهر الهجائية التي تظهر في الرسم العثماني. ودرس في الفصل الرابع الرسمَ العثماني من كافَّةِ جوانبه دراسة لغوية تحليلية، تتناول دراسة الكتابة على مستوى الرمز الواحد، وعلى مستوى الكلمة. وبيَّنَ في الفصل الخامس جهود علماء الرسم والعربية في تكميل الرسم العثماني بواسطة العلامات الخارجية خلال العديد من المحاولات, حتى استوى على ما نجده اليوم في المصاحف, وما نستعمله في الكتابة.

وجعل الفصل السادس في بيان العلاقة بين الأداء والرسم، ووضَّح كيف صارت موافقة الرسم أحد شروط القراءة الصحيحة، وبيَّنَ الإمكانيات الجائزة لمخالفة ألفاظ التلاوة الثابتة النقل للرسم، مما يرجع إلى طبيعة الكتابة نفسها، وقصورها في إمكانية تمثيل النطق تمثيلًا دقيقًا، وممَّا يرجع إلى طبيعة الرسم العثماني نفسه. وختم البحث ببيان العلاقة بين الرسم المصحفي والرسم الإملائي الذي كتب به الناس في غير المصاحف منذ القرن الأول الهجري، ولا نزال نكتب به إلى اليوم. واعتمد الباحث في بحثه على التحليل والتعليل، مناقشًا كل ذي رأي في رأيه بقدر ما أتيح له من علم ومعرفة، ورجع في دراسته هذه إلى كثير من المصادر المطبوعة والمخطوطة، عربية وأجنبية.

المصحف العثماني والأحرف السبعة

المصحف العثماني والأحرف السبعة: اختلف العلماء حول اشتمال المصحف العثماني في رسمه على الأحرف السبعة التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وعدم اشتماله عليها، على ثلاثة مذاهب: 1- "فقد ذهبت جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنت ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن"1. 2- "وذهبت جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين -كما يقول ابن الجزري- إلى أن هذه المصاحف مشتمِلَة على ما يحتمله رسمها من الأحرف فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل، متضمنة لها, لم تترك حرفًا منها"2.

_ 1 انظر "النشر" لابن الجزري ج1 ص85. 2 المرجع السابق.

3- ومن العلماء من ذهب إلى أن المصاحف العثمانية لا تشتمل إلّا على حرف واحد. منهم ابن جرير الطبري، فقد نصَّ على أن المصحف العثماني قد كُتِبَ على حرف واحد، فقال فيما قال: "فلا قراءة للمسلمين اليوم إلّا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية". الصواب عندي -والله أعلم- أن كُتَّاب المصاحف قد راعوا في كتابتهم أن تكون المصاحف مشتملة على الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها بقدر الإمكان، وذلك في جملتها لا في كل واحد منها. قال الزرقاني في فوائد الرسم العثماني: "الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان، وذلك أن قاعدة الرسم لُوحِظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر، فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك, بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات, جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل, وذلك ليُعْلَم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل، وإذا لم يكن في الكلمة إلّا قراءة واحدة بحرف الأصل رُسِمَت به"1. ولا يعني هذا أن الرسم يشتمل على كل قراءة صحيحة، وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر في ذلك أكثري.

_ 1 مناهل العرفان ج1 ص366.

موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني

موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني: ذهب علماء السلف الصالح إلى وجوب كتابة المصاحف بالخط الذي كتبت به في عهد عثمان -رضي الله عنه- وعن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم أجمعين. يروي الداني أن مالكًا رضي الله عنه قيل له: "أرأيت من استكتب مصحفًا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم, فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى"1.

_ 1 المقنع ص9، 10.

وقد أجمع العلماء على مثل ما ذهب إليه الإمام مالك، فقد قال الداني بعد أن روى رأي مالك السابق: "ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة". وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك1. وقد ذكر أحمد بن المبارك في الإبريز2 أن هذا هو مذهب الأئمة الأربعة، ونقل ذلك عن الجعبري من العقيلة. قال البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين في شعب الإيمان: من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيِّر مما كتبوا شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منَّا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم3. ثم إن هذا الرسم سُنَّةٌ من سنن الخلفاء الراشدين المهديين الذين أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأتباعها، بقوله: "عليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين, عُضُّوا عليها بالنواجذ" 4. ومضى التابعون على ما نهج عليه السلف الصالح في كتابة المصاحف من غير تبديل لكلمة أو تغيير لحرف، فوجب علينا أن ننهج نهجهم في كتابة المصاحف أسوة بهم، وتمسُّكًا بهذا الرسم كتراثٍ ديني لا ينبغي أن يندثر. هذا، وقد ذهب أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" إلى جواز كتابة المصاحف بالخط الهجائي، لعدم وجود ما يدل على وجوب كتابته بالرسم العثماني من كتاب أو سُنَّة، فقال -رحمه الله- بعد كلام طويل: "وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وخطه لا يجوز إلّا على وجه مخصوص، وحدٍّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نصِّ السنة ما يوجب ذلك

_ 1 انظر البرهان للزركشي ج1 ص379، والإتقان للسيوطي ج4 ص146. 2 راجع ص64 ط1، المطبعة الأزهرية. 3 انظر الإتقان ج4 ص146. 4 الحديث رواه داود في السنة5، والترمذي في العلم16.

ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلَّت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرهم برسمه، ولم يبيِّن لهم وجهًا معينًا، ولا نهى أحدًا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مطابقة مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يُكْتَب بالحروف الكوفية، والخط الأول.... وساغ أن يكتب الكاتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتبه بالهجاء والخطوط المحدثة، وجاز أن يُكْتَب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصور، وأن الناس قد أجازوا ذلك كله، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر - عُلِمَ أنه لم يُؤْخَذ في ذلك على الناس حدٌّ محدود مخصوص كما أُخِذَ عليهم في القراءة والأذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دالٍّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصويب الكاتب به على أي صورة كان. وبالجملة, فكل من ادَّعى أنه يجب على الناس رسمٌ مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنَّى له بذلك" أ. هـ. وذهب العز بن عبد السلام إلى ما ذهب إليه القاضي, فأفتى بجواز كتابة المصاحف بالمألوف من الهجاء عند الناس، بل هو يوجب ذلك خشية وقوع التغيير في القرآن من قِبَلِ الجهَّال. فقد أورد الزركشي في البرهان1 مذهبه هذا حيث يقول: "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف -الآن- على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلَّا يوقع في تغيير الجهال".

_ 1 ج1 ص379.

والأصح -كما قلنا من قبل- ما أفتى به الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف الصالح -رضوان الله عليهم، للأسباب التي ذكرناها، وإن كان لقول الباقلَّاني والعز بن عبد السلام وجاهته من حيث إن المصلحة العامة تقتضيه في العصور التي انتشر فيها الجهل، ولكن الأولى أن نتمسَّك بما تمسَّك به السلف الصالح؛ لأنهم أعلم منَّا بمصالح العباد وسنن الاتباع. وإن رسم المصحف على هذا النحو الذي كان عليه في عهد عثمان -رضي الله عنه- يمثِّلُ لونًا من ألوان التراث الديني، ويُعْتَبَرُ برهانًا صادقًا على مدى عناية المسلمين بكِتَاب ربهم نطقًا وكتابة. وهو ظاهرة يتميز بها المصحف من غيره، فيجب أن تبقى كما هي. ومن يدري لعل في هذا الرسم أسرارًا خفيت علينا, ربما يظهر لنا شيء منها بالدراسة والتمحيص. ومحو هذه الظاهرة تضييع لهذه الأسرار، ومحو لهذه الآثار التي توارثها الأجيال جيلًا بعد جيل.

موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم

موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم مدخل ... موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم: الرسم العثماني للمصحف يختلف عن الخط الإملائي في بعض ظواهره لا في جميعها كما هو معلوم. فقواعد الإملاء رسم قياس، يأتي الحرف فيه موافقًا للفظه، بخلاف الرسم المصحفي, فإنه لا يطَّرِدُ هجاؤه على وفق القواعد التي وضعها الكُتَّاب بعده بزمن غير بعيد، ولا يُقَاس عليه غيره. وقد ظلت تلك الظواهر الكتابية التي لم تخضع لقواعد الهجاء المستحدثة في جميع أحوالها محل نقاش، ومثار تساؤل، فاختلفت وجهات نظر العلماء في تفسيرها، وتناقضت مواقفهم -أحيانًا- منها، حتى إن بعض العلماء حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب في الكتابة، وذهب آخرون إلى أنها توقيف، وأنها تخفي من الأسرار الباطنة ما لا يُدْرَك إلّا بالفتح الرباني.

وقد أوقعهم -جميعًا- في ذلك إهمالهم للبعد التاريخي للكتابة، واعتقادهم -جميعًا- أن الأصل في الكتابة موافقة الخط للفظ، فقالوا: إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خرجوا على ذلك الأصل حين كتبوا المصحف, وهم في الحقيقة إنما استخدموا الهجاء المستعمَلَ في زمانهم، الذي يعود بقواعده وبما يحمل من ظواهره كتابية وردت في رسم المصحف إلى فترات أقدم من تاريخ نسخ المصاحف. ونستطيع أن نلخص هذه الاتجاهات فيما يأتي:

تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية

1- تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية: مثل: تعليل رسم الألف ياء للإمالة، ورسم الهمزة بأحد حروف العلة الثلاثة للتسهيل، أو زيادة تلك الحروف في بعض الأحيان للفرق، أو حذفها للتخفيف. ومثل تعليل وصل بعض الكلمات للإدغام، أو كتابة تاء التأنيث في بعض الأسماء مبسوطة على اللفظ، وأهل هذا الاتجاه يحاولون بذلك ربط هذه الظواهر الكتابية بالظواهر الصوتية للغة. وقد عبَّر الداني1 عن هذا الاتجاه بقوله: "وليس شيء من الرسم ولا من النقط2 اصطلح عليه السلف -رضوان الله عليهم، إلّا وقد حاولوا به وجهًا من الصحة والصواب، وقصدوا به طريقًا من اللغة والقياس، لموقعهم من العلم، ومكانهم من الفصاحة، علم ذلك من علمه, وجهله من جهله، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء, والله ذو الفضل العظيم".

_ 1 المحكم ص196. 2 ظهر النقط في المصحف بعد الكتبة الأولى للمصاحف بزمن يسير -كما سيأتي بيانه في مبحث آخر.

حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب

2- حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب: وأهل هذا الاتجاه ينسبون الخطأ لخيرة الكُتَّاب من الصحابة؛ لأنهم لم يجدوا لهذا الرسم المخالف للقواعد الإملائية في بعض ظواهره تعليلًا لغويًّا تركن إليه أنفسهم، وتطمئن به قلوبهم.

وقد اعتمدوا في ذلك على آثار لا حجة لهم فيها فيما أرى، منها: ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده عن عكرمة أنه قال: "لما كُتِبَت المصاحف عُرِضَت على عثمان, فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيِّروها, فإن العرب ستغيِّرها -أو قال: ستعرّبها- بألسنتها، لو أن الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف". ومنها ما أخرجه الفرَّاء وأبو عبيد وابن أبي داود، والداني عن أبي معاوية الضرير, عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: "سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} . وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاة} . وعن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} . فقالت: يا ابن أختي, هذا عمل الكُتَّاب أخطأوا في الكتاب". قال الأستاذ قدوري في "رسم المصحف"1: "وقد تحدَّث العلماء عن هذه الأخبار، وما قِيلَ في معناها، فضعَّف بعضهم روايتها، وردَّها لذلك، وتأوَّل بعضهم ما ورد فيها من معنى الخطأ واللحن. يقول السيوطي: وهذه الآثار مشكلة جدًّا، وكيف يظن بالصحابة أولًا أنهم يلحنون في الكلام فضلًا عن القرآن وهم الفصحاء اللُّذُّ2. ثم كيف يُظَنُّ بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقَّوْه من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه! ثم كيف يظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته! ثم كيف يظن بهم رابعًا عدم تنبههم ورجوعهم عنه! ثم كيف يظن بعثمان أنه ينهى عن تغييره! ثم كيف يظن أن القراءة استمرَّت على مقتضى ذلك الخطأ وهو مروي بالتواتر خلفًا عن سلف!

_ 1 ص214 وما بعدها. 2 اللذ -بتشديد اللام وفتحها: الطيب الحديث, والجمع بضم اللام.

هذا مما يستحيل عقلًا وشرعًا وعادة. ... وقد ردَّ أبو بكر الأنباري الأخبار المرويَّة عن عثمان بن عفان في ذلك -كما ينقل السيوطي- وهي عنده "لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متصلة". كذلك هو ينفي أن يكون معنى قوله: "أرى فيه لحنًا" أرى في خطه لحنًا, إذا أقمناه بألسنتا كان لحن الخط غير مفسد، ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ، وإفساد الإعراب، لأن الخط منبئ عن النطق، فمَنْ لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخِّر فسادًا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق. ونقل السيوطي أيضًا رأي ابن أشتة في الأخبار المروية عن عثمان، وما يذهب إليه في توجيهها، فيروي أنه قال: لعلَّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرَّفَها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ويقول السيوطي: إن تلك الأجوبة لا يصلح منها شيء في الإجابة عن حديث عائشة، ثم ينقل ما قاله ابن أشتة في ذلك، وتبعه فيه ابن جبارة "أحمد بن محمد المقدسي ت728هـ" في شرح الرائية, بأن معنى قولها: "أخطأوا", أي: في اختيار الأَوْلَى من الأحْرُف السبعة لجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز. وتناول أبو عمرو الداني تلك الأخبار بالنقد والتوجيه, فقال عن الخبر الذي يروى عن عثمان: "هذا الخبر عندنا لا تقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل من جهتين". إحداهما: أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسَل؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعها من عثمان شيئًا ولا رأياه، وأيضًا, فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان -رضي الله عنه- لما فيه من الطَّعن عليه من محله من الدين، ومكانه من الإسلام، وشدة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة".

ثم يوجه معنى اللحن في الخبر -لو صحَّ- بأن المراد به التلاوة دون الرسم، إذ كان كثير منه لو تُلِيَ على حال رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة، وتغيَّرت ألفاظها من مثل: "أو لا أذبحنه" وما شاكله. ويرى الداني في قول عثمان -رضي الله عنه- في آخر هذا الخبر: "لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف", أن معناه: لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة، وسلكوا فيها تلك الطريقة، ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك، فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدَّم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ، ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه، إذ أن ذلك هو المعهود عندهما, والذي جرى عليه استعمالها. وتحدَّث الداني عن الخبر المروي عن أم المؤمنين عائشة وقال في تأويله: إن عروة لم يسأل عن حروف الرسم التي تزاد وتنقص، وإنما سألها عن حروف القراءة المختلفة الألفاظ، المحتمِلَة الوجوه على اختلاف اللغات، مما أذن الله -عز وجل- في القراءة به، ومن ثَمَّ فليس ما جاء في الخبر من الخطأ أو اللحن بداخل في معنى المرسوم، ولا هو من سببه في شيء، وإنما سَمَّى عروة ذلك لحنًا، وأطلقت عائشة على مرسومه الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار، وطريق المجاز في العبارة" أ. هـ. وممن صرَّح بخطأ الكُتَّاب في بعض ما كتبوا ابن قتيبة، فقد قال بعد أن ذكر من الحروف ما يخالف لفظها كتابتها: "وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهبٍ من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطًا من الكاتب، كما ذكرت عائشة -رضي الله عنها. فإذا كانت على مذاهب النحويين فليس ههنا لحن بحمد الله. وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله -صلى الله عليه وسلم- جناية الكاتب في الخط.

ولو كان هذا عيبًا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي، فقد كُتِبَ في الإمام: "إن هذان لساحران" بحذف ألف التثنية. وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل: "قال رجلن" و "آخرن يقومان مقامهما". وكتب كتاب المصحف: الصلوة، والزكوة، والحيوية، بالواو, واتبعناهم في هذه الحروف خاصَّة على التيمن بهم. ونحن لا نكتب "القطاة، والقناة، والفلاة" إلّا بالألف, ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه. وكتبوا "الربو" بالواو، وكتبوا "فمال الذين كفروا" فمال بلام منفردة. وكتبوا "ولقد جاءك من نبأي المرسلين" بالياء "أو من وراءي حجاب" بالياء في الحرفين جميعًا، كأنهما مضافان، ولا ياء فيهما، إنما هي مكسورة. وكتبوا "أم لهم شركوا" و"فقال الضُعَفَؤُا" بواو، ولا ألف قبلها. وكتبوا: "أو أن نفعل أموالنا ما نشاؤ" بواو بعد الألف، وفي موضع آخر "ما نشاء" بغير واو، ولا فرق بينهما. وكتبوا "أو لا أذبحنه أو ليأتيتي بسلطان مبين" بزيادة ألف. وكذلك "ولا أوضعوا خلالكم" بزيادة ألف بعد لام ألف. وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه"1. فأنت ترى أنه قد ردَّ مخالفة الرسم للخط الهجائي إلى أحد احتمالين: إما أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو تكون غلطًا من الكاتب. فهو يجوز الغلط على الصحابة في كتابة المصحف، والغلط جائز على غير المعصوم -صلى الله عليه وسلم، لكنه بعيد أن يخطئ هؤلاء الأخيار في كتابة كلام الله -عز وجل، فلا بُدَّ أن يكون لكتابتهم المصاحف على هذا الرسم حِكَمٌ خفيت علينا، أو خفي بعضها وعُلِمَ بعضها.

_ 1 تأويل مشكل القرآن ص56-58.

وكان ابن خلدون "ت 808هـ" أهم من ادعى بعد ابن قتيبة دعوى وقوع الغلط من الصحابة حيث رسموا المصاحف. وهو يبني مذهبه على أن أهل الحجاز أخذوا الكتابة من حِمْيَر -وهو ما ينفيه البحث الحديث- إلّا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو. ثم يقول: فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسُّط؛ لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف؛ حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، خالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرُّكًا بما رسمه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفي لهذا العهد خطَّ ولي أو عالم تبرُّكًا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابًا، وأين نسبه ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك، وأثبت رسمًا، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه. ثم يقول أيضًا: ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفَّلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه، ويقولون في مثل زيادة الألف في "لا أذبحنه": إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في "بأييد": تنبيه على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلّا التحكُّم المحض، وما حملهم على ذلك إلّا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهُّم النقص في قلة إجادة الخطِّ، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح. ثم يستمرُّ ابن خلدون في بيان أن الخط ليس بكمالٍ في حق الصحابة؛ لأن

الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش، ويحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس1. "ولا ينبغي أن تنخدع بما في كلام العلامة ابن خلدون -رحمه الله- من الجدية والصراحة والتحليل، فمع أنه مصيب في قوله: إن أكثر الأوجه التي سيقت في تعليل مخالفة الرسم في بعض الكلمات -المبنية على أساس اختلاف المعاني خاصة- لا أصل له إلّا التحكُّم المحض، ومع صدق الواقع فيما كان من بعض العلماء من مذاهب تنزيهًا للصحابة من أن ينسب إليهم الخطأ في الرسم, فإنه غير مصيب -إطلاقًا- في تصوره لحالة الكتابة العربية لأول الإسلام، فلا يعني ضعف القدرة على إجادة كتابة الحروف والتفنن في رسمها في حواضر الحجاز -إن صحَّ ما ذهب إليه في ذلك- أن الكتابة عندهم كانت عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات اللغة، أو مضطربة في تمثيل أصواتها، فقد كانت الكتابة العربية قد عاشت تجربة طويلة من الاستعمال الواسع في أطراف الجزيرة قبل أن تدلف إلى الحجاز قبل الإسلام بقرن أو قرنين من الزمن، وإذا كانت قد عانت من وحشة البداوة في الحجاز, فإن ذلك لم يتجاوز صورة الحرف وأداة الكتابة. ونجد أن الوجوه المخالفة التي أقلقت العلماء على مدى القرون يمكن أن تكون دليلًا قويًّا على رهافة الحسِّ اللغوي عند الصحابة، الذين تولَّوْا كتابة القرآن العظيم عندما حاولوا تدوين الظواهر الصوتية التي كانوا يحسُّونها عند التلاوة, مع المحافظة على صورة الكلمات القديمة، فجاء الرسم محافظًا على صور الكلمات المعهودة وممثِّلًا للعناصر الصوتية الجديدة"2.

_ 1 انظر المقدمة ص378. 2 "رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية" للأستاذ غانم قدوري الحمد ص23.

اختلاف الرسم لاختلاف المعنى

3- اختلاف الرسم لاختلاف المعنى: زعم قوم أن كُتَّاب المصاحف راعوا عند كتابتها المعاني الدقيقية التي تشتملها وتنطوي عليها آيات القرآن، فكتبوا بعض الكلمات مخالِفَة للخط الهجائي؛ رعاية لمعانيها المستنبطة.

من هؤلاء: أبو العباس المراكشي في كتابه الذي ألَّفَه في الكشف عن الأسرار التي يتضمنها الرسم العثماني، والذي سماه الزركشي والسيوطي1 "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل"، وسمَّاه القسطلاني2 "الدليل من مرسوم التنزيل". وإذا كنَّا لم نطَّلِعْ على نسخة من هذا الكتاب، فإن الزركشي والقسطلاني قد أشارا إلى منهجه في تعليل مخالفة الرسم للخط الإملائي، وذكرا بعض الأمثلة لبيان هذا المنهج بصورة تزيل خفاءه. ويقوم منهج أبي العباس المراكشي على أن الرسوم إنما اختلفت أحوالها في الخَطِّ بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها، وكذلك التنبيه على العوالم الغائب والشاهد، ومراتب الوجود والمقامات. وهذا المنهج لا يسعفه دليل؛ لأنه مبنيٌّ على أساس أن المعاني الإضافية تعبر عنها حروف هجائية غير منطوقة، مع أن الأساس الأول الذي تنبنى عليه الكتابة هو الأصوات المسموعة للكلمات, وليست المعاني المخبوءة فيها. هذا إلى جانب أن تلك التعليلات التي يوردها لاختلاف صور هجاء بعض الكلمات توقع -في أحيان كثيرة- في تناقض حاد. "فلم يكن منهج أبي العباس المراكشي إذن قائمًا على أساسٍ من حقائق العلم ومعرفة التاريخ، بل إن كل ما قاله هو نتيجة تأمُّل ذاتي غامض، عبَّر عنه بمصطلحات صوفية وفلسفية، ومنطقية هي الأخرى غامضة، وأن نتيجة واحدة صحيحة يقود إليها الدليل العلمي الواضح خير وأجدى في فهم المشكلة من كل ما قاله المراكشي, ورددته من ورائه أجيال من العلماء والدارسين"3.

_ 1 انظر البرهان ج1 ص380، والإتقان ج4 ص145. 2 لطائف الإشارات ج1 ص285. 3 "رسم المصحف" ص230.

تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات

4- تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات: ذهب بعض الباحثين إلى أن المصحف العثماني كُتِبَ ليشتمل على الأحرف السبعة، أو أنه جاء شاملًا لما يحتمله رسمه منها.

وقد ضعَّفَ هذا الاحتمال الأستاذ "غانم قدوري الحمد" فقال: "إن المصحف العثماني إنما كُتِبَ على قراءة معينة، أي: أن رسم الكلمات جاء لتمثيل لفظ واحد, ونطق معيِّنٍ, بغض النظر عن احتماله لأكثر من قراءة، بسبب تجرد الكتابة آنذاك من الشكل والإعجام، ومن ثَمَّ فإن هذا الاتجاه في تعليل بعض ظواهر الرسم لا يقوم على أساس راجح -في نظرنا, بل إنه لا يختلف كثيرًا عن الاتجاه القائل باختلاف أحوال الرسم لاختلاف المعاني في ضعف الأساس الذي بُنِيَ عليه"1. وقوله هذا مرجوح وليس براجح في نظري, على ما يأتي بيانه قريبًا.

_ 1 رسم المصحف ص231-232.

الرسم بني على حكمة ذهبت بذهاب كتبته

5- الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته: وقد ذهب فريق من المعاصرين إلى أن الرسم العثماني قد بُنِيَ على حكمة لا نعلمها على وجه تطمئن إليه النفس، وأن ما أتى به العلماء من تعليلات لا تقوى على الرد، فهي مجرد احتمالات وتخمينات حاول أصحابها أن يثبتوا لهذا الرسم قدسية خاصة عن طريق الأدلة النظرية المستلْهَمة من تَتَبُّع بعض الكلمات التي خالفت في رسمها الخط الهجائي. وهذه التعليلات ما هي إلّا استئناس وتلميح، والفرق كبير بين الاستئناس والاستدلال. فالأول مبنيٌّ على الظن والتخمين، فلا يعتبر حجة قاطعة. والثاني مبنيٌّ على النظر أو الاستقراء الموصِّل إلى ما يرفع الشك باليقين. "وممن ذهب إلى هذا القول الأستاذ الشيخ محمد طاهر الكردي المكي الخطَّاط صاحب كتاب "تاريخ الخط العربي" و"تاريخ القرآن"2.

_ 1 رسم المصحف ص231-232. 2 انظر "رسم المصحف" ص232.

الخلاصة

الخلاصة مدخل ... الخلاصة: ومما سبق يتبيِّنُ لنا مدى عناية العلماء سلفًا وخلفًا بكتاب الله تعالى قراءة وكتابة، لم يَفُتْهُم من ألفاظه ولا معانيه ولا مراميه صغيرة ولا كبيرة، إلّا وقفوا عندها مستلْهِمِين من الله الرشد في تفسيرها وتأويلها، وتحليلها وتعليلها.

وقد كان الخط الذي كتب به المصحف في عهد عثمان -رضي الله عنه- ظاهرة فريدة، استرعت انتباههم، ودفعتهم إلى تفسيرها وكشف أسرارها، فكان لهم في هذا التفسير والتعليل اتجاهات خمسة، وهي التي أشرنا إليها في هذا المقام، وكل اتجاه منها له وجهاته، وفيه ما فيه من الصواب، وعليه ما عليه من المآخذ. أما الاتجاه الأول: وهو تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية، فهو كما يظهر من عنوانه أنه قاصر على تحليل بعض الظواهر دون بعض، فلا يصلح أن يكون حكمًا على الجميع، ولكنه مع ذلك فاتحة خير وخطوة على طريق البحث، فلعل الله -عز وجل- يكشف لنا التحليل اللغوي والنحوي في سائر الظواهر التي لم يتوصَّل العلماء إلى كلمة الفصل فيها. وأما الاتجاه الثاني: وهو حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب, فقد رددناه بما فيه الكفاية، ونضيف هنا أن خطأ الكُتَّاب أمرٌ لا يستبعد؛ لأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسوا معصومين من الخطأ. ولكن وعد الله -عز وجل- بحفظ كتابه يقتضي صيانته نطقًا وخطًّا، فلا بُدَّ من أن يكون الله -عز وجل- قد وفقَّ أولئك الكُتَّاب الأطهار المهرة إلى هذا الرسم ليتميز القرآن عن غيره خطًّا كما تميز نطقًا. وما كان ينبغي أن يبادر ابن قتيبة وابن خلدون ومن لَفَّ لفهما إلى نسبة الخطأ إلى هؤلاء الكُتَّاب، بل كان عليهم أن يبحثوا بجد واجتهاد عن تنزيه ساحتهم منه؛ رعاية لحقهم، وصيانة لكتاب الله من أن يكون خطه غير موافق للفظه من بعض الوجوه، وأن يحملوا الروايات الواردة في تخطئة هؤلاء الكُتَّاب -إن صحَّ سندها- على محملٍ حسنٍ يتفق مع المحافظة على هيبة هؤلاء الكُتَّاب البررة، وسدًّا لباب من أبواب الشبهات التي ينفذ من خلالها أعداء الإسلام للنَّيْل من الإسلام في كتاب ربهم -عز وجل، وسُنَّة نبيهم -صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين المهديين -رضوان الله عليهم. وأما الاتجاه الثالث: وهو اختلاف الرسم لاختلاف المعنى, فقد ذكرنا أنه لا يعتمد على دليل صحيح تقوم به الحجة، فهو لا يعدو أن يكون تفسيرًا باطنيًّا يذكر استئناسًا لتنزيه ساحة الكُتَّاب من وقوع الخطأ منهم في كتابة المصاحف.

وليس كل كلام جاء معتبرًا ... إلا كلام له حظ من النظر وأما الاتجاه الرابع: وهو تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات فهو قول صحيح؛ لأن كُتَّاب المصاحف قد بذلوا طاقتهم في أن تكون هذه المصاحف مشتملة في جملتها على الأحرف السبعة التي أُنْزِلَ عليها القرآن الكريم، فقد كتبوا مصاحف سبعة أو ثمانية، كل مصحف منها يحمل حرفًا من هذه الأحرف السبعة، وأرسلوا كل مصحف إلى القطر الذي يقرأ أهله بحرفه، وبذلك حفظت الأحرف السبعة كلها من الضياع. وهذا القول أولى من قول من قال: إنهم كتبوا هذه المصاحف على حرف واحد من هذه الأحرف السبعة؛ لأنهم خُيِّرُوا فاختاروا، فهذا القول فيه اتهام لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم فرَّطوا في هذه الأحرف، فضيَّعوا منه ستة، وكان يمكنهم أن يحافظوا عليها جميعًا، ويمحوا ما سواها من الأوجه التي لم يثبت سندها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك كفاية لدرء الفتنة والقضاء على المحنة التي كادت تُوقِعُ بين المسلمين انقسامًا خطيرًا. وأما الاتجاه الخامس: وهو أن الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته, فهو اتجاه قوم توقَّفوا عن القول بما ليس لهم به علم، وآثروا السلامة على الخوض في حديث لا تدفعهم إليه حاجة ملحة، وقولهم هذا صحيح. ولكن لماذا لا نفتِّشُ عن الحكمة بقدر طاقتنا، وبالوسائل المتاحة لنا، وقد أُمِرْنَا بالتدبر والنظر في كل ما يقع أمامنا من الظواهر الكونية والقرآنية، ونسعى جادِّين في تحقيق المسائل العلمية وتمحيصها، ولا سيما تلك الظواهر المتعلقة بكتاب الله تعالى، كظاهرة الرسم العثماني، فعسى أن نجد فيها سرًّا من أسرار هذا الكتاب العظيم، ونعثر على ضربٍ آخر من إعجازه البياني. والحكمة ضالة المؤمن، والعلم أبواب مغلقة لا تنفتح إلّا بالتأمل والنظر.

قواعد رسم المصحف

قواعد رسم المصحف: وللمصحف العثماني قواعد في خَطِّه ورسمه، حصرها علماء الفنِّ في ست قواعد، وهي: الحذف والزيادة، والهمز والبدل، والفصل والوصل، وما فيه قراءتان فقرئ على إحداهما. وهاك شيئًا عنها بالإجمال ليكون الفرق بينها وبين مصطلح الخطوط في عصرنا على بالٍ منك:

قاعدة الحذف

قاعدة الحذف: خلاصتها أن الألف تحذف من ياء النداء نحو: "يأيها الناس"، ومن ها التنبيه نحو "هأنتم"، ومن كلمة "نا" إذا وليها ضمير، نحو "أنجيناكم"، ومن لفظ الجلالة "الله"، ومن كلمة "إله"، ومن لفظي "الرحمن وسبحان", وبعد لام، نحو: كلمة "خلائف"، وبين اللامين في نحو: "الكلالة", ومن كل مثنى، نحو: "رجلان", ومن كل جمع تصحيح لمذكر أو لمؤنث نحو: "سماعون، المؤمنات"، ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو: "المساجد، والنصارى"، من سأل، وغير ذلك -إلّا ما استثني من هذا كله. وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعًا وجرًّا نحو: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} , ومن هذه الكلمات "أطيعون، اتقون، خافون، ارهبون، فأرسلون، واعبدون" -إلا ما استثني. وتحذف الواو إذا وقعت مع واو أخرى في نحو: "لا يستوون" {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} . وتحذف اللام إذا كانت مدغمة في مثلها نحو: "الليل، والذي" -إلّا ما استثني. وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة، كحذف الألف من كلمة "مالك", وكحذف الياء من "إبراهيم"، وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: "ويدعو الإنسان، ويمحو الله الباطل، يوم يدعو الداع، سندعو الزبانية".

_ 1 كل هذه الأمثلة ترسم بدون ألف، هكذا: أنجينكم, خلئف، الكللة.... إلخ.

قاعدة الزيادة

قاعدة الزيادة: خلاصتها أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع، أو في حكم المجموع، نحو: "ملاقوا ربهم، بنوا إسرائيل، أولوا الألباب". وبعد الهمزة المرسومة واوًا، نحو: "تالله تفتأ", فإنها ترسم هكذا: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} . وفي كلمات "مائة، ومائتين، والظنون، والرسول، والسبيل" في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} , {وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} ، {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} . وتزاد الياء في هذه الكلمات: "نبأ وآناء، من تلقاء، بأيكم المفتون، بأيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . وتزاد الواو في نحو: "أولو، أولئك، أولاء، أوات".

قاعدة الهمز

قاعدة الهمز: خلاصتها: أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها، نحو "ائذن، اؤتمن، البأساء" -إلا ما استثني. أما الهمزة المتحركة، فإن كانت أول الكلمة واتَّصل بها حرف زائد كُتِبَتْ بالألف مطلقًا، سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة، نحو: "أيوب، أولو، إذا، سأصرف، سأنزل، فبأي" -إلا ما استثني. وإن كانت الهمزة وسطًا، فإنها تكتب بحرفٍ من جنس حركتها نحو: "سأل، سئل، تقرؤه" -إلا ما استثني. وإن كانت متطرفة كُتِبَتْ بحرفٍ من جنس حركة ما قبلها نحو: "سبأ، شاطئ، لؤلؤ" -إلا ما استثني. وإن سكن ما قبلها حذفت1 نحو: "ملئ الأرض، يخرج الخبء" -إلا ما استثني. والمستثنيات كثيرة في الكل.

_ 1 أي: حذفت من الحرف ورسمت مفردة.

قاعدة البدل

قاعدة البدل: خلاصتها: أن الألف تكتب واوًا؛ للتفخيم في مثل: الصلوة، والزكوة، والحيوة -إلا ما استثني. وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو: "يتوفى، يا حسرتى، يا أسفى". وكذلك ترسم الألف ياء في هذه الكلمات "إلى، على، أنى -بمعنى كيف، متى، بلى، حتى، لدى" ما عدا {لَدَى الْبَابِ} في سورة يوسف؛ فإنها ترسم ألفًا. وترسم النون ألفًا في نون التوكيد الخفيفة, وفي كلمة "إذن". وترسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة "رحمت" بالبقرة، والأعراف، وهود، ومريم، والروم، والزخرف. وفي كلمة "نعمت" بالبقرة، وآل عمران، والمائدة، وإبراهيم، والنحل، ولقمان، وفاطر، والطور. وفي كلمة "لعنت الله"، وفي كلمة "معصيت" بسورة قد سمع، وفي هذه الكلمات "إن شجرت الزقوم، قرت عين، جنت، نعيم، بقيت الله". وفي كلمة امرأة أضيفت إلى زوجها نحو: "امرأت عمران، امرأت نوح", وفي غير ذلك.

قاعدة الوصل والفصل

قاعدة الوصل والفصل: خلاصتها: أن كلمة "أن" بفتح الهمزة توصل بكلمة "لا" إذا وقعت بعدها، ويستثنى من ذلك عشرة مواضع، منها: "أن لا تقولوا، أن لا تعبدوا إلا الله". وكلمة "من" توصل بكلمة "ما" إذا وقعت بعدها، ويستثنى {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} في النساء والروم، {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في سورة المنافقين. وكلمة "مِنْ" توصل بكلمة "مَنْ" مطلقًا.

وكلمة "عن" توصل بكلمة "ما"، إلّا قوله سبحانه: {عَنْ مَا نُهُوا عَنْه} . وكلمة "إن" بالكسر, توصل بكلمة "ما" التي بعدها، إلّا قوله سبحانه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّك} . وكلمة "أن" بالفتح, توصل بكلمة "ما" مطلقًا من غير استثناء. وكلمة "كل" توصل بكلمة "ما" التي بعدها، إلّا قوله سبحانه: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَة} , {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه} . وتوصل كلمات "نعمَّا، وربما، وكأنما، ويكأن" ونحوها. قاعدة ما فيه قراءتان: خلاصتها: إن الكلمة إذا قرئت على وجهين، تُكْتَب برسم أحدهما، كما رُسِمَت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف، وهي: "مالك يوم الدين، يخادعون الله، وواعدنا موسى، تفادوهم"، ونحوها. وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها. وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة، وهي: {غَيَابَةِ الْجُبِّ} , {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ} في العنكبوت. {ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} في فصلت. {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} في سبأ. وذلك لأنها جمعاء مقرءوة بالجمع والإفراد. وغير هذا كثير، وحسبنا ما ذكرنا للتمثيل والتنوير.

مزايا الرسم العثماني وفوائده

مزايا الرسم العثماني وفوائده: التمس العلماء مزايا لخروج الصحابة عن الخط المألوف في كتابه المصاحف إلى خط آخر يختلف عنه بعض الشيء في نسخ المصاحف التي أرسلوا بها إلى الأمصار، ونقَّبوا عن الحكمة من هذا الصنيع المتقن الذي يدعو إلى الإعجاب, وحاولوا أن يتعرفوا على فوائد هذا الرسم في خدمة القرآن والقرَّاء، فذكروا بعد التحري والبحث فوائد كثيرة, أذكر منها هنا ما أراني مقتنعًا به، فأقول:

الفائدة الأولى: إن هذا الرسم قد اشتمل في جملته على القراءات الصحيحة بوجوهها المتشعبة. فقد حاول الكُتَّاب -رضي الله عنهم- قدر طاقتهم أن يكتبوا الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك -بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات- جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل، وذلك ليُعْلَمَ جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلّا قراءة واحدة بحرف الأصل رُسِمَت به. "وقد مثَّلَ الزرقاني بعد أن ذكر هذه الفائدة للكلمة تكتب بصورة واحدة, وتقرأ بوجوه متعددة, قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} . رُسِمَت في المصحف العثماني هكذا: "إن هدن لساحران" من غير نقط ولا شكل، ولا تشديد ولا تخفيف في نوني "إن، وهذان" ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان. ومجيء الرسم، كما ترى، كان صالحًا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة. أولها: قراءة نافع ومن معه, إذ يشددون نون "إن", ويخففون "هذان" بالألف. ثانيها: قراءة ابن كثير وحده؛ إذ يخفِّفُ النون في "إن", ويشدد النون في "هذان". ثالثها: قراءة حفص إذا يخفف النون في "إن" و"هذان" بالألف. رابعها: قراءة أبي عمرو بتشديد "إن", وبالياء وتخفيف النون في "هذين".

فتدبَّر هذه الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة؛ لتعلم أن سلفنا الصالح كان في قواعد رسمه للمصحف أبعد منَّا نظرًا، وأهدى سبيلًا" أ. هـ.1. وقد أورد صاحب اللآلئ الحسان على ما ذكره صاحب المناهل سؤالين فقال: 1- هل كان سلفنا الصالح، كُتَّاب مصحف عثمان، يعرفون النقط والشكل، فآثروا تركهما لتصح القراءات؟. وإجماع المؤرخين كما نقل الشيخ الزرقاني نفسه أنهم لم يكونوا يعرفون عن الشكل شيئًا. 2- هل اتبعت هذه القاعدة في الرسم العثماني في المصحف كله, أو في بعض الكلمات دون بعض؟ الواقع هو الثاني: وإلّا لكتبت كلمة "الصراط" بغير الصاد. فلو أنهم يقصدون هذه الفائدة لعمَّموها"2.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص366، 367. 2 ص75، 76.

المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها

المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها مدخل ... المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها اختلف الدارسون قديمًا وحديثًا في أمر إعجام الكتابة العربية اختلافًا كثيرًا، فمنهم من يرى أن الحروف التي كتبت بها العرب كانت خالية من الإعجام، أي: من النقط والشكل. ومنهم من يرى أن بعضها كانت له علامات تميزه عن غيره ممن رُسِمَ على صورته من نقط وغيره. والذي يعنينا هنا تقريره أن المصاحف العثمانية كانت خالية من النقط والشكل إلى منتصف القرن الأول تقريبًا, إمَّا لأن الإعجام لم يكن معروفًا لديهم حين نسخها، وإمَّا أن الصحابة قد تعمَّدوا تجريد مصاحفهم من الإعجام؛ لتكون مشتَمِلَة على الأحرف السبعة التي أُنْزِلَ القرآن عليها، والأخير هو الأصحّ عندي، وهو قول كثير من علماء السلف، وعلى رأسهم أبو عمرو الداني, فقد قال في كتاب المحكم1 وهو يتحدث عن نقط المصحف: "وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي أَذِنَ الله تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها". وردَّدَ ابن الجزري هذا المعنى فقال: "ثم إن الصحابة -رضي الله عنهم- لما كتبوا تلك المصاحف جرَّدُوها من النَّقْطِ والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة، مما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوَّيْن, شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين"2.

_ 1 ص3. 2 النشر ج1 ص33.

وبهذا المذهب أخذ ابن تيمية في فتاويه فقال: "إذا كان قد سُوِّغَ لهم أن يقرأوه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ مع تنوع الأحرف في الرسم؛ فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك من الرسم، وتنوعه في اللفظ أَوْلَى وأَحْرَى، وهذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كُتِبَت غير مشكولة ولا منقوطة لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين؛ كالتاء والياء, والفتح والضم، وهم يضبطون باللفظ كلا الأمرين، وتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلُوَّيْن, شبيهًا بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين. فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلقَّوْا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا"1.

_ 1 راجع المجلد الأول ص319.

دواعي النقط والشكل

دواعي النقط والشكل: لما اختلط العرب بالعجم شاع اللحن في الكلام العربي, وشاع اللحن أيضًا في القرآن الكريم بين الصبيان والمولَّدين، فاضطر المسلمون أمام هذه الظاهرة الخطيرة أن يضبطوا المصاحف بالنقط والشكل حتى يصحِّحَ الناس قراءتهم على ضوئها. "فقد روي أن زياد ابن أبيه والي البصرة في حوالي سنة 48 هـ, طلب من أبي الأسود الدؤلي أن يجعل للناس علامات تساعدهم على القراءة الصحيحة لكتاب الله، فتباطأ أبو الأسود، حتى سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} . فقرأها يجرُّ اللام في كلمة "رسوله", فأفزع هذا اللحن أبا الأسود، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم ذهب إلى زياد، وقال له: قد أجببتك، وانتهى إلى جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة تحت الحرف، وجعل علامة الضمة نقطة على جانب الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين. والجدير بالذكر أن أبا الأسود الدؤلي لم يضع شكلًا لكل حرف, وإنما شكَّل الحرف الأخير فقط من كل كلمة.

ولهذا استمرَّ الخطأ في القراءة, واشتبهت نفس الحروف لعدم نقطها على القارئين، وكادت كارثة التحريف تسيء إلى كتاب الله، فقَيَّضَ الله له عبد الملك بن مروان، فأمَرَ الحجَّاجَ أن يهتم بهذا الخطر، وأن يختار لعلاجه العالم النقي الورع الخبير بأصول اللغة ووجوه القراءات. فاختار الحجاج لهذه المهمة نصر بن عاصم الليثي, حوالي سنة "80" من الهجرة, فعمَّمَ شكل أبي الأسود على جميع حروف الكلمة؛ أولها ووسطها وآخرها، ولكنه ما زال الكلّ على هيئة النقط. ولم يرق الحجَّاج هذا العمل؛ لأنه لم يقطع دابر الخطأ والاختلاف في القراءة، فعهد إلى لجنة مكونة من نصر بن عاصم الليثي, ويحيى بن يعمر العدواني, والحسن البصري, أن تقوم بعمل كبير يحيط كتاب الله بسياج من السلامة, وتحول بينه وبين التحريف، فنُقِطَت الحروف نقطة ونقطتين فوق الحرف أو تحته، وثلاث نقاط فوق بعض الحروف، ولئلَّا يختلط الشكل بالنقط عمدت إلى نقطة الفتحة، ونقطة الكسرة فسحبتها حتى صارتا كالهيئة المعهودة الآن، وعمدت إلى نقطة الضمة فجعلتها واوًا صغيرة، وإلى نقطتي السكون فأكملت بهما دائرة، وبهذا تمَّ النقط والشكل للمصحف، ثم عدوا حروفه وحددوا نصفه وثلثه وربعه وسبعه، ويروى أنهم قسَّموه إلى أعشار، والمشهور أن الأعشار من عمل المأمون" أ. هـ1.

_ 1 اللآلئ الحسان ص69، 70.

حكم نقط المصحف وشكله

حكم نقط المصحف وشكله: 1- ذهب جماعة من السلف الصالح إلى أنه ينبغي إبقاء المصاحف الأولى على ما هي عليه من غير نقط ولا شكل، مبالغةً في المحافظة على رسمه كما هو من غير زيادة فيه، ولا نقص منه، مستدلِّين على ذلك ببعض الأخبار المرويَّة عن عمر بن الخطاب, وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما، فقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن, أن أبا بكر بن عياش قال: سمعت أبا حصين يقول: "لما وجَّه عمر الناس إلى العراق قال لهم كذا وكذا، فذكر كلامًا، ثم قال: جرِّدوا القرآن، وأقلُّوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأنا شريككم، أو قال: على رسول الله".

وأخرج أيضًا عن ابن الأحوص أن عبد الله بن مسعود قال: "جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم, ولا ينأى عنه كبيركم, فإن الشيطان يفرُّ من البيت يسمع فيه سورة البقرة". وأخرج أبو بكر الأنباري عن الضحاك, أن ابن مسعود قال: "جرِّدوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه, فإنه عربي والله يحب أن يعرب". فقد قالوا: إن المقصود بتجريد القرآن إخلاؤه من النقط والشكل. وهو تأويلٌ محتمَلٌ, وما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. والأصح في تأويل هذه الأخبار -إن صحَّت- أن المراد بتجريد القرآن تخليصه مما سواه. قال الأستاذ قدروي في كتابه "رسم المصحف"1, بعد أن نقل هذه الأخبار: "وأما الاحتجاج بقول عمر أو ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن", فيبدو أن هذا الخبر أعطي ذلك التفسير في فترات لاحقة لقوله حين بدأوا ينقطون المصاحف, فاحتجَّ من كره ذلك بقول عمر وابن مسعود: "جردوا القرآن". قال أبو عبيد: وقد اختلف الناس في تفسير قوله: "جردوا القرآن، فكان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف، ويقول: جردوا القرآن، ولا تخلطوا به غيره، قال أبو عبيدة: وإنما نرى أن إبراهيم كره هذا مخافة أن ينشأ نشء يدركون المصاحف منقوطة, فيرى أن النقط من القرآن، ولهذا المعنى كره من كره الفواتح العواشر". وقال السيوطي في الإتقان: "قال الحربي في غريب الحديث: قول ابن مسعود: جردوا القرآن، يحتمل وجهين: أحدهما: جردوه في التلاوة، ولا تخلطوا به غيره. والثاني: جردوه في الخطِّ من النقط والتعشير. وقال البيهقي: الأبْيَنُ أنه أراد: لا تخلطوا به غيره من الكتب"2.

_ 1 ص742. 2 ج4 ص186، 187.

2- وقال الجمهور من السلف والخلف: يجوز نقط المصحف وشكله؛ لأن الضرورة إليه ملحة، وهو لا يخلُّ بالرسم، وإنما يزينه ويكمله، ويعين القراء على قراءة القرآن من غير لحن. قال النووي: نقط المصحف وشكله مستحَبٌّ؛ لأنه صيانةٌ له من اللحن والتحريف. وقال مالك: لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلَّم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا1. وما قاله مالك -رضي الله عنه- هو القول الصحيح، فقد أفتى بوجوب المحافظة على أمهات المصاحف كما هي من غير نقط ولا شكل لتظلَّ مرجعًا للمسلمين، وتراثًا لأولهم وآخرهم، وتحقيقًا لاتباع سنة الخلفاء الراشدين, بخلاف غيرها من المصاحف التي تكتب للغلمان، ومَنْ في حكمهم للضورة والحاجة إلى ذلك الضبط -والله أعلم.

_ 1 المرجع السابق.

حكم تجزئته وتحسين خطه

حكم تجزئته وتحسين خطه: تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءًا، وتقسيم الجزء إلى حزبين، وتقسيم الحزب، إلى أربعة أرباع، وكتابة أرقام الآيات بعد كلٍّ منها، ووضع علامات الوقف والمد وغيرها على الحروف، كل ذلك مستحدث، وفيه كلام طويل للعلماء من حيث الكراهية والجواز. والصواب: أن ذلك كله جائز لتيسير قراءته وحفظه، وأما ما أُدْخِلَ عليه من تحسينات في الخط والحجم والورق، والطبع، والتجليد، والتذهيب, فالأمر فيه واسع، بل ذلك مما يستَحَبُّ فعله إجلالًا للمصحف، وتكريمًا له, ولما فيه من الترغيب في قراءته واقتنائه وإهدائه لمن يُحْسِنُ القراءة فيه.

المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

المبحث الثامن عشر: أسباب النزول مدخل ... المبحث الثامن عشر: أسباب النزول علمنا فيما سبق أن القرآن الكريم نزل منجَّمًا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نحو ثلاث وعشرين سنة، نزلت كل آية منه لحكمة وغاية، جماع هذه الحكم والغايات تشريع ما فيه سعادة الإنسان في دنياه وآخراه، ويمكن اعتبار ذلك سببًا عامًّا لنزول كل آية من آيات القرآن, ولكن العلماء قصدوا إلى الأسباب الخاصة قصدًا أوليًّا بعد أن عرفوا هذه المقصد العام، فتتبَّعوا ما نزل على سبب معين، أو حادثة بخصوصها, أو نزل دفعًا لشبهة, أو إجابة عن سؤال، ونحو ذلك، ففسَّروا هذه الآيات وفقًا لأسباب نزولها أولًا، ثم نظروا في شمول أحكامها لجميع المخاطبين، وعدم شمولها. ولا شكَّ أن تفسير الآية يرتبط بسبب نزولها ارتباطًا وثيقًا، فعليه المعول في فهمها, ولا سيما إذا كانت لا تتناول بعمومها جميع المخاطَبين، كما سيتبين لنا قريبًا. وأكثر القرآن نزل ابتداء لإحقاق الحقِّ، وإبطال الباطل, وهداية الخلق إلى الخالق -عز وجل. وما نزل على أسباب خاصة، وحوادث معينة قليل، لكنه مع قلته تألَّف منه علم عظيم، لا غنى عنه لمفسِّرٍ أو محدِّثٍ أو فقيه. وليس من غرضنا هنا أن نستعرض جميع الآيات التي نزلت على أسباب خاصة، فذلك مما ينبغي أن يفرد له كتاب مستقل، ولكننا نريد أن نأخذ بهذا العلم من أطرافه، فنختصر لك قواعده وأصوله الكلية, فنتكلَّم عن تعريف سبب النزول, وبيان ما يعتمد عليه في معرفته، وفوائد العلم به، والصيغة التي يفهم منها سبب النزول، وتعدُّد الروايات في سبب النزول، وتعدُّد النزول مع وحدة السبب, وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع.

تعريف سبب النزول

تعريف سبب النزول: لعلك فطنت مما سبق إلى معرفة معنى السبب الذي تنزل عليه الآية بوجه عام، ونزيدك هنا إيضاحًا بذكر تعريفٍ جامع لأكثر مسائله، مانع من دخول غيرها فيها، فنقول: سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدِّثَةً عنه أو مبيِّنَةً لحكمه أيام وقوعه. وبيان ذلك أن الآية أو الآيات قد تنزل مثلًا لتفصل بين متخاصمين وقع بينهما شجار، أو تكشف عن مكيدة صنعها بعض المنافقين، أو تتحدَّث عن مقولة قالها أحد المشركين، أو ترفع شبهة أدلى بها أحد المغرضين، أو تزيل ريبًا وقع فيه بعض المؤمنين، أو تَبُتُّ في شكوى توجَّه بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض المظلومين، أو تجيب عن سؤال، أو تمنٍّ صدر عن واحد أو أكثر من المسلمين أو المشركين، ونحو ذلك مما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى. والمراد بقولنا: "أيام وقوعه" أن الحادثة أو السؤال لا يصلح كلٌّ منهما سببًا للنزول إلّا إذا نزلت الآية أيام وقوعه، أو بعده بقليل، فهو قيد في التعريف لا بُدَّ منه للاحتراز عن الآية أو الآيات التي تنزل ابتداء من غير سبب، والتي تتحدَّث عن حوادث ماضية سبقت نزول الآية بزمن بعيد؛ لأن البيان لا يتأخَّر عن وقت الحاجة -كما يقول علماء الأصول- واحترازًا عن الآية أو الآيات التي تتحدَّث عن حوادث مستقبلة تقع بعد نزولها.

طرق معرفة أسباب النزول

طرق معرفة أسباب النزول: يعتمد العلماء في معرفة أسباب النزول على صحَّة الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي, بل يكون له حكم المرفوع. قال الواحدي في أوائل كتابه "أسباب النزول"1: "لا يحلُّ القول في

_ 1 ص4.

أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع مِمَّنْ شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها, وجدُّوا في الطلب". وهذا هو نهج علماء السلف، فقد كانوا يتورَّعُون عن أن يقولوا شيئًا في ذلك دون تثبت. "قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن"1, وهو يعني الصحابة. وإذا كان هذا هو قول "ابن سيرين"، من أعلام علماء التابعين، تحريًّا للرواية، ودقةً في الفصل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة، ولذا فإن المعتمد من ذلك فيما روي من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول. وذهب السيوطي إلى أن قول التابعين إذا كان صريحًا في سبب النزول فإنه يُقْبَل، ويكون مرسلًا، إذا صحَّ المسند إليه، وكان من أئمة التفسير الذين أخذوا عن الصحابة كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، واعتضد بمرسل آخر2. وقد أخذ الواحدي على علماء عصره تساهلهم في رواية سبب النزول، ورماهم بالإفك والكذب, وحذَّرهم من الوعيد الشديد، حيث يقول: "أما اليوم فكلُّ أحد يخترع شيئًا، ويختلق إفكًا وكذبًا، ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكِّرٍ في الوعيد للجاهل بسبب الآية".

_ 1 الإتقان ج1 ص115. 2 انظر المرجع السابق.

الصيغة التي يعرف بها سبب النزول

الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول: "صيغة سبب النزول إما أن تكون نصًّا صريحًا في السببية، وإمَّا أن تكون محتملة. فتكون نصًّا صريحًا في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا". أو إذا أتى بفاءٍ تعقيبية داخلة على مادة النزول بعد ذكر الحادثة، أو السؤال، كما إذا قال: "حديث كذا" أو "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا, فنزلت الآية" فهاتان صيغتان صريحتان في السببية، سيأتي لها أمثلة. وتكون الصيغة محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: "نزلت هذه الآية في كذا" فذلك يراد به تارةً سبب النزول، ويراد به تارة أنه داخل في معنى الآية. وكذلك إذا قال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" أو "ما أحسب هذه الآية نزلت إلّا في كذا". فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب, فهاتان صيغتان تحتملان السببية وغيرها كذلك1. ومثال الصيغة الأولى: ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية في إتيان النساء في أدبارهن". ومثال الصيغة الثانية ما أخرجه البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم, عن عبد الله بن الزبير, "أن الزبير خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج من الحرة, وكانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرج الماء يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير, ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر, ثم أرسل الماء إلى جارك، واسترعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقَّه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعةً له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصاري, استرعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلّا في ذلك.

_ 1 مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص73، 74.

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1. قال ابن تيمية: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا, يراد به تارةً سبب النزول، ويُرَاد به تارة أن ذلك داخل في الآية, وإن لم يكن السبب، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا, هل يجري مجرى المسند, كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله, أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه, وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره, بخلاف ما إذا ذكر سببًا عقبه, فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"2. وقال الزركشي في البرهان3: "قد عُرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمَّن هذا الحكم, لا أن هذا كان السبب في نزولها, فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع".

_ 1 النساء: 65. 2 انظر الإتقان ج1 ص115، 116. 3 ج1 ص31، 32.

تعدد الروايات في سبب النزول

تعدُّد الروايات في سبب النزول: قد تتعدد الروايات في سبب نزول الآية الواحدة, وتكون كلها صحيحة غير صريحة في بيان السبب, مثل قول الراوي: "نزلت هذه الآية في كذا" أو "أحسبها نزلت في كذا". وقد يكون بعضها صحيح صريح في بيان السببية، وبعضها صحيح غير صريح. كقول راوٍ: "نزلت الآية بسبب كذا", أو "حدث كذا وكذا فنزلت", أو "ما أراها إلّا نزلت بسبب كذا". وراوٍ آخر قال: نزلت في كذا. فهي صيغة محتملة للسبب والحكم معًا كما تقَدَّمَ، وقد ترد في نزول الآية روايات صحيحة صريحة وأخرى صريحة غير صحيحة.

وقد تكون الروايات متساوية في الصراحة والصحة, وكان من إحداها وجه من وجوه الترجيح. وقد تكون متساوية في الصحة، وليس في رواية منها وجه من وجوه الترجيح. فهذه خمس صور لكل صورة منها حكم يخصها. 1- أما الصورة الأولى: وهي أن ترد عدة روايات صحيحة غير صريحة في ذكر السبب، فهذه لا منافاة بينها، إذ المراد منها تفسير الآية، وبيان أن ذلك داخل فيها، ومستفاد منها، وليس المراد ذكر سبب النزول، إلّا إذا قامت قرينة على واحدة بأنَّ المراد بها السببية. والأمثلة في هذا كثيرة: 2- وأما الصورة الثانية: وهي أن تكون بعض الروايات صحيحة صريحة، وبعضها صحيح غير صريح, فإنه يقدَّم الصحيح الصريح عن غيره قطعًا، وتحمل الرواية التي ليس فيها نصٌّ صريح على ذكر السبب على أنها بيان الحكم. ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1. عن نافع قال: "قرأت ذات يوم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} , فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن" فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة في السببية. وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فجابر هو المعتمد؛ لأن كلامه نقل صريح، وهو نصٌّ في السبب، أما كلام ابن عمر فليس ينص, فيُحْمَل على أنه استنباط وتفسير.

_ 1 البقرة: 223.

3- وأما الصورة الثالثة: وهي أن ترد في نزول الآية روايات صحيحة صريحة، وأخرى صريحة غير صحيحة, فإنه يُقَدَّمُ الصحيح الصريح على الصريح غير الصحيح. مثاله ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثًا، فأنزل الله: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة, عن حفص بن ميسرة, عن أمه, عن أمتها، وكانت خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ جروًا دخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم, فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي, فقال: "يا خولة, ما حدث في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! " فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله {وَالضُّحَى} إلى قوله: {فَتَرْضَى} . "قال ابن حجر في شرح البخاري: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده مَنْ لا يُعْرَفُ، فالمعتمَد ما في الصحيحين"1. 4- وأما الصورة الرابعة: وهي أن تكون الروايات متساوية في الصحة, وكان في أحدها وجه من وجوه الترجيح, فإنها تُقَدَّمُ الرواية الراجحة، كأن يكون الراوي مثلًا حضر القصة، أو أتى بوصف لم يأت به آخر، أو أقسم بالله على صحة ما روى، ونحو ذلك من المرجحات. مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمرَّ بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقال: حدِّثْنَا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحي إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2.

_ 1 الإتقان ج1 ص118. 2 الإسراء: 85.

وقد أخرج الترمذي وصحَّحَه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية. فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش. والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وترجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقي صحيح البخاري بالقبول, وترجيحه على ما صحَّ في غيره. وقد اعتبر الزركشي هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره1. فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين, مرة بمكة ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق. وإني أرى أن كَوْن السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية. فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أَوْلَى من حمل الآية على تعدُّد النزول وتكرره. ولو صحَّ أن الآية مكية, وقد نزلت جوابًا عن سؤال, فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب مرة أخرى، بل يقتضي أن يجبب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل. 5- وأما الصورة الخامسة: وهي أن ترد الروايات متساوية في الصحة, وليس في إحداها ما يرجحها على غيرها, فإنه يجمع بينها إن أمكن ذلك بلا تكلُّف، فتكون الآية قد نزلت على سببين أو أكثر، ولا مانع من ذلك إن تقارب نزول الآية على هذين السببين أو الأكثر.

_ 1 انظر البرهان ج1 ص30.

ومثاله ما ورد في سبب نزول آيات اللعان، من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . إلى قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} 1. فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال ابن أمية، قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل وجد مع امرأته رجلًا, أيقتله فيُقْتَلُ به أم كيف يصنع؟ فجمع بينها بوقوع حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما. قال ابن حجر: لا مانع من تعدُّد الأسباب، وإن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن, فإنه يحمل على تعدد النزول وتكرره. ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: "لما حضر أبا طالب الوفاة, دخل عليه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله, أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْه عنه، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 2. وأخرج الترمذي عن علي قال: "سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان, فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم فنزلت". وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا ثم بكى، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لهم, فلم يأذن لي، فأنزل علي:

_ 1 النور: 6-10. 2 التوبة: 113.

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . فجُمِعَ بين هذه الروايات بتعدد النزول. ومن أمثلته كذلك ما رواه البيهقي والبزَّار عن أبي هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف على حمزة حين استُشْهِدَ وقد مُثِّلَ به، فقال: لأمثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة". فهذا يدل على نزولها يوم أحد. وجاء في رواية أخرى أخرجها الترمذي والحاكم عن أُبَيّ بن كعب أنها نزلت يوم فتح مكة، والسورة مكية، فجُمِعَ بين ذلك بأنها نزلت بمكة قبل الهجرة مع السورة، ثم بأُحُدٍ، ثم يوم الفتح. ولا مانع من ذلك لما فيه من التذكير بنعمة الله على عباده، واستحضار شريعته. قال الزركشي في البرهان: "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا عند حدوث سببه خوف نسيانه، كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة. قال الشيخ منَّاع القطان: "لا أرى لهذا الرأي وجهًا مستساغًا، حيث لا تتضح الحكمة من تكرار النزول، وإنما أرى أن الروايات المتعدِّدَة في سبب النزول ولا يمكن الجمع بينها يتأتَّى فيها الترجيح. فالروايات الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ... الآية. ترجح فيها الأولى على الروايتين الأخيرتين؛ لأنها وردت في الصحيحين دونهما، وحسبك برواية الشيخين قوة. فالراجح أن الآية نزلت في أبي طالب.

وكذلك الشأن في الروايات التي وردت في سبب نزول خواتيم سورة النحل، فإنها ليست في درجة سواء، والأخذ بأرجحها أَوْلَى من القول بتعدد النزول وتكرره"1 أ. هـ. وهذا صحيح؛ لأن السُّنَّة الصحيحة لا تَعَارُضَ فيها، وإن بدا لآحاد الناس ما يوهم التعارض، فهو من قِبَلِ أنفسهم، وذلك لقلة علمهم بوسائل الترجيح, وضعف أفهامهم لفحوى المتون. والجمع بين الروايات الصحيحة هو ما ينبغي المصير إليه متى أمكن ذلك، بشرط أن تكون علة الجمع مقبولة عند أكثر العلماء. فإن لم تكن هناك علة مقبولة تجمع بين الروايات الصحيحة، فالترجيح أمر لا بُدَّ منه. قال الشاطبي في الموافقات2: "إن كل مَنْ تحقَّقَ بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل مَنْ حقَّقَ مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة، فالمتحقِّقُ بها متحقِّقٌ بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما؛ بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ، أمكن التعارض بين الأدلة عندهم" أ. هـ.

_ 1 مباحث في علوم القرآن ص78، 79. 2 ج4 ص294.

الخلاصة

الخلاصة مدخل ... الخلاصة: والخلاصة أنه إذا تعدَّدَت الروايات في سبب نزول الآية أو الآيات، وكانت كلها صحيحة صريحة في ذكر السبب، أي: جاءت على الصيغة التي تعتبر نصًّا في السببية على ما قدَّمْنَاه، فإنه يُجْمَعُ بينها إن أمكن الجمع، بأن تُحْمَلَ على تعدُّد الأسباب في النزول ما دامت هذه الأسباب متقاربة، فإن لم يمكن الجمع بينها بحثنا عن مرجِعٍ لإحداها، والمرجّحات كثيرة يعرفها أهل الاجتهاد والنظر.

ولا يحمل تعددها على تعدد النزول على الراجح عندي لما قد علمت من قول الشاطبي المتقدِّم.

تعدد النازل والسبب واحد

تعدُّد النازل والسبب واحد: ذكرنا فيما سبق أنه إذا تعدَّدت الروايات في أسباب النزول، وكانت كلها صحيحة صريحة جمع بينها إن كانت متقاربة في الزمان، فتكون كلها أسبابًا لنازل واحد. وكما تتعدَّدُ الأسباب لنازل واحد, قد يتعدد النازل لسبب واحد، فينزل لهذا السبب آيتان فأكثر في موضعين فأكثر. ومثاله ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله, لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء, فأنزل الله من سورة آل عمران: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 1. وأخرج الحاكم أيضصا عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله, تذكر الرجال ولا تذكر النساء, فأُنْزِلَت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2. وأنزلت: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . وأخرج الحاكم أيضًا أنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 3. وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات} .

_ 1 آية: 195. 2 الأحزاب: 35. 3 النساء: 32.

أقسام السبب

أقسام السبب: قد تتبَّعت أسباب النزول في مظانِّها, فوجدت ما صحَّت أسانيدها لا تخرج عن ستة أقسام: الأول: ما يتوقف فَهْمُ الآية على العلم به، كأن يكون المعنى مبهمًا لا يُعْرَف من الألفاظ وحدها، ولا من القرائن المحيطة به، فإذا ذُكِرَ السبب اتضح المراد منه، وهذا القسم مما ينبغي للمفسِّر أن يبحث عنه قبل الخوض في تفسير الآية، حتى لا يضلَّ عن المراد منها. وذلك مثل السبب الذي نزل فيه لقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . فقد نزلت في خولة بنت ثعلبة. روى الحاكم وصحَّحَه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسِعَ سمعُه كل شيء, إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذ كبر سني، وانقطع ولدى, ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} . -وهو أوس بن الصامت" أ. هـ1. ومن هذا القسم أيضًا ما نزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

_ 1 انظر الحديث في "لباب النقول" للسيوطي، وقد رواه أحمد في مسنده، ورواه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم، وابن جرير من غير وجه، ورواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا. 2 البقرة: 104.

فقد قال ابن كثير في تفسيره: "نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص -عليهم لعائن الله- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورون بالرعْوَنة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 1. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في سبب نزول الآية: كانوا يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم: "أرعنا سمعك, وإنما "راعنا" كقولك: عاطنا. وقال السدي: "كان رجل من اليهود من بني قينقاع يُدعى رفاعة بن زويد، يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلَّمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخَّم بهذا، فكأن ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، غير صاغ، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدَّمَ الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا"2. ومن هذا القسم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 3، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} 4. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 5. وأضرابها، فإنها من المبهمات التي يعتمد في تعيين مَنْ تُعْنِيهِم هذه الآيات على معرفة أسباب النزول. الثاني من الأقسام: ما يبين الإجمال ويزيل الإشكال, وهو قريب من القسم الأول، فقد لا يكون المعنى في الآية مبهمًا، ولكن يكون مجملًا، بمعنى: أن المعنى الراجح في الآية غير واضح، فيقع الإشكال في فهم المراد، فإذا عُرِفَ

_ 1 النساء: 46. 2 انظر ج1 ص213، 214. 3 البقرة: 8. 4 الحج: 11. 5 لقمان: 6.

السبب الذي نزلت عليه الآية، ظهر المعنى الراجح، وتلاشى المعنى المرجوح الذي توهمه المخاطب من الإجمال، فارتفع الإشكال، من هذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1. فقد وقع الإجمال في الاسم الموصول "مَنْ", فإنه لا يُعْرَفُ مَنْ المراد على وجه التحقيق بما وقع في حيزه من شرط وجواب، هل هم اليهود وحدهم بدليل السياق، أم المراد عموم المكلَّفين، فإذا عُلِمَ من سبب النزول أن المراد به اليهود والنصارى, عُلِمَ أن الذين تركوا الحكم بالتوراة والإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم. وسوابق الآية ولواحقها يدل على ذلك، غير أنه لا يمنع أن تتناول الآية بعمومها جميع المكلَّفين إن تركوا الحكم بما أنزل الله جملة، وأصرُّوا على ذلك, وفعلوا ما فعله اليهود والنصارى من تحريف الكِتَاب، وترك العمل به، بناءً على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الجمهور من المحققين. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. فإنها من قبيل المجْمَل الذي يحتاج بيان المراد منه على وجه التحديد، إذ يتناول لفظ الظلم جميع الذنوب التي يقترفها الإنسان، لهذا أشكل على الصحابة معناها، فأفصح لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مراد الله منها. قال البخاري: حدَّثَنَا محمد بن بشَّار, حدَّثَنَا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله "يعني: ابن مسعود" قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . قال أصحابه: وأيُّنَا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

_ 1 المائدة: 44. 2 الأنعام: 82.

القسم الثالث: ما لا يبين مجملًا ولا يؤول متشابهًا، ولكن يبين تناسب الآيات، وارتباط بعضها ببعض، والكشف عن وجه تعلُّق الشرط بالجزاء مثلًا، أو الصفة بالموصوف, كما في قوله تعالى من سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1. فإن لفظ اليتامى يشمل جمع الذكور والإناث، ولا يتبيَّن ارتباط الشرط بالجواب مع هذا السياق إلّا على وجهٍ من الوجوه المحتملة، لخفاء الملازمة بينهما، فبينها ما ورد في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها، فقد سألها عروة ابن الزبير عنها فقالت: "هذه اليتيمة تكون في حجر وليها, تشركه في ماله, فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فنُهُوا أن ينكحوهن إلّا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". فهذه الآية نزلت بسبب ما كان يقع من أولياء اليتامى في الجاهلية من ظلمٍ لليتيمات، علمت به عائشة -رضي الله عنها- من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الأظهر؛ لأن قول الصحابي له حكم المرفوع، وهي -رضي الله عنها- لا تفتي إلَّا بما علمت، ويحتمل أن تكون قد عرفت ذلك بالمشاهدة, كما دلَّ عليه ما رواه البخاري في صحيحه قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة: "أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء, فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} . أحسبه قال: أنت شريكته في ذلك العذق وفي ماله". وفي صحيح البخاري أيضًا, قال عروة: قالت عائشة: "وإنَّ الناس استفتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية، فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} . قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى:

_ 1 آية 3.

{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} . رغبة أحدكم عن يتيمة حني تكون قليلة المال والجمال، فنُهُوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلّا بالقسط، ومن أجل رغبتهم عنهن؛ إذ كنَّ قليلات المال والجمال". القسم الرابع: حوادث قامت عليها تشريعات وأحكام, ولكنها لا تبين مجملًا، ولا ترفع إبهامًا، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها. أي: إن سبب النزول وهو الحادثة التي وقعت, لو جهِلَها المفسِّر لا يضرُّه عدم العلم بها، وإذا نظر إلى الآيات النازلة فيها وقع في خلده أنها نزلت على غير سبب، فإذا ما نزل إلى السبب وجده موافقًا لما تدل عليه الآية فيزداد بمعرفته فهمًا لها. مثل حادثة عويمر العجلاني الذي نزلت بسببه آيات اللعان. فإنه من نظر إلى آيات اللعان دون أن يلاحظ السبب الذي نزلت عليه لا يخطئ في فهم المراد منها؛ لأن فهمها لا يتوقَّف على سبب نزولها، وهي تشريع عام لا يقتصِر على عويمر وحده. ومثل حادثة كعب بن عجرة التي نزلت بسببها آية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} 1. فقد روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن معقل قال: "قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد -يعني: مسجد الكوفة- فسألته عن "فدية الصيام" فقال: حُمِلْتُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكلِّ مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة". القسم الخامس: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد, فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها، وزجر من يرتكبها.

_ 1 البقرة: 196.

فكثيرًا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون: نزلت في كذا وكذا, وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة, فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الإيمان من صحيح البخاري في باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1. أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "مَنْ حَلَفَ على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان". فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية. فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا، قال: فيَّ أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي.... إلخ. فابن مسعود جعل الآية عامة؛ لأنه جعلها تصديقًا لحديث عام، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: "فيَّ أنزلت" بصيغة الحصر. ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتَتَحَة بقوله تعالى "ومنهم - ومنهم", ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين, ولا فائدة في ذكره، على أنه ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات. القسم السادس: حوادث حدثت, وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة، فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهِمُ أن تلك الحوادث هي المقصودة

_ 1 آل عمران: 77. 2 البقرة: 105.

من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية، ويدلّ لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول. وأمثلته كثيرة؛ ذكر منها السيوطي في الإتقان جملة في المسألة الخامسة من أسباب النزول. منها: ما رواه البخاري أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} 1, بألف بعد لام السلام، وقال: كان رجل في غنيمة له "تصغير غنم" فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم, فقتلوه "أي: ظنُّوه مشركًا يريد أن يتقي منهم السلام", وأخذوا غنيمته, فأنزل الله في ذلك: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} الآية. فالقصة لا بُدَّ أن تكون قد وقعت؛ لأن ابن عباس رواها، لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها, بل نزلت في أحكام الجهاد, بدليل ما قبلها وما بعدها، فإن قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} . وبعدها: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} . ومنها ما جاء في صحيح البخاري من نزاع الزبير والأنصاري في شراج الحرة, وقد تقدَّمَ ذكره, ففيه قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلّا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 2 الآية. نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي أنه قد عَرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا, فإنه يريد بذلك أنها تتضمَّن هذا الحكم, لا أن هذا كان السبب في نزولها. وقد سبق تفصيل ذلك في صيغة أسباب النزول.

_ 1 النساء: 94. 2 النساء: 65.

العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب

العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب ... العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى القول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذهب آخرون إلى أن العبرة بخصوص اللفظ لا بعموم السبب، ومعنى ذلك عندهم: أن لفظ الآية يكون مقصورًا على سببه. أما ما يماثله فلا يُعْلَمُ حكمه من نصِّ الآية، وإنما يُعْلَمُ بدليلٍ آخر, وهو القياس المستوفي للشروط المقررة عند علماء الأصول، وهذا الخلاف القائم بين الفريقين محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله، أما إذا قامت تلك القرينة, فإن الحكم يكون مقصورًا على سببه لا محالة، بإجماع العلماء. كما يجب أن نلاحظ أيضًا أن حكم النصِّ العام الوارد على سبب يتعدَّى عند هؤلاء وهؤلاء إلى أفراد غير السبب، بيد أن الجمهور يقولون: إنه يتناولهم بهذا النصِّ نفسه، وغير الجمهور يقولون: إنه لا يتناولهم إلّا قياسًا, أو بنصٍّ آخر كالحديث المعروف: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية بقوله: "وقد يجئ كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا، كقوله: إن آية الظهار نزلت في امراة قيس بن ثابت، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن آية قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه} 1. نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يخص سببه؟ لم يقل أحدٌ إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعمّ ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب

_ 1 المائدة: 49.

اللفظ، والآية التي لها سبب معيَّن إن كانت أمرًا أو نهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته" أ. هـ.1. والأصل هو حمل الألفاظ على معانيها المتبادرة منها عند الإطلاق, أي: عند عدم وجود صارف يصرف عن ذلك المتبادر. وحيث لا صارف للفظ عن إرادة العموم بقي على عمومه -كما يقول علماء الأصول. وخصوص السبب ليس صارفًا عن إرادة العموم، فلا يستلزم إخراج غير السبب تناول اللفظ العام إياه، إذ لا يصلُح السبب وحده أن يكون قرينةً مانعةً من إرادة المعنى العام. لذا كان قول الجمهور بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أصحّ من قول غيرهم.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج1 ص119.

الرد على السيوطي في هذه المسألة

الرد على السيوطي في هذه المسألة: ويرى الإمام السيوطي أن هناك آيات نزلت في معيَّنٍ، ولا عموم للفظها فتقتَصِرُ عليه، ولا تتعداه إلى غيره، قال رحمه الله: "قد علمت مما ذكر أن فرض المسألة في لفظ له عموم، أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها، فإنها تقتصر عليه قطعًا، كقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . فإنها نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع، وقد استدلَّ بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} , على أنه أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ووهم من ظنَّ أن الآية عامَّة في كل من عمل عمله، إجراء له على القاعدة، وهذا غلط، فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم؛ إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد، بشرط ألَّا

يكون هناك عهد، واللام في "الأتقى" ليست موصولة؛ لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعًا، و "الأتقى" ليس جمعًا, بل هو مفرد, والعهد موجود، خصوصًا مع ما يفيده صيغة "أفعل" من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم، وتعيَّن القطع بالخصوص, والقَصْرِ على مَنْ نزلت فيه -رضي الله عنه"1. وفي كلام السيوطي هذا نظر من وجوه: الأول: إن الآية التي نزلت في معين، ولا عموم للفظها تقتصر عليه قطعًا -قول غير مسلَّم على إطلاقه, بل هو محمول على خلوِّ الكلام من قرينةٍ تدل على العموم، فإذا ما وُجِدَت قرينةٌ تدل على العموم فلا يكون اللفظ مقصورًا على سببه قطعًا. الثاني: استدلاله على قوله هذا بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} . وأنها نزلت في أبي بكر, وحكاية الإجماع على ذلك غير مسلَّم. فالآية عامة في كل من عمل عمله، كما قال كثير من المفسرين. قال ابن كثير في تفسيره2: "وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شكَّ أنه داخل فيها، وأَوْلَى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم", ونقل القاسمي في تفسيره3 هذا القول وارتضاه. ولفظ "الأتقى" في الآية, بمعنى التقى, كما يقول الطبري في تفسيره4. قال القرطبي في تفسيره5: {وَسَيُجَنَّبُهَا} أي: يكون بعيدًا منها، {الْأَتْقَى} أي: المتقي الخائف.

_ 1 الإتقان ج1 ص112، 113. 2 ج8 ص444. 3 راجع "محاسن التأويل" ج17 ص6179. 4 راجع ج30 ص227. 5 ج10 ص88.

قال ابن عباس: هو أبو بكر -رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار، ثم وصف الأتقى فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} , أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدَّق به مبتغيًا به وجه الله تعالى. وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله: "الأتقى" و"الأشقى", أي: التقيّ والشقي، كقول طرفة: تعنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي واحد ووحيد، وتوضع "أفعل" موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر, بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} 1. بمعنى هيّن". والثالث: قوله: إن هذه الآية ليست فيها صيغة عموم, واتهامه مَنْ قال ذلك بالوهم والغلط، عكسه هو الصحيح، وما ذكره من القواعد النحوية لا يسلَّم له في هذه الآية لدلالة القرائن على العموم. من هذه القرائن سياق الآيات من قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إلى آخر السورة. فإن الوعد والوعيد فيها عام، وذكر الأشقى والأتقى جاء مبالغة في وصف من نزلت الآيات بسببه، وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه كما علمت. وإلّا فإن الشقي لا يصلاها، والتقي لا يتجنبها، وهذا غير مراد قطعًا، فتعيَّن أن اللفظ يفيد العموم بمفهومه، والله أعلم.

_ 1 الروم: 27.

فوائد العلم بأسباب النزول

فوائد العلم بأسباب النزول: 1- العلم بأسباب النزول من الأمور التي لا غنى للمفسِّر عنها، فهو من العلوم التي تعينه على فهم المراد من كلام الله تعالى على وجه تطمئِنُّ النفس إليه.

وقد تقدَّمَ بيان شيء من ذلك في مقدمة هذا المبحث، وعند ذكر أقسام أسباب النزول، فقد قلنا هناك: إن منها ما يبين الإبهام ويرفع الإجمال، ويزيل الإشكال، وضربنا لذلك أمثلة، نضيف إليها هنا أمثلة أخرى؛ لكي تتحقق من أهمية هذا العلم في تقرير الأحكام، وبيان المعاني والمقاصد المرادة من كلام الله -عز وجل. أ- ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما, أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فَرِحٌ بما أوتي, وأحبَّ أن يُحْمَدَ بما لم يفعل يُعَذَّب، لنعذَّبَنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. قال ابن عباس: سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه, واستحمدوا بذلك إليه, وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه". ب- ما جاء في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 2. فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض؛ لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا بالظاهر، وقد ردَّت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثَّموا من السعي بينهما؛ لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا إساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما. "عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله:

_ 1 آل عمران: 188. 2 البقرة: 158.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ؟ فما أرى على أحدٍ جناحًا أن لا يطوَّفَ بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأنَّ الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلِّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يطوَّف بالصفا والمروة في الإسلام، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة: ثم قد بَيَّنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. "ج" ما جاء في سبب نزول قوله تعالى من سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1. فهذه الآية إذا قطعت عن السبب الذي نزلت عليه لا يفهم مراد الله منها، لهذا تأوَّلها جماعة على غير وجهها, فوقعوا في حرج عظيم، وأباحوا لأنفسهم شرب الخمر وهي أم الكبائر. "روي أنَّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجاردو على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال: الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك! قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلخ. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرَّم الله.

_ 1 آية 93.

وفي رواية: فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله, فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا وأحدًا، والخندق، والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرًا للماضين، وحجَّة على الباقين؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} 1. ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت، الحديث. وحكى إسماعيل القاضي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأوَّلُوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال: فكتب عمر إليه: أن أبعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين, نرى أنهم قد كذَبُوا على الله، وشرَّعوا في دينه ما لم يأذن به.. إلى آخر الحديث"2. وما قاله ابن عباس صحيح يؤيده ما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة, وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مناديًا ينادي: "ألا إنَّ الخمر قد حُرِّمَتْ" قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها, فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله:

_ 1 المائدة: 90. 2 الموافقات ج3 ص349.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. من هذه الأحاديث نعلم أن الغفلة عن أسباب النزول تؤدي حتمًا إلى فساد التأويل، وأن العلم بها ضروري في تصحيح الفهم، ودفع الاشتباه. قال الشاطبي1: "وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزَّل، بحيث لو فُقِدَ ذكر السبب لم يُعْرَف من المنزَّل معناه على الخصوص، دون تطرُّق الاحتمالات وتوجُّه الإشكالات. 2- ومن فوائد العلم بأسباب النزول أيضًا بيان أن القيد في الآية معتَبَرٌ في تقرير الحكم، بل هو لبيان الحال والواقع، أو بيان الغالب، ونحو ذلك. كما في قوله تعالى من سورة الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} 2. فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية بأن الآية لا عِدَّة عليها إذ لم ترتب، وقد بيَّنَ ذلك سبب النزول، وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار، فنزلت، أخرجه الحاكم عن أُبَيّ. فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما حكمهن في العدة، وارتاب: هل عليهن عدة أو لا؟ وهل عدتهم كاللاتي في سورة البقرة أو لا؟ فمعنى: {إِنِ ارْتَبْتُم} إن أُشْكِلَ عليكم حكمهن, وجهلتم كيف يعتدون, فهذا حكمهن, ومثله ما جاء في قوله تعالى من سورة النور: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

_ 1 المرجع السابق. 2 آية: 4. 3 آية: 33.

فقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} . ليس قيدًا في النهي, وإنما هو لبيان الحال التي كنَّ عليه من الإناء والتمنُّع بعد أن أسلمن وحَسُنَ إسلامهن، كما يدل عليه سبب النزول الذي لولاه لتَوَهَّمَ متوهِمٌ أن هذا الشرط قيد في النهي. قال ابن كثير في تفسيره1: "كان أهل الجاهلية إذا كَان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلمَّا جاء الإسلام نهى الله المسلمين عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسِّرين من السلف والخلف- في شأن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فإنه كان له إماء، فكان يكرههنَّ على البغاء طلبًا لخراجهن، ورغبةً في أولادهن، ورياسةً منه فيما يزعم". وساق الآثار الواردة في ذلك، منها: ما رواه الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار -رحمه الله- في مسنده، قال: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي -يعني: محمد بن الحجَّاج- حدَّثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أُبَيّ بن سلول, يقال لها: معاذة، يكرِهُهَا على الزنا، فلما جاء الإسلام نزلت: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . 3- ومن فوائد العلم به: "دفع توهم الحصر، قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 2 الآية.

_ 1 ج6 ص57. 2 الأنعام: 145.

إن الكفَّار لما حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادة والمحادَّة, فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلّا ما حرَّمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلًا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلّا الحلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه تعالى قال: لا حرام إلّا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، ولم يقصد حلّ ما وراءه؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل. قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرَّمات فيما ذكرته الآية"1. 4- ومن فوائد العلم به: معرفة اسم مَنْ نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره فيُتَّهَم البرئ، ويبَرَّأُ المريب. ولهذا ردَّت عائشة على مروان حين أتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 2، إلى آخر الآية. وقالت: "والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسمَّيته" إلى آخر تلك القصة3. قال ابن كثير: من زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحَسُنَ إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه. قال: وإنما هذا عام في كلِّ من عقَّ والديه وكذَّب بالحق، وساق قصة مروان بن الحكم مع عبد الرحمن بن أبي بكر بطولها، وبألفاظها المختلفة، معزُوَّةً لابن أبي حاتم والبخاري والنسائي، فراجعها في تفسيره4 إن شئت. وقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تعرف اسم الرجل الذي نزلت فيه الآية، ولكن أدبها وحياءها وتقواها أَبَى عليها أن تذكره، ولأن ذكره يخلو من الفائدة,

_ 1 الإتقان ج1 ص109، 110. 2 الأحقاف: 17. 3 انظر الإتقان ج1 ص110، ومناهل العرفان ج1 ص106. 4 ج7 ص566 ط. الشعب.

ومعرفته على التعيين لا تعين على فهم الآية، ويكفيها أنها برَّأت أخاها من هذه التهمة التي رماها بها مروان. 5- ومن فوائد العلم بأسباب النزول كما قال الزرقاني1: "تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة، كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر، وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرَّر في علم النفس" أ. هـ. 6- ومن فوائد العلم به معرفة حكمة الله تعالى فيما شرعه لعباده في الكتاب العزيز على وجه يفيد اليقين، فإن المفسِّر إذا عرف سبب النزول اطمأنت نفسه إلى صحة ما يقول لمعرفته به، وبالإضافة إلى المعاني التي استنبطها من اللغة، والنقل الصحيح عن الصحابة والتابعين في التأويل. فالسبب إن لم يكن دليلًا على صحة المعنى، وسلامة التأويل, فهو من الأمور التي يستأنس بها في ذلك، ولا شك. ولهذه الفوائد وغيرها بالَغَ العلماء في العناية بهذا العلم، وأطنبوا في شرحه وتفصيل مسائله، وتتبعوا الآثار الواردة فيه، فأفرده بالتأليف جماعة أقدمهم عليّ بن المديني شيخ البخاري -كما يقول السيوطي في الإتقان. ومنهم الواحدي، فقد ألَّف كتابًا سماه: "أسباب النزول"، واختصره الجعبري بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا. وألَّف السيوطي فيه كتابًا جامعًا لما أتى به الواحدي مع زيادات كثيرة سماه: "لباب النقول في أسباب النزول". وأُلِّفَت في هذا العلم رسائل جامعية منها: رسالة للدكتور محمد يوسف القاسم. ولا يزال هذا العلم في حاجة إلى تنقيح وتمحيص. نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا للإسهام في ذلك العمل الجليل، إنه حسبنا ونعم الوكيل.

_ 1 مناهل العرفان ج1 ص106، 107.

المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه

المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه مدخل ... المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار. وبيان ذلك في تحديد معنى الإحكام والتشابه في اللغة، فإن المعنى اللغوي يفصِحُ عن الاعتبارات الثلاثة. وتحديد المعنى الاصطلاحي للإحكام والتشابه يخصِّص المعنى اللغوي ويحدِّد مجال البحث، ويكشف عن أهميته, وعن الأحكام المتعلقة به، والمترتبة عليه. والمعنى اللغوي ليس مجال اختلاف بين العلماء بخلاف المعنى الاصطلاحي، فإن الخلاف فيه كثير، وطلب الفصل فيه عسير. ثم إن أقسام المتشابهه أيضًا كثيرة ومتنوعة، وكل قسم منها له فروعه ومسائله، ومحل بسطه كتب أصول الفقه. وسنتكلم هنا بعون الله تعالى عن تعريف المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح، ونذكر بعض أقوال العلماء في تحديدهما, وتمييز كلٍّ منهما عن الآخر، ثم نذكر أهمَّ أقسامه ومسائله، على أننا سنفرد لبعض هذه الأقسام بحوثًا خاصة تتلو هذا البحث, وذلك لطول الكلام فيها، وبالله التوفيق.

معنى الإحكام والتشابه في اللغة

معنى الإحكام والتشابه في اللغة: الإحكام في اللغة هو: الإتقان والمنع. جاء في لسان العرب: أحكم الأمر: أتقنه، والحكيم: المتقِنُ للأمور، وحَكَمَ الشيء وأحكمه: منعه من الفساد. قال الراغب في مفرداته: حكم أصله: منع منعًا لإصلاح. فقيل: حكمت الداية: منعتها بالحكمة -بكسر الحاء- وأحكمتها: جعلت لها حكمة -بفتح الحاء والكاف. أ. هـ. بتصرف.

والحكمة -بالفتح: هي ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه تمنعه من الاضطراب. والحكمة -بكسر الحاء- كما قال الراغب: إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى: معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفة الموجودات، وفعل الخيرات. والتشابه في اللغة: التماثل. قال الفيروزأبادي في "بصائر ذوي التمييز"1: "المَثل والمِثل والمثيل كالشبه والشبه والشبيه، لفظًا ومعنًى". قال ابن منظور في لسان العرب: المشتبهات: المشكلات، والشبهة: الالتباس. وشبِّه عليه: خُلِطَ عليه الأمر حتى اشتبه بغيره. ومن هذا نفهم أن المتشابه في العلم يدل على المشاركة والمماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالبًا. والقرآن الكريم كله محكَمٌ باعتبار أنه متقَنٌ في نظمه وأسلوبه وأحكامه، مانعٌ من دخول غيره فيه، ومن طروء الخلل في ألفاظه، والتناقض في معانيه. وكله متشابه باعتبار أنه متماثلٌ في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وطلاوته. وبعضه محكم, وبعضه متشابه, باعتبار أن بعضه أحكام نصية، لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، ولا يختلط الأمر في فهمها من هذا الوجه على أحد، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه، لحكمة سامية، سيأتيك بيانها إن شاء الله تعالى، وهي التي يقع فيها الاشتباه, ويتأتى في فهمها الاختلاط والالتباس. ويدل على أن القرآن محكم كله بهذا الاعتبار قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2.

_ 1 ج4 ص481. 2 هود: 1.

والدليل على أنه متشابه كله قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1. والدليل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2. فلا تعارض كما علمت بين هذه الآيات؛ لأن كلًّا منها قد وصِفَ فيها القرآن بالأوصاف التي تخصه على وجهٍ من الوجوه اللغوية السابقة.

_ 1 الزمر: 23. 2 آل عمران: 7.

معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح

معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح: قلت فيما سبق: إن العلماء اختلفوا في معنى المحكم والمتشابه اختلافًا كثيرًا، ولكن يمكننا أن نذكر هنا أهم هذه الأقوال، ثم نبيِّن الراجح منها بالدليل فيما يأتي, وعلى الله قصد السبيل. يطلَقُ المحكَم في لسان الشرعيين على ما يقابل المنسوخ تارةً، وعلى ما يقابل المتشابه تارة أخرى. فيُرَاد به على الاصطلاح الأول: الحكم الشرعي الذي لم يتطرَّق إليه نسخ. ويراد به على الثاني: ما ورد من نصوص الكتاب أو السُّنَّة دالًّا على معناه بوضوحٍ لا خفاء فيه. وموضوع بحثنا هنا هو الاصطلاح الثاني.

1- فمنهم من قال: إن المحكم هو الواضح الدلالة, الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، أما المتشابه: فهو الخفي الذي لا يُدْرَكُ معناه عقلًا ولا نقلًا، وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة، والحروف المقطَّعة في أوائل السور، وقد عزا الألوسي الرأي إلى السادة الحنفية. 2- ومنهم من قال: إن المحكم ما عُرِفَ المراد منه, إما بالظهور وإما بالتأويل، أما المتشابه: فهو ما استأثر الله تعالى بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطَّعة في أوائل السور، ويُنْسَبُ هذا القول إلى أهل السُّنَّة على أنه هو المختار عندهم. 3- ومنهم من قال: إن المحكم ما لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا من التأويل، والمتشابه: ما احتمل أوجهًا، ويعزى هذا الرأي إلى ابن عباس، ويجري عليه أكثر الأصوليين. 4- ومنهم من قال: إن المحكم ما استقلَّ بنفسه ولم يحتاج إلى بيان، والمتشابه: هو الذي لا يستقبل بنفسه, بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله، ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد -رضي الله عنه. 5- ومنهم من قال: إن المحكم ما كانت دلالته راجحة, وهو النص والظاهر، أما المتشابه: فما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمَلُ والمؤول والمشكَل. ويعزى هذا الرأي إلى الإمام الرازي, واختاره كثير من المحققين. "وقد بسطه الإمام فقال ما خلاصته: اللفظ الذي جُعِلَ موضوعًا لمعنًى، إمَّا ألَّا يكون محتملًا لغيره، أو يكون محتملًا لغيره، الأول النص، والثاني: إما أن يكون احتماله لأحد المعاني راجحًا، ولغيره مرجوحًا، وإما أن يكون احتماله لهما بالسوية، واللفظ بالنسبة للمعنى الراجح يُسَمَّى ظاهرًا، وبالنسبة للمعنى المرجوح يُسَمَّى مؤولًا، وبالنسبة للمعنيين المتساويين أو المعاني المتساوية يُسَمَّى مشتركًا، وبالنسبة لأحدهما على التعيين يُسَمَّى مجملًا، وقد يُسَمَّى اللفظ مشكلًا إذا كان معناه الراجح باطلًا، ومعناه المرجوح حقًّا. إذا عرفت هذا فالمحكَمُ ما كانت دلالته راجحة، وهو النصُّ والظاهر، لاشتراكهما في حصول الترجيح، إلّا أن النصَّ راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع منه.

أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمَلُ والمؤول والمشكَلُ لاشتراكها في أن دلالة كلٍّ منها غير راجحة، وأما المشتَرَك فإن أريد منه كل معانيه فهو من قبيل الظاهر، وإن أريد بعضها على التعيين فهو مجمَل، ثم إن صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لا بُدَّ فيه من دليل منفصِل، وذلك الدليل المنفصِلُ إما أن يكون لفظيًّا، وإما أن يكون عقليًّا، والدليل اللفظي لا يكون قطعيًّا؛ لأنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص، وعدم المعارِض العقلي والنقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون مظنون. وعلى ذلك, فلا يمكن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوحٍ بدليل لفظي في المسائل الأصولية الاعتقادية، ولا يجوز صرفه إلّا بواسطة قيام الدليل القطعي العقلي على أن المعنى الراجح محالٌ عقلًا، وإذا عرف المكلَّف أنه ليس مراد الله تعالى، فعند ذلك لا يحتاج إلى أن يعرِفَ أن ذلك المرجوح ما هو؟ لأن طريقه إلى تعيينه إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وبترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يكون إلّا بالدلائل اللفظية، وهي لا تفي إلّا الظن، والتعويل عليها في المسائل القطعية لا يفيد، لذا كان مذهب السلف عدم الخوض في تعيين التأويل في المتشابه، بعد اعتقاد أن ظاهر اللفظ محال، لقيام الأدلة العقلية القطعية على ذلك"1 أ. هـ. وهذه الأقوال تبدو متقاربة، غير متعارضة، ولكنها في نظري لا تفي بالمطلوب إثباته من الخصائص الجامعة لمسائل كلٍّ من المحكَم والمتشابِه، وهو الأمر الذي يجعل كلًا منهما غير متميِّز عن الآخر أكمل تمييز.

_ 1 انظر مناهل العرفان ج2 ص170، 171.

الراجح

الراجح: والراجح من الأقوال ما قاله الراغب في مفرداته، فقد أجاد وأفاد، وحقَّقَ المراد. قال -رحمه الله تعالى: "والمتشابه من القرآن ما أُشْكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره، إمَّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى. فقال الفقهاء: والمتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكَمٌ على الإطلاق، ومتشابِهٌ على الإطلاق، ومحكَمٌ من وجهٍ ومتشابِهٌ من وجهٍ. فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو "الأَبُّ"1 و "يزفون"2، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين3. والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركَّب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 4.

_ 1 هو نبات ترعاه الإبل، ولما كان لفظًا غريبًا خفي على عمر -رضي الله عنه، إذ قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأَبُّ؟ الحديث بطوله أخرجه ابن جرير الطبري عند تفسير الآية. 2 الزفيف: هو الإسراع الشديد في خِفَّة، مأخوذ من زَف النعامة, وهو هزّ جناحيها بشدَّة عند إسراعها من وجه خطر يداهمها. 3 فإن اليد تطلق على العضو، وعلى القدرة, وعلى النعمة، والعين تطلق على عضو الإبصار والجاسوس، والذهب والفضة، وعين الماء, وغير ذلك. 4 المراد باليتامى في الآية: اليتيمات, فلما جاء اللفظ عامًّا أُشْكِلَ على بعض الصحابة ارتباط الشرط بالجواب، فأخبرتهم عائشة -رضي الله عنها- بأن المراد به ما ذكرنا، وقد تَقَدَّمَ حديثها في أسباب النزول.

وضرب لبسط الكلام نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنه لو قيل: ليس مثله شيء، كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام، نحو: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا} 1. تقديره: الكتاب قيمًا، ولم يجعل له عوجًا. وقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُون} . إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} 2. والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصوَّر لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه. والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعًا خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} . والثاني: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، نحو: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} . والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 3.

_ 1 الكهف: 1-2. 2 الفتح: 25, ففي الآية تقديم وتأخير دعا إليه المقام، والمعنى كما قال أبو السعود في تفسيره: "لولا كراهة أن تهلكوا ناسًا مؤمنين بين الكافرين, غير عالمين بهم, فيصيبكم بذلك مكروه, لما كفَّ أيديكم عنهم". 3 البقرة: 189.

وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 1. فإن مَنْ لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذَّر عليه معرفة تفسير هذه الآية. والخامس: من جهة الشروط التي بها يصحُّ الفعل أو يفسد؛ كشروط الصلاة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصوِّرَت علم أن كل ما ذكره المفسِّرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال: المتشابه "ألم". وقول قتادة: المحكَم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ. وقول الأصم: المحكَم: ما أُجْمِعَ على تأويله، والمتشابه: ما اختُلِفَ فيه. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته: كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردِّدٌ بين الأمرين, يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم, وهو الضرب المشار إليه بقوله -عليه الصلاة والسلام- في علي -رضي الله عنه: "اللهمَّ فقِّهه في الدين وعلمه التأويل" وقوله لابن عباس مثل ذلك. وإذا عرفت هذه الجملة عُلِمَ أن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . ووصله بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} جائز, وأن لكلِّ واحد منهما وجهًا حسبما دلَّ عليه التفصيل المتقدم. وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} . فإنه يعني ما يشبه بعضه بعضًا في الأحكام والحكمة واستقامة النظم". أ. هـ.

_ 1 التوبة: 37.

انتهى كلام الراغب، فأنهى إلينا به منتهى ما كنا نبتغيه في تفسير المتشابه، وتمييزه عن المحكم بتعريفٍ جامع لأطرافه ومسائله، مانع من دخول غيره فيه. فقد عرَّفه بالحدِّ والرسم1 والتقسيم، فلم يترك الباحث فيه على ظمأٍ حتى ارتوى. وقريب منه قول الإمام الرازي ومن نحا نحوه. وما ذكره الراغب، والرازي من تقسيمات وتفريعات سيأتي أكثره إن شاء الله تعالى، في بحوث مستقلة كما وعدتك بذلك. نسبة المتشابه من المحكم في الشريعة: اعلم أن المتشابه وإن كثرت أقسامه وفروعه بالنسبة للمحكَم من نصوص الشريعة قليل, وذلك لأمور: أحدها: النصّ الصريح على أن الآيات المحكمات أمّ الكتاب, وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 2. وأم الشيء: معظمه وعامته، والأم أيضًا الأصل والعماد, كما في القاموس، ولذلك قيل لمكة: "أم القرى"؛ لأن الأرض دحيت من تحتها. فإذا كان ذلك كذلك, فقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} إنما يُرَادُ بها القليل. والثاني: أن المتشابه لو كان كثيرًا لكان الالتباس والإشكال كثيرًا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى. وقد نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكَل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى، ولولا أن الدليل أثبت أنَّ فيه متشابهًا لم يصح القول به، وما جاء فيه من ذلك المتشابه الذي لم يتعلَّق به حكمٌ بالمكلَّفين من جهته, زائد على الإيمان به, يجب أن نقرَّه على ما جاء، ولا نخوض في تأويله.

_ 1 الوصف. 2 آل عمران: 7.

الثالث: الاستقراء المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة له على قانون النظر، واستقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم} . وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} . يعني: يشبه بعضه بعضًا، ويصدِّق أوله آخره، وآخره أوله، أعني: أوله وآخره في النزول1.

_ 1 راجع ما ذكرناه في كتاب الموافقات للشاطبي ج3 ص86 وما بعدها.

ما يقع فيه التشابه

ما يقع فيه التشابه: اعلم أن التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية. وقد عُرِفَ ذلك بالاستقراء، والتتَبُّع لأصول الشريعة أصلًا أصلًا، وإنما كان التشابه في الفروع والجزئيات دون الكليات؛ لأن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه. وقد عرفنا في المسألة السابقة أن المتشابه بالنسبة إلى الحكم قليل, وبسط هذه المسألة في كتب الأصول. هذا ونختم هذا المبحث ببيان الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم، بقدر الطاقة، فإننا لا نعلمها على وجه اليقين, ولا ندرك منها إلّا ما ظهر لنا، واستوعبته عقولنا القاصرة.

الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام

الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام: 1- القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة، أنزله الله بمطالب البشر جميعًا، على اختلاف بيئاتهم وأزمانهم، ومطالب الحياة كثيرة، وحاجات الإنسان لا تحصى ولا تنحصر، فلا يكفيها تشريع تحتويه ملايين الصفحات. فكان من حكمة الحكيم الخبير أن ينزل من القرآن نصوصًا تحتمل وجوهًا من البيان، كل وجه منها يمس جانبًا من جوانب الحياة، ويقضي مطلبًا من مطالب الإنسان، ويفتح له بابًا من أبواب التيسير، فيدفع عنه حرجًا، أو يجعل له مخرجًا مما يعاني منه، أو يحبسه عن تحقيق أهدافه المشروعة، حتى يبدو وكأن النص الواحد جمع في طيَّاته نصوصًا كثيرة، تأمر وتنهى، وتوصي وترشد, فأغنى ذلك عن كتاب عظيم لا تستقصى صفحاته، ولا تنقضي كلماته، وتشريعاته. وقد أدَّى هذا التشابه إلى خلافٍ محمود العواقب بين العلماء الأفاضل، وجدَ الناس فيه رحمة من الله وسعة؛ لأنه خلاف لم ينشأ بسبب تناقض في النصوص القرآنية أو اختلافًا بين أحكامها، كلَّا، كلَّا. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . ولكنه خلاف مبنيٌّ على قرائن شرعية وعقلية استنبطوها من الكِتَاب نفسه، ومن السُّنَّة المطهرة, تجعل كل إمام يرجِّحُ وجهًا على آخر. والاجتهاد واجب على علماء الأمة بشروط مبسوطة في كتب أصول الفقه، لم يخرجوا بحمد الله عنها، فكان لمن أصاب منهم أجران، ولمن أخطأ أجر واحد. وقد وجد الناس كما قلت في هذا الخلاف تيسيرًا وتَوْسِعَةً أرادها لهم ربهم -عز وجل. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2. هذه حكمة سامية لوجود المتشابه في القرآن الكريم وفي السُّنَّة المطهَّرة. 2- وفي وجود المتشابه تدريب للعقول على التأمُّل والنظر، وفي هذا التدريب لذة لا يعرفها إلا أولو الألباب، فكلما أدرك العالم بعقله وجهًا من وجوه الترجيح وفق ما لديه من القرآن شعر بنشوة غامرة، ورغبة ملحِّة في مواصلة البحث والاستنباط.

_ 1 النساء: 82. 2 البقرة: 185.

ولا شكَّ أن البحث عن الحقائق من أوجب الواجبات، وهو يؤدي حتمًا إن شاء الله تعالى إلى الوصول إليها من غير تقليد، فيكون إيمانه بها أتمَّ وأكمل من إيمان المقلد قطعًا. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. 3- وفي وجود المتشابه نوع ابتلاء من الله تعالى، ليعلم العبد من نفسه هل هو مؤمن بما أخبره الشارع به من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها، أم هو لا يزال في الطريق إلى هذا الإيمان السامي الذي جعله الله أوَّل أوصاف المتقين في سورة البقرة حيث قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} . وهذه الحكمة ظاهرة في المتشابِه الذي استأثر الله بعلمه, وما ليس للعباد فيه علمٌ كافٍ بوقته وقدرته ونوعه وحقيقته.

_ 1 الزمر: 9.

المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات

المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات مدخل ... المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات كَثُرَ القيل والقال في المتشابهات من آيات الصفات، واحتدم النزاع في تأويلها، ووقعت الفتنة بين طوائف العلماء وكفَّر بعضهم بعضًا. ولكنهم مع اختلافهم في تأويلها قد اتفقوا على أمرين: الأول: صرف هذه الآيات عن ظواهرها المستحيلة في حق الله تعالى، لكونه مغايرًا لجميع الخلق، كما هو معلوم من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وحملها على معانٍ تليق بذاته -جل وعلا، وذلك بردِّ المتشابهات إلى المحكَمَات، وهي التي لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا من التأويل، وهو الوجه الذي يريده الشارع الحكيم دون سواه. الثاني: أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهمًا قريبًا وجب القول به إجماعًا. وذلك مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعًا، وليس لها بعد ذلك إلّا تأويل واحد، وهو الكينونة معهم بالإحاطة علمًا وسمعًا وبصرًا وقدرة وإرادة. وكقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} 1. فالمراد بجنب الله حقَّه وما يجب له، كما تقتضيه لغة العرب، ليس له معنى يجب أن يُحْمَل عليه غيره. واختلفوا فيما سوى ذلك على ثلاثة مذاهب: الأول: مذهب السَّلَف، وهو أقومها طريقة، وأهداها سبيلًا، فقد قرروا أن الإيمان بالمتشابهات، وتفويض أمر العلم بها إلى الله تعالى ورسوله واجب.

_ 1 الزمر: 56.

مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد، لقيام الأدلة القطعية على خلافه. فهم لا يبحثون فيها إلا بالقدر الذي يصحِّحُون به اعتقادهم بأن الله -عز وجل- منَزَّهٌ عَمَّا لا يليق بذاته من المشاركة والمماثلة, وما إلى ذلك من صفات النقص، تعالى الله عنها علوًّا كبيرًا. فما دلَّت عليه النصوص الشرعية الصريحة عملوا به، وما تشابه عليهم فُهِمَ المراد منه، وكان متعلقًا بالعقيدة، آمنوا به وأجْرَوْه على ظاهره, وفوضوا علم كَمِّه وكيفه وحقيقته إلى الله تعالى، وأثبتوا له -جل شأنه- ما أثبته لنفسه من غير خوض في تفصيله, تأدُّبًا مع خالقهم -جل وعلا، ووقاية لأنفسهم من وعيد من أفتى بغير علم، وتقوَّل على الله ما لم يقله. فالمتشابهات بوجه عام لا يتعيِّن المراد منها على التحقيق إلّا بنصٍّ صحيح صريح من الشرع، وحيث لا يكون هناك نصٌّ صحيح صريح بقي المتشابه على حاله، فتكون دلالته على المراد ظنية، والأمور الاعتقادية لا يكفي فيها الظن، بل لا بُدَّ فيها من اليقين، ولا سبيل إلى اليقين في معرفة المتشابه من الصفات، وهي من الأمور العقدية، فوجب التوقف فيها وعدم الخوض في تأويلها، وردَّها في جملتها إلى المحكَمِ الذي لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا. وعماد المحكم في باب الصفات قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} . هذا هو خلاصة مذهب السلف الصالح من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان, وقد استدلُّوا على ما ذهبوا إليه بنصوص من الكتاب والسُّنَّة وأقوال علمائهم الأعلام، ووجدوا فيها السلامة لدينهم، والنجاة من عذاب ربهم. أما الكتاب فقوله تعالى من سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ

وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . فقد أخبر الله -عز وجل- أنه لا يَتَّبِعُ المتشابه، ولا يَعْمَدُ إلى تأويله ابتغاء الفتنة، إلّا الذين في قلوبهم زيغ، وأما الراسخون في العلم فيقولون: آمنا به, كلٌّ من عند ربنا، ولا يخوضون في تأويل ما لا علم لهم به على التعيين. ويقفون في قراءة الآية على لفظ الجلالة، ويبتدئون بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} . وقد جاءت في أفضلية الوقف على لفظ الجلالة في الآية روايات عن القراء من الصحابة، ذكرها ابن جرير، وابن كثير في تفسيرهما. وجوَّز بعض العلماء الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بناءً على أنهم يعلمون المتشابه. ولكن هذا فيما لم يستأثر الله بعلمه، أما ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه أحد سواه. فمن وقف على لفظ الجلالة فسَّر المتشابه في الآية بما استأثر الله بعلمه، لقيام الساعة، وبعض صفاته تعالى. ومن وقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فسَّرَ المتشابه بمعناه العام، وهو ما يحتمل أكثر من وجه لسبب من الأسباب التي ذكرها الرازي والراغب، وغيرهما، وقد تقدَّمَت في المبحث السابق. وأما أدلتهم من السُّنَّة فكثيرة، منها: 1- ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .

_ 1 آية: 7.

إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه, فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم". وهذا اللفظ للبخاري. 2- ومنها: ما رواه أحمد في مسنده, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أُنْزِلَ كتاب الله يصدِّقُ بعضه بعضًا، فلا تكذِّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه". 3- وما رواه الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده قال: حدَّثَنَا زهير بن حرب قال: حدَّثنا أنس بن عياض, عن أبي حازم, عن أبي سلمة قال: لا أعمله إلّا عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ثلاثًا، ما عرفتم منه فأعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه". ذكره ابن كثير في تفسيره1. وأما أقوال علماء السلف فكثيرة أيضًا منها: "ما رواه الدارميّ عن سليمان بن يسار أن رجلًا يقال له ابن صبيغ, قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونًا فضربه حتى دمي رأسه. وجاء في رواية أخرى: فضربه حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألّا يجالسه أحد من المسلمين.

_ 1 ج2 ص9.

والدبرة -بفتحات ثلاث- هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي، والمراد هنا أنه صيَّرَ في ظهره من الضرب جرحًا داميًا كأنه قرحة في دابة. ورضي الله عن عمر، فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبُّعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها، ويسأل الناس عنها، ومنها ما ورد من أن الإمام مالكًا -رضي الله عنه- سُئِلَ عن الاستواء في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني". يريد -رحمة الله عليه- أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعًا؛ لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع، والكيف مجهول، أي: تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه، ولا سلطان لنا به، والسؤال عنه بدعة، أي: الاستفسار عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه مما شرَّعه الله بدعة؛ لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكَمَات وعدم اتباع المتشابهات، وما جزاء المبتدع إلّا أن يُطْرَدَ ويُبْعَدَ عن الناس، خوف أن يفتنهم؛ لأنه رجل سوء, وذلك سر قوله: وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني" أ. هـ1. "قال ابن الصلاح: على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلِّمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها. أ. هـ"2. المذهب الثاني: مذهب الخلف ويُسَمَّى مذهب المؤوِّلة -بتشديد الواو وكسرها، وهم فريقان: فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين، ثابتة له تعالى, زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين. وفريق يؤولها بمعانٍ نعلمها على التعيين، وذلك بأن يحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنًى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلًا وشرعًا.

_ 1 مناهل العرفان ج2 ص183-185. 2 الإتقان ج3 ص15.

فقد قالوا في تأييد مذهبهم هذا: إن المطلوب شرعًا هو صَرْفُ اللفظ عن مقام الإهمال، إذ لم يخاطب الله المكلَّفين بشيء لا يفهمون معناه، ولا يعقلون المراد منه على الجملة. وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم، فالنظر قاضٍ بوجوبه، وانتفاعًا بما ورد عن الحكيم العليم. المذهب الثالث: مذهب المتوسطين بين السلف والخلف. وهؤلاء يقولون بأن التأويل نوعان: قريب وبعيد؛ فالقريب نقول به، والبعيد نتوقف عنه. وقد نَسَبَ السيوطي هذا المذهب إلى ابن دقيق العيد، ونقل عنه قوله: "إذا كان التأويل قريبًا من لسان العرب لم يُنْكَر، أو بعيدًا توقفنا عنه، وآمنَّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرًا مفهومًا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ؛ فنحمله على حق الله وما يجب له" أ. هـ1. ومذهبه في التأويل القريب متَّفَقٌ عليه، كما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث. ومذهبه في التأويل البعيد يشبه مذهب الفريق الأول من الخلف, ويخالف الفريق الثاني الذين يخوضون في التأويل، ويخالف أيضًا ما عليه السلف من إثبات ما أثبته الله لنفسه بلا توقُّفٍ من غير تشبيه، ولا تجسيم، فيجمعون بين الحسنيين -بين البعد عن التأويل المخالِف لظاهر النصوص, والتوقف عن القول بأن لله من الصفات ما أثبته لنفسه إجراء للنصوص على ظاهرها؛ لأن إعمالها أولى من أهمالها، فما نزل القرآن إلا ليتدبر معناه على وجه مقبول شرعًا وعقلًا, على ما سيأتي تفصيله عند الكلام على الحروف المقطعة التي افتتح الله بها تسعًا وعشرين سورة من كتابه العزيز.

_ 1 الإتقان ج3 ص16.

آيات الصفات بين التفويض والتأويل

آيات الصفات بين التفويض والتأويل: بعد أن عرضنا عليك مذهب السلف، ومذهب الخلف فيما تشابه من آيات الصفات، نذكر لك طرفًا من أقوال كلٍّ منهما في بعض هذه الآيات، ليتبين لك الفرق بينهما بوضوح، فتعلم أيّ الفريقين أقوم قيلًا, وأهدى سبيلًا على التحقيق. 1- {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1: اتفق العلماء سلفًا وخلفًا على أن الاستواء بمعناه المعلوم لدينا غير جائز على الله تعالى؛ لأن الله -عز وجل- قد نفى عن نفسه المماثلة لخلقه من جميع الوجوه بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولكنهم اختلفوا في المراد منه، فقال السلف: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فهو -جل شأنه- أعلم بما يليق به. وقال الخلف: الاستواء معناه الاستيلاء والهيمنة والقهر من غير معاناة ولا تكلُّف، واللغة تتسع لهذا المعنى، فلا مانع عندهم من القول به إذا كان الغرض هو تنزيه الله -عز وجل- عمَّا لا يليق بذاته من صفات الحوادث. ومنهم من يؤوِّل الاستواء من غير تعيينٍ لمعناه على الحقيقة، ولا على المجاز، ويقولون: إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متَّصِفٌ بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين. وذكرت في الآية تأويلات أخرى لا يعوَّل عليها ولا يلتَفَتُ إليها، ضربنا عنها صفحًا خشية التطويل من غير فائدة. والسلف والخلف يدورون في فلك واحد، وإن اختلفت أنظارهم، وتباينت أقوالهم، فالجميع ينزه الله -عز وجل- بالطريقة التي يراها صحيحة عنده، إلّا أن مذهب السلف أسلم، كما سيتبين لك قريبًا. وللإمام الطبري -رحمه الله تعالى- فَهْمٌ في معنى الاستواء, جمع فيه بين قولي السلف والخلف، بناه على المفهوم من عرف اللغة، مراعيًا ما يجب في حق الله تعالى من التقديس والتنزيه، فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معناه, قال: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه، ثم يقول: وأَوْلَى المعاني بقول الله -جل ثناؤه:

_ 1 طه: 5.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} . علا عليهن وارتفع فدبَّرَهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات. ثم قال: والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} , الذي هو بمعنى العُلُوِّ والارتفاع هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوَّله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها -إلى أن تأوَّله بالمجهول من تأويله المستنكر, ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} : أقبل، أفكان مدبرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبُّر، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوَّ ملك وسلطان، لا علوَّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولًا إلّا ألزم في الآخر مثله. فأنت تراه بهذا التأويل قد أصاب المحذ، وأمسك بالعصا من طرفيها، ففسَّرَ الاستواء بمعناه المعروف عند العرب, والذي لا ينكره أحد من علماء اللغة، وهو العُلُوّ والارتفاع, وأتى به على النحو الذي يليق بجلال الله تعالى, فجعله علوَّ ملك وسلطان لا علوَّ انتقال وزوال. وهو ما عليه علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين. أ. هـ. 2- {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} 1. ولما كانت اليد من الألفاظ المشتركة وقع فيها الخلاف بين العلماء سلفًا وخلفًا، فهي تُطْلَقُ ويراد بها الجارحة والقدرة والنعمة، وغير ذلك. لكن لمَّا أثبت الله لنفسه اليد -وهو المنزه عن صفات الحوادث- ذهب العلماء في تاويلها مذاهب؛ فقال السلف -على طريقتهم في التفويض: لله يد ليست كأيدينا, لا علم لنا بها.

_ 1 الفتح: 10.

وقال فريق من الخلف كالأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع، والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلّا أنها أخصّ والقدرة أعمّ، فإن في اليد تشريفًا لازمًا. وقال فريق آخر: إنها القدرة خروجًا من التشبيه، وفرارًا من التوقف. وقد سلك الإمام الطبري مسلك الجمع بين الأقوال، ووقف وسطًا بين السلف والخلف، وحكَّم اللغة في الترجيح والتصحيح، كما هو شأنه دائمًا في المتشابِه الذي لم يَرِدْ فيه نقلٌ صحيح يعين المراد منه؛ وقال -رحمه الله: "فيها وجهان من التأويل؛ أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة؛ لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه -صلى الله عليه وسلم. والآخر: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وحيث ذكر هذين القولين ولم يرجِّح أحدهما على الآخر, فهو يُقِرُّهما معًا على السوية باعتبارهما متلازمين، إذ يلزم عن العلوِّ والفوقية القوة والغلبة التي تقع بهما النصرة على العدو. وما قيل في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} يُقَالُ في قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . 3- {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1: ورد لفظ العين مفردًا وجمعًا منسوبًا إلى الله تعالى، فجعله السَّلف على المعنى الذي يليق بذاته من غير تأويل، وأوَّله الخلف كما أوَّلوا الاستواء واليد، فقالوا: المراد بالعين العناية والرعاية، وما في معناها. قال محمد جمال الدين القاسمي2 -وهو سلفيّ المذهب والعقيدة- في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 3: {بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله -عز وجل- حفاظًا وحراسًا، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة.

_ 1 طه: 39. 2 محاسن التأويل ج9 ص3434، 3435. 3 سورة هود: 37.

وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} من سورة طه: "أي: ولتربَّى بيد العدو على نظري بالحفظ والعناية، فـ {عَلَى عَيْنِي} استعارة تمثيلية للحفظ والصَّوْن؛ لأن المصون يجعل بمرأى"1. وذهب إلى هذا التأويل غير واحد من المفسِّرِين، وهو ليس من التأويل الممنوع، لأنه قريب المأخذ، له في اللغة مفهوم يحدِّد المراد منه على وجه مقبول شرعًا وعقلًا, فلا يُذَمُّ هذا التأويل لقربه من المعنى المراد -والله أعلم. ويحسن بنا أن نذكر هنا حقيقة التأويل في لغة القرآن الكريم، ونبيِّن بإيجاز ما يُحْمَدُ منه وما يُذَمُّ.

_ 1 ج11 ص4178.

التأويل المحمود والتأويل المذموم

التأويل المحمود والتأويل المذموم: ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم على ثلاثة معانٍ: الأول: صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يقترن به، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين. الثاني: تفسير اللفظ، وبيان معناه. الثالث: الحقيقة التي يُؤَوَّل إليها الكلام، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة, وما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر، وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهمَّ ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن"1. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . "فالذين يقولون بالوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ، ويجعلون {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافًا، إنما عُنوا بذلك التأويل بالمعنى

_ 1 رواه البخاري ومسلم.

الثالث، أي: الحقيقة التي يُؤَوَّل إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته، وحقيقة المعاد لا يعلمها إلّا الله. والذين يقولون بالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أن الواو للعطف وليست للاسئتناف، إنما عُنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني, أي: التفسير، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري فيه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك, فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه, فالمراد به أن يعرف تفسيره. وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل. ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة، فأسماء الله وصفاته، وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي، إلّا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها, ويميزون الفرق بينها، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سُئِلَ مالك وغيره من السَّلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان". فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى أخبار الله عن اليوم الآخر، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا, إلّّا أن الحقيقة غير الحقيقة، ففي الآخرة ميزان وجنة ونار، وفي الجنة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 1. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 2.

_ 1 محمد: 15. 2 الغاشية: 13-16.

وذلك نعلمه ونؤمن به، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد، وما في الآخرة يمتاز عَمَّا في الدنيا، ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلّا الله1. وأما التأويل المذموم فهو: صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، يكون قويًّا عند المؤول, ضعيفًا عند أهل الحق، وهو ما لجأ إليه المعتزلة وكثير من الأشاعرة مبالغةً منهم في تنزيه الله عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون. وهو -لعمري- زعم خاطئ أوقعهم في مثل ما هربوا منه أو أشد، كما تقدَّم بيانه من كلام الطبري في تفسير قوله -جل شأنه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} . وهم أيضًا عندما يفسِّرون اليد بالقدرة مثلًا ليفروا من إثبات اليد للخالق -جل شأنه- لكونها في المخلوقين, يكونون قد وقعوا فعلًا فيما فروا منه، فإن للعباد أيضًا قدرة, وإن لم تكن كقدرة الله تعالى، لكنه تشبيه على أي حال، وذلك تناقض ظاهر؛ لأنه يلزمهم في المعنى الذي أثبتوه نظير ما زعموا أنه يلزم في المعنى الذي نفوه. فلا يجوز لهم أن يقولوا: إن هذا اللفظ مصروف عن الاحتمال المرجوح إلى الاحتمال الراجح؛ لأن الاحتمال الراجح هو الوقوف عند النصِّ، والإيمان بما فيه من إثبات أو نفي ورُدَّ متشابهه إلى محكمه، كما هو مذهب السلف، وهو الإلزم والأقوم والأسلم -والله أعلم.

_ 1 انظر مباحث في علوم القرآن ص192، 193، وراجع تفسير القاسمي للآية السابعة.

المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور

المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور مدخل ... المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطَّعة في فواتح السور افتتح الله تسعًا وعشرين سورة من كتابه العزيز بحروف هجائية مقَطَّعة، بلغت في مجموعها أربعة عشر حرفًا -نصف حروف الهجاء- جمعها بعضهم في قوله: "نص حكيم قاطع له سر". ومن هذا السور ما افتتحت بحرف واحد، ومنها ما افتتح بحرفين أو بثلاثة، أو بأربعة، أو بخمسة. فما افتتح بحرف واحد ثلاث سور هي: سورة "ق"، وسورة "القلم"، وسورة "ص". وما افتتح بحرفين تسع سور هي: طه، والنمل، ويس، وغافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف. وما افتتح بثلاث حروف ثلاث عشرة سورة هي: البقرة، وآل عمران، ويونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر، والشعراء، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وما افتتح بأربعة حروف سورتان هما: الأعراف، والرعد. وما افتتح بخمسة حروف سورتان هما: مريم، والشورى. وفواتح السور هذه من المتشابه الذي اختلف العلماء في تأويله، فكانوا منه على مذهبين: الأول: مذهب التفويض، وأصحاب هذا المذهب آثروا السلامة، وتركوا الخوْضَ في تأويلها فَرَقًا1 من أن يقولوا في كتاب الله برأي لا يستند إلى دليل ظاهر، فيعرِّضُوا أنفسهم إلى غضب الله تعالى، وعذابه في الدنيا والآخرة. والقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر وأعظمها جرمًا، كما صرَّحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

_ 1 الفرق: بفتح الفاء والراء معناه: الخوف.

"قال هؤلاء المفوضون: إن حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهو سر الله في القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونَكِلُ العلم فيها إلى الله تعالى. وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها. قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه: في كل كتاب سر, وسر الله في القرآن أوائل السور. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة, وصفوة هذا الكِتَاب حروف التهجي. واعتُرِضَ على هذا القول بأنه لا يجوز أن يخاطب الله عباده بما لا يعلمون, وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكلِّف الله عباده بما لا يُعْقَل معناه، كرمي الجمار، فإنه مما لا يُعْقَلُ معناه، والحكمة فيه هو كمال الانقياد والطاعة، فكذلك هذه الحروف، ويجب الإيمان بها، ولا يلزم البحث عنها"1. الثاني: مذهب التأويل: وأصحاب هذا المذهب قد اختلفوا في تأويل هذه الحروف اختلافًا كثيرًا. 1- فمنهم من قال: إنها أسماء السور، وهو قول الكثير من المفسرين. واستدلوا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: ألم السجدة، وهل أتى على الإنسان". وهذا القول في نظري ليس بشيء؛ لأن السور التي افتتحها الله بهذه الحروف لها أسماء أخرى قد اشتهرت بها، وتميَّزَت بها عن غيرها، ولم تتميز بهذه الحروف. فإذا قلت: هذه السورة "ألم", لم تعرف بهذه الحروف على التحديد إلّا إذا قلت: "ألم البقرة" "ألم آل عمران" "ألم لقمان" "ألم السجدة" وهكذا.

_ 1 انظر تفسير الخازن ج1 ص26.

فكيف تكون بمفردها أسماء للسور؟ وأيضًا: هذه الحروف جزء من السورة، ولا يكون الاسم جزءًا من المسَمَّى. والحديث المذكور ليس فيه ما يدل على ذلك، بدليل أن الراوي عَرَّفَ السورة باسمها الذي اشتهرت به، ولم يكتف تعريفها بالحروف المقطَّعة، مما يدل على صحة ما ذكرته -والله أعلم بالصواب. 2- ومنهم من قال: إنها أسماء لله تعالى, وقد نُسِبَ هذا القول لابن عباس -رضي الله عنهما1. وهذا القول ليس عليه دليل نعلمه، وهو يردُّنا إلى القول بأن هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. فإن صحَّ القول عن ابن عباس, فمراده تفويض علمها إلى الله تعالى؛ لأن أسماء الله تعالى لا نقف عليها إلا بالنصوص الصريحة. 3- وقريب منه ما نُسِبَ إلى ابن عباس أيضًا, من أن كل حرف من هذه الحروف دالٌّ على اسم من أسماء الله تعالى, وصفة من صفاته. قال الرازي2: "قال ابن عباس -رضي الله عنهما في {الْم} : الألف إشارة إلى أنه تعالى: أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي؛ واللام إشارة إلى أنه: لطيف، والميم إشارة إلى أنه: ملك مجيد منان. وقال في {كهيعص} إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافيًا، والهاء يدل على كونه هاديًا، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق. وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل.

_ 1 انظر جامع البيان للطبري ج1 ص57. 2 التفسير الكبير ج2 ص6.

والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصَّصَ كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك". قال السيوطي1 بعد أن نقل هذا القول: "والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، قال الشاعر: قلت لها قفي فقالت قاف أي: وقفت. وقال: بالخير خير وإن شرًّا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا أراد: وإن شرًّا فشر، إلّا أن تشاء. وقال: ناداهم ألا ألجموا ألا تا ... قالوا جميعًا كلهم ألا فا أراد: ألا تركبون، ألا فاركبوا. وهذا القول اختاره الزَّجَّاج، وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها" أ. هـ. وهذا القول كسابقه غير معقول المعنى، ولا أرى أن هذا قد صحَّ عن ابن عباس، وعلى فرض صحته, فإنه يُعَدُّ سرًّا من الأسرار التي أطلعه الله عليها، لا نكلَّف الإيمان بها. على أن العرب إنما يستخدمون الرمز في كلامهم لضرورة الشعر، أو للاستظراف في الكلام، والإلغاز به, أما القرآن الكريم فهو منَزَّهٌ عن هذا. {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . والإحكام والتفصيل ينافي استخدام الرموز.

_ 1 الإتقان ج2 ص34.

نسأل الله تعالى أن يعيذنا من القول في كتابه بغير علم. 4- ومنهم من قال: إن هذه الحروف أقسام أقسم الله بها، نسبه ابن جرير لابن عباس أيضًا. والمعروف أن القَسَمَ له صيغ، ليست هذه الحروف منها، والقرآن إنما نزل بما هو في معهود العرب ومنطوقها كما هو معلوم. 5- قال السهيلي كما نقل عنه السيوطي: "لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. وهو قول ساقط بإجماع المحققين. قال ابن حجر: هذا باطل لا يُعْتَمَدُ عليه، فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- الزجر عن عد "أبي جاد". أ. هـ1. وهي: "أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت تخذ ضظغ". وقال ابن كثير: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادَّعَى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسُّك به على صحته. وهو ما رواه أحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، حدَّثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن وثَّاب قال: "مرَّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهودٍ برسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} . فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون -والله- لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل الله عليه: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} .

_ 1 انظر الإتقان ج3 ص25.

فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: فمشى حُيَيْ بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: بلى، فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: نعم، فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيَّنَ لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك, فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم، قال: ما ذاك؟ قال: المص، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: ما ذاك؟ قال: الر، قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان, فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: ماذا؟، قال: المر، قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلًا أعطيت أم كثيرًا، ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله: إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره". فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1.

_ 1 آل عمران: 7.

فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يُحْتَجُّ بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذه المسلك -إن كان صحيحًا- أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها, وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر قائم وأعظم، والله أعلم" أ. هـ1. 6- ومنهم من قال: إن هذه الحروف أدوات تنبيه على غير ما ألَّف العرب مثل "ألا، وأما، والهاء من هذا وهؤلاء". وقد جاءت على هذا النحو مبالغة في جلب الانتباه، وقرع الأسماع، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمدُّ بها صوته، وقد كان المشركون إذا رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس يتلو القرآن فروا منه، وانفضُّوا من حوله، فإذا ما قرأ -صلى الله عليه وسلم هذه الحروف بصوته الندي، أخذ عليهم جلال قراءته كل مأخذ، فألقوا إليه أسماعهم إصغاءً لما يقول، فإذا بهم يسمعون ما قد فروا منه، وينصتون إلى ما قد لغَوْا فيه، ويدركون من سماع القرآن ما يريده الله منهم. وقد ضعَّف ابن كثير في تفسيره2 هذا الرأي بقوله: "لو أنه كان كذلك لكان ذلك في جميع السور. ولو كان كذلك أيضًا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، ثم إن هذه السور والتي تليها أعني: البقرة وآل عمران, مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه". وما قاله ابن كثير -رحمه الله- ليس بلازم؛ لأن هذه الفواتح جاءت للتنبيه على أصول العقيدة، وما سواها داخل فيها، فإذا استمعوا إلى هذه الأصول التي كانوا يفرون من سماعها وتدبروها، وفهموا محتواها، فهموا ما هو داخل فيها، ومندرج تحتها. ولهذا نجد هذه الفواتح قد وليها الحديث عن نزول القرآن، ونفي الريب عنهم، والحديث عن التوحيد وقواعده، وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم, والرسالة، وعن الإيمان والمؤمنين، وعن البعث والوعد والوعيد.

_ 1 تفسير القرآن العظيم ج1 ص59، 60. 2 ج1 ص59.

{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 1. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 2. {المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} 3. {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} 4. {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 5. {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 6. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} 7. فهذه الفواتح إنما جاءت في أوائل هذه السور للتنبيه على الأصول الاعتقادية -كما قلنا. ولهذا جاءت على غير ما ألَّف العرب، لتكون أجلب لانتباههم, وأقرع لآذانهم وقلوبهم. وقوله: إن سورتي البقرة وآل عمران ليستا خطابًا للمشركين؛ لأنهما مدنيتان -غير مسلم، فالمشركون كانوا في مكة والمدينة، وفي غيرهما من البلاد والبوادي، والخطاب عام للمشركين وغيرهم من أهل الريب والزيغ والضلال. 7- ومنهم من يقول: إنها حروف تحدَّى الله بها العرب، وهذا التحدي يظهر من وجهين: الأول: أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد جرت العادة أنه لا ينطق بمثل هذه الحروف مقطَّعَة هكذا إلا مَنْ كان يقرأ ويكتب، فدلَّ هذا على أنه -صلى الله عليه وسلم- يتلقى القرآن من لدن حكيم خبير، فيقرأه كما تلقاه. والثاني: أن القرآن الكريم مؤلَّف من الحروف الهجائية التي يتكلَّم بها العرب، فلو كان قد تعلمه محمد -صلى الله عليه وسلم- من بشر، كما يقولون، فلِمَ عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وهم أفصح العرب، وأقدر الناس على الكلام والبيان، فكأن هذه الحروف تتحداهم بأسلوب لا عهد لهم بمثله.

_ 1 البقرة. 2 آل عمران. 3 الأعراف. 4 العنكبوت. 5 يس. 6 القلم. 7 ق.

أي: إن هذا القرآن مؤلَّفٌ من جنس هذه الحروف، فأتوا بشيء من مثله إن استطعتم، فإن لم تفعلوا -ولن تفعلوا- فآمنوا بأنه من عند الله، واجعلوا لأنفسكم وقايةً من عذاب الله بالفرار من الكفر والإلحاد. وقد رجَّحَ ابن كثير هذا القول، وارتضاه لما علم من أن كل سورة افتتحت بهذه الحروف قد انتصر فيها القرآن, وجاء فيها بيان إعجازه وعظمته. وهذا القول هو الراجح حقًّا إن شاء الله تعالى. والأرجح منه القول بأنها أدوات تنبيه جاءت على غير ما أَلِفَ العرب للحكمة التي سبق ذكرها، فهذا القول أجدر بالقبول من الذي قبله؛ لأن هذه الفواتح جاءت للتنبيه على ما يليها من الأصول العامة التي تقدَّمَ ذكرها، بخلاف القول السابق الذي ارتضاه ابن كثير؛ لأن سورة العنكبوت افتتحت بثلاثة حروف مقَطَّعة ولم يعقبها الانتصار للقرآن، وإنما جاء بعدها حديث عن الإيمان والمؤمنين، والوعد والوعيد، وغير ذلك. وبعد. فإن هذا القول، وإن كان هو الراجح عندي، فإنما يكون ذلك كذلك إن أقحمت نفسي في جملة المؤولين، أو افترضت أن سائلًا سألني أن أرجِّح قولًا من أقوالهم. أما إن خلَّيت ونفسي، وخُيِّرْتُ بين المذهبين: مذهب التفويض، ومذهب التأويل، فأنا على الأول منهما إن شاء الله تعالى، والله حسبي وهو نعم الوكيل.

المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص

المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص تعريف العام والخاص ... المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص في الشريعة الغراء أحكام تعم جميع المكلَّفين بلا استثناء، وأحكام تخص فريقًا دون فريق. وأحيانًا يقع التشابه بين ما هو عام، وما هو خاص، فينشأ عن ذلك الخلاف بين الفقهاء، ولكن غالبًا ما يكون هذا الخلاف هينًا، أو لفظيًّا، إذ كثيرًا ما تكون القرائن على التخصيص والتعميم ظاهرة جلية، لا يتأتَّى معها خلاف. ومعرفة الخاص والعام ضرورية لأهل الاجتهاد والفتوى؛ لأن القطع بصحة الأحكام متوقِّفٌ عليها. وفيما يلي بيان الفرق بين العام والخاص، وأنواع كلٍّ منهما، وما يتعلَّق بهما من الأحكام. تعريف العام والخاص: قال الرازي في "المحصول"1: "العام هو اللفظ المستغرِق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد. كقولنا: "الرجال", فإن مستغرق لجميع ما يصلح له. ولا يدخل عليه النكرات، كقولهم: "رجل"؛ لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا، ولا يستغرقهم. ولا التثنية، ولا الجمع؛ لأن لفظ "رجلان" و"رجال" يصلحان لكل اثنين، وثلاثة، ولا يفيدان الاستغراق. ولا ألفاظ العدد كقولنا: "خمسة"؛ لأنه صالح لكلِّ خمسة ولا يستغرقه. وقولنا: "بحسب وضع واحد" احتراز عن اللفظ المشترك، أو الذي له حقيقة، ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا.

_ 1 الجزء الأول القسم الثاني ص513، 514.

وقيل في حدِّه أيضًا: إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدًا، من غير حصر". والخاص: ما يقابل العام، فهو الذي لا يستغرق الصالح له من غير حصر. والتخصيص: هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام. وقال الرازي: حدّ التخصيص: إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه1. "والعموم كما يفهم من التعريف: من عوارض الألفاظ من جهة وضعها للدلالة على المعاني، فالعام كما عرفت هو: اللفظ الموضوع لاستغراق أفراد ما يصلح له. فلا يوصف بالعموم الأفعال ولا المعاني، فلا يقال: عطاء فلان عام؛ لأن عطاءه زيدًا متميِّزٌ عن عطائه عمرًا من حيث إنه فعل، فليس في الوجود معنى واحد مشترك بين الموجودات، وإن كانت حقيقته في العقل واحدة. وبهذا يظهر معنى قولنا: إن العموم من عوارض الألفاظ من جهة الدلالة على المعاني، فلا توصف به المعاني ولا الأفعال"2. وفيما يلي نتكلم أولًا عَمَّا يتعلق بالعموم من المسائل، ثم نتبعه بذكر الخصوص ومسائله.

_ 1 انظر المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص7. 2 انتهى بتصرف يسير من كتاب "أصول الفقه" للشيخ محمد الخضري ص147.

صيغ العموم

صيغ العموم: اختلف العلماء في معنى العموم، أَلَهُ في اللغة صيغةٌ موضوعةٌ له خاصةٌ به تدلُّ عليه أم لا؟ فذهب أكثرهم إلى أن هناك صيغًا وُضِعَتْ في اللغة للدلالة حقيقة على العموم، وتستعمل مجازًا فيما عداه.

وفيما يلي ذكر أهم هذه الصيغ إجمالًا، لأن محل التوسُّعِ في شرحها وتحليلها كتب أصول الفقه. 1- الجمع المعروف باللام: كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1. {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 2. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 3. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 4. والدليل على إفادته العموم: إجماع الصحابة، فقد فهم أبو بكر -رضي الله عنه- مثلًا العموم من قوله -صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" 5 وهو جمع محلَّى بأل، وتمسَّك بذلك في مقام الحجاج، حين قال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، ولم ينكر عليه أحد ذلك، فكان إجماعًا. 2- الجمع المعروف بالإضافة: مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 6. ومثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} 7. والذي يدل على العموم فيه صحة الاستثناء منه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 8, فالاستثناء أمارة العموم كما يقولون.

_ 1 البقرة: 228. 2 البقرة: 233. 3 المؤمنون: 1. 4 آل عمران: 134. 5 حديث "الأئمة من قريش" أخرجه أحمد في مسنده 3/ 129، 183، 4/ 431. 6 التوبة: 103. 7 النساء: 11. 8 الحجر: 42.

"أما الجمع المنكَّر فقد اختلف العلماء في عمومه، فذهب قوم إلى عمومه بدليل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1. فآلهة جمع منكَّرٌ, وهو عام بدليل الاستثناء منه، والاستثناء آية العموم كما ذكرنا. وذهب آخرون إلى أن الجمع المنكَّر لا يُعَدُّ سامة عامًّا, وأنه لا استثناء في الآية الكريمة السابقة؛ لأن إلّا بمعنى غير، صفة لما قبلها، ولا يصح أن تكون للاستثناء وإلّا وجب نصب ما بعدها؛ لأن الكلام تام موجب، ولفظ الجلالة مرفوع بلا خلاف، فالحق ما ذهب إليه أكثر العلماء من أن الجمع المنكَّر لا يفيد العموم"2. 3- المفرد المحلَّى بأل المستغرقة للجنس: مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 4. {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} 5. وعلامة "أل" المستغرِقَة للجنس أن يصح حلول "كل" محلها، وأن يصح الاستثناء من مدخولها، وهو دليل على أنها مفيدة للعموم. كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

_ 1 الأنبياء: 22. 2 انظر "أصول الفقه" لمحمد زكريا البرديسي. 3 المائدة: 38. 4 النور: 2. 5 الإنسان: 2.

فلفظ الإنسان عام، بدليل الاستثناء منه، وصحة حلول "كل" محل أداة التعريف. والمعنى: إن كل إنسان في خسر، إلّا الذين آمنوا. هوكذلك قوله -جل شأنه- في الآيتين السابقتين: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} , {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} . والمعنى: كل من سرق فاقطعوا يده، وكل من زنى فاجلدوه. 4- النكرة الواقعة في سياق النفي: مثل قوله -عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" 1 فوصية نكرة، وقعت بعد لا النافية فأفادت العموم. والدليل على العموم هنا إجماع العلماء على أن لا إله إلا الله كلمة توحيد، من نطق بها كان مؤمنًا موحدًا، والتوحيد بإثبات الواحد الحق لا يكون صحيحًا إلّا إذا كان صدر الكلام "لا إله" نفيًا لكل معبود بحقٍّ، وهذا هو معنى العموم، فتكون النكرة في موضع النفي للعموم. 5- النكرة الواقعة في سياق النهي: كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2. وقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 3. فهو نهيٌ جاء بصيغة الخبر للمبالغة في التحذير. وقوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} 4.

_ 1 أخرجه البخاري في الوصايا 6، والترمذي أيضًا في الوصايا 5، وأبو داود في الوصايا 6، والبيوع 88 وغيرهم. 2 الإسراء: 23. 3 البقرة: 197. 4 الروم: 30.

أي: لا تبدلوا خلق الله أيَّ تبديل. 6- النكرة الواقعة في سياق الشرط: فإنها تفيد العموم إذا كان الشرط مثبتًا في اليمين، مثل قول الرجل لامرأته: إذا دخلت دارًا فأنت طالق؛ لأنَّ اليمين يمنع المرأة من دخول أي دار، وهذا هو العموم في جانب الشرط, فأيّ دار دخلته المرأة تعتبر طالقًا. 7- النكرة الموصوفة بصفة عامة: مثل: والله لا أحادث إلّا رجلًا فاضلًا، فإن رجلًا نكرة، وقد وُصِفَتْ بصفة عامة، وهي فاضل؛ لأن الفضل لا يختص بواحد من الرجال، فلا يحنث بمحادثة كل من اتصف بالفضل، سواء كان واحدًا أو اثنين أو أكثر، وذلك بخلاف ما لو قال: والله لا أحادث إلا رجلًا، يحنث بمحادلة رجلين أو ثلاثة لعدم العموم فيه. والدليل على العموم قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُم} 1. هذه الجملة وقعت تعليلًا للنهي عن نكاح المشركين من قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} . 8- "مَنْ" سواء كانت شرطية مثل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 2. أو استفهامية مثل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3. أو موصولة مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} 4. إلا أنها إذا كانت شرطية أو استفهامية أفادت العموم قطعًا، أما إذا كانت موصولة فإنها تكون للعموم تارةً، وللخصوص تارة، والقرائن هي التي تخصِّصُ أو تعمم.

_ 1 البقرة: 221. 2 النساء: 123. 3 البقرة: 255. 4 الحج: 18.

مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} 1. فإن المراد بمن في الآية بعض مخصوص من المنافقين، كما يفهم من السياق. 9- لفظ "كل" وما في معناه كجميع وأجمع، وعامة، وقاطبة، وديارًا، إلى آخره. فإن هذه الألفاظ لا يُرَاد بها إلّا العموم قطعًا. مثل قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} 2. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 3. {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 4. {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 5.

_ 1 محمد: 16. 2 الإسراء: 13. 3 فاطر: 10. 4 الحجر: 30. 5 نوح: 26.

دلالة العام

دلالة العام: اختلف العلماء في دلالة العام الذي لم يخصَّص بقرينة، هل هي ظنية أم قطعية. فذهب فريق من العلماء ومنهم الشافعية إلى أن دلالة العام الذي لم يخصص ظنية، واستدلوا على ذلك بأن كل عام يحتمل التخصيص، حتى قالوا: ما من عام إلا وخُصِّصَ، ولهذا يؤكَّد العام بكل وأجمع، وما إليهما من كل ما هو قاطع في العموم لإزالة احتمال التخصيص، والقطع لا يثبت مع الاحتمال. وذهب فريق من العلماء ومنهم الحنفية, إلى أن دلالة العام الذي لم يُخَصَّصُ قطعية؛ لأن اللفظ متى وضع لمعنى كان هذا المعنى لازمًا له، حتى يقوم دليل

على خلاف ذلك، وألفاظ العموم موضوعة للعموم، فيكون العموم لازمًا لها حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، كالخاصِّ فإن مدلوله يثبت به قطعًا حتى يقوم الدليل على صرفه عنه إلى غيره.

أنواع العام

أنواع العام: ينقسم العام إلى ثلاثة أنواع: الأول: ما أريد به العموم قطعًا، وهو الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، وتجعله باقيًا على عمومه. قال القاضي جلال الدين البلقيني: ومثاله عزيز، إذ ما مِنْ عام إلا ويُتَخَيَّلُ فيه التخصيص. وذكر الزركشي في "البرهان" أنه كثير في القرآن، وأورد منه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} . وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . فإنه لا خصوص فيها. الثاني: ما أريد به الخصوص قطعًا, وهو الذي دلَّت قرينة على تخصيصه. مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 1. فالمراد بالناس الأولى نُعَيْم بن مسعود، والمراد بالناس الثانية أبو سفيان2، لا العموم في كلٍّ منهما.

_ 1 آل عمران: 173. 2 راجع أسباب النزول في تفسير ابن كثير ج2 ص146.

يدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} 1. فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ} إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى به جمعًا لقال: "إنما أولئكم الشيطان". وأسباب النزول قرينة أخرى تخصص العموم في الآية. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2. فالناس في هذا النصِّ عام أُرِيد به خصوص المكلَّفين؛ لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين. الثالث: عام مطلق: وهو الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم, مثل: أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم مطلَقَة من القرائن اللفظية أو العقلية، أو العرفية.

_ 1 آل عمران: 175. 2 آل عمران: 97.

الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص

الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص: العام الذي أريد به الخصوص هو العام الذي صاحبته قرينة دالَّة على أن المراد به الخصوص لا العموم, كمثل قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 1. فإن لفظ "كل" في الآية من ألفاظ العموم، ولكنَّها لا تفيد العموم, بدليل قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} . فدَّلَت هذه القرينة على أن الريح التي أرسلها الله على قوم عاد قد دمَّرَت أشخاصهم دون مساكنهم، بدليل قوله تعالى أيضًا في سورة الحاقة:

_ 1 الأحقاف: 25.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 1. وقوله تعالى في سورة القمر: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} 2. ومثاله أيضًا قوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} 3. أي: من كل شيء تحتاج إليه في معاشها، فهو عموم أُرِيد به الخصوص لقرينة عقلية قد صحبته. كما نقول: في بيتنا كل شيء، ووهبني الله كل شيء، فأنت لا تقصد كل ما في الوجود، وإنما تقصد كل شيء تحتاج إليه، فهذا هو المعقول من الكلام. وأما العام المطلق فهو الذي لم تصحبه قرينة دالَّة على أن المراد به بعض الأفراد، فيظل ظاهرًا في العموم حتى تقوم قرينة. هذا. وننتقل الآن إلى بيان التخصيص، وأقسامه.

_ 1 آية: 7. 2 آية: 20. 3 النمل: 23.

أقسام التخصيص

أقسام التخصيص: ذكرنا في تعريف الخاص أنه: هو الذي لا يستغرق الصالح له من غير حصر. وكذرنا أن التخصيص: هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام، أي: قَصْرُ الحكم على بعض أفراد العام لقرينة تفيد ذلك. والمخصَّص قد يكون متَّصِلًا بالعام، وقد يكون منَفصِلًا عنه. والمتصل خمسة أنواع: أحدها: الاستثناء, كقوله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1.

_ 1 آية: 106.

فإن الاستثناء هنا خصَّصَ العموم في الآية، وجعله مقصورًا على مَنْ يكفر عن اختيارٍ ورضا، ولولا الاستثناء لكان شاملًا لكل كافر، مختارًا أو مكْرَه. وكقوله تعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1. فإن الاستثناء في الآية الثانية أخرَجَ من الوعيد العام من فَرَّ من القتال لخداع العدو، أو للانضمام إلى فئة مؤمنة ليتقوَّى بهم على العدو. الثاني: الصفة: فإنها غالبًا ما تكون قيدًا معتبرًا في تخصيص العام، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 2. فكلمة النساء تشمل المدخول بهنَّ وغير المدخول بهنَّ، ولكنها لمَّا وصفت بالدخول صارت قاصرة على النساء المدخول بهنَّ. وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 3. فكلمة الفتيات عامة تشمل المؤمنات وغير المؤمنات, لكنها لما وصفت بالمؤمنات صارت مقصورة على المؤمنات دون غيرهنّ. الثالث: الشرط؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} 4. فالشرط في هذه الآية قصر استحقاق الأزواج النصف على حالة عدم الولد، ولولاه لأفاد الكلام استحقاقهم للنصف في جميع الأحوال. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 5.

_ 1 آية: 15-16. 2 النساء: 23. 3 النساء: 25. 4 النساء: 12. 5 البقرة: 180.

فقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي: مالًا، شرط في الوصية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 1. أي: قدرة على الأداء، أو أمانة وكسبًا. الرابع: الغاية؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 2. فلو لم يقل -جل شأنه: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} لكان النهي عامًا في جميع الأحوال. وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن} 3. الخامس: يدل البعض من الكل؛ كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 4. فقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل من الناس، فيكون وجوب الحج خاصًّا بالمستطيع. وأما المخصَّص المنفصل: فهو ما كان في موضع آخر من آية أو حديث أو إجماع أو قياس. فما خُصَّ بالقرآن كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 5.

_ 1 النور: 33. 2 البقرة: 196. 3 البقرة: 222. 4 آل عمران: 97. 5 البقرة: 228.

فهو عام في كل مطَلَّقَة حاملًا كانت أو غير حامل، مدخولًا بها أو غير مدخول بها، خُصَّ بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1. وبقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} 2. وما خُصَّ بالحديث قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} 3. فقد خَصَّ هذا العموم الذي في الآية قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: "لا وصية لوارث". وما خُصَّ بالإجماع آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 4. خُصَّ منها بالإجماع الرقيق؛ لأن الرقَّ مانع من الإرث. وما خُصَّ بالقياس آية الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5. خص منها العبد بالقياس على الأمة التي نصَّ على تخصيصها عموم الآية في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 6. وبعد: فهذا ما أردت ذكره هنا من مسائل العموم والخصوص، ومن أراد التوسُّع فعليه بكتب أصول الفقه. والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.

_ 1 الطلاق: 4. 2 الأحزاب: 49. 3 البقرة: 180. 4 النساء: 11. 5 النور: 2. 6 النساء: 25.

المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد

المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد تعريف المطلق والمقيد ... المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد ترد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص مطلَقَة بأوامر ونواهٍ مختلفة غير مقيَّدَة بصفة معينة, أو حال مخصوصة، أو غاية محدَّدَة. وترد في القرآن والسُّنَّة أيضًا نصوص مقيَّدَة بقيود معتبرة في تقرير الحكم، لحكمة سامية ينص عليها الشارع حينًا، ويترك التنصيص عليها حينًا؛ ليدرِّبَ العقول على استنباطها بالقرائن الملحوظة من سياق الكلام، أو من العرف اللغوي، أو العرف الشرعي، أو العرف العادي. وفي الأحكام المطْلَقَة والمقيَّدَة رعاية لمصالح العباد في العاجل والآجل بوجه عام. هذا. والكلام في المطلق والمقيد مبسوطٌ في كتب الأصول, نكتفي منه هنا بذكر تعريف كلٍّ منهما، ونبيِّنُ خلاف العلماء بإيجاز في حمل المطلَقِ على المقيد، وهي أهم مسألة في هذا المبحث. تعريف المطلق والمقيد: المطلق: هو ما دلَّ على الحقيقة بلا قيد. أو هو كما قال الشوكاني1: "ما دلَّ على الماهية بلا قيد من حيث هي هي، من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده". وقال الآمدي2 في تعريف المطلق: "هو عبارة عن النكرة في سياق الإثبات. قال: فقولنا: "نكر ة", احتراز عن أسماء المعارف, وما مدلوله واحد معين, أو عام مستغرق.

_ 1 إرشاد الفحول ص164. 2 انظر الإحكام في أصول الأحكام ج3 ص2.

وقولنا: "في سياق الإثبات", احتراز عن النكرة في سياق النفي، فإنها تعمّ جميع ما هو من جنسها, وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق، وذلك كقولك في معرض الأمر: "اعتق رقبة"، أو مصدر الأمر كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} ، أو الإخبار عن المستقبل كقوله: "سأعتق رقبة", ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلِّق بالماضي كقوله: "رأيت رجلًا" ضرورة تعينه من إسناده الرؤية إليه. وإن شئت قلت: هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه. فقولنا: "لفظ" كالجنس للمطلق وغيره، وقولنا: "دال" احتراز عن الألفاظ المهملة، وقولنا: "على مدلول" ليعمَّ الوجود والعدم، وقولنا: "شائع في جنسه" احتراز عن أسماء الأعلام، وما مدلوله معيَّن أو مستغرق. قال: وأما المقيد فإنه يُطْلَقُ باعتبارين: الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلولٍ معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل، ونحوه. الثاني: ما كان من الألفاظ دالًّا على وصفٍ, مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك: دينار مصري، ودرهم مكي. وهذا النوع من المقيَّد، وإن كان مطلقًا في جنسه من حيث هو دينار مصري، ودرهم مكي، غير أنه مقيَّد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم، فهو مطلق من وجهٍ ومقيَّدٌ من وجه".

حكم حمل المطلق على المقيد

حكم حمل المطلق على المقيد: "المطلق والمقيد إذا وردا: فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفًا لحكم الآخر، أو لا يكون. والأول: مثل أن يقول الشارع: "آتوا الزكاة، وأعتقوا رقبة مؤمنة". ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد -ههنا؛ لأنه لا تعلُّق بينهما أصلًا.

وأما الثاني: فلا يخلو إمَّا أن يكون السبب واحدًا، أو يكون هناك سببان متماثلان، أو مختلفان. أ- فإن كان السبب واحدًا: وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلَق جزء من المقيَّد، والآتي بالكل آتٍِ بالجزء -لا محالة, فالآتي بالمقيَّد يكون عاملًا بالدليلين، والآتي بغير ذلك المقيَّد لا يكون عاملًا بالدليلين، بل يكون تاركًا لأحدهما. والعمل بالدليلين -عند إمكان العمل بهما- أولى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخر. ب- واختلفوا في الحكمين المتماثلين، إذا أطلق أحدهما وقُيِّدَ الآخر، وسببهما مختلف. مثاله: تقييد الرقبة -في كفارة القتل- بالإيمان وإطلاقها في كفارة الظهار. فمنهم من يقول: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظًا -وهم الشافعية. ومنهم من يقول: إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة -وهم الحنفية" أ. هـ1. "واحتجَّ الشافعية على ما ذهبوا إليه بأن المطلق والمقيَّد كالعام الذي يحتمل الخصوص، والمجمَل الذي يحتمل البيان، فإذا ورد مطلَق ومقيَّد وجب أن يكون الثاني مبينًا للأول. ويكون كلا النصين بمنزلة نص واحد، كالنص المجمَل مع النص المبين، حتى لا يؤدي إلى التناقض" أ. هـ2.

_ 1 انتهى بتصرف من المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص14 وما بعدها. 2 انظر "ميزان الأصول في نتائج العقول" لأبي بكر السمرقندي ج1 ص585، 586.

وقالوا أيضًا: "إن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدو فيه، فإذا نصَّ على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار"1. وضعَّفَ الإمام الرازي في "المحصول"2 قول الشافعية بقوله: "لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظِّهار رقبة كيف كانت, لم يكن أحد الكلامين مناقضًا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظًا" أ. هـ. وما احتجُّوا به من أن القرآن متحدٍّ في ذاته، فقد فنَّده الرازي وغيره من علماء الأصول، وحاصل ما ذكروه أنه لا يلزم من عدم حمل المطلَق على المقيَّد تناقض إذا كانت الأحكام مختلفة في أسبابها. فكفارة الظِّهار تختلف عن كفارة القتل من حيث السبب، ومن حيث الجرم، وتتابع الصيام في الظِّهار بخلاف الصوم في كفارة اليمين، فليس مَنْ حَنَثَ في يمينه كالذي ظاهر في امرأته. فالأول: يجوز له الحنث في اليمين إن حلف على شيء ورأى غيره خيرًا منه، ولهذا لم يشترط الشارع التتابع في كفارته بالصوم. والثاني: أتى منكرًا من القول وزورًا، فشُدِّدَت عليه العقوبة؛ فأُمِرَ بصيام شهرين متتابعين، إن لم يجد رقبة يعتقها. ولو كان عدم حمل المطلَق على المقيَّد يؤدي إلى التناقض في القرآن كما زعموا, لوجب أن يتقيد كل عام ومطلَق بكل خاصٍّ ومقيَّد. وأما الحنفية فقد احتجوا على ما ذهبوا إليه بقولهم: "إن حمل المطلَق على المقيَّد، خلاف عُرْفِ أهل اللغة، بل في عرفهم إجراء المطلق على إطلاقه، والمقيَّد على تقييده. فإن من قال لآخر: "أعتق عبيدي"، ثم قال بعد ذلك: "أعتق عبدي الأبيض"، فله أن يعتق أيَّ عبد شاء، ولا يتقيَّد بالأبيض.

_ 1 انظر "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدى ج3 ص6. 2 انظر الجزء الأول القسم الثالث ص219.

وكذا من قاله لامرأته: "إن دخلت الدار فأنت طالق"، ثم قال بعد ذلك: "إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق"، فدخلت راكبة أو ماشية يقع الطلاق، ولا يتقيَّد المطلق بصفة الركوب. وإذا كان عُرْفُ أهل اللسان هذا -يجب حمل كتاب الله تعالى وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المتعارف؛ لأن كلام الله تعالى نزل بلغة العرب على حسب عاداتهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1. والرسول -عليه السلام- منهم, فيكون كلامه محمولًا على تعارفهم في الأصل؛ ولأن في هذا نسخ المطلق، لأن النسخ ليس إلا بيان انتهاء مدة الحكم. ومن حمل المطلَق على المقيَّد -وقَبْلَ التقييد يجوز العمل به، وبعده لا يجوز- فقد انتهى حكم المطلق ضرورة. والنسخ لا يجوز إلّا عند تساوي الدليلين. والقياس وخبر الواحد لا يساوي الكتاب, والمتواتر" أ. هـ2. أقول: لكلٍّ من المذهبين السابقين وجاهته، وإن كانت النفس إلى مذهب الحنفية أَمْيَلُ، لقوة حجتهم -والله أعلم.

_ 1 إبراهيم: 4. 2 انظر "ميزان الأصول" لأبي بكر السمرقندي ج1 ص588، 589.

المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين

المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين تعريف المجمل والمبين ... المبحث الرابع والعشرون: المجمَل والمبيِّن في القرآن والسُّنَّة نصوص لا تحتمل إلّا وجهًا واحدًا من المعاني، وفيه نصوص تحتمل أكثر من معنى, إلّا أن هناك دليلًا يرجِّح معنًى منها، وهو ما يُسَمَّى في عُرْفِ الأصوليين بالظاهر، كما يُسَمَّى الأول بالنص. وفي القرآن والسُّنَّة نصوص مجمَلَة بيَّنَتْها نصوص أخرى، فأزالت إبهامها، ووضَّحت المراد منها، وقد سبق في تعريف المحكَم والمتشابِه تعريف الإمام الرازي للنصِّ والظاهر والمجمَل، والمؤوَّل، بإيجاز. وهنا نبيِّنُ -بعون الله تعالى- تعريف المجمَل بشيء من البَسْطِ, ثم نذكر أقسامه، وما يتعلَّق بهذه الأقسام من المسائل الأصولية. تعريف المجمَل والمبَيِّن: "المجمَل في عُرْفِ الفقهاء: ما أفاد شيئًا من جملة أشياء, هو متعيِّنٌ في نفسه، واللفظ لا يعينه"1. كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} . فلفظ {أَقِيمُوا} يفيد وجوب فعل متعيِّن في نفسه، غير متعيِّن بحسب اللفظ، لهذا احتاج إلى مبيِّنٍ يبينه. "والمبيِّن هو: ما يفرِّق بين الشيء وما يشاكله, فهو دلالة على المعنى المراد على سبيل البَسْطِ والتفصيل. ويعرفه الفقهاء بأنه الذي دلَّ على المراد بخطاب لا يستقلّ -بنفسه- في الدلالة على المراد"2. فالمجمَل هو المبهَم الذي لا يتَّضِحُ المراد منه إلّا بقرينة شرعية تزيل إبهامه وتوضِّحُ المراد منه. فهو كما قال السرخسي3: "لفظ لا يُفْهَمُ المراد منه إلّا باستفسار من المجمَل, وبيانٍ من جهته يُعْرَفُ به المراد".

_ 1 انظر "المحصول" ج1 ق3 ص231. 2 انظر المرجع السابق ص226. 3 أصول السرخسي ج1 ص168.

فهو لفظ خفي المراد منه بحيث لا يدرك إلإ ببيان من المتكلم به؛ إذ لا قرينة تدل على معناه الذي قصده المتكلم. فسبب الخفاء في المجمل لفظي لا عارضي، أي أن اللفظ المجمل لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، بل لا بد من الرجوع إلى الشارع نفسه لمعرفة المراد من اللفظ". وفيما يلي ذكر بعض الأسباب التي يكون بها اللفظ مجملًا يحتاج إلى بيان من قبل الشارع الحكيم.

أسباب الإجمال

أسباب الإجمال: وقد عرف الآمدي المجمل بتعريف رأي أنه الحق، فقال: "المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه". وهو لا يبعد كثيرًا عن التعريف السابق. ثم ذكر بعد شرح التعريف الأسباب التي تؤدي إلى الإجمال، فقال: "وقد يكون ذلك في لفظ مفرد مشترك عند القائلين بامتناع تعميمه، وذلك إما بين مختلفين، كالعين للذهب والشمس، والمختار1 للفاعل والمفعول، أو ضدين كالقروء للطهر والحيض. وقد يكون في لفظ مركب، كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . فإن هذه مترددة بين الزوج والولي. وقد يكون ذلك بسبب التردد في عود الضمير إلى ما تقدمه، كقولك: كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه. فإن الضمير في "هو" متردد بين العود إلى الفقيه، وإلى معلوم الفقيه، والمعنى يكون مختلفًا، حتى إنه إذا قيل بعوده إلى الفقيه كان معناه: فالفقيه كمعلومه، وإن عاد إلى معلومه، كان معناه: فمعلومه على الوجه الذي علم.

_ 1 مختار: أصله: مختير -بكسر الياء وفتحها, والأول اسم فاعل, والثاني اسم مفعول، ولا يُعْرَف أي المعنييين أُرِيدَ باللفظ إلا ببيان.

وقد يكون ذلك بسبب الوقف والابتداء. كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 1. فالواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} مترددة بين العطف والابتداء، والمعنى يكون مختلفًا. وقد يكون ذلك بسبب تردد الصفة، وذلك كما لو كان زيد طبيبًا غير ماهر في الطب، وهو ماهر في غيره، فقلت: "زيد طبيب ماهر", فإن قولك: "ماهر", متردد أن يراد به كونه ماهرًا في الطبِّ، فيكون كاذبًا، وبين أن يراد به غيره فيكون صادقًا. وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذُّر حمله على حقيقته. وقد يكون بسبب تخصيص العموم بصور مجهولة، أو بصفة مجهولة، كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} 2. فإن تقييد الحلِّ بالإحصان، مع الجهل بما هو الإحصان يوجب الإجمال فيما أُحِلَّ. أو باستثناء مجهول كقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} 3. فإنه مهما كان المستثنى مجمَلًا فالمستثنى منه كذلك, وكذلك الكلام في تقييد المطلق. إلى آخر ما قاله" أ. هـ4.

_ 1 آل عمران: 7. 2 النساء: 24. 3 المائدة: 1. 4 بتصرف من "ألإحكام في أصول الأحكام" ج3 ص11 وما بعدها.

أقسام المجمل

أقسام المجمَل: ينقسم المجمَل إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما كان اللفظ فيه محتمِلًا لمعانٍ كثيرة, ولم يكن حمله على بعضها أَوْلَى من الباقي. الثاني: ما يُحْكَمُ عليه بالإجمال -حال كونه مستعملًا في بعض موضوعه- فهو: كالعام المخصوص بصفة مجمَلة، أو استثناء مجمَل، أو بدليل منفصَل مجهول. مثال الصفة قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} . فإنه تعالى لو اقتصر على ذلك لم يفتقر فيه إلى بيان، فلمَّا قيَّدَه بقوله: {مُحْصِنِين} , ولم ندر ما الإحصان, لم نعرف ما أبيح لنا1. ومثال الاستثناء قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} . ومثال الدليل المنفصل المجهول: كما إذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} -المراد بعضهم لا كلهم. الثالث: "ما يُحْكَمُ عليه بالإجمال، حال كونه مستعمَلًا لا في موضوعه، ولا في بعض موضوعه، فهو ضربان: أحدهما: الأسماء الشرعية. والآخر: غيرها. مثال الأول: كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة -ونحن لا نعلم انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال- احتجنا فيه إلى بيان. والثاني: الأسماء التي دلَّت الأدلة على أنه لا يجوز حملها على حقائقها، وليس بعض مجازاتها أولى من بعض -بحسب اللفظ- فلا بُدَّ من البيان". أ. هـ2.

_ 1 لأن للإحصان معانٍ عدة، إذ يطلق على الزواج، وعلى الإعفاف، وعلى الحرية, فكان هذا اللفظ مجملًا يحتاج إلى بيان، لكنه مبيَّن في الآية بقوله: {غَيْرَ مُسَافِحِين} , فظهر أن المراد بالإحصان هو النكاح. 2 بتصرف من "المحصول" ج1 ق3 ص233 وما بعدها.

أقسام المبين

أقسام المبيِّن: المبيِّن -بتشديد الياء وكسرها- هو كما عرفت: ما يفرِّق بين الشيء وما يشاكله، ويدل على المراد بخطاب لا يستقل -بنفسه- في الدلالة على المراد. وقد قسَّمه الإمام الرازي 1 إلى ثلاثة أقسام: الأول: بيان بالقول, وهو ظاهر. والثاني: بيان بالفعل، بأن يرد اللفظ في القرآن، أو في السُّنَّة محتملًا لعدة معانٍ، فيعلم من كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أحد المعاني هو المراد مستدِلًّا على ذلك بفعله -صلى الله عليه وسلم, ولا يُعْلَمُ كَوْنُ الفعل بيانًا للمجمل إلّا بأحد أمور ثلاثة: أ- أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. ب- أن يعلم بالدليل اللفظي وهو أن يقول: هذا الفعل بيان لهذا المجمَل، أو يقول أقوالًا يلزم من مجموعها ذلك. ج- أن يعلم ذلك بالدليل العقلي، وذلك أن يذكر المجمَل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلًا يصلح أن يكون بيانًا له، ولا يفعل شيئًا آخر، فيُعْلَم أن ذلك الفعل بيان للمجمَل، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. الثالث من أنواع المبين: الترك. قال الإمام الرازي: اعلم أن الفعل يبيِّن الصفة، ولا يدل على وجوبها، وترك الفعل يبيِّن نفي وجوبه، وذلك على أربعة أضرب: أحدها: أن يقوم من الركعة الثانية إلى الثالثة، ويمض على صلاته، فيُعْلَم أن هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة، وإلّا لم تصح مع عدم شرط الصحة، ويدل على أنه ليس بواجب أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أن يتعهَّد ترك الواجب. وثانيها: أن يسكت عن بيان حكم الحادثة, فيُعْلَم أنه ليس فيها حكم شرعي. وثالثها: أن يكون ظاهر الخطاب متناولًا له ولأمته على سواء، فإذا ترك الفعل: دلَّ على أنه كان مخصوصًا من الخطاب، ولم يلزمه ما لزم أمته.

_ 1 راجع المحصول ج1 ق3 ص261.

ورابعها: أن يتركه بعد فعله إياه, فيُعْلَم أنه قد نُسِخَ عنه. ثم ينظر, فإن كان حكم الأمة حكمه نُسِخَ عنهم أيضًا، وإلّا كان حكمهم بخلاف حكمه -والله أعلم"1.

_ 1 المراجع السابق.

حكم المجمل

حكم المجمَل: ينبغي التوقُّف في العمل بالمجمَل إلّا إذا ورد من الشارع ما يزيل إجماله ويكشف معناه. وقد وردت في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة ألفاظ كثيرة مجملة في مواضع، مبينة في مواضع أخرى بيانًا وافيًا. ووردت ألفاظ أخرى مجملة مبينة بعض البيان، فكانت هذه الألفاظ من قبيل المشْكَل الذي يحتاج إلى نظر وتأمُّل، لإزالة إشكاله ومعرفة المقصود منه. ومن النادر جدًّا أن تجد ألفاظًا في القرآن الكريم غير واضحة الدلالة على المعنى المراد على وجه من الوجوه المعقولة، بل ذلك مفقود فيه؛ لأن القرآن الكريم قد نزل هداية للخلق، ومنهجًا للحياة، فجاء من أجل ذلك مبينًا في معانيه ومراميه. وقد أمرنا الله بتدبُّر آياته، فكان مقتضى ذلك الأمر أن تكون معانيه في مستوى إدراكنا على وجه مقبول شرعًا وعقلًا، حتى الأشياء التي اختص الله بعلمها لم يخف الله -جل شأنه- عنا دلالتها على المعنى الذي يمكننا تصوره, على نحو يناسب عقولنا, كما تقدَّمَت الإشارة إلى ذلك عند الكلام عن تعريف المحكَم والمتشابِه.

المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي

المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي تعريفه ... الفصل الخامس والعشرون: المشترك اللفظي هناك ألفاظ لها أكثر من معنى، وأكثر من مدلول في وضع اللغة، بأن تكون قبيلة من القبائل العربية قد استعملت اللفظ في معنى غير الذي استعملته قبيلة أخرى، فينزل القرآن الكريم بهذه الألفاظ المشتركة بين تلك المعاني المختلفة، فيقع الإبهام بسبب اشتراكها, كما وقع بسبب إجمالها. وهناك فرق بين المجمَل والمشترك، وهناك فرق بين المشترك اللفظي والمعنوي، كما إن هناك فرقًا بين العام والمجمَل، والخاص والمقيد. وهذه الفروق تفهم من تعريف كل واحد منها. وسنحاول هنا أن نجلو لك معنى المشترك بصوره المختلفة, ونبين لك أسبابه، وحكمه، وغير ذلك من المسائل التي تتعلق به، وذلك بإيجاز. تعريفه: "المشترك اللفظي عند الأصوليين: لفظ يتناول أفرادًا مختلفة الحدود على سبيل البدل. أو بتعبير آخر: المشترك اللفظي: لفظ وُضِعَ لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، فهو إذن لم يوضع لمجموع ما يدل عليه بوضع واحد، بل بأوضاع متعددة، أي: وُضِعَ لكل معنًى من معانيه بوضع على حدة، كان يُوضَعُ لهذا المعنى, ثم يوضع مرة ثانية لمعنًى آخر، وهكذا. فمن المشترك الموضوع لمعنيين فقط "القرء": فقد وُضِعَ للطهر والحيضة. ومن المشترك الموضوع لأكثر من معنيين، لفظ "العين"، فقد وُضِعَ لعدة معانٍ، منها: العين الباصرة، وعين الماء، والجاسوس، والسلعة. ووضع هذا اللفظ لهذه المعاني كان وضعًا متعددًا، أي: وضع لكل معنى من هذه المعاني وضع على حدة.

وكالمولى وضع للمعتق وللعتيق"1.

_ 1 "الوجيز في أصول الفقه" د. عبد الكريم زيدان ص326.

أسباب وجوده في اللغة

أسباب وجوده في اللغة: ذكر العلماء لوجود المشترك في اللغة أسبابًا أهمها: 1- اختلاف القبائل العربية في وضع الألفاظ لمعانيها، فقد تضع قبيلة لفظًا من الألفاظ لمعنى من المعاني، وتضعه قبيلة أخرى لمعنى آخر، وأخرى تضعه لمعنى ثالث، فيتعدَّد الوضع، وينقل إلينا اللفظ مستعملًا في هذه المعاني دون أن ينصَّ علماء اللغة على تعدد الوضع أو الواضع. 2- قد يوضع اللفظ لمعنى، ثم يستعمَل في غيره مجازًا، ثم يشتهر استعمال المجازي، حتى يُنْسَى أنه معنى مجازي للفظ، فيُنْقَل إلينا على أنه موضوع للمعنيين الحقيقي والمجازي. 3- أن يكون اللفظ موضوعًا لمعنى مشترك بين المعنيين، فيصح إطلاق اللفظ على كليهما، ثم يغفل الناس عن هذا المعنى المشترك الذي دعا إلى صحة إطلاق اللفظ على كلا المعنيين، فيظنون أن اللفظ من قبيل المشترك اللفظي. كلفظ القرء, فإنه في اللغة يطلق على كل زمان اعتمد فيه أمر معين، فيُقَال للحمَّى قرء، أي: زمان دوري معتاد تكون فيه, وللمرأة قرء، أي: وقت دروي تحيض فيه، ووقت دوري آخر تطهر فيه. وكالنكاح: لفظ وضع لمعنى الضمِّ، فصح إطلاقه على العقد ذاته؛ لأنه فيه ضم اللفظين: الإيجاب والقبول. وصحَّ إطلاقه على الوطء أيضًا: ولكن اشتُهِرَ إطلاقه على العقد، فظنَّ البعض أنه حقيقة فيه مجاز في غيره، وظنَّ البعض الآخر أنه في الوطء حقيقة، وفي العقد مجاز. 4- أن يكون اللفظ موضوعًا لمعنى في اللغة، ثم يوضع في الاصطلاح لمعنى آخر. كلفظ "الصلاة": وُضِعَ لغةً للدعاء، ثم وُضِعَ في اصطلاح الشرع للعبادة المعروفة.

حكمه

حكمه: إذا ورد في الكتاب أو السُّنَّة لفظ مشترك ينظر فيه، فإن كان مشتركًا بين معنيين أحدهما لغوي، والآخر شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي؛ لأنه المقصود بالحكم. وإن كان مشتركًا بين معنيين أو أكثر لغة، وجب حمله على معنى واحد منها, بدليل يدل على هذا الحمل. ففي قوله تعالى -مثلًا: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} . يُحْمَلُ على معناه الشرعي، وهو حمل العصمة الزوجية، ولا يُحْمَلُ على معناه اللغوي الذي هو حل القيد مطلقًا. وقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} . يُحْمَلُ على الصلاة بمعناها الشرعي، وهي العبادة ذات الأقوال والأفعال المخصوصة المفتتحة بالتكبير، المختَتَمَة بالتسليم، ولا يُحْمَلُ على معناها اللغوي، وهو الدعاء. والسبب في حمل المشترك على معناه الاصطلاحي لا اللغوي، هو أنَّ الشارع لما نقل هذا اللفظ عن معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي الشرعي الذي استعمله فيه, كان اللفظ في عُرْفِ الشارع متعيِّن الدلالة على ما وضعه الشارع له، فيجب المصير إليه. وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1. نجد لفظ "القرء" محتملًا لمعنيين لغوين، فلا بُدَّ إذًا من أن يكون أحد المعنيين مرادًا على التعيين: إما الحيض، وإما الطُّهْر. وعلى المجتهد أن يبذل جهده لمعرفة المراد منه. ولهذا اختلف الفقهاء في المراد منه على مذهبين، وجاء كل فريق بأدَّلة متساوية، كما يقول ابن رشد في "بداية المجتهد" عند كلامه على هذه المسألة، وكل فريق أخذ بما ترجَّح عنده بالأدلة التي رآها أقوى من غيرها.

_ 1 البقرة: 228.

ومن ذلك أيضًا لفظ "الكلالة" الذي ورد في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 1. فإن لهذا اللفظ معانٍ, أشهرها معنيان: الأول: القرابة التي ليس فيها للميت والد ولا ولد. الثاني: وهو قول ابن الأعرابي: إنها بنو العم الأباعد. والأول هو قول الجمهور2. فعلى المجتهد أن يتبيِّن المعنى المراد من كلمة "كلالة" بالرجوع إلى القرائن ونصوص المواريث.

_ 1 النساء: 12. 2 راجع "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ج5 ص76 وما بعدها.

المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة

المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة مدخل ... المبحث السادس والعشرون: النَّسْخ في القرآن والسُّنَّة قضية النَّسْخِ في القرآن والسُّنَّة قضية شائكة يحتاج البتُّ فيها إلى جهود مكثَّفَة من قِبَلِ الباحثين في التشريع الإسلامي؛ لدرء الخلاف حوله بين القدامى والمعاصرين، وتقريب وجهات النظر بين القائلين به والمنكرين له. وهذا وذاك لا يتأتَّى إلا بعد تحرير موطن النزاع، ووضع أصول التشريع العامة في وضعها الصحيح، وتقرير المسائل الخلافية على بساط البحث والنظر وفق الأدلة التي لا يتطرَّق إليها الاحتمال. وكان شيوخنا يقولون: إن تحرير موطن النزاع يحسم كثيرًا من المواقف الخلافية، ويوفِّر على الباحثين جهدًا كبيرًا في القيل والقال. ووضع أصول التشريع العامة في موضعها الصحيح يمكِّنُ الباحثين من القياس الصحيح، ويجعلهم قادرين -بحول الله وقوته- على وضع كل فرع تحت أصله، وبذلك لا يكون هناك خلط ولا تخبُّط. وتقرير المسائل الخلافية وفق الأدلة التي لا يتطرَّق إليها الاحتمال -يطرد التردد ويوجب الإقناع، فلا يكون هناك إشكال حيث لا يكون هناك احتمال. ولذا قالوا: كل ما يتطرَّق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال. ولا تظننَّ -أيها القارئ الكريم- أني سأفضَّ النزاع وأحسم الخلاف بين القائلين بالنَّسْخِ والمنكرين له، وأدلي في هذه القضية بحكم لا رادَّ له ولا معقِّبَ عليه؛ فذاك أمر بعيد المنال عني وعن أمثالي ممن قلَّ علمهم وقصرت همهم، ولكني سأدلي بدلوي, فما خرج به الدلو من ماء فخذه, وأطلب من الله المزيد {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . وسأعرض في هذه الصفحات بالبحث والدراسة لمفهومه في اللغة والشرع،

كخطوة في الطريق إلى تحرير موطن النزاع، وأتكلًّمُ عن حكمه ودليل وقوعه عند القائلين به، وأذكر أنواعه بشيء من التفصيل، إلى آخر ما يتعلق به من المسائل، وأحاول جهدي أن أتحرَّى الدقة والأمانة في تحرير المسائل ونسبة الأقوال لقائليها، والفصل بين القائلين بالنَّسْخِ والمنكرين له, على ضوء ما قال هؤلاء وهؤلاء في تفسير الآيات التي بدا لكثير من الباحثين أنها منسوخة. والحق أننا لو عرفنا تعريف النَّسْخِ عند المتقدمين وعند المتأخرين لاستطعنا أن نعتبر الخلاف في هذه القضية لفظيًّا، نشأ من توسعة دائرته عند المتقدمين وتضيقها عند المتأخرين؛ ولهذا كان تحرير مواطن النزاع ضروريًّا في أي قضية يراد البتّ فيها. ولقد قرأت في موضوع النَّسْخِ كثيرًا من الكتب التي ألَّفَها كبار العلماء من القدامى والمعاصرين، ووقفت على وجهات النظر المختلفة، وخرجت برأي يجمع بين ما رآه هؤلاء وهؤلاء في هذه القضية الشائكة، ولكني لا أصرِّح به الآن، وسوف يعلمه القارئ من خلال العرض في هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى.

مفهوم النسخ في اللغة

مفهوم النَّسْخِ في اللغة: يذكر اللغويون لمادة النَّسْخِ عدة معانٍ تدور حول: النقل والإثبات، والتبديل والتحويل، والرفع والإزالة. قال ابن فارس في مقاييس اللغة: "النون والسين والخاء أصل واحد، إلّا أنه مختلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه. وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء". أ. هـ. وقال ابن منظور في لسان العرب: النَّسْخُ تبديلُ الشيء من الشيء وهو غيره ... ، والنسخ: نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو. يقال -مثلًا- نسخت الكِتَاب، أي: نقلت ما فيه مع بقائه كما هو. وقد سُمِّيَتْ النسخة نسخة؛ لأنه ينقل الشيء من غيرها إليها.

ويقال: نسخت الشمس الظلَّ, أي: أزالته, ونسخت الحكم: رفعته بحكم آخر. وقد استعمل القرآن الكريم مادة النَّسْخِ في هذه المعاني وما يماثلها. أما النقل والإثبات فقد جاء في قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1 أي: ننقله بعناية ودقة, ونثبته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها. وأما التبديل والتحويل فقد جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 2. وأما الرفع والإزالة فقد جاء في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} 4.

_ 1 الجاثية: 29. 2 النحل: 101. 3 البقرة: 106. 4 الحج: 52.

مفهوم النسخ في الشرع

مفهوم النَّسْخِ في الشرع: وأما مفهومه في الشرع فهو موضع خلاف بين القدامى والمحدثين، وهو الأمر الذي وسع دائرة الخلاف بين المقرِّين به والمنكرين له من جهة، وجعل المقرِّين به ينقسمون إلى مقلٍّ ومكثرٍ فيما نسخ وما لم ينسخ من جهة أخرى. فقد فهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعون من بعدهم النَّسْخَ فهمًا أوسع مدًى، وأبعد غورًا من فهم المحدثين له. فقد كانوا يرون أن النَّسْخَ: هو مطلق التغيير الذي يطرأ على بعض الأحكام، فيرفعها بأحكام أخرى تحلُّ محلها، أو يخصِّصُ الأحكام بعد أن كانت عامة، أو يقيدها بعد أن كانت مطلقة، فالنَّسْخُ عندهم يشمل الرفع الكلي، والرفع الجزئي.

وهذا المفهوم أخذ بالمعنى المشترك للفظ النَّسْخِ في اللغة. هذا هو مفهوم النَّسْخِ عند المتقدمين، أما مفهومه عند المتأخرين فهو مفهوم ضيق مقصور على الرفع والإزالة. فقد عرَّفوا النَّسْخَ بأنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخِّرٍ عنه. فهذا التعريف قد أخرج تخصيص العام وتقييد المطلق بالاستثناء، أو بالصفة، أو بالحال، أو بالزمان، أو بالمكان, وغير ذلك من أنواع التخصيص والتقييد. ومن هنا نعلم أن الصحابة والتابعين قد عدُّوا في المنسوخ آيات كثيرة بحسب مفهومهم الواسع لمعنى النَّسْخِ. وأما المحدَثون فقد اقتضاهم التوسُّع في البحوث العلمية إلى التقسيمات والتفريعات؛ فأخرجوا من مفهوم النَّسْخِ بعض ما كان يشمله اللفظ. وما فعلوه لا يدل على أنهم خالفوا الصحابة والتابعين، أو خرجوا عَمَّا قرروه في أمر الناسخ والمنسوخ؛ فللباحث أن يقسِّمَ بحثه إلى قضايا ومسائل حسبما شاء, بشرط أن لا يخرج عن المفهوم العام للموضوع الذي يبحث فيه. وهذا الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين والذي اقتضاه التطور العلمي لن يغيِّرَ شيئًا من الأحكام الشرعية التي قرَّرَها الصحابة والتابعون، ونقلوها إلينا بدقة وأمانة، ما دمنا نعرف الحقائق التي كانوا يطلقون عليها اسم النَّسْخِ، ونستطيع أن نتبيَّن ما يُسَمَّى من بينها نسخًا في اصطلاحنا، وما خصَّه اصطلاحنا المتأخِّر عن زمانهم باسم آخر. فالخلاف إذًا بين المتقدمين من الصحابة والمتأخرين من الأصوليين اصطلاحي.

أدلة جواز النسخ

أدلة جواز النَّسْخِ: استدلَّ جمهور العلماء على جواز النَّسْخِ بالعقل والنقل والتاريخ. أما العقل: فلا يمنع جوازه؛ لأنه لا يترتَّب على وقوعه محال. والواقع التاريخي -أيضًا- يؤكد وقوع النَّسْخِ بنوعيه: نسخ الشرائع

السابقة بالإسلام، ونسخ الحكم في شريعة الإسلام بحكم آخر متأخِّرٍ عنه، والوقوع خير شاهد على الجواز. وقد اعتمد المجوّزون له على ثلاث آيات من القرآن الكريم: الأولى: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 2. الثالثة: قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 3. فإذا قرأت أكثر كُتُبِ المفسّرين وجدتهم يحملون النَّسْخَ في آيتي البقرة والنحل على نسخ الحكم، ووجدت بعضهم يحمله على نسخ الحكم والتلاوة، فيقسِّمون النَّسْخَ بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام هي: نسخ الحكم فقط، ونسخ الحكم والتلاوة معًا، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وسيأتي لهذا التقسيم وغيره تفصيل وتمثيل. أما آية الرعد، فقد حملها أكثرهم على نسخ الشرائع، فكل شريعة تنسخ الأخرى, وشريعتنا ناسخة لجميعها، بمعنى أنها نسخت كثيرًا من الأحكام الجزئية التي لا تتفق مع مصالحنا الدنيوية والأخروية. فالشريعة السماوية لا تنسخ الأصول العامة ولا القواعد الكلية؛ لأنها متفقة عليها، لا تختلف فيها شريعة عن أخرى، على ما سيأتي بيانه. على أن المحوَ والإثبات في الآية يتناول كل ما من شأنه أن يُمْحَى، وكل ما

_ 1 البقرة: 106. 2 النحل: 101. 3 الرعد: 39.

من شأنه أن يثبت، فيدخل فيها نسخ الأحكام الجزئية في شريعتنا بمقتضى هذا العموم. لهذا جعلها كثير من العلماء من أدلة الجواز.

ما يقع فيه النسخ

ما يقع فيه النَّسْخُ: اعلم أن النَّسْخَ لا يكون إلّا في الأحكام الشرعية العملية الثابتة بالنصِّ، غير المؤقتة بوقت ولا مؤبَّدة نصًّا، وليست من القواعد الكلية، فالنَّسْخُ لا يتأتَّى في الأحكام العقدية؛ لأنها ثابتة محكَمَة في جميع الشرائع السماوية، ولا في الأحكام الشرعية العملية التي لم يرد فيها نصٌّ من القرآن ولا من السُّنَّة؛ كالأحكام التي يكون دليلها الإجماع، أو القياس. ولا يتأتَّى في الأحكام المؤقتة بوقت؛ لأنها تنتهي بوقتها. ولا في الأحكام المنصوص على تأبيدها؛ لأن النَّسْخَ فيها يتناقض مع التأبيد، بشرط أن يكون التأبيد منصوصًا عليه. ولا يلحق النَّسْخَ القواعد الكلية التي تندرج تحتها الفروع الجزئية؛ لأن هذه القواعد مقاييس تبنى عليها الأحكام، كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2. وهي كثيرة جدًّا في القرآن والسنة. فلا نسخ إذًا في الأمور الاعتقادية المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخِر. ولا نسخ في الأصول الأخلاقية؛ لأنها من الأمور المتَّفَقِ عليها في الشرائع السماوية. كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3.

_ 1 البقرة: 286. 2 راه مالك في الموطأ. 3 الأعراف: 199.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} 2. ولا نسخ في أصول العبادات والمعاملات؛ لأن الشرائع كلها لا تخلو من هذه الأصول، وهي متفقة فيها. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 3. وقال تعالى أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4. وقال تعالى أيضًا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} 5. قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 6. ولا يدخل النَّسْخَ الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب، كالقصص، والوعد والوعيد. وإذا علمت أن النَّسْخَ لا يدخل إلا الأحكام الشرعية العملية غير المؤقتة بوقت ولا مؤبَّدة بالنص، فينبغي أن تعلم أن هذه الأحكام العملية منها ما ورد صريحًا، كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} . ومنها ما ورد في صورة الخبر، ومعناه الأمر أو النهي، وهو كثير في القرآن, كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي: صوموا أيها المؤمنون.

_ 1 النحل: 90. 2 لقمان: 18. 3 الشورى: 13. 4 البقرة: 183. 5 الحج: 27. 6 المائدة: 45.

وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} أي: لتحجُّوا أيها الناس إن استطعتم إلى الحج سبيلًا. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} معناه: لا تخرجوهن من مساكنهن. وقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} معناه: لا تنكحوا الزانية أو المشركة. فهذه الأوامر والنواهي التي جاءت في صورة الخبر يدخلها النَّسْخ.

أنواع النسخ

أنواع النسخ الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه ... أنواع النَّسْخِ: قسَّمَ العلماء النَّسْخَ أقسامًا متعددة باعتبارات مختلفة، سنكتفي في كتابنا هذا بذكر بعضها بإيجاز، فنقول: ينقسم النَّسْخُ باعتبار التلاوة والحكم إلى ثلاثة أقسام. الأول: ما نُسِخَت تلاوته وبقي حكمه فقد روي أنه كان في سورة النور آية, ثم نُسِخَت تلاوتها وبقي حكمها وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله". وروي أن عمر قال: "لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي. وقد أنكر كثير من العلماء هذا الضَّرْبَ لعدم فهمهم الحكمة منه؛ ولضعف دليله؛ لأنه من قبيل أحاديث الآحاد التي يتطرَّق إليها الاحتمال, فيسقط به الاستدلال. وقد بالغ الدكتور مصطفى زيد في إنكار هذا الضَّرْبِ بالطعن في صحة النصوص الواردة في ذلك فقال فيما قال: "أما الآثار التي يحتجون له بها -وهي تنحصر في آيتي رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا، وتحريم الرضعات الخمس- فمعظمها مرويٌّ عن عمر وعائشة

رضي الله عنهما، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما، بالرغم من ورودها في الكتب الصِّحاح؛ فإن صحة السَّنَد لا تعني في كل الأحوال سلامة المتن. على أنه قد ورد في الرواية من عمر قوله بشأن حدِّ الرجم فيما زعموا: "ولولا أن يقال: زاد عمر في المصحف لكتبتها", وهو كلام يوهم أنه لم يُنْسَخْ لفظًا أيضًا، مع أنهم يقولون: إنها منسوخة اللفظ باقية الحكم. كذلك ورد نصُّ الآية في الروايات التي أوردته بعبارات مختلفة، فواحدة منها تذكر قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة، وواحدة لا تذكره, وثالثة تذكر عبارة "نكالًا من الله", ورابعة لا تذكرها. وما هكذا تكون نصوص الآيات القرآنية ولو نُسِخَ لفظها. وفي بعض هذه الروايات جاءت بعض العبارات التي لا تتفق ومكانة عمر ولا عائشة, مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسِّهَا على المسلمين"1.

_ 1 "النَّسْخُ في القرآن الكريم" ج1 ص283.

الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته

الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته وهو كثير في الكتاب والسُّنَّة, ومن أجله صُنِّفَتْ الكتب، ولا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا مفهومه الواسع المنسوب إلى الصحابة والتابعين. "وقد أنكر قوم هذه الضرب بدعوى أن التلاوة والحكم متلازمان، فلا يصحُّ رفع أحدهما مع بقاء الآخر، ورفع الحكم يجعل التلاوة خالية من الفائدة، فلا يجوز. ثم إن نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، يوهم بقاء الحكم، فيعرِّض المكلَّف للجهل والخلط في الشريعة والأحكام. ورُدَّ على هذه الشبهة بردِّ دعوى التلازم، والآية بعد نسخ حكمها لا تكون خالية من الفائدة، بل معناها قائم عُطِّلَ العمل به دليل آخر، وفي ثبوتها تذكر بنعمة الله تعالى؛ إذ كان الحكم المنسوخ أشد، واختبار بالانصياع والتسليم إذا كان الحكم المنسوخ أخف، ثم في تلاوتها تعبُّد وأجر.

أما شبهة إيهام بقاء الحكم، وتعريض المكلَّف للجهل والخلط, فهي مردودة بأن النَّسْخَ لا يُصَارُ إليه إلّا بدليل معلوم للمكلَّف، وإذا عُلِمَ الدليل الناسخ زال الجهل, وبَعُدَ احتمال الخلط في الأحكام1.

_ 1 انظر اللآلئ الحسان ص202، 203.

الثالث: نسخ الحكم والتلاوة

الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة وهذا النوع من النَّسْخِ جائز عقلًا، ولكنه لم يقع. وقد وردت في وقوعه آثار ذكرها الطبري وغيره, لا يعوَّل عليها، لهذا ضربنا عنها صفحًا.

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

النَّسْخُ إلى بدل, وإلى غير بدل: ينقسم النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل. أما القسم الأول: فلا خلاف فيه بين العلماء، وأمثلته كثيرة سيأتيك كثير منها إلى جانب ما قد مضى ذكره، ومعناه: أن الشارع الحكيم إذا نسخ حكمًا أبدله بحكم آخر أخفَّ منه، أو أثقل منه، أو مساوٍ له، لحكمة نعلمها أو لا نعلمها. أما النَّسْخُ إلى غير بدل, فقد وقع فيه الخلاف بين الأصوليين، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. ومن المانعين له الشافعي -رضي الله عنه، وهو أوَّل من وضع علم الأصول على الراجح من أقوال المؤرِّخين. فقد قال في الرسالة1: "وليس يُنْسَخُ فرض أبدًا إلّا أُثْبِتَ مكانه فرض، كما نُسِخَت قِبْلَةُ بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة، وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا". ومن المجوِّزين: الآمدي2, فهو يقرِّرُ أن مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل، خلافًا لمن شذَّ منهم. واستدلَّ على وقوعه بأدلة كثيرة، منها:

_ 1 ف 328. 2 راجع ص164 ج3 من الإحكام.

1- نسخ الأمر بتقديم الصدقة بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله -عز وجل- في سورة المجادلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} 1. ثم نُسِخَ حكمها في الآية التي بعدها، دون أن يأتي بتكليف آخر يحلُّ محلَّ التكليف الأول، وذلك في قوله -جل شأنه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. فقد أكثر المسلمون من سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد منهم يريد أن يجلس بجواره ويناجيه، فثقُلَ ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأراد الله -عز وجل- أن يحول بينهم وبين هذه المناجاة بطريقة مُثْلَى, فيها تهذيب لنفوسهم، وتعليم لهم بما يجب له -صلى الله عليه وسلم- من التعظيم والتبجيل، والأدب معه في الحديث، وتحرِّي الأوقات التي يسألون فيها عَمَّا يَعِنُّ لهم، فأمرهم بتقديم الصدقات عند المناجاة، وكان أكثرهم لا يملك ما يتصدَّق به، فاعتذل أكثرهم مناجاته لعدم وجود الصدقة، ولزم كل واحد مجلسه -صلى الله عليه وسلم- دون أن يفكِّر في مزاحمته والإسرار إليه كما كان يفعل من قبل، ثم نُسِخَت هذه الفريضة من غير بدل، فدلَّ هذا على وقوع النَّسْخِ إلى غير بدل. قال سعيد عن قتادة ومقاتل بن حِبَّان: سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحفوه بالمسألة, فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم, فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدِّم بين يديه صدقة، فاشتدَّ ذلك عليهم, فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذكره ابن كثير في تفسيره. وفي رواية الطبري: "فوعظهم بهذه الآية" بدلًا من قوله: "فقطعهم"3. "وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد, قال علي -رضي الله عنه: آية في

_ 1 آية: 12. 2 المجادلة: 13. 3 انظر ج8 ص76, ط. الشعبي، وانظر الطبري 28/ 15.

كتاب الله -عز وجل- لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصدقت بدرهم، فنُسِخَت ولم يعمل بها أحد قبلي, ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية1.

_ 1 انظر تفسير ابن كثير ج8 ص172.

حسم الخلاف

حسم الخلاف: إذا نظرنا إلى خلاف العلماء حول النَّسْخِ إلى غير بدل, وجدناه في الحقيقة خلافًا حول مفهوم البدل نفسه، لا حوْلَ اشتراطه، فإن مفهوم البدل ومعناه العام يشمل أمرين: الرد إلى ما كان قبل شرع الحكم المنسوخ, وهو البراءة الأصلية أو الإباحة. ونَقْلُ الحكم المنسوخ إلى حكم آخر، فكلاهما يُسَمَّى بدلًا، فلا إشكال إذن ولا خلاف؛ لأن ردَّ الحكم إلى الإباحة هو نسخ إلى بدل؛ لأن الإباحة نوع من أنواع الخطاب، وهو خمسة أنواع هي: 1- الوجوب. 2- الندب. 3- الحرمة. 4- الكراهة. 5- الإباحة.

النسخ إلى الأخف والمساوي والأثقل

النَّسْخُ إلى الأخفِّ والمساوي والأثقل: عرفت فيما سبق أن النَّسْخَ إلى بدل واقع في القرآن والستة باتفاق العلماء، وقد قسَّموه إلى ثلاثة أقسام: الأول: نسخ الأثقل بالأخفِّ، وهو الغالب والكثير. والثاني: نسخ الحكم بحكم آخر مساوٍ له. والثالث: نسخ الأخفِّ بالأثقل، وهو قليل. ومنعه بعضهم بدعوى أن الله يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر، وبأنه تعالى يريد أن يخفِّفَ عنا، كما قال -جل شأنه:

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 1. والجواب عن هذه الشبهة أن العسر واليسر والخِفَّة والثِّقَل من الأمور الإضافية، فما من أمر خفيف إلّا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخفّ منه، وما من أمر ثقيل إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه، وكل ما أمر الله تعالى به يسر لنا؛ إذ فوقه ما هو عسير وعسير، وكل ما نقلنا إليه من أحكام تخفيف علينا بالنسبة لما في علمه من مشاق، ولو أن المقصود التخفيف المطلق، واليسر المطلق لكانت ركعة واحدة في الصلاة مثلًا أخفَّ بكثير مما هو عليه، ثم إنه قد وقع النَّسْخُ بالأشدِّ فلا سبيل إلى إنكاره ومنعه. وسنذكر لك هنا بعض الأمثلة لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة. أما النوع الأول: وهو النسخ من الأثقل إلى الأخفِّ, فقد مثَّلُوا له بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 2، الآية. فهي ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2؛ لأن مقتضاها الموافقة لما كان عليه السابقون من تحريم الأكل والشرب والوطء إذا صلُّوا العشاء، أو ناموا إلى الليلة التالية كما ذكروا ذلك. فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: أنزلت: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كُتِبَ عليهم إذا صلى أحدهم العتمة أو نام, حُرِّمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها. وروى مثله أحمد والحاكم وغيرهما، وفيه: فأنزل الله -عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . الآية. ومثال النَّسْخِ من الأثقل إلى الأخفِّ أيضًا، قوله تعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 4.

_ 1 النساء: 28. 2 البقرة: 187. 3 البقرة: 183. 4 آية: 65.

فقد نسختها الآية التي بعدها, وهي قوله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . روى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فشقَّ ذلك على المسلمين حين فُرِضَ الله عليهم ألا يفرَّ واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُم} . ومثال نسخ الحكم إلى ما هو مساوٍ له: نسخ التوجُّه إلى بيت المقدس بالتوجُّهِ إلى الكعبة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} 1. ومثال النَّسْخِ من الأخفِّ إلى الأثقل: نسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان2. ونسخ حبس الزواني بالجلد والرجم، ولا شكَّ أن الضرب بالحجارة حتى الموت أثقل من الحبس.

_ 1 البقرة: 144. 2 قيل: كان صوم يوم عاشوراء فرضًا، فنُسِخَت فرضيته وبقي صومه مستحبًّا، وهذا النقل من الفرض إلى المستحبِّ يُسَمَّى عند المتقدِّمين من الصحابة والتابعين نسخًا.

طرق معرفة الناسخ والمنسوخ

طرق معرفة الناسخ والمنسوخ: النَّسْخُ يتضمَّن رفع حكمٍ تقرَّرَ من جهة الشارع، وإثبات حكم، ومثل هذا لا يحلُّ لمسلم أن يقول فيه إلّا بيقين. فمن قال في شيء: إنه منسوخ، فقد أوجب إلّا يُطَاعَ هذا الأمر الصادر عن الله أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نسقط طاعةً أمَرَنَا بها الله تعالى ورسوله إلّا ببرهان. وفي هذا يقول ابن الحصار: "إنما يُرْجَعُ في النَّسْخِ إلى نقلٍ صريحٍ عن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: ولا يُعَْمَدُ في النسخ قول عوام المفسيرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح, ثم قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يُقْبَلُ في النَّسْخِ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهلٍ يكتفي فيه بقول مفسِّرٍ أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما". أ. هـ1 توضيح البحث: إنه لا سبيل إلى معرفة نسخ آية أو حديث بغير أحد وجوه ثلاثة: الوجه الأول: النصُّ الصريح الصحيح بأنَّ هذا الأمر ناسخ لكذا، أو أمر صريح بترك الأمر الأول، مثاله قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} 2. ثم قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} . فهذا دليل واضحٌ على أن القِبْلَةَ التي كانت قبل هذه منسوخة. ومثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3. فهذا النص صريح في نسخ النهي عن الوطء في ليل رمضان. الوجه الثاني: إجماع الأمة بلا خلافٍ يعتد به على أن أمر كذا منسوخ. ومن المعلوم أن الإجماع يستند دائمًا إلى دليل.

_ 1 انظر الإتقان: ج3 ص81. 2 البقرة: 143. 3 البقرة: 187.

الوجه الثالث: تعارض الأدلة المتساوية تعارضًا تامًّا, مع معرفة الأمر المتقدِّم زمنًا من المتأخِّر، وتفصيل المسألة أن النصَّيْن إما أن يتعارضا من جميع الوجوه, أو من وجه دون وجه، فإن تعارضا من وجه دون وجه جُمِعَ بينهما. وإن تعارضا من جميع الوجوه, فإن كان أحدهما قطعيًّا وكان الآخر ظنيًّا، أو كان أحدهما أقوى من الآخر في الثبوت, عُمشلَ بالأقوى، وأُهْمِلَ الآخر. وإن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافآ في الثبوت, وعُلِمَ الأمر المتقدِّمُ منهما والمتأخِّر, صرنا إلى النَّسْخِ. أما إن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافآ في الثبوت، ولم يُعْلَمْ المتقدِّم والمتأخِّر، فلا يُصَارُ إلى النَّسْخِ بالاجتهاد، بل يجب التوقُّف عنهما أو التخيُّر بينهما. وعلى هذا فلا يُعْتَمَدُ في النسخ على: الاجتهاد من غير دليل، ولا على أقوال المفسرين من غير سند، ولا على مجرَّد التعارض الظاهري بين النصوص، ولا على ثبوت أحد النصَّين في المصحف بعد الآخر؛ لأنه ليس على ترتيب النزول.

سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ

سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ: قال السيوطي في الإتقان: "قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاث وأربعون: سورة الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن, إلّا التِّين والعصر والكافرون. وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة وثلاث بعدها، والحج، والنور وتاليها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، والتكوير، والعصر.

وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ست: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى. وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية"1 أ. هـ. هذا، والسور التي ذكر السيوطي أنها تشتمل على ناسخ فقط، أو ناسخ ومنسوخ معًا، يحمل على النَّسْخِ بمعناه الواسع الذي يشمل ما كان مطلقًا، فقُيِّدَ إطلاقه، وما كان عامًّا فخُصِّصَ عمومه بنوع من أنواع التخصيص، أو كان مبهمًا فأُزِيلَ إبهامه، أو كان غير مُؤَقَّت فأُقِّتَ، ونحو ذلك. وهو مفهوم الصحابة للنَّسْخِ كما تقدَّمَ بيانه في أول هذا البحث، أما النَّسْخُ بمفهومه الضيق عند الأصوليين، فلا يثبت إلّا في آيات تُعَدُّ على الأصابع. وحتى هذه التي تُعَدُّ على الأصابع لا يثبت النَّسْخُ عند الكثير من العلماء إلّا في القليل منها. وقد عدَّ السيوطي من المنسوخ اثنتين وعشرين آية، بعد أن ضيَّقَ مفهوم النَّسْخِ بعض الشيء، وبيَّنَ الناسخ لها, ثم نظمها في قصيدة لتُحْفَظَ فقال: وقد أكثر الناس في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر وهاك تحرير آي لا مزيد لها ... عشرين2 حررها الحذاق والكُبَرُ آي التوجه حيث المرء كان وأن ... يوصي لأهليه عند الموت محتضر وحرمة الأكل بعد النوم من رفث ... وفدية المطيق الصوم مشتهر وحق تقواه فيما صحَّ من أثر ... وفي الحرام قتال للألى كفروا والاعتدال بحولٍ مع وصيتها ... وأن يدان حديث النفس والفكر والحلف والحبس للزاني وترك أولى ... كفروا شهادتهم والصبر والنفر ومنع عقد لزانٍ ولزانية ... وما على المصطفى في العقد محتظر

_ 1 ج3 ص69-70. 2 قال: عشرون لا مزيد لها، ثم زادت آخر الأبيات اثنتين.

ودفع مَنْ لمن جاءت وآية ... نجواه كذلك قيام الليل مشتطر وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن حضروا ولعموم النَّفْعِ نذكر ما ذكره من هذه الآيات، مع شيء من التحليل والتوضيح، منبهين على ما قد مضى تفصيله منها.

السيوطي وآيات النسخ

السيوطي وآيات النسخ: تكلَّمَ السيوطي عن اثنين وعشرين آية من الآيات التي قيل بنسخها، بعضها منسوخ حقًّا، وبعضها في نسخه مقال، وإليك هذه الآيات وما ذكره في شأنها, مع مناقشته في بعض ما ذهب إليه كما وعدناك بذلك: 1- قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} 1. الآية منسوخة، قيل بآية المواريث، وقيل: بحديث: "ولا وصية لوارث" 2، وقيل: بالإجماع، حكاه ابن العربي. وقد نازعه في نسخ هذه الآية جماعة من أهل العلم، وقالوا: إنها محكمة، وهو الظاهر لي -الله أعلم بالصواب. قال القاسميّ في محاسن التأويل3, بعد أن ذكر ما ذهب إليه السيوطي: "ذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} .

_ 1 البقرة: 180. 2 الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الوصايا، باب: "ما جاء في لا وصية لوارث" عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث". 3 ج3 ص411 وما بعدها.

أو كتب على المحتضر: أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم، فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى، والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جُمِعَ له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين، ولو فرض المنافاة لأمكن جعل آية الميراث مخصَّصَة لهذه الآية، بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثًا لأجل صلة الرحم، فقد أكدَّ تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية, فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة، أو ذوي رحم مفروضة. قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم. وقال القاسمي تأييدًا لهذا المذهب: إن هذه الآية مع آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} متلاقيان في المعنى من حيث إن المراد بالوصية: وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، وعدم الغضِّ منها، والحذر من تبديلها، لما يلحق المبدِّل من الوعيد الشديد. 2- قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 1. ذهب جمهور المفسِّرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على آثار كثيرة وردت في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد. أ- فقد روى البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يُصَامُ، فلمَّا نزل فرض رمضان كان مَنْ شاء صام ومن شاء أفطر. وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله. ب- وروى أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل, أن الله فرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- الصيام, وعلى الصحيح المقيم من أمته, فمن شاء صام ومن شاء أطعم مسكينًا، ثم إن الله -عز وجل- أنزل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ

_ 1 البقرة: 184.

مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. لكن قد ورد ما يفيد أنها محكَمة، فقد روى البخاري في التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: ليست منسوخة، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطعيان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكينًا. والصواب عندي: إنه لا تناقض بين ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما, وما ذهب إليه الجمهور، فالنَّسْخُ ثابت في حقِّ الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وأن الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم إلّا بمشقَّة شديدة, فله أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ عن كل يوم مسكينًا. وقد صحَّحَ القرطبي قول ابن عباس وقول الجمهور معًا, وجمع بينهما جمعًا أراه في غاية الحسن فقال: "قد ثبت بالأسانيد الصِّحَاح عن ابن عباس, أن الآية ليست بمنسوخة, وأنها محكَمَة في حق من ذُكِرَ. والقول الأول: صحيح أيضًا، إلّا أنه يحتمل أن يكون النَّسْخُ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرًا ما يُطْلِقُ المتقدِّمون النَّسْخَ بمعناه -أي: بمعنى التخصيص- والله أعلم". ورجَّحَ الشيخ محمد عبده قول ابن عباس على قول الجمهور؛ جريًا على عادته في إنكار النَّسْخِ، وقال فيما قال: القاعدة أنه لا يُحْكَمُ بالنَّسْخِ إذا أمكن حمل القول على الإحكام. وأقول: إن هذه القاعدة تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتأخرين، وهو رفع الحكم بالكلية وإبداله بحكم آخر، ولا تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتقدِّمين؛ فإن معناه عندهم واسع كما ذكرنا من قبل، فيشمل تخصيص العام, وتقييد المطلق, وغير ذلك مما سبق بيانه. 3- قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ

_ 1 البقرة: 185.

لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} 1. قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ فقد روي أن شهر رمضان قد فُرِضَ على الذين من قبلنا على الوجه الذي كان مفروضًا على المسلمين قبل نزول هذه الآية الناسخة، بمعنى أنهم قد كُتِبَ عليهم أنه إذا صلَّى أحدهم العشاء ونام حُرِّمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها من الليلة المقبلة. وهذا ما رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عَمَّن حدَّثه عن ابن عمر2. ونحن لا ندري على وجه اليقين أن الصوَّمَ قد فُرِضَ على الذين من قبلنا على هذا النحو، فيكون الأصح الذي تطمئن إليه النفس أن هذه الآية ناسخة للسُّنَّة التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام. فقد روى أحمد في مسنده من حديث معاذ الطويل قوله: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار يقال له: صرمه، كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلَّى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح صائمًا, فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد جَهِدَ جهدًا شديدًا فقال: "ما لي أراك قد جهدت جهدًا شديدًا؟ " قال: يا رسول الله، إني عملت أمس, فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائمًا، قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فأنزل الله -عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} . وقد ذهب صاحب تفسير المنار إلى أن هذه الآية ليست منسوخة, بل هي متمِّمَة لأحكام الصوم، مبيِّنَة لما امتاز به صومنا من الرخصة التي لم تكن لمن

_ 1 سورة البقرة: 187. 2 ذكره ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} .

قبلنا، وهذا ما اختاره الأستاذ الإمام "يعني: الشيخ محمد عبده", وقال: إذا صحَّ ما ورد في سبب النزول فهو يدل على أنه فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبًا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب إلى التقوى. والصواب ما قاله من أعلم بكتاب الله تعالى منه ومن شيخه، وأقول له ولمن نحا نحوه في التأويل: ماذا تقولون في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُم} أليس هذا اللفظ يقتضي إباحة ما كان محذورًا من قبل، كما هو المتبادر إلى الذهن، ويؤيد ذلك قوله في الآية: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} فلو كان ما فعلوه مبنيًّا على اجتهادهم, مع عدم وجود النص القاطع بكيفية الصوم -لكانوا مأجورين على فعلهم, وما كانوا مذنبين، وما وُصِفَ فعلهم بالخيانة، وما كان للتوبة والعفو موضع. إن أول الآية ووسطها وآخرها ينطق بالحق الذي ذهب إليه الجمهور. والنَّسْخُ بهذه الآية رَفْعٌ للحكم السابق الذي كان معروفًا لديهم من أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم، أو أفعاله, وليس باجتهادهم كما قال صاحب المنار وشيخه، والله أعلم. 4- قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 1. قال القرطبي في تفسيره: "واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، واختلفوا في ناسخها. فقال الزهريّ: نسخها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} 2. وقيل: نسخها غزو النبي -صلى الله عليه وسلم- ثقيفًا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أَوْطَاس في الشهر الحرام. وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف؛

_ 1 سورة البقرة: 217. 2 سورة التوبة: 36.

فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه قتل عثمان بمكة, وأنهم عازمون على حربه, بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عُروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل الله -عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية. قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلُّون من المؤمنين هو أكبر من ذلك، من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله, وصدِّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدِّين؛ فبلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقل ابن الحضرمي, وحرَّم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله -عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرام، ويحلف على ذلك؛ لأن الآيات التي وردت بعد عامة في الأزمنة، وهذا خاص, والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يُغْزَى. 5- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 2, وهي متقدِّمة عليها في الترتيب مؤخَّرة عنها في النزول.

_ 1 سورة البقرة: 240. 2 البقرة: 234.

وذهب جماعة من المفسِّرين إلى أنها محكَمَة لا نسخ فيها, وهو الراجح عندي. وبيان ذلك: أن الآية الأولى في الترتيب فرضت على المرأة أن تعتدَّ في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهنَّ، لا تخرج فيها من بيتها إلّا لحاجتها الضرورية، ولا تتزين للرجال، ولا تتعرَّض لهم من أجل الزواج، حتى تنقضي عدتها. والآية الثانية في الترتيب نقلت حكم الآية الأولى من الوجوب إلى الندب, فصارت العدة الواجبة هي أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، والحول صار مستحبًّا لا واجبًا. وهذا الاستحباب إما أن يكون وصيةً من الله للورثة؛ مبالغة في تكريم المرأة وإسهامًا منه في رفع المعاناة عنها، وتطيبًا لنفسها ووفاءً لزوجها، وإمَّا أن يكون وصية من الزوج قبل موته، وإمَّا أن يكون وصية من الورثة بعضهم لبعض. وأما النفقة فليست مرفوعة بميراثها من زوجها؛ لأن هذه الوصية على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، فآية المواريث نقلت الحكم من الوجوب إلى الاستحباب ولم ترفعه بالكلية. ومن هنا نفهم أن النَّسْخَ في هذه الآية يُحْمَلُ على معناه الواسع الذي قال به السلف، والخلاف بين الفريقين لفظي أو اصطلاحي, ولا مشاحة في الاصطلاح، وكلٌّ من الفريقين على الصواب إن شاء الله تعالى. ومن نظر في هاتين الآيتين وجد الأمر كما قررناه، فالآية الأولى فيها ذكر التربص وهو الانتظار والحبس عن الزواج حتى تنتهي العدة، بخلاف الآية الثانية، وبذلك تكون الآية الأولى خاصَّة بالزمن الذي لا تتعرَّض فيه المرأة إلى خطبة الأزواج، وما تبقى من الحول وهو سبعة أشهر وعشرين يومًا تكون المرأة فيه مخيَّرة بين الانتقال من بيت الزوج المتوفى والتزوج بآخر, والمكث في بيت زوجها المتوفى عنها دون أن تتزوج بآخر؛ وفاء لزوجها الأول ومبالغة في تكريمه، وعندئذ تكون أهلًا لإكرام أهل زوجها لها، واعتزازهم بوجودها بينهم.

وحيث أمكن الجمع فلماذا نعدل عنه إلى القول الذي يرتضيه قوم وينكره آخرون. 6- قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1. قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2. والأصح أنها ليست منسوخة، فالآية الثانية بيان لها؛ فقد وقع في نفوس المؤمنين أنهم سيحاسبون على كل ما يخطر في ضمائرهم من سوء، كما يحاسبون على كل ما تبديه أنفسهم من شرٍّ وإن لم يمكنهم دفعه، فبيَّن الله -عز وجل- في الآية الثانية أنه لا يحاسبهم إلَّا على ما يمكنهم دفعه من الخواطر؛ إذ على المؤمن أن يدفع وساوس الشيطان أولًا بأول، ولا يسمح لها أن تتحول إلى إرادة, ثم إلى عزم, ثم إلى فعل؛ عملًا بقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3. والدليل على ما ذكرناه من عدم النَّسْخِ ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي, وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} دخل قلوبهم منها شيء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا"، قال: "فألقى الله الإيمان في قلوبهم, فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} , قال: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} , قال: قد فعلت. {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت. واستدل القائلون بالنَّسْخِ بما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي

_ 1 سورة البقرة: 284. 2 البقرة: 286. 3 الأعراف: 200-201.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم جثَوْا على الركَبِ، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنْزِلَتْ عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلمَّا أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم, أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1 فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . والمراد بالنَّسْخِ هنا من قبيل بيان المجمَلِ وتقييد المطلَق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين، لا على حسب مفهومه عند المتأخرين، فالقول بعدم النَّسْخِ أسلم. 7- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} 2 قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} 3. فإن كان النَّسْخُ بمعنى بيان المجمَل وتقييد المطلَق, كما هو مفهوم المتقدمين للنَّسْخِ - فلا مانع من القول به؛ لأن الآية الثانية بيان للآية الأولى وتقييد لمطلقها، فمن المعلوم شرعًا أن الطاعة على قدر الطاقة. وقد نقل ابن كثير عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية بأنها لم تنسخ، ولكن حقَّ تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.

_ 1 البقرة: 285. 2 سورة آل عمران: 102. 3 سورة التغابن: 16.

8- قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} 1. قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. والأصح أنها محكمة لم تنسخ بآية المواريث كما قال بعضهم؛ وذلك لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس في الآية. قال: هي محكمة وليست بمنسوخة، وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها. 9، 10- قوله تعالى: {وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} 2. هاتان الآيتان منسوختان عند جمهور المفسِّرين والمحدثين، ودليل النَّسْخِ فيهما ظاهر، لكن هذا النَّسْخَ هو من قبيل التدرج في التشريع؛ رعاية لمصالح العباد في العاجل والآجل. فالآية الأولى تنص على عقوبة الزانية بكرًا كانت أم ثيبًا بحبسها في البيت حتى يتوفاها الله أو يجعل لها مخرجًا بآية أخرى أو حديث. والآية الثانية تنص على عقوبة الرجال من الأيامى والأبكار، وهي الإيذاء بالأيدي والنعال والتقريع بالألسنة, وما إلى ذلك من أنواع الإيذاء المناسب لهذه الجريمة، وهي جريمة الزنا واللواط كما يرى بعض المفسِّرين. وقد اختلفت عقوبة الرجال من عقوبة النساء؛ لأن الرجال هم الذين يسعون في طلب المعاش ويقومون بحماية الأسرة وتوفير ما تحتاج إليه نساؤهم وزراريهم. قال ابن كثير في تفسيره: "كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبِسَت في بيت فلا تمكَّن من الخروج منه إلى أن

_ 1 النساء: 8. 2 سورة النساء: 15-16.

تموت ... فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ؛ لذلك قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم، وكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير، والحسن وعطاء الخراساني، وأبي صالح وقتادة، وزيد بن أسلم, والضحاك، أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه". ثم ساق الحديث الذي راه أحمد في مسنده, ومسلم في صحيحه, وغيرهما من أصحاب السنن، وفيه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة, البكر جلد مائة ثم نفي سنة". وقد زعم أبو مسلم أن الآية الأولى بيان لعقوبة السحاق، وهو استمتاع المرأة بالمرأة، وأن الآية الثانية بيان لعقوبة اللواط، ووافقه على ذلك صاحب تفسير المنار فرارًا من القول بالنَّسْخِ، فقال: هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء, وهذه خاصة بالذكور، فهذا مرجع معنوي وهو كَوْن القرآن عليه ناطقًا بعقوبة الفواحش الثلاث، وكَوْن هاتين الآيتين محكمتين، والإحكام أولى من النَّسْخِ حتى عند الجمهور القائلين به. ووافقه على ذلك الشيخ عبد الكريم الخطيب فقال في تفسيره: يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وأن حَدَّ الزنا في أول الإسلام -كما يقولون- هو الإمساك للمرأة الزانية وحبسها في البيت، على حين أن الرجل يعنَّف ويؤنَّب باللسان، أو ينال بالأيدي والنعال، حسب تقدير ولي الأمر. ونحن على رأينا بألَّا نسخ في القرآن -نرى أن هاتين الآيتين محكَمَتين, وأنهما تنشئان أحكامًا لمن يأتون الفاحشة- من الرجال والنساء, غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني.. إلى آخر ما قال. والعجب كل العجب من هذا الأخير أنه يذكر إجماع المفسرين على أن الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور، ثم ينفر هو برأي يخالف الجمهور ويعظِّم نفسه بقوله: ونحن نرى، وأين هو من هؤلاء المفسِّرين! وأين

مكان الثرى من الثريَّا! ولِمَ هذا التنطُّع! ولم هذه المكابرة في إنكار النَّسْخِ وقد أقرَّه الجمهور سلفًا وخلفًا، وأين يذهب هؤلاء المنكرون للنَّسْخِ وقد لزمتهم الحجة, ووضحت أمامهم المحجة، وإني لتأخذني الدهشة عندما أرى واحدًا من أولئك يقول في الآية برأيه, ويضرب بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرض الحائط، فينكر النَّسْخَ مثلًا في هاتين الآيتين بآية النور, وبالحديث الذي كان منهما بمنزلة البيان والتخصيص والتفصيل، ولو أنصف نفسه لم يظلمها بالقول في كتاب الله بالهوى، ولَأَرَاح واستراح، ووقَى نفسه شر العقوبة التي توعَّده الله بها في الدنيا والآخرة. 11- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} 1. منسوخة بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2. "وقيل: إنها غير منسوخة؛ لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باقٍ, غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام، وبذلك يقول فقهاء العراق"3. والأصح أنها منسوخة، لكثرة الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين، والقول قولهم عند التحاكم في أمر النَّسْخِ وأسباب النزول، وغير ذلك من أمور العقيدة والشريعة. من هذه الآثار: قال البخاريّ: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة, عن إدريس, عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِي}

_ 1 سورة النساء: 33. 2 الأنفال: 75. 3 مناهل العرفان للزرقاني ج2 ص159.

قال: ورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم, فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد وقد ذهب الميراث ويوصى له". وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمة، بالأخوة التي آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم، فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} نُسِخَت, ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . وممن قال بالنَّسْخِ سوى ابن عباس: مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسديّ والضحاك ومقاتل بن حيان، وغيرهم. أ. هـ2. 12- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} 3. قيل إن قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَام} منسوخ بمقتضى عموم قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} ، وقد سبق القول في هذا4 فالحق عدم النَّسْخِ. فالحكم باقٍ كما هو, فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم في الأشهر الحرام، إلّا إذا اضطروا لذلك.

_ 1 "عقدت" و "عاقدت" قراءتان سبعيتان. 2- انظر تفسير ابن كثير ج2 ص251، 252 ط الشعب. 3 المائدة: 2. 4 سبق في الآية الرابعة وهي قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَام} .

يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث مواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وهذا يدل كما قال ابن كثير1 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يعني: لا تستحلوا قتالًا فيه، كذا قال ابن حيان، وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضًا. 13- قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2. منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3. وقد قيل بعدم النَّسْخِ، وأن الآية الثانية متمِّمَة للأولى؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مخبَرٌ بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرِضَ عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضَى الآية الثانية، وهذا ما نرجحه؛ لأن النَّسْخَ لا يصح إلا حيث تعذَّر الجمع. 14- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} 4.

_ 1 تفسير القرآن العظيم ج3 ص7ط. الشعب. 2 المائدة: 42. 3 المائدة: 49. 4 المائدة: 106.

قيل: قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} منسوخ بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1. قال الزرقاني2: "وقيل إنه لا نسخ؛ لأنَّ الآية الأولى خاصَّة بما إذا أنزل الموت بأحد المسافرين، وأراد أن يوصي, فإنَّ الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم؛ توسعة على المسافرين؛ لأن ظروف السفر ظروف دقيقة، قد يتعسَّر أو يتعذَّر وجود عدلين من المسلمين فيها، فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمَيْن لضاق الأمر, وربما ضاعت الوصية، أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر" أ. هـ. وقد قدَّم الله -جل جلاله- في هذه الآية إشهاد عدول المؤمنين؛ لأنه الأصل الذي يحصل به المقصود على الوجه الكامل، وأجاز إشهاد غيرهم في الحال التي لا يتيسر فيها ذلك بالشروط المذكورة في الآية. وهذا يدل على أنها محكمة، جاءت بتشريع خاصٍّ، فلا يقال: إنَّ آية سورة الطلاق وهي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ناسخة لها, وقد أمكن الجمع بينهما -كما عرفت- وحيث أمكن الجمع فلا نسخ. وسورة المائدة كلها محكمة ليس فيها آية منسوخة على الصحيح من أقوال العلماء. 15- قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 3. قيل: إنها منسوخة بقوله سبحانه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 4.

_ 1 الطلاق: 2. 2 مناهل العرفان ج2 ص161. 3 الأنفال: 65. 4 الأنفال: 66.

ووجه النَّسْخِ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة، وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين، وهما حكمان متعارضان، فتكون الثانية ناسخة للأولى -على ما تقدَّمَ بيانه عند الكلام على نسخ الأثقل بالأخفِّ- والنسخ هنا ظاهر، ولكن قد يقال: إن هذا النَّسْخَ هو انتقال من الواجب إلى الرخصة. 16- قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} 1. قيل: نُسِخَت بآيات العذر، وهو قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 2. وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 3. وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 4. والأصح أنه لا نسخ في الآية، وإنما جاءت الآيات المذكورة مخصِّصَة لعمومها، فكأنه قيل: انفروا خفافًا وثقالًا إلّا من كان معذورًا لا يستطيع القتال لكونه ذا عاهة من مرض أو عرج، أو عمى أو زمانة، ونحوها من المعوِّقات، مع بقاء طائفة تقوم بما يحتاج إليه القاعدون من أولى الضرر، كتعليم وإرشاد وغير ذلك. "ومِمَّنْ قال بالنَّسْخِ ابن عباس ومحمد بن كعب، وعطاء الخراساني وغيرهم، قالوا: نُسِخَت بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَر} 5.

_ 1 التوبة: 41. 2 التوبة: 91. 3 التوبة: 122. 4 الفتح: 17. 5 انظر تفسير ابن كثير ج4 ص97.

ومرادهم بالنَّسْخِ هنا معناه الواسع الشامل لتخصيص العام وتقييد المطلق, وغير ذلك كما بيناه في مفهوم النَّسْخِ عند السَّلَفِ في أول هذا المبحث. 17- قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} 1. قيل: منسوخة بقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 2؛ لأن الآية خبر بمعنى النهي، بدليل قراءة "لا ينكح" بالجزم, والقراءات يفسِّر بعضها بعضًا. والأصح عندي -والله أعلم- أنه لا نسخ في الآية؛ لأن الآية لها معانٍ يمكن أن تُحْمَلَ عليها؛ بحيث لا تتعارض مع قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} 3. فمن معانيها: أن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة, أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك {الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَان} أي: عاصٍ بزناه، {أَوْ مُشْرِك} لا يعتقد تحريمه. وهذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما، رواه عنه أكثر من واحد بطرق صحيحة كما يقول ابن كثير4. وكذلك روى نحوه عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان. ومن معانيها: الزاني لا يتزوج إلا زانية، أي: معروفة بالزنى؛ لأنه لا يرضى أن يتزوج بها إلا مثلها. وقراءة {لا يَنْكِح} بالجزم, وهي المروية عن عمرو بن عبيد5 على النهي. تدل على حرمة نكاح الزانيات إلّا إذا ظهرت توبتهن, وآية {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى}

_ 1 النور: 3. 2 النور: 32. 3 النور: 32. 4 انظر ج6 ص7. 5 انظر البحر المحيط ج6 ص431.

مخصوصة بقوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" أي: وزوجوا الأيامى منكم بشرط ألّا يكنَّ زانيات -والله أعلم. 18- قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} 1. قال السيوطي: قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها أ. هـ. والأصح أنها غير منسوخة, فهي أدب عظيم أدَّبَ الله به عباده من السادة والخدم على السواء؛ بأن أمر السادة أن يعلموا الخدم هذه الأحكام، ويحملوهم على التزامها من غير تهاونٍ، أو استخفافٍ, ولا دليل على نسخها. قال ابن كثير2: "ولما كانت هذه الآية محكَمَة ولم تنسخ بشيء, وكان عمل الناس به قليلًا جدًّا, أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس. وذكر عنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلى آخر الآية. والآية التي في سورة النساء: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 3. والآية التي في الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4 أ. هـ. 19- قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} 5.

_ 1 النور: 58. 2 انظر "تفسير القرآن العظيم" ج6 ص89. 3 آية: 8. 4 آية: 13. 5 الأحزاب: 52.

قيل: نسخها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1. "واعلم أن هذا النَّسْخِ لا يستقيم إلّا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى، وأن الله قد أحلَّ للرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته ما كان قد حَرَّمه عليه من قبل في قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْد} إلخ. وذلك مروي عن علي -كرم الله وجهه، وعن ابن عباس -رضي الله عنه، وعن أم سلمة -رضوان الله عليها، وعن الضحاك -رحمه الله، وعن الصدِّيقة بنت الصديق -رضي الله عنهما. أخرج أبو داود في جامعه، والترمذي وصحَّحَه, والنسائي والحاكم وصحَّحَه أيضًا، وابن المنذر وغيرهم، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحلَّ الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلّا ذات محرم" إلخ. والسر في أن الله حرَّم على الرسول أولًا ما عدا أزواجه, ثم أحلَّ له ما حرَّمه عليه, هو أن التحريم الأول فيه تطييب لقلوب نسائه، ومكافأة لهنَّ على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن، ثم إن إحلال هذا الذي حرَّم على رسوله مع عدم زواج الرسول من غيرهن بعد هذا الإحلال، كما ثبت ذلك، فيه بيان لفضله -عليه الصلاة والسلام- ومكرمته عليهن؛ حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهنَّ، مع إباحة الله له ذلك.

_ 1 الأحزاب: 50.

وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه, لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها؛ ولهذا رجَّحْنَا ما بسطناه, ولا يعكر صفو القول بالنَّسْخِ هنا ما نلاحظه من تأخُّر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف؛ لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم"1 أ. هـ. 20- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 2. قيل: نُسِخَت بقوله سبحانه عقب تلك الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 3. وقد تقدَّمَ الكلام عن ذلك عند ذكر نسخ الأثقل بالأخف. 21- قوله تعالى في سورة الممتحنة: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} 4. قيل: نسختها آية الغنيمة، وهي قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 5. وقيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة. وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين الَّلاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن، من الغنائم التي يغنمها المسلمون, ويعاقبون العدو بأخذها.

_ 1 مناهل العرفان ج2 ص163، 164. 2 المجادلة: 12. 3 المجادلة: 13. 4 آية: 11. 5 الأنفال: 41.

والآية الثانية تفيد أن الغنائم تُخَمَّسُ أخماسًا, ثم تصرف كما رسم الشارع. وآية السيف وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 1 تقرر حكمًا خاصًّا يختلف عن أحكام الغنيمة والقتال، فلا تعارض بين الآيات الثلاثة حتى يُقال بالنَّسْخِ. فالآية تقرر أنه إن ارتدَّت من المؤمنات امرأة، ففرت من زوجها المؤمن ولحقت بالكفار, فلم يردوا مهرها كما يفعل المؤمنون إذا فرَّت امرأة منهم بإيمانهم إلى ديار المسلمين، "فعاقبتم" أي: فغزوتموهم فوجدتم منهم غنيمة "فآتوا الذين ذهبت أزواجهم" منها "مثل ما أنفقوا" في مهورهن. "قال قتادة: كنَّ إذا فررت من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الكفار, ليس بينهم وبين نبي الله عهد، فأصاب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنيمة، أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم". أ. هـ2. وهذا هو العدل في أسمى صوره، وأرقى معانيه. 22- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} . قيل منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ثم نُسِخَ الآخر بالصلوات الخمس، هذا ما قاله السيوطي. وبيانه أن في أول سورة المزمِّل أوجب الله على نبيه قيام الليل كله إلّا قليلًا منه، بأن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر، ثم خففَّ عنه القيام هو ومن كان يقوم بقيامه، ثم نُسِخَ هذا الوجوب بالصلوات الخمس.

_ 1 التوبة: 5. 2 "محاسن التأويل" ج8 ص5773.

وجاء في حديث طويل رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة -تعني: سورة المزمل- فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة, فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة". وقد كان قيام الليل فرضًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، كما يقول ابن كثير وغيره، بمقتَضى قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 1. فكان يقوم من الليل ما شاء الله أن يقوم، كما أمره ربه في أول سورة المزمِّل، واقتدى طائفة من أصحابه به فقاموا بقيامه حتى نُسِخَ قيام الليل بالصلوات المفروضة, وصار قيام الليل نافلة. أخرج بن جرير عن أبي سلمة, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أجعل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصيرًا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فاجتمعوا، فخرج كالمغضب، وكان بهم رحيمًا، فخشي أن يُكْتَبَ عليهم قيام الليل، فقال: "أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون, فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه". ونزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} . حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق, فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردَّهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل"2. 23- وألحق السيوطي بالآيات المنسوخة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} 3 فإنها على رأي ابن عباس -كما قال- منسوخة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} .

_ 1 الإسراء: 79. 2 جامع البيان ج29 ص79. 3 البقرة: 115.

"قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: حدثنا حجاج بن محمد, أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء, عن عطاء, عن ابن عباس قال: أول ما نُسِخَ من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم- شأن القبلة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله إلى بيته العتيق ونسخها فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان أول ما نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة، وكان أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعة عشر شهرًا, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب قبلة إبراهيم, فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} 2 فأرتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} ، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} أ. هـ.3. وقيل: إن هذه الآية ليست منسوخة، بل هي خاصة بصلاة التطوّع, أو بمن عجز عن تحديد القبلة. قال ابن جرير: "وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي -صلى الله عليه وسلم- إذنًا من الله -عز وجل- له أن يصلي التطوع حيث توجَّه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض، وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .

_ 1 البقرة: 150. 2 البقرة: 144. 3 "تفسير القرآن العظيم" ج1 ص227.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة, فقال الله -عز وجل- لهم: لي المشارق والمغارب، فإن وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم؛ معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية". قال الإمام الطبري بعد أن ذكر هذه الأقوال وغيرها: فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} محتمل أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم, فثَمَّ وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفًا. ومحتمل: فأينما تولوا من أرض الله فتكونوا بها فثمَّ قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها؛ لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال أبو كريب، قال: حدَّثنا وكيع بن أبي سنان عن الضحاك, والنضر ابن عربي عن مجاهد في قول الله -عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها. ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. قال مجاهد: لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} 1. قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} . قال الطبري: فإذا كان قوله -عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} محتملًا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلّا بحجَّة يجب التسليم لها؛ لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} معنيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثمَّ قبلتكم، ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نحو بيت المقدس أمرًا من الله -عز وجل- لهم بها أن

_ 1 غافر: 60.

يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس؛ إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأئمة التابعين من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودًا على ما وصفت، ولا هي إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم، أو معناها في حالٍ دون حالٍ إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حالٍ إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا. قال -رحمه الله: وقد دللنا في كتابنا "كتاب البيان من أصول الأحكام" على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما نفي حكمًا ثابتًا، وألزم العباد فرضه غير محتمل لظاهره، وباطنه غير ذلك, فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص أو العموم، أو المجمَل أو المفسَّر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل بما أغني عن تكريره في هذا الموضع، ولا منسوخ إلّا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه, ولم يصحّ واحد من هذين المعنيين لقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ". أ. هـ1. وبعد، فهذه هي الآيات التي قيل إنها منسوخة، وقد عرفت من خلال ما تقدَّمَ أن المنسوخ منها قليل على مفهوم النَّسْخِ عند المتأخرين. ولو قارنا بين مفهومه عند السلف والخلف لخرجنا بهذه النتيجة, وقلنا -ونحن مطمئون: إن النَّسْخَ واقع في القرآن الكريم لحكمة سامية اقتضاها حال المؤمنين يوم أن كان القرآن ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم, لكن المنسوخ من الآيات آيات تُعَدُّ على الأصابع، وإذا نظر إلى مفهوم النَّسْخِ عند المتقدمين وعند المتأخرين جزمنا, أو كِدْنَا نحزم أن الخلاف بين القائلين به والمنكرين له لفظي أو اصطلاحي. والله تبارك وتعالى أعلم.

_ 1 انظر "جامع البيان" ج1 ص502، 505.

نسخ القرآن بالسنة

نسخ القرآن بالسنة: قد عرفت فيما سبق نسخ القرآن بالقرآن وأدلة جوازه ووقوعه، ونريد أن نعرف هنا نسخ القرآن بالسُّنَّة، هل هو جائز وواقع، أم هو عكس ذلك. أقول: قد اختلف العلماء في هذا القسم بين مجوِّزٍ ومانِعٍ, واختلف المجوزون في وقوعه وعدم وقوعه. أما المجوزون له فهُمْ: مالك وأصحاب أبي حنيفة, وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة. وحجتهم أن نسخ القرآن بالسُّنَّة ليس مستحيلًا لذاته ولا لغيره. أما الأول: وهو المستحيل لذاته فظاهر. وأما الثاني: وهو المستحيل لغيره، فلأنَّ السُّنَّة وحي من الله كما أن القرآن كذلك، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. ولا فارق بينهما إلّا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه, وألفاظ السنة من ترتيب الرسول -صلى الله عليه وسلم وإنشائه، والقرآن له خصائصه، وللسُّنَّة خصائصها، وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله، ما دام أن الله هو الذي ينسخ وحيه بوحيه، وحيث لا أثر لها، فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلًا, كما أنه لا مانع يمنعه شرعًا أيضًا، فتعيَّنَ جوازه عقلًا وشرعًا. هذه حجة المجيزين، أما المانعون، وهم الشافعي وأحمد في إحدى روايتين عنه, وأكثر أهل الظاهر، فيستدلون على المنع بأدلة منها: أن الله تعالى يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} 2. وهذا يفيد أن وظيفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منحصرة في بيان القرآن، والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانًا له، بل تكون رافعة إياه.

_ 1 النجم: 3-4. 2 النحل: 44.

وقد أجاب المجوزون عن هذا بأن كَوْنَ السنة مبينة للقرآن لا ينفي كونها ناسخة لها، فالآية لا تدل على انحصار وظيفة السُّنَّة في البيان، لخلوّها من جميع طرق الحصر. وأن السنة لو انحصرت في بيان القرآن ما صحَّ أن تستقلَّ بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم، مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقلُّ بذلك؛ كتحريمه -صلى الله عليه وسلم- كل ذي مخلب من الطيور، وكل ذي ناب من السباع، وكحظره أن يورث بقوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". هذا هو مقام الجواز، أما مقام الوقوع فقد اختلفوا فيه أيضًا، كما قلنا، فمنهم من أثبته، ومنهم من نفاه. أما القائلون بالوقوع فقد استدلوا على ذلك بأدلة منها: أ- أن آية الجلد هي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1. تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة، ثم جاءت السُّنَّة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين، وحكمت بأن جزاءهم الرجم. ب- أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2. منسوخ بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث". ج- أن قوله سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 3. منسوخ بقوله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".

_ 1 النور: 2. 2 البقرة: 180. 3 النساء: 15.

وقد أجاب النافون عن الدليل الأول بأنه من قبيل التخصيص أو هو منسوخ بآية "الشيخ والشيخة" التي نُسِخَت تلاوتها وبقي حكمها. وأجابوا عن الثاني بأن آية الوصية منسوخة بآية المواريث لا بالحديث. وعن الثالث بأن الناسخ له آية الجلد أو آية: "الشيخ والشيخة". وجاء الحديث موافقًا لهما. أو أن الحديث تخصيص لا نسخ؛ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت, أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات. وقد بسط الزرقاني في "مناهل العرفان" أدلة الفريقين ومناقشة كلٍّ منهما للآخر، ثم قال بعد ذلك البسط: "من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلًا ولا شرعًا، غاية الأمر أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت"1. والقول كما قال -والله أعلم.

_ 1 راجع "مناهل العرفان" ج2 ص133-140.

نسخ السنة بالقرآن

نسخ السنة بالقرآن: أما نسخ السنة بالقرآن، فقال أيضًا بمنعه قوم، وقال بجوازه آخرون وهم الجمهور، وقد استدلوا على جوازه بأدلة منها: أ- أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يُعْرَف إلّا من السُّنَّة, وقد نسخة قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1. ب- ومنها أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرَّمًا في ليل رمضان على من صام, ثم نُسِخَ هذا التحريم بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ}

_ 1 البقرة: 150.

بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1. والوقوع من أقوى أدلة الجواز. واستدل المانعون بأدلة ضعَّفَها الجمهور، محل بسطها كتب الأصول.

_ 1 البقرة: 187.

نسخ السنة بالسنة

نسخ السنة بالسنة: قال الزرقاني في "المناهل"1: "نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة يتنوع إلى أنواع أربعة، نسخ سنة متواترة بمتواترة, ونسخ آحادية بآحادية، ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة، ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية. أما الثلاثة الأُوَل فجائزة عقلًا وشرعًا، وأما الرابع وهو نسخ سنة متواترة بآحادية، فاتفق علماؤنا على جوازه عقلًا, ثم اختلفوا في جوازه شرعًا، فنفاه الجمهور, وأثبته أهل الظاهر. واستدلَّ الجمهور على مذهبهم بدليلين: أولهما: أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يرتفع بالظني؛ لأنه أقوى منه، والأقوى لا يرتفع بالأضعف. ثانيهما: أن عمر -رضي الله عنه- ردَّ خبر فاطمة بنت قيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل لها سُكْنَى، مع أن زوجها طلقها وبتَّ طلاقها، وقد أقرَّ الصحابة عمر على رده هذا، فكان إجماعًا، وما ذاك إلّا لأنه خبر أحادي لا يفيد إلّا الظن، فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه، وهو كتاب الله إذا يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 2. قال: واعتمد أهل الظاهر في جواز نسخ المتواتر بالآحاد شرعًا على شبهات ظنوها أدلة، وما هي بأدلة.

_ 1 ج2 ص143. 2 الطلاق: 6.

وذكر بعضها وفنَّدها، فراجعه إن شئت. وقد تحصل ما تقدَّمَ أن النَّسْخَ ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: نسخ القرآن بالقرآن. الثاني: نسخ السنة بالقرآن. والثالث: نسخ القرآن بالسنة. والرابع: نسخ السنة بالسنة. وقد بسطنا القول في الأول، لأنه واقع في مجال بحثنا، مكين في موضوع كتابنا هذا، وأوجزنا القول في الأقسام الباقية؛ لأن محلها كتب الأصول كما أشرنا من قبل, ولم يبق لنا من عناصر هذا المبحث إلا بيان الحكمة من النَّسْخِ, وفيما يلي بيانها:

حكمة الله في النسخ

حكمة الله في النسخ: بعد أن عرفنا مفهوم النَّسْخِ في اللغة والشرع، وعرفنا حكمه وأدلته، وأركانه وشروطه، وما إلى ذلك، أرى أن أختم هذا البحث ببيان الحكمة من النَّسْخِ وإنها لعظيمة، عرفنا شيئًا منها فآمنَّا به، وخفي منه الكثير فسلَّمْنَا بجهلنا فيه. ولسنا مكلَّفين بمعرفة الحكمة من كل تشريع، وإن كان البحث عنها من ملح العلم, ومما يزيد القلب طمأنينة بسلامة هذا التشريع, وخلوه من التناقض والاختلاف، والخلل والانحراف، وصلاحيته لكل الناس في جميع العصور على السواء. أقول: إن شريعة الإسلام نَسَخَت جميع الشرائع؛ لأنه جاء بتشريع وافٍ قد اكتملت فيه أسباب الهداية, واشتملت أحكامه جميع متطلبات الحياة، فلم يَعُدْ للتشريعات السابقة ما يستدعي بقاءها معه بحالٍ, فقد تقلَّب الإنسان في أطوار شتَّى، فكان لكل طور منها تشريع يخصه ويلائمه، حتى انتهى العالم

إلى وقت كانت فيه حاجتهم ماسة إلى شريعة جامعة لأصول الشرائع كلها, تعدِّل المسار وتصحِّح المعتقد, وترد الناس إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها. فكان أن بعث الله محمدًا -عليه الصلاة والسلام- بهذا الدين الحنيف الذي ختم به الأديان، وأقام به الحجة على عباده، وألزم جميع المكلَّفين باعتناقه والعمل بشرعه، وترك ما لم يوافقه من الشرائع السابقة؛ فإنَّ فيها ما كان صالحًا لهم ولنا، وفيها ما كان صالحًا لهم قبل مجيء شرعنا الحنيف, غير ملائم لهم ولا لنا في شرعنا -كما عرفت. فجاءت هذه الشريعة الغرَّاء إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدًا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئًا فشيئًا، منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم؛ لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، حتى تمَّ الأمر, ونجح الإسلام نجاحًا لم يُعْرَفْ مثله في سرعته, وامتزاج النفوس به, ونهضة البشرية بسببه. أو تسير بهم من الأصعب إلى الصعب، ومن الصعب إلى السهل، ومن السهل إلى الأسهل ترفيهًا عنهم، وإظهارًا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه. أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساوٍ له؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصي. فالنَّسْخُ نوع من التدرج في التشريع، روعي فيه مصالح العباد في العاجل والآجل؛ فإن من الأمور التكليفية ما يصلح في وقت دون وقت، وفي حال دون حال, فأخذ الله عباده بالحكمة، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم. والنَّسْخُ وسيلة من أعظم الوسائل التربوية في وقت كان الناس فيه يعانون من انحلالٍ خلقي واجتماعي يصعب عليهم التخلُّص منه دفعة واحدة, كما يصعب عليهم أن يتحمَّلوا في بداية أمرهم بالإسلام جميع التكاليف التي أناطها بهم.

ولم يكن من الحكمة أخذهم بالشدَّة والعنف في وقت كانوا فيه في ضلالة عمياء، وجهالة، وتعلق شديد بعبادات سيئة، وتقاليد بالية، ومعتقدات فاسدة، وهم على ما هو عليه من العصبية القبلية، والحمية الجاهلية, والفكر المحدود، فكان النَّسْخُ في بعض الأحكام الشرعية العملية معالجة لتلك النفوس الجامحة، حتى تتخلص من أوزارها، وتتجه إلى طاعة ربها في أوامره السهلة والصعبة على السواء، متقلِّبة بين الصبر والشكر، راضية بما كتبه الله عليها من الفرائض والواجبات. هذه هي الحكمة العامة من وجود النسخ في شريعة الإسلام بوجه عام, والله الهادي إلى سواء السبيل.

المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن

المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن مدخل ... المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن المثل: أسلوب بياني بليغ يعبِّرُ عن خلجات النفس وكوامن الحسِّ، ويبرز المعقول في صور محسة، ويكشف عن الحقائق التي يدق فهمها، ويعرض الغائب في معرض الحاضر. وهو على إيجازه بحملٍ من المعاني الرائعة ما لا تسعه المجلدات الضخام، ويحمل في طيَّاته9 من المرامي والمقاصد ما يجعله دستورًا للحياة، يحتكم الناس إليه، ويحتجون به، ويسيرون على نهجه وهداه. وهو من أهم الأساليب البيانية المقنعة للعقل، والممتِعة للأذن، والمؤثِّرة في الوجدان. وهو من أجل ذلك يحفر لنفسه في الذهن مكانًا، ويمثل في الذاكرة فلا يُنْسَى. قال الخفاجي: سُمِّيَ مثلًا؛ لأنه مائل بخاطر الإنسان أبدًا1. ومن هنا كان المثل من أهم أساليب التربية في مختلف العصور، فهو خلاصة تجارب الحكماء والبلغاء، وهو ديوان العرب والعجم، يسجِّل تاريخهم الحافل بأخبراهم، المعبِّر عن آلامهم وآمالهم، والدالِّ على خبايا نفوسهم، وظروف بيئتهم، فالمثل -كما هو معروف- مرآة تعكس ميول الإنسان في ماضيه وحاضره ومستقبله، وهو يدلنا على مدى ما تميّز به عصره الذي قيل فيه من حكمه وتجربة، وعلم ومعرفة. والمثل -مع ذلك كله- رائد إلى الخير دائمًا، وزاجر عن الشَّرِّ غالبًا، لأنه في ذاته حكمة تحكم طبائع البشر، وتعبِّر عنها أصدق تعبير، فتدعو إلى ما يلائمها، وتنفر عن كل ما يتنافى مع واقعها. من هنا حفل الناس بأمثالهم، وتناقلوها فيما بينهم، جيلًا بعد جيل،

_ 1 انظر البرهان ج1 ص486.

واهتمَّ العلماء بجمعها من بطون الكتب، وأفواه الحكماء وغيرهم، ونقَّبوا عن مواردها، وكشفوا عن مضاربها، وعقدوا مقارنة بينها على اختلاف عصورها, وتعمَّقوا في فهم معانيها، وفرَّقوا بين سليمها وسقيمها، إلى غير ذلك مما يتعلق بها من بحوث. وأما أمثال القرآن الكريم، فهي في الذروة العليا في جميع ما أشرنا إليه من الفوائد العامة؛ لأن القرآن الكريم كتاب هداية، ومنهج حياة، يجد الناس جميعًا فيه ما يحتاجون إليه من مقوِّمات التقدُّم والبناء، والإصلاح الخلقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ويستطيعون أن يكتفوا به عن التشريعات التي وضعها الإنسان بعقله القاصر، ونظره المحدود. وقد تعدَّدت أغرض المثل في القرآن الكريم، حتى جلَّت عن الحصر، وعزَّت عن الإحصاء والعدِّ، ولكنها ترجع في جملتها إلى غرض واحد، هو دعوة الناس جميعًا إلى الله تعالى، وردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، فهي غنيّة بما فيها من إنذار وتبشير, ووعظ وتذكير، وترغيب وترهيب, ووعد ووعيد، إلى غير ذلك من الأغراض السامية التي تدفع الإنسان دفعًا إلى الدِّينِ القيم، الذي هو ينبوع الفضائل كلها. وقد نظر العلماء في أسلوب المثَل بوجه عام, وأسلوب المثل القرآني بوجه خاصٍّ، وبيَّنُوا الفرق الشاسع بين الأسلوبين، وذكروا أنه لا موازنة بينهما البتة، فأين كلام الناس من كلام الله تعالى! وقد وجدناهم يعرِّفون المثل، ويذكرون خصائصه الفنية، وسماته البلاغية، ويقسِّمونه إلى أقسام كثيرة، ويبينون أغراضه الاجتماعية، ومقاصده العقدية، والشرعية. فأردنا أن نسلك في هذا المبحث مسلكهم, فنعرف المثل عند اللغويين، والأدباء، والبلغاء، ثم نقسِّمه إلى أقسام باعتبارات مختلفة، ثم نذكر أهم خصائصه وسماته وأغراضه بإيجاز، مع التركيز على المثل القرآني، لبيان ما فيه من إيجاز وإعجاز.

تعريف المثل في اللغة

تعريف المثل في اللغة: قال ابن فارس1: "الميم، والثاء، واللام، أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مِثْلُ هذا، أي: نظيره". وقال الفيروزابادي2: "المثَل، والمِثْل، والمثيل؛ كالشبه، والشبه، والشبيه، لفظًا ومعنًى، والجمع أمثال. وقد يستعمل المثل -بكسر الميم- عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني، أي معنًى كان". وهو أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الندَّ يقال فيما يشاركه في الجوهرية فقط، والشكل يقال فيما يشاركه في الكيفية فقط، والمساوي يقال فيما يشاركه في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله نفي التشبيه من كل وجه خصَّه بالذكر، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 3. أي: ليس مثل صفته شيء من أوصاف الخلق، فالكاف بمعنى: مثل، والمثل بمعنى: الصفة، وفي الآية تأويلات أخرى4 أهمها هذا التأويل -والله أعلم. والمثل -بفتح الميم والثاء- يستعمل غالبًا في الأمور المعنوية، لهذا قال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5. وقال -جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6.

_ 1 معجم مقاييس اللغة ج5 ص296 ط2 حلبي. 2 بصائر ذوي التمييز في لطائف القرآن العزيز ج4 ص481. 3 الشورى: 11. 4 للشيخ دراز في كتابه النبأ العظيم ص132, بحث جليل في تفسير الآية, فراجعه إن شئت. 5 النحل: 60. 6 الروم: 27.

وقد نقل الزركشي في البرهان1 عن بعض العلماء في تعليل الفرق بين المِثْل والمَثَل: بأنه لو كان المِثْل والمَثَل سيان، للزم التنافي بين قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} , وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . فإن الأولى نافية، والثانية مثبتة له. ونحن نسلم أن بين المَثَل والمِثْل فرقًا ما، ولكننا لا نسلم بلزوم التنافي بين الآيتين، فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} معناه كما قال ابن كثير في تفسيره: "الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه"2. وأما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} فمعناه: ليس مثل صفته شيء من صفات الخلق كما تقدَّمَ. وبهذا التفسير لا يكون بين آية الشورى وآيتي النحل والروم تنافٍ من أي وجه. هذا، وقد فرَّق الإمام فخر الدين الرازي -من جهة أخرى- بين المثل -بالكسر, والمثل -بالفتح, فقال: "المثل -بالكسر: هو الذي يكون مساويًا للشيء في تمام الماهية، والمثل -بالفتح: هو الذي يكون مساويًا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية"3. "وقيل: المكسور بمعنى شبه، والمفتوح بمعنى الوصف"4. وابن منظور في لسان العرب لا يفرِّق بين المثل بالكسر، والمثل بالفتح، بل

_ 1 ج1 ص49 ط عيسى الحلبي. 2 ج2 ص496". دار الشعب. 3 انظر البرهان للزركشي ج1 ص491. 4 المصباح المنير ص564 ط. دار المعارف.

يجعلها بمعنى واحد فيقول: "مثل كلمة تسوية، يقال: هذا مِثْله، ومَثَله, كما يقال: شِبهه وشَبهه بمعنى"1. قال الراغب في مفرداته2: "أصل المثول: الانتصاب، والمثل المصور على مثال غيره، يقال: مثل الشيء, أي: انتصب وتصوّر، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار" 3. والتمثال4 الشيء المصوَّر، وتمثَّل كذا تصوَّر، قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 5. والمثال مقابلة شيء بشيء هو نظيره، أو وضع شيء ما ليحتذى به فيما يفعل. والمثلة: نقمة تنزل بالإنسان, فيُجْعَل مثالًا يرتدع به غيره, وذلك كالنكال، وجمعه: مَثُلات. قال تعالى في سورة الرعد: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} 6. قال: وقد أمثل السلطان فلانًا إذا نكَّل به، والأمثل يعبَّر به عن الأشبه بالأفضل، والأقرب للخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم. وعلى هذا قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} 7. وقال: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 8.

_ 1 انظر لسان العرب ج6 ص4132 ط. دار المعارف. 2 ص462. 3 الحديث أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه عند أبي داود: "من أحب أن يمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". انظر جامع الأصول ج6 ص536 حديث رقم 4748. 4 قال صاحب بصائر ذوي التمييز: التمثال بالفتح: التمثيل، والتمثال بالكسر: الصورة. 5 مريم: 17. 6 الرعد: 6. 7 طه: 104.

أي: الأشبه بالفضيلة، وهي تأنيث الأمثل". هذا، ويأتي لفظ المثل بمعنى الصفة، كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُون} 1. ويأتي بمعنى الحال، كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 2. والفرق بين الحال والصفة: أن الأول متغير، والثاني ثابت، أو شبه ثابت, ويأتي لفظ المثل بمعنى القصة والحكاية. هذا، ويطلق المثال في اللغة على معانٍ أُخَر غير التي ذكرناها، فقد يُسَمَّى الفراش مثالًا، والقصاص مثالًا، والحجة مثالًا، كما جاء في بعض المعاجم كلسان العرب ومقاييس اللغة. ويأتي المثال بمعنى المقدار، ويكون بمعنى العبرة. ومنه قوله -عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} 3. ويكون المثل بمعنى الآية. قال -عز وجل- في صفة عيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} 4. أي: آية تدل على ثبوته. وجميع المعاني التي ذكرناها للمثل بتصاريفه المختلفة تُرَدُّ إلى معنى المشابهة على نحوٍ ما.

_ 1 الرعد: 35. 2 البقرة: 17. 3 الزخرف: 56. 4 الزخرف: 59.

تعريفه عند الأدباء

تعريفه عند الأدباء: أمَّا تعريفه عند الأدباء فهو أخصّ من تعريفه عند اللغويين، فقد عرَّفوه بأنه قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر بينهما مشابهة، ليبيِّن أحدهما الآخر، ويصوره، نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمرك.

وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وفي أخرى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون} 2. ويعرِّفه بعضهم بأنه: قول محكي سائر، يُقْصَد به تشبيه حال الذي حكى فيه بحال الذي مثل لأجله، بأن يُشَبِّه مضربه بمورده3. "وضرب المثل في الكلام أن يذكر لحال ما يناسبها, فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيًّا، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو إحداث أثر خاص فيها، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا ينفذ أثره إلى قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلّا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه"4. وقد يكون ضرب المثل مشتقًا من قولك: "ضرب في الأرض" أي: سار فيها. فمعنى ضرب المثل: جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد, وهذا ما ذهب إليه أبو هلال في مقدمة كتابه5. وقد يكون معنى "ضرب المثل": نصبه للناس بإشهاره, لتستدل عليه خواطرهم, كما تستدل عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذ من قولهم: "ضربت الخباء" إذا نصبته وأثبت طنبه, فمثلًا قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} 6. معناه: ينصب منارهما ويوضِّح أعلامهما؛ ليعرف المكلَّفون الحق بعلاماته

_ 1 الحشر: 21. 2 العنكبوت: 43. 3 انظر التعبير الفني في القرآن ص227 للدكتور بكري شيخ أمين. 4 تفسير المراغي ج1 ص70 ط. الحلبي. 5 انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال. 6 الرعد: 17.

فيقصدوه، ويعرفوا الباطل فيجتنبوه، كما قال الشريف الرضي في كتابه تلخيص البيان في مجازات القرآن1: "وقد يكون معنى الضرب: إبقاء شيء على شيء، فكأن المثل مطابق للحالة, أي: للصفة التي جاء لإيضاحها".

_ 1 ص107.

تعريفه عند علماء البيان

تعريفه عند علماء البيان: أما تعريفه عند علماء البيان فهو: استعارة تمثيلية شاع استعمالها مذكَّرًا أو مؤنثًا, من غير تغيير في العبارة الواردة1. فإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وشاع استعمالها، وظلَّت باقية على هيئتها, واستساغها العقلاء لما فيها من دقة التصوير أضحت مثلًا يضرب. كقولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل، فقد ورد في امرأة فرَّطت في أمر، ثم طلبته بعد فوات فرصته، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلًا يضرب لكل مَنْ طلب أمرًا بعد التفريط فيه وبعد فوات وقته. وكقولهم: "تأتي الرياح بما لا يشتهي السُّفنُ" لمن يعرض له أمر لا يشتهيه تشبيهًا له بربان السفينة تزجيها الرياح إلى غير الوجهة التي يريدها. وهكذا يقال في جميع الأمثال السائرة نثرًا ونظمًا. والاستعارة التمثيلية: "هي اللفظ المركب المستَعْمَل في غير ما وُضِعَ له, لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي"2. وتشبيه التمثيل: "هو ما كان وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من عدة أمور -اثنين فما فوق- حسيًّا كان ذلك الوجه أو غير حسي"3. وإذا أطلق لفظ التمثيل انصرف إلى الاستعارة التمثيلية، فإذا أريد التشبيه ذو الوجه المركَّب قيل: تشبيه التمثيل، أو تشبيه تمثيلي.

_ 1 المنهاج الواضح للشيخ حامد عوني ج5 ص139. 2 المرجع السابق ص137. 3 المرجع السابق أيضًا ج1 ص66.

قال الجرجاني: "التشبيه عام، والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلًا"1. وأكثر أمثال القرآن الكريم نجد وجه الشبه فيها منتزعًا من هيئة مركبة، فيها الصوت واللون والحركة، ويحتاج البليغ في إدراكه إلى إعمال فكر، وإمعان نظر, فإذا استطاع أن يدرك وجه الشبه بين الطرفين نوع إدراك ملك عليه التمثيل مشاعره، وبهره ما فيه من جمال التعبير، ودقة التصوير، وروعة البيان. والحق عندي أن المثل في اللغة أعمّ مما ذكره علماء البيان، فليس هو محصورًا في الاستعارة التمثيلية، والتشبيه التمثيلي، والكتابة، وإنما هو قول محكيّ بليغ يصور المعنى المراد تصويرًا دقيقًا لا يتأتَّى في غيره من الأساليب. وما سُمِّيَ المثل مثلًا إلّا لأنه ماثل في الذهن, منطبع في الخيال. قال الألوسي في تفسيره2: "والأمثال تضرب للكشف والبيان، والمثل -بفتحتين- كالمثل -بكسر فسكون، والمثل في الأصل: النظير والشبيه، ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن، المشتَمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائعة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجَز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركَّبة خلافًا لمن وهم، بل لا يُشْتَرَط أن يكون مجازًا، إلى آخر ما قال" أ. هـ.

_ 1 أسرار البلاغة ج1 ص198. 2 روح المعاني ج1 ص163.

تعريف المثل القرآني

تعريف المثل القرآني: ونرى أن المثل القرآني لا يخضع لتعريف اللغويين أو الأدباء أو البلاغيين، وإنما هو أعم في مفهومه منها جميعًا. فالأمثال القرآنية هي تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء ورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم بطريق التشبيه، أم بطريق الكناية، فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير، ولا يستقيم

حملها على ما يُذْكَر في كتب الأدب من تشبيه المضرب بالمورد، ولا يشترط أن يكون فيها غرابة أو طرافة، ولكنها صور مختلفة لمعاني تَرِدُ للعبرة والاتعاظ، وتقريب ما يستعصي على العقول فهمه من الأمور الغيبية، كصفة الجنة، وكيفية زوال الدنيا، وغير ذلك، سواء صُرِّحَ فيه بلفظ المثل أم لم يصرَّح به، بأن أرسل إرسالًا, فاتخذه الناس مثلًا يحتجون به، ويعتبرون بما فيه. فالأمثال القرآنية مقاييس عقلية تخلو من التكلُّف والاعتساف، وقواعد كلية للمبادئ الخلقية الصالحة لكل زمان ومكان. والمثل القرآني أسلوب بياني يجمع في طيَّاته نماذج حية مستمَدَّة من الواقع المشاهد, لتكون هذه النماذج أقيسه عامة للحقائق المجرَّدة، أو الأعمال المجرَّبة، أو الأمور التي لا تقع تحت الحسِّ والإدراك في الدنيا، والتي يترتَّب عليها أحكام شمولية، ويُبْنَى عليها صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة. وبهذا الإطلاق العام لمعنى المثل في القرآن الكريم نفهم معنى قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1.

_ 1 آية: 89.

أنواع المثل القرآني

أنواع المثل القرآني: يرى بعض الباحثين أن الأمثال القرآنية تنقسم من حيث هي إلى ثلاثة أقسام: الأول: الأمثال المصرَّحة أو القياسية: وهي التي صُرِّحَ فيها بلفظ المثل أو ما يقوم مقامه. كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . [البقرة: 17] . {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُون} [الرعد: 35] . {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] . {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] . {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} . [النور: 40] .

والثاني: ما يُسَمَّى بالأمثال المرسلة، وهي جمل قد أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه، وكثر التمثيل بها لما فيها من العظة والعبرة والإقناع. وقد اكتسبت صفة المثلية بعد نزول القرآن الكريم وشيوعها في المسلمين، ولم تكن أمثالًا في وقت نزوله، وهي في جملتها مبادئ خلقية ودينية مركزة، مثل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] . {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] . {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَه} [يس: 78] . {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك} [الحج: 10] . {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] . {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُون} [سبأ: 54] . {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرّ} [ألأنعام: 67] . {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] . {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} [الإسراء: 84] . {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] . {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر: 38] . {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغ} [المائدة: 99] . {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل} [التوبة: 91] . {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان} [الرحمن: 60] . {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة} [البقرة: 249] . {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل} [يونس: 91] . {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] . {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14] .

{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} [الروم: 32] . {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] . {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سبأ: 13] . {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] . {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] . {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] . {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} [الصافات: 61] . {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] . {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . الثالث: ما يُسَمَّى بالأمثال الكامنة، وهي أمثال لم تضرب لبيان حال خاصة، ولا لصفة معينة، ولا لتلخيص حادثة وقعت في زمنٍ من الأزمان، ولم يصرَّح فيها بالتمثيل من قريب ولا من بعيد، ولكن يدل في مضمونها على معنى يشبه مثلًا من أمثال العرب المعروفة، أي: أنها أمثال بمعانيها لا بألفاظها، فالتمثيل فيها كامن غير ظاهر، لهذا أسموها بالأمثال الكامنة. قال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن, فهل تجد في كتاب الله: "خير الأمور أوساطها"؟ قال: نعم في أربعة مواضع: قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك} [البقرة: 68] . {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] . {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] . قلت: فهل تجد في كتاب الله: "من جهل شيئًا عاداه"؟

قال: نعم في موضعين: قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] . وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] . قلت: فهل تجد في كتاب الله: "احذر شرَّ من أحسنت إليه"؟ قال: نعم، قوله -عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] . قلت: فهل تجد في كتاب الله: "ليس الخبر كالعيان"؟ قال: في قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . قلت: فهل تجد: "في الحركات البركات"؟ قال: في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] . قلت: فهل تجد: "كما تدين تدان"؟ قال: في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} [النساء: 123] . قلت: فهل تجد فيه قولهم: "حين تَقْلين تدرين"؟ 1. قال: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42] .

_ 1 أصل هذا المثل أن رجلًا زنى بامرأة وأعطاها دراهم، فقالت له: أنا أحوج منك إلى التمتُّع, وقد أخذت منك الدارهم -وكان قد سُرِقَ منها مقلاة تقلي فيها السمك ونحوه -فقال لها: حين تقلين تدرين. أي: حين تريدين القلي تعرفين أنني الذي سرقت مقلاتك. انظر سياق هذا المثل في مجمع الأمثال. ج1 ص363.

قلت: فهل تجد فيه: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"؟ قال: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] . قلت: فهل تجد فيه: "من أعان ظالمًا سُلِّطَ عليه"؟ {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] . قلت: "فهل تجد فيه: "لا تلد الحية إلا حية"؟ قال: في قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] . قلت: فهل تجد فيه: "للحيطان آذان"؟ قال: في قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُم} [التوبة: 47] . إلى غير ذلك مما نقله السيوطي في الإتقان1. وأرى أن النوع الثالث ليس داخلًا في الأمثال على أيِّ صورة من الصور، لخلوه من وجه المشابهة بين المثل والممثل له. وهو مخالف في حقيقته المثل ومفهومه في اللغة، وما ذكره السيوطي وغيره عن الحسين بن الفضل ضرب من تدريب القريحة على استخراج النظائر القرآنية لبعض ما تمثل به الرعب في عصورهم المختلفة من الأقوال الحكيمة التي أوجزت حادثة من الحوادث، أو دلت على معنى من المعاني المعقولة. وأما النوع الثاني فهو من قبيل التشبيهات الضمنية التي تؤكد المعاني، وتبرزها إبرازًا يجعلها متميزة في النفس أكمل تمييز، أو هي من قبيل الكنايات التي تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله، فتجري مجرى الحكم. وهو كثير في القرآن الكريم لا يكاد ينحصر.

_ 1 ج1 ص28، وما بعدها ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب.

خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية

خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية: المثل في كلام الناس: قول بليغ يرسله حكيم، أو يجري على لسان واحد من الناس بقصد، أو بغير قصد، فيقع منهم موقع الغرابة والاستحسان، لمطابقته للقضية التي قيل فيها، أو للشَّأن الذي أريد تصويره بإيجاز بليغ. فيحفر له في أذهانهم مكانًا، يظل مائلًا فيه يذكر كلما وقع ما يشبه مورده. ويتميَّز المثل عن الأساليب البيانية بخصائص فنية, وسمات بلاغية كثيرة، جمعها القرآن الكريم في أمثاله, فكانت في الذروة العليا من البلاغة والتأثير في القلوب والعقول. أما خصائص المثل وسماته بوجه عام، فإنها تُرَدُّ في جملتها إلى أربعة أمور: الأول: الإيجاز البليغ: وهو تأدية المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة محكمة. الثاني: إصابة المعنى: بأن يكون المثل مؤديًا للغرض الذي ضُرِبَ له أو قيل فيه، بحيث إذا أُلْقِيَ على المخاطَب وقع من نفسه موقعه، وأصاب مرماه، وسلَّم به تسليمًا لا يقبل التردد. وهذا يقتضي أن يكون المثل مطابقًا للواقع، مجرَّبًا عند السامع، لا ينكره عقل ولا دين. الثالث: حسن التشبيه: وذلك بأن يكون وجه الشبه بين المشَبَّه والمشبَّه به قويًّا، يدركه الذهن من غير تكلُّف في التأويل، وأن يكون في التشبيه جدَّة وطرافة وابتكار، حتى يكون التأثير به أقوى وأقدر على إبراز المعاني المعقولة في صور محسَّة. فإن لم يكن وجه الشَّبَه بين المشَّبه والمشبَّه به قويًّا أو لم يكن في أسلوب التشبيه جدة وطرافة وابتكار كان فاترًا مبتذلًا غير مؤثر، وبالتالي يكون فاقد

القدرة على تأدية الغرض المراد منه، وهو إبراز الفكرة وتقوية المعنى، وإقناع السامع وإمتاعه، وتدريب ذهنه على التأمُّل والتفكير، وإطلاق خياله في المعاني المرسَلَة لفهمها واستيعابها, وربط بعضها ببعض، وغير ذلك من الأغراض التي لا يؤديها غير هذا الأسلوب البياني. الرابع: جودة الكتابة: وذلك إذا كان المثل من باب الكنايات، بأن يعبّر عن حكمة دلت على صدقها التجربة، وشهد لها الواقع بالسلامة والصحة. فالكناية تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله، وتبرز ما يستقبَح ذكره في صورة مقبولة لا يأباها الحسّ المرهف, ولا يمجُّها الذوق السليم، فهي أسلوب مقنع وممتع ومؤثر. وأمثال القرآن الكريم مستوفية لهذه الخصائص إلى حدِّ الإعجاز -ولا شك- فالإيجاز فيه من الدقة بحيث يسع اللفظ الواحد من المعاني المرادة ما لا تسعه المجلدات الضخام. ولكننا نجد الأمثال السائدة في كلام الناس تعوزها الدقة أو الطلاوة، أو البراعة في التعبير، أو حسن الحبكة في كثير من الأحيان. وكثير منها يخلو من صفة الثبات والخلود، فتتبعثر وتتلاشى مع مَرِّ العصور. أما أمثال القرآن الكريم فهي قواعد كلية تجتمع تحتها كل القوانين الأخلاقية والقيم الإنسانية، لذا كانت خالدة على مرِّ الزمان، صالحة لكل عصر ومكان، مقبولَة عند الخاصة والعامة، مستسَاغَة لدى الطباع المستقيمة، والعقول السليمة، لها جلال تشعر بوقعه القلوب المؤمنة، وجمال تستشفه الأذواق المعتدلة, ويجد فيها أصحاب الحسِّ المرهف كمالًا في رسم صور المعاني المرادة، لا يجدونه في غيرها. فأين قولهم مثلًا: "القتل أنفى للقتل" من قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} 1.

_ 1 آية: 179.

فقد تفوَّق قول الله تعالى على ما قاله أولئك العرب في كثير من الوجوه البيانية، ذكر بعضها الألوسي والرازي وصاحب المنار، وغيرهم من المفسرين. فكان ما عدوه من وجوه البيان بالغًا ما بلغ, لا يساوي فيما لم يذكروه قطرة من بحر، فجُلّ كلام الله تعالى عن أن يُعْقَد بينه وبين كلام الناس معادلة أو مفاضلة أو موازنة. وكان مما ذكر المفسِّرون من الوجوه: أولها: أن حروف المثل في الآية أقل، وكلما قَلَّت الحروف وكَثُرَت المعاني كان أبلغ في الإعجاز. وثانيها: أن قولهم: "القتل أنفى للقتل" ظاهره يقتضي كون الشيء سببًا لانتفاء نفسه، وهو محال، بخلاف الآية, فإن الضد فيها متضمِّن لضده، وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص. وعرَّف القصاص ونكَّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعًا من الحياة عظيمًا لا يُقْدَرُ قدره ولا يُجْهَل سره. وثالثها: أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل، وليس في الآية تكرير. ورابعها: أن قولهم لا يفيد إلّا الردع عن القتل، والآية تفيد الردع عن القتل، وعن الجرح، وغيرهما، فهي أجمع للفوائد. وخامسها: أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعًا، من حيث إنه يتضمَّن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة، وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى. وسادسها: أن القتل ظلمًا قتل، مع أنه لا يكون نافيًا للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، وإنما النافي وقوع القتل المخصوص، وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرًا وتقديرًا، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. سابعها: ما في الآية من عذوبة اللفظ وسلاسته, مما يدعو إلى قبول ما فيه من تشريع ببشاشة واستبشار, بخلاف قولهم: "القتل أنفى للقتل" فإنه يشعر

ببشاعة الوسيلة التي تحفظ عليهم الحياة، فلا يجعلهم يميلون إلى ما يحتويه المثل من دعوة إلى حقن الدماء بسفك الدماء قصاصًا. "وفي الآية من براعة العبارة، وبلاغة القول, ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطِّن النفوس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلًا أو إعدامًا، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم"1. هذا والمثل القرآني فوق ما ذكرنا، يتميز عن غيره بتصوير الحقائق المجرَّدة تصويرًا لا يبعد عن الواقع المحسّ، بمعنى أن ما فيه من تشبيه أو استعارة، أو كناية، أو مجاز, إنما هو من مقومات الوصول إلى الحق والحقيقة، بعيدًا كل البعد عن الخيال المقصود لذاته بغية الإمتاع الذهني أو العاطفي. ومع ذلك نجد هذا الأسلوب الحكيم لا يجيء في عزله عن الآيات السابقة له واللاحقة، وإنما يأتي مفسِّرًا لما قبله، ممهدًا لما بعده، مصحوبًا بالحكم على من أطاع ومن عصى. اقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 2. ثم اقرأ الآيات قبلها، واقرأ ما بعدها، فماذا تجد؟ إنك لتجد أربعة أمور متلازمة تسير جنبًا إلى جنب, لا تكاد تفارق أي مثل من أمثال القرآن الكريم: الأول: يفسر ما قبله من الآيات، فقد ذكر الله أوصاف المنافقين، ثم ساق المثل بيانًا لحالهم وشأنهم. الثاني: تمهيد المثل لما بعده، وهو تكليف الخلق بتوحيد الله وعبادته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3. الثالث: الحكم على من ضُرِبَ فيهم المثل، فإن كانوا من الأخيار فلهم الحسنى, وإن كانوا من الأشرار فلهم سوء العقبى. الرابع: يحمل المثل في طيَّاته من الحجج البالغة على صدق الرسل فيما

_ 1 انظر تفسير المنار ج2 ص107. 2 البقرة: 17. 3 البقرة: 21.

يبلغون عن ربهم، وذلك من خلال أسلوبه العام الذي يتميز بالخصائص التي ذكرناها آنفًا. يضاف إليها براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام. ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطُرُقٍ مختلفة بمقدرة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء. اقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاء} . وقوله -جل شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} . مع قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي} . ثم حاول أن توازن بين المثلين. إنك لن تستطيع الموازنة ولا المفاضلة بين الصورتين أو الأسلوبين، فكلما قلت في نفسك هذه الصورة أجمل من أختها، أو هذا الأسلوب أدقّ من الذي قبله أو الذي بعده، راجعتك نفسك في الحال؛ فعادوت النظر مرة بعد مرة، وفي كل مرة تفضِّل أحد الأسلوبين على الآخر، ثم ترجع في ذلك على التوِّ، وتحكم في آخر الأمر بالحكم الذي حكم الله به في محكم كتابه على كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2. هذا. وقد تتبعت خصائص المثل وسماته البلاغية في كتابي "الأمثال القرآنية" بشيء من التفصيل، فراجعه إن شئت -وبالله توفيقك.

_ 1 هود: 1. 2 الزمر: 23.

مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها ... مقاصد الأمثال القرآنية مواطن العبرة فيها: قد عرفت فيما سبق أن أمثال القرآن الكريم في الذروة العليا من الإعجاز البياني؛ لأنها تبرز المعاني في صور محسَّة, وتظهرها بإيجاز بليغ يأخذ بنواصي العقول، ويملك شغاف القلوب، ويبعث في النفوس مشاعر الإعجاب والانبهار، وتدل بعمق على مواطن العظة والاعتبار. ونريد أن نتكلم هنا عن أهم الأغراض والفوائد التي يحصُل عليها كل متأمِّل في كتاب الله -عز وجل. ومن المعلوم أن كل وراء مقصد عام مقاصد أخرى تتصل به او تتفرع عنه. ومن هذه المقاصد مجتمعة تنبعث كوامن العظة والعبرة, وتتفجر ينابيع العلم والحكمة. والأصل في البيان أن يتضمَّن التعريف بما يراد التعريف به بأسلوب مباشر، والخروج عن هذا الأصل لا يكون عند البلغاء والعقلاء إلّا لغرض يقتضي ذلك. ولما كانت الأمثال من الأساليب البيانية غير المباشرة للتعريف بما يُراد التعريف به، وكانت من أساليب الكلام البليغ التي يلجأ إليها كبار البلغاء، ولما كانت تصاريف الرب الحكيم منَزَّهة عن العبث -كان اللجوء إلى ضرب الأمثال في القرآن لا يخلو عن غرض يدعو إليه"1. وأغراض ضرب الأمثال في القرآن لا تنحصر، لكنها تُرَدُّ في جملتها إلى مقصد واحد، وهو بيان الحق الذي جاءت به الرسل لهداية الخلق، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده, والانقياد لطاعته -عز وجل، وذلك بوضع منهج متكامل روعيت فيه مصالح العباد في العاجل والآجل. وإذا كانت هذه الأغراض لا تنحصر, فإنه بإمكاننا أن نذكر أصولها بوجه عام، وهي ستة يندرج تحتها فروع بحسب من ضُرِبَ له، أو ضُرِبَ فيه المثل. الغرض الأول: تقريب صورة الممثل له إلى ذهن المخاطب، وذلك بأن يكون المخاطب جاهلًا بحقيقة الشيء الممثَّل له جهلًا مطبقًا، أو لديه نوع جهالة

_ 1 الأمثال القرآنية, عبد الرحمن حسن حبنكة ص39 ط. دار القلم, دمشق, بيروت.

به، أو كان غامضًا عليه مع علمه به على وجه الإجمال, فيأتي المثل القرآني لرفع هذه الجهالة وإزالة هذا الغموض، والفصل في القضية فصلًا يقرِّه العقل السليم, ولا يمجه الطبع المستقيم، فلا يقع المخاطب بعد فهمه لهذا المثل تحت الشك أو الخيال المفرط، فلا يسعه إلا الإيمان به والتسليم بنتائجه. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن الحور العين والولدان المخلدين في مثل قوله -جل شأنه: {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 1. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} 2. فالحور العين ذوات صور يمكن أن تدرك بالحسِّ الظاهر, ولكنهن مجهولات لنا, بعيدات الآن عن إدراكنا الحسِّي وعن تصوراتنا الخيالية، فيقرِّب الله لنا طرفًا من صورة لون يشرتهن ونعومتها، وغير ذلك من نعوتهن. ويكشف لنا عن طبيعة الولدان وصورهم المحسَّة في صورة ذات بهجة وجمال ساحر, تجعل المخاطَب كأنه قد رأى وسمع وألمَّ ببعض ما لهؤلاء وأولئك من خصائص وسمات. وهذه الأمثال وأشباهها أمثال تقريبية تقرِّبُ فهم الحقيقة, ولا تعبِّر عن ذاتها؛ إذ هي أعظم من ذلك بكثير. الغرض الثاني: الإقناع بأمر من الأمور، وهذا الإقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجة البرهانية، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجة الخطابية، وقد يقتصر على لفت النظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة. والحجة البرهانية هي الحجة الملزمة التي تفيد اليقين، أما الحجة الخطابية فهي حجة إقناعية ظنية تفيد الظن الراجح. ولفت النظر يكفي فيه إيراد المثل المشابه ولو لم يشتمل على آية حجة. فمن البراهين العقلية المقنعة ما ورد من الأمثال في بدء الخلق وإعادته، فقد استدلَّ الخالق -جل شأنه- على إعادة الخلق ببدئهم، وهو من أقوى البراهين على الإطلاق؛ لأن القادر على البدء والإيجاد من العدم قادر على الإعادة لا محالة.

_ 1 الواقعة: 22-23. 2 الطور: 24.

قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون} 1. {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه} 2. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 3. {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4. الغرض الثالث: الترغيب والترهيب بذكر محاسن ما يرغِّب فيه ومساوئ ما ينفِّر منه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 5. فالمثل الثاني ينفِّر من الكلمة الخبيثة ويحرِّض على الكفِّ عنها. الغرض الرابع: إثارة محور الطمع والرغبة, أو محور الخوف والحذر لدى المخاطب. ففي إثارة محور الطمع يتجه الإنسان بمحرِّض ذاتي إلى ما يراد توجيهه له. وفي إثارة محور الخوف والحذر يبتعد الإنسان بمحرِّض ذاتي عَمَّا يراد إبعاده عنه. وهذا من الأغراض التربوية المهمة، ونلاحظه بكثرة في البيانات القرآنية "أي: في الأساليب التي تجسم المعاني في صور محسَّة ومشاهدة في الواقع الخارجي، ومن خلال الظواهر الطبيعية والمشاهد الكونية".

_ 1 الأعراف: 29. 2 الأنبياء: 104. 3 الروم: 27. 4 يس: 77-79. 5 إبراهيم: 24-26.

من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1. وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. ففي المثل الأول إثارة لمحور الطمع في الإنسان, وذلك بتمثيل بذل المال في سبيل الله ببذر الحب في الأرض الخصبة الطيبة. والناس بطبعهم يعرفون قيمة العطاء الزراعي إذا أقبل، فإذا كان هذا الإقبال في العطاء الزراعي قد يصل بعملية حسابية غير معقَّدة إلى سبعمائة ضعف، كانت إثارته لطمع الإنسان الزارع والتاجر بطبعه أعظم وأكثر. فأي إنسان لا يحب الربح؟ وأي إنسان لا يطمع في فيوض الثروة؟ فالغرض من التمثيل في هذا النصِّ مع بيان حقيقة مضاعفة ثواب المنفقين في سبيل الله إلى أضعاف كثيرة جدًّا -إثارة محور الطمع في فضل الله في نفس المخاطبين، ليكون هذا الطمع محرِّضًا ذاتيًّا في الأنفس على بذل الأموال في سبيل الله. والمثل الثاني يدعم المثل الأول ويؤكده, ويفصح عن الجوانب الكامنة فيه، وذلك بتشبيهه البذل في سبيل الله بإخلاص وطيب نفس, بجنة بربوة قد أثمرت وأينعت وآتت أكلها ضعفين في جميع الأحوال المناخية والظروف الطبيعية، بحيث لا يضرُّها الوابل الغزير فيغرقها، ولا يضرُّ بها إن قلَّ قدره، وأو تأخرَّ نزوله فهي جنة مباركة تنبت بإذن ربها نباتًا حسنًا في كل حين وتحت أي مؤثِّر خارجي.

_ 1 البقرة: 261. 2 البقرة: 265.

وفي هذا المثل فوق إثارة الطمع في ثواب الله تحريض على الإخلاص له والثقة بفضله، وقصر المهمة على طلب مرضاته. أما إثارة محور الخوف والحذر، فيظهر في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 2. ففي المثل الأول يشبه الله أعمال المرائين والذين يتبعون صدقاتهم بالمَنِّ والأذى بحجر أملس عليه تراب نزل عليه الماء، فجرف التراب، وترك الحجر صلدًا يابسًا لا يمسك ماء، ولا ينبت كلأ. وفي المثل الثاني يشبه الله -عز وجل- الكافر أو المرائي وعمله بحال رجل له جنة، بذل وسعه في إصلاحها وتشجيرها وتنقيتها من الآفات الضارة لتكون هذه الجنة قوتًا له في حياته، وقوتًا لعياله بعد موته، وذريته صغار ضعاف، وهي كل ثروته ومنتهى أمله في الحياة، لا يملك سواها، فأصابه الكبر والوهن، فأتى إعصار مدمِّر فيه نار، فأحرق جنته وأحرق معها آماله كلها، وبدَّله بعد الأمن خوفًا على نفسه وعلى ذريته من بعده. وفي هذين المثلين كما هو واضح إثارة لمحور الخوف والحذر بأبلغ أسلوب، وأعذب بيان.

_ 1 البقرة: 264. 2 البقرة: 266.

ولقد ضرب الله أمثلة حية من قصص الأولين أَبَانَ فيها سنته في معاملة عباده, ومجازاتهم بالثواب أو بالعقاب؛ ليبعث في نفوس المؤمنين كوامن الرغبة والطمع في ثوابه ورحمته، ويبعث دوافع الخوف في نفوس الصادِّين عن سبيله، والمعرضين عن ذكره. والفرق بين هذا الغرض والذي قبله: أن هذا الغرض لا يقتصر على ذكر محاسن الشيء وتقبيحه, وإنما يذكر ما فيه من ربح جَمٍّ، أو خسارة فادحة؛ ليبعث في النفوس تلك الغرائز الكامنة التي أشرنا إليها، بحيث تكون هي الدوافع الأساسية للتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. الغرض الخامس: مدح من يستحق المدح، وذم من يستحق الذم، بقصد التمييز بين المصلِح والمفسِد، والمحسِن والمسيء؛ ليزداد المحسِن إحسانًا، ويرعوي المسيء عن إساءته. والأمثلة في ذلك كثيرة، منها ما ضربه الله في شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في سورة الفتح من قوله -جل شأنه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1. إلى آخر السورة. ومن ذلك ما ورد في ذمِّ اليهود من سورة الجمعة: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 2. الغرض السادس: شَحْذُ ذهن المخاطَب، وتحريك طاقاته الفكرية، أو استحضار ذكائه؛ لتوجيه عنايته حتى يتأمَّل ويتفكَّر، ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكر. وهذا النوع من الأمثال يخاطَبُ به الأذكياء وأهل التأمُّل والتفكُّر، ومعلوم أن استخدام الأساليب الذكية التي يحتاج إدراك المراد منها إلى ذكاء، مما يرضي الأذكياء، ويحرك طاقاتهم الفكرية، ويلفت أنظارهم بقوة، ويدفعهم إلى توجيه عنايتهم لإدراك المراد بالتأمُّل وإمعان النظر.

_ 1 آية: 29. 2 آية: 5.

ومن الأمثال القرآنية التي تصلح شاهدًا لهذا قول الله تعالى في سورة الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. إن إنزال القرآن على جبل من الجبال ليس من خبرات الناس حتى يُضْرَبَ المثلُ به للإقناع أو للتقريب أو لغير ذلك من الأغراض التي سبق شرحها، لكنه مَثَلٌ يحرِّك في الأذكياء طاقاتهم الفكرية, ويوجِّه عنايتهم حتى يتأمَّلوا ويتفكَّروا ويدرسوا ويتابعوا البحث، رجاء أن يصلوا إلى معارف يحلُّون بها لغز هذا المثل. ويشير إلى هذا قول الله تعالى عقب ضرب المثل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فما جاء في المثَل يحتاج إلى تفكُّر، وأشار إلى بعد مدرك هذا النوع من الأمثال بقوله: {َتِلْكَ} إذ من المعلوم أن هذه الإشارة تستعمل فيما هو بعيد حسًّا أو معنًى أو منزلة. وبعد. فهذه أهم المقاصد التي اشتملت عليها الأمثال القرآنية. وهي مقاصد عامة يندرج تحتها كثير من الأهداف الجزئية التي ينقِّب عنها الباحث المحقِّق المدقق، المتعمِّق في أصول الشريعة واللغة. فالأمثال القرآنية كما ذكرنا فيما سبق قواعد عامة، أو أصول كلية يندرِج تحتها من المسائل الفرعية والأمور الجزئية ما لا ينحصر. والقرآن الكريم -كما نعلم- كتاب وافٍ بمطالب البشر على اختلاف أجناسهم وعصورهم وبيئاتهم، فما من صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس إليه إلّا وسِعَها تشريعه، وشملها بيانه، فهو كتاب هداية، ومنهج حياة.

_ 1 آية: 21.

المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم

المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم المقسم به ... المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القسم في القرآن الكريم أسلوب القسم في اللغة: طريق من طرق توكيد الكلام وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلِّم، إذ يؤتي به لدفع إنكار المنكرين أو إزالة شك الشاكِّين. فالأساليب الخبرية تختلف باختلاف غرض المتكلِّم وحال المخاطب. فإذا كان المخاطَب خالي الذهن، جاءه الخبر من المتكلم من غير توكيد بالقسم ولا بغيره. وإذا كان المتكلم قد رأى أن المخاطب يشك في كلامه أكَّدَ له القول بنوع من أنواع التوكيد، وأهمها: القسم. وإذا كان قد رأى المخاطَب ينكِرُ قوله, كان التوكيد أولى وألزم. ومن هنا قسَّم علماء البلاغة أسلوب الخبر إلى ثلاثة أقسام: أ- ابتدائي، ويُلْقَى لخالي الذهن من غير توكيد. ب- طلبي: ويلقى لمن داخله الشك مؤكدًا بأداة من أدوات التوكيد. ج- إنكاري، ويلقى لمن أنكر القول مؤكدًا بأكثر من توكيد. وللقسم في القرآن الكريم مقاصد كثيرة فوق التي ذكرناها، وفي طيَّاته مواطن للعظة والعبرة، ومجالات رحبة للتأمُّل والنظر، ولطائف خفية يكتشفها المؤمن بنور بصيرته، فيزداد بها يقينًا يسمو به إلى مراتب العارفين بربهم -جل جلاله وعز شأنه. المقسَم به: يتألَّف أسلوب القسم من: مقسَم به، ومقسَم عليه، وأداة قسم. ونتكلَّم أولًا عن المقسَم به، فنقول: المقسَم به لا ينبغي أن يكون إلّا باسم معظَّم في ذاته أو لمنفعة فيه، أو للتنبيه على كوامن العبرة فيه.

وقد أقسم الله -تبارك وتعالى- بذاته، وأمر نبيه أن يقسِم به، وأقسَم بنبيه، وببعض مخلوقاته. أ- أقسم بذاته في ستة مواضع: الأول: في سورة النساء آية "65" قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} . الثاني: في سورة الحجر "92" قال -جل شأنه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . الثالث: في سورة مريم "68" قال سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} . الرابع: في سورة الذاريات "23": {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . الخامس: في سورة المعارج "40": {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} . السادس: في سورة الشمس: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} . على أن "ما" في الآيات بمعنى "من" أي: والسماء وبانيها، والأرض وطاحيها، ونفس ومسويها، وهو قول مجاهد كما يذكر ابن كثير1. "وقد أوثرت "ما" على "من" لإرادة الوصفية، أي: القادر الذي أبدع خلقها"2. ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية بمعنى: والسماء وبنائها، والأرض وطحائها، ونفس وتسويتها، وهو قول قتادة، وغيره.

_ 1 ج8 ص434. 2 انظر القاسي ج17 ص6168.

ب- وأمر نبيه أن يقسِمَ في ثلاثة مواضع: الأول: في سورة يونس "53" قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . الثاني: في سورة التغابن7: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . ج- وأقسم بنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- في موضع واحد من كتابه العزيز، فقال -جل شأنه- في سورة الحجر "72": {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون} . قال السيوطي في الإتقان1: "أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسًا أكرم عليه من محمد -صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون} . وأخرج ابن جرير الطبري عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس أيضًا في تفسير هذه الآية قال: "ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلّا بحياة محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. د- وأقسَمَ -جل شأنه- بملائكته، فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} .

_ 1 ج4 ص55. 2 جامع البيان ج14 ص44.

وأقسم بالرياح، فقال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} . وأقسم بالنجم والشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، والخيل، والتين والزيتون، وطور سنين، والبلد الأمين، وغير ذلك من مخلوقاته، لما فيها من دلائل القدرة، وآيات العظمة، ومواطن العبرة. ولله أن يقسِمَ بما شاء على ما شاء، وليس لنا أن نقسِمَ إلا بذاته أو صفة من صفاته. لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما, عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم, فمن كان حالفًا فليحلِف بالله أو ليصمت".

المقسم عليه

المقسَمُ عليه: والمقسم عليه هو الذي يُرَاد توكيده، أو تعظيمه، أو التنبيه على ما فيه من عظاتٍ وعبر، ونفع وضرر. وقد أقسَمَ الله -جل شأنه- في كتابه العزيز على أمور كثيرة ترجع في جملتها إلى أمرين: الأول: أصول الإيمان. والثاني: حال الإنسان. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب "التبيان في أقسام القرآن": "فهو سبحانه يقسِم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها، تارةً يقسِم على التوحيد، وتارة يقسِم على أن القرآن حقٌّ، وتارة على أن الرسول حقٌّ، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة على حال الإنسان.

فالأول كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} . والثاني كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . والثالث كقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} إلى آخر القصة. وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 1. وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . وأما القسم على الجزاء والوعد والوعيد, ففي مثل قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . ثم ذكر تفصيل الجزاء، وذكر الجنة والنار، وذكر أن في السماء رزقهم وما يوعدون، ثم قال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون} 2. ومثل قوله:

_ 1 الحاقة: 38-41. 2 الذاريات: 23.

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا، عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . ومثل: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} . وأما القسم على أحوال الإنسان, فكقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} الآية. وأقسم على صفة الإنسان بقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} . وأقسم على عاقبته، وهو قَسَمٌ على الجزاء في قوله: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وفي قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . أ. هـ1.

_ 1 بتصرف من كتاب "التبيان في أقسام القرآن" ص3-8.

أدوات القسم

أدوات القسم: أدوات القسم هي: الباء، والواو، والتاء، أما الباء فهو أصلها، ولهذا خُصَّ بأحكام منها: 1- ذكر الفعل معه، مثل: "أقسم بالله لتفعلن". 2- دخوله على الضمير مثل: "بك لأفعلن". 3- القسم الاستعطافي مثل: "بالله هل قام زيد؟ ". أي: أسألك بالله مستحلفًا. وأما الواو فإنه يجر الاسم الظاهر، ولا تتعلق إلّا بمحذوف يُقَدَّر بنحو: "أقسم، وأحلف". وأما التاء فإنه يختص باسم الله تعالى، فلا يُقَالُ تالرب، ولا تالكعبة. وورد قليلًا قولهم: تربى، وترب الكعبة، وتالرحمن، ولا يقاس عليه. والقسم بالواو في القرآن أكثر من القسم بالباء والتاء. "وقد نبَّه ابن هشام في المغني على قاعدة يجب وضعها في الاعتبار عند الإعراب إذا ورد القسم بشيء عُطِفَ عليه مثله فقال: إن تلتها واو أخرى نحو قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . فالتالية واو العطف، وإلّا لاحتاج كلٌّ من الاسمين إلى جواب". أ. هـ1.

_ 1 انظر ج2 ص361.

مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه

مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه: اعلم أن الله -عز وجل- لا يقسِمُ بشيء إلا وفيه موضع للعبرة، وموطن للعظة والذكرى، ومجال رحب للتأمُّل والنظر، وكان من ورائه مقصد يطلبه المؤمن المتدبِّر والعاقل المستبصر. وكثيرًا ما يحمل المقسم عليه خصائص المقسَم به وسماته, فتكون المناسبة بينهما جدّ قوية، على ما سيأتي بيانه. فقد يقسِمُ الله بالشيء لتعظيمه, أو للتهويل من شأنه, والتحذير من شره، أو للتذكير بنعمه، أو لدعوة العقلاء إلى التأمُّل فيه، والتعرُّف على أسراره، وقد

تجتمع هذه الأغراض كلها في القسَم، وقد يجتمع بعضها دون البعض الآخر، ولكن المقصد الأصيل من القسم هو توكيد المقسَم عليه وتقريره وتثبيته في قلوب العباد ليستيقنوه حق الاستيقان، على أن توكيد المقسَم عليه بالمقسَم به يُعَدُّ ضربًا من الإيجاز، فهو دائمًا يأتي بالدعوة مصحوبة بدليلها, فيوفر للقارئ منطلقًا رحبًا، ويفتح له أبوابًا واسعة للتأمل والنظر. فلو وقف القارئ أمام آية من آيات القسم, وأخذ في تدبرها وتفهُّم معانيها, لاستطاع أن يستخرج منها عشرات، بل مئات الأدلة على صحة الدعوى وصدق المقسَم عليه، فإن المقسَم به دائمًا ما يحمل السامع على الإيمان بالمقسَم عليه قبل أن يرد على مسامعه ذكره. فإذا قرأ المتأمل مثلًا قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . إلى قوله -جل شأنه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} . أيقن أن من بيده تصريف هذه الآيات الكونية قادرًا على كل شيء. فالمشركون لما أنكروا الرسالة والوحدانية، والبعث والجزاء, واستبعدوا ذلك كله أيما استبعاد, اقتضى توكيد ما أنكروه، وتقرير ما جحدوه بشتَّى أنواع التوكيد، ولا شكَّ أن القسَم من أقوى هذه الأنواع، وقد جرت عادة العرب توكيد عظائم الأمور به، فجاء القرآن الكريم على وفق ما جرت به عادتهم من جهة, وللأغراض التي ذكرنا بعضها من جهة أخرى. ففي الذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات, عظات بالغة، وآيات ناطقة بوحدانية الله تعالى وعظيم قدرته على تصريفها، وإرسالها نعمة على قوم، ونقمة على آخرين، وجعل فيها الحياة للإنسان والحيوان والنبات، وصنَّفَها وفق حكمته أصنافًا شتَّى، وجعل لكل صنف منها وظيفة كونية خاصة. فمنها ما يذرو النبات ويحركه لينمو ويزدهر, ومنها ما يحمل السحب المثقَلَة بالماء.

ومنها ما يجري بهذه السحب في يسر وخِفَّةٍ إلى حيث شاء الله -جل جلاله. ومنها ما ينزِّل المطر من هذه السحب بقدر معلوم إلى أماكن محدودة. ومنها ... ومنها.. والمؤمن العاقل الحصيف يتلمَّس مواطن العبرة في كل آية من آيات القرآن الكريم، وينظر في هذا العالم نظرة الواعي البصير. وما هذه الأقسام التي أقسم الله بها إلّا دعوة للتأمل والنظر. فمن نظر أبصر، ومن أبصر عرف. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. صدق الله العظيم.

_ 1 ص: 29.

وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه

وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه ... وجه المنسابة بين المقسَم به والمقسَم عليه: التناسب بين الآيات والسور ضرب من الإعجاز البياني للقرآن الكريم، فهو كتاب محكَم النَّسْجِ، لا تجد فيه خللًا بين كلماته، ولا تنافر بين حروفه، ولا تناقض في معانيه ولا في مراميه. مع أنه نزل منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، فانظر كيف رتَّبه الله ترتيبًا فريدًا غاية في الحسن والجمال، والجلال والكمال، بهر العقول ببراعة نظمه، وسلاسة أسلوبه، ودقة تصويره, وروعة تعبيره، وعذوبة بيانه. فإذا تأمَّلنا مثلًا في آيات القسَم وجدنا الصلة جدَّ قوية بين المقسَم به والمقسَم عليه، وأدركنا أن بينهما تناسبًا وثيقًا؛ بحيث لو جيء مكان أحدهما بشيء آخر لاختلَّ النظام, وذهبت مواطن الجمال والجلال. فقد أقسم الله مثلًا بطوائف من الملائكة على وحدانيته وربوبيته, لنفي ما زعمه المشركون من وجود صلة نسبية بينه وبينهم، فقال:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . فقد زعموا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا بينه وبين الجِنَّة نسبًا، فأقسم بهم لبيان وظائفهم، وتحديد مكانتهم، وإثبات كماله في ذاته، وبيان أنه الواحد الأحد, رب السماوات والأرض وما بينهما. فلو جيء بمقسَم به آخر غير الملائكة، فقيل مثلًا: "والذاريات ذروًا" أو قيل: "والنجم إذا هوى" لاختلَّ نظم الكلام ونسق المعاني، ولذهب وجه فريد من وجوه الإعجاز البياني، وعلى ذلك فقس. وبالله توفيقك.

الفرق بين القسم والحلف

الفرق بين القسم والحلف: ونختم هذا المبحث ببيان الفرق الدقيق بين القَسَمِ والحلف، تتمة للفائدة. قال أبو هلال العسكري: "الفرق بين القسَم والحلف أن القسم أبلغ من الحلف؛ لأن معنى قولنا: أقسم بالله: أنه صار ذا قسم بالله. والقسم: النصيب، والمراد أن الذي أقسم عليه من المال وغيره قد أحرزه، ودفع عنه الخصم بالله. والحلف من قولك: سيف حليف، أي: قاطع ماضٍ. فإذا قلت: حلف بالله؛ فكأنك قلت: قطع المخاصمة بالله، فالأول أبلغ, يتضمَّن معنى الآخر مع دفع الخصم, ففيه معنيان، وقولنا: حلف، يفيد معنًى واحدًا, وهو قطع المخاصمة فقط، وذلك أن من أحرز الشيء باستحقاق في الظاهر فلا خصومة بينه وبين أحد فيه، وليس كل من دفع الخصومة في الشيء فقد أحرزه. واليمين اسم للقسَم مستعار، وذلك أنهم كانوا إذا تقاسموا على شيء تصافحوا بأيمانهم, ثم كثر ذلك حتى سُمِّيَ القسم يمينًا"1.

_ 1 "الفروق اللغوية" ص42.

المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن

المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن مدخل ... المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن انفرد القرآن الكريم بطريقة سويِّة في تأديه المعاني وإبرازها في قوالب لغوية لا تنافُرَ بين ألفاظها ولا بين حروفها. إنها طريقة مستقيمة لا عوج فيها، ولا تناقض ولا اختلاف، تسلك بالناس مسالك الهدى من غير تكلُّف ولا اعتساف، وتأخذ بتلابيب عقولهم إلى التأمُّل والنظر في الحجج الساطعة التي يأتي بها الواقع المشاهَد، بحيث لا يسع أحد إنكاره أو المراء فيه، إلّا من سفه نفسه، وألغى عقله، وتخلى عن فطرته التي فطره الله عليها. فأسلوب القرآن في الإقناع ممتِع، يملك على المؤمنين أفئدتهم، فتلين وتخشع من خشية الله، وتستنير بنور الإيمان الذي يزداد كلما تُلِيَت آياته بتدبُّر وتبصُّر. قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 1. ولهذا الأسلوب القرآني خصائصه الفنية، وسماته البلاغية، ولطائفه اللغوية، وسوانحه العقلية، وتأثيره الخاص في النفوس السوية، وفي النفوس الجامحة أيضًا. وله جمال يعرف ولا يوصف، فمهما قيل فيه فهو أسمى وأرفع من أن تحيط بكنهه العقول، أو تعبِّر عنه ألسنة المتكلِّمين أو أقلام الكاتبين. ولكن لا بُدَّ أن ندلي بدلونا المتواضع مع أولئك الذين سبقونا إلى الحديث المستفيض عن هذه الخصائص والسمات، واللطائف والسوانح، فنتكلم عنها من خلال كلامهم، ونشهد معهم بما شهدوا به على طلاوة أسلوب القرآن وجلاله, بعد أن ذقنا شيئًا من حلاوة ألفاظه, وعرفنا شيئًا عن سلامة منطقة، وبراعة تعبيره، ودقة تصويره، وروعة بيانه.

_ 1 الجن: 1-2.

وينبغي أن نقرِّرَ بادئ ذي بدء أن خصائص القرآن التي تميَّزَ بها عن غيره من الكتب السماوية بوجه خاص، وعن كلام الناس بوجه عام، فجعلته معجِزًا في بيانه وتشريعه. قد أفاض في ذكرها الأدباء والبلغاء من أصحاب الملكات الفريدة، والمواهب الفذة، فكانوا بين مقلٍّ في سردها ومكثِر، ولكن لم يقل واحد منهم إنه قد أحاط بما لديه خبرًا، بل إنهم جميعًا لم يقدموا لنا من هذه الخصائص إلا قطرة من بحر، فلم يزيدوا على أن قرَّبوا لنا البعيد بِضَرْبٍ من التمثيل بغية الإيضاح والتبيين. ويبقى القرآن أبدًا هو الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه, ولا تنقضي غرائبه، ولا تبلى جدته، ولا يمله قارئوه ولا سامعوه. ونحن إذا سمحنا لأنفسنا أن نتكلَّم عن بعض هذه الخصائص القرآنية, فإنما نذكر على وجه التمثيل والتقريب أيضًا، وما لا يدرك كله لا يترك جله.

الخاصة الأولى: جمال التعبير

الخاصة الأولى: جمال التعبير اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام, وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب, وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب. وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ, مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت. فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا. واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء.

"ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي, وذاك النظام الصوتي, أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية, كانا سورًا منيعًا لحفظ القرآن من ناحية أخرى، وذلك أنّ من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع، ويثير الانتباه، ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم، وبذلك يبقى أبد الدهر سائدًا على ألسنة الخلق وفي آذانهم، ويُعْرَف بذاته ومزاياه بينهم، فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبيدله مصداقًا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. وإن نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته وسكناته، ومدَّاته وغنَّاته، واتصالاته وسكتاته, أمر يبهر العقول، ويسترعي الأسماع ويستهوي النفوس، بصورة تختلف كل الاختلاف عَمَّا يجده المتذوق لكلام الناس من نسق وانسجام, فإنه مهما كان كلام البشر سهلًا جزرًا عذبًا, فإنه لا يخلو من قصور في المعنى, أو ثِقَلٍ في النطق، أو خَلَلٍ في الترتيب. "وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية، وكان بعيدًا لا يسمع إلّا صدى الصوت من غير تمييز للحروف والكمات, متميزًا بعضها عن بعض, يشعر من نفسه -ولو كان أعجميًّا لا يعرف العربية- بأنه أمام لحن غريب, وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر؛ لأن الموسيقى تتشابه أجراسها, وتتقارب أنغامها, فلا يفتأ السمع أن يملَّها، والطبع أن يمحيها، ولأن الشعر تَتَّحِدُ فيه الأوزان, وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبًا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل، بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يملّ؛ لأنه ينتقل فيه دائمًا بين ألحان متنوعة، وأنغام متجددة، على أوضاع مختلفة, يهز كطل وضع منها أوتار القلوب، وأعصاب الأفئدة. وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسَّته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء

_ 1 مناهل العرفان ج2 ص209.

أكان مرسلًا أم مسجوعًا، حتى خُيِّلَ إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئًا قريبًا منها إلّا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم -وهو الوليد بن المغيرة: "وما هو بالشعر" معللًا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه، ولا في قصيده. بيد أنه تورَّط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية، وبين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه. ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور؛ لكنه معجز ليس كمثله كلام، لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه؛ ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلّا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمَّدية، وسموَّها ونبلها"1. وعلمت كذلك أن هذا القرآن ليس من عند بشر، ولكنهم جحدوا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، وتعاليًا على الحقِّ, واستكبارًا في الأرض بغير حق. قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2. وقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 3. ونخلص من هذا الذي ذكرناه آنفًا إلى أن اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سماتٍ رئيسية:

_ 1 انظر "مناهل العرفان" ج2 ص206، 207. 2 الأنعام: 33. 3 النمل: 14.

الأولى: جمال وقعه في السمع. الثانية: انسجامه الكامل في المعنى. الثالثة: اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى. وقد نجد هذه السمات الثلاثة في بعض الأساليب الأدبية، ولكنها لا تجتمع كلها في أسلوب أديب. ولو اجتمعت لا تطَّرد في جميع كلامه، بل لا بُدَّ أن يشذَّ لفظ عن دائرة الفصاحة، أو يتنافر مع غيره في التركيب, أو يقصِّر عن أداء المعنى المراد إبرازه، أو لا يكون له من الجمال ما يثير الإعجاب، أو يبعث في النفوس الرغبة الملِّحة في القراءة أو في السماع. أما القرآن الكريم فإنه في الذروة العليا فصاحة وبلاغة وبيانًا، لا قدرة لأحد مهما علا قدره في البلاغة والأدب أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى، مع أنه لم يغلق دونهم أبواب المعارضة، بل فتحها لهم على مصاريعها، ودعاها إليها أفرادًا وجماعات، وتحدَّاهم بسورة من سوره, فعجزوا جميعًا عن الإتيان بمثل آية من آياته, فأدركوا من خلال عجزهم أنه ليس من كلام البشر, بل هو من كلام خالق القوى والقدر، وسيأتي بيان هذا التحدي بصوره المختلفة في مبحث "إعجاز القرآن" إن شاء الله تعالى. "فالجديد في لغة القرآن أنه من كل شأن يتناوله من شئون القول يتخيَّر له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المرَاد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها, وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلّا مرآته الناصعة وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلّا وطنه الأمين وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِولًا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان، أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذٌّ مبتَكَر، كأن ما سواه

من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بيَّنَها على حَدِّ قول بعض الأدباء "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طُبِعَ على غراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء على مكانها، واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحسَّاس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام"1. وهذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله، ومحل ذلك مبحث الإعجاز.

_ 1 أ. هـ بتصرف يسير من كتاب "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز ص85-87.

الخاصة الثانية: دقة التصوير

الخاصة الثانية: دقة التصوير ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجِز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان. فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسَّة منتزَعَة من الواقع المشاهَد، مؤتلفة ائتلافًا عجيبًا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارت والكنايات, المسبوكة سبكًا فريدًا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسَّه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها. إنها تشبيهات واستعارات وكنايات حيوية، تستمد حيوتها من الطبيعة في أسمى مظاهرها وأبهج مناظرها، فكانت خالدة على مرِّ الزمان، لا يمسها وهَنٌ، ولا يعتريها ضَعْفٌ، ولا يطويها نسيان، تمثل في الذهن، فلا تفارقه، وتكمنُ في القلب فلا تغادره، وذلك لما تتميز به من السمات البلاغية التي ينقِّب عنها الأدباء والبلغاء، فلا يجدون منتهى يقفون عنده حتى يكون هذا المنتهى هو المبتدى، فيعودون في التنقيب على بدء، وهكذا إلى أن يشاء الله. ومن سماته التي اكتشفوها بالاستقراء والتتبُّع لهذه الصور البيانية أنها تصوِّر الغائب حتى يصبح حاضرًا، وتقرِّب البعيد النائي حتى يصير قريبًا دانيًا.

ومن سماتها إنها تتغلغل في النفس البشرية حتى تصير جزءًا من كيانها الروحي. فإذا ما تدبَّر المؤمن البصير هذه الصور المنتزعة من الواقع المشاهَد كما قلنا، وتفاعل معها وانفعل بها، وهضم معانيها, جرت هذه المعاني في عروق روحه مجرى الدم في عروق بدنه، فنمت وسمت إلى آفاق رحبة من العلم والمعرفة واليقين. ومن سماتها أيضًا التلوين في التشبيهات، فكثيرًا ما يكون المشبَّه واحدًا والمشبَّه به شيئان فأكثر، تثبيتًا للمعاني المرادة، وتعميقًا لآثارها في النفس. ومن ذلك ما شبَّه الله به حال المنافقين في سورة البقرة، بقوله -جل شأنه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. والتشبيه الأول ناري والثاني مائي، والمشبَّه فيهما المنافقون، والمشبَّه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد، لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازًا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفيَّة من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شرٍّ أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشف لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة. فهي في إدعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارًا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها، أو أوقدت له, فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حمايةً لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة، والزكاة، وغيرها.

_ 1 آية: 17-20.

لكنهم بكفرهم الذي أخفَوْه فأظهره الله في محكَم آياته فقدوا الانتفاع والتمتُّع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضًا ثواب الآخرة، وحُرِمُوا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن. وهم في تخوّفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى؛ كمثل أهل الصيب الذين يكونون في أمسِّ الحاجة إليه, فينزل عليهم مصحوبًا برعد وبرق، وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث، ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، يحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيًا من الموت فزعًا وهلعًا، ولكن دون جدوى, فالله محيط بهم وبأمثالهم. ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين، لنَيْل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئًا، فيبرق البرق, فيمشي على ضوئه هنيهة، فإذا ذهب البرق -وسرعان ما يذهب- وقف كما هو, لا يقدِّمُ رجلًا ولا يؤخِّر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب والإياب. وفي هذين المثلين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثَّل له في جميع مواطنه وشتَّى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثلين على قوم من المنافقين في أي عصر، وأي مكان, لطابق المشبَّه المشبَّه به، وطابق الاسم المسَمَّى. ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم أنها تخلو من المبالغات التي تخرِجُ الكلام عن المعاني المرادة إلى جوٍّ من الخيال المفرِط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان، وذهاب الحقائق وخلوِّ الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.

لهذا كانت تشبيهات القرآن، وأمثاله صورًا حية تعبِّر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني, بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تمامًا من التكلُّف والاعتساف، مع رقَّةٍ في النظم والحواشي والفواصل، كانت ولا تزال زادًا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذوَّاقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه. وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدِّد على مرِّ العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله المقنع، ويتلاشى في طيَّاتها ما نستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة "وهي لون من التشبيه كما هو معروف" من إبراز المعاني والأهداف في صور محسَّة مفردة أو مركَّبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض, وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات. يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي, ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخَّاذ. وكنايات القرآن منتَزعة أيضًا من الواقع المشاهَد, وأكثرها أمثال مرسَلٍة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسِبَة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية, لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها. وهذا أمر أسمى من أن ننبه عليه ونشير إليه. ومن كنايات القرآن الكريم قوله تعالى في سورة المائدة: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1.

_ 1 آية: 75.

فالمقصود من قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} : هو ما يلزم عنه من إخراج الفضلات، وهو أمر يمجّ الطبع السليم ذكره، وتستهجن الآذان سماعه، فعدل عنه إلى ملزومه، وهو أكل الطعام. والكناية هي لفظ له معنيان، أحدهما قريب غير مراد, والآخر بعيد هو المراد، لعلاقة المشابهة بين المعنيين. فأكل الطعام يحتاج إليه لإقامة بنيته، ويحتاج أيضًا إلى إخراج فضلاته، فاكتفى سبحانه بذكر الملزوم، وأراد اللازم، أو أرادهما معًا، فاكتفى بأكل الطعام عَمَّا يلزم عنه؛ لأنه دالٌّ عليه بالضرورة. ومن كناياته: قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 1. فالمراد في هذه الآية نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته عن البخل والإسراف. فقد عبَّر سبحانه عن البخل بجعل اليد مغلولة إلى العنق، وهي صورة محسَّة منفرة بغيضة، فهذه اليد التي غُلَّت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد بشيء إلى فقير، ولا إلى صاحب أو صديق أو ذي رحم. وعبَّر ببسطها عن كثرة البذل إلى حدٍّ يوجب الذنب، وهو تصوير لحال هذا المبذِّر الذي لا يُبْقِي من ماله على شيء لنفسه وعياله، فاليد المبسوطة من شأنها ألّا يبقى فيها شيء. ولما كان بسط اليد من الأمور المحمودة قيَّدَها بقوله: {كُلَّ الْبَسْطِ} . ليبقى البسط المعقول على حاله من الوجوب المستحق للمحمدة. والمعنى: ولا تبسطها البسط كله.

_ 1 آية: 29.

ومن كناياته: قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} 1. فقد صوَّر حال الظالمين يوم القيامة بصورة محسَّة يراها الناظر إلى من اشتدَّ ندمه، واستفحلت مصيبته وحسرته. ومنها قوله تعالى في سورة الكهف: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} 2. فتقليب الكفَّين كناية عن الأسف والندم أيضًا, إلّا أن هذا قد وقع في الدنيا، وذاك يقع في الآخرة. لهذا عبَّر عنه بصورة أبلغ في الدلالة على شدة التحسُّر، وهو العضُّ على الأيدي. ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} 3. فانظر كيف صوَّر الله -عز وجل- الغيبة بأكل لحم الميتة، وأيّ ميتة؟، إنها لحم أخيه الذي نهشَ عِرضه وقال فيه ما يكره. فقد شبَّه مَنْ ينهش أعراض الناس، بمن ينهش لحوم الأموات؛ تنفيرًا منها، وتبشيعًا لعواقبها. "وقال ابن الأثير في "المثل السائر" في بحث الكناية: كُنِّيَ عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتًا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة.

_ 1 آية: 27. 2 آية: 42. 3 الحجرات: 12.

فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابِقة للمعنى الذي وردت من أجله. فأمَّا جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله, فشديد المناسبة جدًّا؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة. وأما جعله كلحم الأخ فلِمَا في الغيبة من الكراهة؛ لأن العقل والشرع مجتمان على استكراهها، آمران بتكرها والبعد عنها، ولمَّا كانت كذلك جُعِلَت بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر, إلّا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة, فلما جُبِلَت عليه النفوس من الميْلِ إلى الغيبة، وبشهوة لها، مع العلم بقبحها. فانظر أيها التأمِّل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهًا، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قُصِدَت له". انتهى1. وهكذا نجد العلماء في كل زمانٍ ومكانٍ يحلِّقون في سماء القرآن لاستنباط معانيه من خلال مبانيه، ويبحثون في جِدٍّ عن لطائفه البلاغية، ودقائقه اللغوية، ليقفوا من وراء ذلك كله على معانيه ومراميه بقدر طاقتهم البشرية. لكنهم لا يحصلون منه إلّا غرفة من بحر، أو رشفة من غيث، فهو كتاب الله القويم، وحبله المتين ونوره المبين.

_ 1 انظر "محاسن التأويل" للقاسمي ج16 ص5466.

الخاصة الثالثة: قوة التأثير

الخاصة الثالثة: قوة التأثير وتنشأ من جمال التعبير ودقة التصوير خاصَّة أخرى, وهي قوة التأثير في العقول والقلوب معًا، فالقرآن الكريم يخاطب العقل والعاطفة معًا، ولا يخاطب

العقل وحدَه؛ لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات، واستنتاج النتائج، في أسلوب متقعِّر أو جافٍّ متحجِّر. ولا يخاطب القلب وحده، لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب، ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو -كما قلنا أكثر من مرة- كتاب هداية ومنهج حياة، يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، ويقودهم إلى ساحات الخير والفضل الإلهي، فيدعوهم إلى الإيمان بخالقهم -عزَّ وجلَّ- في سلاسة أسلوب، وعذوبة منطق، وقوة حجة لا تدع لهم مجالًا للشك والارتياب. والإيمان بالله يتطلَّب استجابة العقل والقلب معًا، فالعقل والقلب من الإيمان كجناحي طائر لا يطير بأحدهما دون الآخر. يضاف إلى ذلك أنه يُرْضِي بأسلوبه العامة والخاصة، وهو أمر لا يتوفَّر لشيء من كلام الناس، حتى ما يُسَمَّى عند الأدباء بالسهل الممتنع، إذ إن أسلوب القرآن ليس سهلًا ممتنعًا فحسب، ولكنه معجز، له جلال يقتحم أعماق القلوب من غير حاجزٍ أو مؤثِّرٍ خارجي. ومعنى ذلك أنه إذا تُلِيَت آياته على العامة والخاصة وجدوا جميعًا في سماعه حلاوة تتذوقها القلوب قبل أن تصل إلى الأسماع. ولا تعجب من هذا القول، فإنك لو تهيَّأت لتلاوته أو سماعه بقلب مفتوح مجرَّد عن الشهوات والشبهات لسبق قلبك إلى تلاوته لسانك، وسبق إلى سماعه أذنيك, ومن ذاق عرف. والعامة والخاصة من الناس ليسوا سواء -بالطبع- في تذوّق حلاوة القرآن، بل إن الخاصة متفاوتون أيضًا في التذوّق بحسب استعدادهم الوهبي والكسبي, وبحسب تفاوتهم في درجات الإيمان والإخلاص والصفاء الروحي والذهني. ومن هنا كانت لدعوة القرآن الكريم إلى التدبُّر في آياته صدى في نفوس العلماء حملتهم على اتخاذ كل الوسائل التي تعينهم على ذلك، فأفنَوْا في طلب العلم أعمارهم، وأفرغوا في تفهُّم آيات القرآن جهدهم، فكانوا بين شغوف ببيان أحكامه، ومولَع ببيان الجمال الفني في تعبيره وتصويره، ومهتَمٌّ

ببيان وجوه إعرابه، ومشتقات ألفاظه، وغير ذلك مما يسترعي انتباههم، ويستميل أنظارهم. وصار لكل مفسِّر طريقته ومنهجه، واتجاهه في التفسير والتأويل. وسيظل هذا الكتاب المعجِزُ بحرًا زخارًا لمن يجيد السباحة فيه, والاغتراف من سلسبيله، حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام

الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول, وثروته في أفانين الكلام: فهو يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة، بمقدرة فائقة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء. فهو ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه، ويسلك مسالك شتَّى في التعبير والتصوير والترغيب والترهيب، من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب، أو تنافر بين كلمة وأخرى، ومن غير أن تشعر بتغيير يذكر بين الجوِّ العام للنص. وهذا ضَرْبٌ فريد في الإعجاز البياني، جدَّ في طلبه رجال لم يلههم عنه تجارة ولا بيع، فنقَّبوا عن لطائفه، ودقائقه ونفحاته وإشراقاته، فخرجوا بعد التحري وطول التأمُّل والنظر بزاد غير قليل، زاد في إيمانهم بعظمة هذا الكتاب وقدرته على التحدي، وتأبيه على المعارضة والمطاولة، في أي وجه من وجوه الجمال الذي تحلَّى به في كل جزئية من جزئياته. ولا نريد أن نتوسَّع هنا في ذكر مثال لكل أسلوب من أساليبه، فهذا يحتاج إلى مجلدات، ولكن نكتفي بذكر أسلوبين من هذه الأساليب، وهما: أسلوبا الأمر والنهي: ومن خلالهما تستطيع أن تنطلق باحثًا بين دفتي المصحف عن غيرهما من الأساليب. فخذ أولًا تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين، فإنه قد ورد بأساليب مختلفة، كل أسلوب منها في موقعه سديد: 1- فقد يرد الأمر صريحًا بمادَّته المستعمَلة فيه, وهو لفظ "افعل" مثل قوله تعالى:

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] . 2- وقد يرد بلفظ فيه حروف الأمر نفسها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] . 3- وأحيانًا يدل على الأمر بصيغة "كتب"، مثل قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] . 4- والإخبار بكونه على الناس، نحو قوله -جل شأنه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . 5- والإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . أي: مطلوب منهن أن يتربصن. وقد جاء هذا الأمر بصيغة الخبر مبالغة في طلب الحرص على فعله, حتى لكأنه واقع منهن بمقتضى حياتهن الذي فُطِرْنَ عليه، فإن المطلَّقة من شأنها أن تستحي من تعريض نفسها للأزواج بعد الطلاق، حتى تظل مدة كافية تتأكَّد فيها من براءة رحمها، وتكون لزوجها فرصة في مراجعتها إن كان قد طلقها طلقة رجعية. وكذلك الحال في قوله -جل شأنه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] .

فهو أمر لهنَّ بإرضاع أولادهنَّ بوصفهنَّ والدات, فلا ينبغي أن يحملهن طلاقهن على ترك إرضاع أولادهن نكاية في أزواجهن. 6- والإخبار عن الفعل بأنه خير، نحو قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] . 7- ووصف الفعل بالفرضية، نحو قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] . أي: من بذل المهور والنفقة، والمعاشرة بالمعروف. 8- وترتيب الوعد والثواب على الفعل، نحو قوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] . 9- وترتيب الفعل على شرط قبله، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . 10- وإيقاع الفعل منفيًّا معطوفًا عقب استفهام، نحو قوله -جل شأنه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] . أي: تذكَّروا. 11- وإيقاع الفعل عقب ترجٍّ نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} . 12- وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل، نحو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . هذه هي أهم صيغ الأمر، ويقابله النهي, وله صيغ كثيرة منها: 1- الصيغة المألوفة الصريحة بأداة النهي المعروفة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .

2- الصيغة الصريحة التي تفيد التحريم بلفظه، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] . {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] . 3- نفي الحلِّ عنه، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] . 4- ووصفه بأنه شرٌّ، نحو قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران:180] . 5- وذكر الفعل مقرونًا بالوعيد، نحو قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . 6- وذكر الفعل منسوبًا إليه الإثم، نحو قوله -جل شأنه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] . هذه نماذج من الأوامر والنواهي جاءت كما رأيت على أساليب متعددة، وفق المقام الذي سيقت له والجوّ الذي سيقت فيه. "وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة، بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، وتكلم وغيبة، وخطاب ومضيّ، وحضور واستقبال، وإسمية وفعلية، واستفهام وامتنان ووصف، ووعد ووعيد إلى غير ذلك.

ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط, كثيرًا ما تجده سريعًا لا يجارى في سرعته، ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبًّا على وجهه، مضطربًا أو متعثرًا، بل هو محتفظ دائمًا بمكانته العليا من البلاغة "يمشي سويًا على صراط مستقيم". ... واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنًّا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى، وكان في الوقت نفسه مِنَّة يمنها الله على الناس، ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن, والإقبال عليه قراءة وسماعًا وتدبُّرًا وعملًا، وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفَّه نفسه. اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1. وقوله سبحانه في سورة الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} 2. وقوله سبحانه في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} 3 أ. هـ.4.

_ 1 آية: 89. 2 آية: 54. 3 آية: 17. 4 بتصرف يسير من "مناهل العرفان" ج2 ص218، 219.

المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن

المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن مدخل ... المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن ما من نبيٍّ أرسله الله إلى أمَّة من الأمم إلّا أيده بمعجزة تكون برهانًا قاطعًا، وحجَّة ساطعة على صدقه فيما يبلغ عن ربه -عز وجل. وغالبًا ما تكون معجزته من جنس ما نبغ فيه قومه, مبالغة في التحدي, وإمعانًا في التعجيز. ولما كان العرب من أرقى الأمم في الإفصاح والبيان، جاءت معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- عقلية لغوية، ليكون التحدي بها قائمًا على العدل والإنصاف، فلا يقول قائل منهم: تحدانا الله بما لا نجيده ولا نعرفه ولا نألفه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"ما من الأنبياء نبي إلّا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا" أخرجه البخاري. وكل معجزة ذهبت بذهاب صاحبها، إلّا معجزة القرآن الكريم، فإنها باقية ما بقي الدهر، والتحدي بها قائم، لكل من أنكر رسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن رسالته عامة، ورسالة الأنبياء من قَبِلِه كانت خاصة محدودة بأمة معينة -كما هو معلوم. وكانت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بجانب هذه المعجزة الكبرى معجزات أخرى, نبعت من روحه وحسِّه وخلقه، أهَّلته لهذه الرسالة الخالدة, وجعلت كل من رآها فيه أو رأى شيئًا منها يسلِّمُ بصدقه في دعوته من أعماق قلبه، مع معجزات أخرى حسية رأتها الأعين، وسمعتها الآذان، ولكن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي فاقت جميع المعجزات على الإطلاق. فاتسع مجال البحث فيها، واستمرَّ الدارسون في كشف وجوه الإعجاز ومناحيه حتى هذا العصر، ولم يصلوا إلى منتهى يقفون عنده، ولن يصلوا؛

لأن القرآن الكريم كَوْنٌ لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه, ولا تبلى جدته، وسيظل في جماله وجلاله وكماله، كما نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم. وسنتكلم في هذا المبحث عن وجوه الإعجاز التي كشف عنها العلماء، وعن القدر الذي وقع به التحدي والإعجاز, وغير ذلك مما يتعلق به.

تعريفه

تعريفه: إعجاز القرآن معناه في اللغة: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، فهو من إضافة المصدر لفاعله. والمعجزة: هي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، يوقعه الله على يد نبي ليكون حجة له في دعوته، وبرهانًا على صدقه فيما يبلغ عن ربه -عز وجل. والتعجيز ليس مقصودًا لذاته، بل المقصود لازمه, وهو إثبات أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مرسَلٌ من ربه، وأن القرآن قد أُنْزِلَ عليه من لدنه خالصًا نقيًّا لم تَشُبْهُ شائبة من كلام البشر ولا من كلام غيرهم. "وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء، ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز، ولكن للازمه وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلِّغون عن الله؛ فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات، إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر، لحكمة عالية، وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة"1.

_ 1 "مناهل العرفان" ج2 ص227.

عناية العلماء به

عناية العلماء به: لم يكن الإعجاز القرآني في عصر الصحابة والتابعين قضية تحتاج منهم إلى نظر واستدلال. فقد استيقنتها قلوبهم، وشهدت بها قرائحهم العربية الصافية النفية، وعلموا بالسليقة والفطرة أن القرآن كلام لا يدانيه كلام، وحديث ليس كمثله حديث. وكان لهم من واقعهم ما يملأ بذلك قلوبهم إيمانًا لا يخالجه شكّ في أيِّ وجه من وجوه إعجازه التي عرفوها بملكاتهم العقلية، ولم يفصحوا عنها بألسنتهم, لعدم وجود ما يستدعي ذلك الإفصاح، لأن الجميع كانوا في أمر الإعجاز على قلب رجل واحد. فلمَّا مضى عصر الصحابة والتابعين، وجاء القرن الثالث الهجري، واختلط العرب بالأعاجم، وفسدت أذواق بعض الناس في أمر المعاني التي يحملها نظم الكلام العربي بوجه عام، والنظم القرآني بوجه خاص، وظهر في الناس من يثير الشبهات، ويختلق الأقاويل على القرآن والسنة، ويخلط بين الدين والفلسفة -لما كان ذلك كذلك، اضطر العلماء الأخيار أن يدافعوا بجدٍّ وإخلاص عن كتاب ربهم -عز وجل، وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم, فعقدت مجالس العلم في كل وادٍ ونادٍ، للرد على ما يُثَار من شبهات، وما يَرِدُ من قِبَلِ أعداء الإسلام من اعتراضات تمسُّ جوهر العقيدة، وأصول الشريعة, ومن بينها قضية "إعجاز القرآن". فقد خاض فيها كثير من المعتزلة والخوارج, وقالوا فيها ما لا ينبغي أن يقال، فانبرى أهل التفسير والحديث والفقه يفنِّدون مزاعمهم، ويسفِّهون آراءهم، واتسعت حلبة النزال في هذا الميدان. وأُلِّفت في هذه القضية كتب كثيرة يتحدَّث فيها مصنِّفوها عن وجوه الإعجاز القرآني، ومناحيه ومسائله المتعلقة به. وفيما يلي بيان أهم المؤلفات فيه، ثم بيان هذه الوجوه والمناحي والمسائل، بأسلوب بعيد بحمد الله تعالى عن التكلُّف والاعتساف.

أهم المؤلفات فيه

أهم المؤلفات فيه: لما كثر الكلام في قضية الإعجاز القرآني في مجالس العلم, نهض جمعٌ من العلماء بتدوين ما كان يقال في كتب ورسائل خاصة بين أهل العلم، فكان بعضها على سنن الهدى، وبعضها على غير ذلك. دفعهم إلى تصنيف هذه الكتب والرسائل -كما يذكر الرافعي- "انتشار مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة، وخوفهم من أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة، وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة، ولا سليقة لهم في الفصاحة، ولا عرق لهم في البيان، مسَّت الحاجة إلى بسط القول في فنونٍ من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه. قال -رحمه الله: فصنَّف أديبنا الجاحظ المتوفَّى سنة "255" كتابه "نظم القرآن", وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أوَّل كتاب أُفْرِد لبعض القول في الإعجاز, أو فيما يهيئ القول به. وقد غضَّ منه الباقلاني بقوله: إنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عمَّا يلتبس في أكثر هذا المعنى "أي: الإبانة عن وجه المعجزة". وذهب الباقلاني -رحمه الله- أن ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث غير الذي دعاه هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول الجاحظ أكثر من توكيد القول في الفصاحة, والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي ابتدأ التأليف فيه, ولم تكن علوم البلاغة قد وضِعَت بعد. بيد أن أول وضعٍ لشرح الإعجاز، وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنما هو فيما نعلم كتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي, المتوفَّى سنة "306"، وهو كتاب شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحًا كبيرًا سماه: المعتضد، وشرحًا آخر أصغر منه. ولا نظن الواسطي بنى إلّا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" على الواسطي. ثم وضع أبو عيسى الرماني, المتوفَّى سنة "382", كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة. وجاء القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفَّى سنة "403", فوضع كتابه المشهور "إعجاز القرآن", الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على

حدة، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي، ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتداء بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ. على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذَّبه وصفاه، وتصنَّع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأليف لم يرضه مَنْ سواه، وخرج كتابه كما قال في كتاب الجاحظ: "لم يكشف عَمَّا يلتبس في أكثر هذا المعنى". فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشد إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنشر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدَّها في محاسنه وهي من عيوبه. وكان الباقلاني -رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ، ومذهب مقلده ابن العميد على بصر وتمكُّن، وحسن تصرُّف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضِعَ له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة إلى النقل، إذ كان أكبر غرضه في هذا الكتاب أن ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه, ويهدي إلى الحجة، وهذه ثلاثة لو بسط لها كل علوم البلاغة، وفنون الأدب لوسعتها، وهي مع ذلك حشو ووصل. على أن كتابه قد استبدَّ بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد، ووفى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عَدُّوه الكتاب وحده، لا يشرك العلماء معه كتابًا آخر في خطره ومنزلته وبُعْدِ غوره، وإحكام ترتيبه, وقوة حجته، وبسط عبارته، وتوثيق سرده, فأنظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه.

وما زاد الباقلاني -رحمه الله- على أن ضمَّن كتابه روح عصره، وعلى أن جعله في هذا الباب، كالمستحث للخواطر الوانية، والهمم المتثاقلة في أهل التحصيل والاستيعاب الذين لم يذهبوا عن معرفة الأدب، ولم يغفلوا عن وجه اللسان، ولم ينقطعوا دون محاسن الكلام وعيوبه, ولم يضلوا في مذاهبه وفنونه، حتى قال: إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها، وقد كانت علوم البلاغة لم تهذَّب لعهده, ولم يبلغ منها الاستنباط العلمي، ولم تجرَّد فيها الأمهات والأصول، ككتب عبد القاهر ومن جاء بعده، فبسط الرجل من ذلك شيئًا، وأجمل شيئًا، وهذَّب شيئًا, ونحا في الانتقاد منحى الذين سبقوه من العلماء بالشعر وأهل الموازنة بين الشعراء، وكانت تلك العصور بهم حفيلة. وبالجملة فقد وضِعَ ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصره، بيد أن القرآن كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز. وممن ألَّفوا في الإعجاز أيضًا على وجوه مختلفة من البلاغة، والكلام، وما إليها: الإمام الخطابي المتوفي سنة "388"، وفخر الدين الرازي المتوفَّى سنة "606"، والأديب البليغ ابن أبي الإصبع المتوفَّى سنة "654"، والزملكاني المتوفَّى سنة "727", وهي كتب بعضها من بعض" أ. هـ1. وتتابع الغيث من بعد هؤلاء، فأُلِّفَت في الإعجاز البياني والتشريعي والعلمي كتب كثيرة، ورسائل جامعية, جاء فيها مؤلفوها بجديد في هذه المناحي الثلاثة. وسيظل كتاب الله منهلًا عذبًا يرتوي منه كل باحث متدبر.

_ 1 بتصرف يسير من كتاب "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" ص151، 154.

وجوه الإعجاز

وجوه الإعجاز الوجه الأول: لغته وأسلوبه ... وجوه الإعجاز: لا يسع أيُّ باحث في كتاب الله تعالى أن يحيط بوجوه إعجازه كلها، ولا بأكثرها، ولا يسعى أحدهم إلى ذلك، لعلمه أنه لا يحيط بكلام الله إلّا الله, ولكن ما لا يدرك كله لا يُتْرَك جله. من هنا نقَّب الباحثون كلٌّ على قدر طاقته وعلمه على هذه الوجوه في بيانه وتشريعه وعلومه ومعارفه, فحصَّلُوا من هذه الوجوه قدرًا كافيًا. وذكر كل مجتهد ما رآه أولى بالذكر من غيره. وسنحاول تلخيص أهم هذه الوجوه، ونبيِّن ما نراه راجحًا على غيره, مستأنسين في ذلك بأقوال من سبقنا، بعد شيء من التدبر والتأمل في الوجوه مجتمعة. الوجه الأول: لغته وأسلوبه فقد بهر بلغته السهلة الجزلة، الخالية تمامًا من التنافر والتعقيد أساطين البلاغة والبيان، وملك بأسلوبه في تأدية المعاني عقول الحكماء ودعاة الخير والإصلاح، فأيقنوا بأنه وحي منزَّل يستحيل أن يتقوَّلَه أحد، لما رأوه فيه من جمال التعبير ودقة التصوير وروعة البيان. فقد اشتمل على خصائص لغوية في تأدية المعاني لم تتوفَّر لكلام سواه، واتصف مَنْطِقُه بسمات بلاغية كأنَّ العرب لم يقعوا عليها في غير هذا القرآن، مع أنه نزل بلغتهم، وهذا منتهى التحدي، وقمة الإعجاز. "وها قد مرَّت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا أدوار مختلفة، بين علوٍّ ونزول واتساع وانقباض، وحركة وجمود، وحضارة بداوة، والقرآن في كل هذه الأدوار واقف في عليائه، يطل على الجميع من سمائه، وهو يشعُّ نورًا وهداية، ويفيض عذوبة وجلالة، ويسيل رقة وجزالة، ويرف جدة وطلاوة، ولا يزال كما كان غضًّا طريًّا يحمل راية الإعجاز، ويتحدى أمم العالم في يقين وثقة، قائلًا في صراحة الحق وقوته, وسلطان الإعجاز وصولته: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1، 2.

_ 1 الإسراء: 88. 2 مناهل العرفان ج2 ص229.

الوجه الثاني: طريقة تأليفه

الوجه الثاني: طريقة تأليفه وبيان ذلك أنه قد رُتِّبَتْ آياته وسوره ترتيبًا غاية في الائتلاف والتناسق، مع أنه نزل منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع والحوادث، ومقتضيات الأحوال. حتى إنَّ الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله لا يخطر على باله أنه نزل منجَّمًا، وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت لا تستطيع أن تجد فرقًا بين السور التي نزلت جملة، والسور التي نزلت منجَّمَة؛ من حيث إحكام الربط في كلٍّ منهما، ومن حيث نظام المبنى ودقة المعنى، وتمام الوحدة الفنية.

الوجه الثالث: بلاغته

الوجه الثالث: بلاغته ونعني ببلاغته: ما اشتمل عليه أسلوبه من أنواع المعاني والبيان والبديع, مما يُحْدِثُ في النفس من التأثير الذي لا يحدثه غيره من الكلام. قال الزركشي في البرهان: قال الخطابي في كتابه -يعني "بيان إعجاز القرآن": "إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة, وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر، لكن لمَّا صَعُبَ عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجَد في القرآن شيء منه البتة. فالقسم الأول أعلاه، والثاني أوسطه، والثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، انتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتها كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة، والمتانة في الكلام يعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع

نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته، ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه" أ. هـ1.

_ 1 بتصرف من ج2 ص101، 102.

الوجه الرابع: تأثيره في القلوب

الوجه الرابع: تأثيره في القلوب ... الوجه الرابع: تأثره في القلوب فهو يقتحم بمبانيه ومعانيه أعماق القلوب، قبل أن يتجاوز الآذان ويغوص في بواطن النفوس وخلجات المشاعر، حتى يهيمن بسلطانه على ملكات العقل والحسِّ، فينشر فيها السرور بجميل وعده، ويشيع فيها الحزن والخوف بشدة وعيده، ويجمع بين هذا وذاك في آنٍ واحد من خلال أسلوب ترغيبه وترهيبه؛ فتنقلب القلوب بين الخوف من عذابه، والطمع في رحمته. وتتجلجل الجوارح في خشية الله بين التصدُّع والطمأنينة، وفي هذا وذاك يكون الدواء، والشفاء من أمراض القلوب، وعللها، فتسلم بتلاوته وسماعه من كل ما يعكِّر صفوها، ويكدِّر جلوتها، ويطمس شيئًا من نورها. قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 2.

_ 1 الحشر: 21. 2 الزمر: 23.

وقال جل في علاه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.

_ 1 الإسراء: 82.

الوجه الخامس: علومه ومعارفه

الوجه الخامس: علومه ومعارفه وبيان ذلك الوجه أن هذا القرآن قد نزل من عند الله -عز وجل- على نبيٍّ أميِّ، لم يقرأ ولم يكتب ولم يجلس إلى معلم، فألفيناه كتابًا جامعًا لأخبار الأولين والآخرين، حافلًا بالإشارات الدالة على ما في الكون من آيات وعِبَر، ومعلومات كانت مستترة عن سائر البشر، ومغيبات ما كان لأحد أن يعرفها إلّا عن طريق هذا الكتاب المبين. ووجدنا فيه جميع أسباب الهداية، ووسائلها الحكيمة، وعرفنا منه ما يكون فيه صلاح الناس جميعًا في دنياهم وآخرتهم. فقد اشتمل هذا الكتاب العزيز على كثير من العلوم والمعارف الكونية، والإنسانية، والمشتملة على أصول الإصلاح العقدي، والنفسي، والخلقي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والفكري، فكان بذلك كتاب هداية، ومنهج حياة. "تقرؤه فإذا بحر العلوم والمعارف متلاطِمٌ زاخر، وإذا روح الإصلاح فيه قويٌّ قاهر، ثم إذا هو يجمع الكمال من أطرافه، فبينما تراه يُصْلِحُ ما أفسده الفلاسفة بفلسفتهم، إذ تراه يعدم ما ترَدَّى فيه الوثنيون بشركهم، وبينما تراه يصحح ما حرَّفه أهل الأديان في دياناتهم، إذ تراه يقدِّم للإنسانية مزيجًا صالحًا من عقيدة راشدة ترفع همة العبد، وعبادة قومية تطهِّر نفس الإنسان، وأخلاق عالية تؤهل المرء لأن يكون خليفة الله في الأرض، وأحكام شخصية ومدنية واجتماعية تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد، وتضمن له حياة الطمأنينة والنظام والسلام والسعادة.. دينًا قيمًا يساوق الفطرة ويوائم الطبيعة، ويشبع حاجات القلب والعقل, ويوفِّق بين مطالب الروح والجسد، ويؤلف بين

مصالح الدين والدنيا، ويجمع بين عزِّ الآخرة والأولى، كل ذلك في قصد واعتدال، وببراهين واضحة مقنعة تبهر العقل، وتملك اللب، والكلام على هذه التفاصيل يستنفد مجلدًا بل مجلدات" أ. هـ1.

_ 1 انظر "مناهل العرفان" ج2 ص238، 239.

الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه

الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه "وهو اختيار السكاكي حيث قال في "المفتاح": واعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يُدرَك ولا يمكن وصفه, كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، وكما يدرك طيب النَّغم العارض لهذا الصوت، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلّا بإتقان علمَيْ المعاني والبيان والتمرُّن فيهما. وقال أبو حيان التوحيدي في "البصائر": لم أسمع كلامًا ألصق بالقلب، وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي -وكان بحرًا في العلم, وقد سُئِلَ عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته، ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلّا وكان ذلك المعنى آية في نفسه، ومعجزة لمحاوله، وهدًى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه, وأسراره في كتابه، فلذلك حارت العقول, وتاهت البصائر عنده"1.

_ 1 "البرهان في علوم القرآن" ج2 ص100.

الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز

الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز وبيان ذلك كما ذكر الرافعي1: "إنه معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه, فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا، وليس إلى ذلك

_ 1 انظر "إعجاز القرآن" ص156.

مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة، وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغًا من ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلّا الصورة الروحية للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله. فالقرآن معجِزٌ في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامَّة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت" أ. هـ.

الخلاصة والتحقيق

الخلاصة والتحقيق مدخل ... الخلاصة والتحقيق: والخلاصة أن القرآن الكريم معجز بكل ما ذكرناه وما لم نذكره من الوجوه البيانية، ليس لوجه منها فضل على الآخر، لكنها جميعًا في الذروة العليا, متشابهة في الحلاوة والطلاوة. واختلاف العلماء في تفضيل بعض الوجوه على بعض إنما هو ناشء عن اختلافهم في التذوق الجمالي لمفرداته وتراكيبه، ونظمه، وأسلوبه، وغير ذلك. واعتبار هذا الخلاف القائم بين العلماء في الوجه المعجز من القرآن خلافًا حقيقيًّا يؤثر على جوهر العقيدة، أو يغضُّ من شأن المختلفين، تحكُّمٌ لا برهان له، ولا دليل عليه. ووجوه الإعجاز القرآني -في الحقيقة- لا تنحصر؛ فهو معجز في بيانه، وصور البيان لا تحصى، ولكل صورة منها جمال يخصها، وفيها الحسَن والأحسن، والفصيح والأفصح، والجميل والأجمل. والقرآن في جميع ذلك نمط فريد لا يُدَانى من بعيد ولا من قريب. فمهما بذل العلماء من جهد في تخريج لطائف أسلوبه، ودقائق تعبيره، ورقة تصويره وعذوبة منطقه، فلن يبلغوا من ذلك كله إلّا كما يبلغ العصفور من البحر.

وهو معجز في تشريعه، وللتشريع كما هو معلوم أحكام وافية بمطالب البشر في كل زمان ومكان، وفي كل حكم من أحكامه ضرب من الإعجاز التشريعي, ويكفي أن نعلم أن هذا التشريع على كثرة قوانينه وفروعه ومسائله يخلو تمامًا من التناقض والاختلاف، والزيغ والانحراف. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1.

_ 1 النساء: 82.

القول بالصرفة

القول بالصرفة: ومن الباحثين من طوَّعت له نفسُه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة، منهم أبو إسحاق الإسفراييني من أهل السنة، والنَّظَّام من المعتزلة، والمرتضى من الشيعة. ومعنى الصرفة: أن الله -عز وجل- قد صرف العرب عن معارضته، وكان في إمكانهم لولا ذلك أن يأتوا بمثله. وقد اختلفوا في فهم هذه الصرفة، فمنهم من يرى أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم. ومنهم من يرى أن صارفًا إلهيًّا زهَّدهم في المعارضة, فلم تتعلق بها إرادتهم، ولم تنبعث إليه عزائمهم، فقعدوا عنها على رغم توافر البواعث والدواعي. ومنهم من يرى أن عارضًا مفاجئًا عطَّل مواهبهم البيانية, وعاق ملكاتهم البلاغية، وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة, على رغم تعلق إرادتهم بها، وتوجه همتهم إليها. "وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها أو التُمِسَت لهم، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم، بل جاءت على الفرضين الأوَّلَيْن من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة، ولو أنهم حالولوها لنالوها، وجاءت على الفرض الأخير من ناحية

عجزهم عنها، لكن بسبب خارجي عن القرآن، وهو وجود مانع منها قهرًا، ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب, وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين، ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله؛ لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه"1. وهذا القول بفروضه التي افترضوها، أو بشبهاته التي تخيلوها، لا يثبت أمام البحث، ولا يتفق والواقع. أما الفرض الأول: وهو أن بواعث المعارضة ودواعيها لم تكن متوفِّرة لديهم، فإن القرآن ينقضه، فقد تحداهم الله بأن يأتوا بسورة من مثله، فلو كانت البواعث والدواعي غير متوفرة لديهم، ما جاز أن يتحداهم؛ فإن التحدي حينئذ يكون عبثًا، والعبث على الله محال. "وكيف يُقَال: إن الدواعي والبواعث لم تكن متوفِّرة لديهم وهم أساطين البلاغة، وملوك الفصاحة والبيان، وصناعتهم الكلام، وهم أهل حمية ونعرة جاهلية، لا يصبرون على التحدي والاستفزاز. وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثقة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به، ويذيع لهم حسن الذكر، وعلوّ الكلمة، وهم مجبولون عليه فطرة، ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم, فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه, وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصرٍ بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد، والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه، ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليه, حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولَّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق، أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا

_ 1 انظر مناهل العرفان ج2 ص310، 311.

الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة، وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر"1. وأما الفرض الثاني: وهو أن صارفًا إلهيًّا زهَّدهم في المعارضة، فلو تتعلق بها إرادتهم، ولم تنبعث بها عزائمهم، فينقضه الواقع التاريخي، فإنه قد ثبت من غير طريق أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها فعلًا إلى نفوسهم، ونالت منالها من عزائمهم. "فالتاريخ -كما يقول الرافعي: لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنهم عارضوا القرآن، فمنهم من ادَّعى النبوة, وجعل ما يلقيه من ذلك قرآنًا. كيلا تكون صنعته بلا أداة، كمسيلة بن حبيب الكذاب، وعبهلة بن كعب، الذي يقال له الأسود العنسي، وطلحة بن خويلد الأسدي، وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية. أما مسيلة فقد زعم أن له قرآنًا نزل عليه من السماء, ويأتيه به ملك يُسَمَّى "رحمن"، بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسَّل به في أمر إن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سُئِلَ فيه، وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون. ومن قرآنه الذي زعمه قوله -أخزاه الله: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا. لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه. وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض وقد حرم المذق, فما لكم لا تمجعون.

_ 1 "إعجاز القرآن الكريم" للرافعي ص169.

وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل, له ذنب وبيل، وخرطوم طويل. وقال الجاحظ في الحيوان عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيَّجَ مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين, لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين. وكل كلامه على هذا النمط واهٍ سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج, مبتذل المعنى، مستهلك من جهتيه. وأما أبو الأسود العنسي، فقد كان يدَّعِي أنه يوحى إليه، ولم يزعم أن له قرآنًا. وأما طليحة الأسدي فقد ادَّعى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه بالوحي، ولم يكن يزعم أنه يعارض القرآن لأن قومه كانوا فصحاء لم يتابعوه إلّا حمية وعصبية, وإنما كانت كلمات يزعم أنها نزلت عليه، منها ما جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي، وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله قيامًا، فإن الرغوة فوق الصريح. ولكن الرجل أسلم فيما بعد، وحسن إسلامه، وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن. وأما سجاح التميمية فقد ادَّعت النبوة، وزعمت أنه يوحى إليها بما تأمر، وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة, لا يلحقهم بعدها ملامة. وفي رواية صاحب الأغاني: أنه كان فيما ادَّعت أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون, لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة أيضًا. وقد أسلمت هذه المرأة فيما بعد، وحسن إسلامها.

هذا خلاصة ما ذكره الرافعي في الإعجاز عن هؤلاء الذين ادَّعوا النبوة، وعارض بعضهم القرآن بكلام لا يقوله الأطفال. وقد ذكر الرافعي قومًا عارضوا القرآن، ولم يدَّعوا النبوة ضربنا عن ذكرهم صفحًا، لأن أكثر ما قيل فيهم لا يصح, وهو نفسه يشك في صحته -راجعه إن شئت"1. أما الفرض الثالث من الصرفة: وهو أن عارضًا مفاجئًا عطَّل مواهبهم البيانية، فينقضه بما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا في جملتهم عن معارضته اقتناعًا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته، ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطَّل قواهم البيانية لأُثِرَ عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي سبق ذكرها، ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، ولكان ذلك مثار عجب لهم. ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم, وليقللوا من شأن القرآن في ذاته، ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن, يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه, ولكانوا بعد نزول القرآن أقلَّ فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله، وكل هذه اللوازم باطلة، فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة.

_ 1 ص178 وما بعدها.

القدر المعجز منه

القدر المعجز منه: وبقي لنا من هذا البحث بيان القدر المعجز الذي وقع به التحدي، وعجز العرب عن الإتيان بمثله، فنقول: لقد تحدى الله العرب أولًا بحديث مثله، فقال في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 1. والحديث كلام يطلق على القليل والكثير.

_ 1 الآيتين 33، 34.

ثم تحدَّاهم بعشر سور مفتريات، وذلك لما قالوا: إن محمدًا يفتري القرآن، فقال -جل شأنه- في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. أي: فأتوا بعشر سور من مفترياتكم، لا تلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب. ثم تحداهم بسورة مثله, فقال في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. وبلغ التحدِّي أشده في سورة البقرة، حيث طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأن يستعينوا في ذلك بشهدائهم، وسجَّل عجزهم عن الإتيان بها على وجه التأكيد والتأبيد، مع الإنذار والتهديد والوعيد، فقال -جل شأنه- في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3. ثم سجل الله على الخلق جميعًا عجزهم عن معارضته ليكون ذلك التحدي باقيًا ما بقي القرآن. فقال في سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 4. ومن هذه الآيات نعلم أن التحدي وقع بالقرآن كله، وبعشر سور منه،

_ 1 آية: 13. 2 آية: 38. 3 الآيتين 23، 24. 4 آية: 88.

وبسورة واحدة، فدلَّ ذلك على أن الإعجاز يقع بسورة مثل سورة الكوثر, أو بآية تساويها في طولها. "قال القاضي أبو بكر: ذهب عامة أصحابنا -وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه- إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها. قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة, وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز. وأما قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِه} . فلا يخالف هذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة"1. وفي نظري أن الآية من القرآن معجزة بذاتها، وإن لم تبلغ في الطول سورة الكوثر، فإنك لو عرض على سمعك شيء من كلام الناس، وشيء من كلام الله، استطعت أن تميِّز بين الكلامين من غير كلفة، ولا إنعام نظر، فالآية القرآنية مهما كانت قصيرة فإن لها من الجلال والجمال ما للآية الكبيرة، فهو معجز كله, وإعجازه في كل آية من آياته، يُعْرَف ذلك بالبصائر والضمائر. والله عليم بالسرائير، وهو من وراء القصد, وله الحمد في الأولى والآخرة, وهو الحكيم الخبير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. تَمَّ الكتاب بحمد الله تعالى في يوم 3 من شهر رجب عام 1411هـ الموافق 19 من يناير 1991م.

_ 1 انظر "البرهان في علوم القرآن" ج2 ص108.

المراجع

المراجع: 1- الإتقان - للسيوطي. 2- إرشاد العقل السليم - للإمام أبي السعود. 3- أسباب النزول - للواحدي. 4- أسرار التنزيل - للنسفي. 5- إعجاز القرآن - للباقلاني. 6- أساس البلاغة - للزمخشري. 7- إعجاز القرآن - للخطابي. 8- أسباب النزول - للنيسابوري. 9- إعجاز القرآن - للرماني. 10- الإبريز - لأحمد بن المبارك. 11- إعجاز القرآن - للرافعي. 12- إرشاء الفحول - للشوكاني. 13- إرشاد الأريب - لياقوت الحموي. 14- اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر - للدكتور محمد إبراهيم شريف. 15- أحكام القرآن - لابن العربي. 16- أحكام القرآن - للجصاص. 17- الإصابة في تمييز الصحابة - لابن حجر. 18- إبراز المعاني - لأبي شامة. 19- الإحكام - للآمدي. 20- أصول الفقه - لمحمد الخضري.

21- أصول الفقه - لمحمد البرديسي. 22- البرهان - للزركشي. 23- البحر المحيط - لأبي حيان التوحيدي. 24- البداية والنهاية - لابن كثير. 25- البغوي الفراء وتفسيره للقرآن الكريم - للدكتور محمد إبراهيم شريف. 26- بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي. 27- تأويل مشكل القرآن - لابن قتيبة. 28- التبيان في أقسام القرآن - لابن القيم. 29- التفسير الكبير - للرازي. 30- تفسير المنار - رشيد رضا. 31- التفسير القرآني للقرآن - للشيخ عبد الكريم الخطيب. 32- التعبير الفني في القرآن الكريم - للشيخ أمين بكري. 33- التفسير ورجاله - لابن عاشور. 34- تفسير القرآن العظيم - لابن كثير. 35- تاريخ بغداد - للخطيب البغدادي. 36- تفسير التحرير والتنوير - لابن عاشور. 37- تحفة الأحوذي - للمباركفوري. 38- الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي. 39- جامع البيان عن تأويل آي القرآن - لابن جرير الطبري. 40- جامع الأصول - لابن الأثير الجزري. 41- حاشية الجمل على الجلالين - للشيخ سليمان الجمل. 42- الحيوان - للجاحظ.

43- دلائل الإعجاز - لعبد القاهر. 44- روح المعاني - للألوسي. 45- رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية - لغانم قدوري الحمد. 46- سير أعلام النبلاء - للذهبي. 47- السبعة في القراءات - لابن مجاهد. 48- سنن أبي داود. 49- سنن الترمذي. 50- سنن النسائي. 51- سنن ابن ماجه. 52- سنن الدارمي. 53- شرح مسلم - للنووي. 54- صحيح البخاري. 55- صحيح مسلم. 56- صحيح ابن خزيمة. 57 طبقات المفسرين - للداودي. 58- عون المعبود - لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. 59- الفهرست - لابن النديم. 60- في ظلال القرآن - لسيد قطب. 61- الفروق اللغوية - لأبي هلال العكسري. 62- فتح الباري - لابن حجر. 63- القاموس المحيط - للفيروزأبادي. 64- الكشاف - للزمخشري. 65- كشف الظنون - لحاجي خليفة.

66- الكشف عن وجوه القراءات السبع - لمكي بن أبي طالب. 67- لسان العرب - لابن منظور. 68- اللآلئ الحسان في علوم القرآن - للدكتور موسى لاشين. 69- لطائف الإشارات لفنون القراءات - للقسطلاني. 70- لباب التأويل في معاني التنزيل - للخازن. 71- لباب النقول في أسباب النزول - للسيوطي. 72- مختار الصحاح - للرازي. 73- المصباح المنير - للفيومي. 74- مفتاح العلوم - للسكاكي. 75- المغني - لابن هشام. 76- الموافقات - للشاطبي. 77- المفردات - للراغب. 78- المحصول - للرازي. 79- المقدمة - لابن خلدون. 80- المقدمة - لابن الصلاح. 81- مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني. 82- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للهيثمي. 83- معالم التنزيل - للبغوي. 84- محاسن التأويل - للقاسمي. 85- مقاييس اللغة - لابن فارس. 86- منجد المقرئين ومرشد الطالبين - لابن الجزري. 87- المستنير في تخريج القراءات المتواترة - لمحمد سالم محيسن. 88- مجمع البيان - للطبرسي.

89- مسند الإمام أحمد. 90- موطأ الإمام مالك. 91- معجم البلدان - لياقوت الحموي. 92- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع - لصفي الدين البغدادي. 93- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - لعبد الله بن عبد العزيز الأندلسي. 94- النبأ العظيم - لمحمد عبد الله دراز. 95- النشر في القراءات العشر - للجزري. 96- النسخ - للدكتور مصطفى زيد. 97- واقعية المنهج القرآني - لتوفيق محمد سبع.

الفهرس

الفهرس: الصفحة الموضوع 5 مقدمة 9 المبحث الأول: معنى علوم القرآن 13 المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها 19 المبحث الثالث: أسماء القرآن 21 المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي 24 المبحث الخامس: تنزلات القرآن 29 المبحث السادس: تنجيم القرآن 31 الحكمة من تنجيم القرآن 34 المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن, وآخر ما نزل 35 أول ما نزل بإطلاق 37 آخر ما نزل 41 المبحث الثامن: جهات نزول القرآن 44 المبحث التاسع: المكي والمدني 46 ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني 48 مقاصد المكي والمدني 50 فائدة العلم بالمكي والمدني 52 المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها 52 معنى الآية 53 طريق معرفة الآي 53 سبب الخلاف في عد الآي 54 فرائد معرفة الآي 55 ترتيب الآي 56 المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها 56 تعريف السورة 56 حكمة تسوير القرآن

الصفحة الموضوع 57 تقسيم السور بحسب الطول والقصر 58 أسماء السور 59 ترتيب السور 65 المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه 68 المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة أحرف 69 بعض ما ورد في ذلك 72 الأصول المستفادة من هذه الأحاديث 73 بعض الأقوال في معنى الأحرف 78 مناقشة الأقوال السابقة وبيان الراجح منها 83 شبهات مردودة 87 المبحث الرابع عشر: القراءات والقُرَّاء 88 تعريف القراءات 88 الحكمة من تعدد القراءات 90 نشأة علم القراءات 93 أقسام القراءات باعتبار السند 93 ضوابط قبول القراءات 95 هل التواتر شرط في صحة القراءة 97 المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور 98 جمعه في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم 103 جمعه في عهد الصديق -رضي الله عنه 106 لماذا اختار الصديق زيدًا لجمع القرآن؟ 109 جمعه في عهد عثمان 112 خطة عثمان في نسخ المصاحف 114 عدد ما نُسِخَ من المصاحف 115 مصير مصحف حفصة 115 الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان

الصفحة الموضوع 117 حكم تحريق المصاحف 119 المبحث السادس عشر: رسم المصحف 120 العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي 120 عناية العلماء بالرسم العثماني, وأشهر المؤلفات فيه 124 المصحف العثماني والأحرف السبعة 125 موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني 128 موقف السلف في تفسير ظواهر الرسم 129 1- تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية ونحوية 129 2- حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب 135 3- اختلاف الرسم لاختلاف المعنى 136 4- تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات 137 5- الرسم بنى على حكمة ذهبت بذهاب كتبته 137 الخلاصة 139 قواعد رسم المصحف 140 قاعدة الحذف 140 قاعدة الزيادة 141 قاعدة الهمز 142 قاعدة البدل 142 قاعدة الوصل والفصل 143 قاعدة ما فيه قراءتان 143 مزايا الرسم العثماني وفوائده 146 المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها 147 دواعي النقط والشكل 148 حكم نقط المصحف وشكله 150 حكم تجزئته وتحسين خطه 151 المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

الصفحة الموضع 152 تعريف سبب النزول 152 طريق معرفة أسباب النزول 153 الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول 155 تعدد الروايات في سبب النزول 161 الخلاصة 162 تعدد النازل والسبب واحد 163 أقسام السبب 170 العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ 171 الرد على السيوطي في هذه المسألة 173 فوائد العلم بأسباب النزول 181 المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه 181 معنى الإحكام والتشابه في اللغة 183 معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح 185 الراجح 189 نسبة المتشابه من المحكم في الشريعة 190 ما يقع فيه التشابه 190 الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام 193 المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الوادرة في الصفات 199 آيات الصفات بين التفويض والتأويل 202 التأويل المحمود والتأويل المذموم 205 المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطَّعة في فواتح السور 214 المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص 214 تعريف العام والخاص 215 صيغ العموم 220 دلالة العام 221 أنواع العام

الموضوع الصفحة 222 الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص 223 أقسام التخصيص 227 المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد 227 تعريف المطلق والمقيد 228 حكم حمل المطلق على المقيد 232 المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين 232 تعريف المجمل والمبين 233 أسباب الإجمال 234 أقسام المجمل 235 أقسام المبين 237 حكم المجمل 238 المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي 238 تعريفه 239 أسباب وجوده في اللغة 240 حكمه 242 المبحث السادس والعشرون: النَّسْخُ في القرآن والسنة 243 مفهوم النسخ في اللغة 244 مفهوم النسخ في الشرع 245 أدلة جواز النسخ 247 ما يقع فيه النسخ 249 أنواع النسخ 249 الأول: ما نُسِخَت تلاوته وبقي حكمه 250 الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته 251 الثالث: نسخ الحكم والتلاوة 251 النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

الصفحة الموضوع 253 حسم الخلاف 253 النسخ إلى الأخف والمساوي والأثقل 255 طرق معرفة الناسخ والمنسوخ 257 سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ 259 السيوطي وآيات النسخ 284 نسخ القرآن بالسُّنة 286 نسخ السُّنة بالقرآن 387 نسخ السُّنة بالسُّنة 288 حكمة الله في النسخ 291 المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن 293 تعريف المثل في اللغة 296 تعريفه عند الأدباء 298 تعريفه عند علماء البيان 299 تعريف المثل القرآني 300 أنواع المثل القرآني 305 خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية 310 مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها 317 المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القسم في القرآن الكريم 317 المقسم به 320 المقسم عليه 322 أدوات القسم 323 مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه 325 وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه 326 الفرق بين القسم والحلف 327 المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن 328 الخاصة الأولى: جمال التعبير

الصفحة الموضوع 332 الخاصة الثانية: دقة التصوير 338 الخاصة الثالثة: قوة التأثير 340 الخاصة الرابعة: براعته في تصيريف القول وثروته في أفانين الكلام 345 المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن 346 تعريفه 346 عناية العلماء به 347 أهم المؤلفات فيه 350 وجوه الإعجاز 351 الوجه الأول: لغته وأسلوبه 352 الوجه الثاني: طريقة تأليفه 352 الوجه الثالث: بلاغته 353 الوجه الرابع: تأثيره في القلوب 354 الوجه الخامس: علومه ومعارفه 355 الوجه السادس: أنه شيء لا يمكن التعبير عنه 355 الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز 356 الخلاصة والتحقيق 357 القول بالصرفة 361 القدر المعجز منه 364 المراجع 369 الفهرس

§1/1