دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه

إسحاق السعدي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لوزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية الطبعة الأولى 1434 هـ - 2013 م

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ [المجلد الأول]

مقدمة [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها اللَّه لأن تضرب بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة- لَتحمد اللَّه سبحانه وتعالى على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة العلوم الشرعية ورفد المكتبة الإسلامية بنفائس الكتب القديمة والمعاصرة، وذلك منذ تسعة عقود، عندما وجه الشيخ عبد اللَّه بن قاسم آل ثاني حاكم قطر آنذاك بطباعة كتابي (الفروع) و (تصحيح الفروع)، سنة 1345 هـ، وكان المؤسس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني رحمه اللَّه تعالى قد سن تلك السنة من قبل. وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي والنشر العلمي الذي بدأته الوزارة في السنوات الأخيرة امتدادًا لتلك الجهود، وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر اللَّه جلَّ وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم والدراسات المعاصرة المتميزة في فنون مختلفة، تُطبع لأول مرة، نذكر منها:

في التفسير وعلوم القرآن

• في التفسير وعلوم القرآن: أصدرت الوزارة عدة كتب منها: (فتح الرحمن في تفسير القرآن) للعُليمي، و (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) لابن عطية في طبعته الثانية. وفي علم رسم المصحف أصدرت الوزارة: كتاب (مرسوم المصحف) للعُقيلي، و (الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة) لأبي بكر اللبيب. وفي علم القراءات أصدرت الوزارة كتاب: (البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة) لأبي حفص النشار، و (معاني الأحرف السبعة) لأبي الفضل الرازي. • وفي السنة النبوية وشروحها: أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (التقاسيم والأنواع) لابن حبان، و (مطالع الأنوار) لابن قرقول، (التوضيح شرح الجامع الصحيح) لابن الملقن، و (حاشية مسند الإمام أحمد) للسندي، وشرحين لموطأ الإمام مالك؛ لكُلٍّ من (القنازعي)، و (البوني)، و (المخلصيات) لأبي طاهر المخلص، و (شرح مسند الإمام الشافعي) للرافعي، و (نخب الأفكار شرح معاني الآثار) للعيني، و (مصابيح الجامع) للدَّمَاميني. ومما تشرفت الوزارة بإصداره في تحقيق جديد متقن: (صحيح ابن خزيمة)، و (السنن الكبرى) للإمام النسائي، والمحقَّقين على عدة نسخ خطية، و (جامع الأصول في أحاديث الرسول)، و (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير. • وفي الفقه وما يتصل به: أصدرت الوزارة عدة كتب في المذاهب الأربعة، منها: كتاب: (الأصل) لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) كاملًا محققًا على أصول

وفي السيرة النبوية

عدة، و (التبصرة) للخمي، و (نهاية المطلب في دراية المذهب) للإمام الجويني بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه اللَّه تعالى عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و (حاشية الخلوتي). كما أصدرت الوزارة: (الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف) للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد اللَّه الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و (بغية المتتبع لحل ألفاظ روض المربع) للعوفي الصالحي، و (منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) للعيني. • وفي السيرة النبوية: أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية: (جامع الآثار في السير ومولد المختار) لابن ناصر الدين الدمشقي، وغيرها. • وفي العقيدة والتوحيد: أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو: (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد) لابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما اللَّه تعالى، كما أعادت نشر كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى، وغيرها من كتب عقيدة أهل السنة والجماعة. • وفي مجال الدراسات المعاصرة المتميزة: أصدرت: (القيمة الاقتصادية للزمن)، و (نوازل الإنجاب)، و (مجموعة القره داغي الاقتصادية)، و (التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي)، و (صكوك الإجارة)، و (الأحكام الفقهية المتعلقة بالتدخين)، و (التورق المصرفي)، و (حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية)، و (روايات الجامع الصحيح ونسخه دراسة نظرية تطبيقية)، وغيرها. كما قامت الوزارة بشراء وتوزيع أجود الطبعات من بعض الكتب المطبوعة لما لها من أهمية مثل: (مسند الإمام أحمد)، و (صحيح الإمام

مسلم)، و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، و (الجامع لشعب الإيمان) للبيهقي، و (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، و (التاريخ الأندلسي) لعبد الرحمن علي الحجي، و (الإقناع في مسائل الإجماع) لابن القطان الفاسي، و (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، و (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) للعز ابن عبد السلام. ومثل (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي و (الرسالة المحمدية) لسليمان الندوي، وغيرها. ويسرنا اليوم أن نقدم لإصدار جديد هو كتاب (دراسات في تميز الأمة الإسلامية، وموقف المستشرقين منه) وهو رسالة علمية حصل بها مؤلفها على درجة الدكتوراة، بين فيها خصائص هذه الأمة، وفضلها على الأمم، في ضوء الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، كأبي حنيفة، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، وغيرهم، ثم عرج على موقف المستشرقين من الأمة الإسلامية وخصائصها وتميزها، فعرف الاستشراق وأهله، وتعرض لشبههم حول الأمة، وأجاب عنها، وذكر طرفًا من أقوال عدد من أساطين الفكر والرأي لديهم والتي تنضح بالكراهية والحقد على الإسلام وأهله، والتحريض على الأمة ودينها وهويتها، ومجانبتهم للإنصاف في ذلك. والحمد للَّه على توفيقه، ونسأله المزيد من فضله. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إدارة الشؤون الإسلامية

مقدمة الدراسة: بين يدي تميز الأمة الإسلامية

مقدمة الدراسة: بين يدي تميز الأمة الإسلامية • ظاهرة التميز بين التاريخ والدين. • أهميّة تأصيل تميز الأمة الإسلامية، ونقد موقف المستشرقين منه. • الدراسات السابقة في تميز الأمة الإسلامية. • المنهج في دراسة تميز الأمة الإسلامية، وموقف المستشرقين منه، وخطة البحث فيه. • فكرة تقسيم الدراسة في خمسة كتب.

[مخطط]

المقدمة

المقدمة إنَّ الحمد للَّه، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا .. أمَّا بعد: فإنَّ التفضيل والاصطفاء والاختيار والتميز من سنن اللَّه في خلقه؛ قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) [القصص: 68]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]، وقال الرسول - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إنكم وفيتم سبعين أُمَّة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ما قاله ابن قيم الجوزية في الاختيار هنا: زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 39 - 40، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، الطبعة الخامسة والعشرون 1412 هـ - 1991 م عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه: 2/ 1433 كتاب الزهد حديث رقم (4288)، تحقيق: محمد =

ظاهرة التميز بين التاريخ والدين

ظاهرة التميز بين التاريخ والدين: إنَّ سنة التفضيل والاختيار والاصطفاء سنة ماضية في التاريخ البشري؛ قدرًا وشرعًا وواقعًا، فقد تفاضلت الأمم في تاريخها الطويل، وتمايزت على الرغم من التشابه بين بعضها وبعضها الآخر من وجوه عديدة، ويحفظ التاريخ لكلِّ أمَّة في القديم أو الحديث ذاتية خاصة تميَّزت بها عن سائر الأمم الأخرى. وإذا كان تَميُّز الأمم يرتكز على المواهب والقدرات الذَّاتية في المقام الأول، فإنَّ هناك جوانب أخرى للتميُّز المكتسب، بعضها شرعي وبعضها الآخر وضعي من صنع البشر، قد يرتكز على حقائق، أو يكون من قبيل الادعاء والغرور (¬1). ولا يتسع المجال هنا للإلمام بنماذج عدَّة توضح هذه الجوانب المتنوعة التي ظهرت في تلك الأمم عبر التاريخ؛ بي أنني أكتفي بذكر التميُّز الشرعي الذي حازته أشهر الأمم الكتابيَّة (اليهود والنصارى) بسبب استقامتها على شرع اللَّه كما هو الشأن في بني إسرائيل حين وصفهم اللَّه بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ¬

_ = فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلامية - تركيا، وانظر استكمال تخريجه: ص 58. (¬1) انظر: الشهرستاني: الملل والنحل: 1/ 18 - 20، تحقيق: أمير علي المهنا وآخر، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1992 م، عن دار المعرفة، بيروت، وانظر: أحمد عصام الصفدي: تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأُمَّة الإسلامية ص 137 - 140، طبعة 1411 هـ - 1991 م، المطابع الأمنية بالمركز العربي للدراسات الأمنية - الرياض، وانظر: جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربيَّة: 1/ 19، 20، طبعة 1982 م، عن دار مكتبة الحياة، بيروت.

بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، ولكنهم أخفقوا في حمل الرسالة؛ "إذ انكبوا على حطام الدنيا، وأهملوا الآخرة، وزعموا لأنفسهم مبررات كاذبة لاستحلال الأمم، مالًا ودماءً وأعراضًا. . . وادعوا على اللَّه -عز وجل- دعوى خطيرة بأنه يغفر لهم كل خطيئة، ونحو ذلك مما افتراه أحبار السوء من خلفاء السامري، والذي تجسد في عقائد (التلمود) وأخلاقه، وأضاليله فيما بعد، تلك التي نسوا بها مواثيق (التوراة) الغليظة بألَّا يفتروا على اللَّه عز وجل. . . " (¬1). وقد أشار القرآن الكريم في مواضع كثيرة لهذا التميُّز، وانتفائه عنهم، وأنهم لا زالوا يدعونه سفاهة وغرورًا (¬2). وأمَّا النصارى فإنَّ اللَّه اختارهم لحمل رسالته من بعد اليهود، وبعث فيهم رسوله عيسى عليه السلام، وأيَّده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلًا، وعلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وأجرى على يديه من المعجزات والآيات، وكفَّ عنه بني إسرائيل، وشدَّ أزره بالحواريين الذين آمنوا باللَّه وبرسوله، ثمَّ طلبوا مائدة من السماء تكون لهم عيدًا لأولهم وآخرهم، فاستجاب اللَّه لهم، وأنعم عليهم ورزقهم، ولكن سرعان ما دَبَّ إليهم داء الأمم من قبلهم فأشركوا باللَّه، وزعموا أن عيسى عليه السلام قال: اتخذوني وأمي إلهين من دون اللَّه، وقد سجلت الآيات (110 حتى 118) من سورة المائدة قصتهم مع التميُّز وما آل إليه. وعلى نحو ممَّا فعل اليهود فعل النصارى من ادعاء التميُّز والاستعلاء على الآخرين بحجّة القرب من اللَّه، واصطفائه بهم من دون الخلق، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ ¬

_ (¬1) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: معركة الوجود بين القرآن والتلمود: ص 104، الطبعة الثانية 1402 هـ، عن مكتبة المنار، الأردن. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 162 - 175.

أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]. وقد استفاضت آيات القرآن الكريم في تأكيد انتفاء التميُّز عن اليهود والنصارى بسبب تنكبهم صراط ربهم، وإخفاقهم في حمل رسالته وفق شرعه ومراده؛ من مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 12 - 14]. ثمَّ آل حمل الرسالة الإلهيَّة إلى الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، وجاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: "أوتي أهل التوراةِ التوراةَ فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتيَ أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزو فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أيْ ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا، قال اللَّه: هل

ظلمتكم من أجركم من شيء؟! قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاءُ" (¬1). وفي هذا الحديث ما يدل على تميُّز الأمَّة من نواحٍ عدَّة، منها: أولًا: كونها حملت الرسالة بعد أن عجز عنها أهل الكتابين من قبلها. ثانيًا: أنها وُفِّقَتْ في حمل الرسالة، وأداء الأمانة. ثالثًا: كونها مُيِّزَتْ من ناحية مضاعفة الأجر بفضل من اللَّه. رابعًا: ويدل على أنَّ الظرف التاريخي المتبقي من يوم الأمم المشار إليها هو للأمّة الإسلامية لفاعليتها الحضاريَّة الخيّرة، ولسيادتها في ظلِّ عبوديتها للَّه وأدائها لما اشترطه عليها، وهذا ما تأتى لها ردحًا من الزمن؛ فقد سادت بهذا التميُّز، وحققت به أفضل الحضارات التي شهدها تاريخ البشرية. بيد أنَّ الحضارة الغربية سادت في العصر الراهن، وباتت الأُمَّة الإسلاميَّة تواجه تحديًا خطيرًا تحت وطأة هذا الواقع يمس هويَّتها الثقافية، ذلك أن الحضارة الغربية كما "أجمع مؤرخو الحضارة والثقافة الغربية على وحدة واطراد هذه الحضارة، وأنها وليدة تراكم تاريخي، وتفاعل ثلاثة عناصر متداخلة تشكل في مجموعها الأصل اليوناني الروماني المشترك لهذه الحضارة؛ هي الفكر اليوناني المتميز بنزعته العلمية وإبداعاته الفنية، والتراث الروماني المعروف بمؤسساته الإداريَّة والسياسيَّة، وأخيرًا الديانة المسيحية التي أعطتها الدفق الروحي" (¬2)، في حين تشكلت الهويَّة الثقافية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1: 139، كتاب مواقيت الصلاة، الباب [17]، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلاميّة، إستانبول - تركيا، (بدون تاريخ)، وانظر تخريجه بشكل أوسع في الصفحة (60). (¬2) انظر: جرونبام (غوستاف فون): الإسلام الحديث البحث عن الهويَّة الثقافية: ص 249، (بالإنكليزية من منشورات جامعة كاليفورنيا 1962 م)، نقلًا عن: عرفان =

للأُمَّة الإسلاميَّة على نحوٍ آخر "ارتبط بوثاق قوي ومتين بالعقيدة والرسالة" (¬1). إضافة لما تميَّز به العرب -وهم حملة هذه الرسالة في المقام الأول- "من جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط بالأمم" (¬2)، ومن العقيدة والرسالة انبثقت الحضارة الإسلاميَّة "ولزم عن هذا. . . أن تداخلت قضايا الواقع المادي بأصول الرسالة وتعاليمها. . . فالعقيدة والرسالة والحضارة والسلوك والتاريخ. . . وحدة جامعة مشتركة في بنيان هذه الأُمة في ترابط يعزّ فصله؛ ولهذا فقد تحوّل الواقع إلى ساحة اختبار، وميدان تجربة؛ لصدق الوفاء بالرسالة منهجًا وسلوكًا وتصرفًا" (¬3). والمحك في ذلك مضمون الحضارة الغربية، والهويَّة الثقافية للأُمَّة الإسلاميَّة؛ أن سيادة الحضارة الغربية وهيمنتها لا تعطي هذه الهويَّة خصوصيتها، وفرضت نوعًا من الاستلاب الحضاري، ونوعًا من التنكر لمنجزات الطرف الآخر، ومرتكزاته الثقافية؛ يصل إلى مس الهويَّة الإسلاميَّة بخاصة (¬4). ¬

_ = عبد الحميد فتَّاح: دراسات في الفكر العربي الإسلامي (أبحاث في علم الكلام والتصوف والاستشراق والحركات الهدَّامة): ص 17، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م، عن دار الجيل - بيروت. (¬1) المرجع السابق: ص 20. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 89، الطبعة الأولى، 1978 م، عن الشركة التونسية للتوزيع، تونس، وانظر: محمد رشيد رضا: خلاصة السيرة المحمديَّة وحقيقة الدعوة الإسلامية وكليات الدين وحكمه: ص 5، 6، 9، 10، الطبعة الرابعة 1405 هـ - 1985 م، عن المكتب الإسلامي - بيروت. (¬3) عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 20، 21، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 22.

وهذا ما عبَّر عنه أحد المفكرين -في صدد نقده للفكر الغربي- بقوله: "فهم الغرب عملية التثاقف وباستمرار في صورة الاستلاب الحضاري Inacualturation والتنكر التام لمنجزات الطرف المقابل الحضارَّية والثقافيَّة، وأرادها أن تتحول دائمًا إلى وسيلة للسيطرة والهيمنة وإلغاء الهويَّة الذاتية المستقلة للأمم والشعوب والحضارات The Obliration Of Cultural Identity إلى حدود اقتربت في مضامينها ومنحنياتها السلبية إلى الاغتيال الحضاري للآخرين، وذلك صدورًا عن نظرية عرقية قديمة، جددتها وبشرت بها مدرسة (كرستيان لاش وأرنست رينان) في أواخر القرن الماضي مؤداها: تمايز العقل الأوروبي وسموه عن العقل السامي (العربي) الذي هو في زعم أنصار هذه المدرسة غبي التكوين، معادٍ للعلم والفلسفة" (¬1). إنَّ هذه المزاعم التي يثيرها بعض المستشرقين بين الحين والآخر تمس تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وتحاول التقليل من مكانتها؛ ممَّا يوجب على الأمَّة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 22، وانظر: جوستان لوبون: حضارة العرب: ص 21، 22، ترجمة عادل زعيتر، طبعة الحلبي، 1969 م، وعن التفريق بين مصطلح التثاقف الذي يعني الحوار الحضاري البناء، وبين الاستلاب الثقافي الذي يعني نسخ الهوية ... انظر: جرونبام: المرجع السابق: ص 249 وما بعدها، نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: المرجع السابق: ص 22 "الحاشية"، وانظر: استيفان فيلد: الثقافة العربية في غاية الأهمية بالنسبة للثقافة الأوروبية؛ حيث أشار إلى "المذهب الذي يقول: إن أوروبا هي مركز الكون كله وأن الثقافات والحضارات والآداب العالمية ليس لها قيمة تذكر إلا إذا اتفقت اتفاقًا تامًا مع الثقافات والحضارات والآداب الأوروبية وهو ما يسمى " eurozeutrismus" أشار إلى ذلك -في سياق نقده لهذا المذهب- في مقابلة أجراها معه: محمد أَبو الفضل بدران؛ في بون، ونشرت في مجلة الحرس الوطني: ص 124، عدد رجب 1409 هـ - فبراير 1989 م، تصدر من رئاسة الحرس الوطني السعودي - الرياض.

أهمية تأصيل تميز الأمة الإسلامية، ونقد موقف المستشرقين منه

الإسلاميَّة الوعي بتميُّزها في ضوء ما خصَّها اللَّه به دون سائر الأمم بالملَّة الحنيفية السمحة، وأن تحافظ على هويتها المنبثقة من ذلك المنهج الرباني الذي حدَّد مسارها في الفكر والتاريخ، وألَّا تنخدع -وتحت أي مسمى- للنزول من قلعة هذا التميُّز، فيجري عليها ما جرى على أهل الكتاب من قبل، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. ولَمَّا نفى اللَّه التميُّز عن اليهود والنصارى أثبته لمن قام بشرطه؛ قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]. ومن هنا تأتي أهمية البحث في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منه، لتأصيله أولًا في ضوء الكتاب والسنة، وفهم سلف الأُمَّة وما درج عليه المسلمون في قديم تاريخهم وحديثه، ولنقد موقف المستشرقين منه؛ حيث إنَّهم من طلائع الحضارة الغربية وفكرها، وهو فكر يختلف في موقفه من الفكر الإنساني عامَّة عن فكر الأُمَّة الإسلاميَّة الذي اتسم "بموقفه الإنساني السمح من مجمل الفكر الإنساني، على تباين صوره وأشكاله، سماحة لم يتسع لها صدر غيره من دوائر الفكر والحضارة في تاريخ البشر" (¬1). وهذا ما يقر به المنصفون من المستشرقين وغيرهم من مفكري الغرب ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد، دراسات في الفكر العربي الإسلامي، ص 23، (المرجع السابق نفسه).

ومؤرخيه، على حين أنَّ موقف الفكر الغربي والفكر الاستشراقي -في جملته- جزءٌ منه ينطلق من نظرية "عبء الرجل الأبيض، في حمل رسالة العلم والمعرفة إلى الآخرين، وأنَّ الغرب هو مركز الاستقطاب الفكري للإنسانية. . . فهو من صنع ما اصطلحوا عليه (بالمعجزة اليونانية الخالدة)، (وهو الذي قدَّم من وجهة نظرهم) تفسيرًا متناسقًا رائع التوازن للإنسان والكون والحياة" (¬1). إضافة للأهميَّة المشار إليها آنفًا فإنَّ اللَّه -عز وجل- قد ميَّز الأُمَّة الإسلاميَّة دون سائر الأمم بخصائص ومميزات كثيرة، منها: 1 - بما أورثها من هذا الدين العظيم، وجعل فيها النبي الكريم ومن معه من الصحابة الأبرار، ورفعها لمنزلة الشهادة على الناس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. إنَّ هذا الاصطفاء الإلهي الكريم قد تمثل في صفوة طبَّقت كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت نبراسًا للأجيال وأنموذجًا لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. وقد نصَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إبَّان تكوين الدولة الإسلاميَّة على تميُّز الأُمَّة ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 22.

الإسلاميَّة حينما كتب في المعاهدة مع اليهود بأنَّ المسلمين (أُمَّة واحدة من دون الناس) (¬1)، وبأن اليهود (أُمَّة مع المسلمين) (¬2). 2 - إنَّ هذا التميُّز مستمر في أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى قيام الساعة لما خصت به من الرسالة الخاتمة، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، (فكانت رسالته تجديدًا لدعوة التوحيد التي بعث بها سائر الأنبياء والمرسلين، وتعديلًا للشرائع السابقة، وإكمالًا لها، بعد أن ارتقت البشرية، وتفتحت عقولها، وتهيأت نفوسها لاستقبال الرسالة الخاتمة بكل جوانبها الروحية والاجتماعية، وقد أوضح المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ رسالته إكمال لرسالات الأنبياء السابقين. . .) (¬3)، فقد ثبت أنه قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنةً، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة. . . فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء" (¬4)، والحديث يبين اكتمال الرسالة الخاتمة ووفاءها بحاجات البشرية، مهما ¬

_ (¬1) و (¬2) أبو محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية 2/ 143، 144، علق عليها وخرَّج أحاديثها وصنع فهارسها عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م عن دار الكتاب العربي - بيروت. وانظر: محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة. ص 1، 2، 3، 4، 5، وقد ذكر طائفة من مصادر الوثيقة في غرة ذكرها، عن مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (بدون تاريخ). (¬3) أكرم ضياء العُمري: الرسالة والرسول: ص 37، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1990 م، (لم يذكر الناشر). (¬4) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1791 كتاب الفضائل، الحديث رقم (2287)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول - تركيا (بدون تاريخ).

درجت في مراقي التقدم الحضاري ثقافة وصناعة) (¬1). وهذا التميُّز لا يزال متمثلًا في الأمَّة الإسلاميَّة، وينبغي أن يستمر، قال اللَّه تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزال من أُمَّتي أُمَّة قائمة بأمر اللَّه ما يضرهم من كذَّبهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك" (¬2). 3 - إنَّ تميز الأُمَّة. . . إنَّما يظهر بشكل جلي كلما التزم المسلمون بالإسلام، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب اللَّه وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض" (¬3). كان هذا التميُّز -وما يزال- مستهدفًا من أعداء الأمة منذ بداية تكوينها بهديه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ففي السنة الثانية من الهجرة، وعندما تحولت القبلة إلى الكعبة المشرفة أكثر أعداء الدين -يتزعمهم اليهود- من التنديد بالإسلام إثر هذا ¬

_ (¬1) أكرم ضياء العُمَري: الرسالة والرسول: ص 37، 38، (المرجع السابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 8/ 189، كتاب التوحيد، باب (29)، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وورد في مواضع كثيرة لدى البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، بألفاظ متقاربة. (¬3) أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ووافقه الذهبي: المستدرك عن الصحيحين: 1/ 172، كتاب العلم، الحديث رقم (319/ 32)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1995 م عن دار الكتب العلمية، بيروت. وانظر: مالك بن أنس: الموطأ، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي 2/ 686، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1993 م عن دار الحديث - القاهرة، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 180 عن دار الكتب العلمية - بيروت.

التحوُّل لما يدل عليه من تميز المسلمين، ليس على صعيد العقيدة فحسب، بل وفيما يختص بالعبادة والشعائر، كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المسلمين: (ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو، ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه. . . فهذا التميُّز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. . . ومن هنا كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصبًا، ولا تمسكًا بمجرد الشكليات، وإنَّما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات؛ كان نظره إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير، وخلقًا عن خلق، واتجاهًا في الحياة عن اتجاه) (¬1). وليس هذا فحسب، بل أنّ تميز الأمة الإسلاميَّة ظل مستهدفًا من أعدائها منذ تكوينها وإلى يومنا هذا، ومن أبرز ما استهدفه أهل الكتاب ما يدل عليه قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. إنَّ هذا الموقف من أهل الكتاب وغيرهم قد تمثَّل في هذا العصر في كثير من المستشرقين الذين ظهرت على أيديهم حركة تتراءى -في ظاهرها- ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 128، الطبعة السابعة، عن دار الشروق، 1398 هـ - 1978 م بيروت.

أنّها حركة علمية تهدف -فيما تهدف إليه- إلى الانطلاق من معرفة الإسلام عن كثب لغاية أُخرى، وهي دس سمومها الفكرية، وإثارة الشكوك والشبهات في عقيدته وشريعته وتاريخه وفي تراثه بعامة؛ لتصرف أهله عنه، وليولوا وجوههم شطر الغرب ونحو علومه وثقافته، بعد أنْ ضعفت الشخصية المسلمة، وفقد المسلمون بسبب ذلك ما في ذاتيتهم المتميزة من قوة ومنعة؛ وبهذا تكون هذه الحركة الماكرة ماضية بشتى الوسائل لتحقيق غايتها في فرض التبعية على المسلمين. إن أهمية تميز الأمة الإسلاميَّة يُمكن أن تدرس من ناحيتين مهمتين، هما: الأولى: تأصيل التميُّز والتدليل عليه من الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة الصالح. الثانية: نقد موقف المستشرقين من هذا التميُّز. ولا شك أنّ إبراز تميز الأمة الإسلاميَّة بمقوماته وخصائصه وأهدافه ووسائل تحقيقه؛ ما يجدر بحثه والعناية به، ولا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه وطأة الصراع على الأمة الإسلاميَّة، وبخاصة ما يرى من محاولة الهيمنة العقدية والفكرية عليها، بهدف ترسيخ قيم الغرب، وأخلاقه ومناهجه في الحياة، وكل ما يذهب بتميزها ويوهن شخصيتها الفريدة. ويشهد لهذا الهدف الخطير مقولات كثيرة تعج بها كتابات دهاقين السياسة والفكر في الغرب، منها مقولة (هانوتو) (¬1): (لا يهمكم هذه الكتلة الشيوعية التي ظهرت؛ فإنها "ستخفق" وتكون أضحوكة بينكم لمخالفة بنائها الفطرة الإنسانية، ولكن لا يهمكم إلَّا أمة واحدة شعارها واحد في ¬

_ (¬1) هانوتو (1853 - 1944) كان عضوًا في المجمع اللغوي الفرنسي، ووزيرًا ومؤرخًا. انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/ 270، الطبعة الرابعة عن دار المعارف، القاهرة، 1980 م.

مشارق الأرض ومغاربها (لا إله إلَّا اللَّه واللَّه أكبر)، وقبلتها واحدة، تتجه إليها من كل مكان؛ ثم تلتقي حول قبلتها (الكعبة) كل عام. هذه الأمة اعملوا على تحطيم عقيدتها من الأساس، وإفساد أخلاق أبنائها، وتحوير أفكارهم حتى تذيبوها في كل مكان، وإلَّا فلا تأمنوا انطلاقتها مهما عملتم من الاحتياطات العسكرية ما لم تهدموا أصل عقيدتهم) (¬1). ويقول (برنارد لويس): (لقد كانت عادتنا التي تعودناها في العالم الغربي هي: كلما اتجه الشرقيون إلينا ازداد تمسكنا بالغرب؛ لنجعل أنفسنا مثالًا للفضيلة والتقدم، فإذا تشبهوا بنا عددنا ذلك أمرًا حسنًا، وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءًا وشرًا. فالتقدم هو في التشبه بنا، أمَّا إذا لم يقتدوا بنا فذلك هو التقهقر والاضمحلال) (¬2). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: عبد الرحمن الدوسري: صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم 2/ 388، 389، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م، عن مكتبة دار الأرقم، الكويت. وانظر: باول شمتز: الإسلام قوة الغد العالمية، ترجمة: محمد شامة، الطبعة الثانية عن مكتبة وهبة، القاهرة (بدون تاريخ)، ويشتمل على مقدمة لمحمد البهي أكد فيها تلخيصات مهمة لغرض الكاتب من هذا الكتاب وأنه نذير للغرب من الأمة الإسلاميّة ودعوة لها أن تعمل في حزم واتحاد لرد خطر الأمة الإسلاميّة عنها ووقف نموها، وذلك عن طريق (توهين علاقة المسلمين بإسلامهم وتوجيه حملات تشويهية ضد الإسلام)؛ ص 14، وكان ممَّا ذكره المؤلف عن تميز الأمة الإسلاميّة قوله: (لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا فويًا، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام، لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب، بل ستكون أيضًا خطرًا على أعدائه. . .)؛ ص 13، (المرجع السابق نفسه)، وعلى نحو من ذلك قال (لورنس بروان) في كتاب له صدر في 1944 م: انظر: عمر فروح: التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ص 184، الطبعة الثالثة، 1986 م، من منشورات المكتبة العصرية، بيروت. (¬2) الغرب والشرق الأوسط: ص 18، 19، 20، تعريب: نبيل صبحي، الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م، عن المختار الإسلامي. . .، القاهرة، إلَّا أنه تناول -في سياق =

ومن ناحية أخرى فإن هذا العصر يشهد -في ظل تقارب المسافات، وتطور الأساليب الحضارية- اختلاط الأمم وتفاعلها الفكري والثقافي؛ بيد أن طغيان الحضارة الغربية وثقافتها على العالم المعاصر يقلل التميُّز بين الأمم والشعوب (¬1) بما يتعارض مع طبيعة الأمة الإسلاميَّة التي يفترض فيها أنْ تكون صاحبة رسالة قائمة بالحق والخير والمعروف، وشاهدة على الأمم. وعن هذا المعنى عبَّرَ (محمد أسد) (¬2) بقوله: إنَّ الإسلام بخلاف سائر الأديان. . . لا يُمكن تقريبه من الأوضاع الثقافية المختلفة، بل هو فلك ثقافي مستقل، ونظام اجتماعي واضح الحدود، فإذا امتدت مدنيَّة أجنبية ¬

_ = حديثه عن الفوقيَّة الغربية- آثار هذه النزعة في ضياع ما أسماه (هويتهم الواحدة)، وانظر: العرب في التاريح: ص 235 - 254، تحت عنوان: تأثير الغرب، بيد أنه ألمح لتميُّز الأمَّة الإسلاميَّة وقوة مقاومة الإسلام، ومع ذلك يرى بأنَّ الغرب قادر على إذابة ذلك التميُّز؛ إذ يقول: (إذ لم يعد الإسلام عقيدة حديثة لينة. . بل هو الآن ديانة عريقة ذات نظم ثابتة. ولكن إذا كان المعدن صلبًا فالمطرقة أشد صلابة) المرجع نفسه، ترجمة نبيه أمين فارس وآخر، عن دار العلم للملايين، 1954 م، بيروت. (¬1) انظر: ناصر بن عبد الكريم العقل: دراسة تحليلية قدّم بها كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 40، الطبعة الأولى، 1404 هـ، (لم يذكر الناشر). (¬2) محمد أسد: (1900 - 1992) كان يهوديًّا نمساويًّا، ثم أسلم وكان اسمه قبل إسلامه (ليو بولد فايس)، وله مؤلفات في الفكر الإسلامي منها الطريق إلى الإسلام، ومنهاج الحكم في الإسلام، والإسلام على مفترق الطريق. انظر ترجمته لدى العقيقي: المستشرقون 2/ 291، وانظر مجلة الفيصل عدد (184) شوال 1412 هـ، ص 126 - 127، وفيها خبر وفاته وترجمة له ولمحة عن حياته وأعمالة، ونشرت في عددها (185) في باب (الطريق إلى اللَّه) قصة إسلامه، تصدر عن دار الفيصل الثقافية، الرياض.

بشعاعها إلينا، وأحدثت تغييرًا في جهازنا الثقافي -كما هي الحال اليوم- وجب علينا أن نتبين لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكاناتنا الثقافية أو يعارضها، وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلاميَّة فعل المصل المجدد للقوى أو فعل السم) (¬1). إنّ الحضارة الغربية وثقافتها تختلف في معظم مبادئها عن ثقافة الأمة الإسلاميَّة، وقد يصل هذا الاختلاف إلى حد التناقض في المنطلقات والغايات والاتجاهات الفكرية، والمذاهب العقدية؛ ومع ذلك يرادُ لها أن تظهر بمظهر التفوق والعظمة في مُثلها وقيمها على قيم الإسلام ومُثله، وإظهار أيّ تمسك بالإسلام بمظهر التخلف والانحطاط، وإلى جانب ذلك إحياء الحضارات المطمورة في تاريخ ما قبل الإسلام، لمزاحمة الإسلام وإذابة تميز الأمة الإسلاميَّة واعتزازها بأمجادها التاريخية (¬2). وممَّا يُؤسف له أنَّه وجد في واقع الأمة الإسلاميَّة تهاون وقابليّة لتلك الأفكار الغازية التي تستهدف عقيدتها وهويتها، وظهر فيها من يرفع عقيرته بأفكار استشراقية، ويمارس أنماطًا للحياة غريبة عن ذاتية الأمة الإسلاميَّة، ولا تنسجم مع تعاليم دينها وهدي رسولها -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما وجدت تلك الانحرافات والسموم طريقها لتصبح ظاهرة بارزة في واقع المسلمين اليوم يخشى مع نموها واتساعها أن تهدد تميز الأمة الإسلاميَّة؛ بحيث تذوب شخصية الأمة الخاصة بها في ثقافات شتى والثقافة الغربية خاصة؛ انخداعًا بمعطياتها الحضارية التي لم تُنَزَّل منزلتها الحقيقية في نظر المسلمين، وكان ¬

_ (¬1) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص 18، ترجمة عمر فروخ عن دار العلم للملايين بيروت، 1981. (¬2) انظر: عبد الكريم عثمان: معالم الثقافة الإسلاميَّة: ص 97، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م، عن مؤسسة الأنوار للنشر والتوزيع، الرياض. وانظر: عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي ص 81، (مرجع سابق).

الدراسات السابقة في تميز الأمة الإسلامية

ما جرى من الافتتان بها والمبالغة في ذلك ما ينال من ثقة الأمة بمعتقداتها وقيمها وأخلاقها ومجريات تاريخها. إن ما وقعت فيه الأمة الإسلاميَّة من خطر كبير دفعت إليه بكيد أعدائها وعجز أبنائها جعلها، كما قال أحد المفكرين: (أمة مسبوقة ومنقسمة على نفسها ومستهدفة) (¬1). ولكن هذا الواقع لم يطمس -بفضل اللَّه- حقيقة الأمة الإسلاميَّة كما يجلي ذلك تاريخها الناصع، وجذوة الحق والنور التي لم تنطفئ؛ بما تمثل من الخير الباقي فيها؛ وبما تمثل في الوقت نفسه من الأسوة الحسنة؛ التي لا تزال حيَّة ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر اللَّه وهي كذلك. ويُعنى البحث بهذا الجانب كما تجليه الوقائع؛ شواهد ناطقة؛ من حيث كونها الأمثلة الحية، والتطبيق الصحيح للإسلام قيمًا ومثلًا جديرة بالتأمل والاعتبار، وفي هذا دلالة على أن ما وقع من خلال تقويم تاريخ الأمة من انحراف وانقسام إلى فرق متعددة ومذاهب شتى، لم يكن إلَّا ظاهرة شاذة وآفة وافدة لا تتفق مع حقيقة الأمة الإسلاميَّة ومقوماتها الأصيلة. الدراسات السابقة في تميز الأمة الإسلامية: لا يوجد -فيما أعلم، واللَّه أعلم- دراسة لموضوع تميز الأمة الإسلاميَّة على النحو الذي تهدف إليه هذه الأُطروحة. ¬

_ (¬1) انظر: محمد بن إبراهم الخطيب: الأمة الإسلاميَّة بين الماضي والحاضر، مقال نشر بمجلة منبر الإسلام عدد 5 جمادى الأولى 1414 هـ، ص 35 - 39، (تصدر عن وزارة الأوقاف بمصر).

ولكن توجد شذرات مبثوثة في بطون الكتب الإسلاميَّة عن خصائص الأمة الإسلاميَّة ومزاياها. وقد يفرد بعض المفسرين والمحدثين والمؤرخين وغيرهم من علماء الأمة ومفكريها أبوابًا أو فصولًا أو مباحث في كتبهم بمسميات عدة، مثل: فضائل الأمة الإسلاميَّة أو مناقبها أو شمائل رسولها -صلى اللَّه عليه وسلم- ودلائل إعجازه، ورُبَّما ورد كثيرٌ من الأحاديث في فضائل الأُمَّة الإسلاميَّة في كتب الأحكام والحدود ونحوها. ورُبَّما أفردت كتبًا مستقلة في دلائل النبوة وتثبيتها، كما هو فعل البيهقي والأصبهاني وغيرهما (¬1). ¬

_ (¬1) للاطلاع على جملة منها انظر: الإمام البخاري: صحيح البخاري، ج 4، كتاب المناقب، باب: فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، مراجعة وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). • الإمام مسلم: صحيح مسلم ج 2، كتاب الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). • ابن ماجه: سنن ابن ماجه، باب: صفة أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- 2/ 1431 - 1341، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). • أبو الحسن العامري (ت 381 هـ - 1992 م): كتابه الإعلام بمناقب الإسلام، حققه أحمد عبد الحميد غراب، الطبعة 1408 هـ - 1988 م، عن دار الأصالة، الرياض. • ابن القيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/ 45 - 46، (مرجع سابق). • ابن الأثير: جامع الأصول في أحاديث الرسول ج 9، الباب الخامس من كتاب الفضائل والمناقب في فضل هذه الأمة الإسلامَّية وتحته أحد عشر نوعًا استغرقت الصفحات (177 - 208) بتحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، طبعة: 1389 هـ - 1369 هـ، عن مكتبة الحلواني، بيروت. • ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 391 - 397، طبعة 1388 هـ - 1966 م عن دار المعرفة. . بيروت، ساق جملة من الأحاديث والآثار في فضائل الأمة الإسلاميَّة، أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وخيرتها وشرفها وتميزها على سائر الأمم، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: =

كذلك فإن بعض العلماء فيما كتبوه عن العقيدة أو الشريعة أو الأخلاق أو الحضارة ونحو ذلك مِمَّا يكتب عن الأمة الإسلاميَّة؛ عرَّجوا على بعض شعائر التميُّز أو خصائصه أو بعض مقوماته. ولكن أكثر ما كُتِبَ اتسم بالتركيز على بعض جوانب التميُّز دون بعضها الآخر. ويأتي الحديث عنه عرضًا دون أن يكون مقصودًا لذاته؛ مما يدعو وبإلحاح إلى إفراد التميُّز بدراسة علمية متكاملة تسير وفق منهج مرسوم وخطّة مقررة. ومن أبرز ما اطلعت عليه في هذا الموضوع الآتي: 1 - ما كتبه الإمام أبو حنيفة في كتابه (الفقه الأكبر عن شعائر أهل السنَّة) (¬1). 2 - ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمع في فتاواه عن تميز أهل ¬

_ = {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}. • ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/ 5 - 21، تحقيق: علي بن حسن وآخرين، الطبعة الأولى 1414 هـ، عن دار العاصمة، الرياض. • محمد بن علي الشوكاني: در السحابة في مناقب القرابة والصحابة، تحقيق ودراسة: حسين بن عبد اللَّه العمري، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م، عن دار الفكر، دمشق، أفرد فيها فصلًا عن فضل الأمة الإسلاميَّة في الصفحات (579 - 589)، وأورد فيه جملة أحاديث في فضائل الأمة الإسلاميَّة وتميزها على سائر الأمم. (¬1) انظر: الملَّا علي القاري الحنفي: شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، بيروت، وقد ذيَّل شرحه بمتن الفقه الأكبر في الصفحات (323 - 327)، وانظر: شرح الشعار، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م، عن دار النفائس، بيروت.

السنة (¬1)، وقد جرده في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. 3 - ما كتبه الإمام الحافظ ابن حزم في كتاب (الملل والنحل) عن تميز أمة الإسلام في وجوه النقل وأنهم تميزوا عن اليهود والنصارى وسائر الأمم في مناهج النقل والإسناد والنقد. 4 - ولأبي عبد اللَّه محمد بن عبد الرحمن البخاري المتوفى سنة (546 هـ) كتاب بعنوان: (محاسن الإسلام وشرائع الإسلام)؛ استعرض فيه محاسن الإيمان باللَّه، ومحاسن الصلاة والزكاة والصوم والحج، وفصَّل المحاسن التي استعرضها وفقًا لأبواب الفقه (العبادات ثم المعاملات) (¬2). 5 - وانتهج ابن قيم الجوزيّة في سائر مؤلفاته (بيان خصائص أهل السنة والجماعة، وبيان الصراط المستقيم، ومعرفة الحلال والحرام، والخلق والأمر، والوعد والوعيد، والاقتصاد في السنة، وتباعها كما جاءت مع بيان ما حادت عنه الملل والفرق الحائدة عن الصراط المستقيم) (¬3). ¬

_ (¬1) ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 4/ 140، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الطبعة الأولى، 1398 هـ، عن مطابع دار العربيَّة، بيروت. وانظر: المرجع نفسه: 1/ ص ل مقدمة يوسف ياسين. (¬2) أبو عبد اللَّه محمد بن عمد الرحمن بن أحمد البخاري الملقب بالزاهد العلّامة، غير البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري المولود سنة 194 هـ المتوفى سنة 256 هـ، وكتاب محاسن الإسلام وشرائع الإسلام صدر عن دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة 1406 هـ - 1985 م، بيروت. (¬3) شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط: ترجمة للإمام ابن قيم الجوزية في بداية: زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 17، تحت عنوان: من آرائه في العقيدة والفقه، الطبعة الخامسة والعشرون 1412 هـ - 1991 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت.

وتحدث في بعض كتبه عمّا فضّل اللَّه به عبده ورسوله محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- على سائر الأنبياء والمرسلين، وما تميَّزت به أمته من فضائل في عقيدتها وشريعتها وأخلاقها وسائر شعائرها (¬1)، وله مؤلف خصَّصه لأحكام أهل الذّمة، اشتمل على جوانب عدّة ممّا يندرج في مفهوم التميُّز بصفة مباشرة وغير مباشرة (¬2). 6 - وكتب السيوطي في ذلك كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب المعروف بـ (الخصائص الكبرى) ضمنه كثيرًا من خصائص الأمة الإسلاميَّة وبخاصة ما أورد في الجزء الثاني بعنوان: (باب اختصاصه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن أمته الآخرون في الدنيا الأولون يوم القيامة. . .) (¬3). 7 - وللشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب بعنوان: (مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الجاهلية) (¬4)، وله أيضًا: (فضل الإسلام) (¬5)، استعرض في الأول مئة مسألة خالف فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الجاهلية في مجال العقيدة والشريعة والأخلاق. ¬

_ (¬1) انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين: ص 627 - 750، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م، تحقيق: يوسف علي بديوي، عن دار ابن كثير، بيروت. (¬2) أحكام أهل الذِّمة: تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995، عن دار الكتب العلمية - بيروت. (¬3) أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911 هـ): الخصائص الكبرى 2/ 226 - 229، عن دار الكتاب، طبع في حيدرآباد الدكن (4 رجب 1320 هـ). (¬4) توسع في شرحها محمود شكري الآلوسي، ونشرها للمرة الأولى محب الدين الخطيب عام 1344 هـ - عن المطبعة السلفية ومكتبتها، وصدرت الطبعة الثانية 1376 هـ، والثالثة 1394 هـ، والرابعة 1397 هـ، توزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء (وقف للَّه). (¬5) أشرفت على طباعته ونشره إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1413 هـ - 1992 م.

واستعرض في الآخر فضائل الإسلام ووجوب الالتزام به وتحقيقه، والبعد عن البدع والتحذير منها. 8 - وللشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي كتيب بعنوان: (محاسن الإسلام) ضمنه مقومات تميز الأمة الإسلاميَّة بطريقة منهجيّة، إلَّا أنه جاء في غاية الاختصار والإيجاز. 9 - ولمحب الدين الخطيب اهتمام بتميز الأمة الإسلاميَّة تمثل في عدة أعمال علميّة أنجزها، من أبرزها الآتي: أ- تذييله كتاب (المنتقى من منهاج الاعتدال في نقص كلام أهل الرفض والاعتزال)، وهو مختصر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصره الذهبي. ذيله محب الدين الخطيب بكتابه عن تَمَيُّز الأمة الإسلاميَّة بعنوان (الجيل المثالي)، ومما جاء فيه قوله: (فكرتُ في هذا الأمر كثيرًا من خمسين سنة إلى الآن، ومن ذلك الحين وأنا أراقب كل ما يقع عليه نظري من تحقيقات العلماء وخطرات أفكارهم لأصل إلى حكمة اللَّه في هذا الامتياز) (¬1). وبعد أن عرض لمحات من تميز الأمة الإسلاميَّة لفت النظر إلى أهمية دراسة هذا الموضوع بقوله: (هذه المعاني تحتاج إلى دراساتٍ علميّة عميقة. . . وإنّ فصلًا كهذا أضيق من أن يلم -ولو بإشارات قصيرة ولمحات سريعة- بمثل هذه المعاني، ونحن نكتفي بتسجيلها (ليُتَّخذ) منها (موضوعات) للدراسة والتمحيص) (¬2). ¬

_ (¬1) محب الدين الخطيب: الجيل المثالي ص 17، جردها ابنه قصي في رسالة مستقلة بهذا العنوان، ونشرتها المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة، (بدون تاريخ). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 24.

ب- وله رسالة بعنوان: (حملة رسالة الإسلام الأولون، وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير، وكيف شوّه المغرضون جمال سيرتهم). أشار فيه لشيء من مزايا الرعيل الأول (¬1) من الأمة الإسلاميَّة، وحذر مما يكتبه المغرضون في قديم تاريخ الأمة الإسلاميَّة وحديثه؛ ومنهم المستشرقون لإذابة تميزها، ولتكون محرومة من الإيمان بعظمة ماضيها، وأنها سليلة سلفٍ لم ير التاريخ أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته (¬2). ج - وذكر أحمد سما يلوفتش في كتابه: (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر) أنّه اطلّع على مخطوطة عن المستشرقين وأعمالهم لمحب الدين الخطيب بحوزة ابنه حيث (حاول أن يسجل كل ما يتعلق بالاستشراق مبتدئًا بمطبوعات شرقية في أوروبا، الجمعيات الاستشراقية المختلفة، مؤتمرات المستشرقين، مشاهير المستشرقين، دائرة المعارف الإسلاميَّة، مجلّات الاستشراق المختلفة، المطابع العربية في أوروبا، المكتبات الأوروبية التي تحتوي على المؤلفات العربية وما إلى ذلك) (¬3)، ثم يتبع ذلك بقوله: (يبدو لنا أنه كان ينوي التأليف في هذا الموضوع) (¬4). 10 - واطلعت على كتاب ألفه عبد المنعم أبو زنط عنوانه: (التميُّز ¬

_ (¬1) وله كتاب بهذا العنوان، نشره ابنه قصي محب الدين الخطيب، الطبعة الخامسة، 1390 هـ، عن المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة. (¬2) انظر: محب الدين الخطيب: حملة رسالة الإسلام الأولون ص 17، عن المكتبة السلفيَّة ومطبعتها، القاهرة (بدون تاريخ). (¬3) أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر: ص 685 (رسالة دكتوراه مقدمة للأزهر، نوقشت بتاريخ 9/ 9/ 1974 م)، وطبعت بمطابع دار المعارف - بمصر 1980 م. (¬4) المرجع السابق ص 685.

الإسلامي) تضمن هذا الكتاب جملة موضوعات تندرج تحت التميُّز، ولكن لم تتحقق فيه الدراسة العلمية الوافية (¬1)، كما ينبغي أن يتوافر لها من التكامل والشمول. 11 - وفي كثير من كتب الفكر الإسلامي والثقافة الإسلاميَّة في العصر الحاضر؛ إشارات لتميُّز الأمة الإسلاميَّة، ولمحات متفرقة (¬2)؛ أفدتُ منها في مادة البحث العلمية بعد جمعها وترتيبها ودراستها لتعميق ما يحتاج منها إلى تعميق، وتأصيلها، واستكمال جوانب التميُّز الأخرى، وفق الخطة المرسومة لهذه الأطروحة. وأشكر اللَّه الذي وفقني لإنجازها وأرجوه -تعالى- أن تكون على الوجه الذي يرضيه جلَّ وعلا، وأن تكون لبنة صالحة لتأخذ مكانها في بناء الفكر الإسلامي، وتؤدي مهمتها في مسار الثقافة الإسلاميَّة الأصيل. ¬

_ (¬1) عن مكتبة السندس، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1995 م. (¬2) انظر: منها الآتي: • سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 127، 128، 129، (مرجع سابق). • محمد قطب: واقعنا المعاصر ص 50 - 63 و 63 - 111، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م، عن مؤسسة المدينة، جدة. • محمد المبارك: المجتمع الإسلامي ص 32 - 45، الطبعة الرابعة 1399 هـ - 1979 م، عن دار الفكر، بيروت. • عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الاسلاميَّة ص 79 - 83، الطبعة التاسعة، 1404 هـ - 1984 م، عن مؤسسة الرسالة، بيروت. • محمد أسد: منهاج الإسلام في الحكم ص 52 - 65، ترجمة: منصور محمد ماضي، الطبعة الخامسة، 1978 م، دار العلم للملايين، بيروت. • عجيل جاسم النشمي: طريق البناء التربوي الإسلامي: ص 91 - 108، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م، عن دار الدعوة، الكويت.

المنهج في دراسة تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه وخطة البحث فيه

المنهج في دراسة تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه وخطة البحث فيه: يمكنني القول بأنني انتهجت في رسالتي هذه أكثر من منهج؛ وفقًا لمقتضيات البحث والدراسة، ففي بعض المباحث انتهجت منهجًا تأصيليًّا، وفي بعضها الآخر كان منهجي تاريخيًا وصفيًا، وتارةً أخرى أطبق المنهج النقدي، وأحيانًا أعمل منهج الاستقراء والاستنتاج والمقارنة والملاحظة؛ ولتوضيح ذلك أورد الأمثلة الآتية: أ- كان منهجي فيما يتعلق بمنزلة التميُّز وضرورته ومقوماته وخصائصه وأهدافه ووسائله منهجًا تأصيليًا، درجتُ فيه على البحث في أصول كلمات: (التميّز، الأمة، الأمة الإسلاميَّة، العقيدة، الشريعة، الربانية، العالمية، الوسطية، ونحو ذلك من مفاهيم البحث الأخرى) فعدتُ لمعانيها اللغويّة والاصطلاحية وحددت المراد منها كونها مفاهيم للبحث، وسرتُ على هذا المنهج في سائر البحث. ب- وكان منهجي فيما يتعلق بدراسة نشأة الاستشراق وتطوره منهجًا وصفيًا تاريخيًّا، تخلَّلَه منهج آخر عُنِيَ بالاستقراء والاستنتاج والملاحظة والنقد، بعد أن بينت مفهوم الاستشراق والمستشرقين. ج- وانتهجت في دراسة موقف المستشرقين من تميز الأمة الإسلاميَّة؛ منهجًا نقديًّا أطرح من خلاله شبهات المستشرقين ثم أردُّ عليها من ناحية، وأبرز ما في موقفهم من تميز الأمة الإسلاميَّة من سلبيات وإيجابيات، ثم أقارن بينهما لأصل في نهاية التحليل لنتيجة محدّدة إن أمكن. أمَّا خطوات البحث من حيث جمع المادة العلمية من مظانها في المصادر والمراجع، وأسلوب الإفادة منها ومصطلحات الكتابة، وخطة البحث، فهي على النحو الآتي:

أولا: جمع المادة العلمية

أولًا: جمع المادة العلمية: 1 - رجعت لمعاجم اللغة العربية لتحديد مفاهيم البحث الأساس؛ (التميُّز، الأمة، العقيدة، الشريعة، الأخوة، الربانية، العالمية، الوسطية. . .)، ونحو ذلك من مفاهيم البحث الأخرى، وما يحتاج إلى تعريف لغوي، وكان من أبرز تلك المعاجم اللغوية الآتي: • كتاب العين: لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (101 - 175 هـ). • تهذيب اللغة: لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (282 - 370 هـ). • معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (. . . - 395 هـ). • مجمل اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (. . .- 395 هـ). • الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية): لإسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 هـ). • أساس البلاغة: لأبي القاسم جار اللَّه محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538 هـ). • لسان العرب المحيط: لابن منظور محمد بن مكرم جمال الدين أبي الفضل بن منظور (630 - 711 هـ). وإلى جانب هذه المعاجم الأساس. . رجعت إلى بعض المعاجم الحديثة والموسوعات ودوائر المعارف المتنوعة؛ وفقًا لمقتضيات البحث والدراسة. 2 - ورجعت لأمهات الكتب الإسلاميَّة في التفسير والحديث ومعاجمهما، والفقه والأصول، والتاريخ والسير والتراجم، والعقيدة

والمذاهب، لجمع مادة البحث العلمية وللوقوف على أقوال أئمة التفسير والمحدثين والفقهاء والعلماء في صدر الإسلام والقرون المفضَّلة، وما تلا ذلك من تأليفات في ميادين كثيرة ومجالات متنوعة. 3 - وتتبعت كتابات علماء الأمة الإسلاميَّة ومفكريها في العصر الحاضر في مجال الثقافة الإسلاميَّة؛ وبخاصة ما يتعلق بتميز الأمة الإسلاميَّة ومقومات هذا التميُّز من عقيدة وشريعة وخصائص وأهداف ووسائل وأساليب. وكذلك الكتابات التي تُعنى بواقع الأمة. . . وحاضر العالم الإسلامي، وما يواجهها من تحديات ومعوقات، والحلول المطروحة للخروج بالأمة الإسلامية من أزمتها وتخلفها وانحطاطها. 4 - وعرجتُ -بقدر الطاقة والإمكان- على ما كُتِبَ عن الاستشراق والمستشرقين، سواء المترجم عنهم، أو الراصد لتاريخهم ومظاهر نشاطهم، أو نقد حركتهم وإنتاجهم. 5 - وبذلتُ مجهودًا في متابعة الدوريات والندوات والمحاضرات المطبوعة، والمسجلة بالصوت ونحوها، وقمتُ بترجمة بعض النصوص وأجزاء من كتب المستشرقين بغية إتمام الفائدة، وتوسيع دائرة الإفادة من مادة البحث العلمية. وقد تحقق لي جمع مادة علميّة غزيرة أفدتُ من معظمها، وسلكتُ في الإفادة منها منهجًا يقوم على الآتي: 6 - الدراسة المتأنية لمادة البحث وتوثيقها وسبر جوهرها وما تتضمن من أفكار ووقائع وأحكام ومعانٍ لغوية وشرعية واصطلاحية، مع عقد المقارنات، والتحليل، واستخلاص النتائج وثمرات الدراسة والبحث. 7 - توظيف هذه المادة في فصول البحث ومباحثه وفقراته وترتيب

ثانيا: خطة البحث

الإفادة منها في مواضعها المناسبة مع تلافي التكرار وانتقاء الأحسن ما استطعت إلى ذلك سبيلًا. 8 - عمدتُ في الكتابة إلى استخدام المصطلحات الشكلية الآتية: أ- إبراز الآيات القرآنية بالرسم العثماني كما هي في مصحف المدينة. . وأثبت في الحاشية اسم السورة ورقم الآية. ب- تخصيص الحديث النبوي الشريف بهذه الأقواس ". . . "، وكتابة صلى اللَّه عليه وسلم بهذا الشكل -صلى اللَّه عليه وسلم-. ج- النصوص المنقولة غير الآيات والأحاديث أضعها بين قوسين للتمييز بين الأحاديث والنص المنقول على هذا النحو: (. . .) وأثبت في الحاشية اسم المؤلف واسم كتابه، وإذا تصرفت في النص بالحذف رمزتُ لها بنقاط متتالية. . .، أمَّا إذا أخذت المعنى أو الفكرة وعبرتُ بأسلوبي أو غيَّرت فيه فإنني أكتبُ في الحاشية كلمة (انظر). د- عمدت في العزو إلى ذكر المؤلف أولًا ثم اسم مُؤَلَّفِه. هـ - إذا ورد في متن البحث مصطلح آخر غير مصطلحاته المبيَّنة في مكانها، فإنني أذكر معناه وأعزوه لصاحبه، كذلك الألفاظ المبهمة أو ما يحتاج إلى توضيح. 9 - ترجمتُ لبعض الأعلام غير المشهورين ثُمَّ أهملتُ الترجمة لئلا أثقل الحاشية بالتراجم، وهي عِلْمٌ قائِمٌ بذاته وله مصنفات في المتناول. 10 - تقيدتُ بالقواعد الإملائية، وعلامات الترقيم، ومصطلحات الكتابة الشكلية وفقًا للمتبع في كتابة البحوث والرسائل العلمية. ثانيًا: خطة البحث: كانت خطة البحث في أصله باعتباره رسالة علمية مقدمة لنيل الدكتوراه تشتمل على الآتي:

المقدمة: (وتشتمل على ما سبق ذكره). باب تمهيدي: ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: مفهوم تميز الأمة الإسلاميَّة: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مفهوم التميُّز. المبحث الثاني: مفهوم الأُمة. المبحث الثالث: مفهوم الإسلاميَّة. الفصل الثاني: منزلة تميز الأُمة الإسلاميَّة وضرورته: وفيه مبحثان: المبحث الأول: منزلة تميز الأمة الإسلاميَّة. المبحث الثاني: ضرورة تميز الأمة الإسلاميَّة. الفصل الثالث: لمحة عن الاستشراق: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مفهوم الاستشراق والمستشرقين. المبحث الثاني: نشأة الاستشراق. المبحث الثالث: تطور الاستشراق. الباب الأول: مقومات تميز الأمة الإسلاميَّة وخصائصه وموقف المستشرقين منها. ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: مقومات تميُّز الأمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها. وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: العقيدة وموقف المستشرقين منها. المبحث الثاني: الشريعة وموقف المستشرقين منها. المبحث الثالث: الأخوة الإسلاميَّة ووحدة الأمة وموقف المستشرقين منها. الفصل الثاني: خصائص تميز الأمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الربانية وموقف المستشرقين منها. المبحث الثاني: العالمية وموقف المستشرقين منها. المبحث الثالث: الوسطية وموقف المستشرقين منها. المبحث الرابع: الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها. الباب الثاني: أهداف تميز الأمة الإسلاميَّة ووسائل تحقيقه وموقف المستشرقين منه، وفيه فصلان: الفصل الأول: أهداف تميز الأمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها وفيه مبحثان: المبحث الأول: تحقيق العبودية للَّه، وموقف المستشرقين منها. المبحث الثاني: تحقيق الاستخلاف في الأرض وموقف المستشرقين منه. الفصل الثاني: وسائل تحقيق تميز الأمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها، وفيه مبحثان: المبحث الأول: وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها. المبحث الثاني: وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه. خاتمة البحث: وتشتمل على الآتي:

فكرة تقسيم الدراسة في خمسة كتب

1 - خلاصة البحث. 2 - أبرز النتائج. 3 - التوصيات. ذيلت الرسالة بالفهارس الآتية: 1 - فهرس الآيات القرآنية. 2 - فهرس الأحاديث النبوية والآثار. أولًا: الأحاديث. ثانيًا: الآثار. 1 - فهرس الأبيات الشعرية. 2 - فهرس الأمكنة والبلدان. 3 - فهرس الفرق والطوائف. 4 - فهرس الكلمات الغريبة المشروحة. 5 - فهرس الأعلام. 6 - فهرس المصادر والمراجع. 7 - فهرس الموضوعات. فكرة تقسيم الدراسة في خمسة كتب: وقد نشر الكتاب ضمن مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1426 هـ على صورته الأصلية ولكن بإعادة النظر في تقريب مادته العلمية وسهولة الاطلاع على مضامينه وإبرازها والإسهام في نشر العلم وسهولة الرجوع إليه قسم في خمسة كتب استجابة لرغبة القائمين على طباعته بوزارة الشؤون الإسلامية بقطر جزاهم اللَّه خيرًا وهي على النحو الآتي: - الكتاب الأول: مدخل في التميز والاستشراق.

- الكتاب الثاني: مقومات تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها. - الكتاب الثالث: خصائص تميز الأمة الإسلامية ومواقف المستشرقين منها. - الكتاب الرابع: أهداف تميز الأمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها. - الكتاب الخامس: وسائل تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها. وقد اقتضى الجانب الفني أن تكون المقدمة في الجزء الأول فقط، وأن يشتمل الجزء الثاني على الخاتمة، والمبحث الختامي للدراسة، كذلك الفهارس للكتب الخمسة، واللَّه ولي التوفيق * * *

الكتاب الأول: مدخل في تميز الأمة الإسلامية والاستشراق

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ تأليف: د. إِسْحَاق بن عبد اللَّه السَّعْدِيّ الكتاب الأول 1/ 5 مدخل في تميز الأمة الإسلامية والاستشراق • خارطة ذهنية توضيحية. • بين يدي تميز الأمة الإسلامية. • مفهوم تميز الأمة الإسلامية. • مفهوم الاستشراق والمستشرقين. • لمحة تاريخية عن الاستشراق والمستشرقين.

الفصل الأول مفهوم تميز الأمة الإسلامية

الفصل الأول مفهوم تميُّز الأمة الإسلامية - مفهوم تميُّز الأمة الإسلامية: اشتقاق التميُّز اللغوي. صلة التميُّز بالأمة الإسلامية. مدلول (الأمة) في معاجم اللغة العربية. مدلول الأمة في القرآن الكريم. خلاصات لمعاني الأمة في اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واستنتاجات. نماذج من تعريفات العلماء والمفكرين لمدلول الأمة في الفكر الإسلامي وتحديد مصطلح الأمة في البحث. مفهوم الأمة الإسلامية. - منزلة تميُّز الأمة الإسلامية: كون التميُّز سنة من سنن اللَّه فى خلقه. الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه. التعريض بمن لم يرع التميُّز والوعيد المترتب على عدم تحقيقه. النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية. - ضرورة تميُّز الأمة الإسلامية: إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها. تجسيد القوة في ذاتية الأمة الإسلامية وإظهارها للإنسانية. بناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الفكري.

مفهوم تميز الأمة الإسلامية

مفهوم تميُّز الأمة الإسلامية اشتقاق التميُّز اللغوي من الأهمية بمكان في سائر العلوم تحديد مفاهيم البحث (¬1)، لما يترتب على ذلك من تحديد مسار البحث من ناحية، ولتكون الرؤية واضحة وجليَّة من ناحية أخرى. وسيجري توضيح مفهوم التميُّز وغيره من مفاهيم البحث الأخرى، أمَّا مفهوم التميُّز فبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية ومصادرها وُجِدَ أن هناك جملة من المواد اللغوية هي المظان لاشتقاق التميُّز، وهي على النحو الآتي (¬2): 1 - ماز 2 - مزا 3 - مزز 4 - مزي 5 - ميز 1 - ماز: ورد في القاموس المحيط: (مازه يميزه ميزًا: عزله، وفرزه، كأمازه وميزه فامتاز وانماز وتميز واستماز، (واستماز) الشيء: فَضُلَ بعضه ¬

_ (¬1) للاطلاع على أهمية تحديد المفاهيم بعامة ومفاهيم الإسلام خاصة وما ألف من ذلك، انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغة، رسالة مدرجة في كتابه: فقه النوازل: ص: (101 - 196)، الطبعة الأولى: (1407 هـ)، مكتبة الرشد - الرياض. (¬2) انظر: إسماعيل بن حماد الجوهري: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة: (1407 هـ - 1987 م)، (6/ 2492). وانظر: جار اللَّه أبا القاسم محمود بن عمر الزمخشري: أساس البلاغة: ص: (592، 593)، طبع ونشر دار بيروت: (1404 هـ/ 1984 م). وانظر: محمد بن أكرم بن منظور: لسان العرب المحيط: (3/ 477، 479، 549، 554)، طبع ونشر دار لسان العرب - بيروت، (بدون تاريخ).

على بعض، (واستماز) فلان: انتقل من مكان إلى مكان، ورجل مَيْزٌ وَمَيِّزٌ: شديد العضل) (¬1). 2 - مزا: قال الجوهري في الصحاح: (المزية: الفضيلة، يقال: له عليَّ مزية، ولا يبنى منه فعل) (¬2). وفي اللسان: (والمزية في كل شيءٍ: التمام والكمال، وتمازى القوم: تفاضلوا، وأمزيته عليه: فضلته. . والمزيَّة: الفضيلة. . يقال: له عندي قفيَّة ومزيَّة إذا كانت له منزلة ليست لغيره. . ويقال: هذا سرب خيل غارة قد وقعت على مزاياها، أي: على مواقعها التي ينصبُّ عليها متقدم ومتأخر، ويقال: لفلان على فلان مازيَّةٌ أي فضل. . وقعد فلان عني مازيًا ومتمايزًا أي مخالفًا بعيدًا. والمزيَّة: الطعام يخص به الرجل) (¬3). 3 - مزز: وفي اللسان -أيضًا- (مزز: المِزَّ، بالكسر: القَدْر، والمزُّ: الفضل. والمعنيان مقتربان، وشيءٌ مزَّ ومزيز وأُمَزُّ، أي: فاضل. وقد مزَّ يمزُّ مزازةً ومززه: رأى له فضلًا أو قدرًا. ومزَّزه بذلك الأمر: فضَّله. . ويقال: هذا شيءٌ له مِزٌّ على هذا، أي: له فضلٌ. وهذا أمزُّ من هذا أي أفضل. وهذا له عليَّ مِزٌّ أي فضل. . والمَزُّ: اسم الشيء المزيز، والفعل مَزَّ يَمَزُّ، وهو الذي يقع موقعًا في بلاغته وكثرته وجودته) (¬4). ¬

_ (¬1) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: القاموس المحيط. . مادة (مازه)، ص: (676)، تحقيق مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: (1406 هـ - 1986 م). (¬2) الجوهري: الصحاح: (6/ 2492) مادة (مزا) (المرجع السابق نفسه)، وانظر: المعجم الوسيط ص: (893)، بتحقيق: إبراهيم أنيس وآخرين، عن المكتبة الإسلامية، إستانبول - تركيا، الطبعة الثانية، (بدون تاريخ). (¬3) ابن منظور لسان العرب: (3/ 479) مادة (مزا)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: الجوهري: الصحاح: (6/ 2492) مادة (مزا)، (المرجع السابق نفسه). (¬4) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، من منشورات مؤسسة الأعلمي =

4 - مزي: قال الزمخشري: مزي -له عليه مزية. . وقد تمزَّيت علينا يا فلان: تفضلت، أي: رأيت لك الفضل علينا، ومزَّيت فلانًا: قرّظته وفضلته) (¬1). 5 - مَيَزَ: في كتاب العين: (الميز التمييز بين الأشياء، تقول: مزت الشيءَ أميزه ميزًا، وقد انماز بعضه من بعض، وميَّزته. وامتاز القوم: تنحى بعضهم عن بعض. . . ويقال: امتاز القوم، واستمازوا) (¬2). وورد في اللسان نحوه، وأورد في قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] (أي تميزوا، وقيل: أي انفردوا عن المؤمنين، واستماز عن الشي: تباعد منه. . . ويقال: (امتاز القوم)؛ إذا تميُّز بعضهم عن بعض. وفي الحديث: "لا تهلك أمتي حتى يكون بينهم التمايل والتمايز" (¬3) أي: يتحزبون أحزابًا، ويتميز بعضهم من بعض ويقع التنازع، يقال: مُزْتُ الشيء من الشيء؛ إذا فرقت بينهما فانماز وامتاز، وميَّزته فتميَّز) (¬4). ¬

_ = للمطبوعات، بيروت، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي: (7/ 355)، مادة (مزَّ)، وابن منظور: لسان العرب: (3/ 476، 477) مادة (مزز)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: الزمخشري: أساس البلاغة: ص: (592، 593)، مادة (مزز)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: إبراهيم أنيس وأخرين: المعجم الوسيط، مادة (مزَّ)، ص: (866، 867)، (المرجع السابق نفسه). (¬1) الزمخشري: أساس البلاغة: ص: (593)، مادة (مزي)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: أبا البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي: الكليات، (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية): ص: (875)، عن مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: (1412 هـ/ 1992 م)؛ بيروت، عمل د. عدنان درويش، ومحمد المصري. (¬2) الخليل: كتاب العين، مادة (ميز): (7/ 394 و 395)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) لم أجده في الصحاح وغيرها من كتب السنة، ولم يورده أبو الحسن يحيى بن الحسين الشجري: أمالي الشجري وهي الشهيرة (بالأمالي الخميسية): (2/ 21)، عن عالم الكتب، بيروت، (بدون تاريخ). (¬4) ابن منظور: لسان العرب: (3/ 554)، مادة (ميز)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: =

من مجموع هذه النقول يتضح الآتي

من مجموع هذه النقول يتضح الآتي: 1 - يدل هذا اللفظ على التخصيص والتفضيل والتمام والكمال والقدر والمكانة والموقع البارز في البلاغة والكثرة والجودة والعز. 2 - يدل هذا اللفظ على العزل والفرز والتباعد والمخالفة. 3 - لا يختص استعمال هذا اللفظ على ما سبق، وإنَّما يستعمل أيضًا في معان أخرى منها (الطَّعْمُ بين الحموضة والحلاوة والتحقير، والتحزب المحظور) (¬1)، ويستخلص من (الطعم بين الحموضة والحلاوة) معنى الوسط بين شيئين مختلفين أو نقيضين). 4 - لم يرد لفظ (تميَّز) بين تصاريف المواد اللغوية السابقة ولكن القياس اللغوي يقتضيه، وورد في بعض المعاجم اللغوية الحديثة (¬2): (تَمَيَّزَ الشيءُ يتميَّز تميُّزًا: امتاز وبدا فضله عن غيره أو على مثله) (¬3). ¬

_ = الزمخشري: أساس البلاغة: ص: (615)، مادة (ميز)، (المرجع السابق نفسه)، والكفوي: الكليات: ص: (289)، (المرجع السابق نفسه). (¬1) الخليل: العين مادة (مزَّ): (7/ 355)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن فارس: مجمل اللغة مادة (مزَّ)، بتحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، الطبعة الثانية: (1406 هـ/ 1986 م)، عن مؤسسة الرسالة، بيروت، وانظر: ابن منظور: اللسان مادة (مزز): (3/ 477)، ومادة (مَيَزَ): (3/ 554)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: حسن سعيد الكرمي: معجم الهادي إلى لغة العرب: (1/ 88 و 89) مادة (أمم)، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1992 م)، عن دار لبنان. .، بيروت. (¬3) انظر: أحمد العايد وآخرين: المعجم العربي الأساسي ص: (1162)، عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: (1989 م). واستعمله ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم. . ص: (322)؛ قال: (لم يرض عمر -رضي اللَّه عنه- والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتميز. . .). وورد في تفسير ابن عباس لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]. قال: (لنُميِّز أهل اليقين من أهل الشك والريبة): صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن =

5 - بين المواد اللغوية (ماز، مزا، مزز، مزي، ميز) اشتراك في المعنى يصعب معه تحديد المادة الأصلية للفظ (تَمَيَّزَ)، وإن كان ألصق بمادة (مزا)، إلا أنه يشترك مع المواد الأخرى في بعض معانيها فيأخذ من (مَازَ، مَيَزَ) معنى العزل والفرز، ومن (مزز، مزي) معنى الفضل والقدر والجودة إضافة لما تحمله مادة (مزا) من معاني التمام والكمال. خلاصة القول في المدلول اللغوي للفظ (التَّميُّز) أنه يشتمل على عدة معانٍ لها من العمق والثراء ما يفي بحاجة البحث إليه، ويتضمن الدلالات المقصودة إليه، وبخاصة اشتماله على ثلاثة محاور شديدة الصلة بالأمة الإسلامية؛ سيتم تناولها في المطلب الآتي. * * * ¬

_ = الكريم، ص: (89)، تحقيق: راشد الرجَّال، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م)، عن المكتبة السلفيَّة - القاهرة.

صلة التميز بالأمة الإسلامية

صلة التميُّز بالأمة الإسلامية من خلال ما يدل عليه لفظ (التَّميُّز) في إطار هذه المحاور الثلاثة: 1 - التمام والكمال، والقدر وعلو المنزلة والمكانة والعزة والفضيلة، والخاصية، وقوة الذَّات. 2 - الفرز والانعزال والتنحي والتباعد والمخالفة والانفراد. 3 - التوسط والوسطية. تبرز صلة التميُّز بالأمة الإسلامية، ومن خلال هذه المعاني يلحظ رسوخ هذا المصطلح وتمام انطباقه على الأمة الإسلامية، ولبيان صلة التميُّز بالأمة الإسلامية يأتي تفصيل القول على النحو الآتي: 1 - كونُ الأُمَّة الإسلاميَّة بلغت من التمام والكمال والقوة الذروة عندما تمثلت الإسلام في حياتها وطبَّقته في جميع شؤونها، وقد شهد اللَّه لها بذلك، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. ومن هنا فإنَّ مفهوم التميُّز يتناول هذا الجانب من ذاتية الأمة الإسلامية، ويتطابق المعنى اللغوي لكلمة (مزا) التي تعني التمام والكمال والقوة، وكلمة (مزز) التي تعني ما يقع موقعًا في بلاغته وكثرته وجودته، يتطابق المعنى اللغوي للتميُّز مع حقيقة الأمة الإسلامية (في حين أنَّ ما لدى غيرها من الأمم إمَّا فاسد وإمَّا ناقص في عاقبته، على الرغم ممّا هم عليه من إتقان أمور دنياهم. . وليس لديهم ما يمكن أن يدل المسلمين على

ما ينفعهم، أو يهديهم لأسباب العزة والنصر والسعادة، فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا بالرجوع إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله والتمسُّك بالإسلام حقًّا) (¬1). والتميُّز يتصل بالأمة من حيث إنَّ لها من القدر والعزّة والكرامة والخاصية والفضيلة ما يعلي منزلتها ويرفع قدرها على من يراها من الأمم، وقد ورد في هذا أحاديث كثيرة عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- منها: أ- قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّكم وفّيتم سبعين أُمَّة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه" (¬2)، وفي رواية أخرى: "نُكمل يوم القيامة سبعين أمَّا نحن آخرها وأخيرها" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنَّهم أُوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثمَّ هذا يومهم الذي فرض اللَّه عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا اللَّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد" (¬4)، والمراد باليوم: ¬

_ (¬1) انظر: ناصر العقل: دراسة تحليلية قدَّم بها كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: لشيخ الإسلام ابن تيمية ص: (41)، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه: (2/ 1433)، كتاب الزهد، حديث رقم: (4288)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، والترمذي: الجامع الصحيح: (5/ 211)، الحديث رقم: (3001)، بتحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1987 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم: (4/ 94)، الحديث رقم: (6987/ 2585)، بتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1990 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت. (¬3) أخرجه ابن ماجه في سننه: (2/ 1433)، كتاب الزهد، حديث رقم: (4287)، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه البخاري: (1/ 211، 212)، كتاب الجمعة، باب: [1] فرض الجمعة، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

يوم الجمعة، وفي هذا (بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة) (¬1)، كما وردت في هذا الحديث روايات عديدة تدل جميعها على فضل الأمة الإسلامية، وهدايتها ليوم الجمعة وتشريفها به، وتكريم اللَّه لها في الدنيا والآخرة على سائر الأمم. ب- قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والمنعة، والنصر، والتمكين في الأرض. . ." (¬2) فهذه المعاني تتطابق مع معاني التميُّز تطابقًا تامًا. ج- قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كأنَّه بين صلاة العصر إلى كروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثمَّ عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا أعطيت هولاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا ¬

_ (¬1) انظر: ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: (2/ 356)، شرح الحديث رقم: (876)، تحقيق: عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي، نشر وتوزيع: رئاسة إداراث البحوث العلمية والإفتاء. . . الرياض، (بدون تاريخ). وانظر: مسلم: صحيح مسلم: (2/ 585 - 586)، كتاب الجمعة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (5/ 134)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي بيروت: (6/ 165، 161)، الحديث رقم: (20715) و (20716) و (20717) و (20718)، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1991 م). وانظر: البرهان فوري: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: الحديث رقم: (34465)، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت: (1413 هـ - 1993 م)، (ضبطه وفسر غريبه: بكري حيّاني، وصححه ووضع فهارسه ومفتاحه: صفوت السقا). وانظر: جامع الأصول لابن الأثير: (9/ 203)، (مرجع سابق).

ونحن كنَّا أكثر عملًا، قال اللَّه: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" (¬1). وقد ورد هذا الحديث بألفاظ متقاربة يستفاد منها جميعًا بتسلية الأمة الإسلامية، وما خصَّها اللَّه به من مضاعفة الأجر والمثوبة، وكونها تستجيب لله وتحقق شرطه عليها من دون اليهود والنصارى، وكذلك مكانتها وأنَّها خاتمة الأمم، وبهذا وما قبله استبان المحور الأول من محاور صلة التميُّز بالأمة الإسلامية. 2 - وممّا يتصل به التَّميُّز بالأمة الإسلامية معاني الفرز والانعزال والتنحي والتباعد والانفراد والمخالفة، ويتضح ذلك في الأوجه الآتية: أ- البعد عن خطوات الشيطان، قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]. وقال اللَّه تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] وقال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 139)، كتاب مواقيت الصلاة، باب: [17]، وأورده بروايات عديدة، منها: - ما ورد في كتاب فضائل القرآن - باب: [17]، (6/ 107). - ما ورد في كتاب الأنبياء - باب: [50]، (4/ 145). - ما ورد في كتاب الإجارة - باب [9]، (3/ 50)، والباب: [8]، ص: (49)، والباب: [11]، ص: (50)، (المرجع السابق نفسه). وانظر مسند الإمام أحمد: (6/ 235، 236)، الحديث رقم: (4508)، بتحقيق: أحمد شاكر، عن دار المعارف بمصر: (1370 هـ - 1950 م).

الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168 - 169]. وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268]. ب- الحذر من الأهواء، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 48 - 49]. ب- البعد عن الشبهات والشهوات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1) [آل عمران: 7]. وقال اللَّه تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. د- مخالفة الأمم الأخرى من اليهود والنصارى والفرس والروم والمشركين، قال ابن تيمية: (وهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنَ له) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير لهذه الآية: تفسير القرآن العظيم: 1/ 345 - 346، (مرجع سابق). (¬2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: ص: (12)، تحقيق: محمد حامد فقي، الطبعة الثانية: (1369 هـ - 1950 م)، مطبعة السنّة المحمدية، القاهرة.

وذكر أهمية المخالفة في تحقيق الإسلام وما تعنيه من تميُّز في ذاتية الأمة الإسلامية، بقوله: (وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام -الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا، أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية، من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين: أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميُّز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية) (¬1). وقد بسط القول فيما يتعلق بالأمر بمخالفة الأمم الأخرى والنهي عن التشبه بهم أو محاكاتهم أو تقليدهم، وساق الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، وكان ممّا ذكر في هذا السياق قوله: (واعلم أن في كتاب اللَّه من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثيرًا، مثل قوله، لمَّا ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وأمثال ذلك، ومنه ما يدل على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتميم للمقصود. ثمَّ متى كان المقصود: بيان أنَّ مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا، فجميع الآيات دالة على ذلك، وإن كان المقصود: أن مخالفتهم واجبة علينا، فهذا إنَّما يدل عليه بعض الآيات دون بعض، ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة) (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (12). (¬2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: ص: (17).

وفي موضع آخر قال: (المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد اللَّه المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة، التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنَّما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه، حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالين من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان) (¬1). ويرى ابن تيمية من خلال فقهه للنصوص الشرعية أن مخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم الأخرى من أكبر مقاصد البعثة؛ لأنَّ المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين اللَّه على الدين كله، وهذا يستلزم مخالفتهم (¬2). إذن هناك صلة وثيقة بين التميُّز والأمة الإسلامية حتى في معاني المخالفة والتباعد والانفراد والفرز والانعزال والتنحي وهو المحور الثاني المتقدم ذكره (¬3). ومع أنَّ في الأمة الإسلامية من ينحرف عن هذه المعاني للتميُّز بمضاهاة اليهود أو النصارى أو المشركين فإنَّ مسار الأمة الصحيح مُنَزَّه عن ذلك، حيث أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّ أمته لا تُجْمَع على ضلالة، روى عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: قال: "إنَّ اللَّه لا يجمع أمتي، أو قال أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- على ضلالة، ويد اللَّه مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار" (¬4)، ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (56). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (60). (¬3) انظر: محمد بن عبد الوهاب: مسائل الجاهلية التي خالف فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الجاهلية، وأورد فيه مئة مسألة خالف فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الكتاب والأميين، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (4/ 405) في كتاب الفتن - باب: ما جاء في لزوم الجماعة، الحديث: [2167]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1987 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت، وله شاهد لدى الحاكم في مستدركه: (1/ 115 - 116): من حديث ابن عباس.

وفي رواية أخرى: "فإنَّ اللَّه -عز وجل- لن يجمع أمتي إلَّا على هدى" (¬1). وأمر آخر يحسن الاحتراز منه وهو تميُّز الأمة الإسلامية في داخلها بمعنى أن يتحزبوا أحزابًا ويتميز بعضهم عن بعض ويقع بينهم التنازع، فهذا الأمر منهيٌّ عنه والنصوص الشرعية مستفيضة بالحذر منه ولا يشتمل عليه عنوان هذا البحث (¬2). 3 - معاني التوسط والوسطية (¬3): يتصل التميُّز بالأمة الإسلامية من خلال معاني التوسط بين شيئين أو نقيضين، والوسطية أعمق من مجرد البينية الظرفية حيث يراد بها اعتدال وتوازن بين أمرين أو شيئين متباينين كالتوسط بين الغلو والتطرف أو الإفراط والتفريط، وللعلماء في ذلك أقوال أورد منها: أ- قول الطبري: (إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا- ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب اللَّه، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم اللَّه بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى اللَّه أوسطها) (¬4). ب- قول ابن تيمية عن الفرقة الناجية من أمّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّهم (يؤمنون بما أخبر اللَّه به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (5/ 145)، (مرجع سابق)، وانظر: حاشية اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، تحقيق: ناصر العقل ص: (69)، (مرجع سابق). (¬2) للاطلاع على هذا الجانب. انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، الطبعة الثالثة، عن دار ابن الجوزي: (1413 هـ) - الدمام. (¬3) سيأتي مطلب خاص بالوسطية: ص: (733 - 757)، (البحث نفسه). (¬4) الطبري: جامع البيان: (2/ 7، 8)، طبعة دار الكتب العلمية - لبنان: (1412 هـ).

مصطلح التميز

ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأُمَّة، كما أن الأُمَّة هي الوسط في الأمم) (¬1). جـ- قول محمد رشيد رضا: (الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما) (¬2). د- قول عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (وبالجملة فإنَّ اللَّه العليم الحكيم أمر بالتوسط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط) (¬3)، واستشهد بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. وبهذا تتضح صلة التميُّز بالأمة الإسلامية من جهة معناه اللغوي (الطعام بين الحموضة والحلاوة) (¬4) وأنَّ هذا الطعم يعني التوسط بين أمرين أو شيئين متباينين، ومن هذا المعنى ينتزع معنى وسطية الأمّة الإسلاميَّة واشتمال مصطلح التميُّز عليه. مصطلح التميُّز: من خلال ما تقدم يُمكن بيان مفهوم التميُّز بصفته مصطلحًا في البحث بالآتي: ¬

_ (¬1) ابن تيمية: شرح العقيدة الواسطية ص: (124)، شرح صالح بن فوزان، الطبعة الخامسة: (1411 هـ)، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. .، الرياض. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/ 141)، (مرجع سابق). (¬2) محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار: (2/ 4)، الطبعة الثانية عن دار المعرفة، بيروت، (بدون تاريخ). (¬3) عبد الرحمن بن ناصر السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن: ص: (90)، وانظر: الصفحات قبلها: (87، 88، 89)، تحت عنوان القاعدة الرابعة والعشرون، طبعة: (1402 هـ - 1982 م)، مكتبة المعارف، الرياض. (¬4) الخليل بن أحمد: كتاب العين مادة (مزَّ)، (مرجع سابق).

أ- التميُّز: هو مجموع من المضامين والمظاهر التي تحدد ملامح شخصية ما وما تتصف به تلك الشخصية من صفات، سواء كان ذلك من سياق المدح أو الذم. ب- تميُّز الأمّة: مجموع المضامين والمظاهر التي تحدد ملامح شخصية الأمّة وصفاتها، وتكون ذاتيتها في الحياة والكون والتاريخ، وما ينبثق عن ذلك من علائق وصلات بشرية. ب- أمَّا تميُّز الأمّة الإسلاميَّة: فيراد به مجموع المضامين والمظاهر التي تحدد ملامح شخصية الأمة الإسلاميَّة وصفاتها، وتكون ذاتيتها في الحياة والكون والتاريخ وما ينبثق عن ذلك من علائق وصلات بشرية تتجلى فيها عقيدتها التي تؤمن بها، وشريعتها التي تنتهجها، ورسالتها التي تحملها.

مدلول (الأمة) في معاجم اللغة العربية

مدلول (الأمَّة) في معاجم اللغة العربية جاء لفظ (أُمَّة) في كلام العرب، وورد ذكره في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بمعانٍ متنوعة، وفي وجوه عديدة، وقد توافرت معاجم اللغة العربية وكتب التفسير وعلوم القرآن بعامة وكتب الأشباه والنظائر بخاصة على تتبع تلك المعاني والأوجه، وناقشت المؤلفات الفكرية في العصر الحديث أوجه استعمالاته، وقارنت مدلوله اللغوي في اللغة العربية وغيرها من اللغات بغية الخروج بمصطلح محدد لكلمة (أُمَّة) ولاسيما أنها أصبحت في الحضارة الغربية ذات مفهوم اجتماعي وسياسي معين (¬1). وقد أفرد عدد من الباحثين المسلمين كتبًا لمفهوم الأمة في اللغة العربية والقرآن الكريم والإسلام بعامة لإبراز مفهوم الأُمَّة (¬2) في الإسلام والتأكيد على أصالته وعلى الرغم من ذلك فإنَّ طبيعة هذا البحث تستلزم ¬

_ (¬1) انظر: عمر إبراهيم: مفهوم الأمة بين لغة وأخرى، مقال نشر بمجلة الفكر العربي المعاصر العدد: [17]، كانون أول 1981/ كانون الثاني 1982 م في الصفحات: (64 - 77). انظر ناصيف نصَّار: مفهوم الأُمَّة بين الدين والتاريخ، الطبعة: (4) 1992 م، عن دار أمواج، بيروت. وانظر: محمود شاكر: الأُمَّة، مقال نشر في مجلة الفيصل عدد: [68] ص: (28)، (مرجع سابق)، وانظر: عباس محمود العقاد: ما يقال عن الإسلام، ص: (147 - 150)، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، (بدون تاريخ). وانظر: علي عبد الحليم محمود: مع العقيدة والحركة والمنهج في خير أُمَّة أخرجت للناس، ص: (17 - 19)، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1992 م)، عن دار الوفاء -المنصورة- مصر. (¬2) انظر في مفهوم الأُمَّة في الإسلام الآتي: - محمد المبارك: الأمّة والعوامل المكونة لها، الطبعة الثالثة: (1395 هـ)، عن دار الفكر، بيروت. =

الوقوف عند لفظ (أُمَّة) في معاجم اللغة العربية، وفي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. أمَّا في معاجم اللغة العربية فقد وردت كلمة (أُمَّة) بمعانٍ عديدة ومتنوعة أحصت معاجم اللغة العربية الكثير منها، ورصدت أوجه استعمالاتها، وبينت شيئًا من أحوالها الصرفية على النحو الآتي: 1 - ورد في كتاب العين قوله: (اعلم أنَّ كلَّ شيءٍ يضم إليه سائر ما يليه فإنَّ العرب تسمي ذلك الشيء أُمًّا. . فمن ذلك أم الرأس وهو الدماغ) (¬1). 2 - ورد في كتاب العين -أيضًا-: (والأُمَّة: كُلُّ قوم في دينهم من أُمَّتهم، وكذلك تفسير هذه الآية: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬2) [الزخرف: 23]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً ¬

_ = - أحمد حسن فرحات: الأمة في دلالتها العربية والقرآنية، الطبعة الأولى: (1403 هـ - 1983 م)، عن دار عمار، الأردن. - ماجد عَرْسان الكيلاني: الأمّة المسلمة، مفهومها، إخراجها، مقوماتها، طبعة: (1412 هـ/ 1992 م)، عمان. - محمد المبارك: المجتمع الإسلامي المعاصر، ص: (32 - 36)، (مرجع سابق). - عباس محمود العقاد: ما يقال عن الإسلام: ص: (147 - 150)، (المرجع السابق نفسه). - فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع المسلم: ص: (129 - 133)، الطبعة الثانية: (1406 هـ - 1986 م)، عن المكتب الإسلامي - بيروت. - محمد قطب: واقعنا المعاصر: ص: (50 - 112)، (مرجع سابق). (¬1) الخليل بن أحمد: كتاب العين. . مادة (أمم): (8/ 426)، (مرجع سابق). وانظر: ابن فارس: مجمل اللغة: ص: (81)، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، وابن فارس: معجم مقاييس اللغة: (1/ 23)، تحقيق: عبد السلام هارون، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م)، عن دار الجبل، بيروت. (¬2) وفي الآية قبلها: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}.

وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] أي: دين واحد، وكل من كان على دين واحد مخالفًا لسائر الأديان، فهو أمَّة على حدة، وكل قوم نسبوا إلى نبي وأضيفوا إليه فهم أُمَّته. . وقد يجيء في بعض الكلام أنَّ أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هم المسلمون خاصة، وجاء في بعض الحديث: أنَّ أُمَّته من أرسل إليه ممن آمن به أو كفر به، فهم أُمَّته في الاسم لا في الملة) (¬1)، (بمعنى أنهم مقصودون بالدعوة لا المتبعون لها فهؤلاء المتبعون هم الأُمَّة الإسلاميَّة بمعنى أنَّهم مقصودون بالاتباع) (¬2). 3 - وورد في كتاب العين: (كل جيل من الناس أُمَّة على حدة) (¬3). 4 - وورد في كتاب العين: (وكل جنس من السباع أُمَّة، كما جاء في الحديث: "لولا أنَّ الكلاب أُمَّة من الأُمم لأمرتُ بقتلها كُلِّها فاقتلوا منها كل أسود بهيم") (¬4). 5 - وفي اللسان أوجه عديدة لمعنى أُمَّة، وكذلك في الصحاح، منها إضافة لما سبق: ¬

_ (¬1) الخليل بن أحمد: كتاب العين: (8/ 428)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: أبا البقاء الكفوي: الكليات: ص: (176، 181)، (مرجع سابق)، وانظر: الأزهري: تهذيب اللغة: (15/ 635، 637)، (مرجع سابق)، وانظر: أحمد فرحات: الأمة: ص: (27)، (مرجع سابق). (¬3) الخليل بن أحمد: كتاب العين: (8/ 428)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن منظور: لسان العرب: (1/ 152)، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه الترمذي: صحيح الترمذي: (4/ 66) كتاب الصيد - باب: (16)، الحديث رقم: (1486)، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق)، وأخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (3/ 107)، كتاب الصيد، الحديث رقم: (2845)، طبعة دار الحديث، القاهرة، (بدون تاريخ)، وأخرجه النسائي: سنن النسائي: (7/ 210)، كتاب الصيد، الحديث رقم: [4291]، تحقيق: مكتب تحقيق التراث الإسلامي، الطبعة الثالثة: (1412 هـ - 1992 م)، عن دار المعرفة - لبنان.

- أُمَّة اللَّه: خلقه. - الأُمَّة: الجنس من كل حي. - الأُمَّة: الحين. - الأُمَّة: الملك والنعمة (¬1). - الأُمَّة: الرجل الجامع للخير. - الأُمَّة: العالم. - الأُمَّة: القوم. - الأُمَّة: الجماعة. - الأُمَّة: الطَّاعة. - الأُمَّة: القامة والوجه. - أُمَّة الطريق وأمه: معظمه. - الأُمَّة: القرن من الناس وجمعها أُمم (¬2). 6 - ورد في تهذيب اللغة أنَّ أصل مادة (أُمَّة) من القصد قال: (وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أَمَمْتُ إليه إذا قصدته، فمعنى الأُمَّة في الدين، أن مقصدهم مقصدٌ واحد، ومعنى الإِمَّة في النعمة: إنَّما هو الشيء الذي يقصده الخلق ويطلبونه. ومعنى الأُمَّة في الرجل المنفرد الذي لا نظير له: أنَّ قصده منفرد من قصد سائر الناس، ومعنى الأُمَّة: القامة، سائر مقصد الجسد، فليس يخرج شيءٌ من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت) (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر: الخليل بن أحمد: كتاب العين: (8/ 428)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (أمم): (1/ 101 - 102)، (مرجع سابق)، وانظر: الجوهري: الصحاح، مادة (أمم): (5/ 1863 - 1867)، (مرجع سابق)، وانظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط. . مادة (أم)، ص: (1391)، (مرجع سابق). (¬3) الأزهري: تهذيب اللغة مادة (أَمَّ): (15/ 635)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن منظور: =

وفي معجم مقاييس اللغة قال: (وأمَّا الهمزة والميم فأصل واحد، يتفرع منه أربعة أبواب، وهي: الأصل والمرجع والجماعة والدين، وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة وهي: القامة والحين والقصد) (¬1). وقال في معنى القصد: (وأممت: أُمَّة) (¬2). 7 - وعن وزن (أُمَّة) الصرفي، جاء في الكليات: (الأُمَّة بالضم، في الأصل: المقصود كالعُمْدَة والعُدَّة في كونهما معمودًا ومعدًّا، وتسمَّى بها الجماعة من حيث تؤمها الفرق) (¬3). وجاء في معجم مقاييس اللغة: (والشجَّة الآمَّة وهي المأمُومة) (¬4). وعلى هذا فإنَّ الأُمَّة تكون بمعنى المفعول، وبه قال عدد من المفسرين والباحثين (¬5). ويرى عددٌ آخر بأنَّها تكون بمعنى الفاعل: أي الجماعة التي تقصد الدين وتلتقي عليه (¬6)، ووزن الفاعل منها (آم). ¬

_ = لسان العرب، مادة (أمم): (1/ 102)، (مرجع سابق). (¬1) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (أمم): (1/ 21 - 31)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع نفسه: (1/ 7) وفي: (6/ 60). (¬3) أبو البقاء الكفوي: الكليات. . فصل الألف والميم ص: (181)، (مرجع سابق). (¬4) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة: (1/ 23)، (مرجع سابق). (¬5) انظر: البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل؛ قال في تفسيره لقول اللَّه -عز وجل-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، قال البيضاوي: (وقيل: هي فُعْلَة بمعنى مفعول كالرحلة والنُّخبة من أَمَّه إذا قصده أو اقتدى به): (1/ 561)، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1988 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، وانظر: أحمد حسن فرحات: الأُمَّة في دلالتها العربية والقرآنية ص: (13)، (مرجع سابق). (¬6) أحمد حسن فرحات. .: الأُمَّة ص: (16)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد بن صالح العلي: المفهوم الإسلامي للأمة في مواجهة القومية (رسالة ماجستير من قسم الثقافة الإسلامية في كلية الشريعة بالرياض: (1406 هـ - 1407 هـ): ص: (1).

8 - ووردت (إمَّة) لغة في أُمَّة ومعناها الطريقة والدين (¬1)، والإِمَّة بكسر الهمزة: (إِيتَّم بفلان إِمَّة. . والإيتمام مصدر الإمَّة إيتم بالإمام إمَّة. . . وكل من اقتدي به وقدَّم في الأمور فهو إمام، والنبي -عليه السلام- إمام الأمَّة، والخليفة إمام الرعية. . والقرآن إمام المسلمين. . والمصحف الذي يوضع في المسجد يسمَّى الإمام. . والإمام إمام الغلام، وهو ما يتعلم كلَّ يوم. . والإمام الطريق) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب، مادة (أَمَمَ): (1/ 101)، (مرجع سابق). (¬2) الخليل بن أحمد: كتاب العين، مادة (إمَّة): (8/ 428، 429)، (مرجع سابق).

مدلول الأمة في القرآن الكريم

مدلول الأُمَّة في القرآن الكريم ورد لفظ (أُمَّة) في القرآن الكريم في وجوهٍ كثيرة، وأعطاها القرآن الكريم مضمونًا متميَّزًا كما هو الشأن في ألفاظ كثيرة سواها. قال ابن فارس في كتابه الصاحبي في فقه اللغة: (فكان ممَّا جاء في الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأن العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان، والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافًا بها سمِّي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا، وكذلك الإسلام والمسلم، إنَّما عرفت منه الإسلام الشيء، ثمَّ جاء في الشرع من أوصافه ما جاء) (¬1). ويستمر ابن فارس في قوله فيذكر الكفر والنفاق والفسق. . . ويذكر الصلاة والركوع والسجود والصيام والحج والزكاة، وأنَّها كانت لمعان لغوية محدودة ثم زادت الشريعة ما زادت، وأنَّ هناك كثيرًا من الألفاظ، كالعمرة والجهاد، وسائر أبواب الفقه سارت على هذا المنوال؛ مما حدا بالعلماء إلى التقسيم اللغوي والشرعي (¬2). ومن هذا فإنَّ لفظ (أُمَّة) قد ورد في القرآن الكريم في أوجه عديدة، ¬

_ (¬1) ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها: ص: (83، 84)، تحقيق: أحمد صقر، طبع مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، (بدون تاريخ). (¬2) انظر: المرجع نفسه، ص: (84، 86)، ولمزيد من الاطلاع على أقوال العلماء في مسألة اللغوي والشرعي واختلافهم في ذلك انظر: - أبا بكر الباقلاني في كتابه (التقريب) وقد نفى الأسماء الشرعية، وذكر بأنَّها مستعملة في عين معانيها اللغوية، وقال بأنَّ الزيادات المعتبرة في الشرع إنَّما هي شروط الإجزاء شرعًا. - ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 19/ 235، 236 فصَّل في المسألة اللغوي والشرعي والاصطلاحي، (مرجع سابق).

بعضها بمعناه اللغوي وآخر بمدلوله الشرعي أو الاصطلاحي يحدد معناه السياق الذي جاءت فيه تلك الأوجه، وتناولته كتب التفسير (¬1)، وعلوم القرآن وبخاصة كتب الأشباه والنظائر (¬2). ولعل الراغب الأصفهاني في كتابه: مفردات ألفاظ القرآن ألمَّ بجلِّ تلك الأوجه في قوله: (والأمَّة: كل جماعة يجمعهم أمر واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا، وجمعها أمم، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] أي: كل نوع منها على طريقة قد سخرها اللَّه عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرافة، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع. وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] أي: صنفًا واحدًا ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 36 و 2/ 438، (مرجع سابق). (¬2) انظر من هذه الكتب: - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: جمال الدين بن الجوزي. ص: (142 - 144)، تحقيق: محمد عبد الكريم الراضي، الطبعة الأولى: (1404 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. - قاموس القرآن الكريم، أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: للحسيني الدامغاني، ص: (42)، تحقيق: عبد العزيز سيد الأهل، الطبعة الخامسة: (1985 م)، دار العلم للملايين، بيروت. - تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب: لأثير الدين بن حيان الأندلسي: ص: (51)، تحقيق: سمير المجذوب، الطبعة الأولى: (1403 هـ/ 1983 م)، المكتب الإسلامي، بيروت. - مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني: ص: (86)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1992 م)، دار القلم، دمشق.

وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر (¬1)، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] أي: في الإيمان، وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] أي: جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم، وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي: على دين مجتمع. . .، وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] حين، وقرئ: بعد أمة، أي: بعد نسيان، حقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين. وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] أي: قائمًا مقام جماعة في عبادة اللَّه، نحو قولهم: فلان قبيلة. وروي: "أنَّه يحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده" (¬2). وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]، أي: جماعة) (¬3). يتضح من قول الراغب أنَّ الأمَّة في القرآن الكريم جاءت على تسعة أوجه، هي (¬4): ¬

_ (¬1) انظر: تفسير هذه الآية لدى ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 250)، (مرجع سابق)، وفي تفسيرها عدة أقوال منها ما ذكره الراغب أعلاه، ومنها ما روي عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث اللَّه النبيين مبشرين ومنذرين. (¬2) أخرجه الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: (9/ 417)، الطبعة الثالثة: (1402 هـ - 1982 م)، عن دار الكتاب العربي، بيروت، وأصل حديث زيد بن عمرو بن نفيل أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1391)، الحديث رقم: [3614/ 3615]، تحقيق: مصطفى ديب البغا. (¬3) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: ص: (86، 87)، مادة (أمَّ)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: جمال الدين بن الجوزي: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: ص: =

1 - كل صنف من الخلق تجمعه طبيعة خاصة أو يجمعه أمر واحد تسخيرًا أو اختيارًا، فهو أمة من الأمم. 2 - كل الناس كانوا أمة واحدة في الكفر والضلال. 3 - كل الناس كانوا أمة واحدة في الإيمان، أو بالإمكان أن يكونوا أمة واحدة في الإيمان لو شاء اللَّه. 4 - الجماعة من الناس تختار الإيمان والعمل الصالح، وتكون أسوة لغيرهم تسمَّى أمة (¬1). 5 - المجتمع الذي يجمعه دين واحد يسمَّى أمة. 6 - تطلق الأمة على الحين (¬2). 7 - تطلق الأمة على النسيان. 8 - الرجل القائم مقام الجماعة يسمَّى أمة. ¬

_ = (142، 143، 144)، (مرجع سابق). وانظر: أثير الدين بن حيان الأندلسي: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب: ص: (51، 52)، (مرجع سابق). وانظر: مجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: ص: 79، 80)، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت (بدون تاريخ). وانظر: الحسين بن علي الدامغاني: قاموس القرآن الكريم أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: ص: (42، 43، 44)، (مرجع سابق). (¬1) انظر: ابن الأثير: جامع الأصول في أحاديث الرسول: (9/ 205)، (مرجع سابق). (¬2) يرى بعض العلماء بأنَّ إطلاق مسمَّى (أمَّة) على الزمن باعتباره ظرف الأمة فالأمة من الناس تكون في الحين وتنقرض فيه، فأقيم الحين مقامها. قال بهذا الطبري وابن قتيبة. انظر: أحمد حسن فرحات: الأمة. . ص: (19، 20)، (مرجع سابق)، وعلى نحو من هذا قال الراغب: (وحقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين)، مفردات ألفاظ القرآن، ص: (86)، (مرجع سابق).

جاءت الأمة في القرآن الكريم

9 - وتطلق الأمة على الجماعة المستقيمة من الناس. وتتفاوت كتب الوجوه والنظائر وكتب التفسير وعلوم القرآن في تصنيف الأوجه التي ورد بها لفظ (أمَّة) في القرآن الكريم، وإذا كان الراغب قد صنفها في تسعة أوجه فإن ابن الجوزي صنفها في سبعة أوجه، ونقلها عن المفسرين على خمسة أوجه (¬1)، ووافقه في تصنيفها على سبعة أوجه ابن حيان الأندلسي (¬2)، وصنفها الدامغاني على تسعة أوجه (¬3)، وصنفها الفيروزآبادي على عشرة أوجه (¬4). وفي دراسة موضوعية لمدلول الأمة في اللغة العربية، وفي القرآن الكريم توصَّل أحد الباحثين إلى التقسيم الآتي: جاءت الأمة في القرآن الكريم: أ- بمعنى الجماعة. ب- بمعنى الملَّة والدين. جـ- بمعنى الرجل المنفرد الذي لا نظير له. د- بمعنى الحين (¬5). وتحت هذه التقسيمات الرئيسة صنَّف الباحث الآيات المندرجة تحتها، ومعانيها المتنوعة (¬6). ولعل ما توصَّل إليه الباحث في مدلول الأمة اللغوي أو مدلولها ¬

_ (¬1) انظر: نزهة الأعين النواظر. .: ص: (142 - 144)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: تحفة الأريب. . ص: (51، 52)، (مرجع سابق). (¬3) قاموس القرآن. . ص: (79، 80)، (مرجع سابق). (¬4) بصائر ذوي التمييز. . ص: (79، 80)، (مرجع سابق). (¬5) انظر: أحمد حسن فرحات: الأمة في دلالتها العربية والقرآنية: ص: (23 - 38)، (مرجع سابق). (¬6) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (23 - 29).

القرآني ممَّا يعول عليه، أو يرجع إليه، ولاسيما أنَّه جاء ردًّا على مزاعم المستشرقين عندما شككوا في أصل كلمة (أُمَّة) وذكروا بأنَّها كلمة دخيلة مأخوذة من العبرية (أُمَّا) أو من الآرامية (أُمّيثا) (¬1)، ففي البحث رد عليهم وتأصيل للكلمة في منهج علمي (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: دائرة المعارف الإسلامية لمجموعة من المستشرقين: (4/ 411)، الطبعة الثانية: (1969 م)، ترجمة: إبراهيم زكي خورشيد وغيره، عن دار الشعب، مصر. (¬2) انظر: أحمد حسن فرحات: المرجع السابق نفسه: ص: (23 - 38). وانظر: محمد عودة سلامة أبو جري: مفهوم الأمة بين الجاهلية والإسلام، مجلة التربية، الصادرة عن اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم: ص: (226 - 253)، العدد: (109) يونيو 1994 م (الجزء الثاني من المقال) و (الجزء الأول منه) نشر في العدد: (108) ولم أطَّلع عليه لعدم توفره.

خلاصات لمعاني (الأمة) في اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واستنتاجات

خلاصات لمعاني (الأُمَّة) في اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واستنتاجات لكي يصل الباحث إلى مفهوم معين للأمة، وللربط بين ذلك المفهوم وما سبق بحثه، ينبغي الإلمام بالنقاط الآتية: أولًا: خلاصة معاني (أمة) في معاجم اللغة العربية. ثانيًا: خلاصة الأوجه التي ورد لفظ (أمة) بها في القرآن الكريم. ثالثًا: أبرز الاستنتاجات حول معنى (أمة) في معاجم اللغة العربية. رابعًا: الجوانب التي استعمل فيها مدلول (أمة) في القرآن الكريم. خامسًا: دلالة (الأمة) في الحديث النبوي الشريف. أولًا: ورد لفظ (أمَّة) في معاجم اللغة العربية بمعان عدَّة بلغت حوالي ثمانية عشر معنى، وهي ما يلف عليه، ويضم إليه غيره، ولواء الشيء ورئيسه، والأصل في كل شيء، والدين، والملة، والرجل المنفرد بدين، واتباع الرسل ومن بحث إليهم، والجيل من الناس، والجنس من الخلق، وخلق اللَّه، والحين، والملك، والنعمة، والعالم، والقوم، والجماعة من الناس، وجماعة العلماء، والجماعة المستقيمة، والطاعة، والوجه، والقامة، ومعظم الشيء وسائره، والقرن من الناس. ثانيًا: ورد لفظ (أمَّة) في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرة (¬1)، استخدم من خلالها فيما لا يقل عن عشرة أوجه من المعاني اللغوية لهذا اللفظ هي: (الجنس من الخلق، السنون الخالية، الرجل الجامع للخير، ¬

_ (¬1) انظر: محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ص: (80)، طبعة المكتبة الإسلامية - تركيا 1982 م.

الملة والدين، الجيل من الناس، القوم، الجماعة من الناس، الزمان الطويل، المسلمون، الكفار) (¬1). وعلى الرغم من عدم ورود بعض المعاني اللغوية لأمَّة في القرآن الكريم، مثل معاني (الملك، والنعمة، والوجه، والقامة) إلا أنَّ هذه المعاني جاءت ضمنًا، كما أعطى القرآن الكريم للفظ (أمَّة) مضمونًا عميقًا تندرج تحته المفاهيم الحديثة لمصطلح الأُمَّة (¬2). ثالثًا: من أبرز الاستنتاجات في معنى (أمَّة) في معاجم اللغة العربية ما يأتي: 1 - جاء لفظ (أمَّة) في معظم معاجم اللغة العربية في معانٍ متنوعة وكثيرة، يصعب معها ضبط مصطلح محدد لمدلول (الأمَّة)، لذلك قال بعض الباحثين: (إنَّ اللغويين لا يقفون عند روابط بعينها عند تعريف الأمَّة، وإنَّ أية رابطة توجد في جماعة تجعل منها أمة) (¬3)، وقال آخر عن معاجم اللغة العربية: (إنَّما وضعت لضبط الألفاظ، لا لتحديد المعاني. . وإنَّها لا تبالي في كثير من الأحيان إن تعرف الشيء بنفسه، أو بأنَّه غير ضده) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الحاشية السابقة: ص: (80)، البحث نفسه. (¬2) انظر: دائرة المعارف الإسلامية: لمجموعة من المستشرقين: (4/ 411)، (مرجع سابق). (¬3) محمد أحمد خلف اللَّه: التكوين التاريخي لمفاهيم الأمة، (القومية، الوطنية، الدولة والعلاقة فيما بينهما): ص: (49) من القومية العربية للإسلام، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية: (1982 م) - بيروت. (¬4) انظر: محمد عبد اللَّه دراز: الدين (بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان): ص: (29)، الطبعة الثانية: (1390 هـ - 1970 م)، عن دار القلم - الكويت، وانظر: أحمد عبد الرحيم السائح: بحوث في مقارنة الأديان ص: (18)، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م) عن دار الثقافة، الدوحة.

2 - على الرغم من هذه الظاهرة في معاجم اللغة العربية، إلا أن لفظ (أُمَّة) يعود إلى الأصول اللغوية التي ذكرها ابن فارس: (الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين، والقامة، والحين، والقصد) (¬1)، ولا تخلو جميعًا من رابط (¬2) (سوف يتضح فيما بعد). وهذا يعني أنَّ لفظ (أُمَّة) ليس محصورًا في أصل واحد، وهو القصد كما أورده الأزهري في تهذيب اللغة عن أبي عمرو الشيباني قال: (وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممت إليه؛ إذا قصدته. .) (¬3) إلى أن قال: (فليس يخرج شيءٌ من هذا الباب عن معنى أممت، أي: قصدت) (¬4) إنَّما القصد أصل واحد أو باب واحد من سبعة أصول أو أبواب لغوية كما ذكر ابن فارس. 3 - تأتي (أُمَّة) بمعنى الفاعل، وتأتي بمعنى المفعول، وتأتي بمعنى الظرف؛ فإذا جاءت بمعنى الفاعل كان المقصود بها (الجماعة والإمام والأُسوة. .) وبعبارة أوضح يتجه المراد بها في هذه الحالة إلى من يقوم بالفعل وهو الفاعل، وإذا جاءت بمعنى المفعول كان المقصود بها (الدين أو الملة أو الطريق أو السنة أو الجماعة إذا كانت مأمومة. .، ونحو ذلك ممَّا يُؤَمُّ ويُقْصَد، ومعنى ذلك أنّ المراد بها يتجه إلى المفعول، وهو ما تقوم به الجماعة أو الإمام أو الأسوة من دين أو سنة أو طريقة تُفْعَل أو تُؤَمُّ أو تُقْصَد، سواء كان المفعول حقًّا أو باطلًا. ¬

_ (¬1) انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة: (1/ 21)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: أحمد حسن فرحات: الأمة. . ص: (20)، (مرجع سابق). (¬3) الأزهري: تهذيب اللغة: (15/ 635)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن منظور: لسان العرب: (1/ 102)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: (15/ 636). وانظر: محمد بن صالح العلي: المفهوم الإسلامي للأمة: ص: (6)، (مرجع سابق).

أمَّا إذا أطلقت الأمة على الزمان أو المكان، فإنَّ المقصود بها ظرف الأمة. رابعًا: الجوانب التي استعمل فيها مدلول (أُمَّة) في القرآن الكريم، ورد لفظ (أُمَّة) في القرآن الكريم ليدل على الجوانب الآتية: 1 - الجانب التكويني باعتبار تعدد أصناف الخلق، من حيث الأصل والنوع والمنشأ والمرجع، ومنه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬1) [الأنعام: 38]. 2 - الجانب الاجتماعي، ومنه قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22]، والآية بعدها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، قال الراغب: (أي على دين مجتمع) (¬2)، وهذا يعطي لفظ (أُمَّة) المحتوى الاجتماعي. 3 - الجانب الديني، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء: 92]، قال الطبري في تفسيرها: (يقول تعالى ذكره: إنَّ هذه ملَّتكم مِلَّة واحدة، وأنا ربُّكم أيُّها الناس فاعبدوني دون الآلهة والأوثان، وسائر ما تعبدون من دوني) (¬3). وقال البغوي في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}: (أي: ملتكم ودينكم) {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: دينًا واحدًا وهو الإسلام، فأبطل ما سوى ¬

_ (¬1) وانظر: ما يتعلق بالكوني والشرعي لدى ابن تيمية: الجواب الصحيح: (1/ 154، 155)، (مرجع سابق)، وانظر: فتاواه: (8/ 58 - 62)، (مرجع سابق). (¬2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: ص: (86)، (مرجع سابق). (¬3) جامع البيان في تأويل القرآن: (9/ 81)، الطبعة الأولى: (1412 هـ)، عن دار الكتب العلمية - بيروت. وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 194)، (مرجع سابق).

الإسلام من الأديان) (¬1)، ففي الآية الكريمة استعمل لفظ (أُمَّة) بمعنى الملة والدين؛ وهذا المعنى يعطيه المضمون الديني. 4 - الجانب التاريخي، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] قال ابن كثير: (ثمَّ أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام) (¬2)، فدلَّ ذلك على أن الناس حينما طبقوا الدين الصحيح -وهو الإسلام- واجتمعوا على العقيدة الصحيحة قبل اختلافهم سموا أمة، وهذا من المنظور التاريخي باعتبار أن ذلك حدث في التاريخ البشري (¬3). 5 - الجانب السياسي، ومنه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]، قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: (لابدَّ من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والذي يقرر أنَّه لا بُدَّ من ¬

_ (¬1) أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي: معالم التنزيل: (5/ 353)، تحقيق: محمد عبد اللَّه النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، طبعة: (1409 هـ)، عن دار طيبة - الرياض. (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (2/ 411)، (مرجع سابق)، وانظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (3/ 22)، في تفسير الآية [213]، من سورة البقرة، طبعة دار الكتب العلمية: (1413 هـ - 1993 م)، بيروت. (¬3) انظر: أقوال المفسرين في ذلك، ومنها: - ابن جرير الطبري: جامع البيان: (11/ 69)، الطبعة الثالثة: (1398 هـ - 1978 م)، دار المعرفة، بيروت. - ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 250)، (مرجع سابق). - البغوي: معالم التنزيل: (1/ 243، 244)، (مرجع سابق). - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (3/ 22)، (مرجع سابق).

سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته. . هذا هو تصوُّر الإسلام للمسألة. . إنَّه لابدَّ من سلطة تأمر وتنهى. . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر. . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل اللَّه) (¬1)، ولا شكَّ أنَّ الأمَّة بهذا التصوُّر استعملت بمعنى هيئة أو جهاز سياسي يقوم بشؤون الحسبة والسلطة. وقد درج بعض المفسرين على القول بأنَّ معنى الأمَّة في هذه الآية: (يعني المجاهدين والعلماء) (¬2). وقال القرطبي: (ثمَّ إنَّ الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنَّما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فَيُنَصِّبَ في كل بلدة رجلًا صالحًا قويًّا علمًا أمينًا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة) (¬3)، وقبل هذا قال عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه (فائدة الرسالة وخلافة النبوة) (¬4). ولعل المصطلح السياسي لهذا الجانب من معاني (الأمَّة) في الإسلام هو مصطلح (الجماعة) لأنها تشتمل على الجهاز أو الهيئة التي تتجسد فيها الأمة في نظامها السياسي، وتمثل حضور الأمة والقيام على أمرها وبيدها السلطة. .؛ فالجماعة في معناها السياسي: الولاية والإمارة وأهل الحل والعقد ورابطة العلماء. ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن. .: (1/ 444)، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الاعتصام: (2/ 452)، ضبط وتصحيح: أحمد عبد الشافي، عن دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية: (1411 هـ - 1991 م). (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 390)، (مرجع سابق). (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (2/ 31)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (31).

أمَّا صلتها بالأمة بشكل شامل فهو -واللَّه أعلم- جماعة المسلمين التي تتمثل فيها الأمة الإسلامية (¬1) في زمان معين أو مكان معين، فتكون بذلك حلقة في سلسلة الأمة الإسلامية، وهذا من المعاني التي أوردها الشاطبي بوصفه المعنى الخامس من معاني الأمة فقال: (الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم) (¬2). وقال: (فالجماعة التي أمر بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلزومها وسمي المنفرد عنها مفارقًا لها، نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه، وأمر صهيبًا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف، فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته، وقلة العدد المنفرد عنهم) (¬3). وقد نقل الشاطبي أقوال العلماء في معنى الجماعة، وأورد استدلال كل فريق، ثمَّ قال: (حاصله، أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث. . .) (¬4). ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنَّه قال: (لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة) (¬5). ¬

_ (¬1) في مفهوم الجماعة في الإسلام رسالة علمية مقدمة من ناصر بن عبد اللَّه التركي لنيل الدكتوراه في قسم الثقافة الإسلامية - كلية الشريعة، الرياض، نوقشت عام: (1413 هـ). (¬2) الاعتصام: (2/ 451)، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: (2/ 451). (¬4) المرجع السابق نفسه: (2/ 452). وانظر: ما أورده عن بقية معاني الجماعة في الصفحات: (447 - 453). (¬5) انظر: بكر أبو زيد: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، ص: =

(والإسلام هو الأصل في تكوين الجسم النامي للأمة، والإمامة وسيلة لحراسة ذلك الجسم في أمر الدين والدنيا. . وهذا هو المفهوم الشرعي لجماعة المسلمين، متآخون على منهاج النبوة: الكتاب والسنة، ينتظمهم إمام ذو شوكة ومنعة) (¬1). وإذا ربط هذا الجانب الذي دلَّ عليه معنى (أمَّة) بما سبق إيراده عن الخليل في معنى (إمة)، وهو قوله: (وكل من اقتدى به، وقدَّم في الأمور فهو إمام، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إمام الأمة، والخليفة إمام الرعية) (¬2)، تبين اشتمال الأمة على النظام السياسي، وما يندرج تحته من راع ورعية أو إمام وإمامة وولاية وإمارة وأهل الحل والعقد والعلماء والمجاهدين، ونحو ذلك ممَّا هو معروف في النظام السياسي. يقول أحد الباحثين: (ثم كانت الانطلاقة العملية. . التي قادها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. . فبلورت مفهوم (الأمة) وأصبح الشعار المميز لرسالتها، ولمَّا يزل مصطلحًا متميّزًا لا يقابله في اللغات الأخرى مصطلح مواز. كذلك أصبح اسم (أمة) مصدرًا اشتقت منه أسماء مؤسسات الرسالة الجديدة والعاملين فيها والممارسات الجارية مثل: (الإمامة)، و (الإمام) للصلاة أو الحكم، و (آمين البيت الحرام) أي: الحج، و (آمين) أي: مقتدين، لذلك ¬

_ = (59)، (مرجع سابق)، والأثر أخرجه الدارمي في سننه: (1/ 91)، الأثر رقم: (251)، بتحقيق: فؤاد أحمد زمرلي وآخر، الطبعة الأولى: (1407 هـ - 1997 م)، عن دار الكتاب العربي، بيروت، وفي سنده صفوان بن رستم، قال الذهبي في: الميزان: (2/ 316): (صفوان بن رستم عن روح بن القاسم مجهول، وقال الأزدي: منكر الحديث)، وانظر: بكر أبو زيد: المرجع السابق نفسه: ص: (59)، حاشية رقم: (1). (¬1) المرجع السابق نفسه، ص: (60، 61). (¬2) الخليل بن أحمد: كتاب العين، مادة (إمة): (8/ 428، 429)، (مرجع سابق).

كانت ترجمة هذا المصطلح تشويهًا لمحتواه، ومن الواجب أن يبقى كما هو في أصله العربي في أية ترجمة كانت) (¬1). خامسًا: دلالة (الأمة) في الحديث النبوي الشريف: تبين مما سبق أنه استعمل في بعض المعاني التي جاءت في القرآن الكريم كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً. . .} [النحل: 120] وروي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنَّه قال عن زيد بن عمرو بن نفيل: "يبعث يوم القيامة أمة وحده" (¬2)، واستعمله -صلى اللَّه عليه وسلم- للدلالة على بعض الأجناس من المخلوقات كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" (¬3)، وقوله عن النمل: "أحرقت أمة من الأمم تسبح" (¬4). وعند الرجوع لكتب السنة ومعاجمها يلحظ أنَّ لفظ (أمَّة) قد ورد بكثرة زادت عن ثلاثمئة وثمانين مرة (¬5)، وإذا أنعم النظر في استخدام لفظ (أمة) في الحديث النبوي الشريف تبيَّن أنَّه جاء مشابهًا لاستخدامه في القرآن الكريم وفي الأوجه التي استخدم فيها في القرآن الكريم، ولكن وردت ¬

_ (¬1) ماجد عرسان الكيلاني: الأمة المسلمة، ص: (27)، (مرجع سابق). (¬2) سبق تخريجه: ص (80)، (البحث نفسه). (¬3) سبق تخريجه: ص: (74)، (البحث نفسه). (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1099)، كتاب الجهاد، باب: [150]، الحديث رقم: [2856]، بتحقيق: مصطفى ديب البُغا، الطبعة الرابعة: (1410 هـ/ 1990 م، عن دار ابن كثير، دمشق، والحديث عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى اللَّه إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمَّة من الأمم تسبح اللَّه". ورواه مسلم عن أبي هريرة: صحيح مسلم 4/ حديث [2241]، بلفظ: "أهلكت أمة من الأمم تسبح"، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬5) انظر: المعجم المفهرس: إعداد لفيف من المستشرقين ومحمد فؤاد عبد الباقي: (1/ 92 - 98)، مادة (أمَّة)، عن مكتبة بريل في مدينة ليدن سنة 1936 م.

أحاديث ظاهرها التعارض في دلالتها على أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حيث المدح والذم والوعد والوعيد والخصوص والعموم ممّا دعا العلماء إلى النظر في هذه المسألة والخروج منها بتقسيم لأمته -صلى اللَّه عليه وسلم- ليدفع ذلك التعارض ويتم إعمال النصوص على الوجه الراجح فيها؛ فمما قيل في ذلك: (إنَّ أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- على ثلاثة أقسام، أحدها أخص من الآخر: - أمَّة الاتباع. - أمَّة الإجابة. - أمَّة الدعوة. فالأولى: أهل العمل الصالح. والثانية: مطلق المسلمين. والثالثة: من عداهم ممن بعث إليهم) (¬1). وعلى هذا التقسيم تحمل النصوص -أو تخرج- بما يدفع التعارض سواء في المدح والذم، أو في الوعد والوعيد، أو الخصوص والعموم، ولكن تبقى مسألة أخرى وهي التصنيف الوارد في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32] فهل المقصود بهذا التصنيف أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أولًا؟ ثمَّ هل المقصود به أمَّة الدعوة؟ أم أمَّة الإجابة والاتباع؟. أمَّا كون المقصود به أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو ما قال به أكثر المفسرين: - قال الزمخشري: (والذين اصطفاهم اللَّه هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة) (¬2). ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري (13/ 411)، (مرجع سابق). (¬2) الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: =

- قال القرطبي: (والآية في أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬1). - وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذ الأمة) (¬2). - وقال السعدي: (لمَّا كانت هذه الأمة، أكمل عقولًا، وأحسنهم أفكارًا، وأرقهم قلوبًا، وأزكاهم أنفسًا اصطفاهم تعالى، واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب؛ ولهذا قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] (وهم هذه الأمَّة) (¬3). ثم هل المقصود بهذا التصنيف أمة الدعوة، أو أمة الإجابة والاتباع؟: - فالذي عليه أكثر المفسرين وعليه مذهب أهل السنة والجماعة هو أنَّ المقصود به أمة الإجابة والاتباع، قال ابن كثير: (روى غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب. . والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن ¬

_ = (3/ 612)، رتبه: مصطفى حسين أحمد، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، (بدون تاريخ). (¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (14/ 222)، (مرجع سابق). (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 554)، (مرجع سابق). وانظر: فتح القدير للشوكاني: (4/ 349، 350)، طبعة دار الفكر، (بدون تاريخ). (¬3) عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان: (6/ 320)، تحقيق: محمد زهري النجار، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد - الرياض: (1410 هـ)، وانظر: سيد قطب: في ظلال القرآن: (5/ 2944)، (مرجع سابق).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من طرق يشد بعضها بعضًا، ونحن إن شاء اللَّه تعالى نورد منها ما تيسر) (¬1). - ثم أورد جملة أحاديث تؤكد ذلك منها: ما رواه أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنهما- قال في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] الآية: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلّكم من هذه الأمة" (¬2)، وروي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قوله: (هم أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورثهم اللَّه كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب) (¬3). - ومنها ما روي عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: (أن هذه الأمة ثلاثة أثلاث، يوم القيامة ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئًا، فيقول الرب -عز وجل-: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي. وتلا عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية (¬4). ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 555)، (مرجع سابق). (¬2) رواه الطبراني، عن عبد اللَّه بن مسعود وعن أسامة بن زيد، في الكبير: (1/ 167)، وأخرجه الهيثمي: مجمع الزوائد: (7/ 96)، عن أسامة بن زيد. وانظر: الترمذي: الجامع الصحيح: (5/ 338، 339)، الحديث رقم: (3225)، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق)، وصححه الألباني. (¬3) عبد اللَّه بن عباس: صحيفة علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم: ص: (415)، تحقيق: راشد عبد المنعم الرجَّال، (مرجع سابق)، وانظر: القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد: (4/ 438)، الطبعة الأولى: (1413 هـ - 1993 م) عن دار الكتب العلمية - بيروت. (¬4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 555 - 556)، (مرجع سابق).

- وذهب القرطبي إلى هذا بقوله: (وهذا قول ستة من الصحابة وحسبك) (¬1)، قال أبو القاسم الغرناطي: (قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف الثلاثة في أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬2). واختاره الشوكاني بقوله: (وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح) (¬3). - ولابن قيم الجوزية وقفة متأنية ناقش فيها سائر الأقوال المتعارضة في هذه الآية وبين حجج كل فريق وأدلته، ثم رجَّح القول بأنَّ الأصناف الثلاثة كلُّهم من هذه الأمة أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّة الإجابة والاتباع المصطفاة، وأن الأدلة على ذلك (قد بلغت في الكثرة إلى حدٍّ يشدُّ بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض) (¬4). ثم ساق أدلة أخرى تؤيد هذا القول، وقال بعدها: (فهذه الآثار يشدُّ بعضها بعضًا، وإنَّها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا نعدل عنها) (¬5). وعلى هذا فإنَّ أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- تطلق ويراد بها: ¬

_ (¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (14/ 221)، (مرجع سابق). وانظر: ابن عطية: المحرر الوجيز: (4/ 438)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي: التسهيل لعلوم التنزيل، ص 548، طبعة الدار العربية للكتاب (بدون تاريخ). (¬3) الشوكاني: فتح القدير: (4/ 349)، (مرجع سابق). وانظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (6/ 320)، (مرجع سابق). وانظر: سيد قطب: في ظلال القرآن: (5/ 2944)، (مرجع سابق). (¬4) ابن قيم الجوزية: طريق الهجرتين وباب السعادتين: ص: (365)، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (369)، وانظر: تفصيل التعارض والترجيح وأدلة كل فريق في الصفحات من: (341)، حتى (369)، (المرجع السابق نفسه).

1 - كافة المكلفين من الإنس والجن المقصودون بالدعوة منذ بعث وحتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهذا نطاق عالمي واسع (¬1). 2 - وتطلق ويراد بها المستجيبون لدعوته، وهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام بنطق الشهادتين، وجاؤوا بأركان الإسلام حسب القدرة والاستطاعة، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وبقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه" (¬2). وعلى هذا فأمة الإجابة عامَّة للمسلمين. 3 - يراد بأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّة الاتباع وهؤلاء أخص من غيرهم وهم الذين يكونون على ما وصفهم به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "ما أنا عليه وأصحابي" (¬3)، حينما أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- عن افتراق الأمم وافتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها تنحرف عن الجادَّة إلا فرقة أو طائفة أو عصبة أو أمة واحدة تبقى على الحق، وتلزم صراط اللَّه المستقيم. ¬

_ (¬1) سيأتي مطلب خاص عن (العالمية) بوصفها إحدى خصائص تميُّز الأمة الإسلامية: ج 2: (93 - 146)، (البحث نفسه). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (1/ 11)، عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- في كتاب الإيمان باب: [17]، تحقبق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، ورواه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 53)، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- ولكن بلفظ: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، كتاب الايمان - باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه. . .، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (5/ 26)، كتاب الإيمان، الباب: [18]؛ ما جاء في افتراق هذه الأمة، الحديث رقم: [2643]، تحقيق: كمال يوسف الحوت (مرجع سابق)، وقال الترمذي: (هذا حديث مفسر غريب، لا نعرف مثله إلا من هذا الوجه)، وانظر: جامع الأصول لابن الأثير: (10/ 34)، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الاعتصام: (2/ 443)، (مرجع سابق).

وقد ورد مسمَّى (أمَّة) على هذه الطائفة أو الفرقة أو العصبة من أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري عن معاوية أنَّه سمع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر اللَّه ما يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك" (¬1)، فدلَّ ذلك على أمَّة الاتباع وهم أخصُّ من أُمَّة الإجابة، وللعلماء فيها عدة أقوال منها: - ما ورد في بعض الروايات لدى البخاري أنهم أهل العلم (¬2). - وقال الإمام أحمد بن حنبل: إنَّهم أهل الحديث (¬3). - وقال القاضي: (إنَّما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذاهب أهل الحديث) (¬4). - وقال الشاطبي: (إنهم جماعة أئمة العلماء المجتهدين). وقال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: (8/ 189)، الباب: [29]، من كتاب التوحيد، وفيه روايات عديدة لدى البخاري ومسلم. وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . 1/ 362، (مرجع سابق). توثيق هذا الحديث وذكر طرقه لدى ابن الأثير جامع الأصول: (10/ 37)، (مرجع سابق). وانظر: المقدمة: ص: (21)، (البحث نفسه). (¬2) انظر: صحيح البخاري: (8/ 149)، كتاب الاعتصام باب: [10]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). وانظر: باب: [19]، ص: (156)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) وذهب إلى هذا القول كثير من العلماء منهم: علي بن المديني، ويزيد بن هارون وعبد اللَّه بن المبارك. انظر: البغدادي: شرف أصحاب الحديث: ص: (26، 27)، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، (بدون تاريخ). وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: (1/ 480، 481)، طبعة: (1415 هـ/ 1995 م)، عن دار المعارف، الرياض. (¬4) ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: (1/ 164)، والمباركفوري: تحفه الأحوذي بشرح جامع الترمذي: (6/ 359، 360)، الحديث رقم: (2287)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت.

(فمعنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن تجتمع أمتي على ضلالة" لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة) (¬1). - ولكن النووي يعطيها دائرة أوسع بقوله: (يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين. فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض) (¬2). - صنف البغدادي أهل السنة والجماعة إلى ثمانية أصناف، وهم: 1 - صنف منهم أحاطوا العلم بأبواب التوحيد والنبوة وأحكام الوعد والوعيد والثواب والعقاب وشروط الاجتهاد والإمامة والزعامة. 2 - والصنف الثاني منهم أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث. 3 - والصنف الثالث منهم هم الذين أحاطوا علمًا بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي -عليه السلام-، وميزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع أهل الأهواء الضَّالة. 4 - والصنف الرابع منهم قوم أحاطوا علمًا بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف وجروا على سمت. ¬

_ (¬1) الشاطبي: الاعتصام: (2/ 449)، (مرجع سابق). (¬2) شرح صحيح مسلم للإمام النووي: (13/ 70، 71)، الحديث رقم: (170، 1920)، مراجعة: خليل الميس، طبعة دار القلم، بيروت، (بدون تاريخ). وانظر: محمد فؤاد عبد الباقي: صحيح مسلم: (3/ 1523)، (مرجع سابق). وانظر: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة سيد المرسلين: ص: (155)، طبعة مكتبة الرياض الحديثة، (بدون تاريخ). وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح: (1/ 370)، (مرجع سابق).

5 - والصنف الخامس منهم هم الذين أحاطوا علمًا بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن وتأويلها على وفق مذهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضَّالة. 6 - والصنف السادس منهم الزهاد الصوفية. . على سمت أهل الحديث دون من يشتري لهو الحديث. 7 - والصنف السابع منهم قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة يجاهدون أعداء المسلمين، ويذبون عن حريمهم وديارهم، ويظهرون في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة. 8 - والصنف الثامن منهم عامة البلدان التي غلب فيها شعائر أهل السنة دون عامة البقاع التي ظهر فيها شعار أهل الأهواء الضالة) (¬1). وعقَّب على تصنيفه هذا بقوله: (إنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما ذكر افتراق أمته بعده ثلاثًا وسبعين فرقة وأخبر إن فرقة واحدة منها ناجية، سئل عن الفرقة الناجية وعن صفتها فأشار إلى الذين هم على ما عليه هو وأصحابه. ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- غير أهل السنة والجماعة) (¬2). وخلاصة القول في أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّ لها ثلاث دوائر بعضها أخصَّ من بعض، فالدائرة الواسعة من حيث الزمان والمكان وشمول الخطاب يطلق عليها أمَّة الدَّعوة، وتشمل جميع الثقلين الإنس والجن في كل زمان ومكان من حين صدع -صلى اللَّه عليه وسلم-، بما أمر به من التبليغ وحتى نهاية التاريخ البشري (¬3)، ¬

_ (¬1) عبد القاهر بن طاهر البغدادي: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم: ص: (300، 301، 302، 303)، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، طبعة: (1408 هـ - 1987 م)، بيروت. (¬2) المرجع السابق: ص: (304). (¬3) انظر: مطلب العالمية بوصفها إحدى خصائص تميُّز الأمة الإسلامية، في: ج 2: (93 - 146)، (البحث نفسه).

وتسمَّى هذه الأمة في دائرتها الواسعة أمة الدَّعوة باعتبارها مقصودة بالدعوة، وتأتي في داخلها دائرة أخص وهي أمَّة الإجابة باعتبارها المقصودة بالإجابة لما دعا إليه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم في داخل هذه الدائرة تكون أمَّة الاتباع وهي أخصَّ من أمَّة الإجابة باعتبارها اتبعت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، حين استجابت لدعوته، وسارت على صراط اللَّه المستقيم وفقًا لسنة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-. * * *

نماذج من تعريفات العلماء والمفكرين لمدلول (الأمة) في الفكر الإسلامي وتحديد مصطلح (الأمة) في البحث

نماذج من تعريفات العلماء والمفكرين لمدلول (الأمَّة) في الفكر الإسلامي وتحديد مصطلح (الأمَّة) في البحث إنَّ المتأمل في استعمال لفظ (أُمَّة) في اللغة، والقرآن الكريم، والحديث النبوي، والتراث الإسلامي، يجده يشتمل على اعتبارات متنوعة قد يُنَصُّ على بعضها، وقد يتضمن بعضها الآخر، وهذه الاعتبارات هي: (الجماعة والاجتماع أو الذات والفعل، أو الوحدة في الأصل، أو المنشأ، أو المرجع والمصير، أو الجهة، أو القصد، أو العلاقة والرابطة، أو الزمان، أو المكان). لذلك فإنَّ معظم من عرَّف الأمَّة تناولها في بعض معانيها دون بعض، أو ركز على بعض الاعتبارات في مدلولها وغاب عنه بعضها الآخر، وللمثال على هذا استعرض نماذج من تعريفات المفكرين لمدلول (الأمَّة) في الفكر الإسلامي فيما يأتي: 1 - عرَّفها الراغب الأصفهاني بقوله: (الأمَّة: كل جماعة يجمعهم أمر واحد، أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا، وجمعها أمم) (¬1). 2 - عرَّفها الحكيم الترمذي بتعريفات كثيرة، منها قوله: (الأمَّة هي الجماعة التي يؤمَّها الناس ويقصدونها. . فإنَّما صارت الأمَّة في هذا المكان الجماعة لأنَّ الذي يقصده الناس ويبصرونه: إنَّما يبصرون الكثرة المجتمعة حتى يقصدونها) (¬2). ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن. . ص: (86)، (مرجع سابق). وانظر: الكفوي: الكليات. . ص: (176)، (مرجع سابق). (¬2) الحكيم الترمذي: تحصيل نظائر القرآن. . ص: (82)، تحقيق: حسني نصر زيدان، الطبعة الأولى، 1389 هـ - 1969 م، عن مطبعة دار السعادة، القاهرة.

3 - عرَّفها أبو البقاء بأنَّها (تسمَّى الجماعة من حيث تؤمُّها الفرق) (¬1). 4 - عرَّفها الطبري بأنَّها: (جماعة من الناس تجتمع على دين واحد وملة واحدة. . ثم تستعمل في معانٍ كثيرة ترجع إلى معنى الأصل) (¬2). 5 - عرَّفها البغوي في موضع من تفسيره بأنَّها (اتِّباع الأنبياء) (¬3). وقال في موضع آخر: (وأصل الأمَّة الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمَّة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد) (¬4). ويوافق البغوي في تعريفه للأمَّة بأنَّها: (اتباع الرسل)، بعض المفكرين المعاصرين مثل علي عبد الحليم محمود إذ قال في تعريفها: (جماعة من الناس لهم رسول) (¬5) وقال: بأنَّها وردت في القرآن بهذا المعنى. وعند التأمل يلحظ إنَّ في القرآن الكريم تصنيفًا للخليقة بعامة وللبشرية بخاصة إلى أمم متعددة ومتنوعة، والأمة في معناها البشري من أرسل إليهم رسول من مكذب به ومصدِّق (¬6)، ولكل أمَّة رسول وكتاب وأجل ومنسك ويوم العرض الأكبر يأتي كل نبي، وتأتي معه أمته وهو عليها شهيد وإمام، ويؤتى معها بكتابها. وعلى هذا فإنَّ تعريف الأمَّة بجماعة الرسل أو اتباع الرسل ليس تعريفًا جامعًا مانعًا. ¬

_ (¬1) أبو البقاء الكفوي: الكليات. .: ص: (181)، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: فرحات: الأمَّة. .: ص: (16)، (مرجع سابق). (¬3) معالم التنزيل: (1/ 151)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع نفسه: (5/ 353). (¬5) مع العقيدة والحركة والمنهج في خير أمَّة أخرجت للناس: ص: (19)، (مرجع سابق). (¬6) انظر: الكفوي: الكليات. .: ص: (176)، (مرجع سابق).

6 - وعرَّفها سيد قطب بقوله: (هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كلِّ جنسٍ ومن كلِّ أرض) (¬1). 7 - وعرَّفها محمد المبارك بقوله: (إذا عملت عوامل التوحيد والصهر والانسجام في شعب من الشعوب كالاشتراك في اللغة والحياة المشتركة الطويلة أي التاريخ والثقافة والمعتقدات والمبادئ والأفكار والعادات والأخلاق، قألفط منه وحدة اجتماعية حيَّة نسميها أمَّة) (¬2). 8 - عرَّفها فاروق الدسوقي بقوله: (الأمَّة -حسب المصطلح القرآني- هي جماعة من الناس تؤمن بعقيدة واحدة، وتعيش بمنهج حياة واحد. وبعبارة واحدة: هي جماعة تدين بدين واحد) (¬3). ثمَّ يواصل الشرح بقوله: (ولا يهم بعد ذلك أن تتمثل هذه الأمَّة في فرد واحد أو عدد قليل من الناس، أو في جماعة أو في دولة أو مجموعة دول وشعوب مختلفة. ولا يشترط أن تعيش الأمَّة في إقليم جغرافي واحد أو تنتسب إلى أصل عصبي أو قبلي واحد. فالأمَّة إذًا تختلف عن القبيلة أو العشيرة، حيث القبيلة جماعة من الناس يجمعهم انتسابهم إلى جدٍّ، فهذه الأخيرة رابطة عرقية أو عصبية، وكذلك تختلف الأمَّة عن الشعب، حيث الشعب هو جماعة من الناس يجمعهم الإقليم الجغرافي الواحد. وبذلك يتضح لنا أنَّ اختلاف الناس إلى قبائل وشعوب أمر حتمي جبري، جعله اللَّه من طبائع الناس وأحوالهم على الأرض من حيث إنَّ ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (1/ 117)، (مرجع سابق). (¬2) الأمة والعوامل المكونة لها: ص: (31، 32)، (مرجع سابق). (¬3) مقومات المجتمع المسلم. .: ص: (122)، (مرجع سابق).

اختلاف البيئات الجغرافية يجعل منهم شعوبًا، واختلاف الأجداد الذين تنحدر منهم كل جماعة يجعل منهم قبائل وعشائر) (¬1). ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. 9 - يرى العقاد بأنَّ (مونتجومري وات) في كتابه (الإسلام والجماعة المتحدة) قد أصاب في التنويه بمعنى (أمَّة) في العقيدة الإسلامية، واعتبر أنَّه معنى فريد تميَّز به الإسلام، ولم يكن له مرادف بمعناه في لغة من اللغات قبل الإسلام ولا بعده. . ثم يعقد مقارنة بين الكلمات التي تقابل كلمة (أمَّة) في اللغات الأوروبية وبين كلمة (أُمَّة) في اللغة العربية والإسلام (¬2) على النحو الآتي: - فكلمة nation التي تقابل هذه الكلمة في اللغات الأوروبية مأخوذة في أصلها من معنى الولادة، ومفادها أن الولادة في مكان واحد هي الرابطة التي تكسب أبناء الوطن حقوق هذه الوحدة الإجتماعية. - وكلمة people تقابل عندهم كلمة الشعب أحيانًا باللغة العربية، وترجع في أصلها إلى السكن والإقامة. وكلا المعنيين -معنى الولادة ومعنى السكن- قاصر عن الدلالة على القومية (¬3) كما يفهمها علماء التعريفات الاجتماعية والسياسية في عصرنا ¬

_ (¬1) مقومات المجتمع المسلم: ص: (122)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر ما يقال عن الإسلام: ص: (149)، (مرجع سابق). وانظر: عمر إبراهيم: مفهوم الأمَّة بين لغة وأخرى، مجلة الفكر العربي المعاصر، (مرجع سابق). (¬3) علَّق سيد قطب في الظلال: (3/ 1445)، (مرجع سابق)، على ما نقله عن المودودي: الجهاد في سبيل اللَّه إذ قال: (إنَّما حسبوا المسلمين أُمَّة (nation) بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامَّة الأحوال) بقوله: (يعني أمَّة قومية وهي التي تطلق على =

الحاضر، وأصبح منها أن تكون رابطة الأُمَّة هي رابطة الاشتراك في وجهة عامَّة كما سبقت بها دلالاتها في الآيات القرآنية. إلا أننا لا ننسى في هذا المقام أن نعود إلى الناحية اللغوية لنعرف مدلول اللفظ في اللغة ومدلوله في الاصطلاح بعد الدعوة المحمدية (¬1). فاستقبال الجهة أصيل في كثير من الكلمات التي تفيد معنى الوحدة الاجتماعية باللغة العربية وإن قلَّ عددها بالنسبة إلى الأقوام الكثيرة: - فالقبيلة -وهي أصغر من الأمَّة ومن القوم- تطلق على الذين يستقبلون جهة واحدة في السكن والمرعى. - والفئة -وهي أصغر من القبيلة- تطلق على الذين يفيئون إلى ظلٍّ واحد. - والقوم -وقد يكونون قبيلة واحدة أو قبائل متعددة على عهد بينهما- هم جماعة يقومون معًا في أمور الحرب والسلم، ويغلب أن يكون قيامهم معًا بأمور الحرب أعم في بداية الأمر من القيام معًا بسائر مهام المعيشة، ولهذا كان المفهوم من القوم أولًا جماعة الرجال دون النساء، قبل أن تعم الرجال والنساء أجمعين. فمعنى الوجهة أصيل في اللغة العربية للدلالة على وحدة الجماعة، ¬

_ = اللفظة (السابقة) وإلا فالمسلمون أمَّة بالمصطلح الإسلامي وهي الجماعة من الناس المجتمعة على عقيدة الإسلام، المنتظمة في تجمع قائم على هذا الأساس، الخاضعة لقيادة تنفذ شريعة اللَّه). (¬1) لمسمَّى (المحمدية) في كتابات بعض المستشرقين مدلول معاد لحقيقة الإسلام وسيأتي شرح ذلك في موضعه. وانظر: محمد مهدي شرف الدين: بين الجاهلية والإسلام ص: (43)، الطبعة الثالثة 1407 هـ عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت.

ولكن القرآن الكريم قد جاء بكلمة الأمَّة في معارض كثيرة تفيد معنى السبط من القبيلة، كما تفيد معنى الجماعة الكبرى التي تحيط بشعوب كثيرة. فمن هذه الدلالة القرآنية لزمت وحدة الوجهة معنى الأمَّة في مواضعها الكثيرة، وحق لمؤلف كتاب: الإسلام والجماعة الموحدة، أن يعتبر هذه الفكرة -فكرة القبلة الروحية- عصمة من التفرق وينبوعًا لكل دعوة ترد إلى حظيرة الإسلام كل من يخالفون الجماعة باسم (الوحدة) وسعيًا إلى التوفيق فقد تعلقت آمال المسلمين على الزمن بهذه القبلة الموثوقة، كأنَّها الأفق المشرق الذي لا يغيب عنه الضياء، ولا ينقطع دون الرجاء) (¬1). والحقيقة أنَّ فهم (مونتجومري وات) لمعنى (أمَّة) يُعَدُّ من العمق بمكان، وقد أطلق عليها بالإنجليزية dyhamic Imdge وترجمها العقاد بمعنى (الطيف) أو المثال الذي يحفز السائر إلى الحركة والتقدم ويهون عليه مشقة الطريق. . يقول العقاد: وأقرب من ذلك باللغة العربية أن نسميها: (القبلة الموجهة) أو (القبلة المستجابة؛ لأنَّها كلمة موافقة لشعائر الإسلام) (¬2). بعد هذه الاقتباسات المتفرقة في تعريف الأمَّة، والتي تؤكد ما سبقت الإشارة إليه من أنَّ من عرَّف الأمَّة قد تناولها من ناحية، أو ركَّز على معنى دون الآخر. . بعد ذلك كله يظهر إنَّ مصطلح (الأمَّة) بحاجة إلى نظرة تأخذ في الاعتبار الآتي: 1 - الجماعة في معناها الحسي من حيث القلة والكثرة أو الكم والعدد ومن حيث مجيئها بمعنى الفاعل. 2 - الجماعة حين تأتي بمعنى المفعول باعتبارها تُؤَمُّ وتُقْصد. ¬

_ (¬1) ما يقال عن الإسلام: ص: (149، 150)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (148، 149).

3 - الحين والسنين والآماد؛ باعتبارها الظرف الزمني للأمَّة. 4 - القوم الذين يقومون في مكان واحد باعتباره الظرف المكاني للأمَّة، ومما يوضح الظرف المكاني للأمَّة ما ورد لدى المفسرين في معنى النسك باعتباره المكان الذي تؤدي الأمَّة فيه الشعائر والعبادات (¬1). 5 - الرجل الجامع للخيرات أو الذي لا نظير له. . باعتباره قام مقام الأمَّة. 6 - الدين والشرعة والمنهاج والملة والسنة والطريقة، باعتبار ذلك فعل الأمَّة أو الرابطة أو الوجهة أو القصد، ونحو ذلك مِمَّا يكون سبب الاجتماع. إنَّ مصطلح (الأمَّة) في حاجة إلى صياغة تلم بهذه المدلولات الستة. ومن الممكن أن يتجاوز المصطلح المكان والزمان باعتبارهما يأتيان ضمنًا في تعريفه، إذ هما لازمان من لوازم الجماعة والاجتماع، فلا بدَّ في ذلك من مكان للجماعة والاجتماع، ولابدَّ من زمن تتكون فيه الجماعة ويحدث فيه الاجتماع. كما إنَّه من الممكن -أيضًا- استبعاد الرجل الجامع للخير. . من التعريف باعتبار أنَّ إطلاق (الأمَّة) عليه كان إطلاقًا معنويًا أو مرحليًّا، حيث إنَّه قام مقامها أو حلَّ محلَّها أو ناب عنها أو كان لها نواةً وأصلًا أو إمامًا أو اندرج في عداد الأمَّة عبر تاريخها الطويل، وفي كل هذه الاعتبارات فإنَّ إطلاق مسمَّى الأمَّة عليه كان معنويًا. يبقى التركيز في تعريف المصطلح على الجماعة التي تؤم طريقة أو سنة أو ملة أو دينًا، سواءً كانت الجماعة آمّة بمعنى الفاعل أو مأمومة بمعنى ¬

_ (¬1) الطبري: (1/ 605)، (مرجع سابق).

المفعول. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التركيز فى التعريف على الطريقة أو السنة أو الملة أو الدين التي تقصد وتؤم. قال أحد الباحثين عن هاتين الركيزتين في تعريف مصطلح الأمَّة: (إنَّ الحل المعتمد لهذه الجدلية -بين الطريقة والجماعة- هي تصور الجماعة المتفقة على طريقة واحدة. وفي هذا الحل يتقدم معنى الطريقة على معنى الجماعة، بحيث إن الجماعة تصبح محدودة ومعروفة بالطريقة التي تتبعها) (¬1). ويتابع الباحث قوله وفقًا لاستنتاجاته حول (الأمَّة): إنَّ مصدر هذه الجدلية هو: (تردد الأصل الذي خرجت منه كلمة (أمَّة) بين الفعل (الأمّ)؛ الذي يعني القصد بنية الاقتداء واسم الأمّ، الذي يتضمن معنى المصدر أو المرجع) (¬2). ثمَّ يؤكد أنَّ كلمة (أمَّة) -مهما كان أصلها- (تجمع بين معنى القصد والاتجاه، ومعنى التحدر والصدور، وتعرض هذين المعنيين كوجهتين للوحدة القائمة بين مجموعة معينة من الناس، ووجهة الوحدة في المصدر ووجهة الوحدة في الاتجاه) (¬3). لعل هذه الاستنتاجات وما سبقها من تعريفات متعددة تفضي إلى مصطلح للأمَّة، وهي مجردة عن الوصف والإضافة فيمكن القول بأنَّ الأمَّة: كل جماعة من الناس لها رؤية شاملة للإنسان والحياة والكون ينبثق عنها منهج متكامل يصبغها بصبغته ويميزها بطابعه. * * * ¬

_ (¬1) ناصيف نصار: مفهوم الأمَّة بين الدين والتاريخ: ص: (22)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (22). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (22).

مفهوم الأمة الإسلامية

مفهوم الأمَّة الإسلامية معنى الإسلام يتكون مفهوم الأمَّة الإسلامية من: الأمَّة: وسبق تعريفها بأنَّها: كل جماعة من الناس لها رؤية شاملة للإنسان والحياة والكون ينبثق عنها منهج متكامل يصبغها بصبغته، ويميزها بطابعه. الإسلامية: نسبة إلى الإسلام. ويطلق الإسلام ويراد به ثلاثة معانٍ: الأول: الاستسلام والخضوع والانقياد لله جلَّ وعلا، ويدخل في ذلك جميع خلق اللَّه طوعًا وكرهًا، قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، (فكل العوالم مسلمة لله تعالى إنسها وجنّها وحيوانها وجمادها) (¬1)، وهذا المعنى داخل في الإرادة الكونية القدرية (¬2). ويخص بنو آدم بالعهد الذي أخذه اللَّه عليهم، وفطرهم عليه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (¬3) [الأعراف: 172]. ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (4/ 2469)، (مرجع سابق). (¬2) وانظر: الإسلام بهذا المعنى في دائرة المعارف الإسلامية مادة (إسلام)، (مرجع سابق). (¬3) وسيجري بحث هذه المسألة في مطلب العقيدة بوصفها مقومًا من مقومات تميُّز الأمَّة الإسلامية. وانظر: عبد الحليم أحمدي: معنى فطرية الإسلام عند الإمام ابن تيمية، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الصفحات: (301 - 324)، العدد: [20]، =

الثاني: الدين الحق الذي جاءت به جميع الأنبياء والرسل، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. . . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164]. كل الأنبياء والرسل جاؤوا بدين الإسلام من أولهم إلى آخرهم (وأولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به) (¬1). وفي هذا قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81]. وجاء على لسان كل رسول ونبي الإقرار بالإسلام أو الوصية به أو الدعاء أن يكون هو وذريته من المسلمين، وللمثال على ذلك: - ما ورد عن نوح -عليه السلام- بأنَّه قال: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 72]. - ووصف إبراهيم -عليه السلام- بأنَّه: {كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]. - ودعوته هو وابنه إسماعيل لهما ولبعض ذريتهما ووصيته لبنيه، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً} [البقرة: 127، 128]، ¬

_ = السنة: [8]، ذو القعدة: (1413 هـ - مايو 1993 م)، تصدر عن مجلس النشر العلمي، بجامعة الكويت. (¬1) ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/ 92)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها، ص: (681 - 688)، مجلة لواء الإسلام: عدد: [11]، السنة: [11]، رجب 1377 هـ.

وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. - وكرر هذه الوصية يعقوب لبنيه عند وفاته، قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]. - ومن دعوة يوسف -عليه السلام- قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. - وجاءت دعوة موسى -عليه السلام- لقومه: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]. - وممَّا يؤكد ذلك إعلان فرعون عن إسلامه عندما أدركه الغرق، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]. - وفي رسالة سليمان -عليه السلام- إلى بلقيس جاء: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]. - وعن إسلام عيسى -عليه السلام- ومن اتبعه من الحواريين، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]. وقد وردت أحاديث عديدة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تبين حقيقة دين الأنبياء وأنَّه الإسلام منها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (¬1)، وقال جمهور العلماء: (معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1270)، الحديث رقم: [3259]، تحقيق: =

وشرائعهم مختلفة فإنَّهم متفقون في أصول التوحيد، وأمَّا فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف) (¬1). يقول ابن تيمية: (الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والمنسك فإنَّ ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدًا كما لا يمنع ذلك في شرعة الرسول الواحد) (¬2). الثالث: الإسلام هو الدين الذي بُعث به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وإليه تنسب أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. يقول ابن تيمية: (وقد تنازع النَّاس فيمن تقدَّم من أمَّة موسى وعيسى، هل هم مسلمون أم لا (¬3)؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي ¬

_ = مصطفى البُغا، (مرجع سابق)، ورواه مسلم بألفاظ متقاربة؛ انظر: صحيح مسلم: (4/ 1837 كتاب الفضائل- باب: فضائل عيسى -عليه السلام- رقم الحديث: [2365]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬1) محمد فؤاد عبد الباقي: تعليقه على الحديث رقم: [2365]؛ صحيح مسلم: (4/ 1837)، المرجع السابق نفسه. (¬2) ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/ 92)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 186)، (مرجع سابق). (¬3) للعلماء في هذه المسألة عدة أقوال منها: - إن الإسلام يطلق على كل دين حق ولا يختص بأمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وممن قال بهذا ابن صلاح: فتاوى ومسائل ابن صلاح. .: (1/ 213، 214)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى: (1406 هـ - 1986 م)، عن دار المعرفة، بيروت. - إن الإسلام يطلق على الرسل والأنبياء دون أممهم، ولم يطلق على أممهم إلا من باب التغليب، وإن أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- اختصت بمسمى المسلمين ومسمى المؤمنين وهما من اسمي اللَّه، وسمي دينهم الإسلام، ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء دون أممهم. انظر: السيوطي الخصائص الكبرى: (2/ 208)، (مرجع سابق)، وورد مثل هذا لدى الطبري: (9/ 194)، (مرجع سابق)، عن ابن زيد في قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} قال (لم يذكر اللَّه بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ذكرت بالإسلام =

الإسلام إذا وصفت به الأمة

بعث اللَّه به محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- المتضمن لشريعة القرآن: ليس عليه إلَّا أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والإسلام اليوم عند الانطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث اللَّه بها نبياً فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء) (¬1). وقبل هذا عرف دين الإسلام الذي لا يقبل اللَّه غيره في دعوة كل رسول من الرسل، فقال: (وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت يفعل ما أمر به في ذلك الوقت) (¬2). * * * الإسلام إذا وصفت به الأمة للإسلام إذا وصفت به الأمة أو أضيفت إليها معنيان: أ - المعنى العام: وينتظم جميع الأديان السماوية، وتكون الأمة ¬

_ = والإيمان جميعًا)، وقد تعقبه الطبري بقوله: (ولا وجه لما قال ابن زيد). - إنَّ اللَّه اختصَّ أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- دون سائر الأمم بمسمى الإسلام، والأدلة على ذلك من الكثرة بمكان. راجع هذه المسألة لدى: عثمان بن جمعة ضميرية: الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، ص: (41 - 45)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م)، عن دار الفاروق، الطائف، وأساس الكتاب بحث في مجلة البحوث العلمية والإفتاء، العدد: [21]، صدر بتاريخ: (1408 هـ) في الصفحات: (311 - 352) ونشر فيها بعنوان: الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى، (مرجع سابق)، وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها، مجلة لواء الإسلام؛ المرجع السابق نفسه. (¬1) ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/ 94)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن تيمية: الرسالة التدمرية، ص: (98)، طبعة دار الوعي - دمشق، (بدون تاريخ). (¬2) ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/ 91)، (المرجع السابق نفسه).

المنسوبة إلى هذا الدين أمة واحدة كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. ب- المعنى الخاص: وهو الدين الذي جاء به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- عقيدة وشريعة أخلاقًا وهديًا، وينبثق هذا الدين من كتاب اللَّه ومن سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- القوليَّة والفعلية والتقريرية، والأمة الملتزمة بهذا الهدي والمطبقة لتعاليمه والمتبعة للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هي الأمة الإسلامية تشترك مع أمة الرسل في معنى الإسلام العام، وتختص بمسمى الإسلامية أو المسلمة؛ ولذلك أسباب أهمها: 1 - كونها دعوة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كونه سماها مسلمة: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]. وقد قال بعض المفسرين: (ألهم اللَّه إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي، فنسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر؛ لأنَّ اللَّه أراد أن يكون الدين المحمدي إتمامًا للحنيفية دين إبراهيم) (¬1). وعلي الرغم من وجاهة هذا التبرير إلا أنه ينبغي عدم إطلاق المحمدية على الإسلام أو المحمديين على المسلمين، وإنما يقال: المسلمون أو الأمة الإسلامية التزامًا بما ميَّزهم اللَّه به من مسمى؛ ولأن في ذلك متابعة للمستشرقين الذين يحرصون على إطلاق مسمى (المحمدية) و (المحمديون) على الإسلام والمسلمين، ولهم مقاصد معينة سيأتي الحديث عنها في موضع آخر (¬2). ¬

_ (¬1) الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير: (1/ 720)، طبعة الدار التونسية، (بدون تاريخ). (¬2) انظر: أكرم ضياء العمري: الرسالة والرسول: ص: (38)، (مرجع سابق).

2 - كونها آخر الأمم ورسولها خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ورسالته هي خاتم الرسالات، وبها تمَّ صرح الإسلام والأمم: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. ويقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوبة، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (¬1). لذلك ناسب أن تسمَّى أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- المسلمة أو المسلمين أو الإسلامية؛ لأنه يتحقق فيها الآتي: 1 - كمال الخضوع والاستسلام باعتبارها تؤمن بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وما جاء به من كتاب وحكمة، وتؤمن بالكتب السابقة وجميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. 2 - كمال الدين الذي تعتقده والشريعة التي تنتهجها والرسالة التي تحملها والإسلام الذي تنتسب إليه هذه الأمة في معناها الخاص، يشتمل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1300)، الحديث رقم: [3342]،كتاب المناقب - باب: خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم-، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم بروايات متقاربة في كتاب الفضائل، باب: ذكر كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم النبيين: صحيح مسلم: (4/ 1790، 1791)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

على أفضل الأعمال والأقوال والمعتقدات، وهو في صورته التي جاء بها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بلغ ذروة التمام والكمال. فكل صورة للإسلام في حياة أي أمَّة من الأمم السابقة تندرج تحته، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، قال ابن كثير في تفسيره (مهيمنًا) بعد أن أورد معاني عدة: (فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله) (¬1). وهو يغني عمَّا سواه ولا يغني ما سواه عنه؛ لذلك اختصت الأمة التي تحقق عقيدته في وجودها وتطبق شريعته في حياتها وجميع شؤونها، وتحمل رسالته للعالمين أن تنسب إليه. وعلي هذا فإن مصطلح الأمة الإسلامية يتحدد على النحو الآتي: الأمة الإسلامية: جماعة المكلفين ومن في حكمهم الذين يدينون بعقيدة الإسلام، وما ينبثق عنها من تصور للكون والحياة والإنسان، ويطبقون شريعته وينشرون رسالته، ويصطبغون بصبغته في سلوكهم وعاداتهم ومظهرهم بما يميزهم عن غيرهم، وإمامهم في ذلك محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكتابهم القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفهم. وأصل هذه الأمة ضارب في أعماق التاريخ من لدن كان الناس أمة واحدة على الحق وهو الإسلام توحدها عقيدة التوحيد والإيمان باللَّه، وتتواصل عبر التاريخ حتى تمثلت في الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وستستمر حتى يأتي أمر اللَّه وهي على الحق، أمة واحدة من دون الناس لا يضرها من خذلها ظاهرة منتصرة، تُؤَمُّ وتُقْصَدُ لما تحمل من الحق والخير، ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (2/ 65)، (مرجع سابق). انظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (17/ 43، 44، 45)، (مرجع سابق).

وتحمل لواء الدعوة إلى اللَّه لتكون كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ومجال دعوتها الأرض بجميع أقطارها والناس جميعًا مقصودون بهذه الدعوة أينما كانوا؛ لأنها رحمة للعالمين وسلم لهم. * * *

منزلة تميز الأمة الإسلامية

منزلة تميُّز الأمة الإسلامية كون التميز سنة من سنن اللَّه في خلقه يرتكز تميُّز الأمة الإسلامية على ما جاء في القرآن الكريم، وسنة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- القولية والفعلية والتقريرية، وعلي واقع فهم السلف الصالح له وتحقيقه في حياتهم بصور شتى، ويبرزه مجليًا له ما درجت عليه الأمة في تاريخها عبر العصور. والمتأمل في الكتاب والسنة يدرك منزلة تميُّز الأمة الإسلامية من خلال أدلة كثيرة، تضمنت بيان كونه سنة من سنن اللَّه في خلقه، أو الأمر به والثناء على من حققه، أو التعريض بمن لم يحققه، أو النهي عن التشبه بأهل الكتاب والمشركين. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تبين أنَّ التفاضل بين الأمم بعامة وبين بني آدم بخاصة من سنن اللَّه في الكون والحياة، ويتفاوت الناس في قدراتهم، ويتفاضلون في أقدارهم ومنازلهم في الدنيا والآخرة، وتختلف مشاربهم ومراميهم ومصائرهم وفقًا لذلك (¬1)؛ ويوضح ذلك تفصيلًا ما يأتي: 1 - فضَّل اللَّه بني آدم على كثير من الخلق، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وللمفسرين في تفسيرها أقوال عدة، فمما يراد بها: (جعلنا لهم كرمًا؛ أي: شرفًا وفضلًا) (¬2)، وقالوا: (بأن اللَّه فضَّل بني ¬

_ (¬1) انظر: ابن قيم الجوزية: طريق الهجرتين. ص: (627 - 750)، (مرجع سابق)، استعرض فيها طبقات المكلفين وجعلها في ثماني عشرة طبقة، ولكل طبقة منها: أعلى وأدنى وأوسط، وهم درجات في الدنيا والآخرة، كما قارن فيها بين طبقات الجن والإنس. (¬2) القاضي ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: (3/ 472)، تحقيق: =

آدم على سائر الحيوانات والجن) (¬1). وذهب بعضهم إلى (أفضلية الجنس البشري على جنس الملائكة إذا كانوا صالحين) (¬2)، واستشهدوا بالأثر: (قالت الملائكة: يا ربنا إنَّك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها وينعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة، فقال اللَّه تعالى: "وعزتي وجلالي لأجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فيكون" (¬3). فهذا التكريم والتفضيل جارٍ وفق سنن اللَّه، وإن كان الناس يتفاضلون فيه وتتفاوت درجات تكريمهم إلا أن الصالحين منهم أوفر حظًّا في الدنيا والآخرة، والدليل على ذلك أن الكافر يقول يوم القيامة: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] وأن اللَّه شبه بعض الناس بالأنعام بل هم أضل إذا لم يفقهوا غاية وجودهم وما هم مأمورين به، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} ¬

_ = عبد السلام عبد الشافي محمد، (مرجع سابق). وانظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (5/ 190)، (مرجع سابق). (¬1) المصدران السابقان الصفحات نفسها. (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 51)، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (4/ 350 - 392)، (مرجع سابق). (¬3) أورده ابن كثير عن زيد بن أسلم وقال: بأنه مرسل من هذا الوجه ولكنه متصل من وجه آخر. المرجع السابق الصفحة نفسها، وقد أورده عبد الرزاق بن همام الصنعاني: (126 - 211 هـ) في تفسيره: تفسير القرآن عند تفسيره للآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: (2/ 382)، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1989 م)، عن مكتبة الرشد - الرياض.

[الرعد: 16]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22]. 2 - اصطفى اللَّه من بني آدم صفوة من الناس هم الأنبياء والرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. 3 - فضل اللَّه بعض الرسل على بعض كما في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. قال المفسرون في قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: (يعني محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬1). والأدلة على ذلك من الكثرة بمكان منها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه اللَّه تعالى إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة" (¬2). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأُحلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِمَ بي النَّبِيُّون" (¬3). ¬

_ (¬1) البغوي: معالم التنزيل: (1/ 308)، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (4/ 138، 139)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب [1]، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). (¬3) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 371)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب [523]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). وجاء الحديث عند البخاري برواية أخرى عن جابر بن عبد اللَّه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم =

وقد أُلِّفَتْ في مناقبه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفضائله وخصائصه مؤلفات كثيرة، وفي فصل خاص من كتاب أبي نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة، ذكر ما فضِّل به -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم، وممَّا قال في تعليقه على بعض الأحاديث والروايات التي أوردها في ذلك قوله: (فتبين بهذا جلالة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعظيم أمره، وما شرع اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على لسانه من شرائع، وتنبيه عباده على وحدانيته، ودعاؤهم إلى الإيمان به. . . وهو أعز البرية وأكرم الخلقة صَلَّى اللَّه عليه وسلم تسليمًا) (¬1). ومما ذكره ابن تيمية في هذا قوله: (فهدى اللَّه الناس ببركة نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا ولأولي العلم منهم خصوصًا، من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم، علمًا وعملًا، الخالصة من كل شوب، إلى الحكمة التي بعث بها، لتفاوتتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى) (¬2). ¬

_ = تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"، صحيح البخاري - كتاب التيمم رقم الحديث: [335]، وله طرفان رقمهما: (438 و 3122)، عند البُغا (مرجع سابق)، وانظر: فتح الباري: (8/ 325 و 1/ 436)، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: ص: (8)، تحقيق: بشير محمد عيون، الطبعة الأولى: (1413 هـ)، مكتبة دار البيان - دمشق، أجمل فيها فضائل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفضائل ما جاء به وفضائل أمته. (¬1) دلائل النبوة: (1/ 64)، تحقيق: محمد روَّاس قلعة جي، وعبد البر عباس، الطبعة الثالثة: (1406 هـ - 1986 م)، بيروت. وانظر. ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. .: (1/ 374 - 379)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، (مرجع سابق). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم. .: ص: (3)، تحقيق: محمد حامد فقي (مرجع سابق).

4 - أما تميُّز الأمة الإسلامية على غيره من الأمم فقد سبق بيان طرف منه، وأن هذه الأمة المتميزة هي أمة الاتباع لهديه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن لها من الشرف والكرامة في الدنيا والآخرة ما استفاضت بذكره الأدلة والحوادث التاريخية. ولعل مما يجدر ذكره في هذا ما قاله الطبري في تفسير قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]: (يقول تعالى ذكره: اجتباكم وسماكم أيها المؤمنون باللَّه وآياته، من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلمين، ليكون محمد رسول اللَّه شهيدًا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم شهداء حينئذٍ على الرسل أجمعين، أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم) (¬1). كما أورد الطبري كذلك في تفسير هذه الآية عن قتادة قوله: (أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وقال اللَّه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وكان يقال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنت شهيد على قومك، وقال اللَّه: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] وكان يقال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: سل تعطه، وقال اللَّه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬2). ومما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. ¬

_ (¬1) جامع البيان. .: (9/ 194)، (مرجع سابق). وانظر ما قاله في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} المرجع السابق نفسه: (2/ 8 - 13)، وانظر: البغوي: معالم التنزيل: (1/ 159)، قال في تفسيرها: (أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين)، وهذا ما عليه جمهور المفسرين، (مرجع سابق). (¬2) جامع البيان: (9/ 195)، (المرجع السابق نفسه). وانظر: عبد الرزاق همَّام الصنعاني: تفسير القرآن: (2/ 41)، (مرجع سابق).

قوله: (. . عن جابر بن عبد اللَّه: أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنِّي وأمتي لعلى كومٍ يوم القيامة، مشرفين على الخلائق، ما أحد من الأمم إلا وُدَّ أنَّه منها أيتها الأمة، وما من نبي كذَّبه قومه إلا نحن شهداؤه يوم القيامة أنَّه قد بلغ رسالات ربه ونصح لهم" (¬1)، وأورد البغوي كذلك في تفسيره لهذه الآية نحوًا من ذلك ثمَّ قال -في نهاية ما رواه عن ابن جريج-: (ثمَّ يُؤْتَى بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم) (¬2). ولا شك أن من يحوز على هذا الفضل والمكانة المرموقة في الدنيا والآخرة من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هي أمة الاتباع -كما سبق الإشارة إليه- الملتزمون بهدي الإسلام المقتدون بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في جميع شؤونهم؛ الذين اصطبغوا بصبغة الإسلام مضمونًا وشعارًا فتميزوا به ونسبوا إليه. قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]: (من اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في حجة حجها رأى من الناس دعة فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال: "من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدِّ شرط اللَّه فيها") (¬3). أما ما أورده بعض العلماء والمفكرين عن سبب اختيار اللَّه -عز وجل- العرب لحمل هذه الرسالة فذلك: الأنهم امتازوا من بين سائر الأمم -يومئذٍ- باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم وتلك هي: جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد ¬

_ (¬1) جامع البيان. .: (2/ 10 و 11)، (مرجع سابق). (¬2) معالم التنزيل: (1/ 159)، (مرجع سابق). (¬3) تفسير القرآن العظيم: (1/ 396)، (مرجع سابق).

عن الاختلاط ببقية أمم العالم) (¬1)؛ فإن لذلك أهميته في مكانة الأمة الإسلامية وخيار أصلها وعنصرها وبخاصة ولاة أمرها، ولكن هذا لا يعول عليه ولا يعتدّ به إلا بشرط اعتناق الإسلام والاعتزاز يه والخضوع لحكمه واتباع منهجه في الحياة والنهوض بصدق وإخلاص بحمل رسالته. ومما يدل على ذلك قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". (¬2)، ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قوله: "إنا قوم أعزنا اللَّه بالإسلام فلن نلتمس العزّ بغيره" (¬3)، وورد لدى الحاكم بلفظ: "كنتم أقل الناس فأعزكم اللَّه بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغيره أذلكم اللَّه" (¬4). ومما يؤيد ذلك أيضًا أن ما تميز به العرب قبل الإسلام من صفات تدل على ما فيهم من صفات المروءة والشجاعة والكرم، وغير ذلك لم تمنعهم من معاداتهم للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويشير محمد رشيد رضا بعد تناوله مزايا قريش وقوم الرسول وعترته إلى هذا الأمر فيقول: (ولكن هذه المعنوية كلها وجِّهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة والسلام) (¬5)، في بداية الأمر ثم ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: (89)، (مرجع سابق). وانظر: ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، ص: (132)، الطبعة الرابعة: (1398 هـ - 1978 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت. وانظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط، ص: (148)، تحقيق: محمد حامد الفقي (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (4/ 154)، كتاب المناقب، باب: [11]، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) الإمام الحافظ أبو بكر عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار: (7/ 93)، تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، عن دار التاج - بيروت، الطبعة الأولى: (1409 هـ - 1989 م). (¬4) الحاكم: المستدرك: (3/ 88)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، (مرجع سابق). (¬5) خلاصة السيرة المحمديّة: ص: (14)، (مرجع سابق).

دخلوا في دين اللَّه أفواجًا وحملوا راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتحقق فيهم قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه" (¬1). مما سبق يتضح أن مناط الخيرية مرتبط بتحقيق التميز ودال على منزلته، وأن العبرة في علو المنزلة وشرف المكانة لا يتأتى إلا بصبغة الإسلام {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. ويرى ابن تيمية بأنَّ العرب قد (اجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم. والكمال الذي أنزل اللَّه إليهم) (¬2)، و (أن اللَّه تعالى خصَّ العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها. ثم خصَّ قريشًا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص. ثمَّ خصَّ بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص، فأعطى اللَّه سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها) (¬3). ويرى (أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر؛ ومقتضاه: أنهم أفضل من غيرهم، وأن محبتهم سبب قوة الإيمان. . وسبب هذا التفضيل -واللَّه أعلم- ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم) (¬4). وبعد أن يفصل القول في ذلك يقول: (لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من ¬

_ (¬1) تكملة الحديث السابق الذي أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب - باب: [1]، وقد ورد بروايات متقاربة، (المرجع السابق نفسه). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: ص: (161)، تحقيق: محمد حامد الفقي، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 154. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم: ص 156، 160، (المرجع السابق نفسه).

السماء ولا شريعة موروثة عن نبي، ولا هم أيضًا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة، كالطب والحساب ونحوهما. إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم: من الشعر، والخطب، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب، فلما بعث اللَّه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالهدى -الذي ما جعل اللَّه في الأرض، ولا يجعل منه أعظم قدرًا- وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم من تلك العادات الجاهلية، والظلمات الفكريّة؛ التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها، فلما تلقوا عنه ذلك الهدي العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدي اللَّه الذي أنزله على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة) (¬1). وأضاف أنه (اجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل اللَّه إليهم) (¬2). وقبل ذلك ذكر أسباب التفضيل وأنَّه إنَّما يكون بالعلم النافع أو العمل الصالح، والعلم يحتاج إلى (قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم. . وقوة المنطق الذي هو البيان والعبارة) (¬3). وعلي هذا فإنَّ العرب أكثر تميُّزًا من غيرهم في ذلك، (فهم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. .) (¬4)، وحيث إن العمل (مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس) (¬5) فإنَّ العرب يتميزون على غيرهم في هذه الناحية كذلك لأن (غرائزهم أطوع للخير من غيرهم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (156). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (161). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (160). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (160). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (160).

فهم أقرب للسخاء والحلم، والشجاعة والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة) (¬1). ثم يشبه العرب من حيث الخصائص بالأرض الخصبة التي كانت (معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاة والعوسج، وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، و [ازدرع] فيها أفضل الحبوب والثمار: جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق اللَّه بعد الأنبياء. وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم) (¬2). ويكشف التمثيل عما يمتاز به العرب من فطرية وصلاح وقابلية لحمل رسالة الإسلام، ويتفق هذا مع قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الآنف الذكر: "تجدون الناس معادن. . . " الحديث، ويوافق شيخ الإسلام في ذلك جمهور من العلماء والمفكرين المسلمين في ماضي هذه الأمة الإسلامية وحاضرها (¬3). والمعول عليه في هذا ما ذكره -صلى اللَّه عليه وسلم- في تمام الحديث ". . . خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (160، 161). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم: ص: (162)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عبد اللَّه بن محمد بن حميد: التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية، ص: (13)، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1992 م)، عن مكتبة طبريّة، الرياض، قد لخص مجمل عقيدة السلف في الصفحات: (5 - 13)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) أورد محمد حامد الفقي في الحاشية: [1]، ص: (160)، من المرجع السابق، مبررات امتياز العرب على غيرهم. ولمزيد الاطلاع على ما تميَّز به العرب قبل الإسلام من عرف أخلاقي ومنطق أدبي. .؛ انظر: محمد رشاد خليل: ملامح من دور الإسلام في بناء العمارة (الحضارة) العربية قبل البعثة المحمديّة: ص: (622 - 658)، الطبعة الأولى: (1402 هـ - 1982 م)، (لم يذكر الناشر).

وخلاصة القول في كون التميز سنة من سنن اللَّه في خلقه يوضحه ما يأتي: - التفاضل بين جميع الخلق. . وكون بني آدم فضلوا على كثير من خلق اللَّه. - تفاضل بني آدم بعضهم على بعض والصفوة منهم هم الأنبياء والرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. - يتفاضل الأنبياء والمرسلون وأفضلهم محمد بن عبد اللَّه سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعلي سائر الأنبياء والمرسلين. - يتفاضل أفراد الناس بعضهم على بعض، وكذلك الأمم والأمة الإسلامية أفضل هذه الأمم، والمقصود بها أتباع الرسل بعامة وأتباع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بخاصة. - هذه الأمة (أمة الاتباع من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) هي أفضل الأمم ببركة نبيها، وبما خصها اللَّه به من مضاعفة الأجر وإجابة دعوتها وشهادتها على الناس وقيامها بالحق إلى أن يأتي أمر اللَّه. - وأفضل هذه الأمة بعد نبيها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم أفضل خلق اللَّه بعد الأنبياء، ثم أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسَّان إلى يوم القيامة من العرب والعجم (¬1). وهذا كله داخل ضمن سنن اللَّه في خلقه. * * * ¬

_ (¬1) انظر: عبد اللَّه بن محمد بن حميد: التوحيد وبيان العقيدة السلفيَّة النقيَّة: ص: (13)، (مرجع سابق).

الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه

الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه يكاد تميُّز الأمة الإسلامية أن يكون المحور الأساس الذي تدور حوله آيات العقيدة، والأحكام، والآداب، بل حتى القصص القرآني في مغزاه القريب والبعيد، وكذلك تطبيقات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمره لأصحابه بسمت معين يميزهم في العقائد والشعائر والعبادات والسلوك أمرًا به وثناءً على المتصفين بصفاتٍ لازمها التميز والحث على ذلك وذكر الوعد المترتب عليه، وتفصيل ذلك في الآتي: 1 - في سورة الفاتحة (وهي أم القرآن المتضمن لجميع علومه) (¬1) تميُّز الطريق بين طريقين يدل عليه أوضح دلالة قوله -عز وجل-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]. قال بعض المفسرين: الصراط المستقيم كتاب اللَّه، وقال بعضهم: هو الدين. وقال بعضهم الآخر: إنَّه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجمع ابن كثير بين هذه الأقوال بقوله: (وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة، فإنَّ من اتبع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واقتدى باللذين بعده، أبي بكر وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب اللَّه، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضًا وللَّه الحمد) (¬2)، وقبل ذلك قال: (اختلفت عبارات المفسرين من ¬

_ (¬1) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (1/ 78، 79)، (مرجع سابق). وانظر: البغوي: معالم التنزيل: (1/ 49)، (مرجع سابق)، وغيرهما من المفسرين. (¬2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 28)، (مرجع سابق).

السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد؛ وهو المتابعة لله وللرسول) (¬1). وذلك هو الطريق الذي يؤم ويقصد، وواضح أنَّ للذين يؤمُّونه ويقصدونه -وهم المنعم عليهم- صفات وخصائص تميزهم عن غيرهم، وهي صفات وخصائص تتجلى في كثير من سور القرآن وآياته تفصيلًا لما أجمل في الفاتحة، من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3 - 5]. ومن اللطائف في هذا ما ذكره بعض المفسرين في إشارة إلى المناسبة بين سورة البقرة والفاتحة، قال: (إنَّه لما شرع -جلَّ وعلا- في الفاتحة طلب الهداية لصراطه المستقيم الذي هو صراط المنعم عليهم، ناسب أن يبين من هم المنعم عليهم، فذكر من صفاتهم، وأنهم المتقون، وبين طريقتهم، وهو الإيمان والعمل الصالح) (¬2)، وهذا ما يميزهم، وقد رتَّب عليه الفلاح والهداية. يقول ابن قيم الجوزية: (كأنه قيل: وما يحصل لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات، فقيل: إنَّهم على هدى من ربهم وإنهم مفلحون) (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (28). (¬2) انظر: أبو الفضل شهاب الدين محمود الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 1/ 101، 102، الطبعة الأولى: (1415 هـ - 1914 م)، عن دار الكتب العلمية - بيروت، وانظر: جواهر البيان في تناسب سور القرآن: ص: (26)، الطبعة الثَّانية: (1406 هـ - 1986 م)، عن عالم الكتب، بيروت، (ولم يظهر عليه اسم مؤلفه). (¬3) بدائع التفسير، الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية: (1/ 261)، جمع وتوثيق وتصحيح: يسرى السيد محمد، الطبعة الأولى: (1414 هـ.)، عن دار ابن الجوزي - الدمام.

ومما يزيد هذا الأمر وضوحًا ما جاء بعد هذه الآيات من آيات تذكر من حال الكفَّار والمنافقين ما يُظْهِرُ تميُّز الأمة الإسلامية، ولعل هذا مما جعل بعض المفسرين يلحظ من قوله تعالى في وصف المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] معنًى لطيفًا يدل على منزلة التميز، وقد عبَّر عنه بقوله: (نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من اللَّه كريم. . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائمًا ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين اللَّه والمؤمنين إنَّه يجعل صفهم صفَّه، وأمرهم أمره، وشأنهم شأنه، وهذا هو التفضل العلوي الكريم. . الذي يرفع مقام المؤمنين، وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق. . وهذه الحقيقة. . جديرة أن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا، ويثبتوا، ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين) (¬1). 2 - على المنوال نفسه تتعانق المعاني والصور في القرآن الكريم من أوله إلى آخره بما يبرز منزلة تميُّز الأمة الإسلامية باعتباره من لوازم الصراط المستقيم من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51]، وقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16]. ويقول تبارك وتعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ويقول: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (1/ 43)، (مرجع سابق).

الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 126، 127]، ويقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، وروي عن جابر بن عبد اللَّه قال: (كنَّا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فخطَّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه وخطَّ خطَّين عن يساره، ثمَّ وضع يده في الخط الأوسط فقال: "هذا سبيل اللَّه"، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (¬1)، ومما روي عن عبد اللَّه بن عباس في تفسيرها وفي تفسير قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13] ونحو هذا مما في كتاب اللَّه قوله: (أمر اللَّه المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنَّما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين اللَّه) (¬2). 3 - ومن الآيات في هذا قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه: سنن ابن ماجه، المقدمة حديث رقم: [11]، (1/ 6)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وصححه الحاكم: المستدرك على الصحيحين: (2/ 348، 349)، الحديث رقم: (3241/ 358)، بترتيب: مصطفى عبد القادر عطا، وقال الحاكم عنه: (حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، (مرجع سابق). وانظر: الصحيح المسند في التفسير النبوي للقرآن الكريم لمؤلفه أبي محمد السيد إبراهيم بن أبو عمة، ص: (31)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م) عن دار الصحابة للتراث، طنطا. (¬2) صحيفة علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: في تفسير القرآن الكريم. .: ص: (219)، (مرجع سابق).

قال ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الكريم. هكذا فسرها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬1)، ثم أورد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما روي عن صهيب: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟، ألم تدخلنا الجنَّة وتنجينا من النار؟. قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عز وجل-" (¬2). وقوله لعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]. وقوله: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:41 - 43]. قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآيات: (قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. .) (¬3)، وقال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}: هؤلاء الذين هداهم اللَّه واجتباهم واختارهم واصطفاهم) (¬4). 4 - ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير. .: (2/ 398)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) رواه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 163)، كتاب الإيمان، باب: [80]، حديث: [181]، ورواه الترمذي: الجامع الصحيح: (4/ 593)، برواية نحو رواية مسلم، حديث رقم: [2552]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: المرجع نفسه، ص: (398). (¬3) الجامع لأحكام القرآن: (10/ 20)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: (10/ 20).

حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23، 24]. قال الطبري في تفسير هاتين الآيتين: (يقول تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا باللَّه ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم اللَّه به من صالح الأعمال، فإن اللَّه يدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، فيحليهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا) وقال -أيضًا-: (وقوله: {الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} دين الإسلام الذي شرعه لخلقه وأمرهم أن يسلكوه) (¬1). 5 - وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]. قال القرطبي: (ضرب اللَّه مثلًا للمؤمن والكافر) (¬2). وقال السعدي: (أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائهًا في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه فصار الحق عنده باطلًا، والباطل حقًّا، أو من كان عالمًا بالحق، مؤثرًا له، عاملًا به، يمشي على الصراط المستقيم، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، فبمجرد النظر إلى الحالين يعلم الفرق بينهما) (¬3). وقال ابن كثير: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة، هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم مفضٍ به الجنة الفيحاء، وأما الكفر فإنّه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم) (¬4). ¬

_ (¬1) جامع البيان. .: (9/ 127، 128)، (مرجع سابق). وانظر: البغوي: معالم التنزيل: (5/ 376)، (مرجع سابق). (¬2) الجامع لأحكام القرآن: (17/ 142)، (مرجع سابق). (¬3) تيسير الكريم الرحمن. .: (7/ 438)، (مرجع سابق). (¬4) تفسير القرآن العظيم: (4/ 399)، (مرجع سابق).

6 - وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 66 - 70]. وقال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 175]. قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] (¬1). وقال ابن قيم الجوزية في تفسيرها -أيضًا-: (فجعل الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللَّه تعالى وهم على ذلك) (¬2). 7 - ومما ذكره السعدي -في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} الآية- قوله: (ثم رتَّب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به وهو أربعة أمور: أحدهما: الخيرية في قوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي لكانوا من الأخيار ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز: (2/ 76)، (مرجع سابق). وانظر تفسير الرازي: ص: (88)، تحقيق: محمد رضوان الدَّاية، الطبعة الأولى: (1411 هـ)، عن دار الفكر المعاصر - بيروت. (¬2) بدائع التفسير. .: (2/ 39)، (مرجع سابق).

المتصفين بأوصافهم، من أفعال الخير، التي أمروا بها، وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار؛ لأنَّ ثبوت الشيء، يستلزم نفي ضده. الثاني: حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإنَّ اللَّه يثبت الذين آمَنُوا بِسبب ما قامُوا به من الإيمان، الَّذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا، عند ورود الفتن في الأوامر، والنواهي، والمصائب، فيحصل لهم ثبات، يوفقون به لفعل الأوامر، وترك الزواجر، التي تقتضي النفس فعلها، وعن حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق والصبر أو للرضا، أو الشكر، فينزل عليه معونة من اللَّه، للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين عند الموت وفي القبر. وأيضًا فإن العبد القائم بما أُمِرَ بِهِ، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها، ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. الثالث: قوله: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 67]. أي: في العاجل والآجل، الذي يكون للروح والقلب، والبدن، ومن النعيم المقيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الرابع: الهداية إلى صراطٍ مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره به، والعمل به وتوفق السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم فقد وفق لكل خير واندفع عنه كل شر وضير؛ أي: كل من أطاع اللَّه ورسوله -على حسب حاله، وقدر الواجب عليه، من ذكر وأنثى وصغير وكبير {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]. أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة (¬1). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن: (2/ 94 - 96)، (مرجع سابق).

ثم يفسر قوله تَعالَى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (بالاجتماع بهم، في جنات النعيم، والأنس بقربهم، في جوار رب العالمين) (¬1). 8 - تتحقق الاستقامة على الصراط المستقيم بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ولتلك الاستقامة التي أمر اللَّه بها وأمر بها رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لازم (ولازم الحق كما قال العلماء حق؛ لأَنَّ اللَّه تعالى عالم بما يكون لازمًا من كلامه وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيكون مرادًا) (¬2). أما لازم تلك الاستقامة فهو التميُّز والاستقامة مردودها على المستقيمين من الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ في الدنيا والآخرة وهو نفسه مردود التميُّز، وما يترتب على الإيمان والعمل الصالح من موعودٍ إلهي في الدنيا والآخرة يبين بجلاءٍ ووضوح منزلة تَمَيَّزُ الأُمَّة الإسلامِيَّة عن غيرها من الأمم. . وقد اتضحت فيما سبق منزلة تميُّز الأمة الإسلامية في الآخرة بخاصة. أَمَّا منزلة تميُّز هذه الأمة في الحياة الدنيا -وعلي وجه الأرض بالذَّات- فمن الأدلة على ذلك ما يأتي: الأولى: تحقق الأمن والرخاء، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. قال ابن عطية في تفسيرها: (والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر) (¬3)، وقد ربط اللَّه -عز وجل- الحياة الكريمة للأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ بالإيمان والتقوى إذا تحققا في الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ تَوفر لها الأمن النفسي والاجتماعي والأمن السياسي والعسكري، وتوفر لها الرخاء في المعيشة، وذلك بإنزال ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (2/ 96). (¬2) محمد بن صالح العثيمين: القواعد المثلى في صفات اللَّه وأسمائه الحسنى: (ص: 14)، الطبعة الأولى: (1412 هـ، عن دار الوطن، الرياض). (¬3) المحرر الوجيز: (2/ 432)، (مرجع سابق).

الغيث من السماء وإنبات الزرع، ولا تستقيم الحياة إلا في ظل هذين البعدين (¬1)، الأمن الشامل والرخاء العام؛ ولذلك جاء بعد هذه الآية قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]. وجاء هذا الوعيد الشديد بعد قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. الثَّانية: النصر والعزة والتمكين في الأرض، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. قال بعض المفسرين: (هذا من وعوده الصادقة، التي شُوهِدَ تأويلها ومخْبَرُها، وأن يُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فإن الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأُمَّة، لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شعائره الظاهرة والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان، وسائر الكفار، مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم أمنًا من بعد خوفهم، حيث كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدًا، بالنسبة لغيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل، فوعدهم اللَّه هذه الأمور، وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون اللَّه ولا يشركون به شيئًا، ولا يخافون أحدًا إلَّا اللَّه، فقام صدر هذه الأُمَّة، من ¬

_ (¬1) انظر: (عبد المنعم أبو زنط): (التميز الإسلامي): (ص: 17)، مرجع سابق.

الإيمان والعمل الصالح بما يفوق غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام، والتمكين التام، فهذا من آيات اللَّه العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح فلا بد أن يوجد ما وعدهم اللَّه (¬1). وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]. قال ابن كثير في تفسيرها: (فرقانًا: مخرجًا، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، وفي رواية ابن عباس (فرقانًا)، نجاة (¬2). وفي رواية عنه، نصرًا، وقال محمد بن إسحاق: (فرقانًا)؛ أي: فصلًا بين الحق والباطل. وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم، وهو يستلزم ذلك كله فإنَّ من اتقى اللَّه لفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة (¬3). وقال الطبري في تفسيره قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. . .} [النور: 55] الآية: (يقول تعالى: ليورثنهم اللَّه أرض المشركين من العرب ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (5/ 439، 440)، مرجع سابق. (¬2) ورد في صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم: (ص: 251)، بتحقيق: راشد الرجال: (فرقانًا، مخرجًا)، مرجع سابق. (¬3) تفسير القرآن العظيم: (2/ 301، 302)، مرجع سابق.

والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها. . .، وليوطئن لهم دينهم يعني ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها (¬1). وأورد في سبب نزولها عن أبي العالية قال: (مكث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عشر سنين خائفًا، يدعو إلى اللَّه سرًّا وعلانية،. . . ثمَّ أُمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها هو وأصحابه خائفون يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تغبرون (أي: لن تلبثوا) إلَّا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا فيه ليس فيه حديدة، فأنزل اللَّه هذه الآية" (¬2). ومما تُعْلَمُ بهِ منزلة تميُّز الأمة الإسلامية وآثاره العظيمة ما أشار إليه ابن قيم الجوزية بقوله: (عزيزٌ غالبٌ مؤيدٌ منصورٌ، مكفيٌّ، مدفوع عنه بالذّات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بتحقيق الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا. وقد قال اللَّه تعالى للمؤمنين: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. فهذا الضمان إنَّما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود اللَّه يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذا كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره (¬3)، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ ¬

_ (¬1) جامع البيان: (9/ 343)، مرجع سابق. (¬2) جامع البيان: (9/ 343)، المرجع السابق نفسه، وانظر: الواحدي: أسباب النزول: ص (247)، عن عالم الكتب - بيروت (بدون تاريخ)، ولم تذكر الطبعة، وقد ورد فيه: مكث رسول اللَّه بمكة عشر سنين بعدما أوحى اللَّه إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون. (¬3) بدائع التفسير: (2/ 86)، مرجع سابق.

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]. * * *

التعريض بمن لم يرع التميز والوعيد المترتب على عدم تحقيقه

التعريض بمن لم يرعَ التميُّز والوعيد المترتب على عدم تحقيقه مما لا ريب فيه أن التَّميز رافق تاريخ الأُمَّةِ الإسلامِيَّةِ الَّذي يضرب بجذوره في أعماق الزمان من حين كان الإشهاد على خلقهم وإقرارهم عليه، وقد رافق هذا التميز جميع أطوار هذا التاريخ كله، ذلك أَنّهُ صَبْغَةُ هَذه الأُمَّةِ صَبَغَها اللَّهُ بِهِ وَأَلزمها بتحقيقه، وكلما ظهر انحراف عن هذا التميز في أي طور من أطوارها توجَّه إليها بسبب ذلك -مع النهي والتعريض- اللوم والتوبيخ والوعيد الشديد من اللَّه -عز وجل-. ولعل مما يوضح ذلك بعض الأدلة الآتية: 1 - قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. ذكر المفسرون في صاحب هذه القصة أقوالًا كثيرة، نقدها بعض الباحثين بقوله: (لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير أن يكون واحدة منها، ولا يطمئن لكل تفصيلاته التي ورد فيها، ثُمَّ إِنَّ في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر. . وبما أنه ليس من النص القرآني منه شيء، ولم يرد من المرفوع إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه شيء: (فإننا) نأخذ من النبأ ما وراءه فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات اللَّه بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر. . فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده، وما هو محصور في قصة وقعت، في جيل من الزمان (¬1). ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (3/ 1397، 1398)، مرجع سابق.

ومما يؤيد هذا النقد والاختيار قول بعض المفسرين عن صاحب القصة: (يحتمل أنَّ المراد شخص معين، قد كان منه ما ذكره اللَّه، فقص اللَّه قصة تبينها للعباد، ويحتمل أنَّ المراد بذلك، أَنَّه اسم جنس، وأَنَّه شامل لكل من أتاه اللَّه آياته، فانسلخ منها (¬1)، ومهما اختلفت الأقوال في صاحب القصة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (¬2)، وفي ذلك قال الرازي: (المثل في السورة وإن ضرب لبلعام (¬3)، ولكن أريد به كفار مكَّة كلهم؛ لأنهم صنعوا مع النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسبب ميلهم إلى الدنيا وشهواتها من الكيد والمكر ما يشبه فعل بلعام مع موسى عليه الصلاة والسلام) (¬4). والشاهد من هذه الآية؛ حيث ذم اللَّه تعالى ذلك الشخص الذي آتاه اللَّه آياته، فانسلخ منها، وسواءً كان المراد شخصًا بعينه، أو اسم جنس لكل من أتاه اللَّه آياته فانسلخ منها، فإن ذكر قصته وتلاوتها على من بلغ، فيها التعريض بمن لم يحقق مراد اللَّه فيه؛ من العمل الصالح والالتزام بالهدي واتباع الحق وإيثاره. قال ابن قيم الجوزية في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (3/ 117، 118)، مرجع سابق. (¬2) قاعدة أصولية: انظر نجم الدين أبو الربيع الطوفي: شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي ص (501)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م)، عن مؤسسة الرسالة - لبنان. (¬3) رجل من بني إسرائيل اسمه (بلعم بن عورا)، انظر: الواحدي: أسباب النزول. ص: (169)، مرجع سابق. (¬4) محمد بن أبي بكر الرازي: تفسير الرازي. تحقيق: محمد رضوان الدّاية، ص: (160)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن عطية: المحرر الوجيز: (2/ 476، 477)، (مرجع سابق)، وانظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (7/ 204، 205)، مرجع سابق.

[الأعراف: 76]: (أخبر سبحانه أنَّ الرفعة عنده ليست بمجرد العلم،. . . وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة اللَّه. . . والمعنى: لو شئنا فصّلناه وشرفناه ورفعناه قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه (¬1). وحاصل ذلك أن الشرف والرفعة وعلو المنزلة تكمن في الالتزام بمنهج الإسلام، وما يتصل بذلك التميُّز من لوازم، فإذا لم يتحقق ذلك فإنَّ مثل من بلغه الإسلام ولم يرفع به رأسًا {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]. ومما يؤيد هذا الاستنتاج أيضًا؛ النظر في سياق الآية إذا جاءت عقب قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172] فقد رسمت هذه الآيات خطًا واضحًا متميزًا ألزم اللَّه جلَّ وعلا النّاس بسلوكه وانتهاجه وعاب عليهم الاحتجاج بصنيع الآباء إذا كان باطلًا ومخالفًا للعهد والميثاق الذي عاهدهم عليه وواثقهم به؛ سواء (حين كانوا في عالم كالذر أو إشارة إلى ما أودع في فطرهم من الاستسلام والخضوع للَّه جَلَّ وعلا والإيمان به) (¬2). المهم أنَّ من خرج عن هذه السنة لحقه اللوم والتوبيخ؛ لأنَّ ذلك انتكاس عن الفطرة ونكثٌ للعهد ينزل بصاحبه إلى أسفل سافلين. ثم أعقب الآيات محل الشاهد قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. ¬

_ (¬1) بدائع التفسير: (2/ 310)، مرجع سابق. (¬2) انظر: (السعدي): (تيسير الكريم الرحمن): (3/ 114 - 116)، مرجع سابق.

وفي مجمل هذه الآيات دليل بين على التعريض بمن لم يحقق التميُّز على صعيد الفرد، وعلي صعيد الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ عَلى امتداد تاريخها كله. 2 - والقصص القرآني يشتمل على أساليب عدة فيها من التعريض بمن زاغ عن منهج الإسلام، وفيها من الدم والوعيد الشديد ما يكفل الحذر من الوقوع في مثل ذلك وأخذ العبرة مما حلَّ به، فردًا كان أو أُمَّةً، وفي قصص بني إسرائيل العبرة الكافية للدلالة على التميز من هذه الناحية، فقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تصور تاريخهم (وهم يمرون بحالاتٍ ثلاثٍ: حالة المن والعطاء، وحالة الجحود والإباء، وحالة الانتقام والجزاء، وذلك ليكون في قصصهم عبرة وعظة، تهدي الناس إلى أن يقوموا نحو خالقهم بواجب العبادة والشكر، حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من عقوبات) (¬1). قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 145]، تجاوزت هاتان الآيتان بظلالهما التهديد والوعيد الشديد لمن خالف أمر اللَّه وعصاه في الماضي وحلَّت به العقوبة إلى التعريض بمن يخالف سبيل الرشد إلى سبيل الغي ويتكبر في الأرض ويكذب بآيات اللَّه ويغفل عنها، وفي ذلك يقول الطبراني: (وإنَّما قال: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] كما يقول ¬

_ (¬1) محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في القرآن الكريم ص: (328)، الطبعة الأولى: (1407 هـ - 1987 م)، عن الزهراء للإعلام العربي - القاهرة.

الحالة الأولى: حالة المن والعطاء

القائل لمن يخاطبه: سأريك غدًا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره) (¬1). والحقيقة أنَّ هذا التعريض ببني إسرائيل جاء في قمة ما أنعم اللَّه به عليهم من التكريم والاختيار والنصر والعزّة والعفو عنهم، ولكن بدت منهم علامات الزيغ والانحراف ومقابلة نعم اللَّه عليهم بالجحود والإنكار والطمع وقساوة القلب حتى بلغ بهم الأمر مبلغًا سلبهم اللَّه بسببه نعمة الاختيار والتفضيل والتكريم، وضرب عليهم الذِّلَّة والمسكنة واللَّعنة، وباؤوا بغضب من اللَّه، وجعل منهم القردة والخنازير، وتأذن ليبعثنّ عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، وهذه جملة من الآيات تبين الحالات الثلاث التي سبق الإشارة إليها: الحالة الأولى: حالة المن والعطاء: - قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 29 - 32]. - وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} [الأعراف: 137] - وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس: 93]. ¬

_ (¬1) جامع البيان: (6/ 59)، مرجع سابق، وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (2/ 246)، مرجع سابق.

الحالة الثانية: حالة الجحود، أو موقف بني إسرائيل من هذا المن ومن ذلك العطاء

- وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]. هذه الآيات الكريمة تبين حالة المن والعطاء التي أنعم اللَّه بها على بني إسرائيل، وأنها جاءت إكرامًا من اللَّه لهم بما صبروا على ظلم فرعون وقومه لهم، وأنَّ اللَّه اختارهم على علم على العالمين، وفضلهم على من سواهم من الأمم بالنصر أولًا على عدوهم، وإكرامهم بالكتاب المنزل عليهم وهو التوراة والحكم والنبوة والرزق، وبهذا تميزوا على غيرهم تَمَيُّزًا ربانيًا بلغ قمته، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، فقد نجاهم اللَّه من بطش فرعون وظلمه، واختارهم على عالم زمانهم، فبعث فيهم أنبياء كثيرين، وآتاهم على يد موسى من الدلائل ما فيه اختبار ظاهر لهم، ولكنهم -ولحكمة يعلمها اللَّه- قابلوا هذا التفضيل وذلك التكريم بنوعٍ من الجهالة والإخفاق في تحمل مسؤولية ذلك التميُّز، وهذا واضح في كثير من مواقفهم التي قصها القرآن الكريم في مواضع كثيرة إلى جانب ما ذكر هنا (¬1). الحالة الثانية: حالة الجحود، أو موقف بني إسرائيل من هذا المن ومن ذلك العطاء: ويلمح في سياق الدلائل التي أظهرها اللَّه لبني إسرائيل على يد نبيهم موسى -عليه السلام-، والنعم التي أولاهم إياها إرهاصًا، وابتلاءً يتراوح بين العفو عنهم عندما ينحرفون عن الجادَّة، وتظهر منهم علامات كفران النِّعمَةِ، ودعوتهم لِتَجْديد التوبة وملازَمَةِ صراط اللَّه المستقيم، وعرض الفتن بمختلف صورها على صعيد العقيدة والشريعة والأخلاق ¬

_ (¬1) انظر: عبد الستار فتح اللَّه سعيد: معركة الوجود بين القرآن والتلمود ص: (90 - 107)، مرجع سابق.

والسلوك، حتى انكشفت النفسية اليهودية في مسارها العام حيال هذا المن والعطاء، وأنها قابلته (بالظلم، والتبديل، والاعتداء، والفسق، والتناسي، استهانة بالحق، واستخفافًا بنذر العذاب الشديد) (¬1). - قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 92 - 101]. - وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]. ¬

_ (¬1) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: المرجع السابق نفسه ص: (102).

الحالة الثالثة: حالة الانتقام والجزاء

الحالة الثالثة: حالة الانتقام والجزاء: بعد هذا الإلحاد في آيات اللَّه، والخروج عن منهجه، وعدم تحقيق التميُّز الذي يستوجبه ذلك المن والعطاء والاختيار والتكريم صدر الحكم الإلهي العادل والقضاء الماضي. . وهذه عدة آيات تبين ذلك: - قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]. - وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]. - وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. - وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78 - 80]. - وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]. - وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ

الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]. - وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]. هذه الحالات الثلاث التي اتسم بها تاريخ بني إسرائيل يكشف عن منزلة التميُّز، وأَنَّهُ من لوازم سبيل الرشد والطريق المستقيم، وأَنَّ المن والعطاء الذي أحاط ببني إسرائيل كان من أجل حمل رسالة الدين والاستقامة على منهج اللَّه، وإذ لم يحققوا ذلك وتنكبوا طريقه سلبهم اللَّه ما أنعم به عليهم، واصطفى لحمل رسالته قومًا آخرين. يقول أحد الباحثين: (ولقد اختارهم اللَّه حقًا ذات يوم وكانوا شعب اللَّه المختار. . . ولكنهم عند الابتلاء سقطوا وجحدوا تلك النعمة فلم يرعوها حق رعايتها (وكانت) صفحتهم سوداء. . . أدت إلى نزع العهد منهم ورفع الاختيار عنهم ومنحه لأُمَّةٍ سواهم. . هي التي قال لها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1) [آل عمران: 110]. إن هذا المصير الذي آلت إليه اليهود ينطبق على كلِّ من هذا حَذْوهم بدءًا بالنَّصارى الَّذين قال اللَّه عنهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]. وينطبق ذلك على المشركين كافَّة وعلي المنافقين وعلي المبتدعين بقدر ¬

_ (¬1) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة: ص: (79 - 81)، الطبعة الأولى: (1403 هـ - 1983 م)، عن دار الشروق - بيروت.

بدعتهم، كما قال بعض الباحثين: (ما من طائفة من طوائف الأُمَّة خرجت عن السنة إلَّا وقعت في شيء من سنن الأُمم الهالِكَةِ. . وفيها شبه بالكفّار يقل أو يكثر) (¬1). ومما يروي عن بعض السلف أَنَّهُ كان يقول: (من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النَّصارى) (¬2). ولعل ممَّا يتناسب مع هذا ما روي عن غضيف بن الحارث الثُّمالي أَنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلُها مِن السُّنة" (¬3). وبالجملة فإنَّ من لم يحقق التميُّز يدخل فيما سبق من التعريض والذَّم والوعيد الشديد في الدنيا والآخرة، ولعل في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. لعل في هذه الآية من الإطلاق ما يتناول كل من لم يحقق التميُّز الذي هو نتيجة لاتباع سبيل المؤمنين، ولازم من لوازم ذلك. قال ابن كثير في معنى هذه الآية: (أي: ومن سلك غير طريق الشريعة ¬

_ (¬1) ناصر بن عبد الكريم العقل: من تشبه بقوم فهو منهم ص: (16 و 13)، الرسالة رقم: (6)، من رسائل ودراسات في منهج أهل السنة، عن دار الوطن - الرياض، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل: (1/ 28)، مرجع سابق. (¬2) يروى هذا القول عن سفيان بن عيينة وغيره. انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . (1/ 67، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل)، مرجع سابق. (¬3) أخرجه الإمام أحمد: (4/ 105)، مرجع سابق، وجاء عن ابن شيبة بلفظ: (ما من أُمَّة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة): عمر بن شبة: تاريخ المدينة المنورة: (1/ 10)، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، طبعة دار الكتب العلمية، القاهرة، 1996 م، انظر نص الحديث وتخريجه، ما قيل عن بعض رواته لدى السيوطي: مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة حديث: (259)، ص: (124)، تحقيق: بدر بن عبد اللَّه البدر، طبعة: (1414 هـ - 1993 م)، عن دار النفائس - لبنان.

الَّتي جاء بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له. وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]. هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأُمَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ فِيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا فإنّه قد ضمنت لهم العصمة -في اجتماعهم- من الخطأ تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيهم) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 554. 555)، مرجع سابق.

النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية

النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهليَّة تنبثق منزلة تميُّز الأمة الإسلامية من استقامتها على صراط اللَّه المستقيم، الَّذي ألزم اللَّه به عباده، وأكد عليهم انتهاجه، وذَكَّرَهُم به حتى في دعائهم، بل في كل ركعة يصلونها للَّه جلَّ وعلا؛ لئلا يزيغوا عنه، ووصفه بالاستقامة فقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]. وهذا الصراط الذي وصفه تعالى بأنه مستقيم، وأنه صراط المنعم عليهم، هو المنهج الذي اختاره اللَّه لعباده، وأمرهم بالسير فيه، وأن تتم عبادتهم له، واستعانتهم به، وما يتبع ذلك من أمور العبادة والعقيدة في حدوده، فينطلقون إلى اللَّه من منطلقه، ويلزمون جادَّته، ويتجهون فيه إلى غايته، وأبان اللَّه هذا المنهج لخلقه منذ آدم -عليه السلام- وحتى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما بين -جلَّ وعلا- أن عباده انقسموا تجاه هذا الصراط إلى ثلاث أمم على مدى التاريخ؛ أمة عرفت الحق وتركته، (كاليهود ونحوهم) (¬1)، وأُمَّة زاغت عن الحق، وعبدت اللَّه بجهل وفي ضلال (كالنصارى ونحوهم) (¬2)، وأمَّةٌ ثالِثَةٌ أنعم اللَّه عليها بالاستقامة على صراطه المستقيم، وهي الأمة الإسلامية. وتعني الاستقامة على الصراط المستقيم في حق أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بخاصة (لزوم الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملًا) (¬3). ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (1/ 37)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (37). (¬3) المرجع السابق نفسه ص: (36).

ومن لوازم ذلك مخالفة الأمتين الأخريين وعدم التشبه بهما (في الجملة، سواء كان ذلك عامًّا، في جميع أنواع المخالفات أو خاصًّا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب) (¬1)، لعدة أسباب منها: 1 - لأنَّهما على منهجين طرفين إمّا غلو وبدعة سببهما الجهل والضلال، وإما تحريف وانتحال وباطل سببه النكوص عن الحق ومعاداته، والأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ على منهج مستقل عن هذين المنهجين المنحرفين ذات اليمين وذات الشمال، متميِّز بما ميَّزَه اللَّه به من الحق والعلم والحكمة فوجب التمسك به ومخالفة ما عداه؛ لأنَّه الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73]. 2 - لأنَّ التشبه إذا كان فيما حذَّرَ منه الشارع يعني المتابعة في شيء من أمور العقيدة أو الشريعة أو الشعائر، ويعد ذلك هبوط من الأعلى للأدنى، وحيث إنَّ منهج الإسلام هو الحَقُّ فَإِنَّ التَّشَبه بما عليه الغير فيه متابعة للأَهواء أو الشُّبْهات أو الشهوات، وهذا مناف لمنزلة تميُّز الأمة الإسلامية، واتباعٍ لِسبيلِ غير المؤمنين، وفي ذلك وعيدٌ شديدٌ، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. 3 - ولما يفضي إليه التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية من محاذير قد تمس عقيدة الإيمان التي كان التميز من ثمارها المباركة، ومن تلك المحاذير: (المشاكلة بين المُقَلِّد والمُقَلَّد -بمعنى التناسب الشكلي والميول في القلب، والانصهار، والموافقة في الأقوال والأعمال، وهذا أمر مخل ¬

_ (¬1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 82)، تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق.

بالإيمان) (¬1)، ومنها الإعجاب بالمناهج الأخرى في بعض عاداتها أو شعائرها أو نحو ذلك مما يورث ازدراء السنن، وازدراء الحق والهدي الَّذي جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، كما أن في المشابهة محظورًا آخر وهو ما (تورثه من المحبة والموالاة بين المُتَشابهين، فَإِنَّ المُسلم إذا قلَّد الكافر لابد أن يجد في نفسه إلفة له، وهذه الإلفة لابد أن تورث المحبة، وتورث الرِّضى، والموالاةِ لِغير المُؤْمِنينَ، وَالنُّفْرَةِ من الصّالحينَ المتقين العاملين بالسنة، المستقيمين على الدين، وهذا أمر فطري ضروري، يدركه كل عاقل، خاصة إذا شعر المقلد بالغربة أو شعر؛ بما يسمى بالانهزامية النفسية) (¬3)، وعندئذ تهتز ذاتية المسلم ويشعر بالمذلة والصغار؛ لأنَّ المقلِّد يكون في موقف الأَدنى والمقلَّد له صفة العظمة والعزة، وهذا شعور يتنافى مع ما أراده الإسلام لأُمَّتِهِ وَأفرادها من التميز والرفعة والعزَّةِ، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. هذه أهم أسباب النهي عن التشبه بأهل الكتاب وغير المسلمين، ولذلك قرَّر علماء الشريعة الإسلامية أنَّ النَّهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية (قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب، واصطلاحًا جامعًا من أصولها كثير الفروع) (¬4). وشدَّد بعضهم في التحريم مثل (ابن كثير وابن تيمية والمناوي والصنعاني وغيرهم) (¬5). ¬

_ (¬1) ناصر بن عبد الكريم العقل: من تشبه بقوم فهو منهم ص: (10)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (10). (¬3) المرجع السابق نفسه ص: (10، 11). (¬4) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 61، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل)، مرجع سابق. (¬5) انظر أحمد بن الصديق الغِماري: الاستخفار لغزو التشبه بالكفار ص: (79)، تحقيق: عبد اللَّه التليدي، الطبعة الثانية: (1409 هـ)، عن دار البشائر الإسلامية - بيروت.

1 - المراد بالتشبه المنهي عنه

يقول ابن تيمية: (دلَّت دلائل الكتاب والسنَّة والإجماع والآثار والاعتبار على أن مخالفة الكفار في هديهم مشروعة والتشبه بهم منهي عنه) (¬1). ولتوضيح ما يتصل بمنزلة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ يمكن استعراض ما قَرَّرَهُ عُلَماءُ الأُمَّةِ في النهي عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم بإيجاز، في النقاط الآتية: 1 - المراد بالتشبه المنهي عنه. 2 - النهي عن التشبه في مجال العقيدة. 3 - النهي عن التشبه في مجال العبادة. 4 - النهي عن التشبه في مجال الشعائر والمظهر العام. 1 - المراد بالتشبه المنهي عنه: من أجل معرفة التشبه المنهي عنه لا بدَّ من التَّعَرف على مفهوم التَّشَبه في معناه اللُّغَوي، ثم تحديد التَّشَبه المَنْهِي عَنهُ، فأمّا معنى التشبه اللغوي، فهو مأخوذ من: (الشِّبْه والشَّبه والشَّبيه) (¬2) وتعني: (المماثلة من جهة الكيفية، كاللون والطعم، كالعدالة والظلم) (¬3)، ومن ذلك قوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] قال الراغب: (أي في الغَيِّ والجَهالَةِ) (¬4)، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا ¬

_ (¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 420)، المصدر السابق نفسه. (¬2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (شبه)، مرجع سابق. انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، مادة (شبه)، مرجع سابق. (¬3) الراغب الأصفهاني: المرجع السابق نفسه: مادة (شبه)، وانظر: محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف (معجم لغوي مصطلحي)، مادة (الشبْه والشَّبيه)، تحفيق: محمد رضوان الداية، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م)، عن دار الفكر، دمشق. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن مادة (شبه)، المرجع السابق نفسه.

مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]: (يعني ما يشبه بعضه بعضًا في الأحكام، والحكمة، واستقامة النظم) (¬1)، وفي (التشبه)، معنى زائد على المماثلة وهو (المحاكاة والتقليد) (¬2). وأما التشبه المنهي عنه فإنه: (مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم في عقائدهم، أو عباداتهم أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم) (¬3). ويخرج من دائرة النهي (ما لم يكن من خصائص الكفَّار، ولا من عقائدهم، ولا من عاداتهم، ولا من عباداتهم، ولم يعارض نصًّا أو أصلًا شرعيًا، ولم يترتب عليه مفسدة، فإِنَّه لا يكون من التشبه، وهذه قاعدة مجملة) (¬4)، وكذلك ما كان مشروعًا في الإسلام وفعله السلف الصالح، ¬

_ (¬1) الراغب الأصفهاني: المرجع السابق نفسه: مادة (شبه). (¬2) انظر: بطرس البستاني: محيط المحيط (قاموس مطول في اللُّغة العربية)، (2/ 1750)، طبعة (1870 م)، بيروت، (لم يذكر الناشر). (¬3) ناصر عبد الكريم العقل: من تشبه بقوم فهو منهم ص: (7)، مرجع سابق، وانظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم ص: (64 - 69)، بتحقيق: محمد حامد الفقي، مرجع سابق، قد جعل لهذا عنوانًا جانبيًا وهو (قطعت الشريعة المشابهة في الجهات والأوقات أو الهيئات)، انظر المرجع السابق نفسه ص: (64). (¬4) المرجع السابق نفسه ص: (7)، وانظر: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 418)، تحقيق: عبد الكريم ناصر العقل، مرجع سابق، فقد أشار إلى جانب آخر وهو أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمور بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، أو الاطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، وهذا من يسر الدين الإسلامي ومراعاته للظروف والأحوال، فالقيام فيه على القدرة، ولا يكلف اللَّه نفسًا إلّا وسعها.

إذا انتهج غير المسلمين شيئًا من ذلك واعتادوه وظهروا به فلا كلام فيه (¬1). ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق التفريق بين أمرين اتسم بهما تميُّز الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، وانطبعت عليهما شخصية الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ في علاقتها بِغَيرها مِنْ أَهل الكتابِ وأَهْلِ الجاهِلِيَّةِ، الأَمر الأول ما يوجبه الإسلام من البراء من أولئك والحذر منهم والنهي عن التشبه بهم، فيما يتصل بعقيدة الإسلام وشريعته وهديه، والأمر الآخر صلات البر وحسن المعاملة، والبعد عن ظلمهم، أو الاعتداء عليهم، وهو جانب تميَّزت به الأُمَّةُ الإِسْلامِيَّةُ فِي تعاملها مَعَهُمْ، وشهد لها المنصفون بذلك، وبما اتسمت به حضاراتها وثقافتها من التسامح معهم، والبر بهم، والإحسان إليهم عبر التاريخ تحقيقًا لقول الحق تبارك وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لم أبعث لعانًا وإنما بُعثتُ رحمة" (¬2)، وقول اللَّه -جلَّ وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وهذا الأمر وما يندرج تحته من الصلات الإنسانيَّة والمعاملات المتصلة بشؤون العمران والحضارة لا يدخل في النهي؛ وهذا ما قرَّره علماء الأُمَّة، وذكروا أن النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية إلا يعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة، والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم. فالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استأجر ابن أريقط (¬3) اللَّيثيَّ ليدله على الطريق وهو كافر ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم ص: (180)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مرجع سابق. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 2007)، كتاب البر والصلة والآداب، باب: (24)، الحديث رقم: (2599)، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬3) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 130)، مرجع سابق، وقد ورد ذكر هذا الرجل =

2 - النهي عن التشبه في مجال العقيدة

واستدان من بعض اليهود (¬1)، وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار، وهذا من باب الشراء منهم بالثمن. . . وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم، فإنَّ اللَّه أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم) (¬2). 2 - النهي عن التشبه في مجال العقيدة: استفاضت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وفهم سلف الأُمَّة في النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية في مسائل عدة من مسائل العقيدة من أبرزها: الغلو في الدين، والاختلاف فيه والرهبانية، وتعطيل الحدود، واتخاذ القبور مساجد، والمغالاة في الأنبياء والصالحين، وبعض الشركيات الأخرى؛ التي نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَهُ أن تسلُك فيها مَسْلَكَ اليهود والنصارى والفرس والروم وغيرهم مما يطلق عليه في الإسلام مسمى الجاهلية. {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى ¬

_ = في حديث الهجرة في قول أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-: (واستأجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدِّيل. . . وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما)؛ أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1419)، كتاب فضائل الصحابة، باب: (74)، الحديث رقم: (3692/ 3694)، بتحقيق: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬1) انظر: ابن قدامة: المغني: (6/ 375)، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي وآخر، الطبعة الأولى، (1408 هـ - 1988 م، عن دار هجر - القاهرة). (¬2) صالح بن فوزان بن عبد اللَّه الفوزان: الولاء والبراء في الإسلام، مجلة البحوث العلمية، العدد (25)، ص: (125)، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء - الرياض، عن (رجب/ شوال)، 1409 هـ.

شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 16 - 19]. حيث بينت الآية ما فضل اللَّه به بني إسرائيل وما أنعم به عليهم من نعم، وما حدث منهم من اختلاف، ثُمَّ ربطت ذلك بما آل إليه الأمر من كون الرسالة نُزعت منهم، وجعلت في محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من وأُمَّتِهِ، وَأَنَّهُم مأمورون باتباع ما شرعه اللَّه لهم ومنهيون عن متابعة أهواء الذين لا يعلمون (ويدخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعة الإسلام) (¬1)، ويدخل في أهوائهم: (هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه؛ وموافقتهم فيه: أتباع لما يهوونه. . . ولو فرض أنْ ليس الفعل من أتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك تكون أحسم لمادة متابعتهم، وأعون على حصول مرضاة اللَّه في تركها) (¬2). وقد جاءت هذه الآية عامَّة في النهي عن أتباع أهواء الَّذين لا يعلمون، ومعنى الهوى: ما خالف الحق ومال بصاحبه إلى شهوة وسقط به من علوٍّ إلى سفل (¬3)، وقد جاء في الآية (بلفظ الجمع تنبيهًا على أنَّ لكل واحدٍ هوى غير هوى الآخر، ثُمَّ هوى كل واحدٍ لا يتناهى، فإذًا اتباع أهوائهم نهاية الضلال والحيرة) (¬4). وإذا كان النهي في هذه الآية وأمثالها عام، فإنّه قد ورد من الآيات والأحاديث وأقوال السلف ما ينص على مسائل معينة وأمور محددة من ذلك الآتي: ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 85)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (85). (¬3) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (هوى)، مرجع سابق. (¬4) المرجع السابق نفسه: مادة (هوى).

أ - حادثة تحويل القبلة، قال اللَّه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، نقل ابن كثير في تفسيرها عن كثير من السلف قولهم: (معناه لِئَلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع اللَّه بمخالفتهم في القبلة هذه الحجَّة) (¬1). ب- ما حدث من بعض الصحابة من منازعة في القدر، ونهي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، وأنه كان سبب هلاك الأمم السابقة، وفي هذا نهي عن التشبه بغير المسلمين في الخوض في المسائل التي تحدث الخلاف وتضرب بعض الدين ببعضه الآخر وتكون سببًا لهلاك الأُمَّة، فَقدْ (خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر. . . فقال لهم: "ما لكم تضربون كتاب اللَّه بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم") (¬2). ج- حادثة السدرة التي كان المشركون يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، وعندما مَرَّ المسلمون بها في خروجهم مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى حنين، طلبوا من الرسول أن يجعل لهم ذات أَنواط، فغضب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وكبَّر اللَّه ولام المسلمين على ذلك، وَذكر لهم أنهم ساروا بطلبهم هذا على سنن أهل الكتاب من قبلهم، حيث قال اليهود لموسى -عليه السلام- بعد أن أنجاهم اللَّه من فرعون، وأغرقه في اليم وجنده، ومروا على قوم يعبدون ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، (1/ 195)، مرجع سابق، وممن قال بهذا التفسير: مجاهد، وعطاء، والضَّحاك، والسديُّ، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن أبي حاتم. انظر: المرجع السابق نفسه: (1/ 195). (¬2) المسند للإمام أحمد بن حنبل (2/ 178)، بتحقيق: أحمد محمد شاكر، المجلد (9 - 10)، (10/ 153)، رقم الحديث: [178] (مرجع سابق)، وأخرجه ابن ماجه: سنن ابن ماجه: 1/ 33، والمقدمة، باب [10] رقم الحديث (85)، وقال: إسناده صحيح ورجاله ثقات، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق.

صنمًا- {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬1) [الأعراف: 138]، وقد ورد في ذلك عن أبي واقد اللَّيثيِّ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما خرج إلى خيبر مَرَّ بِشَجرةٍ للمشركين، يقالُ لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول اللَّه، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط؟ فقال النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سبحان اللَّه هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" (¬2). ومن هذا الحديث يتضح أن من سنن اللَّه في خلقه ميل الإنسان بمقتضى الطبع إلى المحاكاة والمماثلة (¬3)، ومع أن الإسلام يقر الجانب الفطري عند الإنسان إلّا أَنَّهُ في مثل هذهِ الحال ينهى؛ لأن الميل هنا فيه محذور على العقيدة، ويأتي مندرجًا تحت ميل النفس إلى الفجور كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]. كما أن إخبار الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بما حدث في بني إسرائيل يتضمن النهي عن مشابهتهم والسير في منهجهم، فقد قَرَّرَ علماء أصول الفقه أن الإخبار من صيغ الأمر (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر: تفاصيل القصة وبعض ما انطوت عليه من دروس وعبر لدى: عبد الستار فتح اللَّه سعيد: معركة الوجود بين القرآن والتلمود: ص: (90 - 114)، مرجع سابق. (¬2) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (4/ 412، 413)، كتاب الفتن؛ باب: (18)، رقم الحديث: (2180)، وقال: حديث حسن صحيح، بتحقيق: كمال يوسف الحوت، مرجع سابق. (¬3) انظر: أحمد بن الصديق الغماري: الاستنفار ص: (11)، مرجع سابق. (¬4) انظر: الطوفي: شرح مختصر الروضة: (2/ 356)، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، مرجع سابق.

3 - النهي عن التشبه في مجال العبادة

3 - النهي عن التشبه في مجال العبادة: وبالنظر إلى العبادات في الإسلام من صلاة وصيام وحج وغيرها من العبادات الأخرى يُلْحظُ بأن (الدين في مقاصده وتشريعاته وموقفه من أعدائه يقف موقف الخصوصية ورفض الباطل) (¬1) والبدعة، وينتهج منهجًا ربانيًا محددًا في منطلقاته وغاياته، ومن هنا تنبثق منزلة تميُّز الأمة الإسلامية -كما سبق الإشارة إليه- وفي مجالس. العبادة بخاصة جاءت تشريعات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأُمَّتِهِ مخالِفَةً لِما كان عليه أَهل الكتاب وأهل الجاهلية وغيرهم من الأعاجم سواء في مسائل الطهارة، أو الصلاة، أو الإمامة، أو الصيام، وتنهى عن مشابهتهم، وترسم للأُمَّةِ الإسلاميَّةِ مَنْهجًا مُتَمَيِّزًا في أداء عباداتها، مما يجلي ذلك الأحاديث الآتية: - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-: (إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اصنعوا كل شيء إلّا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. . .) (¬2) الحديث. قال ابن تيمية: (فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه اللَّه لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أَنَّه خالفهم في عامَّة أُمورِهم حتى قالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه) (¬3). ويدل قولهم هذا على ¬

_ (¬1) أحمد بن الصديق الغماري ص: (81)، المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 246)، كتاب الحيض، باب: (3)، الحديث رقم: (302)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬3) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 187)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق.

أَنَّهم تيَقَنُوا من تَمَيُّزِ الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ عَنْهُمْ تَمَيُّزًا صريحًا واضحًا (¬1). - حديث أبي أيُّوب الأنصاريِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ الرَّسولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "لا تَزالُ أُمَّتِي بِخَيرٍ (أو قال: على الفطرة) ما لم يُوَخِّرُوا المغرب إلى أن تشتبك النجوم" (¬2)، وفي رواية أخرى: "لن تزال أمتي في مسكةٍ ما لم يعملوا بثلاث، ما لم يؤخروا المغرب بانتظار الإظلام، مضاهاة اليهود، وما لم يؤخروا الفجر إمحاق النجوم: مضاهاة النصرانية، وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها" (¬3). - حديث جابر -رضي اللَّه عنه- قال: ". . . إذا صلى الإمام جالسًا فصلوا جلوسًا، وإذا صلى الإمام قائمًا فصلوا قيامًا، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها" (¬4)، في رواية مسلم: "إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس ¬

_ (¬1) انظر: أحمد بن الصديق الغماري: الاستنفار ص: (30)، مرجع سابق. (¬2) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (1/ 212)، كتاب الصلاة، باب: وقت صلاة المغرب، الحديث رقم: (418)، طبعة دار الحديث، القاهرة، وأخرجه الحاكم: وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه: المستدرك: (1/ 303، 304)، كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، رقم الحديث (685/ 12)، بتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، مرجع سابق. (¬3) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (4/ 349)، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1991 م)، بيروت، وانظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 183، 184، 185)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق. (¬4) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (1/ 162)، كتاب الصلاة. . . الحديث رقم: (602)، مرجع سابق، وأخرجه ابن ماجه في سننه: (1/ 393)، كتاب إقامة الصلاة والسنه فيها، باب (144)، حديث رقم (1240)، بلفظ قريب وفيه: "إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم"، مرجع سابق.

والروم" إلى قوله: "فلا تفعلوا" (¬1). قال ابن تيمية: (ففي هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلَّل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود. . . وهذا تشديد في النهي عن القيام للرجل القاعد. . . فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية) (¬2). - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهُ قال: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجَّلَ الناسُ الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يوخرون" (¬3). قال ابن تيمية: (وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كان مخالفتهم سببًا لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين اللَّه على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة) (¬4). هذه من أبرز الأحاديث التي وردت في النهي عن التشبه بالكفار في مسائل العبادات، وهناك أحاديث كثيرة غيرها تعزز ذلك النهي، وتتناول جزئيات كثيرة تتعلق بالصلاة والطهارة والأذان والصيام والإفطار والسحور ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: (1/ 309)، كتاب الصلاة، باب (19)، رقم الحديث (413)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 198)، المرجع السابق نفسه. (¬3) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (2/ 315)، كتاب الصوم، الحديث رقم (2353)، مرجع سابق، وأخرجه ابن ماجه: سنن ابن ماجه: (1/ 542)، كتاب الصيام، الحديث رقم: (1698)، بلفظ: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، عجلوا الفطر فإن اليهود يؤخرون"، قال: (إسناده صحيح على شرط الشيخين. . .). (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 182)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، المرجع السابق نفسه.

4 - النهي عن التشبه في مجال الشعائر والمظهر العام

والوصال وصيام عاشوراء، ونحو ذلك مما شرعه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مخالفًا لأعمال اليهود والنصارى والمشركين وكافة أمور الجاهلية (¬1). ومما يدل على مخالفة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لما كان عليه أهل الجاهليَّة ما حدث منه في حجَّة الوداع، فقد أَخَّرَ بعض المناسك كنفرة الحجيج من عرفة، وعجل الإفاضة من مزدلفة، وعمل أعمالًا أخرى على خلاف ما كان عليه أهل الجاهليَّةِ، وَنَصَّ على كون عمله -ذلك- جاء مخالفة لما عليه أهل الجاهليَّةِ من حيث كونهم اعتادوه، وجاءت مخالفَتُهُ لهم إحياء لمناسك الحجِّ على ما كانت عليهِ الحنيفيَّة السمحاء من ناحيةٍ وأخذًا بها إلى التمام والكمال من ناحية أخرى، وكان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يرمي الجمرات يوم النحر وهو على راحلته ويقول: "لتأخذوا مناسككم" (¬2). 4 - النهي عن التشبه في مجال الشعائر والمظهر العام: أما ما يتعلق بالشعائر الدينية مثل الناقوس والبوق ورفع الصوت في الحرب والذكر والجنائز والقيام لها والشق في القبر. . . أو ما يتعلق بالمظهر العام والعادات، مثل الاحتفال بالأعياد، وما يصحبها من بدع ومنكرات، وقص الشعر، ولبس الحرير والذهب، وكذلك استعمال آنية الذهب والفضة، والزيِّ واللِّباس، ونحو ذلك من العادات والمظاهر التي يحدث فيها التشبه. . . فقد وردت جملة من الأحاديث تنهى عن ذلك، منها: - الأحاديث الواردة في مشروعية الأذان، ومنها ما ورد في الصحيحين ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: (1/ 181 - 200)، وانظر: الغماري: الاستنفار: ص: (39 - 69)، المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (2/ 943)، كتاب الحج، باب: (51)، رقم الحديث: (1297)، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق.

عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنًا مثل قرن اليهودِ. فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا بلال قم فنادِ للصَّلاةِ" (¬1). قال ابن تيمية: (ما يتعلق بهذا الحديث من شرع الأذان. . . ليس هذا موضع ذكره وذكر الجواب عما يستشكل منه، وإنَّما الغرض هنا: أن النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كره بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد، علَّلَ هذه بأَنَّهُ من أمر اليهود، وعلَّلَ هذا بِأَنَّهُ من أمر النصارى. . وهذا يقتضي نهيه عما هو من أمر اليهود والنصارى. . . وإنَّما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن الإعلان بذكر اللَّه؛ الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة) (¬2). - ما أثر عن الصحابة أنهم (كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر، وعند القتال وعند الجنائز) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 1/ 219، كتاب الأذان - باب [بدء الأذان] رقم الحديث [579] بتحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم، صحيح مسلم: 1/ 285، كتاب الصلاة - باب [بدء الأذان] رقم الحديث [377]، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 313، 314)، تحقيق: عبد الكريم بن ناصر العقل، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: الغماري: الاستنفار: ص 30، 31، (المرجع السابق نفسه). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة: المصنف: (2/ 474)، كتاب الجنائز، باب: (60)، رقم الحديث: (11201)، الطبعة الأولى: (1416 هـ - 1995 م)، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.

قال ابن تيمية: (وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن، مع امتلاء القلوب بذكر اللَّه، وإجلاله وإكرامه، كما أن حالهم في الصلاة كذلك، وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث من عادة أهل الكتاب، والأعاجم) (¬1). - ما ورد عن القيام للجنازة وعن الشق في القبر. . . ومن ذلك ما روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: (كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت مرتين) (¬2)، وما رواه أهل السنن الأربعة عن جرير بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّحدُ لنا والشَّقُ لِغيرنا" (¬3). قال ابن تيمية: (وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب، حتى في وضع الميت في أسفل القبر) (¬4). - الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن التشبيه بهم في المزي واللِّباس، واستعمال الآنية، وقص الشعر، والأمر بصبغ الشيب لمخالفتهم ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 315، 316)، المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1394)، كتاب فضائل الصحابة - باب: (56)، رقم الحديث: (3625)، بتحقيق: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬3) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (3/ 363)، كتاب الجنائز - باب: (53)، حديث رقم: (1045)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق، والنسائي: سنن النسائي: 4/ 384، كتاب الجنائز - باب [85] حديث رقم [2008]، (مرجع سابق) وأخرجه ابن ماجه: سنن ابن ماجه: (1/ 496)، كتاب الجنائز - باب (39)، حديث رقم: (1555)، عن ابن عباس. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 204)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، المرجع السابق نفسه.

والأمر بمخالفتهم في عامة الأمور الظاهرة (¬1)، وقد استفاضت الأدلة من السنة بذلك، ومنها ما يأتي: - ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: (قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (¬2). - ما ورد في الصحيحين -أيضًا- عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: (قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب" (¬3)، وفي رواية أخرى لدى مسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" (¬4). - ما رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليَّةِ") (¬5). - ما روي عن عبد اللَّه بن عمرو أنه قال: "من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 168)، المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1663)، كتاب الأنبياء - باب: (15)، رقم الحديث (3275)، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬3) صحيح البخاري: (5/ 2209)، كتاب اللباس - باب: (62)، رقم الحديث: (5553)، المرجع السابق نفسه. (¬4) صحيح مسلم: (1/ 222)، كتاب الطهارة - باب: (116)، رقم الحديث: (260)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (المرجع السابق نفسه). (¬5) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (1/ 436)، كتاب الجنائز - باب: (37)، رقم الحديث: (1235)، المرجع السابق نفسه. (¬6) أخرجه البيهقي: السنن الكبرى: (9/ 234)، فهرس الأحاديث: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، طبعة دار المعرفة، بيروت: (1413 هـ/ 1992 م).

- ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "فرق ما بيننا وبين المشركين: العمائم والقلانس" (¬1). - وعن وصل الشعر أخرج البخاري: (أن معاوية قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينهى عنه. . . ويقول: "إنما هلكت فهو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم" (¬2). - وعن لبس الثياب ما رواه نافع عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو قال: قال عمر: "إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلَّا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود" (¬3)، وما رواه مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- قال: (رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" (¬4). والقاعدة الشاملة في الزي واللباس كما قررها علماء الشريعة هي مخالفة الأمم الأخرى غير الإسلامية من اليهود والنصارى والمجوس وأهل الجاهلية وغيرهم والنهي عن التشبه بهم، مستدلين بمثل ما رواه ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (4/ 340، 341)، كتاب اللباس - باب: في العمائم، حيث رقم: (4078)، مرجع سابق. (¬2) صحيح البخاري: (5/ 2216)، كتاب اللباس، باب (81)، رقم الحديث: (5588)، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (المرجع السابق نفسه). (¬3) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (1/ 169)، كتاب الصلاة، الحديث رقم: (635)، (المرجع السابق نفسه). (¬4) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (3/ 1647)، كتاب اللباس والزينة، الحديث رقم: (2077)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬5) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: (4/ 43)، كتاب اللباس، الحديث رقم: (4031)، المرجع السابق نفسه.

(وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين) (¬1). - وعن لبس الحرير والذهب واستعمال آنية غير المسلمين، وردت عدَّة أحاديث منها؛ حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (¬2)؛ ولذلك (كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة، تشبهًا بالكفار) (¬3). - وعن الأعياد وأنواعها وما يصاحبها من البدع والشركيات عند الأمم الأخرى من غير الأمة الإسلامية، ساق العلماء -وبخاصة ابن تيمية- كثيرًا من الأدلة النقلية والعقلية، وتوسعوا في شرحها ومناقشتها وبحثها، وتقصي جزئياتها، وخلصوا إلى القول بأن الأعياد: (من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر) (¬4)، وأنه لا يجوز التشبه في ذلك بغير المسلمين من الأمم الأخرى سواء اليهود أو النصارى أو الروم أو الفرس أو غيرهم، ولا تجوز مشاركتهم فيها؛ لأن ذلك يندرج تحت قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67]، (فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج. . . كالقبلة والصلاة والصيام) (¬5)، وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا ¬

_ (¬1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 239)، تحفيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، المرجع السابق نفسه. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (5/ 2070)، كتاب الأطعمة، باب: (28)، رقم الحديث: (5110)، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬3) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 317)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 471)، المرجع السابق نفسه. (¬5) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 471)، المرجع السابق نفسه.

بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال بعض المفسرين: (لا يشهدون الزور: أعياد المشركين) (¬1)، وعن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟ " قال: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه تعالى قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر" (¬2). وفي هذا الحديث ما يؤكد تميُّز الأمة الإسلامية حتى في الشعائر ومظاهر الفرح وموجبات ذلك وغاياته وارتباطاته بما يجعلها ذات هوية مستقلة غاية الاستقلال عن متابعة الآخرين وتقليدهم، ولضمان هذه المنزلة لتَمَيُّز الأُمَّة الإسلامية، وبالنظر لمقاصد الشريعة الإسلامية أكد العلماء بأن (استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دال على أن ما أفضى إلى الكفر -غالبًا- مُحرَّم، وما أفضى إليه على وجه خفي حُرِّمَ) (¬3)، (وما أفضى إليه ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (3/ 328، 329)، مرجع سابق، وممن فسره بذلك من السلف: (ابن سيرين والضحاك وطاوس وأبي العالية. . . وغيرهم)، انظر: المرجع السابق نفسه: (3/ 328، 329). (¬2) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (3/ 250)، رقم الحديث: (3210)، بترتيب طبعة دار إحياء التراث العربي، الجزء الرابع، مرجع سابق، وأبو داود: (1/ 295)، كتاب الصلاة، باب: صلاة العيدين، رقم الحديث: [1134]، المرجع السابق نفسه، وأخرجه الحاكم المستدرك. . .: (1/ 434)، كتاب صلاة العيدين، رقم الحديث: (1091/ 4)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، مرجع سابق. (¬3) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. .: (1/ 482)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، المرجع السابق نفسه، وقد وضع الفقهاء قواعد تضبط أحكام ما يفعله المكلفون في عباداتهم ومعاملاتهم وعاداتهم. . .، منها قولهم: إما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب)، وقولهم: (المشقة تجلب التيسير)، وما يسمى بـ (سد الذرائع)، ونحو ذلك مما سيأتي عنه.

في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حُرِّمَ) وفي هذا محافظة تامة على هوية الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ، ووصف دقيق لمنزلة تميزها. ومما ينبغي الإشارة إليه في ختام هذا المطلب أن تَميُّز الأمة الإسلامية كان محل إجماع سلف الأمة قولًا وعملًا بعد أن أرسى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مقوماته في حياة الأمة، ورسخ خصائصه، وحدد أهدافه ووسائل تحقيقه، وسار الخلفاء الراشدون على هديه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن تبعهم في القرون المفضَّلة، وعلي الرغم مما حدث بعد ذلك من افتراق في مناهج الأمة أثر على تميزها، فإن التميز سيستمر فيها وذلك بثبات طائفة منها على ذلك، دون تردد أو مداهنة للمخالفين حتى يأتي أمر اللَّه، وقد دلت على ذلك نصوص عدة وسجلتها كثير من الوقائع التاريخية المقرِّرة، التي توضح فهم الأمة الإسلامية لتميزها وتطبيقها التاريخي له. ومن أمثلة ذلك ما يأتي: - ما ورد عن أبي بكر -رضي اللَّه عنه- حين رأى امرأة لا تتكلم وسأل عنها (قالوا: حجَّت مصمتة، قال لها: (تكلَّمي، فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية) (¬1)، وهذا دليل على حرص أبي بكر على تميُّز الأمة، ونهيه عن أي مظهر من مظاهر غير المسلمين (¬2). - واتخذ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- من التدابير والسياسات ما يؤكد منزلة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1393)، كتاب فضائل الصحابة، باب: (أيام الجاهلية)، رقم الحديث: (3622)، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬2) انظر ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: (1/ 326، 327، 328)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق.

التميز وأهميته وبخاصة فيما يتعلق بأهل الذمة، ومما يوضح ذلك شروطه مع أهل الذمة (¬1) فإنه لم يكتف فيها (بأصل التمييز) بل بالتميز في عامة الهدي على تفاصيل معروفة في هذا الموضع) (¬2). - وسار الخليفة الراشد عثمان -رضي اللَّه عنه- ومن بعده الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- على ما شرطه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- على أهل الذمة، ووافقه عليه المؤمنون (¬3) (وسار العلماء بعدهم، ومن وفقه اللَّه تعالى من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئًا مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين) (¬4). وخلاصة القول في ذلك: إن منزلة تميُّز الأمة الإسلاميَّةِ محل إجماع المسلمين، مما يحدد هذه المنزلة إجماعهم على النهي عن التشبه بغير المسلمين، ولزوم مخالفتهم (في الجملة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع، إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار، أو لاعتقاده أن فيه دليلًا راجحًا، أو لغير ذلك، كما أنهم مجمعون على أتباع الكتاب والسنة، وإن كان قد يخالف بعضهم شيئًا من ذلك لنوع تأويل، واللَّه سبحانه أعلم) (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر: ابن قيم الجوزية: أحكام أهل الذمة: ص: (113 - 249)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مرجع سابق. (¬2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 322)، المرجع السابق نفسه. (¬3) انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 333، 340، 343، 345، 346، 355)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، المرجع السابق نفسه. (¬4) المرجع السابق نفسه: (1/ 325). (¬5) ابن تيمية: المرجع السابق نفسه ص: (359).

ضرورة إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها

ضرورة إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها مما سبق تبينت منزلة تميُّز الأمة الإسلامية، وأن هذه المنزلة تعد قدرًا إلهيًا، واختيارًا ربانيًا، وتفضيلًا وتكريمًا من الحكيم الخبير، وبقدر هذه المنزلة السامقة تعظم المسؤولية، وهي حمل رسالة الإسلام وتحقيق هديه في العقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك في منطلقات الأمة وغاياتها وأهدافها ووسائلها وأساليبها، وبقدر عظم تلك المنزلة وهذه المسؤولية تظهر ضرورة التميز واقترانها بمنزلته، إذ لابد من تحقيقه في حياة الأمة لتنهض بحمل مسؤوليتها وتنال موعود اللَّه، وهذا ما ألمح إليه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في مقولته التي سبق الإشارة إليها: (من سرَّهُ أن يكون من تلك الأُمَّة فليُؤَدّ شرط اللَّه فيها) (¬1)، وضرورة التميز تتجلى في جوانب كثيرة منها؛ إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها، وتجسيد القدوة في تلك الذاتية وإظهارها للإنسانية، وبناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الفكري. فأما إبراز ذاتية الأمة وصقلها وإظهار سمتها وسماتها، فقد اقتضت حكمة اللَّه أن تكون الأمة الإسلامية أمة متميزة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179]، وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 396)، مرجع سابق.

- في الآية الأولى: نصَّ تعالى على تميُّز الأمة الإسلامية في الدنيا، وفي الآية الأخرى نص جَلَّ وعلا على تميزها في الآخرة -كما ذكر المفسرون- وتكاد هاتان الآيتان أن تكونا النص الصريح على تميُّز الأمة الإسلامية في القرآن الكريم وفيما عداهما جاء التميز ضمنًا (¬1)، أو بدلالة الاستلزام (¬2). ومما جاء في تفسير ابن قيم الجوزية للآية الأولى قوله: (هذه الآية من كنوز القرآن، نبه فيها على حكمته تعالى المقتضية تمييز الخبيث من الطيب، وأن ذلك التمييز لا يقع إلَّا برسله، فاجتبى منهم من شاء وأرسله إلى عباده، فيتميز برسالتهم الخبيث من الطيب، والولي من العدو، ومن يصلح لمجاورته وقربه وكرامته ممن لا يصلح إلَّا للوقود، وفي هذا تنبيه على الحكمة في إرسال الرسل، وأنَّهُ لا بد منه. . . فتأمل هذا الموضع حق التأمل، وأعطه حظه من التفكير، فلو لم يكن هذا الكتاب سواه لكان من أجل ما يستفاد) (¬3). وقال السدي وابن كثير: (يخرج المؤمن من الكافر) (¬4)، وقال ابن عباس: (يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: عبد المنعم أبو زنط: التميز الإسلامي ص: (14)، مرجع سابق. (¬2) انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 84)، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق. (¬3) بدائع التفسير: (1/ 536، 537)، مرجع سابق. (¬4) أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير (المتوفى سنة 128 هـ): تفسير السدي الكبير: ص: (193، 282)، تحقيق: محمد عطا يوسف، الطبعة الأولى: (1414 هـ - 1993 م)، عن دار الوفاء - مصر. وانظر: ابن عطية: المحرر الوجيز: (1/ 546)، مرجع سابق، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (4/ 184)، مرجع سابق، وعبد الرزاق الصنعاني: تفسير القرآن: (1/ 140)، مرجع سابق، تحقيق: مصطفى مسلم، وابن كثير: تفسير القرآن الكريم: (1/ 432)، مرجع سابق. (¬5) انظر: صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن العظيم ص: (131، 252)، مرجع سابق.

ومما يدل على أن هذه الآية تنص على ضرورة تميُّز الأمة الإسلامية في الدنيا ما أورده المفسرون من أسباب لنزولها وتفسير لمدلولها، ومن ذلك قول ابن كثير: (ميز بينهم بالجهاد والهجرة) (¬1)، وقال: (يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن اللَّه به المؤمنين، فظهر به إيمانُهم وصبرُهم وجَلَدهم وثباتهمْ وطاعَتهم للَّهِ ورسولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهتك به أستار المنافقين، فأظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم للَّه ولرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬2). - أما الآية الأخرى: فذكر المفسرون في معناها: (إن اللَّه يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين) (¬3)؛ لأن اللَّه يريد (أن يميز الخبيث من الطيب، ويجعل كل واحد على حدة، وفي دار تخصه، فيجعل الخبيث بعضه على بعض؛ من الأعمال والأموال والأشخاص {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] الذين خسروا أنفسهم، وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين) (¬4). وأوضحت الآيتان السابقتان ضرورة التميز بين أهل السعادة والشقاوة، والمسلمين والكفار، وأولياء اللَّه وأعدائه، وبين حزب اللَّه وحزب الشيطان، وأن اللَّه (لابد أن يعقد شيئًا من المحنة، يظهر فيه وليه، ويفضح عدوه، يعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر) (¬5). ولولا هذا الصقل لذاتية الأمة والابتلاء والامتحان - (بالأسباب ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 432)، المرجع السابق نفسه. (¬2) المرج السابق نفسه: (1/ 432). (¬3) ابن عطية: المحرر الوجيز: (2/ 526)، مرجع سابق. (¬4) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (3/ 167)، مرجع سابق. (¬5) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 432)، مرجع سابق.

الكاشفة لذلك) (¬1) - التي تحتم التميز، وتظهر ضرورته لحدث الخلط واستشرى الخبث وصار مشاعًا، لا يعرف معه للأمة ذات متميزة بسمتها وسماتها الخاصة. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (1/ 432).

تجسيد القدوة في ذاتية الأمة الإسلامية وإظهارها للإنسانية

تجسيد القدوة في ذاتية الأمة الإسلامية وإظهارها للإنسانية والمقصود بهذا أن الأمة الإسلامية بحكم خيريتها وشهادتها على الأمم وحملها رسالة اللَّه لا بد أن تحقق في نفسها مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه، وأن تصطبغ بصبغة اللَّه لتكون قدوة للإنسانية، وهذا الأمر يحتم التميز ويظهر ضرورته. قال الشيخ السعدي عند تفسيره لقول الحق تبارك وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]: (إذا أردت أن تعرف نموذجًا يبين لك الفرق بين صبغة اللَّه وبين غيرها من الصبغ فقس الشيء بضده) (¬1). ثم أجرى هو القياس وقال فيه: (كيف ترى في عبد آمن بربه إيمانًا صحيحًا، وأثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح ورذيلة وعيب. فوصفه الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة اللَّه وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده أي عبيد المعبود وهم خلق اللَّه، فقسه بعبد كفر بربه وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين، فاتصف بالصفات القبيحة من الكفر، والشرك، والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده) (¬2). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن: (1/ 150، 151)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه: (1/ 151).

ونتيجة لهذا القياس (فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن من صبغة اللَّه، وفي ضمنه أنه لا أقبح ممن انصبغ بغير دينه) (¬1). ويظهر بعد آخر من هذا القياس والمقارنة وهو ضرورة التميز في شخصية الأمة الإسلامية والاتصاف بتلك الصفات الكريمة والخلال الحميدة والبعد عن مرذولات الأخلاق ومساوئ الصفات لكي تجسد الأمة الإسلامية القدوة الحسنة في نفسها، ويتضح للآخرين من حالها ما يجذبهم إليها، ويجعلهم يقصدونها، ويأتمون بها. إذن فتميز الأمة الإسلامية بالغ الضرورة لتجسيد القدوة وإظهارها للبشرية قاطبة. . ذلك التميز الشمولي المتكامل في مظهرها، وفي مضمونها وفي سمتها، وفي سلوكها. يقول عمر عودة الخطيب في ذلك: (إن المسلمين الذين اختصهم اللَّه برحمته، ومنّ عليهم بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية، والأمة الوسط الشهداء على الناس مدعوون -دائمًا- إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر، والقول والعمل، والاجتماع والأخلاق، وكل شأن من شؤون الحياة. . . مدعوون -بحكم هذا المنهج- أن يعتصموا بحبل اللَّه، ويتبعوا هداه ويعتزوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة التي بها سادوا، وبها يسودون) (¬2). ولعل في سؤال الرجل الذي قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يا رسول اللَّه كيف يرفع العلم وقد أُثْبِتَ في الكتاب ووعته القلوب؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كنت ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (1/ 151). (¬2) لمحات في الثقافة الإسلامية ص: (82، 83)، مرجع سابق.

لأحسبك من أفقه أهل المدينة"، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب اللَّه) (¬1). لعل في سؤال الرجل وجواب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- له ما يبين أهمية القدرة وضرورة أن يكون التميز واقعًا ملموسًا في حياة الأمة، وأن يتجسد في قدوة صالحة تدعو الناس بفعلها قبل أن تدعوهم بقولها. * * * ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك: (1/ 178، 179)، كتاب العلم، رقم الحديث: (337/ 49)، مرجع سابق، وكان سبب سؤال ذلك الرجل قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من: "هذا أوان يرفع العلم"، وهو ينظر -ذات يوم- إلى السماء، من الحديث المذكور نفسه، وذكر الحاكم أنه صحيح.

بناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الحضاري

بناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الحضاري لكل أمة من الأمم ذات وفاعلية حضارية ترتكز على عقائد وقيم ومفاهيم وتقاليد وعادات (وتسعى كل أمة سعيًا دَائبًا على أن تكون مفاهيمها واضحة الدلالة في ذاتها، مرعية الجانب لدى أبنائها، واسعة الانتشار والتداول لدى غيرها، وتتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى، فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتقوم بالدراسات، وتصدر النشرات، وتضع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم -بوجه عام- كل وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وخصائصها وتفصيل وجه النفع فيها) (¬1). ولا بد من أن تدور رحى الصراع بين أمة وأخرى في بعض هذه المجالات مما يستوجب وعي كل أمة بذاتها وبناء قدرتها لمواجهة ذلك الصراع الحضاري، وإلا فإن الأمة المتراخية عن شيء من مقومات ذاتيتها وسمتها وخصائصها ستكون معرضة بقدر تهاونها وتراخيها لغزو الأمة الأخرى؛ ولذلك فإن بناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الحضاري مع الأمم الأخرى يعتمد في بعض الجوانب على تميزها؛ مما يؤكد ضرورة التميز في الكيان والاتجاه والهدف والتصور والشعار والانتماء. يقول سيد قطب عن ضرورة التميز: (والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبله مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه، إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة، فالمكان أو الجهة ليس سوى ¬

_ (¬1) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية: ص: (11)، مرجع سابق.

رمز، رمز للتميز والاختصاص، تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف، وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان. والأمة المسلمة -اليوم- بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعًا، وبين شتّى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعًا، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعًا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعًا. . . الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تلتبس بشخصيات الجاهلية السائدة، والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يلتبس بتصورات الجاهلية السائدة، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور، والتميز براية خاصة تحمل اسم اللَّه وحده فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها اللَّه للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها. إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى اللَّه. . . وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة. وهو الذي يمنحها مكان القيادة الَّذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام (¬1). إن ضرورة تميز الأمة الإسلامية تزداد كما تقارب الزمان، وتقدمت وسائل الاتصال، واختلطت أمم الأرض بمناهجها وثقافاتها سارت البشرية نحو العالمية في نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها لئلا ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (1/ 129)، مرجع سابق.

تذوب الأمة الإسلامية في ثقافة أو أخرى أو تتراجع عن رسالتها في الحياة أمام حضارة غير حضارتها تنطلق من أسس أخرى، وتهدف إلى مقاصد وغايات تغاير مقاصد الأمة الإسلامية وغاياتها، (فقد أخرج اللَّه الأمة المسلمة لتؤدي دورًا كونيًا كبيرًا، ولتحمل منهجًا إلهيًا عظيمًا، ولتنشئ في الأرض واقعًا فريدًا، ونظامًا جديدًا. . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك. . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره اللَّه لها في هذه الحياة، وتسامي المكانة التي أعدها اللَّه لها في الآخرة) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (1/ 525)، وانظر: البحث نفسه: ص: (1062 - 1075)، عن الوعي الثقافي الشامل بالثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى.

الفصل الثانى الاستشراق والمستشرقين

الفصل الثانى الاستشراق والمستشرقين - مفهوم الاستشراق والمستشرقين: تعريف الاستشراق. مسلمات حول مفهوم الاستشراق والمستشرقين وملحوظاتهم. - لمحة موجزة عن تاريخه: جذور نشأة الاستشراق. الصلات الثقافية بين الإسلام والغرب في الأندلس وصقلية. أثر الاستشراق في الحروب الصليبية وأثرها في الاستشراق. تطور الاستشراق. العوامل التي ساعدت على تطور الاستشراق. حاضر الاستشراق ومستقبله وعوامل قوته واستمراره. دوافع الاستشراق ومظاهر نشاطه.

مفهوم الاستشراق والمستشرقين

الاستشراق والمستشرقين مفهوم الاستشراق والمستشرقين تعريف الاستشراق: أ- تعريفه لغة: الاستشراق لغة: مصدر الفعل (استشرق)، وقد ذكر صاحب معجم متن اللغة: أنها (مولدة عصرية) (¬1)، ولكن إذا أُمعن النظر في هذا الفعل وجد أن بعض حروفه مزيد وبعضها أصلي. أما المزيد فهي همزة الوصل والسين والتاء، وزيادة همزة الوصل لئلا تُبْدَأ اللفْظَةُ بساكن (لأنَّ الابْتداءِ بالساكِنِ مُمْتَنِع) (¬2)، وأما السين والتاء فتستعملان للطلب، كقولهم: استخرج استخراجًا، والاستخراج: طلب الخروج، واستصحب استصحابًا والاستصحاب لطلب الصحبة. . . وتستعملان بمعنى التحول والانتقال كقولهم: استحجر الطين؛ أي: صار حجرًا، وكقولهم: (استنوق الجمل، استيست الشاة؛ أي: صار الجمل كالناقة في طباعها، وصارت الشاة كالتيس، ومنه المثل: (إن البغاث بأرضنا يستنسر) (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد رضا: معجم متن اللغة (موسوعة لغوية حديثه): (3/ 310)، عن دار مكتبة الحياة - بيروت: (1378 هـ - 1959 م). (¬2) أبو البقاء عبد اللَّه بن الحسين العُكْبُري: اللباب في علل البناء والإعراب: (1/ 59)، تحقيق: غازي مختار طليمات، الطبعة الأولى: (1416 هـ - 1995 م)، عن دار الفكر، دمشق. (¬3) ابن منظور: لسان العرب: مادة (بغث)، مرجع سابق. (¬4) محمد عبد الخالق عضيمة: المغني في تصريف الأفعال، ص: (130)، طبعة دار =

وأما الحروف الأصلية في لفظ (استشرق استشراقًا) فهي: شَرَقَ؛ وقد ورد لدى ابن فارس في معجمه قوله: (شرق: الشين والراء والقاف: أصل واحد يدل على إضاءة وفتح، من ذلك: شرقت الشمس؛ إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. . . والشرق المشرق. . . ومن قياس هذا الباب: الشاة الشرقاء: المشقوقة الأذن، وهو من الفتح الذي وصفناه) (¬1). وقال الراغب الأصفهاني: (والمشرق والمغرب إذا قيلا بالإفراد فإشارة إلى ناحيتي الشرق والمغرب، وإذا قيلا بلفظ الجمع فاعتبارٌ بمطلع كل يومِ ومغربة، أو بمطلع كل فصل ومغربة) (¬2)، وبعد أن يستشهد على ذلك بآيات قرآنية وردت في كل من المعاني التي ذكرها، قال في تفسير قوله تعالى: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]: (أي: ناحية الشرق) (¬3). ¬

_ = الحديث، (بدون تاريخ)، وانظر: مسعود بن عمر سعد الدين التفتازاني: شرح مختصر التصريف العِزِّي في فن الصرف ص: (41)، تحقيق: عبد العال سالم مكرم، الطبعة الأولى: (1983 م)، عن ذات السلاسل. . .، الكويت. (¬1) معجم مقاييس اللغة: (3/ 264)، مادة (شرق)، مرجع سابق. وانظر: - أحمد بن فارس: مجمل اللغة: (2/ 527)، مادة (شرق)، مرجع سابق. - إسماعيل بن حماد الجوهري: تاج اللغة وصحاح العربية: (4/ 1500، 1501)، مادة (شرق)، مرجع سابق. - الزمخشري: أساس البلاغة مادة (شرق)، ص: (327، 328)، مرجع سابق. - ابن منظور: لسان العرب: (2/ 303 - 306)، مادة (شرق)، مرجع سابق. - الفيروزآبادي: القاموس المحيط، مادة: (الشرق)، ص: (1158، 1159)، مرجع سابق. - إبراهيم أنيس وآخرين: المعجم الوسيط: (1/ 480)، مادة (شرقت)، مرجع سابق. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن ص: (451)، مادة (شرق)، مرجع سابق. (¬3) الراغب الأصفهاني: المرجع السابق نفسه ص: (451)، مادة (شرق).

من هذه المعاني اللغوية يتبين المدلول اللُّغوي للاستشراق والمستشرقين وفقًا لما عرَّفه صاحب معجم متن اللغة بقوله: (استشرق طلب علم الشرق ولغاتهم) (¬1)، ويقال لمن يقول بذلك مستشرق وجمعه مستشرقون، ولما ينجزوه استشراقًا. ومما يعمق الدلالة اللّغوية للاستشراق والمستشرق كون لفظ (أشرق) يأتي بمعنى الإضاءة والفتح، وهذا المعنى له دلالة فلسفية ومعنوية: - أما الدلالة الفلسفية فهي: (ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها على الأنفس. . .) (¬2) كما يقول الفلاسفة ويقولون -أيضًا-: (الحكمة المشرقية أو حكمة الإشراق باعتبار الشرق هو المنبع الرمزي لإشراق النور) (¬3). - وأما الدلالة المعنوية فهي إطلاق الاستشراق بمعنى طلب الشرق على طلب علومه ومعارفه، وهذا إطلاق معنوي. وصلة الاستشراق والمستشرقين بهاتين الدلالتين شديدة ولا سيما أنه قد ورد في بعض المراجع التاريخية؛ إنه كان يطلق على طالب العلم لدى الأمم الغربية قديمًا؛ مستشرق، إما باعتباره يطلب الحكمة ونورها في الفكر والعقل ونورها هذا يسمى إشراقًا، وإما باعتباره يطلب العلم والحكمة ومنبعها الدين ومهد الأديان الشرق، فكأنه بطلبه العلم رحل إلى ¬

_ (¬1) أحمد رضا: معجم متن اللغة: (3/ 311)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: جميل صليبا: المعجم الفلسفي: (2/ 94)، عن دار الكتاب اللبناني - بيروت: (1982 م). (¬3) انظر هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية ص: (309، 310)، ترجمة: نصير مروة وغيره، الطبعة الثالثة: (1983 م)، منشورات عويدات، بيروت.

ب- تعريفه اصطلاحا

الشرق، وفي هذا الإطلاق نقل لمعنى الشرق من الاتجاه ناحية الشرق حسًا إلى الاتجاه إلى علومه، وهو ولا شك إطلاق معنوي (¬1). ب- تعريفه اصطلاحًا: عرف الاستشراق بتعريفات عدة، بعضها يتناول الاستشراق من حيث موضوع دراساته أو أسلوبه في تلك الدراسات أو منطلق البحث أو غايته أو ارتباطاته الدينية والسياسية وحركته، وبعضها الآخر يتناول المستشرقين أشخاصًا وفئات. فأما الاستشراق موضوعًا وحركة وإنتاجًا ومنهجًا فقد عرف بتعريفات كثيرة من أبرزها الآتي: 1 - عرفه المستشرق الألماني (رودي بارت) بقوله: (الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي) (¬2). 2 - وعرفه إدوار سعيد بقوله: (الاستشراق أسلوب في الفكر قائم على تمييز. . . بين الشرق في معظم الأحيان والغرب) (¬3). وقال -أيضًا-: (الاستشراق يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه وحكمه، ¬

_ (¬1) انظر: قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية ص: (108)، الطبعة الأولى: (1403 هـ - 1983 م)، منشورات دار الرفاعي. . .، الرياض. (¬2) رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص: (11)، ترجمة: مصطفى ماهر، طبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، بدون تاريخ، وانظر ميشال جحا: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، ص: (15)، الطبعة الأولى: (1982 م)، عن معهد الإنماء العربي - بيروت. (¬3) إدوارد سعيد: الاستشراق ص: (38)، ترجمة: كمال أبو ديب، الطبعة الثانية: (1984 م)، عن مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت.

وبإيجاز: الاستشراق (بوصفه أسلوبًا غربيًا) للسيطرة على الشرق، واستبنائه، ولامتلاك السيادة عليه) (¬1). ومما قال في تعريفه أيضًا: إنه ذلك (الفرع المنظم تنظيمًا عاليًا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق -بل حتى- أن تنتجهُ سياسيًا، واجتماعيًا، وعسكريًا، وعقائديًا، وعلميًا، وتخيليًا، في مرحلة ما بعد عصر التنوير) (¬2). 3 - ذكر (رود نسون): أن (كلمة الاستشراق دخلت على معجم الأكاديمية الفرنسية في: (1838 م)، وتجسدت فكرة نظام خاص مكرس لدراسة الشرق) (¬3). 4 - وعُرِّف الاستشراق بأنه: (ذلك التيار الفكري الذي تمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي والتي شملت حضارته وأديانه، وآدابه ولغاته، وثقافته، ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن العلم الإسلامي معبرًا عن الخلفية للصراع الحضاري بينهما) (¬4). هذا عن تعريفات (الاستشراق). أما تعريفات المستشرقين فمن أبرزها الآتي: 1 - جاء في قاموس أكسفورد المستشرق هو: (من تبحر في لغات الشرق وآدابه) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه ص: (39). (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (39). (¬3) رودنسون: صورة العالم الإسلامي في أوروبا. . .، نقلًا عن أحمد سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق. . . ص: (24)، مرجع سابق. (¬4) الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة، إعداد الندوة العالمية للشباب المسلم ص. (33)، الطبعة الثانية: (1409 هـ - 1989 م)، الرياض. (¬5) نقلًا عن ميشال جحا: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا ص: (17)، المرجع السابق نفسه.

2 - وعرف (أنجلو جويدي) المستشرق بأنه: (من جمع بين الانقطاع إلى درس بعض أنحاء الشرق وبين الوقوف على القوى الروحية الأدبية التي أثرت على تكوين الثقافة الإنسانية) (¬1). 3 - وعرف (ديتريش) المستشرق بقوله: (ذلك الباحث الذي يحاول دراسة الشرق وتفهمه، ولن يتأتى له الوصول إلى نتائج سليمة في هذا المضمار ما لم يتقن لغات الشرق) (¬2). 4 - ويقول إدوارد سعيد: (كل من يقوم بتدريس الشرق، أو الكتابه عنه، أو بحثه -ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصًا بعلم الإنسان (الإنثروبولوجي)، أو بعلم الاجتماع، أو مؤرخًا، أو فقيه لغة (فيلولوجيا) - في جوانبه المحددة والعامة على حدٍّ سواء، هو مستشرق وما يقوم. . . بفعله هو استشراق) (¬3). ¬

_ (¬1) علم الشرق وتاريخ العمران، نقلًا عن أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (24)، المرجع السابق نفسه. (¬2) الدراسات العربية في ألمانيا، نقلًا عن أحمد سمايلوفتش: المرجع السابق نفسه ص: 25. (¬3) إدوارد سعيد: الاستشراق ص: (38)، مرجع سابق. ولمزيد من تعريفات الاستشراق والمستشرقين انظر: - أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق في الصفحات: (22 - 32)، مرجع سابق. - أحمد عبد الحميد غراب: رؤية إسلامية للاسشراق في الصفحات: (5 - 7)، الطبعة الثانية: (1411 هـ)، عن المنتدى الإسلامي. - محمد صالح البنداق: المستشرقون وترجمة القرآن الكريم في الصفحات: (87، 88)، الطبعة الثانية: (1403 هـ - 1983 م)، من منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. - نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين: (31 - 33)، الطبعة الثانية: (1406 هـ - 1986 م)، دار المنار. .، جدة. =

في ضوء هذه التعريفات للاستشراق والمستشرقين، ومن خلال المدلول اللغوي المتقدم ذكره تتأكد أهمية تحديد المراد بالشرق ومكانة اللغة العربية والإسلام في الدراسات الاستشراقية ولدى المستشرقين. أما المراد بالشرق فإن بعض الباحثين من المستشرقين وغيرهم قد توقف عنه بغية تحديده، وفيما يأتي أبرز ما توصلوا إليه: 1 - يقول باحث غربي: (الظاهر أن اسم الشرق تعرض لتغيير في معناه، فالشرق بالقياس إلينا نحن الألمان، يعني: العالم السلافي، العالم الواقع خلف الستار الحديدي -وهذه المنطقة يختص بها علميًا بحوث شرق أوروبا osteuropaforscling ، أما الشرق الذي يختص به الاستشراق فمكانه جغرافيًا في الناحية الجنوبية الشرقية بالقياس إلينا، والمصطلح يرجع إلى العصر الوسيط، بل إلى العصور القديمة، إلى الوقت الذي كان فيه البحر المتوسط يقع كما قيل في وسط العالم، وكانت الجهات الأصلية تحدد بالنسبة إليه- فلما انتقل مركز ثقل الأحداث السياسية بعد ذلك من البحر المتوسط إلى الشمال بقي مصطلح الشرق رغم ذلك دالًّا على الدول الواقعة شرق البحر المتوسط -كذلك تعرضت لفظة (الشرق)، في أعقاب الفتوحات العربية الإسلامية لتغيير آخر في معناها أو إذا شئنا دقة أكثر؛ تعرضت لاتساع في نطاق مدلولها- فقد انطلق الفاتحون في ذلك الوقت ¬

_ = عفاف صبرة: المستسرقون ومشكلات الحضارة ص: (9)، طبعة: (1985 م)، عن دار النهضة العربية. . . " القاهرة. - محمد أحمد دياب: أضواء على الاستشراق والمستشرقين ص: (10 - 12)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1989 م)، دار المنار. . . " القاهرة. - محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه ص: (41 - 45)، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1990 م)، عن دار قتيبة. . .، بيروت. - محمد حسين علي الصغير: المستشرقون والدراسات القرآنية؛ ص: (11 - 13)، الطبعة الثانية: (1406 هـ - 1986 م)، عن المؤسسة الجامعية للدراسات. . .، بيروت.

من شبه الجزيرة العربية إلى ناحية الشمال والشرق فحسب، بل إلى ناحية الغرب كذلك، وزحفوا في غضون عشرات من السنين، إلى مصر وشمال إفريقية حتى بلغوا المحيط الأطلسي، واستوطن الإسلام قطاع بلدان شمال إفريقية دينًا، وتعرب السكان تدريجيًا، وهم الأقباط في مصر والبربر غربها- ومنذ ذلك العين تعتبر مصر وبلدان شمال إفريقية ضمن الشرق، ويختص الاستشراق حتى بشمال غرب إفريقية الذي يسمى بالمغرب أي بلد غروب الشمس، وإن كان اسمه- الاستشراق- يفترض أَنَّهُ يختص بالبلدان الشرقية دون غيرها- ومهما يكن من أمر فإن الاسم لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط، والمهم هو الموضوع ذاته) (¬1). 2 - ويقول أحد الباحثين العرب: (إن مفهوم هذه الكلمة (الشرق) يتغير تبعًا لاختلاف المكان، وتبعًا لتغير الأزمان، فالشرق يختلف بالنسبة للياباني أو العربي أو الألماني أو الإنجليزي أو الأمريكي - والشرق يختلف بالنسبة لأهالي العصور القديمة والوسطى، أو للبشر في تاريخنا الحديث والمعاصر، وخاصة بعد اكتشاف الأمريكيتين) (¬2). 3 - ويقول أحد المستشرقين في ذلك: (ليس استعمال كلمة الشرق في تاريخ الحضارة متفقًا مع معناها الجغرافي تمامًا؛ فإن بلدان الشرق الأدنى المتحضرة كان يجب تسميتها في روسيا بالجنوب -وكذلك إفريقية الشمالية التي تعد جزءًا من الشرق الإسلامي، جنوبية بالنسبة إلى أوربا- ابتدأ استعمال كلمة الشرق بمعنى البلاد المتحضرة مقابلًا للغرب في عصر ¬

_ (¬1) رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص: (11، 12)، المرجع السابق نفسه، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الأستشراق ص: (23، 24)، مرجع سابق. (¬2) علي حسني الخربوطلي: الاستشراق في التاريخ الإسلامي ص: (12)، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب: (1988 م)، القاهرة.

الإمبراطورية الرومانية- ولم يكن يوجد في نظر اليونان إلا الجنوب الحار المتحضر والشمال البارد موطن المتوحشين، وكانوا في تقسيمهم العالم إلى أقسامه المختلفة يسيرون على هذا الأساس نفسه، فيجعلون أوروبا شمالي آسيا وإفريقية معًا؛ فلو كانت سيبيريا معلومة لهم لعدت قسمًا من أوروبا) (¬1). 4 - ويعالج باحث عربي هذه المسألة قائلًا: (أما الغرب فهو اصطلاح حديث جرينا فيه على ما اصطلح عليه الأوروبيون في عصور الاستعمار من تقسيم العالم إلى شرق وغرب، يعنون بالغرب أنفسهم، ويعنون بالشرق أهل آسيا وإفريقية الذين كانوا موضع استعبادهم واستغلالهم، وجرينا نحن على هذا الاستعمال، والكلمة وإن كانت حديثه اصطلاحيًا واستعمالًا فيه قديمة في مفهومها ودلالتها، فقد كان في العالم من زمن قديم قوتان تصطرعان وتتنازعان السيادة إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، تمثل ذلك في الصراع بين الفرس والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والصليبيين، ثم في الصراع بين العثمانيين والأوروبيين مدًا وجزرًا، ثم كان آخر فصول هذه الملحمة الصلات بين الشرق ممثلًا في آسيا وإفريقية، وبين الغرب ممثلًا في أوروبا وأمريكا) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ف. بارتولد: تاريخ الحضارة الإسلامية ص: (35)، ترجمة حمزة طاهر، عن دار المعارف، الطبعة الرابعة: (1966 م)، القاهرة. ومما يلحظ في هذه التسميات، الشرق والغرب، والجنوب والشمال، أن كلًا منها قد ارتبط ببعد سياسي أو عقدي، فالشرق والغرب يظهر في الاستعمال السياسي والاستعماري والدبلوماسي، والجنوب والشمال يظهر في الاستعمال الكنسي والتنصيري. (¬2) محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص: (11)، الطبعة الخامسة: (1402 هـ - 1982 م)، عن مؤسسة الرسالة، بيروت.

مسلمات حول مفهوم الاستشراق والمستشرقين وملحوظات

مسلمات حول مفهوم الاستشراق والمستشرقين وملحوظات: يتضح من التعريفات السابقة للاستشراق والمستشرقين، ما تبعها من آراء وأقوال حول مسمى (الشرق)، أن في تلك الاراء مُسَلَّمَات من الناحيتين الجغرافية والموضوعية، ويرد عليها بعض الاعتراضات في بعض القضايا وبخاصة ما يتعلق منها بمدلول الشرق والغرب في الإسلام، وعلي الرغم من ذلك فإن نطاق الاستشراق والمستشرقين قد (اتسع مع الأيام في ناحية وضاق في ناحية أخرى؛ اتسع في الناحية الجغرافية إذ ضمَّ إلى دراسة المشرق العربي دراسة المغرب العربي، وضاق في الناحية اللغوية والدينية؛ إذ انصب اهتمام معظم المستشرقين على دراسة الإسلام في عقيدته وشريعته وتاريخه، وانصب اهتمامهم كذلك على دراسة اللغة العربية بعد أن درس معظمهم عدة لغات شرقية من هندية وصينية وغيرهما بلهجاتها المتنوعة (¬1)، مما يدل دلالة واضحة على أن هدف الاستشراق والمستشرقين هو الإسلام ومفتاحه اللغة العربية، ولا غير في ذلك فإن الإسلام هو مصدر عزة الشرق وقوته المعنوية والحسية؛ ولأنَّ (الإسلام هو صلب الشرق، فإذا وهن الإسلام وهن الشرق كله) (¬2). ولعل أكثر ما يهم في هذا البحث هو ما قام به بعض المستشرقين من ¬

_ (¬1) انظر عمر فروخ: الاستشراق ما له وما عليه، مجلة المنهل، العدد: (471)، ص: (15)، رمضان وشوال: (1409 هـ)، العدد السنوي المخصص. (¬2) مصطفى الخالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار ص: (7)، الطبعة الثالثة: (1986 م)، عن المكتبة العصرية - بيروت. وانظر: محمد بركات البيلي: الخليفة التاريخية للاستشراق. . . (المنهل - العدد السنوي 1409 هـ)، ص: (136)، المرجع السابق نفسه.

دراسات عن الإسلام والأمة الإسلامية، تهدف في مجملها إلى توهين ذاتية الأُمَّة الإسلاميَّةِ، وإذابة تميزها في ثقافات الأمم الأخرى. أما المسلمات المشار إليها آنفًا فهي: - كون الأرض من حيث طبيعتها الجغرافية التي فطرها اللَّه عليها مقسومة إلى شطرين شطر تشرق منه الشمس ويسمى المشرق أو الشرق، وشطرها الآخر تغرب فيه الشمس ويسمى المغرب أو الغرب (¬1)، ومن المسلم به لدى العالم أجمع كون أيام الأسبوع والشهر تبدأ من شرق آسيا وتنتهي بأمريكا (¬2). - ومن ناحية أخرى فإن التمايز الحضاري والثقافي بين الأمم الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط والأمم الواقعة غربه من المسلمات فقد تشكلت حضارة وثقافة ترتكز على الإسلام في جملتها في الشعوب والأمم الواقعة شرق البحر المذكور، وسادت ثقافة واحدة وحضارة واحدة في الجملة في شعوب أوروبا وأمريكا وحتى روسيا (¬3). وكون التقسيم يعتمد على الثقافة والحضارة فهذا مُسَلَّمٌ به، ولكن مصطلح الشرق والغرب في هذه الناحية الموضوعية ليس مُسَلَّمًا به بل الأولى تغييره إلى الغرب والإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه ص: (42)، مرجع سابق. (¬2) انظر: زيد بن أحمد بن زيد العبلان: الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلامية ص: (10)، رسالة ماجستير في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة: (1406 هـ)، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض. (¬3) زيد بن أحمد العبلان: الدراسات الاستشراقية. . ص: (10، 11)، المرجع السابق نفسه. (¬4) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية: (1/ 13)، الطبعة الأولى: (1991 م)، عن مركز دراسات العالم الإسلامي، وقد غير =

وأما مدلول الشرق والغرب في الإسلام فإن الذي يحدده جزيرة العرب مهد الإسلام ومهبط الوحي، فما كان شرقها فهو المشرق والشرق، وما كان غربها فهو المغرب أو الغرب، وهذا ما درجت عليه الأمة الإسلامية في تاريخها القديم والحديث (¬1)، إلا أَنَّه شاع في العصر الحاضر (مصطلح الشرق الأوسط كمصطلح جغرافي وسياسي حتى شعوب العالم الإسلامي اعتادت هذه التسمية التي أطلقها عليهم الآخرون، مع أن المقصود بها وبالشرق الأدنى والشرق الأقصى تقسيم العالم الشرقي إلى أقسام حسب البعد والقرب من أوروبا. . . والذي يتحكم في تحديد هذه المسميات هي المصالح الغربية والمطامع السياسية وفقًا للظروف التاريخية ومراكز القوى الدولية) (¬2). ويؤكد بعض الباحثين أن مصطلح الشرق الأوسط يراد به (العالم الإسلامي منطقة جغرافية استراتيجية خاضعة لنفوذهم (أي: الغرب ومن خلفهم الصهيونية العالمية) مجردة من المقومات الذاتية للأمة الوسط أي الأمة الإسلامية، والتي تنبع من الإسلام ذاته عقيدةً وتاريخًا وحضارةً) (¬3). ¬

_ = المصطلح إلى المسيحية والإسلام غير أنه يرد مسمى المسيحية اعتراض، وقد سبق الإشارة إلى ذلك. وأما اختياري مسمى الغرب مقابل الإسلام فلكون على الغرب: (أصبح في حقيقته فكرة أيديولوجية أكثر منها فكرة جغرافية)، كما قال سيرج لاتوش: تغريب العالم ص: (32)؛ ترجمة خليل كلفت، عرض: سعيد الكفراوي، عن العربي الكويتية ص: (198)، العدد: (430)، ربيع الأول: (1415 هـ - سبتمبر 1994 م). (¬1) انظر: إبراهيم أنيس وآخرين: المعجم الوسيط: (1/ 480)، مادة (شرقت)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمود رياض: الشرق الأوسط في التطبيق الجوبوليتكي والسياسي ص: (19)، الطبعة الأولى: (1974 م)، عن دار النهضة العربية - بيروت. (¬3) توفيق محمد الشاوي: الشرق الأوسط والأمة الوسط ص: (4، 5)، الطبعة الأولى: (1414 هـ/ 1993 م)، عن دار الزهراء للإعلام العربي - مصر. وأشار محمد محمود =

ويمكن القول: إن الاستشراق: حركة فكرية ركزت دراساتها وأبحاثها في مجملها على اللغة العربية والدين الإسلامي للتمكن من احتواء الأمة الإسلامية، ونفي تميزها، وتحقيق سيادة الغرب وهيمنته على العالم الإسلامي بخاصة. * * * ¬

_ = الصواف إلى ما يعنيه مصطلح الشرق الأوسط؛ انظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص: (124 - 142، 188، 232 - 247)، طبعة: (1979 م)، عن دار الاعتصام، القاهرة.

لمحة موجزة عن تاريخه

لمحة موجزة عن تاريخه جذور نشأة الاستشراق تعددت آراء الذين أرَّخُوا لنشأة الاستشراق، وقد صنفها بعض الباحثين في أحد عشر رأيًا (¬1)، وربما زادت على ذلك، ويمكن إجمال أبرز هذه الآراء فيما يأتي: 1 - يرجع بعض الباحثين نشأة الاستشراق إلى (الأحداث السياسية والثقافية التي واجهت الغرب بالشرق منذ الحرب الفارسية اليونانية، مرورًا بالفتوحات الإغريقية التي أدَّت إلى وصول الإغريق والرومان إلى هذه الأصقاع التي استعمروها سياسيًا وحضاريًا) (¬2) حيث تخلل الاستشراق تلك الأحداث، وتمثل في أعمال ثقافية منها: أ- المعلومات التي سجلها المؤرخ اليوناني الشهير (هيردوتس) عن مصر والشام وبلاد الرافدين والجزيرة العربية. ب- تقارير البعثات الاستطلاعية التي رافقت اجتياح الإسكندر المقدوني لبلاد الشرق. ج- الألواح التي أرسلها (الإسكندر)، من بابل إلى اليونان، وقام العلماء اليونانيون بترجمتها وأفادوا منها في علوم الفلك وتقويم البلدان. د- إنشاء المدارس اليونانية في بعض المدن الشرقية مثل ¬

_ (¬1) انظر: علي بن إبراهيم النملة: الاستشراق في الأدبيات العربية، عرض للنظرات وحصر وراقي للمكتوب، ص: (23 - 31)، الطبعة الأولى: (1414 هـ - 1993 م)، عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض. (¬2) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية: (1/ 27 - 34)، مرجع سابق، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . .، ص: (71)، مرجع سابق.

(الإسكندرية، والرها، وحران، وجند يسابور) وما كان لها من آثار فكرية وكذا الفلاسفة الذين قصدوا تلك المراكز في الشرق. هـ - إخفاق الحملة الرومانية على الجزيرة العربية في عهد (يوليوس قيصر) وما أحدثه من أخبار وقصص ووصف للجزيرة العربية أذكى روح التعلق بالبحث وارتياد المجهول مما أسهم في نشأة الاستشراق. و- مكانة الإسكندرية بوصفها مركزًا ثقافيًا زاخرًا بالفلاسفة والمفكرين وكذلك مكتبتها الشهيرة، وقد شكل ذلك مددًا استشراقيًا للإمبراطورية الرومانية) (¬1). 2 - يربط بعض الباحثين نشأة الاستشراق بتاريخ الإسلام وأحداثه. . .؛ ومن أبرزها الآتي: 1 - بعثة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة المكرمة، وما كان لها من إرهاصات وأنباء وأحداث، شكلت جذورًا تاريخية للاستشراق. ب- ما أثارته هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، من بعض التساؤلات عن الإسلام، وما تخللتها بوادر المناظرات والمجادلة مع أهل الكتاب. ج- هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة، وظهور الأمة الإسلامية على ساحة الأحداث الإقليمية والعالمية. د- احتكاك هذه الأمة الوليدة باليهود في المدينة المنورة، ثم ¬

_ (¬1) انظر: ساسي سالم الحاج: المرجع السابق نفسه: (1/ 27 - 34)، وانظر: أحمد سمايلوفتش: المرجع السابق نفسه: ص 71، وانظر: محمد ماهر حمادة: فلسفة الاستشراف وأثرها في الأدب العربي (لأحمد سمايلوفتش)، مجلة عالم الكتب، العدد: (1)، ص: (231)، عدد خاص عن الاستشراق، رجب: (1414 هـ)، أبريل: (1984)، عن دار ثقيف. . . " الرياض.

بالنصارى في أطراف الجزيرة، دعوةً وجهادًا، ثم ما أعقب ذلك من فتوحات إسلامية وانتشار للإسلام في أرجاء المعمورة. هـ - غزوة (مؤتة) وغزوة (تبوك) حيث فرضتا -من وجهة نظر بعض الباحثين- المواجهة العسكرية بين المسلمين والروم (¬1)، مما اضطر (الحكومات أن تتعرف على هذا القادم الجيد، وأن تعطي عنه صورًا تشجع على قتاله والوقوف في وجهه) (¬2). و- وما اتخذته الكنيسة من موقف عقدي يرتكز على العداء للإسلام باعتباره يهدد عقيدتها ونفوذها وتطلعاتها (¬3). لذلك كانت الحاجة إلى الاستشراق -لديهم- من الضرورات العقديّة والسياسية وغيرها؛ للرد على الإسلام والمسلمين ولمواجهة هذا الواقع، مما كان له أثر كبير في نشأة الاستشراق. 3 - توافر عدد من الباحثين على القول: بأن حركة الاستشراق نشأت في أوروبا في القرن الثامن الميلادي انطلاقًا من الأندلس وصقلية (حينما التقى الأوروبيون بالثقافة الإسلامية المتفوقة على حضارتهم، وظلت حركة ¬

_ (¬1) انظر: محمد حسين هيكل: حياة محمد ص: (25)، الطبعة الثامنة عشرة، عن دار المعارف: (1989 م)، وانظر: قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية: ص: (19)، مرجع سابق. (¬2) علي النملة: الاستشراق. . . ص: (24)، المرجع السابق نفسه. (¬3) المرجع السابق ص: (26)، وانظر: علي الخربوطلي: المستشرقون. . . ص: (32)، مرجع سابق، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (56)، مرجع سابق، وانظر: إدوارد سعيد: الاستشراق. . ص: (89)، مرجع سابق، وانظر: مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم ص: (13 - 15)، الطبعة الثالثة: (1405 هـ - 1985 م)، عن المكتب الإسلامي - بيروت.

الاستشراق تنمو وتزدهر حتى استطاعت تكوين صرحها العلمى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) (¬1). ومنذ القرن الثامن الميلادي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظلت الآراء تتوافر لمعرفة بداية الحركة الاستشراقية في أوروبا وتحديد ما عسى أن يكون تاريخًا لهذه البداية، ومن أبرز الآراء في ذلك: أ- تركيز بعض الباحثين على القرن العاشر الميلادي بوصفه ظرفًا تاريخيًا لبداية الحركة الاستشراقية حيث (أدرك الغرب تلك المعجزة الحضارية التي شادها العرب فاندفعوا إليها ليتعلموها، ويتسلحوا بها، ويستفيدوا منها فأخذوا يدرسون لغتها وآدابها ويترجمون كتبها وينقلون علومها إلى بلادهم) (¬2)، وابْتُعِثَ الطلاب من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإنجلترا إلى الأندلس للدرس والتحصيل (¬3). ب- تحديد بعض الباحثين القرن الثاني عشر الميلادي بداية للاستشراق لما تمَّ فيه للمرة الأولى من ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية عام: (1143 م)، ولما جرى فيه كذلك من تأليف أول قاموس لاتيني عربي (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (70)، مرجع سابق، وانظر: - علي الخربوطلي: المستشرقون. . . ص: (27)، مرجع سابق. - علي النملة: الاستشراق. . . ص: (30)، مرجع سابق. (¬2) أحمد الإسكندري وآخرون: المفصل في تاريخ الأدب العربي: (2/ 408)، طبعة: (1934 م)، القاهرة، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (55)، المرجع السابق نفسه. (¬3) انظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (57)، مرجع سابق، وانظر: رودري بارت؛ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية: ص: (9)، ترجمة مصطفى ماهر، مرجع سابق. (¬4) انظر: أحمد سمايلوفتش: فلسقة الاستشراق. . . ص: (55)، المرجع السابق نفسه.

ويرى أحد المستشرقين البارزين أن بداية الاستشراق كان في ذلك القرن، حيث أسهم بعض الفلاسفة في نشر العلوم العربية في الغرب، وذكر منهم شخصين هما: (إبراهيم بن عزرا وتوماس برون) (¬1). ج- ويرى باحث إسلامي معروف (إنَّ الاستشراق بدأ في بعض البلدان الأوربية في القرن الثالث عشر الميلادي، مع وجود محاولات فردية قبل ذلك) (¬2). ويذكر أن المؤرخين يكادون يتفقون على نشأته بصورة جدية بعد الإصلاح الديني الذي قام به (مارتن لوثر) وغيره في أوروبا (¬3). د- يذكر أحد المهتمين بدراسة الاستشراق أن الغرب المسيحي يؤرخ لبدء وجود الاستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فينا الكنسي عام: (1312 م)، بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في العربية واليونانية والعبرية والسريانية، وفي جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وأفينيون، وسلامانكا) (¬4). هـ - من الباحثين من يرى أن القرن السادس عشر الميلادي قد شهد ولادة الاستشراق الفعلية، حيث أنشئ أول كرسي للغة العربية في باريس عام: (1539 م)، في الكوليج في فرانس) (¬5)، (وشغل هذا الكرسي (جيوم ¬

_ (¬1) برنارد لويس: تاريخ اهتمام الإنجليز بالعلوم العربية ص: (3، 4)، الطبعة الثانية بدون تاريخ، وأساسه ست مقالات نُشِرت لأول مرَّة في (المستمع العربي)، وانظر: أحمد سمايلوفتش فلسفة الاستشراق. . . ص: (58)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص: (532)، الطبعة السادسة: (1973 م)، عن دار الفكر، بيروت. (¬3) انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث. . . ص: (532)، المرجع السابق نفسه. (¬4) إدوارد سعيد: الاستشراق. . . ص: (80)، مرجع سابق. (¬5) أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (61)، مرجع سابق، وانظر: محمود =

بوستل (ت 1581 م)، الذي يعد أول المستشرقين الحقيقيين، وقد أسهم كثيرًا في إثراء دراسة اللغات والشعوب الشرقية في أوروبا، وجمع في الوقت نفسه وهو في الشرق مجموعة مهمة من المخطوطات) (¬1)، وتتابعت الجامعات الأوروبية في إنشاء مثل ذلك. و- وهناك من يرى أن مفهوم الاستشراق والمستشرقين لم يظهر في أوروبا إلا في نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (فقد ظهر أولًا في إنجلترا عام (1779 م)، وظهر في فرنسا عام: (1799 م)، ثم أدرج مفهوم (الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام: (1838 م) (¬2). 4 - يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن الاستشراق (انبثق من الحروب الصليبية التي لم تكن سوى أحد عناصر التحول في تاريخ الشرق) (¬3)، حيث ارتفعت بسبب ما وقع لها من انتكاسات حربية صيحات تدعو إلى نقل المعركة من ساحات الحرب إلى مجالات الفكر (¬4). ¬

_ = حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية. . . ص: (29)، الطبعة الأولى، (1404 هـ)، من سلسلة كتاب الأمة الصادرة عن رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، قطر، ورقمه في السلسلة: (5). (¬1) محمود حمدي زفزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية. . . ص (29)، المرجع السابق نفسه. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (21)، وانظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة. . . ص: (33)، مرجع سابق. (¬3) أحمد الشرباصي: التصوف عند المستشرقين، ص: (7)، طبعة: (1966 م)، عن مطبعة نور الأمل، القاهرة، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (55)، مرجع سابق. (¬4) انظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام. . . ص: (12)، الطبعة الثانية: (1980)، عن المكتب الإسلامي، بيروت، وانظر: محمد محمد الدهان: قوى الشر =

ومن هنا نشأت حركة الاستشراق لتحقيق الآتي

ومن هنا نشأت حركة الاستشراق لتحقيق الآتي: أ- الرد على الإسلام؛ لأنَّه وقف سدًا في وجه النصرانية. ب- إعادة تشكيل العالم الإسلامي وصياغة أوضاعه ليوائم التصورات الغربية وأغراضها من خلال الدراسات الاستشراقية، ومحاولة احتواء الشخصية الإسلامية من خلال ممارسات ثقافية وتربوية متواصلة احتواءً يتم به فصم العلاقة بين المسلم وبين ذاته وبينه وبين مجتمعه وبينه وبين تراثه (¬1) عن طريق التشكيك في العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وتوهين هذه المقومات والمقومات الأخرى كاللغة العربية والتقاليد والعادات في المجتمعات الإسلامية، ووصم هذه المقومات جميعًا بالقصور والتخلف والتطرف والجمود في حين تمجد قيم الحضارة الغربية الجمالية والثقافية وأنماطها الحياتية (¬2). ج- معرفة أحوال الشرق الإسلامي وأهله ودراستها دراسة شاملة وعميقة، والتوسل بهذه المعرفة للتأثير وممارسة النفوذ والهيمنة على الشرق الإسلامي وأهله من نواحٍ شتى تحركها نوازع سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية وثقافية (¬3). ¬

_ = المتحالفة: (الاستشراق - التبشير - الاستعمار) ص: (50)، الطبعة الثانية: (1408 هـ/ 1988 م)، عن دار الوفاء - مصر. (¬1) انظر: فؤاد أحمد فرسوني: المسافة بين الدراسات الإقليمية والدراسات الاستشراقية، مجلة المنهل ص: (121، 122)، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (120). (¬3) المرجع السابق نفسه ص: (119، 117)، وحول هذه النقاط كرَّس إدوارد سعيد دراساته في كتابه: الاستشراق. . . مرجع سابق، وساق الحجاج والبراهين النظرية والتاريخية لإثبات اضطلاع الاستشراق بتحقيقها وإنتاج الشرق على نحو منها.

الاستنتاجات والملحوظات حول نشأة الاستشراق

الاستنتاجات والملحوظات حول نشأة الاستشراق: تم فيما سبق عرض مجمل لأبرز الآراء في نشأة الاستشراق وظروفها، ومهما تعددت الآراء واختلفت الأقوال حول هذه النشأة وظروفها بعامة، أو في محاولة تحديد بداية واضحة ودقيقة يمكن أن تُعَدَّ البداية الحقيقية لتاريخ الاستشراق بخاصة، فإن المسار التاريخي لهذه الحركة يستوعب تلك الآراء والأقوال؛ لأنها إما أن تكون أسبابًا لنشوء الحركة أو ظروفًا أحاطت بنشأتها أو مظاهر لنشاطها، أو مرتكزات لأطوارها ومراحلها التاريخية. ولعل مما يوضح الصورة ويكشف ملامح الحقيقة وما يتصل بتلك الآراء والأقوال من بعض الاستنتاجات والملحوظات، ويمكن في ضوء ذلك محاولة معرفة ما يمكن أن يطلق عليه البداية الرسمية والبداية غير الرسمية للاستشراق: أولًا: لعل تاريخ البداية الرسمية للاستشراق -كما ذكر إدوارد سعيد فيما تقدم- كان بصدور قرار مجمع فينا الكنسي عام: (712 هـ)، الموافق: (1312 م)، بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية (¬1)، ومن الملحوظ في هذه البداية: - أنها كانت مرتبطة بالتنصير، وذلك أنه (حينما بدا للبابوات أن ينشئوا الرهبنات لبث الدعوة الدينية في الشرق لزم من أجل ذلك تعلم اللغات. . . وبخاصة العربية فأسسوا لهذا الغرض الدروس العربية في باريس وأكسفورد. . . ليتعلم الرهبان لغات الشرق ويدرسوا الطب في كتب العرب) (¬2). ومنذ ذلك التاريخ حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ظل الاستشراق ¬

_ (¬1) انظر: الاستشراق ص: (80)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين ص: (24)، مرجع سابق، وانظر: قاسم السامرائي: الاستشراق. . . ص: (16)، مرجع سابق.

مرتبطًا بالتنصير، ولم يظهر مفهوم الاستشراق منفصلًا عن التنصير في أوروبا إلَّا مع نهاية القرن الثامن عشر حيث ظهر في إنجلترا عام: (1193 هـ الموافق 1779 م)، وفي فرنسا عام: (1214 هـ الموافق 1799 م)، كما أدرج في الأكاديمية الفرنسية عام (1254 هـ الموافق 1838 م) (¬1). - (ومع أن الاستشراق أصبح من الناحية الأكاديمية منفصلًا عن التنصير إلَّا إِنَّهُ لم يزل التحالف بينها مستمرًا حتى العصر الحاضر) (¬2)، وظل التجاوب بين الاستشراق والتنصير متبادلًا وإن لم يكن التماثل بين المستشرق الأكاديمي والمبشر الإنجيلي ظاهرًا بشكل واضح (¬3). ثانيًا: أما البداية غير الرسمية للاستشراق فهي قد تمثلت في أعمال فردية قام بها أشخاص يعدون طلائع المستشرقين (¬4)، وكانوا مدفوعين للاستشراق إمَّا بعقيدة معينة أو بغرض محدد أو رغبة شخصية، سواء كان الدافع ذاتيًا أو كانت تقف من ورائهم جهات رسمية، وتمخضت تلك البدايات والأعمال الفردية عن البداية الرسمية -المشار إليها سابقًا- ويمكن القول إنَّ هذه الأعمال ونحوها تعد بمثابة الجذور التاريخية ¬

_ (¬1) انظر الصفحة السابقة ومراجعها، البحث نفسه، وانظر: الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة. ص: (33)، مرجع سابق. (¬2) محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية. . . . ص: (31)، مرجع سابق. (¬3) انظر: عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، دراسة نقدية ص: (23)، ترجمة قاسم السامرائي، طبع جامعة الإمام ونشرها، (1411 هـ - 1991 م)، الرياض، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق. . . ص: (30)، مرجع سابق. (¬4) للاطلاع على أسماء أولئك الطلائع راجع: - نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 110 - 125)، وفيها ترجمة لتسعة وعشرين علمًا من أوائل المستشرقين، مرجع سابق. - أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص: (59. 60)، مرجع سابق. - الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة. . . ص: (33، 34)، مرجع سابق.

للاستشراق في العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب، ويمكن استعراض أبرز ما فيها في الآتي: 1 - حينما اجتاح (الإسكندر المقدوني) بلاد الشرق عام: (330 ق. م)، خضعت تلك البلاد لأوروبا مدة قاربت ألف عام إلى عام (632 م) (¬1)، ويذكر المؤرخون بأن الغربيين اهتموا بالعرب، وكان اهتمامهم موجهًا إلى اليمن والسواحل بعامة، ولكن هذا الاهتمام كان اقتصاديًا وتخلَّلته بعض الاهتمامات الثقافية (¬2). ومما يلحظ في هذا الواقع أن شعوب الشرق كانت طيلة تلك المدة في ربقة طغيان الغرب إلى أن جاء الإسلام رحمة من اللَّه أنقذ به البشرية بعامة وشعوب الشرق خاصة حين حررها من ذلك الطغيان ورد عنها عادية الروم، وأصبح الإسلام القوة العظمى، وأصبحت كلمة اللَّه هي العليا وشعر الغرب إثر ذلك بالهلع وبالهوان ودعاه ذلك إلى التكفير بالواقع الجديد، وبدأ يخطط لتعبئة قواه وحشد إمكاناته لمحاولة القضاء على الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر: أرنولد توينبي: الإسلام والغرب والمستقبل ص: (16، 17)، نقلًا عن عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام ص: (277، 278)، الطبعة الأولى: (1412 هـ، 1992)، عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي - الرياض. (¬2) انظر: محمد ماهر حمادة: فلسفة الاستشراق. . .، مجلة عالم الكتب العدد: (5)، ص: (231)، عدد خاص عن الاستشراق، رجب: (1454 هـ)، مرجع سابق. وانظر: ماكسيم رودنسون وكريستيان روبان وجيوفاني غرابيتي وفرانكوريتش: أبحاث في الجزيرة العربية الجنوبية قبل الإسلام، ترجمة: نجيب عزاوي، سلسلة أبجدية المعرفة: (22)، عرض: عبد اللطيف الأرناؤوط: مجلة قرطاس عدد: (10)، ص: (10، 11)، عدد نوفمبر: (1996 م)، تصدر شهريًّا مؤقتًا. . . " الكويت. وانظر: حسين نصار: الاستشراق بين المصطلح والمفهوم، مجلة المنهل: ص: (13)، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين، مرجع سابق.

2 - من المؤكد أن الغرب قد تعرف على الإسلام وعالمه في وقت مبكر، ولذلك دلائل تاريخية متعددة لعل من أشهرها قصة أبي سفيان التي أوردها البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-: (أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش (أي صالحهم على ترك القتال فيها)، فأتوه وهم بإيلياء (بيت المقدس)، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا بترجمانه. . .) (¬1) الحديث. وخلاصة القصة أن هرقل سأل عن أخلاق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعن سيرته في قومه ودعوته إياهم، وأجابه أبو سفيان بغاية الصدق رغم جاهليته آنذاك، وبعد أن سمع هرقل أجوبة أبي سفيان قال في الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا حسنًا وقرأ كتاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي دعاه فيه إلى الإسلام قال أبو سفيان -كما جاء في الحديث المذكور- (فلمَّا قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، أكثر عنده الصخَبُ وارْتَفَعت الأصوات وأُخْرِجْنا، فقلت لأصحابي حين أُخْرِجْنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، (أي: عظم شأنه، ويقصد بابن أبي كبشة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- انتقاصًا وغمزًا)، إنَّهُ يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنَّه سيظهر حتى أدخل اللَّه عليَّ الإسلام) (¬2). وفي هذه القصة دلالةً واضحة على اهتمام الروم بالإسلام ومراقبة حركته وجمع المعلومات عنه منذ زمن مبكر (¬3)، ولا غرابة في ذلك لأن ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح البخاري: (1/ 7)، الباب الأول - بدء الوحي - الحديث رقم: (7)، تحقيق وترتيب: مصطفى ديب البُغا، مرجع سابق. (¬2) جزء من الحديث السابق، المرجع السابق نفسه: ص: (9). (¬3) ومما ورد في بعض المصادر التاريخية وكتب التفسير ودلائل النبوة: (أن الروم يحتفظون بصور للأنبياء وأن صورة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أُظهرت لبعض الصحابة في رحلته إلى الشام)، =

كتب أهل الكتاب تبشر برسول يأتي من بعد عيسى عليه وعلي نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم (¬1)، وعلي ضوء بشارتها وفدت بعض القبائل من أهل الكتاب إلى أطراف الجزيرة وبالقرب من المدينة انتظارًا لمبعثه. كذلك أرسل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الملوك والعظماء في زمانه (¬2) ومنهم (هرقل)؛ إن مثل هذا ونحوه دعا إلى الاهتمام بأمر الإسلام ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن مكمن الغرابة في موقفهم من الإسلام حيث كان عدائيًا منذ البداية، (ومن ذلك الحين تحددت نظرة الغربيين إلى الإسلام في الأعم الأغلب، هي نظرة عداء وحسد تمثلت في موقف البيزنطيين الغاضب من الإسلام ورسوله وهو موقف عقدي قبل أن يكون موقفًا سياسيًا أو نحوه، ثم جاءت الفتوحات الإسلامية ووقعت الحروب بين البيزنطيين والمسلمين، وتأجج عداء نصارى أوروبا للإسلام ذلك العداء الذي بلغ ذروته في الحروب الصليبية) (¬3). ¬

_ = وفي ذلك دلالات مهمة على اهتمامهم بالإسلام بغض النظر عن موقفهم منه، راجع في هذا ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (2/ 251 - 254)، مرجع سابق، عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} [الأعراف: 157]. (¬1) انظر: أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة: (1/ 89)، مرجع سابق. (¬2) انظر في رسائل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلى الملوك والعظماء: - عبد الجبار محمود السامرائي: الرسائل التي بعث بها النبي إلى الملوك المجاورين، مجلة الفيصل، العدد: (55)، محرم: (1402 هـ)، ص: (71 - 81)، مرجع سابق. - خالد سعيد علي: رسائل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلى الملوك والأمراء، الطبعة الأولى: (1407 هـ - 1987 م)، عن مكتبة التراث، الكويت. - رؤوف شبلي: عالمية الإسلام؛ ملحق مجلة الأزهر، عدد ربيع الأول: (1409) هـ. - الإمام محمد بن طولون الدمشقي: (880 - 953 هـ)، إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين -صلى اللَّه عليه وسلم-، تحقيق: محمود الأرناؤوط، عن مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية: (1407 هـ)، بيروت. (¬3) انظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق. . . (المنهل، العدد السنوي =

ومما يعكس تلك الروح العدائية اضطلاع البيزنطيين والغربيين من بعدهم بمجادلة الإسلام، ويذكر بعض المؤرخين أن البيزنطيين هم الذين بدؤوا العداء (¬1)، وانعكس ذلك في مجادلتهم الإسلام لصرف إخوانهم النصارى عنه أولًا، ثم بقصد تشويه الإسلام ونسبته إلى اليهود والنصارى ودعوى أنه مجرد تلفيق متناقض للديانتين. ومن أبرز هؤلاء المجادلين العالم النصراني يوحنا الدمشقي: (56 - 131 هـ الموافق 676 - 749 م) الذي أظهر اهتمامًا بدراسة الإسلام من ذلك الوقت المبكر، وتمثل ذلك في مؤلفات من أهمها (محاورة مع مسلم)، و (إرشادات النصارى في جدل المسلمين)، قصد بها صرف إخوانه النصارى عن الدخول في الإسلام (¬2)، ومما يذكره بعض المؤرخين عنه أنه (يعد ممهد الجادة للمستشرقين المعروفين بتحاملهم على الإسلام، فأكثر ما يزعمونه ويفترونه عليه، هو مما كان قد قاله ودوَّنهُ قبلهم بما يزيد على ألف عام) (¬3). ويورد جواد علي بعد ذلك جملة من كتب الجدل والمناظرات المؤلفة في الرد على المسلمين يثبت من خلالها تحاملها على الإسلام من ناحية، وارتباطها بدوائر العداء له من ناحية أخرى (¬4). ¬

_ = المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرفين): ص: (133)، المرجع السابق نفسه. (¬1) انظر: جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، ص: (33 - 35)، الطبعة الثانية: (1988)، عن دار الحداثة - لبنان. (¬2) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق. . . ص: (19)، مرجع سابق، وانظر: جواد علي: المرجع السابق نفسه، ص: (25)، وقد أوردت تاريخ ولادته حوالي: (675 م)، وانظر: عثمان جمعة ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية: ص: (65)، الطبعة الأولى: (1414 هـ - 1993 م)، عن مكتبة السوادي - جدة. (¬3) انظر: جواد علي: المرجع السابق نفسه، ص: (26). (¬4) لمزيد الاطلاع: انظر: المرجع السابق نفسه ص: (33 - 35، 22، 23، 24، 25، =

الصلات الثقافية بين الإسلام والغرب في الأندلس وصقيلية

الصلات الثقافية بين الإسلام والغرب في الأندلس وصقيلية تمخضت الصلات الثقافية في الأندلس، وما جرى من الصراع بين العالمين الإسلامي والنصراني فيها وفي صقيلية عن ضروب من الدراسات الاستشراقية، وأنتجت هذه الفترة حركة فكرية ذات شقين: الشق الأول: التركيز على تشويه الإسلام عقيدة وسلوكًا، والزراية -حقدًا وكراهية- برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويخال الاستشراق أنه بصنيعه هذا يهدف إلى تحصين الغرب النصراني من المد الإسلامي، ويعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام وعقيدته على حساب النصرانية، ومن أجل هذا لم تألُ الكنيسة جهدًا في تشويه الإسلام، من خلال الدس والتزوير والافتراء وانتهجت في ذلك المجادلات البيزنطية، التي واجهت بها الكنيسة الشرقية الإسلام (¬1). وهي مساوئ واحتقارات هاجموا بها العرب والمسلمين، ولم تكن -في حقيقتها- سوى تهم باطلة، ودعاوى زائفة، وآراء متناقضة، صدرت عن بعض الكتاب والشعراء المرتزقة (¬2)، وضمت جهودهم إلى جهود ¬

_ = 26 - 33). وانظر في الجدل المديني في الأندلس: إدغار فيير: في الجدل المديني في الأندلس والإبتمولوجيا الحديثة، ترجمة: الصادق الميساوي (مقال)، نشر في المجلة العربية للثقافة: ص: (72 - 93)، مجلة نصف سنوية. . . " السنة الرابعة عشرة، العدد السابع والعشرون، ربيع الأول: (1415 هـ - سبتمبر: (1994 م)، عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. . . تونس. (¬1) انظر: جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام ص: (34 - 35)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمد بركات: الخلفية التاريخية للاستشراق؛ المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين ص: (133)، مرجع سابق.

اللاهوتيين (رجال الكنيسة) في محاولات ترمي إلى تشويه حقيقة الإسلام والطعن في الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته وحملة رسالته. ومن أشد ما قالوه في الإسلام ورسوله من تفاهات ساقطة أنه عقيدة وثنية، وأن المسلمين يعبدون ثلاثة آلهة (تيرماغان، محمد، وأبو للو) (¬1)، وقالوا في الرسول محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه المسيح الدجال، وأنه الأمارة لليوم الآخر، وأن جنود الإسلام وحملته إرهابيون وحشيون، وقد استمر هذا التشويه البشع الذي مارسه المستشرقون من اللاهوتيين وغيرهم زمنًا طويلًا في السيطرة على الشعوب الأوروبية (¬2)، وما تزال هذه الممارسات العدائية الحاقدة تشتد وتتأكد في العصر الحاضر بسبب حقد الصهيونية، وعداوتها الشديدة للإسلام والمسلمين وتأثيره على الدراسات الاستشراقية ووسائل الإعلام. ومن أبرز ما حمل هؤلاء على تشويه صورة الإسلام عوامل عدة، منها: 1 - ما اتسمت به الفتوحات الإسلامية من سرعة وانتصار وبخاصة فتوحات الإسلام الأولى (¬3) التي أدهشتهم، وجعلت ما لم يكن معقولًا بالنسبة لحروب أي أمة هو المعقول بالنسبة للمسلمين، وقد شكل الفارون ¬

_ (¬1) انظر إدوارد سعيد: الاستشراق. . . ص: (91)، مرجع سابق. وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية ص: (22)، مرجع سابق. (¬2) انظر: إسماعيل عمايرة: المستشرقون وصلتهم بالعربية، المنهل ص: (83)، العدد السنوي: (1409 هـ)، المرجع السابق نفسه، وانظر عبد القادر طاش: الجذور التاريخية للصورة النمطية للإسلام، المنهل ص: (301)، المرجع السابق نفسه. (¬3) انظر: إسماعيل عمايرة: المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية، ص: (83)، مرجع سابق، المنهل العدد السنوي لعام (1409 هـ)، وانظر: عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي ص: (31)، الطبعة الأولى: (1409 هـ، 1989 م)، عن شركة الدائرة للإعلام، الرياض.

من هذه الفتوحات مصدر شائعات كان لها تأثير كبير في تشكيل الموقف العدائي المضاد لدعوة الإسلام (¬1). ومن الأمثلة لذلك: أن بطرك بيت المقدس خرج مع كثير من مشهوري الصليبيين وفرسانهم حين فتح صلاح الدين بيت المقدس، ولبسوا السواد، وأظهروا الحزن على ذهاب بيت المقدس من أيديهم، ودخلوا بلاد الإفرنج يطوفونها ويستنجدون بأهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر بيت المقدس، وصوروا المسيح وأمامه رجل عربي ينهال عليه ضربًا، وجعلوا الدماء تسيل على وجه المسيح وصدره، وكتبوا في شرح هذه الصورة: (هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله) (¬2). ومن الأمثلة على صنيعهم هذا أنهم صوروا قبر المسيح وصوروا عليه فارسًا مسلمًا يطؤه بحوافر جواده وهو يبول عليه، وقد وزعوا هذه الصورة في أسواق بلادهم ومجامعها، حيث كان القسس يحملونها ورؤوسهم مكشوفة وعليهم المسوح وهم ينادون بالويل والثبور (¬3). وواضح أن هذه الوسائل التي تثير الحفائظ وتعمق الحقد والكراهية للإسلام وأهله، كانت تهدف إلى محاولة تحصين المجتمع الغربي -المرتكز على عقيدة التثليث- من التأثر بدعوة الإسلام المرتكزة على عقيدة التوحيد وما تعنيه من مناقضة لما تقدمه الكنيسة من العقائد المنحرفة (¬4). 2 - ومن العوامل التي جعلت الأوروبيين يغرقون في محاولتهم تشويه ¬

_ (¬1) انظر: مصطفى عمر حلبي: الخلفية الثقافية لاتجاهات المستشرقين في دراسة شخصية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، المنهل العدد السنوي لعام: (1409 هـ)، ص: (31)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: قاسم السامرائي: الاستشراق. . . ص: (20، 21)، مرجع سابق. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (21). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (21).

عقيدة الإسلام والانتقاص من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ووصم المسلمين بالوحشية، أن الفتوحات الإسلامية توافقت مع غزوات الونداليين (وهم قبائل وثنية كانت تغير بوحشية وضراوة على أوروبا) مما جعلهم يلصقون أعمال (الوندال) الوحشية وعقيدتهم الوثنية بالمسلمين؛ حتى لقد شاع بين الغربيين أن المسلمين ونداليون، وقد خلا الجو للقساوسة -وهم طلائع الاستشراق آنذاك- الذين كانوا يدركون حقيقة الإسلام وغايته وما فيه من خير ونور واستقامة وتقدم، للعمل من خلال موقفهم المديني ومنهجهم الاسشراقي على المحافظة على عقيدتهم مستغلين جهالة جماهيرهم التي لم تكن تعرف لغة المسلمين، ولم يكن المسلمون كذلك يعرفون اللغة اللاتينية، وقد استغل القساوسة ورجال (اللاهوت) هذا المناخ وتلك الفرصة ليس لصرف الناس عن الإسلام فحسب، بل قاموا يعاونهم في ذلك الشعراء والقصاص، بمهمة التعبئة العارمة ضد الإسلام وإعداد الناس لحرب المسلمين (¬1). 3 - ومن العوامل التي غذت حملتهم في تشويه صورة الإسلام ورسوله وحملته، ما كان لديهم من نظرة الاستعلاء والغرور التي (دأبت الشعوب الأوروبية على تنمية إحساسها المفرط بها، وما ترتب على ذلك من جهلها بالأمم الأخرى، حتى لقد ظلُّوا إلى عصور متأخرة وربما إلى العصر الحاضر يحسبون أن الأرض مخلوقة لهم، وأن على أطرافها من بعيد ¬

_ (¬1) انظر: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين ص: (83)، المرجع السابق نفسه. وانظر: مصطفى عمر حلبي: الخلفية الثقافية لاتجاهات المستشرقين (المنهل): ص: (31 - 34)، المرجع السابق نفسه.

وربما من خارجها تنبري لهم بين العين والآخر أمم عارضة وغامضة أطلقوا عليهم اسم الوثنيين تارة. . . وأتباع المسيح الدجال تارة أخرى) (¬1). الشق الثاني: أما الشق الثاني من تلك الحركة الفكرية التي تمخضت عن احتكاك الغرب بالإسلام (فإنها تشبه إلى حد ما الحركة التي قامت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن سبقه لترجمة العلوم اليونانية وغيرها إلى العربية، فقد أدى هذا الاحتكاك إلى توافر عدد من العلماء النصارى في أوروبا بدءًا من العام (1130 م) للعمل بدأب على ترجمة الكتب العربية في الفلسفة والعلوم، وكان لرئيس أساقفة طليطلة وغيره الفضل في إخراج ترجمات مبكرة لبعض الكتب العلمية العربية بعد الاقتناع بأن العرب يملكون مفاتيح قدر عظيم من تراث العالم الكلاسيكي) (¬2). وإذا كانت الحركة التي قامت في عهد المأمون خدمت الحياة الإنسانية وأسهمت في بناء الحضارة ونشر العلم والرقي الثقافي لدى الشعب فإنها -من جانب آخر- قد خلطت إلى حد ما بين الفلسفة اليونانية والعلوم مما كان له آثار سلبية على عقيدة المسلمين وفكرهم، وقد تولت الدراسات المتخصصة في هذا الجانب نقد تلك الآثار وبيان وجه الصواب فيها. أما حركة الترجمة والنقل إلى اللاتينية التي قام بها الغربيون فقد حرصت على أن تحافظ في مجملها على الشخصية الغربية من أن تذوب في حضارة المسلمين، وحرصت على فصل العقيدة عن العلوم التطبيقية، ¬

_ (¬1) انظر: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية، المنهل ص: (83)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (24)، مرجع سابق.

ولم تكتف بترك ما له صلة بالعقيدة الإسلامية وعزله عن تلك الحركة الفكرية، بل بادرت في أول أمرها إلى تشويهه بدعوى تحصين الغربيين من التأثر به، كما سبق بيان ذلك- وأما العلوم التطبيقية فإن الغرب نقل عن المسلمين هذه العلوم والمعارف من طب وذلك ونحوهما، ويقرر كثير من المستشرقين أن أوروبا قد توجهت في ذلك العصر شطر المسلمين الذين كانوا أئمة العلم وحدهم للاغتراف من بحار علومهم وفنونهم (¬1). وقد اعترف المستشرق الفرنسي (لوبون) بالفرق الهائل بين حضارة المسلمين وهمجية الغرب الأوروبي في القرون الوسطى، ويعترف أيضًا بأن أوروبا الغربية لكي ترفع عن نفسها أكفان الجهل الثقيل توجهت شطر المسلمين في الأندلس وصقلية - وتوافد إليهما الدارسون من الأقطار المجاورة لهما؛ إيطاليا. . . فرنسا. . . إنجلترا. . . ألمانيا، واصطبغ بلاط صقلية النورمندي بصبغة عربية، وشاركت في عهدها الإسلامي إسبانيا في تلقي الوافدين الأوروبيين لدراسة علوم العربية وحضارة الإسلام (¬2). ومما يلحظه الباحثون في مسار هذه الحركة التي تولت نقل العلوم إلى الغرب ما يأتي: أ - لم ينصف هؤلاء الناقلون المسلمين فيما نقلوه عنهم، بل إن نقولهم لم تتصف بالموضوعية والعلمية - فروجر بيكون (611 - 693 هـ/ 1214 - 1294 م) الإنجليزي الذي تلقى تعليمه في أكسفورد وباريس، ونال ¬

_ (¬1) انظر: حسين نصار: الاستشراق بين المصطلح والمفهوم (المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين ص: (13)، المرجع السابق نفسه، وانظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (72 - 73)، مرجع سابق. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص (13)، وانظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق. . . (المنهل) ص: (135)، المرجع السابق نفسه.

الدكتوراه في (اللاهوت)، ترجم عن العربية كتاب مرآة الكيمياء ونسبها إلى نفسه، على الرغم من أنَّه كان تلميذًا للمسلمين حيث تلقى أفكارهم كما تلقى عنهم الطريقة التجريبية التي ابتكروها ونقلها إلى أوروبا المسيحية، (وظل (بيكون) يعترف بهذا دون ملل، وكان يؤكد أن علوم المسلمين كانت له ولمعاصريه الطريقة الوحيدة للثقافة الصحيحة) (¬1). كذلك (جيراردي كريموني 508 - 583 هـ/ 1114 - 1187 م) الإيطالي الذي قصد طليطلة، وترجم ما لا يقل عن 87 مصنفًا في الطب والفلك وغيرهما (¬2). وعلي مثل هذا سارت حركة الترجمة والنقل والتأليف في الأعم الأغلب، فالقوم ترجموا العلوم التي أسسوا عليها حضارتهم دون أن ينصفوا المسلمين فيما نقلوه عنهم، والسبب في ذلك هو التخطيط المسبق وما يرتكز عليه من العداء للإسلام والمسلمين والأحقاد والمخاوف التي كانت تحدد اتجاهات المعرفة (¬3). ¬

_ (¬1) محمد شريف: الفكر الإسلامي، منابعه وآثاره: ص: (87)، ترجمة: د. أحمد شلبي الطبعة الثانية: (1966 م)، عن مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. انظر: عبد الرحمن علي الحجي: الحضارة الإسلامية في الأندلس: ص: (63)، وانظر: أحمد العناني: أطول معارك التاريخ: ص: (146)، الطبعة الأولى: (1985 م)، مؤسسة الشرق، قطر. (¬2) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص: (33، 34)، مرجع سابق. وانظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 115، 116)، مرجع سابق، وانظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإسلامية ص: (42، 43)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1990 م)، عن دار الرفاعي. . . " الرياض. (¬3) انظر: مصطفى عمر الحلبي: الخلفية الثقافية لاتجاهات المستشرقين. . (المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام 1409 هـ، عن الاستشراق والمستشرقين: ص: (30، 32)، المرجع السابق نفسه، وعن أثر الإسلام في الحضارة الغربية راجع: =

ب- إن طائفة من أولئك المستشرقين الذين اتصلوا بالحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية كانوا يضمرون العداء للمسلمين على الرغم من تتلمذهم على أيديهم ودراستهم في الجامعات الإسلامية في الأندلس كما سبق ذكر اعتراف (روجر بيكون) بذلك، فمن أوساط هؤلاء جاءت الدعوات للقضاء على الإسلام والمسلمين عسكريًا. ومن الأمثلة على ذلك أن (جربردي أورلياك 327 - 394 هـ/ 938 - 1003 م)، هو من طلائع المستشرقين قصد الأندلس قرأ على أساتذتها ثم انتخب بعد عودته حبرًا أعظم باسم (سلفستر الثاني 389 - 394 هـ/ 999 - 1003 م) وكان بذلك أول بابا فرنسي، ويروى أَنَّهُ أول من دعا إلى الحروب الصليبية لإبادة المسلمين والقضاء على الإسلام (¬1)، ودعا بدعوته (بطرس الناسك) فيما بعد عندما عقد مجمع كليرمون (1095 م) (¬2). ¬

_ = - محمد أمين المصري: المجتمع الإسلامي ص: (51 - 61)، الطبعة الرابعة: (1456 هـ - 1986 م)، عن دار الأرقم، الكويت. - محمد عبد اللَّه مليباري: المرجع السابق نفسه: ص: (38 - 47). - جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي: ص: (486 - 547)، دار مصر للطباعة، بدون تاريخ. - أحمد إبراهيم شريف: دراسات في الحضارة الإسلامية: ص: (177 - 195)، طبعة دار القرآن: (1976 م)، القاهرة. (¬1) انظر: الأمير شكيب أرسلان في تعليقه على: حاضر العالم الإسلامي: لوثروب ستودارد، الجزء الثالث، المجلد الثاني: ص: (215)، الطبعة الرابعة: (1394 هـ)، وقد عزا ذلك إلى المسيو فرناند هايوارد: تاريخ البابوات. وانظر: علي جريشة: الغزو الفكري ص: (281)، مطبوعات جامعة الإمام: (1404 هـ - 1994 م)، وانظر: محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق ص: (22)، الطبعة الأولى: (1400 هـ - 1980 م)، دار البحوث العلمية، الكويت. (¬2) انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 56)، مرجع سابق، وفيما بين دعوة سلفستر الثاني: ت: (1003)، ودعوة بطرس الناسك: (1095 م)، دعا البابا (جريجوريوس)، =

ج- لم تكن هذه الحركة التي تعد عميقة الصلة علميًا بحضارة المسلمين ذات أثر في تصحيح رؤية الغرب لعقيدة الإسلام وتاريخه ولأخلاق المسلمين وسلوكهم ولحضارة الإسلام وثقافته، بل كانت هي الأخرى ماكرة في عدائها، شديدة الوطأة على الإسلام والمسلمين، فقد أسفرت عن مسلك جديد في محاربة الإسلام قاده القس (بطرس المبجل ت 1156 م) وهو رئيس رهبان دير كلوني، حيث تمثل مسلكه هذا في تشكيل جماعة من المترجمين في إسبانيا يعملون بصفة فريق واحد من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الإسلام بدءًا بإنجاز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية وهي الترجمة الأولى التي تمت عام (1143 م) التي ظهرت باسم العالم الإنجليزي (روبرت أوف كيتون) (¬1). وظهر -من تحقيق بعض الباحثين- أن بطرس المبجل هذا كلف اليهودي المتنصر - (بطرس أوبيدرو الفرنسي أو العبري أو الطليطلي الذي تنصر عام (1106 م) في إسبانيا- أن يترجم القرآن إلى اللاتينية (¬2)، ومما فعله (بطرس المبجل) أيضًا أنه صرف (روبرت أمه كيتون) الذي نسبت إليه ترجمة القرآن الكريم الأولى إلى اللاتينية، وزميله (هرمان الألماني) -وهما راهبان- عن دراسة الفلك إلى ترجمة معاني القرآن الكريم (¬3) إلى اللاتينية، وكان قصده من ذلك دحض الإسلام وتنصير المسلمين، وممّا يدل على ذلك ما ذكره سببًا لترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية إذ قال: (فإذا لم يكن بهذا الطريق إعادة المسلمين إلى المسيحية الصحيحة، فلا أقل من أن ¬

_ = سنة: (1075 م)، إلى الحروب الصليبية؛ انظر: محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق: ص: (22)، المرجع السابق نفسه. (¬1) انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 113)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: قاسم السامرائي: الاستشراق ص: (22)، مرجع سابق. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (22).

يستفيد العلماء المسيحيون من عملنا في مجال دعم إيمان المسيحيين السذَّج الذين يمكن أن تضير هذه الصغائر عقيدتهم) (¬1)، وكان (يعتقد أن العقل والإقناع ورحمة الأناجيل هي خير الوسائل لجلب الخصم إلى في من الحق) (¬2). وعلي الرغم من أن بعض الباحثين يرى أن (بطرس المبجل)، كان يرى التخلص من خطر المسلمين بتنصيرهم (¬3)، إلَّا أن باحثين آخرين (توقفوا عند حادثة مجمع دير كلوني حيث عقد هذا المجمع في سنة (488 هـ - 1095 م)، بعد سقوط طليطلة بعشر سنوات، وأقر حرب المسلمين في الأندلس وفلسطين، ورأت هذه الحركة التي تزعمها رهبان (دير كلوني) في توسع الإسلام غضبًا إلهيًا يجب التكفير عنه بالدَّعوة إلى حرب المسلمين، وكان رهبان هذا الدير يرافقون الجيش الصليبي في الأندلس لتحطيم شعائر المسلمين والتركيز على شعائر روما) (¬4). * * * ¬

_ (¬1) نقلًا عن: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية. ص: (28، 29)، الطبعة الثانية: (1412 هـ - 1992 م)، عن دار حنين - الأردن. (¬2) إدغار فيبير: الجدل المديني في الأندلس ص: (84)، ترجمة الصادق الميساوي، المجلة العربية للثقافة، مرجع سابق. (¬3) انظر: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون وتاريخ صلتهم باللغة العربية: ص: (29)، المرجع السابق نفسه. (¬4) انظر قاسم السامرائي: الاستشراق ص: (23)، مرجع سابق، وانظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 56)، مرجع سابق.

أثر الاستشراق في الحروب الصليبية وأثرها في الاستشراق

أثر الاستشراق في الحروب الصليبية وأثرها في الاستشراق نشبت الحروب الصليبية ودارت رحاها بين الإسلام والنصرانية في فلسطين، واستمرت زهاء قرنين من الزمان من عام (489 هـ الموافق 1095 م)، إلى عام (690 هـ الموافق 1291 م) (¬1)، وإنها عند التحقيق جاءت إنفاذًا لقرارات أسهم في صنعها وتغذيتها الاستشراق اللاهوتي، فلم تكن الحروب الصليبية -كما يرى نجيب العقيقي (إلا نتيجة واحدة لمقدمة واحدة هي الاستشراق) (¬2). ويذكر (ساذرن) (بأن رجالات الغرب كانوا يرقبون بقلق كيف تؤثر القيم الإسلامية على القيم المسيحية تأثيرًا مدمرًا عندما تواجهها، وقد رأى اللاهوتيون الغربيون فيما بعد أن حماية المسيحية من الإسلام لا تكون إلا بضربه عسكريًا والاستيلاء على أرضه أو إقناع معتنقيه باتخاذ المسيحية دينًا) (¬3). ويقول -أيضًا-: (إن الإسلام يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة، فباعتباره مشكلة عملية استدعى الأمر اتخاذ إجراءات معينة كالصليبية والدعوة إلى النصرانية والتبادل ¬

_ (¬1) انظر: محمد مختار باشا: كتاب التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الأفرنجية والقبطية: ص: (521 - 723)، تحقيق: محمد عمارة، الطبعة الأولى: (1400 هـ - 1980 م)، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. (¬2) نقله عنه أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (55)، مرجع سابق، المستشرقون: (1/ 35، 36)، الطبعة الأولى: (1937 م)، بيروت. لم أجدها في الطبعة التي اعتمدتها، الطبعة الرابعة: (1980 م)، عن دار المعارف - مصر. (¬3) نقلًا عن عبد القادر طاش: الجذور التاريخية. . . المنهل ص: (292)، العدد المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين، مرجع سابق.

التجاري، باعتباره مشكلة لاهوتية تطلب بإلحاح العديد من الإجابات على العديد من الأسئلة، وفي هذا الصدد يقتضي معرفة الحقائق التي لم يكن من السهل معرفتها، وهنا ظهرت مشكلة تاريخية صار من المتعذر حلها كما ندر إمكانية تناولها دون معرفة أدبية ولغوية يصعب اكتسابها، وصارت المشكلة أكثر تعقيدًا بسبب السرية والتعصب والرغبة القوية في عدم معرفتها خشية الدنس) (¬1). إن مقولة (ساذرن) هذه وأمثالها تكشف عن موقف العالم النصراني من الإسلام وأنه انطلق في مواجهته للإسلام من خطبة مدروسة أسهم في صياغتها الاستشراق اللاهوتي، تبدو فيها الحروب الصليبية صورة من طبيعة الصراع بين الإسلام والغرب النصراني قصد بها القضاء على المسلمين عسكريًا على الرغم من وجود تيار فكري داخل أوروبا يدعو إلى سنن الحرب الثقافية بدلًا من فكرة القضاء على المسلمين عسكريًا، (وقد ظل موقف أوروبا يتذبذب بين الدعوة إلى القضاء عسكريًا على المسلمين وعدم إضاعة الوقت في أي أمر يمكن أن يعرقل هذا الهدف وبين الدعوة إلى حربهم حربًا ثقافية، وقد امتد هذا الأمر من بعد الحروب الصليبية إلى بداية ما اصطلح عليه بعصر النهضة الأوروبية) (¬2). ولكن صمود الإسلام في مواجهة أعدائه من النصارى وغيرهم كالتتار والمغول، وبعد انكفاء الحروب الصليبية منهزمة مدحورة دون تحقيق أهدافها من القضاء على الإسلام والمسلمين واجتثاثه من أصله، برزت أهمية الحرب الثقافية، وتأكدت مع مرور الزمن ولا سيما بعد نمو القوة ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (21، 22)، مرجع سابق. (¬2) إسماعيل عمايرة: المستشرقون وصلتهم بالعربية، المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين، ص: (87)، مرجع سابق.

الإسلامية وتعاظمها على أيدي العثمانيين الذين طرقوا أوروبا من بوابتها الشرقية بعد فتح القسطنطينية في سنة (857 هـ - 1453 م)، ثم اقتحموا أوروبا إلى المجر واستولوا عليها، ومع أن الأوروبيين أصيبوا بخيبة أمل متلاحقة، ووقعوا في الإحباط إزاء إخفاق خططهم ضد الإسلام، إلَّا أن الاستشراق وقادة الصليبية قاما خلال مرحلة طويلة امتدت حتى نهاية المد الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري -الخامس عشر الميلادي- بالعمل المتواصل على تحصين الغرب النصراني ضد عقيدة الإسلام وهديه وإعاقة انتشار دعوته في شعوب العالم الغربي (¬1). أما المرحلة الثانية التي تبدأ منذ توقف المد الإسلامي ثم ما تلاه من الفترة التي أخذ فيها الانحسار عن أوروبا، حيث فقد المسلمون الأندلس نهائيًا، وذلك بسقوط غرناطة عام (897 هـ - 1492 م) ثم ما أعقب ذلك من ضعف العثمانيين على الجبهة الشرقية، فقد شهدت هذه المرحلة تغييرًا جوهريًا في موقف كل من الحضارتين الإسلامية والغربية، وبأن الخط البياني لكل منهما يأخذ اتجاهًا معاكسًا للآخر. . . وإزاء ما حل بالمسلمين من ضعف أصبح العالم الإسلامي يواجه أوروبا متغيرة عما كانت عليه في القرون الوسطى، واقترنت نهضتها بحركة استعمارية تتسم بعداوتها للإسلام والمسلمين، ورغبتها في الهيمنة على الأمة الإسلامية واستنزافها بحيث لا يختلف هذا الموقف الغربي في العصر الحديث عن الموقف في الماضي، ولا تنفك الرؤية الجديدة فيما سمي عصر النهضة عن الرؤية الغربية التي أفرزت الحروب الصليبية لعل من أصدق ما قيل في الموقف ¬

_ (¬1) انظر: قاسم السامرائي: الاستشراق ص: (23)، مرجع سابق، وانظر عبد القادر طاش: الجذور التاريخية للصورة النمطية للإسلام من مجلة المنهل العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، ص: (300)، المرجع السابق نفسه، وانظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق ص: (134)، المنهل المرجع السابق نفسه.

السابق واللاحق أن الحركة الاستعمارية بما مارست من ضروب العداوات على المسلمين ليست إلا حملة أخرى جديدة من الحملات الصليبية (¬1). والفرق بينها وبين الحرب الصليبية فيما يخص الاستشراق أن حركة الاستعمار اعتمدت إلى حد كبير على المستشرقين، وأصبحت فكرة حرب المسلمين ثقافيًا تحتل الأولوية بعد أن ثبت للغربيين من خلال تجاربهم الحربية أنَّهُ لا يمكن الانتصار على المسلمين عسكريًا إلا بعد غزوهم فكريًا (¬2)، وأدى هذا إلى مزيد من الاهتمام بالدراسات الاستشراقية والعمل على تطويرها. وخلاصة القول: إن الحروب الصليبية كانت متأثرة بالاستشراق ومؤثرة فيه، حيث ظهرت الدعوة إلى الحروب الصليبية من وسط المستشرقين، وأسهم الاستشراق اللاهوتي في تعبئة الشعوب الغربية ضد الإسلام والمسلمين حتى بلغ الذروة في ذلك فكانت الحروب الصليبية. هذا من ناحية تأثير الاستشراق في الحروب الصليبية، أما من ناحية تأثيرها في الاستشراق فإنها بنتائجها الواقعية التي آلت إليها كشفت للغرب عن قوة ذاتية الأمة الإسلامية وعجز الغرب عن إذابتها أو الهيمنة عليها أو إمكانية التعايش معها ندًا لند، وأدرك الغرب حقيقة أنه لا بد أن تكون الأمة الإسلامية هي الشاهدة على الأمم وما يعنيه ذلك من سيادتها وقيادتها للبشرية، عند ذلك ترجحت كفَّة حرب الأمة الإسلامية حربًا ثقافية، وهذا يعني غزوها في عقيدتها وفكرها قبل استعمارها وحربها حربًا عسكرية، ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (47)، مرجع سابق. (¬2) انظر مرعي مدكور: الإعلام الإسلامي وخطر التدفق الإعلامي الدولي: ص: (35 - 38)، الطبعة الأولى: (1409 هـ - 1988 م)، عن دار الصحوة. . . القاهرة.

فإذا تَمَّ ذلك الغزو الثقافي فإن الغزو العسكري سينجح ويتحقق، وذلك ما حدث فيما بعد (¬1). من هذا المنطلق كان تأثير الحروب الصليبية على الاستشراق، وفي ظل هذا الواقع تطورت حركة الاستشراق وازدهر عمل المستشرقين، وهذا ما يعالجه البحث الآتي في تناوله ما وقع للاستشراق من تطور في ظل دوافع الحركة الاستشراقية والأهداف المرتبطة بها، وما أصبحت عليه الدراسات الاستشراقية من نُمُوٍّ وتوسع. * * * ¬

_ (¬1) انظر: أ. ل شاتليه: الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة وتلخيص: محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ص: (7، 8)، مقدمة الطبعة الثالثة، عن منشورات العصر الحديث: (1400 هـ - 1980 م).

تطور الاستشراق

تطور الاستشراق العوامل التي ساعدت على تطور الاستشراق كانت فكرة حرب الأمة الإسلامية حربًا ثقافية مطروحة على الفكر الغربي قبل الحروب الصليبية، ولكن كفة المواجهة العسكرية كانت الراجحة، أما بعد الحروب الصليبية فقد رجحت كفة الحرب الثقافية، وهذا يعني دعم المستشرقين ودفع الحركة الاستشراقية، وقد ساعدت عوامل عديدة على تطور الدراسات الاستشراقية حتى بلغت أوج ازدهارها في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وفيما يأتي إبراز لأهم تلك العوامل والتطورات: 1 - مما ساعد على تقدم الدراسات الاستشراقية في نهاية العصر الوسيط ما كان من الصلات السياسية والدبلوماسية مع الدولة العثمانية التي اتسعت رقعتها حينذاك، وكان للروابط الاقتصادية لكل من إسبانيا وإيطاليا مع كل من تركيا وسوريا ومصر أثر كبير في دفع الحركة الاستشراقية (¬1). 2 - وفي القرن السادس عشر الميلادي وما بعده ساعدت ما تدعى (النزعة الإنسانية) في عصر النهضة الأوروبية على تقدم الدراسات الاستشراقية بأساليب جديدة قد تكون أقرب للموضوعية من ذي قبل، ومن جهة أخرى شجعت البابوية الرومانية على دراسات الشرق من أجل التنصير (¬2). وكان مما يرمي إليه كذلك محاولة صرف أنظار الأوروبيين عن أن تتوجه بالنقد المعادي لسلطة الكنيسة من خلال إيجاد عدو خارجي تعمل ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (28)، مرجع سابق. (¬2) انظر المرجع السابق نفسه ص: (29).

على مهاجمته والتحذير منه لتغطي على عيوبها وأخطائها إبان النهضة الأوروبية وما انطوت عليه من حركات إصلاحية تمس العقيدة النصرانية وتهاجم سياسة الكنيسة ومظالمها (¬1)، وفي ظل هذه الظروف والتناقضات التي هزت الغرب فترة طويلة من الزمن تطور الاستشراق وراجت دراسات المستشرقين بمختلف نزعاتها وأهدافها ودوافعها، وكان لظهور الطباعة كذلك أثر بارز في دفع الاستشراق (¬2). 3 - وفي القرن السابع عشر الميلادي بدأ المستشرقون بجمع المخطوطات العربية وجلبها من بلدان الشرق (¬3)، وفي القرن نفسه أنشئت كراسي اللغة العربية في أماكن مختلفة، كان أولها: كرسي اللغة العربية في (الكوليج في فرانس) في باريس، ثم تتابعت تلك الكراسي في الجامعات الغربية إنفاذًا لقرار مجمع (فينَّا الكنسي 1312 م) (¬4). وقد ارتبط إنشاء هذه الكراسي ثقافيًا بالأهداف التنصيرية؛ مما يؤكد ذلك ما جاء في قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة (كمبردج عام 1636 م) حيث نص على خدمة هدفين، أحدهما: تجاري، والآخر: تنصيري، فقد جاء (في خطاب مؤرخ في 9 آذار (مارس) من سنة 1636 م ¬

_ (¬1) انظر أحمد العناني: أطول معارك التاريخ ص: (151)، مرجع سابق، وانظر في ذلك: كافين رايلي: الغرب والعالم القسم الأول ص: (195 - 199)، ترجمة عبد الوهاب محمد المسيري وغيره، من سلسلة عالم المعرفة، كتاب رقم: (90)، رمضان: (1405 هـ)، يونيو حزيران: (1985)، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت. (¬2) انظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (77)، مرجع سابق. (¬3) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (30 و 61)، مرجع سابق. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (29)، وما سبق ذكره في الصفحات السابقة، البحث نفسه.

ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه

موجهًا إلى مؤسس هذا الكرسي) (¬1): (ونحن ندرك أن لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بإلقاء الضوء على المعرفة وهي ما تزال بعد محتبسة في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكننا نهدف أيضًا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد اللَّه بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى الديانة النصرانية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات) (¬2). 4 - وشهدت نهاية القرن السابع عشر اتجاهًا جديدًا في دراسات المستشرقين، واستمر ذلك الاتجاه خلال القرن الثامن عشر، وهو اتجاه يتسم -إلى حد ما- بنظرة علمية محايدة وفيها شيء من التعاطف مع الإسلام (¬3) -في الظاهر- ويربط بعض الباحثين هذا بالنزعة العقلية التي بدأت تسود أوروبا في ذلك العين، وهي مخالفة في مسارها العام للكنيسة، وبتأثير من هذه النزعة تهيأت الفرصة لبعض المستشرقين كي يقف موقف الإنصاف، ويأبى الظلم والإجحاف الذي اتسمت به القرون الوسطى، وظهرت في هذا المناخ بعض المؤلفات المعتدلة في دراستها للإسلام وعقيدته وحضارته (¬4). ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه: 1 - المستشرق (هادريان ريلاند) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة (أوترشت) بهولندا، الذي أصدر كتابًا باللغة الإنجليزية عام (1705 م) ¬

_ (¬1) انظر: عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص: (21)، ترجمة: قاسم السامرائي، مرجع سابق. (¬2) عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون ص: (21)، المرجع السابق نفسه، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (30)، مرجع سابق. (¬3) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: 30، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه، ص: (32).

عنوانه: الديانة المحمدية، ففي هذا الكتاب -كما يذكر الباحثون- عرض (هادريان) في جزء منه العقيدة الإسلامية من مصادر عربية ولاتينية، وفي جزئه الآخر قام بتصحيح الآراء الغربية التي كانت سائدة لديهم عن تعاليم الإسلام (¬1). ولعل مقولة (هادريان): (دعوا المسلمين أنفسهم يصفوا لنا دينهم) من أكثر ما ورد في الكتاب إنصافًا لأنَّهُ بذلك يخط منهجًا أقرب إلى العلمية وينسف أباطيل من سبقه من (اللاهوتيين) والمرتزقة، وعلي الرغم من هذا المسلك القريب من العلمية والمنهجية فإن (هادريان) حدد قصده بذلك المسلك بقوله: (إنَّهُ يَتَحَتَّمَ على المرء أن يعرف الإسلام جيدًا لكي يستطيع أن يحاربه بطريقة فعالة) (¬2). ومهما يكن السبب في قوله هذا، سواءً أكان الخوف من سلطة الكنيسة وغضب جماهيرها من اتخاذه أسلوبًا يهدف للناحية العلمية فهو لذلك يجاملها بهذا القول، أو إنه كان يريد فعلًا تغيير الأساليب القديمة ويقصد الوصول إلى فهم الإسلام فهمًا صحيحًا ممهدًا بذلك السبيل إلى محاربته من جانب النصرانية بطريقة أفضل من ذي قبل، مهما يكن الأمر فإن التاريخ أثبت أن (صورة العصور الوسطى النصرانية للإسلام ظلت في جوهرها دون تغيير، وإنما نفضت عنها الثياب القديمة لأجل أن تضع عليها ثيابًا جديدة أقرب إلى العصر) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (33، 34)، المرجع السابق نفسه، وانظر: المستشرق الألماني د. فيشر في لقاء معه أجراه: علي لغزيوي، مجلة الفيصل عدد: (95)، ص: (51)، جمادى الأولى: (1405 هـ)، مرجع سابق. (¬2) محمود حمدي زقزوق: الإسلام في تصورات الغرب، ص: (84)، الطبعة الأولى: (1407 هـ - 1987 م)، عن دار التوفيق النموذجية. . . الأزهر - مصر. (¬3) عبد اللطيف طيباوي: المستشرقون. .: ص: (35)، ترجمة قاسم السامرائي، مرجع سابق.

وفيما يأتي توضيح لأبرز هذه المستجدات

ب- المستشرق (يوهان جيه رايسكه) الذي كان واحدًا من أبرز علماء العربية في عصره في ألمانيا، ويذكر أن هذا المستشرق قد تحرر من الأفكار اللاهوتية، ومجَّد الإسلام ورسوله، وإليه يرجع السبق في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية في ألمانيا، ولكنه حورب وأوذي وعزل عن عصره ومعاصريه (¬1). 5 - ويعد القرنان التاسع عشر والعشرون الميلاديان عصر الازدهار الحقيقي للحركة الاستشراقية، حيث تعززت مدارسه، وتأسست الجمعيات الاستشراقية، وأصبح لها إصدارات ومجلات، وعقدت مؤتمرات المستشرقين الإقليمية والدولية، وبرزت مظاهر النشاط الاستشراقي في أعمال عديدة بأساليب متنوعة ووسائل مختلفة. وفيما يأتي توضيح لأبرز هذه المستجدات: أ - إنشاء مدرسة اللغات الحية في باريس في (شهر (آذار) مارس 1795 م) في ظل الثورة الفرنسية، ومن خلال هذه المدرسة تقدمت الدراسات الاستشراقية، واتسمت بطابع علمي إلى حد ما، وقد اشتهر (سلفستردي ساسي توفي 1838 م) بنشاطه الاستشراقي، وأصبح إمام المستشرقين في عصره، وإليه يرجع القول بأن باريس غدت مركزًا للدراسات العربية وقبلة يؤمها التلاميذ والعلماء من مختلف البلاد الأوروبية ليتعلموا على يديه، وكانت جهوده منصبة على الدراسات العربية من نحو وشعر وأدب، وكانت مدرسة اللغات الحية في عهده تعد أنموذجًا لمؤسسة الاستشراق العلمي وخاصة بعد أن انفصل الاستشراق في ذلك العين عن التنصير، ولكن (سلسفتر دي ساسي) كان مرتبطًا بدوائر الاستعمار (¬2) ولئن ¬

_ (¬1) انظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان ص: (6)، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1987 م)، عن دار الفكر - دمشق. (¬2) انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق ص: (146)، مرجع سابق، وانظر: محمود حمدي =

ظهر الاستشراق منفكًا عن التنصير -في الظاهر (¬1) - إلا أنه ارتبط بالاستعمار مسايرة للظروف التاريخية، كما سيأتي بيان ذلك. ب- بدأ المستشرقون في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا بإنشاء جمعيات لمتابعة الدراسات الاستشراقية، ونشأت هذه الجمعيات في إصدار المجلات والمطبوعات المختلفة (¬2)، فقد تأسست أولًا الجمعية الآسيوية في باريس عام (1822 م)، ثم الجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا عام (1823 م)، وتأسست الجمعية الشرقية الأمريكية عام (1842 م)، والجمعية الألمانية عام (1845 م) (¬3). ج- وشهد القرن التاسع عشر -أيضًا- بداية المؤتمرات الدولية للمستشرقين، حيث أتاحت هذه المؤتمرات للمستشرقين في كل مكان الفرصة للتنسيق وتوثيق أواصر التعاون والتفاهم، والتعرف بصورة مباشرة على أعمال بعضهم بعضًا، وتجنب ازدواجية العمل وتكراره حرصًا على الإفادة من الوقت والجهد معًا (¬4). وقد عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في عام (1873 م) وتتابعت المؤتمرات الدولية حتى بلغت ما يزيد على ثلاثة وثلاثين مؤتمرًا (¬5)، وإلى ¬

_ = زقزوق: الاستشراق ص: (38، 39)، مرجع سابق، وانظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (1/ 140)، مرجع سابق. (¬1) اتضح في بحث نشأة الاستشراق أن الاستشراق والتنصير لا زالا مرتبطين وإن انفصلا أكاديميًا. (¬2) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (41)، مرجع سابق. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص (42). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (42، 43). (¬5) عقد هذا المؤتمر في شهر آب أغسطس عام 1992 م بكندا وناقش موضوع الاتصال بين =

جانب هذه المؤتمرات فإن هناك اجتماعات وندوات ولقاءات -يصعب حصرها- منها المحلي ومنها الإقليمي (¬1). د- إذا كان الاستعمار في حقيقته عودة للحروب الصليبية بأسلوب جديد يواجه بها الغربيون العالم الإسلامي فإن هذه المواجهة تذرعت بسلاح الفكر والمعرفة، وقد ارتبط الاستشراق بهذا ارتباطًا قويًا، بحيث كان كما قال أحد المفكرين: (عين الاستعمار التي بها يبصر ويحدق، ويده التي بها يحيى ويبطش، ورجله. . .) (¬2) إلخ. وكما أفاد الاستعمار من التراث الاستشراقي فقد أفاد الاستشراق كذلك من الاستعمار، فأصبح الاستشراق في ظل الاستعمار (شبكة ضخمة من المؤسسات الأكاديمية الممثلة في الجامعات والمعاهد والجمعيات الاستشراقية والجغرافية والدوريات ودور النشر، وهذه الشبكة متعاونة فكريًا وسياسيًا مع الاستعمار لإحكام قبضته على كل أسباب الحياة للأمة الإسلامية (¬3)، ونشأت رابطة رسمية وثيقة بين الاستشراق والاستعمار خدم الاستشراق من خلالها الاستعمار قبل دخوله بلاد المسلمين وأثناء ذلك وبعده. فأما قبل دخوله بلاد المسلمين فإن الاستشراق كان بمثابة دليل وهاد للاستعمار في مناطق الشرق على اختلاف المواقع بدءًا بالرحلات ¬

_ = الثقافات انظر: مجلة الفيصل عدد: (162)، المصادر في شهر ذي الحجة: (1410 هـ - يوليو 1990 م ص: (128)، مرجع سابق. (¬1) انظر: ميشال جحا: الدراسات العربية الإسلامية في أوروبا ص: (278 - 283)، مرجع سابق. (¬2) محمود محمد شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص: (117، 118)، مقدمة كتابه المتنبي، المصادر عن مطبعة المدني: (1407 هـ - 1987 م)، وقد جردت في كتاب بهذا العنوان، عن مطبعة المدني: (1407 هـ - 1987 م)، جدة. (¬3) انظر: أحمد عبد الحميد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق ص: (40)، مرجع سابق.

الاستكشافية، ومن خلال الشركات الغربية التي عملت في بلاد الشرق، ووصولًا لتلك الدراسات الاستشراقية التي تضفي طابع التبرير العقلي على المبدأ الاستعماري (¬1). وأما في الفترة الاستعمارية وبعد استيلاء عدد من دول الاستعمار على البلاد الإسلامية وسيطرتها عليها عسكريًا وسياسيًا، فقد عمل المستشرقون دائبين على محاولة إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين وتشكيكهم في معتقداتهم وتراثهم حتى يتم للاستعمار -من جانب- إخضاعهم للحضارة الغربية وثقافتها، ويتاح للمستعمرين -من جانب آخر- مزيدًا من معرفة تلك الشعوب التي يستعمرونها، ومن المؤكد أن (مزيدًا من المعرفة يؤدي إلى مزيد من القوة) (¬2). وأما بعد رحيل الاستعمار عن بلاد العرب والمسلمين فإن خدمات الاستشراق للاستعمار تمثلت في طرح الخطط المدروسة والدراسات العميقة التي أنجزها المستشرقون، وتبنتها دوائر الاستعمار ومؤسساته لفرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها بأساليب ظاهرها التحرر والانعتاق من الاستعمار، وحقيقتها أشد وطأة على الأمة الإسلامية من الاستعمار نفسه وأخف كلفة على المستعمر، كذلك فإن تلك الخطط تهدف إلى إضعاف العالم الإسلامي وإبعاد الأمة عن مقوماتها وإذابة ذاتيتها في حضارة الآخر وثقافته، ومنع أي محاولة من شأنها جمع شمل المسلمين مرةً أخرى. ولعل هذه المهمة أو هذا الطور الذي خطط له الاستشراق لخدمة ¬

_ (¬1) انظر: محمد حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (48)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (48)، المرجع السابق نفسة، وانظر محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار ص: (534)، مرجع سابق.

الاستعمار استهدف من أبناء المسلمين من تتلمذ على أيدي المستشرقين وتشرب أفكارهم وتورط في حمل دعوتهم إلى تطوير الإسلام أو إصلاحه أو نحو ذلك من الدعوات التي فتَّت في عضد الأمة وأسلمتها للتمزق والتشرذم والضياع (¬1)، تحقيقًا للمثل الغربي القائل: (ينبغي أن يقطع الشجرة بعض أغصانها) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (97، 98)، المرجع السابق نفسه، وانظر: كذلك: - أحمد غراب: رؤية إسلامية الاستشراق ص: (40، 43)، مرجع سابق. - محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق ص: (25، 26)، مرجع سابق. - مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص: (18، 24)، مرجع سابق. - محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإسلامية ص: (30، 31)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محيي الدين عبد الحميد: كنت نصرانيًا وأسلمت ص: (19)، الطبعة الأولى: (1414 هـ)، مكتبة الخدمات الحديثة - جدة.

دوافع الاستشراق ومظاهر نشاطه

دوافع الاستشراق ومظاهر نشاطه يتضح من تاريخ الاستشراق، في جذوره الضاربة في أعماق تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، وما حدث له من تطور، وعلاقات متنوعة؛ جملة من الدوافع، ولكل دافع منها أهداف يسعى لتحقيقها، وأن الاستشراق اتخذ وسائل وأساليب كثيرة، وعمل في مجالات واسعة، ظهر من خلالها نشاط المستشرقين؛ وبيان ذلك فيما يأتي: أولًا: الدوافع الاستشراقية: يمكن بيان هذه الدوافع (وما ترمي إليه من أهداف) على النحو الآتي: 1 - دوافع دينية. 2 - دوافع سياسية. 3 - دوافع اقتصادية. 4 - دوافع علمية. ولكل دافع من هذه الدوافع أهداف، وقد تنوعت كتابات الباحثين في تحديد هذه الدوافع والأهداف، واختلفت مسمياتها لديهم وتقسيماتهم لها (¬1)، ومهما كان الأمر فإن (الدوافع تلتقي مع الأهداف، باعتبار أن ¬

_ (¬1) انظر: مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص: (15 - 25)، مرجع سابق، وانظر: - علي حسني الخربوطلي: المستشرقون والتاريخ الإسلامي ص: (53 - 95)، مرجع سابق. - محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق ص: (43 - 47)، مرجع سابق. - محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (70 - 75)، مرجع سابق. - أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (40 - 53)، مرجع سابق. - ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: (1/ 27 - 117)، مرجع سابق. =

1 - الدافع الديني

الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف الغائية من العمل) (¬1)، والدافع الديني هو أهم هذه الدوافع (¬2)، ثم يليه الدافع السياسي ثم الاقتصادي، ويأتي الدافع العلمي متأخرًا، وضئيلًا بالنسبة للدوافع الأخرى، وفيما يأتي توضيح لهذه الدوافع وأهدافها: 1 - الدافع الديني: هو المحور الأساس الذي ارتكزت عليه الحركة الاستشراقية، وقد تبين من استعراض تاريخ الاستشراق بأنه نما وترعرع في أحضان الكنيسة وكانت بدايته على أيدي الرهبان النصارى، وأنه استمر في خدمة التنصير ولم ينفصل عنه إلا نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وكان ذلك الانفصال شكليًا، أما واقع الأمر فإنه يصعب التفريق بين المستشرق والمنصر حتى في العصر الحديث، وكان لهذا الدافع عدة أهداف من أبرزها: أ - حماية النصارى والشعوب التابعة للكنيسة من الدخول في الإسلام. ب- الحد من انتشار الإسلام على حساب امتداد النصرانية ونشرها. جـ- التعرف على الإسلام ولغته بهدف تشكيك المسلمين به ومحاولة تنصيرهم. د- معرفة اللغة العربية ودين الإسلام بهدف التعمق عن طريقهما في العهد القديم (التوراة) للاعتقاد بوجود التشابه بين اللغة العربية واللغة ¬

_ = - علي بن إبراهيم النملة: الاستشراق في الأدبيات العربية ص: (14، 33 - 58)، مرجع سابق. (¬1) عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها (التبشير، الاستشراق، الاستعمار)، دراسة وتحليل وتوجيه ص: (125)، عن دار القلم، دمشق، الطبعة الخامسة: (1407 هـ - 1986 م)، وانظر: علي النملة: الاستشراق ص: (4)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث ص: (430)، مرجع سابق.

2 - الدافع السياسي

العبرية، بل ذهب أحد المستشرقين وهو (دوزي) إلى دعوى التشابه بين لغة اليهود ولغة قريش (¬1)، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإنهم يزعمون أن الإسلام مقتبس من اليهودية فلزم لذلك أن يدرسوا اللغة العربية والإسلام للتعمق في العهد القديم باعتباره جزءًا من الكتاب المقدس، وباعتبار الإسلام ولغته اللغة العربية يخدمان بطريق غير مباشر هذا الهدف الديني للاستشراق. وقد أكد هذا الهدف (شولتنس) بقوله: (لم يدرسوا اللغة العربية لقيمتها الأدبية أو للتعمق في تاريخ الإسلام أو لدرس تطور الأدب عند المسلمين، بل لاستعمالها وسيلة درس العهد القديم واللغة العبرانية) (¬2). هـ - إشغال الشعوب الغربية عن الهجوم على الكنيسة ومعتقداتها بالهجوم على الإسلام، وتوجيه الأنظار إليه باعتباره عدوًّا للكنيسة والشعوب الغربية (¬3). 2 - الدافع السياسي: ما برح هذا الدافع ملازمًا للحركة الاستشراقية في كثير من مراحلها وأطوارها إذ انبرى نفر من المستشرقين لتقديم دراسات تتناول الأمة الإسلامية جغرافيًا وسياسيًا (فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات ليتعرفوا إلى مواطن القوة فيها ¬

_ (¬1) انظر: محمد خليفة الدفاع: اللغة الفصحى رباط قومي (بحث مدرج في كتاب من قضايا اللغة العربية المعاصرة): ص: (163)، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافية والعلوم، تونس: (1990 م). (¬2) نقلًا عن: إسماعيل عمايرة: المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية ص: (30)، عن دار حنين، الطبعة الثانية: (1412 هـ - 1992 م)، عمان، ولديه مزيد إيضاح لهذا الهدف. (¬3) انظر: عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر ص: (125، 126)، مرجع سابق.

فيضعفوها وإلى مواطن الضعف فيغتنموها) (¬1)، ومن خلال تاريخ الاستشراق تبين كذلك أن المسار العام للحركة الاستشراقية قد تلوّن في مرحلة الاستعمار بما يتناسب معها، وتكونت بسبب ذلك (رابطة رسمية بين الاستشراق والاستعمار، وانساق في هذا التيار عدد من المستشرقين الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكون عملهم وسيلة لإذلال المسلمين وإضعاف شأن الإسلام وقيمه (¬2). . .). وتبين أن الاستشراق خدم الاستعمار قبل دخوله بلاد المسلمين وأثناء دخوله وبعد خروجه، وجاء ليحقق في تلك المراحل الثلاث جملة من الأهداف السياسية من أبرزها: أ- تبرير نزعة الاستعمار ودعمها بوساطة الكشف للمستعمرين عن مواطن الضعف في المجتمعات الإسلامية لاستغلالها في السيطرة والنفوذ والكشف عن مواطن القوة للعمل على إضعافها. ب- إضعاف روح المقاومة لدى الشعوب التي سيطر عليها المستعمرون وإخضاعهم لسلطة المستعمر وثقافته وحضارته. جـ- تحقيق غايات سياسية متنوعة تفرضها المراحل المتعاقبة وما تحيط بها من الظروف والأوضاع المختلفة التي ترمي في النهاية إلى احتواء الأمة الإسلامية من كل الجوانب، والتحكم في مصيرها، وفرض التبعية على أبنائها. ¬

_ (¬1) السباعي: الاستشراق والمستشرقين ص: (17)، مرجع سابق، وانظر: حبنكة: أجنحة المكر ص: (127)، مرجع سابق، وانظر: زقزوق: الاستشراق ص: (48)، مرجع سابق، وقد عزا هذه العبارة لإدوارد سعيد، ولم أجدها عنده بل وردت لدى السباعي، ولمزيد من الاطلاع على هذا الدافع وأهدافه. انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق ص 63 - 79، مرجع سابق. (¬2) زقزوق: الاستشراق ص: (44)، المرجع السابق نفسه.

3 - الدافع الاقتصادي

3 - الدافع الاقتصادي: ومن الدوافع لدراسات المستشرقين دافع اقتصادي يُعنَي بوسائل كسب الأموال وتنميتها وفتح أسواق للصناعات الغربية في الشرق والحصول على المواد الخام منه، وهذه المصالح دفعت إلى دراسات عدة قام بها المستشرقون عن الشرق وأهله وعاداتهم وطبائعهم وطرائق معيشتهم، وأدى هذا الدافع من جانب آخر إلى البحث عن مصادر المواد الخام والطاقة ونحوها، وإذا كانت مثل هذه الدراسات الاقتصادية تهدف من حيث الأصل إلى الانتفاع بها في أسلوب التعامل مع شعوب العالم الإسلامي في مجالات التبادل التجاري والصناعي والتنمية دون ربط ذلك بالأغراض السياسية إلا أن الاستشراق تجاوز ذلك كله، وانطلق في هذا المجال بروح عنصرية طاغية وأساليب سياسية ملتوية، وقد عبر أحد المفكرين المسلمين عن ذلك بقوله: (ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق، رغبة الغربيين في التعامل معنا لترويج بضائعهم، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ولقتل صناعتنا المحلية التي كان لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين) (¬1). 4 - الدافع العلمي: لا يمكن للباحث في الاستشراق أن يتجاهل الدافع العلمي النزيه لدى نفر من المستشرقين توافروا على دراسة الإسلام ولغته بغية معرفة الحقيقة والتجرد من كل مؤثر، ولكن المناخ الاستشراقي العام في مسار حركته الطويلة لا يساعد هؤلاء على الظهور والانتشار. وأقصى ما يتحقق في هذا أن يبرز أفراد اتسمت دراساتهم أن بعضها بالتجرد ووصلت إلى نتائج أقرب لحقيقة الإسلام وأكثر إنصافًا للمسلمين، ¬

_ (¬1) السباعي: الاستشراق والمستشرقون: ص: (18)، مرجع سابق.

وربما أسلم بعضهم. . . وثمة أسباب جعلت هذا الدافع ضعيفًا وغير منتج في تاريخ الاستشراق والمستشرقين، ومن أبرزها: أ- العداء الشديد للإسلام الذي سيطر على الشعور العام في الغرب عبر مراحله التاريخية، وقد أسهم الاستشراق فيه بقدر كبير، فإذا ظهر بين الحين والآخر من ينصف الإسلام فإن بحوثه لا تجد (رواجًا لا عند رجال الدين ولا عند رجال السياسة ولا عند عامة الباحثين) (¬1). بل رُبَّما أدَّى ذلك إلى أن يعني ذلك المستشرق صنوفًا من الأذى والمتاعب (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (19)، وللمثال على محاربة الكنيسة لمن تجرد عن الغرض في دراسته للإسلام انظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان ص: (5، 6)، مرجع سابق. وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (31 - 38)، مرجع سابق، فقد أورد عددًا ممن أنصف الإسلام في بعض القضايا أو سلك مسلكًا جديدًا في دراسة الإسلام أقرب إلى الموضوعية والإنصاف نسبيًا بغض النظر عن المقاصد الحقيقة لذلك التوجه، ومع ذلك فإن أصحاب ذلك الاتجاه حوربوا من قبل الكنيسة. (¬2) والحقيقة إن هذه عادة جرت حتى في العصر الحديث حيث يحارب أولئك الذين يتجردون فيما يكتبون عن الإسلام عن الموروثات البيئية في الغرب وينصفون الإسلام، وللمثال على ذلك ما حدث لرجاء جارودي قبل عقد من الزمان من محاكمة ومضايقات؛ لأنه دافع عن بعض قضايا الأمة الإسلامية، وأعلن إسلامه وقبل فترة وجيزة رفعت دعاوى ضد مراد هوفمان فحواها أنه يقوم في كتاباته بدعاية للإسلام في المجتمع الألماني، انظر: في ذلك صوت البلاد ص: (42 - 45): غارودي في حديث (للبلاد) عن تاريخ فلسطين العدد: (34)، السنة الأولى، الأربعاء: (27)، فبراير: (1985)، عن مؤسسة الديار للطباعة والنشر - قبرص. وانظر: مراد هوفمان: الإسلام هو البديل، نقلًا عن مجلة النور، العدد: (106)، ربيع الأول: (1414 هـ)، ص: (6، 7)، الصادرة عن بيت التمويل الكويتي - الكويت. وانظر: عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر ص: (131)، مرجع سابق.

ب- عدم توافر الأموال اللازمة التي تحتاجها مثل تلك الدراسات والبحوث؛ لأن جهات الدعم سواء كانت الكنيسة ومؤسساتها أو الهيئات السياسية أو المؤسسات الإعلامية، أو غيرها من دوائر العداء للإسلام والمسلمين، إن كل أولئك لا يبذلون الأموال في العادة إلا لخدمة أهداف محددة تسعى لتشويه الإسلام وتسيء لأمته. ج- هناك سبب آخر وهو تأثر المستشرق -مهما كان متجردًا ونزيهًا- ببيئته وثقافة مجتمعه ولغته الأصلية ومعطيات الحضارة الغربية، وعندما يدرس الإسلام لا بد أن تعترض دراسته عقبات متنوعة تؤثر على منهجه وما يصل إليه من نتائج (¬1). ولعل الهدف الغائي لهذا الدافع هو (إشباع نهم علمي متجرد، وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمَّة) (¬2) ذات شخصية متميزة لها مبادئ وقيم وعادات وأعراف وتاريخ وعلم وحضارة. ومما ينبغي التفطن إليه هو ظهور بعض الدراسات الاستشراقية بمظهر علمي، ولكن يتذرع بها لأهداف مشبوهة وعندئذٍ يخرج هذا عن الدافع العلمي؛ لأنه أصبح غاية أو وسيلة لغاية غير نزيهة، وقد ألمح إليه بعض الباحثين المسلمين في قوله: (ومهما كان حسن الظن متوافرًا في كثير من تكلم الدراسات إلا أن ما كان منها نتيجة غاية علمية، كدراسة بلاشير لتاريخ الأدب العربي، خدمت بطريق مباشر أو غير مباشر غايات عاطفية وعصبية) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر ص: (130)، مرجع سابق، وانظر: السباعي: الاستشراق ص: (24)، مرجع سابق. (¬2) عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر ص: (130)، المرجع السابق نفسه. (¬3) محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون ص: (48)، مرجع سابق، وانظر: السباعي: الاستشراق ص: (20 - 23)، مرجع سابق، وانظر: علي النملة: الاستشراق ص: (36)، مرجع سابق.

ثانيا: مظاهر النشاط الاستشراقي

ثانيًا: مظاهر النشاط الاستشراقي: ظهر نشاط المستشرقين على مدى تاريخهم الطويل في مجالات مختلفة، واستخدموا وسائل متنوعة للوصول إلى أهدافهم، فأنشؤوا المؤسسات التعليمية ذات المستوى العلمي المتميز من معاهد وأقسام علمية، ومراكز بحث في الجامعات الغربية وفي بعض جامعات الشرق الإسلامي، واهتموا بالمخطوطات الإسلامية وجلبوها من مظانها بطرق مشروعة وغير مشروعة (¬1). ثم خدموا هذه المخطوطات من نواحٍ فنية وعلمية، وأفادوا منها، وقاموا بالتحقيق والنشر والترجمة، وفي مقدمة ما قاموا بترجمته معاني القرآن الكريم إلى عدد من اللغات الأوربية (¬2)، وألفوا العديد من الكتب، في العقيدة والشريعة واللغة والتاريخ والأدب، وغيرها، وأعدوا بعض دوائر المعارف للعلوم الإسلامية، وأنجزوا بعض المعاجم اللغوية (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (61)، مرجع سابق، وانظر: سامي الصقار: دور المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي، مجلة المنهل، العدد السنوي المخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين ص: (155، 156)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمد صادق البنداق: المستشرقون وترجمة القرآن الكريم (الفصل الثالث)، ص: (87 - 133)، مرجع سابق. (¬3) للاطلاع على إحصائيات لأعمال المستشرقين العلمية في ميدان التحقيق والنشر والترجمة والتأليف، انظر: - صلاح الدين المنجد: جهود المستشرقين في تحقيق التراث، مجلة المنهل، المرجع السابق نفسه ص: (210 - 217). - عبد العظيم الدِّيب. المستشرقون والتراث ص: (7 - 26)، الطبعة الأولى: (1406 هـ - 1986 م)، عن مكتبة ابن تيمية - البحرين. - عبد العظيم الدِّيب: المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي: ص: (34)، =

وأسسوا كذلك جمعيات استشراقية وأصدروا المجلات والدوريات ونحوها، وعقدوا عددًا من المؤتمرات إقليمية ودولية. . . ويمكن بيان مظاهر هذا النشاط وما اتخذ من الوسائل والمجالات فيما يأتي: 1 - التدريس الجامعي (¬1). 2 - جمع المخطوطات (¬2). 3 - التحقيق والنشر (¬3). 4 - الترجمة (¬4). 5 - التأليف (¬5). 6 - تأسيس الجمعيات (¬6). 7 - إصدار المجلات (¬7). ¬

_ = الطبعة الأولى، كتاب الأمة، ربيع الثاني: (1411 هـ)، مرجع سابق. - محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (61 - 70)، مرجع سابق. (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (59، 60)، المرجع السابق نفسه، وانظر: عمر بن إبراهيم رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره: (1/ 56 - 62)، الطبعة الأولى: (1413 هـ - 1992 م)، عن دار طيبة - الرياض. (¬2) انظر: محمود زقزوق: الاستشراق ص: (61 - 70)، المرجع السابق نفسه، وانظر: المراجع السابقة، وانظر: عمر رضوان: المرجع السابق نفسه: ص: (49 - 53). (¬3) انظر: المراجع السابقة: الصفحات نفسها. (¬4) انظر: المراجع السابقة: الصفحات نفسها. (¬5) انظر: المراجع السابقة: الصفحات نفسها. (¬6) انظر: عمر رضوان: المرجع السابق، ص: (53 - 56)، مرجع سابق، وانظر: زقزوق: الاستشراق ص: (41، 42، 43)، مرجع سابق، وانظر: السباعي: الاستشراق ص: (26 - 30)، مرجع سابق. (¬7) انظر المراجع السابقة: الصفحات نفسها.

8 - عقد المؤتمرات (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق ص: (43)، المرجع السابق نفسه، وانظر: ميشال جحا: الدراسات العربية الإسلامية في أوروبا ص: (278 - 283)، وقد أورد ملحقًا أحصى فيه المؤتمرات الاستشراقية الدولية في ثلاثين مؤتمرًا ذكر تاريخ انعقاد كل مؤتمر ومكانه ورقمه ثم ذكر بعض المؤتمرات الإقليمية للمستعربين والمتخصصين في الدراسات الإسلامية في الاتحاد الأوروبي، وذكر المؤتمر الألماني الذي يعقد بصفة دورية كما ذكر أنه حضر مع عدد من المشاركين من المصريين والسوريين واللبنانيين المؤتمر الذي عقد في جامعة (أرلنجن سنة 1977 م)، وأنه عقد بعد ذلك المؤتمر مؤتمر آخر في برلين سنة: (1980 م) ولمزيد من الاطلاع على مجالات أنشطة المسثشرقين ووسائلهم وأعمالهم. انظر: - محمد كرد علي: أثر المستعربين من علماء المشرقيات في الحضارة العربية: مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء العاشر، المجلد السابع: ص: (433 - 452)، وأصلها محاضرة ألقاها في ردهة المجمع العلمي العربي بالمدرسة العادلية بدمشق، وأدرجت ضمن مجلد بعنوان: محاضرات المجتمع العلمي العربي بدمشق: (1/ 131 - 139)، وأعاد إلقاءها في نادي دار المعلمين العليا بالقاهرة يوم: (5) أيار سنة 1927 م. انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (433). - عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر ص: (132 - 140)، مرجع سابق. - ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: (1/ 184 - 187)، مجمع سابق. - أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق ص: (81، 82، 83، 154، 186)، مرجع سابق. - وانظر: عبد الستار الحلوجي: دراسات في الكتب والمكتبات ص: (121 - 153)، عن مكتبة مصباح، بدون تاريخ.

حاضر الاستشراق ومستقبله وعوامل قوته واستمراره

حاضر الاستشراق ومستقبله وعوامل قوته واستمراره تكاد آراء الباحثين في تاريخ الاستشراق والمستشرقين تجمع على أن الاستشراق عاش فترة ازدهار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين (أي: في فترة ما بين: 1850 - 1950 م)، ولكن أهم آرائهم تختلف حول حاضر الاستشراق ومستقبله مثلما حدث الاختلاف كذلك في تحديد بدايته الأولى. وعلي الرغم من تعدد الآراء وتشعبها في هذه المسألة؛ فإن من الملفت للنظر في هذا الأمر ما يظهره الساسة الغربيون وتشيعه دوائر الاستشراق من صحافة وإعلام وبعض المستشرقين من أن عصر الاستشراق قد انتهى، وأن صفحته قد طويت بينما يرى الباحث بأن الاستشراق لا زال حيًا قويًا. . . ولا زال المستشرقون يتوافرون على دراسة الإسلام والمسلمين عقيدةً وتاريخًا حاضرًا وماضيًا. ولبيان هذه الوجهة وحقيقة الأمر فيها كما يرى الباحث تجري المناقشة في النقاط الآتية: 1 - نقد الساسة الغربيين للاستشراق والمستشرقين وموقف المستشرقين من ذلك. 2 - وجهة نظر الباحث حول حاضر الاستشراق والمستشرقين ومستقبلهم. 3 - عوامل قوة الحركة الاستشراقية واستمرار المستشرقين. 1 - نقد الساسة الغربيين للاستشراق والمستشرقين: يتفق الساسة الغربيون والمستشرقون على نقد الاستشراق والمستشرقين، بل يتجاوزون ذلك إلى الإعلان عن أفول شمس الاستشراق وانتهاء عصره، ومن الأمثلة على ذلك الآتي:

أ - ما قاله أحد الساسة الألمان: (بأنه آن الأوان كي يبتعد المستشرقون باهتماماتهم عن اللهجات العربية، وأن يكونوا بمثابة احتياطيين للقيام بمهمة الترجمة) (¬1). ب- يعترف المستشرقون بالقصور في جوانب مختلفة كانت مثار انتقادات حادة من جهات عديدة؛ وقد أجملها بعض المستشرقين في قوله: (لقد اتهمنا بأننا متخلفون. . . وأنا وصفيون نقليون ولسنا تحليليين، وإذا كنا نقدر أنفسنا حق التقدير فما علينا سوى الاعتراف بأن هذا النقد صحيح إلى حدٍّ بعيد) (¬2). ج- يتجاوز المستشرقون هذا النقد والاعتراف إلى الإعلان عن نهاية الاستشراق، فقد أُعلنَ في مؤتمر المستشرقين التاسع والعشرين عن تغيير مسمى الاستشراق، وأنه تقرر أن يطلق على مؤتمرهم الثلاثين مسمى (مؤتمر العلوم الإنسانية) (¬3)، ومع أن التغيير ينصب على الاسم فقط فقد أشاعت الصحافة وعدَّ بعض المستشرقين هذا التحول نهاية للاستشراق والمستشرقين؛ وللمثال على ذلك فقد: - وصفت جريدة (لومند) الفرنسية هذا التحول بأنه موت الاستشراق. - وورد على لسان (جاك بيرك) وهو أحد المستشرقين الفرنسيين القول: (بانتهاء زمن الاستشراق) (¬4). ¬

_ (¬1) نقلًا عن أوليريشن هارمان: الاستشراق الألماني؛ منجزات ومراجعة مواقف: مجلة الباحث، المجلد: (5)، العدد المصادر في: (2/ 1983 م)، ص: 144، باريس. (¬2) أوليريشن هارمان: الاستشراق الألماني ص: (144)، المرجع السابق نفسه. (¬3) انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون: (3/ 365 - 370)، مرجع سابق. وانظر: أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب (مخططات التبشير والاستشراق)، ص: (417)، عن دار الاعتصام، القاهرة بدون تاريخ. (¬4) انظر: أنور الجندي: المرجع السابق نفسه ص: (417).

2 - وجهة نظر الباحث حول حاضر الاستشراق والمستشرقين ومستقبلهم

2 - وجهة نظر الباحث حول حاضر الاستشراق والمستشرقين ومستقبلهم: تلخص هذه الوجهة في الأمور الآتية: أ - لا يعني تغيير مسمى الاستشراق نهاية حركته وتوقف المستشرقين عن دراسة الإسلام وتاريخ الأمة الإسلامية، كما لا يعني تغيير مسماه تغيير تلك الروح العدائية التي لازمت المسار العام للحركة الاستشراقية وكتابات المستشرقين للإسلام وأمته، بل غير الاستشراق جلده ليدخل مرحلةً جديدة. ب- الخطر في المرحلة الجديدة ربما يصبح أشد خطورة وأكثر عمقًا، ولا سيما أن الاستشراق تحول إلى ميدان العلوم الإنسانية (¬1). ج- على الرغم من أن الفترة التي عاش الاستشراق فيها أوجه وازدهاره هي الفترة ما بين (1850 - 1950 م) وقد شهدت جهابذة المستشرقين من أمثال (جولدزيهر) و (يوسف شاخت) و (كارل بروكلمان) وغيرهم إلَّا أنَّه يوجد في الحاضر والمستشرقين من يترسم خطى السابقين ويسير على دروبهم بل ويتفوق عليهم في العداء للإسلام والأمة الإسلامية، من مثال (برنارد لويس) الذي أنجز أبحاثًا تعادي العرب والمسلمين وتعزز معتقدات اليهود وسياستهم إزاء قضايا الأمة الإسلامية، وقد أعلنت الدولة الإسرائيلية عن تكريمه من أجل بحوثه ودراساته تلك (¬2). د- مما يفسح للاستشراق مجالًا واسعًا ويفتح له طورًا جديدًا الأطماع الصهيونية في بلاد العرب والمسلمين والمخططات المرسومة لإذابة ذاتية الأمة الإسلامية وإضعافها والهيمنة عليها، وإذا كان اليهود قد دخلوا ¬

_ (¬1) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (52)، مرجع سابق. (¬2) انظر: أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب ص: (417، 315)، المرجع السابق نفسه.

الحركة الاستشراقية منذ نشأتها بصفتهم الغربية لا بصفتهم اليهودية لأسباب دينية وسياسية حققوا من أهدافه القريبة والبعيدة ما حققوا فإنه يوجد اليوم جناح ضخم من الاستشراق الصهيوني قوامه (ردنسون) و (برنارد لويس)، يركز هذا النوع من الاستشراق اهتماماته بقضايا زرع الأمة اليهودية في قلب العالم الإسلامي، وما يتطلب ذلك من دراسات وأبحاث وبرامج وخطط لإضعاف الأمة الإسلامية وإذابة تميزها، ومن ثم إسكات تاريخها واحتوائها والتحكم في حاضرها ومستقبلها. ومن أبرز هذه القضايا البحث والدراسة في تاريخ فلسطين والأنبياء -عليهم السلام- (إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق) وتاريخ القدس والعرب واليهود، وتفسير هذا التاريخ بما يتفق والمطامع الصهيونية والعقائد اليهودية (¬1). هـ - على الرغم من ظهور دراسات معتدلة وظهور النزعة العلمية في دراسات بعض المستشرقين مثل (أنا ماري شميل) و (جاك بيرك) وغيرهما، إلا أن هذا الاتجاه وتلك النزعة تنحصر في أفراد قلائل من ناحية وفي مسائل محدودة من ناحية أخرى. أما المسار العام للحركة الاستشراقية وكتابات المستشرقين فإنه لا زال معاديًا للإسلام. و- مهما ضعف الاستشراق ومهما قيل عن تراجع دراسات المستشرقين أو توقفها فإن ما تم إنجازه عبر قرون من الزمان يعد ذلك -في حد ذاته بصرف النظر عن التحولات في مسار الدراسات الاستشراقية- مرجعية فكرية للغرب يصدر عنها في مواجهة الأمة الإسلامية وقضاياها، ويعتمد عليها وقت الحاجة بشتى الطرق وعلي جميع الأصعدة. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (309 - 328).

3 - عوامل قوة الحركة الاستشراقية واستمرار المستشرقين

3 - عوامل قوة الحركة الاستشراقية واستمرار المستشرقين: توجد عدة عوامل تؤكد قوة الحركة الاستشراقية وحاجة الغرب إلى دراسات المستشرقين وأبحاثهم في الحاضر والمستقبل، من أبرزها الآتي: أ - تغلغل المصالح الغربية في بلدان العالم الإسلامي وبخاصة ما يطلق عليه الشرق الأوسط، وواقع هذه المصالح يحتم على الغرب دعم المستشرقين لإنجاز دراسات مختلفة عن تلك البلدان، ولا بد أن تفرض عليه تلك المصالح مساندة الحركة الاستشراقية وتنشيطها. ومما يدل على هذا العامل وأثره في قوة الحركة الاستشراقية واستمرار المستشرقين، ما قاله (بارت): (نعترف شاكرين بأن المجتمع ممثلًا في الحكومات والمجالس النيابية يضع تحت تصرفنا الإمكانات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق وللمحافظة على نشاطنا التعليمي في هذا المضمار. . .) (¬1). وإذا كان بارت يعترف بذلك الدعم وتلك المساندة فإن مستشرقًا آخر يعترف بأن الجهات التي تنفق على دراساتهم وتساندهم لا تفعل ذلك خدمة للبحث العلمي، أو استجابة لمظاهر حضارية راقية، بل توجه مسار تلك البحوث وتتدخل في نتائجها، وهذا صريح من قوله: (طبعًا هناك أيضًا الضغط الملح من قبل أولئك الذين يقدمون الأموال لدعم النتائج التي تؤدي إلى احتواء العالم الإسلامي والتشبث به حيث تكمن اهتمامات الغرب ومصالحه) (¬2)، وهذا (التشبث بهذه المصالح حقيقية واقعية تؤكدها جميع الشواهد وما دام الأمر كذلك فإن الحاجة إلى الاستشراق في الغرب ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص: (54). (¬2) أوليريشن هارمان: الاستشراق الألماني مجلة الباحث: (2/ 1983 م)، ص: (144)، مرجع سابق.

ستظل قائمة، بل ستزداد إلحاحًا، وليس هناك أي بارقة تلوح في الأفق توحي بأن الغرب على استعدد للتخلي عن هذه المصالح) (¬1). ب- اعتماد بعض الهيئات العالمية على المستشرقين للكتابة عن الإسلام وتاريخه وقضايا الأمة الإسلامية، ونحو ذلك مما يتصل بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- والقرآن الكريم والعلوم الإسلامية وللمثال على ذلك فإن (اليونسكو) وهي هيئة دولية تشترك فيها الدول الإسلامية استكتبت في موسوعتها عن الجنس البشري فيما يخص الإسلام وتاريخه ونبيه وحملته نفرًا من المستشرقين، وقد أثارت كتاباتهم حفيظة المسلمين وكتب بعضهم (¬2) احتجاجًا على تلك الهيئة التي لم تحترم -على الأقل- عضوية الدول الإسلامية فيها، وجاءت كتابات المستشرقين في موسعتها تطفح بالتهم والتهجم على نبي الإسلام، ومما يؤكد استمرار المستشرقين في اجترار الروح الصليبية، ويؤكد من جهة أخرى استمرار الاعتماد على خطابهم عن الإسلام والمسلمين (¬3). جـ- لعدد مجالات الاختصاص لدى المستشرقين، وهذا يعني إثراء الدراسات الاستشراقية لا القضاء عليها (¬4). ¬

_ (¬1) محمود حمدي قزوق: الاستشراق ص: (55)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (115)، ولمزيد الاطلاع على ما دار حول هذه الموسوعة وما ورد فيها من افتراءات حول القرآن الكريم وتاريخ الإسلام وحضارته، وما أقدمت عليه (اليونسكو) من تصحيح واعتذار عن تلك الافتراءات، تمثلت في إصدار خاص عن الإسلام وتاريخه، انظر: محمد عبد اللَّه السمان: مفتريات اليونسكو على الإسلام ص: (116 - 121، 122 - 125)، الطبعة الثانية، عن دار الاعتصام بدون تاريخ. (¬3) انظر: زقزوق: الاستشراق ص: (115)، المرجع السابق نفسه، وانظر: السمان: مفتريات اليونسكو على الإسلام ص: (23 - 108) المرجع السابق نفسه. (¬4) انظر: أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب ص: (417)، مرجع سابق، وانظر: زقزوق: الاستشراق ص: (53)، المرجع السابق نفسه.

د- اعتماد وسائل الإعلام في كثير من موادها الإعلامية على الاستشراق، وقد أثبت بعض الباحثين وجود صلة وثيقة بين الإعلام الغربي والدراسات الاستشراقية، وذكر بأن نتائج دراساته تؤكد تطابق وجهات نظر الخبراء في الدراسات الشرقية والإسلامية الذين تستعين بهم الدوائر السياسية في الغرب وبين الطريقة التي تعالج بها وسائل الإعلام الغربي أمور الشرق والإسلام، وأن الطرفين ينطلقان من فكرة أن الإسلام لا يمثل منافسًا رهيبًا للغرب فحسب بل إنه يمثل كذلك تحديًا متأخرًا للمسيحية (¬1). ويؤكد باحث آخر بأن التراث الاستشراقي يغذي وسائل الإعلام الغربية، وتعتمد عليه إلى حدٍّ كبير في تشويه صورة الإسلام دينًا وحضارة وتشويه صورة العرب عنصرًا وقيمة، وعلى ذلك فإن دول العالم الإسلامي تتعرض لتدفق إعلامي يتسم بالاختلاق وتتلقى سيلًّا من الهجمات الإعلامية الحاقدة (¬2). فإذا نُظِرَ إلى هذا الجانب من واقع أثر الإعلام في العصر الراهن بما يملكه من قوة التأثير وشدة الجاذبية وسعة الانتشار (¬3)، وأنه يعتمد إلى حد كبير على دراسات المستشرقين فيما يخص الإسلام والأمة الإسلامية تبين من ذلك كله استمرار المستشرقين ونشاط حركتهم لتلبية هذا الجانب. وخلاصة القول: إن الحركة الاستشراقية لا تزال قوية ومتماسكة ومنظمة، ولا تزال جمعيات المستشرقين قائمة تمارس نشاطاتها ¬

_ (¬1) انظر: إدوارد سعيد: تغطية الإسلام ص: (36)، نقلًا عن عبد القادر طاش: الجذور التاريخية للصورة النمطية للإسلام والعرب في التراث الغربي، مجلة المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام: (1409 هـ)، عن الاستشراق والمستشرقين ص: (305)، مرجع سابق. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (305، 306). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (305).

وإصداراتها من دوريات ومجلات وكتب وأبحاث وكذلك مؤتمراتهم الإقليمية والدولية، وقد عقد مؤتمرهم الثالث والثلاثون الدولي (بكندا) في شهر أغسطس: (1990 م)، وكان موضوعه الأساس (الاتصال بين الثقافات) (¬1) ولا تزال معاهد الاستشراق تعمل في الوقت الراهن وتخرج المستشرقين في أغلب جامعات الغرب وستظل الحاجة إلى الاستشراق قائمة، بل ستزداد إلحاحًا تلبية لحاجات الدوائر السياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وليس هناك بارقة أمل تلوح في الأفق وتوحي بأن شمس الاستشراق تدنو للمغيب، وأن نجمه يقترب من الأُفُول (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: مجلة الفيصل، العدد: (162)، ذو الحجة: (1410 هـ/ يوليو 1990 م)، ص: (128) مرجع سابق. (¬2) انظر: زقزوق: الاستشراق ص: (50 - 55)، المرجع السابق نفسه. لمزيد من المعلومات راجع: - روز ماري صايغ: نهاية الاستشراق، مجلة العربي ص: (35 - 39)، العدد: (358)، مايو: (1980 م)، تصدر عن وزارة الإعلام بدولة الكويت، مرجع سابق. - عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي، مرجع سابق. - إدوارد سعيد: الثقافة والاستعمار، عرضه سلمان داود الواسطي في مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات، العدد الأول، شتاء: (1994 م)، ص: (33 - 39)، تصدر عن دار الشروق للنشر والتوزيع، بيروت. - إدوارد سعيد: الإعلام الغربي المستقل وحادث أوكلاهوما، جريدة الحياة: ص: (17)، العدد: (11765)، الصادر يوم: (8/ 12/ 1415 هـ)، الموافق: (8)؛ أيار (مايو)، (1995 م)، تصدر عن شركة الحياة الدولية للنشر، لندن.

الكتاب الثاني: مقومات تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ تأليف: د. إِسْحَاق بن عبد اللَّه السَّعْدِيّ الكتاب الثاني 2/ 5 مقومات تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها • خارطة ذهنية توضيحية. • العقيدة وموقف المستشرقين منها. • الشريعة وموقف المستشرقين منها. • الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة وموقف المستشرقين منها.

[مخطط]

العقيدة

العقيدة • تمهيد. • تعريف العقيدة لغة واصطلاحًا. • خصائص العقيدة الإسلاميَّة. • أثر العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة. • موقف المستشرقين من العقيدة.

تمهيد

العقيدة تمهيد إنَّ العقيدة الإسلاميَّة هي المقوم الأساس لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، ومرتكزها الأول فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. والعقيدة الإسلاميَّة من جانب آخر متناسقة مع سنن اللَّه في الكون والحياة والنفس الإنسانية في تجريد التوحيد للَّه، والإنابة له، والتوكل عليه. ثُمَّ إنَّها سهلة المأخذ واضحة بينة بيضاء نقية، لا غموض فيها، ولا لبس ولا تعقيد، تعرض قضايا الوجود، وحقائق الحياة والموت والبعث والنشور والجزاء والحساب، والجَنَّة والنار، والصراط، وغير ذلك من مشمولات عالم الغيب وعالم الشهادة، بأسلوب حي مؤثر يعمق الإيمان باللَّه في نفس الإنسان، (ويحمله على الطَّاعة والالتزام، فيكون لهذا الإيمان أثره في نفس الفرد، وفي استقامة سلوكه، وفي الجماعة ونظام حياتها. . .) (¬1)، فيتحقق بذلك تميُّز الأُمَّة بهذه العقيدة الفذَّة الأصيلة دون غيرها من الأمم التي داخلت عقائدها الشكوك، والأهواء، والغموض والشركيات، وغير ذلك من التعقيدات والتناقضات الغريبة التي أشغلت تلك الأمم (بمباحث جدلية كثيرة حول حقيقة الإيمان وأجزائه. . .) (¬2)، وحول قضايا الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وقضايا الكون والوجود. * * * ¬

_ (¬1) عثمان جمعة ضميريّة: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 88، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 88.

تعريف العقيدة لغة واصطلاحا

تعريف العقيدة لغة واصطلاحًا العقيدة لغة: مشتقة من مادة (عقد) قال ابن فارس: (العين والقاف والدال: أصلٌ واحد يدل على شدَّ، وشِدَّةِ وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها) (¬1). وقال -أيضًا-: (واعتقد مالًا وأخًا؛ أي: اقتناه، وعقد قلبه على كذا فلا ينزع عنه، واعتقد الشيءُ: صلب. واعتقد الإخاء: ثبت) (¬2). وقال ابن منظور: (وتعقَّد الإخاء: استحكم مثل تذلل، عقد الشحم يعقد: انبنى وظهر. .) (¬3). وقال الراغب الأصفهاني: (العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، ثمّ يستعار ذلك للمعاني نحو: عقدِ البيع، والعهد، وغيرهما، فيقال: عاقدته، وعقدته، وتعاقدنا، وعقدت يمينه، قال تعالى: {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33]. . .، وقال: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. . .، ومنه قيل: لفلان عقيدة. . .) (¬4). يستخلص من هذه المعاني اللغوية أنها (تؤدي إلى مفهوم خاص، هذا ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة: مادة (عقد)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع نفسه: مادة (عقد). (¬3) لسان العرب: مادة (عقد)، (مرجع سابق). (¬4) مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داودي: مادة (عقد)، (مرجع سابق). وانظر: ابن منظور لسان العرب: مادة (عقد)، وابن فارس: مجمل اللغة، ومعجم مقاييس اللغة، والجوهري: الصحاح، والزمخشري: أساس البلاغة: مادة (عقد)، (مراجع سابقة).

المفهوم الخاص منه اشتقت العقيدة، وهو مفهوم الشد والربط، ثم مفهوم التأكيد والتوثيق والتصديق الذي لا يقبل الشك) (¬1). العقيدة اصطلاحًا: عرفت بتعريفات كثيرة، منها: - (العقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده. و"في الدين": ما يقصد به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود اللَّه وبعثه الرسل. "وجمعها" عقائد) (¬2). - (هي الفكرة الكلية اليقينية للإسلام عن الكون والإنسان والحياة، وعمَّا قبل الحياة الدنيا وعمَّا بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وبما بعدها) (¬3). - (ما يقصد به الاعتقاد دون العمل، أو هي الجانب النظري الذي يطلب الإيمان به أولًا، إيمانًا لا يرقى إليه الشك، ولا تؤثر فيه شبهة، كعقيدة وجود اللَّه وبعثه الرسل) (¬4). - (التصديق الناشئ عن إدراك شعوري أو لا شعوري يقهر صاحبه على الإذعان لقضية ما) (¬5). - إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري، يكره الإنسان على التصديق ¬

_ (¬1) مناع القطان: العقيدة والمجتمع: ص 1، من محاضرات البرنامج العام الذي ينظمه فسم الثقافة الإسلاميَّة بكلية الشريعة في الرياض (1400 هـ - 1401 هـ). (¬2) إبراهيم أنيس وآخرون: المعجم الوسيط 2/ 614، (مرجع سابق). (¬3) صالح ذياب هندي: دراسات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 43، الطبعة التاسعة 1413 هـ - 1993 م، عن دار الفكر للنشر - عمان. (¬4) داود علي الفاضل الفاغوري: العقيدة الإسلاميَّة من القرآن الكريم: ص 7، عن دار الفكر - عمان، 1989 م. (¬5) نبيل السملوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه (دراسة في علم الاجتماع الإسلامي): ص 23، الطبعة الثانية 1408 هـ / 1988 م، عن دار الشروق - جدّة.

بقضية من القضايا من غير دليل. . . ولذلك تكون العقيدة مطابقة للواقع حينًا، وغير مطابقة له في أكثر الأحيان) (¬1). هذه أبرز ما عُرِّفت به العقيدة، وهناك تعريفات أخرى ينصب بعضها على تعريف العقيدة تعريفًا فلسفيًّا (¬2) وبعضها الآخر يعرف العقيدة الإسلاميَّة بخاصة (¬3)، ومهما يكن الأمر فإنَّه يُمكن أن يستخلص من بعض هذه التعريفات إطلاق مسمى العقيدة على ما يضمره الإنسان في قلبه من الحق والباطل والصالح والفاسد والخير والشر (¬4)، وقد يلتمس لما يذهب إليه الدليل وقد ينساق إليه بطبيعته وفطرته، وقد يكون ذلك الشعور اختياريًّا أو جبريًّا، ولكن تتميز العقيدة الإسلاميَّة بكونها ذلك (الحكم المستقر الذي لا يقبل الشك عند معتقده) (¬5)، المنبثق من الكتاب والسنّة في معرفة الرب والرسول والدين، وما يقتضيه ذلك من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والنظرة الشاملة للكون والحياة والإنسان. وهذا المعنى هو ما دلت عليه بعض التعريفات السابقة، بيد أنه لا يتأتى ¬

_ (¬1) جوستاف لوبون، نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص 23. (¬2) انظر: محمد كمال جعفر: الإنسان والأديان: ص 23 - 40، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1985 م، عن دار الثقافة - قطر. (¬3) انظر: عبد الواحد محمد الفار: الثقافة الإسلاميَّة (دراسة تأصيلية لمضمون الرسالة الإسلامية في ضوء القرآن والسنة)، سلسلة الكتاب الجامعي، الكتاب الرابع، ص 13، عن مكتبة الخدمات الحديثة. جدة (بدون تاريخ). (¬4) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (عقد). وانظر: نبيل السملوطي: بناء المجتمع ونظمه. . (المرجع السابق): ص 25. وانظر: حسن عيسى عبد الظاهر وآخرون: بحوث في الثقافة الإسلاميَّة: ص 229، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م، عن دار الحكمة، الدوحة، وانظر: عز الدين الخطيب وآخرون: نظرات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 59، الطبعة الأولى، 1454 هـ - 1984 م، عن دار الفرقان. .، عمان. (¬5) مناع القطان: العقيدة والمجتمع: ص 2، (المرجع السابق نفسه).

إلَّا في العقيدة الإسلاميَّة؛ لأنها عقيدة إلهية جاء بها أنبياء اللَّه ورسله، وكان خاتمهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-: (وآراء الناس ومذاهبهم ومعتقدات البشر لا تتصف بهذه الصفة. . .) (¬1) لذلك كانت العقيدة الإسلاميَّة جديرة (بأن تستقر في سويداء القلب وأن تنعقد على هذا القلب انعقادًا وثيقًا كعقد الحبل؛ لأن الإنسان يعلم علم اليقين أنها من اللَّه الذي خلقه وسواه، وهو الذي يتولى أموره بدءًا ونهاية، فتكون هذه العقيدة الإلهية جديرة بأن تكون العقيدة الحقَّة أو العقيدة على وجه الإطلاق) (¬2). (فقد أوحى اللَّه إلى الأنبياء والمرسلين جميعًا طائفة من الحقائق المستقرة التي لا تقبل الشك، ولا مناص من الإيمان بها إيمانًا ثابتًا جازمًا لا يحتمل التغيير أو التساهل، فهي حقائق قد جاء منطوقها من قبل الرب إلى النبيين على اختلاف أممهم وتفاوت شرائعهم لتحمل في مضمونها جملة من المعاني والقيم الأساسية كيما تتلقاها البشرية وتقف عليها عن روية وبصيرة؛ لأنها معان وقيم تحتوي على مبادئ في التوحيد بين بني الإنسان حيثما كانوا ليعيش الناس جميعًا ضمن إطار متسع من الإخاء التام والتفاهم الأوفى وضمن مبادئ مشتركة قائمة على المساواة الإنسانية المطلقة وعلى التضامن الاجتماعي الوثيق) (¬3). وحول هذه العقيدة تكونت أُمّة واحدة تضرب في أعماق التاريخ وتستمر عبر الزمان والمكان ما دام هناك أفراد (يؤمنون بعقيدة واحدة ¬

_ (¬1) مناع القطان: العقيدة والمجتمع: ص 2، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 2. (¬3) أمير عبد العزيز: دراسات في الثقافة الإسلاميَّة (مدخل إلى الدين الإسلامي): ص 75، طبعة 1399 هـ - 1979 م، عن دار الكتاب العربي - بيروت. وانظر: فاروق النبهان: مبادئ الثقافة الإسلاميَّة: ص 102، طبعة 1403 هـ / 1983 م، عن دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع - الكويت.

ويحسون بنوعٍ من الترابط والتقارب في أفكارهم وتصوراتهم، وهذا التقارب يجذب أفراد المجتمع إلى بعضهم ليتكوَّن منهم مجتمع قوي متماسك ينطلق من منطلقات واحدة، ويهدف لأهداف واحدة) (¬1). وتختص العقيدة الإسلاميَّة بخصائص تجعلها المقوم الأساس في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. * * * ¬

_ (¬1) فاروق النبهان: المرجع السابق نفسه: ص 102.

خصائص العقيدة الإسلامية

خصائص العقيدة الإسلاميَّة ولَمَّا كانت العقيدة الإسلاميَّة من عند اللَّه -عز وجل- فقد اختصت بخصائص فريدة. . . منها الآتي: أ- كونها عقيدة الفطرة: فقد فطر الإنسان على الإيمان باللَّه، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من مولود إلَّا يولد على الفطرة" (¬1)، وهذه الفطرة منقادة لتوحيد اللَّه وإفراده بالعبادة ونفي الشرك، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]. فسَّرَها ابن كثير بقوله: (يخبر اللَّه تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم: أنّ اللَّه ربهم ومليكهم، وأنَّه لا إله إلَّا هو، كما أنَّه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه. . .) (¬2). ومِمَّا يستنتج من هذه الشهادة مع الفطرة تأكيد العهد والميثاق، وهو بهذا يتفق مع المدلول اللغوي للعقيدة المأخوذ من (عَقَدَ) ومنه عَقْد وعقود (والعقود أوثق العهود. . .) (¬3). وقد أشار بعض علماء الاجتماع (إلى حاجة الإنسان إلى العقيدة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري، 7/ 211، كتاب القدر، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) تفسير القرآن العظيم. . 2/ 261 (مرجع سابق). (¬3) انظر: ابن منظور لسان العرب، مادة (عَقَدَ). وانظر: محمد أحمد الخطيب: دراسات في العقيدة الإسلاميَّة: ص 9، (مرجع سابق).

ب- الوضوح واليسر

لأنها تمثل الغذاء الروحي والفكري له، وتحقق له الهدوء والاستقرار النفسي، ولعل هذا هو ما يسفر سعي الإنسان المستمر للارتباط بعقيدة ما، من أجل إشباع الحاجة النفسية للعقيدة) (¬1)، وفي ذلك دلالة واضحة على فطرية العقيدة. وبما أنّ عقيدة الإسلام هي عقيدة الفطرة، وهي عقيدة العهد فإنَّ (الإنسان يبقى حائرًا قلقًا مضطربًا نفسيًّا حتى يؤمن الإيمان الكامل بوجود اللَّه ووحدانيته سبحانه وتعالى، فإذا وصل إلى هذه المرتبة وجد الأمن النفسي والراحة الداخلية والطمأنينة القلبيَّة) (¬2). وهذا من شواهد تميُّز الأمة الإسلاميَّة إذ تسهم العقيدة (في صياغة الشخصية المتماسكة. . وكذلك تسهم في تحقيق تماسك الجماعة Group Cohesion وتحقيق التكامل الاجتماعي Sociallnte gration على مستوى المجتمع كله، لما تحققه من الشعور بالترابط والتقارب والإلفة والقوة بين أبناء العقيدة الواحدة، نتيجة لوحدة المنطق ووحدة الهدف) (¬3). ب- الوضوح واليسر: اختصت العقيدة الإسلاميَّة بخصيصة الوضوح واليسر (فهي عقيدة بسيطة واضحة لا غموض فيها، ولا تعقيد، ومن مظاهر بساطة العقيدة الإسلاميَّة: - أساسها واضح قائم على التوحيد، فاللَّه واحد وهو صاحب السلطان على كل شيء. ¬

_ (¬1) نبيل السمالوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه: ص 24، (مرجع سابق). (¬2) نادية شريف العمري: أضواء على الثقافة الإسلاميَّة: ص 101، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م، عن مؤسسة الرسالة. بيروت، وانظر: ص 864، (البحث نفسه). (¬3) نبيل السمالوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه: ص 25، (مرجع سابق).

- ثُمَّ إنَّ العلاقة التي تقيمها بين العبد وربه هي علاقة واضحة تقوم على عبودية العبد لربه؛ الذي يتوجه إليه بالطلب والدعاء دون واسطة أحد، أو شفاعة الآخرين، إذ لا رهبانية فيها، ولا رجال دين، ولا صكوك غفران، وجميع الخلق عند اللَّه سواء لا يفضلون بكرامة أو مقام، إلَّا بمقدار طاعتهم للَّه وعملهم الصالح. - وبتجاوب الناس معها عبر التاريخ الطويل على مختلف أصنافهم ودرجاتهم دونما تفريق، وهذا مِمَّا ساعد على الانتشار في معظم بقاع الأرض بسرعة مذهلة وفي فترة وجيزة من غير إكراه أو إجبار أو إغراء؛ لأنها دعوة وليست تبشير، تقوم على حوافز داخلية في النفس البشرية) (¬1). ولعل من أبرز ما يدل على هذا الوضوح والصفاء ما تتضمنه كلمة التوحيد التي هي شعار الإسلام وعنوانه (لا إله إلَّا اللَّه محمد رسول اللَّه) فقد نفت تأليه غير اللَّه من (بشر أو حجر، أو شيء في الأرض أو في السماء. . .، وإفراد اللَّه بالألوهية، والإقرار لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرسالة وما يعني ذلك من محبته التي تفضي إلى متابعته، والاقتداء بهديه، والتمسك بسنته، وجماع ذلك "تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عمَّا عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه" (¬2)، ولهذا كانت رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملوك الأرض وزعمانها: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. إنَّ قضية التثنية في الألوهية -إله الخير والنور وإله الشر والظلمة- وقضية التثليث في الوثنيات القديمة، أو في المسيحية المتأثرة بها (الأب ¬

_ (¬1) صالح ذياب هندي: دراسات في الثقافة الإسلامية، ص 54، (مرجع سابق). (¬2) عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: ص 35، الطبعة الثانية، 1411 هـ، عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية. .، الرياض.

والابن والروح القدس)، لا تتمتع واحدة منها بالوضوح لدى المؤمنين بها، ولهذا تعتمد على الإيمان بغير برهان. . . بخلاف قضية التوحيد فهي تستند إلى العقل، وتعتمد على البرهان (فيما يدركه العقل أمَّا ما كان فوق مدرج العقل الإنساني فإنّ معرفته عن طريق الوحي)، قال تعالى للمشركين: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، ويقيم الأدلة على الوحدانية بمثل قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، فالتوحيد في حد ذاته قضية واضحة في ضمير كل مسلم، ودليلها أيضًا واضح في فكره، كما أن أثرها كذلك واضح في حياته) (¬1). كذلك ما يتعلق بالنظرة للحياة الآخرة، والإيمان بالوحي والرسالات وعالم الغيب فكل ذلك يعتقده المسلم وفقًا لما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وما علَّمَ به أمته، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]، قال بعض المفسرين: (وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنَّه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنَّما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنَّما نؤمن به، لخبر اللَّه وخبر رسوله، فهذا الإيمان الذي يُمَيَّزُ به المسلمُ من الكافر؛ لأنَّه تصديق مجرد للَّه ورسوله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر اللَّه به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه ¬

_ (¬1) انظر: يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام: ص 187، 188، الطبعة الثالثة، 1405 هـ - 1985 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت.

عقله وفهمه بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبيَّة؛ لأنَّ عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم، وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدي اللَّه) (¬1). ويندرج تحت الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة والرسل والكتب السماويَّة واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر و (بجمع ما أخبر اللَّه به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة (وأهوالها ومشاهدها) وحقائق أوصاف اللَّه وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك، فيؤمنون بصفات اللَّه ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها (¬2)، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]. وفي حديث جبريل عليه السلام، قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في جوابه عن الإيمان: "أن تؤمن باللَّه وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث" (¬3)، وعن علي -رضي اللَّه عنه- قال: (كنا جلوسًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعه عود ينكت في الأرض، وقال: "ما منكم من أحدٍ إلَّا قد كتب مقعده من النَّار أو من الجَنَّة" فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول اللَّه؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر" ثُمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] (¬4). ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .: 1/ 41 (مرجع سابق). (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .: 1/ 41 (المرجع السابق نفسه). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري، 1/ 18، كتاب الإيمان، بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري، 7/ 222، كتاب القدر، (المرجع السابق نفسه).

والشاهد من هذا كله أنَّ عقيدة الإسلام التي يقوم عليها تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة عقيدة واضحة بينة لا غموض فيها ولا لبس، تنبع من الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها وأشهدهم على أنفسهم، وتعاقبت رسل اللَّه تترى لتوضح هذه العقيدة، وتعيد الناس لجادتها وتعلمهم حقائقها ومقتضياتها بغاية اليسر والوضوح، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. (هذا الوضوح المشرق في العقيدة بالنظر إلى الأنبياء عامّة، وإلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصَّة، يقابله غموض مطبق في العقائد الأخرى، وأبرزها المسيحيَّة التي لم يتضح لأتباعها حقيقة المسيح: ما هي؟ حتى إنّهم عقدوا المجامع تلو المجامع للبحث في طبيعة المسيح ما هي؟ أهو إله؟ أم ابن إله؟ أم بشر خالص؟ أم بشر حلَّ فيه الإله؟ أم جزء من أقانيم ثلاثة يتكون منها الإله: هي الأب، والابن، والروح القدس؟ والروح القدس نفسه اختلفوا فيه ما هو، وما علاقته بالأقنومين الآخرين؟ وأم المسيح التي ولدته ما هي أيضًا؟ وما نصيبها من اللاهوت والناسوت أو الإلهية والبشرية) (¬1). حدث هذا الغموض في المسيحية عندما تأثرت بالأمم الأخرى المجاورة لها، وفقدت تميُّزَها المتمثل في العقيدة الحقة التي جاء بها عيسى عليه السلام من عند اللَّه (¬2). ¬

_ (¬1) يوسف القرضاوىِ: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 190، (المرجع السابق نفسه). (¬2) لمزيد من الاطلاع على الغموض الذي دخل في العقائد الأخرى غير العقيدة الإسلامية، وأفقد تلك العقائد تميُّزَها. انظر: علي عبد الحليم محمود: مع العقيدة والحركة والمنهج في خير أمَّة أخرجت للناس: ص 49، 52، (مرجع سابق)، وانظر: =

ج- استقلال منهجها في الاستدلال عن الطرائق الفلسفية

ج- استقلال منهجها في الاستدلال عن الطرائق الفلسفيَّة: تعتمد الفلسفة في استدلالها على قضايا الوجود على اصطلاحات فلسفية لا تصلح إلَّا لنخبة من العلماء الذين درسوها وحصلوا علومها، ومع ذلك فإنَّ هذا الضرب من الفكر يخالطه الشك والارتياب ويقبل الرفض والطعن (¬1)، وعن هذا قال الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل: (صحيح أن المتكلمين قد اخترعوا أدلة يُمكن أن يقال عنها إنها منطقية، ومثبتة لوجود اللَّه، وهذه الأدلة وما شابهها قد أقرها الفلاسفة الكبار، ولكن المنطق الذي تستند عليه هذه الأدلة هو منطق أرسطو، الذي قد رفضه -عمليًا- كل علماء المنطق باستثناء رجال الدين) (¬2). أمَّا منهج العقيدة الإسلاميَّة في الاستدلال على قضايا الكون والحياة والإنسان وعلاقة ذلك بموجد الوجود كلَّه فإنَّه يقوم على أدلّة سهلة المأخذ ميسورة لجميع الناس، ولعل هذه الخصيصة كانت السبب في زعم بعض المفكرين (بأن القرآن يصلح. . . للعامة، والفلسفة تصلح للخاصة من الناس) (¬3)، أو كما قيل: (الديانة هي فلسفة الشعوب والجماهير. . . والفلسفة هي ديانة الأفذاذ الممتازين) (¬4). ¬

_ = محمد عبد اللَّه دراز: الدين (بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان): ص 67، (مرجع سابق). (¬1) انظر: عبد الستار فتح اللَّه سعيد: نظرات في الاستدلال القرآني، مقال مدرج في مجلة كلية أصول الدين، الصادرة عن كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة - الرياض، 1399 هـ - 1400 هـ: ص 26. (¬2) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص 27. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 26. (¬4) محمد عبد اللَّه دراز: الدين. .: ص 66، (المرجع السابق نفسه).

فالأدلة الكونية

وقد قام أحد الباحثين بدراسة أنواع الأدلة في القرآن الكريم وقسمها على النحو الآتي: 1 - أدلة كونية. 2 - أدلة نفسية. 3 - أدلة عقلية (¬1). فالأدلة الكونية: تعنى بالنظر في الكائنات للتدليل (على وجود اللَّه تعالى ووحدانيته، وسعة قدرته، وعظيم حكمته، وعلى يسر البعث عليه عز شأنه. . . وقد اتخذ هذا الاستدلال كل زوايا الكائنات وجهة له، كوجود الكون بعد العدم، وسعة هذا الوجود، وعظمته، وعجائبه، وكانتظامه على قوانين مطردة، ونواميس محكمة، وابتنائه على الحكمة وحسن التدبير، والتكامل العجيب بين أجزائه، والعناية بكل أحيائه، عناية تبلغ غاية الإعجاز. . . وفي كل هذا يتجه القرآن إلى عقل الإنسان وفكره، ووجدانه وحسه، وإلى تجاربه وملاحظاته، وعلومه ومعارفه، بل يتجه إلى مشاهداته العادية المبنيَّة على الحس، لينتقل من ملاحظاتها في أوضاعها المختلفة إلى ما وراءها، وليدرك من هذه المقومات البدهيَّة، نتائجها الجازمة فيدور الدليل بين البصر والنظر، والسمع والفكر. . . وهذا اللون على سهولته أقوى أنواع الأدلة، وأقربها إلى النفولس والإقناع، والجزم واليقين، لدلالته على المطلوب بذاته، ومن أقصر سبيل، حيث يعتمد على المسلمات البدهيّة المحسوسة أو المعقولة، بخلاف أدلة المتفلسفين، التي تدل على المطلوب دلالة ناقصة، وتحتاج مقدماتها غالبًا إلى برهنة، ودليل ثالث خارج عنها، كاستدلالهم بحدوث العالم على أنّ له محدثًا، لكن من هو؟! ¬

_ (¬1) انظر: عبد الستَّار فتح اللَّه سعيد: نظرات في الاستدلال القرآني. .: ص 20 - 25، (المرجع السابق نفسه).

والأدلة النفسية

فهذا يحتاج إلى دليل آخر خارج عن علومهم ومعارفهم، فضلًا عن معرفة صفات هذا الموجد وحقوقه سبحانه وتعالى، بل قد تحتاج النتيجة ذاتها إلى استدلال عليها) (¬1). والأدلة النفسية: (تثير الجانب النفسي في الإنسان، ليتأمل من داخله، ويستدل بشعوره، وليتواءم مع هذه الفطرة المنقدحة في حناياه، بأن هذا الكون حق، وأن وراءه حكمة وقصدًا عظيمًا، وهذه الأدلة بالغة الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات، التي لا تعتمد على مجرد المعرفة العقليَّة، وإنَّما لا بُدَّ أن تتشابك فيها عناصر هذا الكيان الإنساني البديع، لتستقر وتأنس، وتنفعل وتتحرك. . . وماذا تغني المعارف والحواس إذا كان وراءها قلب خرب لا يتجاوب مع ما يحفل به هذا الكون من جمال وجلال وإبداع يدل على عظمة صانعه ومبدعه جلَّ شأنه) (¬2). والأدلة العقليَّة: (تقوم على عمليات فكريَّة، كترتيب المقدمات واستخراج نتائجها، حسب ضوابط وقوانين وراء بداهة الحس، ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجع إلى النقل، والأدلة العقليَّة أوسع مدى من أشكال المنطق اليوناني، وضروبه؛ لذلك لم يتقيد القرآن الكريم به، وإنَّما جاء على نمط خاص في الاستدلال العقلي، واستخرج منه العلماء أنواعًا كثيرة. . . ولا يزال القرآن الكريم حمَّالًا لمزيد من الأوجه، التي يتسع لها العقل البشري الفاحص المتأمل. . . وهو كما بذَّ طرق العرب رغم نزوله بلغتهم، فهو كذلك يبذ طرق الفلاسفة وأصحاب المنطق اليوناني وأضرابهم، وقد حاول أقوام من المتفلسفين والمتكلمين المسلمين، أن ينزلوا الأدلة القرآنية على طرائق الفكر البشري، وموازينه في ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 20. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 21.

د- الانضباط وملازمة الحق والانتصار له

المنطق الأرسطي، وهذه المحاولة حبس للأدلة القرآنية في نطاق آخر محلي محدود، تخبو فيه أنوار الفطرة الإنسانية وراء الحدود والقيود، ولا يسلم في كل حال من الخلل والعلل) (¬1). وإذا كانت الطرائق الفلسفية قد أودت بأصحابها في كثير من الأحوال إلى الشك والجدل العقيم والحيرة ورُبَّما إلى الإلحاد، فإنَّ منهج العقيدة الإسلاميَّة في الاستدلال على وجود اللَّه ووحدانيته وفي رؤيتها للكون والحياة والنفس الإنسانية قد أثارت (كوامن النفس العربية، وبعثت العرب إلى الإيمان واليقين، وأقنعتهم إقناعًا أخرجهم من ديارهم وأموالهم. . . دفاعًا عن هذا الحق الذي آمنوا به، واستخراجًا للناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ولا تزال آثاره، ودلائله حيَّة نابضة. . .) (¬2). وبناء على ذلك فإنَّ هذه العقيدة الفذَّة مقومٌ أساس من مقومات تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. د- الانضباط وملازمة الحق والانتصار له: ومن خصائص العقيدة الإسلاميَّة أنَّها عقيدة منضبطة بضوابط شرعيَّة وقيود أخلاقيَّة ملازمة للحق ومناصرة له، فقد أثبتت الدراسات الاجتماعية بأنَّ العقيدة (تعد الموجه الأساس لسلوك الفرد، حيث تتحول إلى موجَّهَات قيمية Valueorientions تترجم إلى واقع سلوكي، فالمعتقدات هي التي تحكم وتصبغ وتحدد القيم، وهذه الأخيرة، هي التي تحدد مسارات السلوك وتضبطه وتحكمه وتوجهه) (¬3). ¬

_ (¬1) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: نظرات في الاستدلال القرآني. .: ص 26، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 26. وانظر: أثر العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة في الصفحات التالية. (¬3) نبيل السمالوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه. .: ص 23، (مرجع سابق).

ومِمَّا يؤكد ذلك ويشهد به ما يلاحظ في واقع البشر وتاريخ الإنسان من (إقدام أصحاب العقيدة إلى التضحية بأنفسهم في سبيل عقيدتهم -سواء أكانت عقيدة صحيحة أم فاسدة) (¬1)، وقد تخرج هذه التضحية من دائرة العرف والمألوف لتصبح نوعًا من الفوضى والهمجيَّة والحماسة الطائشة كالذي تفعله (بعض فرق البوذية في جنوب شرق آسيا (حيث تقدم) على الانتحار الجماعي بالحرق، تنفيذًا لبعض تعاليم البوذيَّة) (¬2)، بيد أنَّ العقيدة الإسلاميَّة وهي عقيدة الفطرة والعقل والحق والفضيلة والخير والمعروف تتسم بالانضباط وملازمة الحق ومناصرته، وإذا كان الجهاد في سبيل اللَّه وهو ذروة سنام الإسلام من أعظم الأدلة على فاعليَّة العقيدة الإسلاميَّة، حيث يقدم المسلم على الاستشهاد في سبيل اللَّه، ويستعذب الموت دفاعًا عن دينه (¬3)، فإنَّ لذلك ضوابط شرعيَّة تفرضها عقيدة الإسلام على الأُمَّة الإسلاميَّة، وقد أثبت التاريخ التزام الأُمَّة الإسلاميَّة في مجمل تاريخها بتلك الضوابط. وعلى سبيل المثال فإنَّ قتال الكفَّار في الفتوحات الإسلاميَّة كان آخر ما تلجأ إليه الأمَّة بعد الدعوة إلى الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، فإذا لم يتحقق ذلك وأصبح القتال هو الحل الوحيد، فإنَّه مقيد أيضًا بأخلاقيات إنسانية سامية شهد بها المنصفون وسجلها التاريخ، من مثل قول (بيجي رودريك): (قوانين الحرب في الإسلام تعتبر أكثر القوانين إنسانيَّة ورأفة، فهي تضمن السلامة التامَّة للنساء والولدان والشيوخ وجميع غير المحاربين، فليس هناك في نظر الإسلام أبشع من جريمة قصف ¬

_ (¬1) نبيل السمالوطي: ص 25، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نبيل السمالوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه. .: ص 25، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد كمال جعفر: الإنسان والأديان: ص 39، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 25.

المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومساكن المدنيين في المنطقة المعادية، وإنَّما يجعل الإسلام لهذه المرافق الإنسانية قدسيتها ويحذر من المساس بها، فهذه الوصيَّة التي كان يوصي بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قادة المسلمين، وكذلك كان موقف الخلفاء الراشدين من بعده (-رضي اللَّه عنهم-) بل لقد ظلت هذه سمة بارزة في جميع الحروب الإسلاميَّة على مرّ العصور) (¬1). إنَّ ما تتسم به العقيدة الإسلاميَّة من أخلاق وانضباط راجع إلى مصادرها الأصلية، كتاب اللَّه وسنة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، والشاهد من هذه الآية أنَّها حددت ضوابط القتال بـ (أن يكون القتال في سبيل اللَّه أي لنصرة الحق لا في نزوات شخصية أو عنصريَّة. . . وأن يكون مقصورًا على من يقاتل المسلمين. . . وأن لا يكون اعتداءً وتجاوزًا. . كقتل الشيوخ والنساء والذريَّة والضعفاء والرهبان المعتزلين في خلواتهم أو بيوتهم، والترهيب من الاعتداء بعد النهي عنه، بأن اللَّه لا يحب المعتدين) (¬2). ومن السنَّة المطهرة تلك الوصايا الخالدة عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمراء جيوشه إذ كان يوصيهم بوصايا متنوعة، منها: - قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغزوا جميعًا في سبيل اللَّه، فقاتلوا من كفر باللَّه، ¬

_ (¬1) نقلًا عن عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 228، (مرجع سابق). (¬2) عبد العظيم بن إبراهيم محمد المطعني: سماحة الإسلام في الدعوة إلى اللَّه والعلاقات الإنسانية (منهاجًا. . . وسيرة): ص 154، عن مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. وانظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 2/ 232، 233، (مرجع سابق)، ولمزيدٍ من الاطلاع على ضوابط العقيدة الإسلاميَّة في حالة السلم والحرب وقبل القتال وفي أثنائه وبعده. انظر: المطعني: سماحة الإسلام. .: ص 154 - 160، (المرجع السابق نفسه).

ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداَّ، فهذا عهد رسول اللَّه منتشر فيكم" (¬1). - وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قتل صغيرًا أو حرق نخلًا أو قطع شجرة مثمرة، أو ذبح شاة لإهابها لم يرجع كفافًا" (¬2). - وروى الشيخان عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نهى عن قتل النساء والصبيان" (¬3). - وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا بعث جيوشه، قال: "اخرجوا باسم اللَّه فقاتلوا في سبيل اللَّه، من كفر باللَّه ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" (¬4). وسار الخلفاء الراشدون على هدي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن بعدهم سلف ¬

_ (¬1) مجمع الزوائد: 5/ 120، (مرجع سابق)، وانظر: البداية والنهاية: 5/ 220، الطبعة الأولى، 1966 م، مكتبة المعارف، بيروت، وانظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 9/ 108، 118، 119، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م، عن دار الكتب العلمية - بيروت. (¬2) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: 5/ 276 حديث رقم: (21863)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي، (مرجع سابق)، وانظر: مجمع الزوائد 5/ 317، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي: المرجع السابق نفسه: ص 119. (¬3) صحيح البخاري: 98/ 103 (ترتيب مصطفى ديب البغا) رقم الحديث [2852]، (مرجع سابق)، وصحيح مسلم: 3/ 1444 الحديث رقم [1812]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬4) مسند الإمام أحمد: 4/ 461، الموسوعة الحديثية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت، وفي حاشية الصفحة 461 و 462 دراسة شاملة لطرق هذه الرواية ومثيلاتها والحكم على سندها.

الأُمَّة الصالح، واستمرت الأُمَّة الإسلاميَّة في تاريخها القديم والحديث منضبطة بضوابط هذه العقيدة ولم يند عن هذا المسار إلَّا حالات نادرة وشاذَّة، رُبَّمَا أظهرت معالجة المسلمين لآثارها: قيمة العدل والإحسان، التي تميَّزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة في سيادتها على غيرها من الأمم، وأعني بذلك -كمثال- حادثة فتح (سمرقند) حينما فتحها المسلمون -كما تذكر المراجع التاريخيَّة- دون تخيير أهلها في (الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال) وما إنْ رفع أهل سمرقند أمرهم إلى خليفة المسلمين حتى أوكل ذلك لأحد قضاة المسلمين فحكم بالآتي: أولًا: خروج المسلمين من سمرقند. ثانيًا: دفع تعويضات من خزانة الدولة الإسلامية لأهل (سمرقند) مقابل ما نزل بهم من أضرار من جراء دخول المسلمين بلادهم دخولًا مخالفًا لمنهج الدعوة. ثالثًا: تعاد دعوتهم إلى الإسلام فإن أبوا خُيِّرُوا بين الصلح وبين القتال. ولكن أهل (سمرقند) تنازلوا عن شكواهم بعدما لمسوا من الروح الطيبة والخلق الكريم، والسلوك الجميل من المسلمين الفاتحين) (¬1). وإذا كانت هذه الضوابط التي ضبطت بها العقيدة الإسلاميَّة تحجبها عن إيذاء الآخرين، وعن الإفساد في الأرض وعن إهلاك الحرث والنسل حينما يبلغ بها الاندفاع أقصاه ممثلًا في قتال الكُفَّار، فإنَّ هناك ضوابط ¬

_ (¬1) المطعني: سماحة الإسلام. .: ص 158، 159، (مرجع سابق)، وانظر: الكامل لابن الأثير، 5/ 60، 61، طبعة دار صادر، 1385 هـ - 1965 م، بيروت، وانظر: البلاذري: فتوح البلدان: ص 411، تحقيق: رضوان محمد رضوان، طبعة دار الكتب العلمية، 1412 هـ - 1991 م، بيروت، وانظر: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلاميَّة: محمد الخضري: 1/ 181، الطبعة الثامنة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1382 هـ.

أخرى تكفل المحافظة على الفرد نفسه داخل كيان الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، قال بعض المفسرين: (والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: لترك ما أمر اللَّه به العبد، إذا كان تركه موجبًا أو مقاربًا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة. . . ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة، أو سفر مخوف، أو محل مسبعة (أرض يكثر فيها السباع) أو حيَّات، أو يصعد شجرًا، أو بنيانًا خطرًا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك) (¬1). وينطبق ذلك على الأُمَّة الإسلاميَّة حيث جاء الأمر في الآية بصيغة الجمع. وبهذه الخصوصية يتضح أن العقيدة الإسلامية ليست (موجة عاطفة تهز القلوب وتثير المشاعر فحسب، بل هي قوة عقليَّة ووجدانية معًا) (¬2) تُسَلِّمُ قيادها للَّه رب العالمين في جميع ما تأتي وتذر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]. ويطول البحث في الإحاطة بخصائص العقيدة الإسلاميَّة، وحسب الباحث أن تناول منها ما يبرز تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في الجوانب العقدية المتصلة به (¬3). ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .: 1/ 236 - 237، (مرجع سابق). (¬2) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 359، (مرجع سابق). (¬3) لمزيد من الاطلاع على خصائص العقيدة الإسلاميَّة؛ انظر: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية: ص 358، 374، (المرجع السابق نفسه). عثمان جمعة ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 383 - 394، (مرجع سابق). محسن عبد الحميد: الإسلامية والتنمية الاجتماعية: 28 - 31، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م، عن دار المنار. جدة.

أثر العقيدة في الأمة الإسلامية

أثر العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة إنَّ للخصائص التي سبق بحثها أثرًا عميقًا في الأُمَّة الإسلاميَّة حيث حدَّدت هويتها عبر تاريخ البشرية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، فالأمة الإسلاميَّة منذ وجدت (تشترك في تصور واحد للوجود والكون، فقد ثبت في عقولها ونفوسها أنَّ لهذا الكون الرحب العظيم خلقًا واحدًا حكيمًا قديرًا، وأن الإنسان أحد مخلوقات اللَّه وأكرمها، وأن هذا الإنسان مخلوق للَّه وعبد للَّه، وهو في الوقت نفسه ذو سلطان على هذا الكون الذي سخَّره اللَّه له، وذلك كما ينص القرآن الكريم، وأن للإنسان حياتين: الأولى: للعمل وتحمل أعباء الأمانة، والثانية: للجزاء وتحمل نتائج المسؤولية، وأنَّه يصل إلى الحقائق الحسيَّة بما وهبه اللَّه من هبات البصر والسمع والحواس والعقل، وإلى الحقائق غير الماديَّة بهداية الرسل، وخاتمهم هو محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورسالته خاتمة الرسالات وأعمها وأبقاها، وقد أنزل اللَّه عليه كتابًا خالدًا محفوظًا، تضمن هذه الرسالة، وهو القرآن الكريم، وهو عليه الصلاة والسلام المكلف بتبليغه وتبيينه للناس وتفصيله فيما اصطلح على تسميته (بالسنة)، هذه العقيدة التي توجز في عبارة جامعة هي (لا إله إلَّا اللَّه محمد رسول اللَّه)، عميقة الأثر في نفوس المؤمنين بها، ويتفرع عن هذه العقيدة مبادئ ومفاهيم وأفكار وعواطف، وتولد عنها نتائج مهمة كان ولا يزال لها أثر في مجرى تاريخ هذه الشعوب وفي حياتها، تتجلى هذه العقيدة وتلك المبادئ في أبسط مظاهر الحياة الاجتماعية، في السلام والتحيَّة، وفي مناسبات الحياة من ولادة وموت، وانتصار وهزيمة، وتتجلى في ألوان من الشعور أصبحت في حياة المسلمين أشبه بالغرائز، كالشعور بالمساواة بين العروق والألوان، وفقدان التمييز العنصري في ضمير هذه الشعوب، مِمَّا

ويمكن رصد بعض آثار العقيدة في الأمة الإسلامية في الآتي

لا نظير (له) في الشعوب التي تعد اليوم أرقى الشعوب، إنَّ تعبيرات بني آدم وآدمي وإنسان وناس أصبحت تعبيرات أساسيَّة ورائجة عند المسلمين جميعًا، وهي تصور هذا الشعور بوحدة الإنسانية) (¬1). ويُمكن رصد بعض آثار العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة في الآتي: أ- حررت العقول والنفوس من الخرافات والأوهام والمخاوف ومسببات الذل والهوان بما غرست في النفوس من (قناعات أكيدة في أن النافع والضار والمحيي والمميت هو اللَّه تعالى، وبذلك فهي تمنع الإنسان عن كل ما فيه استعانة ولجوء إلى غير اللَّه) (¬2)، أو خوف أو ذل أو رهبة يفضي لصرف نوعٍ من العبادة لغير اللَّه، و (اللَّه وحده الخالق الذي يسمو في عظمته وفي وجوده فوق مستوى البشر، والناس كلهم بالنسبة إليه مخلوقاته وعباده، فكلهم على ما بينهم من تفاوت في الذكاء والعلم والغنى والنسب والعرق متساوون في طبيعة خلقهم، متساوون بالنسبة إلى عظمة اللَّه. . . وقد أورد القرآن فرعون مثالًا للبشر المتأله على الناس بتعاظمه واستبداده {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. يفرض على الناس آراءه، وتوجيهاته فرضًا {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] وكانت عاقبة أمره الهلاك) (¬3). ومن هذا المثل -وغيره كثير في كتاب اللَّه عز وجل- تحرر الناس من كل ولاء لغير اللَّه ومن الخوف ممن يدعو الناس لعبادته من دون اللَّه، واتجهت قلوبهم وعقولهم إلى فاطرهم ورازقهم وناصرهم لا يخافون غيره ولا يرجون سواه، فأصبحت الأُمَّة الأسلاميَّة بذلك أُمَّة فاعلة (غيرت مجرى ¬

_ (¬1) محمد المبارك: المجتمع الإسلامي المعاصر: ص 27، 28 (مرجع سابق). (¬2) صالح ذياب هندي: دراسات في الثقافة الإسلامية: ص 58، (مرجع سابق). (¬3) محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 79، 80، عن دار الفكر، بدون تاريخ.

التاريخ، وبدلت معالم الحضارة، وأحدثت في حياة الإنسانية الاجتماعية والفكريَّة انقلابات رائعة، ونشرت مفاهيم جديدة للحياة، وأقامت على أساسها حضارة إنسانية رائعة كان القرآن دستورها والعربية لغتها، ومبادئ المساواة والعدل والإنسانية أساسها. ذلك أن الإسلام أبرز في الإنسان صفة الإنسانية أولًا وقبل كل شيء، وجعل مكان الإنسان في هذا الكون هو مكان المخلوق المكرم من مخلوقات اللَّه، وتلك الصفة المشرفة التي تتجلى فيها خصائصه الكريمة ومزاياه الأصلية هو كونه عبدًا للَّه) (¬1). ب- أقامت كيان الأُمَّة الإسلاميَّة على أساس حقق لها الوحدة الشاملة، وهو التوحيد الخالص للَّه -عز وجل- (فالرب واحد، والرسول واحد، والرسالة واحدة، والقبلة واحدة، واللغة واحدة، والأهداف والآمال واحدة فلا بُدَّ معها أن تكون الأُمَّة واحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، والتوحيد في الاعتقاد يؤدي إلى تجانس مشاعر الأفراد؛ مِمَّا يجعلهم قوة متماسكة متضافرة متكافلة) (¬2). وهذا ما أطلق عليه (ستودارد) (الجامعة الإسلاميَّة) إذ قال: (الجامعة الإسلاميَّة بمعناها الشامل ومفهومها العام إنَّما هي الشعور بالوحدة العامة والعروة الوثقى لا انفصام لها في جميع المؤمنين في المعمور الإسلامي، وهي قديمة بأصلها ومنشئها منذ عهد صاحب الرسالة -صلى اللَّه عليه وسلم- أي: منذ شرع الرسول يجاهد فالتف حوله المهاجرون والأنصار معتصبين معه بعصبة الإسلام لقتال المشتركين، وقد أدرك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خطورة الجامعة وعلو منزلتها في المسلمين حق الإدراك، وعلم كل العلم ما لها من عظم ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 74. (¬2) صالح ذياب هندي: دراسات في الثقافة الإسلامية: ص 61، (مرجع سابق).

الشأن. . فغرس غريستها بيديه في نفوسهم، فنمت وتغلغلت، وامتدت جذورها، وبسقت أغصانها. . فقد كرَّ عليها أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فما أوهن كرور هذه القرون من الجامعة الإسلاميَّة جانبًا، ولا ضعضع لها كيانًا، بل كلما تقادم عليها العهد ازدادت شدّة وقوة ومنعة واعتزازًا. حقًّا إن الجامعة اليوم بين المسلم والمسلم لأقوى منها بين النصراني والنصراني. . ومن أحب أن يقف حق الوقوف على ما أراده الإسلام من غرض الجامعة وغايتها فلينظر إلى حال المسلمين اليوم وإلى تيار هذا التعاطف والتشاكي يعلم سرّ الجامعة ومكانتها في نفوس المسلمين وفي الواقع، ليس من دين الدنيا جامع لأبنائه بعضهم مع بعض موحد لشعورهم دافع بهم نحو الجامعة العامَّة والاستمساك بعروتها كدين الإسلام) (¬1). وهذا الرابط أو المرتكز للجامعة الإسلاميَّة لا يرفض جنسًا من البشر، أو يحرم فئة من الناس من الانتساب إليه في هذه الوحدة الشاملة لجميع البشر كما هو الشأن في الروابط الأخرى من القوميات ونحوها التي مزَّقت بني الإنسان، وجعلت مشا عرهم متنافرة، وولاءاتهم متناقضة، وبالتالي تشتتوا وتناجزوا ورُبَّما تناحروا، وإنَّما ألَّفَت عقيدة التوحيد مجتمعًا عالميًّا يضم جميع الأجناس ويتسع لكل الأعراق، ويقبل جميع الألوان البشرية مهما اختلفت ديارهم وأعراقهم وأجناسهم طالما كانت عقيدة التوحيد مرتكزهم الأساس، وبهذا تميزت الأُمَّة الإسلاميَّة دون سائر الأمم الاخرى. ج- نظَّمَت العقيدة حياة الأُمَّة الإسلاميَّة تنظيمًا شاملًا، وأوجدت مجتمعات يسودها العدل والإنصاف في علاقاتها وروابطها، وتتسم ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي، 1/ 287، 288، (مرجع سابق). وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الاسلام: ص 192، (مرجع سابق).

بالإحسان في معاملاتها لما يتصف به أفراد المسلمين من صفات تحلَّوا بها إجابة لهدي تلك العقيدة، منها: - الصدق في القول والفعل والأخذ والعطاء، والإخلاص في ذلك كله. - البعد عن الظلم والغدر والخيانة وأنانيات النفوس وشهواتها وأهوائها. - الانضباط والشعور بالمسؤولية والمحاسبة على ما يأتي الفرد ويذر، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا، تحقيقًا لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. قال بعض المفسرين: (كان بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها، وكان الآخر يريد أن يتصدق فلا يجد إلَّا اليسير فيستحيي من الصدقة فنزلت الآية فيهما) (¬1). - صفاء النفس وسلامتها من الأحقاد والضغائن والغل، ونحو ذلك من النقائص التي تلوث حياة الناس وتكدر عيشهم. - سمو الفكر وتحرره من الضلال والخرافة والجهل وإعطاؤه المجال الأرحب ليفكر ويبدع ويعي ما حوله دون حجر أو تعويق (¬2). ومن مجموع أفراد الأُمَّة ومن خلال هذه الصفات وما يلحق بها من ¬

_ (¬1) ابن عطية: المحرر الوجيز 5/ 512، (مرجع سابق). (¬2) انظر صالح ذياب هندي: دراسات في الثقافة الإسلامية: ص 59، (مرجع سابق)، وانظر: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية؛ ص 359، (مرجع سابق)، وانظر: محسن عبد الحميد: الإسلام والتنمية الاجتماعية: ص 31، (مرجع سابق)، وانظر نشأة ظبيان: العالم المتفوق (منهج سلوكي متكامل، انتفت فيه الأثرة وتجلت كرامة الإنسان): ص 63 - 95، الطبعة الأولى 1454 هـ - 1984 م عن دار العلوم. .، الرياض.

الفضائل ومكارم الأخلاق وعلو الهمَّة والشعور بالعزّة والكرامة والثقة في اللَّه الرازق القادر المعز المذل الواهب اللطيف الخبير تكونت الأُمَّة المتميزة القادرة على العطاء القويَّة في بنائها، المتماسكة في نظامها، و (هذه الميزات التي يتصف بها مجتمع العقيدة النظيف المستقيم، تفتقر إليها المجتمعات الأُخرى، مجتمعات الغاب التي يسودها المخلب والناب، وتكون فيها العلاقات كما بين ابن آوى والأسد. . . فهي مجتمعات سوء التوزيع والكبت والحرمان والقمع والإرهاب والخوف والانحلال النفسي والخلقي والقلق العصبي والتوتر النفسي والشذوذ. . . والجريمة المنظمة بكل ما تحمله من معنى) (¬1). د- جعلتها قادرة على الفعل وإيجابيته السريعة، وللمثال على هذا الأثر العميق، أورد ما ذكره أحد الباحثين من مقارنة بين تأثير العقيدة الإسلاميَّة على الأُمَّة الإسلاميَّة في تحريم الخمر، وبين القوانين الوضعية، مستشهدًا برأي (توينبي)، وخلاصته: (إن أحد عوامل إعجابه بقدرة الإسلام الفذة على الفعل والتغيير هو تمكنه من تخليص أُمَّة بأسرها من ظاهرة تعاطي الخمر، تلك الظاهرة تمتد جذورها آلاف السنين، وهو ما لم يستطع قانون أو دين أو نظام أن يفعله كما فعله الإسلام) (¬2). وفي سياق هذه المقارنة قال الباحث -أيضًا-: (أقرأتم عن المعجزة نفسها كيف تحققت؟، ثلاث آيات من القرآن فحسب تحسم الموقف لصالح الإنسان. . . لا أطنان من الأوراق. . . ولا مئات الملايين من الدنانير. . . ولا عشرات الألوف من المعتقلين. . . ولا مئات من المؤشرات الإحصائية والبيانات العلمية والمنحنيات!!. ثلاث آيات من ¬

_ (¬1) صالح ذياب هندي: دراسة في الثقافة الإسلامية: ص 62، (المرجع السابق نفسه). (¬2) عماد الدين خليل: مؤشرات إسلامية في زمن السرعة ص 18، الطبعة الأولى 1455 هـ - 1985 م، عن مؤسسة الرسالة. بيروت.

القرآن فحسب. . والمفتاح يكمن في العقيدة. . لقد أعطى الإسلام أتباعه عقيدة جادَّة تغلغلت في عقولهم وشرايينهم، حتى أصبحت الهواء الذي يتنفسون، والدم الذي يجري في العروق. . وحينذاك كان بمقدور الرسول عليه السلام، وهو يتلقى أمر اللَّه، أن يقول للمسلمين: (إنَّ اللَّه يأمركم أن تكفوا عن شرب الخمر) (¬1). . ويومها فقط شوهدت دِنَانُ الخمر وهي تكسَّر. . والصهباء وهي تنساب على الأرض مختلطة بترابها ووحلها. . وشوهدت بعض من دخل الخمر جوفه قبل دقائق أو ساعات يسعى جاهدًا إلى تفريغ جوفه من الدنس. . لكي يتطهر كما أراد اللَّه له أن يكون. . . ومرة أخرى. . العقيدة أولًا. . وبدونها. . فإنَّ ألفًا من محاولات الإحصاء لن تفعل سوى أن تصف الظواهر وتصنفها. . أمَّا الناس فإنَّهم سيظلون -في الطرف الآخر- ليسوا سعداء!!) (¬2). وما يقال عن سرعة إجابة الأُمَّة الإسلاميَّة في الكف عن تعاطي الخمر ¬

_ (¬1) الآيات الثلاث التي تدرجت في تحريم الخمر هي: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وانظر ما أورده ابن كثير في تفسيرها: تفسير القرآن العظيم 2/ 92 - 97، (مرجع سابق)، حيث اشتمل على تطبيقات السلف رضوان اللَّه عليهم وسرعة إجابتهم لأمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بما لم يشهد له التاريخ مثيلًا. (¬2) عماد الدين خليل: مؤشرات إسلامية. .: ص 18، 19، وما قبلهما: ص 14 - 17، (المرجع السابق نفسه).

يقال في أمور كثيرة كالحجاب والنفور للجهاد وسائر المأمورات والمنهيات، فما إنْ يصدر الأمر أو النهي حتّى تبادر الأُمَّة الإسلاميَّة في الاستجابة تحقيقًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] قال بعض المفسرين في ذلك: (يأمر تعالى عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان منهم، وهو: الاستجابة للَّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به، والمبادرة إلى ذلك، والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه، والنهي عنه) (¬1). إذًا فعقيدة الأُمَّة الإسلاميَّة عقيدة مثمرة في واقع الحياة؛ لأنها (ماثلة في الذهن، حاضرة في النفس، حيَّة في القلب، تنبض بها العروق وتتحرك بها الإرادة والجوارح) (¬2)، أمَّا غيرها من العقائد الفلسفية فإنها (نظرية في الفكر وفلسفة يقلبها العقل بين يديه ويناقشها ثم يقبلها) (¬3)، وتبقى (آراء يتلهى العقل بمناقشتها) (¬4)، وليس لها أثر ملموس في واقع الحياة إلَّا من الناحية السلبيَّة، (فهل نفعت نظريات أرسطو وآراء أفلاطون، وهل غيَّرت شيئًا كثيرًا من معالم مجتمعه فضلًا عن حياة البشر والحضارة الإنسانية) (¬5). * * * ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . 3/ 156، (مرجع سابق). (¬2) محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 73، (المرجع السابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 74. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 73، 74 ولمزيد من الاطلاع على أثر العقيدة الإسلامية في مجرى تاريخ البشرية بعامة وفضلها على الإنسانية. انظر: أبا الحسن علي الحسني الندوي: الإسلام (أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية): ص 41 - 54، طبعه دار المنار، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م - جدة. (¬5) محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 73، (المرجع السابق نفسه).

موقف المستشرقين من العقيدة الإسلامية

موقف المستشرقين من العقيدة الإسلامية توافر عددٌ من المستشرقين على دراسة العقيدة الإسلاميَّة من خلال دراسة القرآن الكريم والسنّة النبوية والسيرة والتاريخ الإسلامي، وزعموا (عدم أصالة الإسلام واعتماده على الأديان السابقة) (¬1)، وأصبحت هذه النتيجة كما قال أحد المستشرقين: (موضة) بين عموم المستشرقين) (¬2)، ولكي يصلوا إلى هذه النتيجة قاموا بتجزئة أمور العقيدة الإسلاميَّة إلى أجزاء متناثرة، وحاولوا إرجاعها إلى مصادر أخرى في الأديان السابقة، ولاشك أنّ هذا المسلك محاولة لنفي تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وذلك بزعم نسبة عقيدتها إلى أخلاطٍ من اليهودية والنصرانية والوثنية، ويتناول البحث هنا الأمور الآتية: 1 - صورة العقيدة الإسلاميَّة في العصور الوسطى عند الغرب. 2 - نماذج من آراء المستشرقين في زعمهم تأثر العقيدة الإسلاميَّة بالديانتين اليهودية والنصرانية، وتأثرها كذلك بالوثنية. 3 - مناقشة تلك الآراء والرد عليها. أولًا: صورة العقيدة الإسلاميَّة لدى الغرب في العصور الوسطى: برزت هذه الصورة لدى الغربيين في العصور الوسطى من خلال اللاهوت الذي فرضته الكنيسة على النصارى بما كان لديها من سلطة قاهرة مدعمة بالسلطة الزمنية آنذاك، وسبق مِمَّا دَلَّ عليه تاريخ الاستشراق أن ¬

_ (¬1) محمد عبد اللَّه الشرقاوي: الاستشراق دراسات تحليلية تقويمية (في الفكر الإسلامي المعاصر)، ص 80، عن دار الفكر العربي، بدون تاريخ. (¬2) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: 85.

الحركة الفكرية التي نشطت في الأندلس إبَّان الحضارة الإسلاميَّة التي احتكت بالغرب قد انقسمت إلى شطرين: أولهما: عمل على تشويه العقيدة الإسلاميَّة لتحصين الغرب النصراني من انتشار الإسلام فيه. أمَّا الشطر الآخر: فقد عنى بعلوم المسلمين في الطب والفلك ونحوهما، وحرصًا منه على الإفادة منها تولى نقلها إلى اللغات الأوروبية، وتوافر على دراستها. ومِمَّا تبيَّن -أيضًا- أنَّ تلك الحركة الفكرية اتسمت بشطريها بالعداء للإسلام وعقيدته، وقد وضَّح هذه الحقيقة أحد المستشرقين بقوله: (صحيح أنَّه كان ثمة بعض الإحاطة بالإسلام من قبل، سواء بفضل المصادر البيزنطية، أو بفضل صلات المسيحيين بالمسلمين في إسبانيا، غير أن تلك المعارف السائدة وقتذاك كانت مشوبة إلى حدٍّ رهيب بالأوهام والأخطاء، فقد نُظِرَ إلى العرب باعتبارهم وثنيين يعبدون محمدًا، ونظر إلى محمد باعتباره ساحرًا بل الشيطان بعينه) (¬1). ويقول مستشرق آخر: (ظل محمد زمنًا طويلًا معروفًا فى الغرب معرفة سيئة، فلا تكاد توجد خرافة ولا فظاظة إلَّا نسبوها إليه) (¬2). وأستعرضُ فيما يأتي بعض المرتكزات لهذه الصورة من أقوال ¬

_ (¬1) مونتغومري واط: فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 99، ترجمة: حسين أحمد أمين، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م مكتبة مدبولي - مصر. (¬2) التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون، منهاج المسثشرقين في الدراسات العربية والإسلامية 1/ 22 عن مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 1405 هـ/ 1985 م، وانظر: أحمد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق: ص 23 - 31، (مرجع سابق).

ومواقف حدَّدَت صورة العقيدة الإسلامية لدى الغرب في العصور الوسطى: - زعم (يوحَنَّا الدمشقي): (أن الإسلام زندقة مسيحيَّة نسطورية الأصل والمضمون، وأنَّ محمدًا لم يكن نبيًّا مرسلًا، بل صاحب نبوة منتحلة مبتدعة: Pseudo - Prophentes جاء العرب من قومه بكتاب مُخْتَلَقٍ، جمع أشتات مادته من راهب من أتباع آريوس المنشق عن الكنيسة، وإنه إنَّما ملك قلوب أتباعه بما كان يصطنع من ورع وتقوى كاذبة " Feigning Piety " (¬1) . ويُعدُّ (يوحنَّا الدمشقي) من أوائل من (دَشَّنَ حملات الإفك والافتراء) (¬2) وألَّفَ في ذلك كتبًا -سبق الإشارة إليها- قصد بها حماية النصارى من عقيدة الإسلام وكان منطلقها وما جاء من بعدها (الإثارة والتحريض والتحريف ونشر المفتريات واختلاق الأكاذيب، انطلاقًا وتأسيسًا على تصور غريب ذاع وانتشر في الغرب مفاده: أن العدو الذي لا تستطيع مغالبته بالقوة الماديَّة، فليس من سبيل إلى مقاومته إلَّا بالاستغراق في عالم من الخيال الماجن، والجهل الخدوع الذي يصور العدو على غير صورته وحقيقته؛ درءًا لخطره واستبعادًا لشروره، واستهزاءً بدوره التاريخي وقيمه ومآثره) (¬3). وكما سبق ذكره، فإنَّ (يوحنَّا الدمشقي) بمؤلفاته وحملاته على عقيدة الإسلام يُعَدُّ -أيضًا- ممهد الجادّة للمستشرقين المتحاملين على عقيدة ¬

_ (¬1) نقلًا عن عرفان عبد الحميد فتاح: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 111، (مرجع سابق) (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 111. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 110، 111.

الإسلام ورسوله وأمته، وما كتبوه عن الإسلام سبقهم إليه بما يزيد على ألف عام (¬1). - ألَّفَ (ثيوفانس) المؤرخ البيزنطي الشهير (¬2) كتابًا عن حياة محمد؛ عُدَّ من بعده مرجعًا معتمدًا وموثقًا يستمد اللاحقون منه مادتهم عن الإسلام، جاء فيه: (. . . توفي عام 632 للميلاد حاكم العرب ونبيهم الكذَّاب (ماومود - Mouamed) الذي أضلَّ بمكره وسحره في أول أمره جمعًا من اليهود الذين اعتقدوه باطلًا بأنَّه المسيح المخلص الذي ينتظرونه، فآمن به عدد من أحبار اليهود، ودخلوا في عقيدته، وارتدوا عن دين موسى الذي كانوا عليه) (¬3). وعلى هذا النحو أظهر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغرب في القرون الوسطى حتى (إذا أشرقت شمس "القسطنطينية" على السقوط تحت سنابك خيل محمد الفاتح وقواته ازدادت هذه الخيالات المختلفة إسرافًا، فنقرأ في مؤلف لكاتب مجهول قوله: "إن راهبًا من النحلة الآريوسيَّة لما تحقق أن العرب قوم سخفاء سذج وبسطاء؛ قرر في نفسه أنْ يضع لهم كتابًا في الدين والعقيدة، كما فعل من قبل آريوس المنشق عن الكنيسة والدين الصحيح فاختلى إلى نفسه، واختلق كتابًا أسماه القرآن ضمَّنَهُ جملة العقائد المخالفة للمسيحية. . . ثُمَّ أعطاه لأحد تلامذته المسمى محمدًا الذي زعم لأتباعه أن الكتاب كان محفوظًا في اللوح مع جبريل. فآمنوا بدعواه وصدقوه، وهكذا تأسس هذا الدين المزعوم") (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام. .: ص 33 - 35، (مرجع سابق). (¬2) انظر عرفان عبد الحميد فتاح: دراسات في الفكر العربي الإسلامي ص 111، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 11، 112. (¬4) المرجع السابق نفسه: 113.

ثانيا: نماذج من آراء المستشرقين في العقيدة الإسلامية

- وصُوِّر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على أنَّه الصنم المعبود عند أتباعه، وصُوِّر كذلك المسلمون (كوثنيين يعبدون مجمعًا من الأوثان المعبودة مشخصة في صور تماثيل مصنوعة من الذهب والفضة يتقرب إليها وتعبد وفق تقاليد وطقوس معينة، ويستثار رضاها ويلتمس عونها في الحروب والقتال ضد النصارى، حتى إذا فشل العرب في القتال، وغالب أمرهم أن يفشلوا، لعنت الآلهة وشتمت ودست في التراب) (¬1). هذه نبذة مختصرة عن صورة العقيدة الإسلاميَّة لدى الغرب في عصورهم الوسطى، اختصرت القول فيها؛ لأنها أصبحت مرفوضة في أعراف المستشرقين في العصر الحديث، ووجهوا لها انتقادات حادَّة ووصفوها بالتعصب والجهل والحماقة، ولكن السؤال هل جاءت الدراسات الاستشراقيَّة فيما بعد أقرب إلى الإنصاف والبحث العلمي المجرد عن الأحقاد التاريخيَّة الموروثة، والتعصب الديني الأعمى؟! هذا ما سيجري بحثه في النقطة الآتية: ثانيًا: نماذج من آراء المستشرقين في العقيدة الإسلاميَّة: 1 - زعم بعض المستشرقين أن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ أسس التوحيد من اليهود والنصارى، ويقول (ستوبرت) في ذلك: (لقد تأثر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بمعتنقي ديانتي التوحيد: اليهودية والمسيحية، إذ لم يبخل عليه الأحبار والرهبان بالمعلومات التي تتعلق بهاتين الديانتين، وتشهد بذلك كتب السيرة عند المسلمين أنفسهم) (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 114. ولمزيد من الإيضاح انظر: موقف المستشرقين من خصيصة وسطية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، (البحث نفسه). (¬2) ستوبرت: نظم العقائد المغايرة للمسيحية: الإسلام ومؤسس الإسلام؛ نقلًا عن عزية طه: من افتراءات المستشرقين على أحاديث التوحيد، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، [13]: ص 26، رمضان 1459 هـ - 1989 م جامعة الكويت.

2 - عقد إميل در منغم في كتابه (حياة محمد) فصلًا بعنوان: النصرانية والإسلام، تطرَّق فيه إلى القول: (استطاع محمد أن يتعوف بعدد غير قليل من النصارى بمكة كالموالي الذين كان أكثرهم من الأحباش وبأناس من الروم والأقباط وعرب القبائل النصرانية، وكان يجلس في الغالب بالقرب من جَبْر الرومي (¬1)، الذي كان يصنع هو ورفيقه يَسَار الرومي السيوف) (¬2). ثم يحاول أن يستقصي منافذ النصرانية إلى مكة المكرمة، وكأنه بأسلوب غير مباشر يود أن يشكل إطارًا لتأثر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعقائد النصرانية، ويتوغل في هذا الإيحاء بقوله: (. . . وفرق النصرانية الضالة هي التي كان محمد شاهدًا عليها، وهو الذي لم يعرف غيرها، والمسائل الكثيرة المشكوك فيها كان مصدرها ما أدخله اليهود إلى التلمود وغيره مِمَّا عرفه (حضريو) جزيرة العرب وأعرابها وشعراء صحرائها، وفي القرآن مطابقة لرؤيا آدم وكهف الكنوز وكتاب أخنوخ (إدريس) وإنجيل يعقوب الأول وقصص القديسين وإنجيل برنابا وقصة خلق عيسى الصبي للطير من الطين، ولابد أن يكون ورقة بن نوفل وأمثاله على علم بهذا الأدب المشكوك فيه) (¬3). ¬

_ (¬1) وردت في اسمه أقوال عديدة منها: أ- قيل: (بلعام) وكان قينًا نصرانيًا. ب- وقيل اسمه (يعيش) وكان غلافا لبني المغيرة. . وهو الذي نسب إليه كفّار مكة أنَّه يعلم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن الكريم؛ (سيأتي ذكر ذلك في خصيصة الربانية)؛ انظر هذه الأقوال لدى: الطبري 14/ 119 مجلد [7]، وابن كثير 2/ 586، وابن هشام: السيرة النبوية ص 270، 271، وابن تيمية: الجواب الصحيح. . 1/ 405 (مراجع سابقة). (¬2) حياة محمد: ص 125، بتحقيق: عادل زعيحر، الطبعة الثانية 1988 م عن المؤسسة العربيَّة للدراسات والنشر، بيروت. (¬3) إميل دِر منغم: حياة محمد: ص 137، ترجمة: عادل زعيتر، (مرجع سابق)

وفي سياق آخر يقول: (والحق أن النصرانية تشمل الإسلام وتضيف إليه بعض الشيء، وأنَّه لا تناقض بين هاتين الديانتين، فعلى الأديان أن تتنافس في العبادة والفضائل بدلًا من أن تتناجز، والغرور والأثرة الضيقة يجعلان معظم الناس عاملين على ما فيه اختلافهم عن الآخرين أكثر مِمَّا يعملون على تمجيد اللَّه، والتعصب هو الذي يحول حماسة المرء لدين إلى الحقد على الأديان الأخرى، ومن يدري أن اللَّه لم يرد نوعًا من التمايز الذي هو خلاف التعصب كما في عالم السياسة) (¬1). وقال أيضًا: (وبين محمد ومن تقدمه من أنبياء بني إسرائيل شبه قوي، فكان وهو نبي بمكة، كإشعياء في إسرائيل، وكان وهو حاكم بالمدينة كيشوع في كنعان وتسمَّى بمحمد، وحامل هذا الاسم هو من ينتظره اليهود فأبوا أن يدعوه بغير أبي القاسم) (¬2). 3 - ولكارل بروكلمان أقوال متناثرة في كتابيه؛ تاريخ الأدب العربي وتاريخ الشعوب الإسلاميَّة. . منها قوله في كتابه الأول: (ولا حاجة هنا إلى ذكر تاريخ دعوته التي ضاهى بها في مكة أسلوب الدعوة النصرانية، ولعله كان يعرف هذه الدعوة من طريق المبشرين النساطرة (¬3). ومنها قوله: (واستخدم محمد في دعوته أساليب الكاهن) (¬4) أو قوله: (تأخذ طابع سجع الكهان) (¬5) في وصفه للآيات القرآنية التي نزلت بمكة. ومِمَّا قال أيضًا: (رجح توراندرية أن أسلوب محمد قد تأثر بموعظة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 143. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 271. (¬3) تاريخ الأدب العربي: 1/ 134. ترجمة: عبد الحليم النجار، عن دار المعارف، الطبعة الخامسة، القاهرة. (¬4) المرجع السابق نفسه: 1/ 134. (¬5) المرجع السابق نفسه: 1/ 137.

التبشير المسيحي على لسان المبشرين العرب من جنوبي الجزيرة، حيث ازداد نفوذ الكنيسة النسطورية تحت سيادة الفرس) (¬1). وقال أيضًا: (كان جديرًا بالنظر حقًّا ما اقترح "بل" -برغم الصعوبة الصوتية- وهو القول باشتقاق لفظ سورة من الكلمة السريانية: صورتا (نصُّ) وذلك لوضوح التأثير النصراني في لغة النبي باطراد) (¬2). ومِمَّا جاء في كتابه الآخر قوله: (وفي وسط مكة تقوم الكعبة، وهي بناء ذو أربع زوايا. . يحتضن في إحداها الحجر الأسود، ولعله أقدم وثن عبد في تلك الديار) (¬3)، وعن الحجر الأسود يقول أيضًا: (وعندما بلغ محمد الكعبة طاف بها سبعًا على راحلته، لامسًا الحجر الأسود بعصاه في كل مرة. وبذلك ضم هذا الطقس الوثني إلى دينه) (¬4). ويقول -أيضًا-: (تذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أمَّا في مكة نفسها فلعلَّه اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 1/ 137. (¬2) المرجع السابق نفسه: 1/ 138، (المرجع السابق نفسه). (¬3) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 31، ترجمة: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، الطبعة العاشرة 1984 م عن دار العلم للملايين - بيروت. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 61، ولمزيد من الاطلاع على مزاعم كارل بروكلمان في كتابه تاريخ الشعوب الإسلاميَّة، انظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان، (مرجع سابق). غيثان علي جريس: افتراءات المستشرق كارل بروكلمان على السيرة النجوية، من إصدارات نادي أبها الأدبي، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1992 م. (¬5) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة، ص 34، (المرجع السابق نفسه)

4 - و (لجولدزيهر) في كتابيه؛ العقيدة والشريعة (¬1)، ومذاهب التفسير الإسلامي (¬2)، أقوالٌ تمس تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال تشكيكه في عقيدتها وشريعتها وتاريخها. . وفي كتابه الأول تركزت تلك الأقوال على أربع مزاعم، هي: أ- إن القرآن من صنع محمد. ب- إن الحديث النبوي من صناعة الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية. ج- التشريع الإسلامي مستمد من القانون الروماني. د- إن الجيوش الإسلاميَّة. . . لم يكن باعثها الإيمان، وإنَّما الذي أخرجها من الجزيرة العربية القحط والجوع) (¬3). ومِمَّا يخص مجال العقيدة زعمه بأن الإسلام (ليس إلَّا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية عرفها (محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية) (¬4)، وأنه لم يأتِ بجديد (¬5). وفي كتابه الآخر لا يقتصر على مس العقيدة الإسلاميَّة من حيث كونها ¬

_ (¬1) العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: محمد يوسف موسى، وعبد العزيز عبد الحق، وعلي حسن عبد القادر، عن دار الكاتب المصري، القاهرة 1946 م. (¬2) مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، الطبعة الثامنة 1403 هـ - 1983 م، عن دار اقرأ - بيروت. (¬3) محمد أحمد جمال: نقد كتاب العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدزيهر، مجلة رابطة العالم الإسلامي، المجلد [7]، العدد [5] 1389 هـ - 1969 م: ص 15، تصدر عن إدارة الصحافة والنشر برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة. (¬4) جولدزيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام: ص 12، (مرجع سابق) (¬5) انظر: جولدزيهر: المرجع السابق نفسه: ص 11.

مبدأ وتعاليم جاء بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّما يمتد بمزاعمه وتشكيكاته إلى تاريخ العقيدة الإسلاميَّة في واقع الأُمَّة ويخاط بين أهل الزيغ وأُمَّة الاتباع. ومِمَّا قاله في هذا المجال: (وكما تقدم تعاليم الإسلام حتى في مرحلته البدائية، صورة من مذهبي الانتخاب والمزج -من اليهودية والنصرانية وديانة فارس وغيرها- كذلك عملت آثار أجنبية، من التجارب التعليمية النافذة من المحيط الخارجي، في تنمية ما جدّ بعد ذلك من المسائل، كما يبدو في مسائل الخلاف العقدية التي كانت تؤدى في أوقات الهدوء المعترضة إلى صياغة قواعد مركزة متبلورة. وقد أمكن في وقت مبكر إثبات أن الأنظار، والمسائل العقدية التي كانت محل الاعتبار في القرنين الأولين عند علماء الكلام الإسلاميين، قد برزت تحت تأثير النشاط العقدي داخل الكنائس والفرق المسيحية الشرقية) (¬1). 5 - يكاد هذا الموقف إزاء عقيدة الأُمَّة الإسلاميَّة الذي ينكر تميزها أن يكون متأصلًا في دراسات معظم المستشرقين (¬2)، وهناك نماذج كثيرة تؤكد ذلك وردت في كتابات الكثير من المستشرقين، ولكن الذي يبين هذا الموقف ¬

_ (¬1) جولدزيهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ص 171، (مرجع سابق). (¬2) انظر: عبد الجليل شلبي: صور استشراقية، ص 49 - 53، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م، عن دار الشروق، القاهرة، وانظر: عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، ترجمة قاسم السامرائي، ص 34 - 35، (مرجع سابق)، وانظر: محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق رسالة استعمار، ص 314، عن دار الفكر العربي - القاهرة 1413 هـ - 1993 م. وانظر: محمود حمدي زقزوق: الإسلام في الفكر الاستشراقي للمستشرق الألماني جوستاف بفانموللر: ص 142، 143، 145، 149، 158، مجلة حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلاميَّة بجامعة قطر، العدد [2] لعام 1402 هـ، وأدرجه في كتابه: الإسلام في تصورات الغرب في الصفحات (21 - 76)، (مرجع سابق).

ثالثا: الرد على أقوالهم

بجلاء ويدل على رسوخه في الدراسات الاستشراقية، وتعمد المنهج الاستشراقي الإصرار على ذلك هو ما ورد في دوائر المعارف، ومن أمثلة ذلك: أ- تقول دائرة المعارف الإسلاميَّة تحت مادة (السامرة): (وما من أحد يشك في تعدد مصدر الأصول التي استقى محمد منها معارفه، وكثيرًا ما جرى القول بتأثير اليهودية والنصرانية فيه، وازدياد المعرفة بهذه الأصول يؤيد مثل هذه النتائج، في حين أن الجهل التام بالمسائل السامرية يجوز لنا التحيز للعرب) (¬1). ب- جاء في دائرة المعارف البريطانية: (إنَّ صورة اللَّه التي تتداخل فيها صفات القوة والعدل والرحمة ذات صلة بالتراث اليهودي المسيحي، حيث استمدت منه بعد أن طرأ عليها بعض التعديلات، وكذلك تتصل بالوثنية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية) (¬2). ج- وجاء في موسوعة الحضارة التي أصدرتها هيئة اليونسكو: (الإسلام تركيب ملفق من اليهودية والنصرانية ورواسب الوثنية) (¬3). ثالثًا: الرد على أقوالهم: يتضح من الأقوال السابقة موقف عامّة المستشرقين في استهدافهم تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال محاولاتهم تشويه عقيدتها، وذلك بنسبتها إلى اليهودية أو النصرانية أو إلصاق الوثنية في عقيدتها، وهذه وتلك برزت ¬

_ (¬1) دائرة المعارف الإسلاميَّة، المجلد 111،، ص 88، (مرجع سابق). (¬2) دائرة المعارف البريطانية، طبعة 1978 م، الجزء [9]، ص 913، نقلًا عن: ملك غلام مرتضى: دائرة المعارف الإسلاميَّة بين الجهل والتضليل، ترجمة محمد كمال علي السيد: ص 19، الناشر: محمد زيد ملك. .، لاهور، باكستان. (¬3) نقلًا عن محمد بن عبد اللَّه السمان: العقيدة وقضية الانحراف، مجلة الأُمَّة، العدد [30]، جمادى الآخرة 1403 هـ - مارس 1983 م ص 25، صادرة عن رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - قطر.

بشكل صارخ في كتابات كبار المستشرقين الذين نفذوا إلى عقول المسلمين من خلال دعاوى العلمية والموضوعية والمنهجية، وتهدف كتاباتهم في مجملها وجوهرها إلى المسِّ بعقيدة التوحيد، وعدم الاعتراف بأصالة الأُمَّة الإسلاميَّة، ولا يُسْتثنَى من هذه القاعدة إلَّا أفراد قلائل تحرروا من المسلك الاستشراقي المتعصب، واتسم بعض ما كتبوه عن الإسلام وعقيدته بالإنصاف، ولعل من المناسب قبل الرد على ما ورد من الأقوال والآراء فيما سبق الإلماح لبعض الأقوال المنصفة التي ذكرها عدد قليل من المستشرقين القلائل، ومنها ما قاله (توماس كارلايل): القد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر أن يصغي إلى القول بأنَّ دين الإسلام كذب، وأنّ محمدًا خدَّاع مزور، فإنَّ الرسالة التي أدَّاها ذلك الرجل ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لمئات الملايين من الناس أمثالنا خلقهم اللَّه الذي خلقنا) (¬1). ويقول (كلوداتيانسافاري): (أسس محمد ديانة عالمية تقوم على عقيدة بسيطة لا تتضمن إلَّا ما يقره العقل من إيمان بالإله الواحد الذي يكافئ على الفضيلة، ويعاقب على الرذيلة، والغربي المتنور إن لم يعترف بنبوته لا يستطيع إلَّا أن يعنبره من أعظم الرجال الذين ظهروا في التاريخ) (¬2). ويقول (هنري دي كاستري): (أمَّا فكرة التوحيد فيستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من مطالعة التوراة والإنجيل، إذ لو قرأ تلك الكتب لردَّها لاحتوائها على مذهب التثليث، وهو مناقض لفطرته مخالف لوجدانه منذ خلقته، وظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو ¬

_ (¬1) الأبطال وعبادة الأبطال، نقلًا عن التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: ص 24، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص 24.

أما الرد على أقوال المستشرقين السابقة فهو على النحو الآتي

أعظم مظهر في حياته، وهو بذاته أكبر دليل على صدق رسالته وأمانة نبوته، ولعل هذا البرهان من أوضح الأدلة على إن الإسلام وحي من اللَّه، فإنَّ مفهوم (التوحيد) الإسلامي عقيدة تميَّز بها الإسلام عن غيره) (¬1). وعلى الرغم من كون قول (كارلايل) لا يرقى إلى الإنصاف الكامل، إذ ليست الكثرة والاستمرار دليل على الحق، وإنَّما الحق أولى بالاتباع، وكذلك قول (سافاري) ينطوي على خطأ وهو قوله بأنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- أسس ديانة عالميَّة، والحقيقة أنه جاء مرسلًا من عند اللَّه إلى الناس جميعًا وهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين. وعلى الرغم من هذا وذاك فإن قولهما يُعَدّ أقرب إلى الإنصاف قياسًا إلى ما ذكر من أقوال المستشرقين الآخرين، أمَّا قول (هنري دي كاستري) فإنَّه أكثر إنصافًا، ولعل مسلكه العام ظل مستمرًّا على هذا النحو، واللَّه أعلم. أمَّا الرد على أقوال المستشرقين السابقة فهو على النحو الآتي: 1 - إنَّ تلك الأقوال التي تشكك في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال نسبة عقيدتها إلى اليهودية أو النصرانية أو الوثنية لا تقوى على حجب حقيقة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة المرتكز على عقيدة صحيحة واضحة فذَّة جاء بها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ربه، ومهما أثاروا حولها من ضباب كثيف، فإن اللَّه متم نوره ولو كره الكافرون، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. يقول عبد اللطيف الطيباوي عن كتابات المستشرقين في هذا المجال: ¬

_ (¬1) نقلًا عن نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين، ص 71، (مرجع سابق).

(إن ما أريق من مداد سود صحائف المجلدات المتعددة عن (أصول) الإسلام لا يقدم دليلًا مقنعًا بالمعنى التاريخي الصارم بحيث يثبت أن مثل هذا الاقتباس قد حدث فعلًا، بل على العكس، فإن الشاهد المعاصر الوحيد الذي ما يزال باقيًا هو (القرآن الكريم) وهو يستبعد مثل هذا الاحتمال بأقطع عبارة، ومن المستغرب أن هذا الشاهد الوحيد يُطرح في الغالب جانبًا) (¬1). 2 - يخلط هؤلاء المستشرقين المتحاملون على تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في دراساتهم لعقيدتها الإسلاميَّة بين العقيدة الصافية النقية الحقة التي بينها القرآن الكريم والسنة النبوية (القولية والفعلية والتقريرية) وبين واقع المسلمين بعامة وواقع الفرق الضَّالة بخاصة، وكان من نتائج هذا الخلط أن جاءت دراسات المستشرقين في مسائل العقيدة (جهلًا مركبًا) كما سماها بذلك أحد المفكرين لأنهم درسوها في ضوء مناهج زائغة، وقدموها للناس مشوهة مزورة ومكذوبة (¬2). فقد تركزت أقوالهم على دعوى؛ أن العقيدة الإسلاميَّة تأثرت باليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو هي مزيج من ذلك كله، والرد على ذلك يتركز في الآتي: أ- لو كان المراد بأن عقيدة الإسلام وبخاصة توحيد اللَّه وحده لا شريك له وإخلاص العبادة له هي العقيدة التي جاءت بها أنبياء بني إسرائيل، وجاء بها المسيح عليه السلام في صورتها الصحيحة التي أرادها اللَّه فإن ذلك حق وصحيح (¬3). ¬

_ (¬1) المستشرقون الناطقون بالإنجليزية. ص 33، ترجمة: قاسم السامرائي، (مرجع سابق). (¬2) انظر: أحمد محمد جمال: نقد كتاب جولدزيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام: ص 17، (مرجع سابق)، وقد عزا هذه التسمية للغزالي. (¬3) انظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 53، (مرجع سابق).

ومن المعلوم بالضرورة في دين الإسلام أن الدين واحد من لدن آدم عليه السلام وحتى خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: ". . . والأنبياء إخوةٌ لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (¬1)، ولكن أولئك المستشرقين لا يقصدون ذلك، بل يقصدون التراث اليهودي والنصراني كما قال أحدهم: (إن على الإسلام أن يقر بحقيقة أصله: ذلك التأثير التاريخي للتراث اليهودي النصراني) (¬2)، ومن المسلَّم به (أنه لا توجد أقوال ثابتة تبين لنا حقيقة التوحيد وماهيته في اليهودية؛ لأن اليهود قد ضمنوا التوراة كثيرًا من المتون المتعارضة، التي لا يُمكن الجمع أو التوفيق بينها، وهذا يدل على أن أفكار مؤلفي هذه الأسفار كانت متشتتة، وموزعة بين الوثنية المتمثلة في تجسيد اللَّه وتشبيهه بخلقه، وجعل الأنداد والنظائر له، وبين عقيدة التوحيد الخالصة التي جاء بها أنبياء اللَّه المذكورون في توراة اليهود، وفي القرآن والسنة عند المسلمين) (¬3). وكذلك النصرانية التي ترتكز عقيدتها بعد التحريف على التثليث، ومنيت بالشرك بدلًا من التوحيد ورد في مقدمة كتاب (هيم ماكبي): بولس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 3/ 1275 الحديث رقم [3259]، بتحقيق مصطفى ديب البُغا (مرجع سابق). (¬2) مونتغومري وات: نقلًا عن عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، ص 34، ترجمة: قاسم السامرائي، (مرجع سابق). (¬3) عزية طه: من افتراءات المستشرقين. . . ص 36 - 37، (مرجع سابق). ولمزيد من الاطلاع على العقيدة اليهودية انظر: عبد الستار فتح اللَّه سعيد: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، ص 116 - 121، (مرجع سابق).

وتحريف المسيحية: (كانت مأساة السيد المسيح الحقيقية أنه ولد في قوم أعظم مواهبهم تزوير التاريخ) (¬1). ويتساءل (جون هك): (كيف وصل اليهود مع الأمميين من المسيحيين إلى عبادة كائن بشري محطمين هكذا فكرتهم في وجود إله واحد بطريقة أودت بهم إلى الميتافيزيكية المعقدة للتثليث؛ ففي تعاليم المسيحية الباكرة، كما نقلنا عنها من الكتاب الخامس للعهد الجديد -للقديس لوقا-؛ أعلن يسوع أنَّه إنسان أرسله اللَّه إليكم مؤيدًا بأعمالٍ ضخمة وأمارات، وبعد ثلاثين سنة فقط أفتتح إنجيل (مرقص) بهذه الكلمات: (ابتداءً إنجيل يسوع المسيح ابن اللَّه)؛ وفي إنجيل (يوحنا) الذي كتب بعد ثلاثين سنة أخرى، عُزِيَ هذا الكلام إلى يسوع نفسه وصور على أنَّه إله يمشي على الأرض!) (¬2). وفي إجابة (هِكْ) على سؤاله يستشهد بقول آخر: (كم كانت منشرة فكرة التجسيد الإلهي في الحياة البشرية للعالم القديم؛ لذا فليس من المستغرب البتة تأليه يسوع في تلك البيئة الثقافية؛ ففي اليهودية نفسها، كانت فكرة تسمية الإنسان (ابن اللَّه) تستند إلى تقليد قديم) (¬3). ¬

_ (¬1) سميرة عزمي الزين: مقدمة كتاب هيم ماكبي: بولس وتحريف المسيحية، ص 8، 9، الطبعة العربية الأولى 1411 هـ - 1991 م، من منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية، وقد جاء في التعريف بهذا الكتاب في ظهر غلافه: (قارئ هذا الكتاب سيتأكد بالحجة التاريخية أن عيسى -عليه السلام- وحوارييه براءٌ من كل هذه المسيحية التي اخترعها بولس ولفق عقائدها من وثنيات العالم القديم وخرافاته وأساطيره. . ألفه أستاذ تاريخ الأديان في معهد (ليوبايك) بلندن، وهو واحد من ألمع مؤرخي الأديان في عصرنا). (¬2) جون هك: أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح، تعريب: نبيل صبحي، ص 18، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م، عن دار القلم - الكويت. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 19، وعن تأثر الديانة المسيحيَّة بالوثنية، انظر: محمد =

وللمرء أن يتساءل أيضًا أين التوحيد في هذا التراث اليهودي النصراني، وصدق اللَّه القائل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31]. ب- أمَّا قولهم بأن عقيدة الإسلام تأثرت بالوثنية فإن هذا القول مجاف لحقيقتها وما هو إلَّا نتيجة ما يسمى الإسقاط النفسي أو على حد المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت) (¬1)، ولئن تسربت الوثنية إلى اليهودية وإلى النصرانية كما سبق ذكره؛ فإنَّ الإسلام ما جاء إلَّا لمحارتجها والقضاء عليها ونشر عقيدة التوحيد الخالص للَّه جل وعلا؛ رُوِيَ عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه-؛ أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلَّا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه" (¬2). وإذا كان بعض المستشرقين يربط بين شعائر الحج والعمرة في الإسلام وبين الوثنية، ويزعم بأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أبقى على بعض شعائر الوثنية، وبخاصة تقبيل الحجر الأسود، فإنَّ الرد على ذلك من وجوه: ¬

_ = طاهر التنير: العقائد الوثنيَّة في الديانة النصرانية، عن إدارة القرآن والعلوم الإسلاميَّة، كراتشي، باكستان، الطبعة الثالثة، 1414 هـ. (¬1) أورده ابن منظور: لسان العرب، مادة (سلل)، مرجع سابق، وانظر: أبا هلال الحسن العسكري: كتاب جمهرة الأمثال: 1/ 387، بتحقيق: أحمد عبد السلام وآخر، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن دار الكتب العلمية، بيروت. (¬2) سبق تخريجه: ص 86، (البحث نفسه).

أولها: إن ما كان من بقية الحق المتمثل في بعض الآثار الدينية التي تعود إلى الحنيفية السمحة فإن عقيدة الإسلام التي جاء بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لاتناقضها بل تجلوها وتبقي على ما كان حقًّا منها، وفي مقدمة ذلك بعض شعائر الحج والعمرة من طواف وسعي وغيرهما (¬1)، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]. ثانيًا: رد بعض الباحثين على زعم (بروكلمان) في هذا بقوله: (كان على بروكلمان أن يعرف مكانة الحجر الأسود عند عرب الجاهليَّة، وسبب تقديسه بعد الإسلام، وكان عليه أن يميَّز بين الوثن والصنم من جهة، وبين الحجر الأسود الذي لم نسمع في الروايات التاريخية شيئًا عن عبادة العرب له، لقد اتخذ العرب آلهتهم في الجاهليَّة من أشياء لا تحصى، ومع ذلك لم يرد مطلقًا أن الحجر الأسود كان ضمن آلهتهم، بل كانت له منزلة محترمة؛ لأنَّه من بقايا بناء إبراهيم للكعبة، وبناء على ذلك فالإسلام لم يقر وثنية كانت في الجاهليَّة، واستلام الحجر الأسود في الحج يرجع إلى اعتبار رمزي، لا إلى تقديس الحجر ذاته، لقد أعادت قريش بناء الكعبة، واختلفت بطونها على من يعيد الحجر مكانه، وأقبل محمد الأمين قبل البعثة بخمس سنوات، فدعوه لرجاحة عقله وحبِّهم له، فهو الأمين؛ ليفصل في الأمر فبسط رداءه، ووضع فيه الحجر، وجاء من كل بطن رجل، حمل من طرف الرداء، حتى أوصله عليه الصلاة والسلام إلى موضعه، فوضعه بيده الشريفة، وأنهى مشكلة حرجة، وسبب احترامه أنه ¬

_ (¬1) انظر: عزية طه: من افتراءات المستشرقين على أحاديث التوحيد، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية: ص 53، (مرجع سابق).

من بقايا بناء إبراهيم للكعبة، ولم يكن في يوم من الأيام وثنًا يعبد، لا في الجاهليَّة ولا في الإسلام. . .) (¬1). ثالثًا: إنَّ تقبيل الحجر الأسود عبادة للَّه له دلالات ومقاصد لا تخدش عقيدة التوحيد فهو حجر لا يضر ولا ينفع بذاته، وهذه عقيدة المسلمين فيه كما علمهم رسول الهدى -صلى اللَّه عليه وسلم- فهذا عمر بن الخطاب يقول عند تقبيله للحجر الأسود: (إني أعلم أثك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك) (¬2)، ولعلماء المسلمين في قول عمر -رضي اللَّه عنه- هذا أقوال عديدة، منها: قول ابن جرير الطبري: (إنَّما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهَّال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهليَّة) (¬3). وقال ابن حجر: (وفي قول عمر هذا: التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع ¬

_ (¬1) شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان. . ص 31، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الكريم علي باز: افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي، ص 91 - 94، الطبعة الأولى 1403 هـ - جدة. ولمزيد من الاطلاع على مصادر قصة وضع الحجر الأسود. . . انظر: السيرة النبوية لابن هشام بتعليق عمر عبد السلام تدمري: 1/ 218 (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 579، كتاب الحج، الحديث رقم [1520]، ترتيب: مصطفى البُغا، (مرجع سابق). وانظر: ابن حجر: فتح الباري. . . 3/ 462، (مرجع سابق). (¬3) أورده ابن حجر: فتح الباري: 3/ 462 - 463، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عزية طه: من افتراءات المستشرقين. . .: ص 45، (مرجع سابق).

لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر، ويوضح ذلك) (¬1). وهناك روايات عديدة عن أصل ذلك الحجر وما يرمز إليه أورد جملة منها ابن حجر وبين ما في أسانيدها من ضعف، ولكن يستفاد من مجموعها الآتي: 1 - إن عمر -رضي اللَّه عنه- في بعض الروايات رفع قوله: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذه قاصمة الظهر لـ (كارل بروكلمان) ومن سار على نهجه في هذا الزعم. 2 - إن تقبيل الحجر -وقد فعله رسول الهدى -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر من لدن الحكيم الخبير- شبيه بأمر اللَّه الملائكة أن تسجد لآدم، فكان السجود طاعة لأمر اللَّه وعندما عصى إبليس كتبت عليه اللعنة (¬2)، فاستلام الحجر وتقبيله عبادة للَّه وتعظيم للَّه وليس لذات الحجر، وهذا التعليل يقبله العقل السليم ولا يعارض الشارع. 3 - رُبَّمَا كان الحجر الأسود بمثابة الشاهد على التوحيد يقدم شهادته يوم القيامة لمن حجَّ البيت أو اعتمر أو زاره وطاف به، وحينما يقبل يكون (ذلك امتثالًا لأمر اللَّه رمزًا للتوحيد والعبودية للَّه كما ترمى الجمار بالحجر رمزًا لعداوة الشيطان ومجافاته) (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري: 3/ 463، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عزية طه: المرجع السابق نفسه؛ ص 54. (¬2) انظر: ابن حجر: المرجع السابق نفسه: ص 462، 463، 475، 476. (¬3) انظر: عبد الكريم علي باز: افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان. .: ص 92، (مرجع سابق).

وخلاصة القول: (إن فكرة وثنية الحجر الأسود هي فكرة غربية بثتها حركة الاستشراق. . وسعت لترويجها منذ زمن بعيد. . فقد سبق بروكلمان إليها بعض المستشرقين، مثل (درايكت) و (بورشورت سمث). .) (¬1)، في محاولتهما نفي تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة والطعن في أهم مقومات ذلك التميُّز وهي عقيدة التوحيد الخالص، كما عبَّرَ عن ذلك (الكونت هنري دي كاستري)؛ بقوله: (فظهور هذا الاعتقاد -يعني: توحيد اللَّه وإفراده بالعبادة دون سواه- بواسطته -يعني: محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته، وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته، ولعل هذا البرهان من أوضح الأدلة على أن الإسلام وحي من اللَّه فإن مفهوم التوحيد الإسلامي عقيدة تميُّز بها الإسلام عن غيره) (¬2). وهناك ردود أخرى تتعلق بمصدر العقيدة سيجري إيرادها في مجال أقوال المستشرقين حول الربانية، ويبقى هنا الالتفات إلى مقولة (جولدزيهر) بأن مسائل الخلاف العقدية التي برزت في القرنين الأولين عند الكلام الإسلاميين (كان) تحت تأثير النشاط العقدي داخل الكنائس والفرق المسيحية الشرقية) (¬3). وهذا القول ينطبق إلى حدٍّ كبير على واقع الفرؤا الإسلاميَّة الضَّالَّة فإنَّ كل بدعة ظهرت في دين الاسلام سلكت مسلكًا مشابهًا لليهود أو النصارى، وهذا ما يصرح به علماء الأُمَّة الإسلاميَّة ويدركونه، وهو كذلك من دلائل نبوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ ورد عنه أحاديث كثيرة تخبر بذلك منها قوله ¬

_ (¬1) انظر: عبد الكريم علي باز: افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان. .: ص 93، 94، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نقلًا عن نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين: ص 71، (مرجع سابق)، وسبق إيراده فيما سبق. (¬3) انظر: جولدزيهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ص 171، (مرجع سابق).

-صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (¬1)، وأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن ثنتين وسبعين فرقة في النَّار من تلك الفرق التي تنقسم إليها أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنها تسلك مسلك أهل الكتاب (اليهود والنصارى) واستثنى فرقة واحدة أو ملة أو طائفة أو أُمَّة -كما يسبق ذكره- هي التي تلزم الحق وتبقى على هديه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولن تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" (¬2). وفي بعض الروايات: "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين مِلَّة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا: من هي يا رسول اللَّه؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" (¬3). قال ابن تيمية عند إيراده حديث: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة" الحديث: (وهذا المعنى محفوظ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير وجه: يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بُدَّ من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء اللَّه له السلامة) (¬4). ولكن (جولدزيهر) يلبس الحق بالباطل ويكتم الحق وهو يعلم، وهذا هو المنهج المذموم الذي عابه اللَّه على أهل الكتاب واليهود بخاصة، قال ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: 5/ 25، 26، كتاب الإيمان، الباب [18]؛ ما جاء في افتراق هذه الأمة، الحديث رقم [2640]، وقال: "حديث حسن صحيح"، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق). (¬2) سبق تخريجه في روايات بالفاظ أخرى، انظر: مقدمة البحث ص 21، وص 98، (البحث نفسه)، وأمَّا روايته هنا فلفظها للإمام أحمد بن حنبل في مسنده: 5/ 35، الحديث رقم [19849]، بترتيب: دار إحياء التراث العربي، (6/ 12)، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه الترمذي: المرجع السابق نفسه: 5/ 26، الحديث رقم [2641]، سبق ذكر جزء منه وتخريجه، انظر: ص 98 (البحث نفسه). (¬4) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . .: ص 35؛ تحقيق: محمد حامد الفقي، (مرجع سابق).

تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، إنَّ المتتبع لمنهج (جولدزيهر) يلمس هذا التلبيس والكتمان فهو ينتزع عقيدة الإسلام من مجريات التاريخ الإسلامي في القرنين الأولين مع التركيز على مقولات الفرق الضَّالَّة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يخفي بطريقة ماكرة منهج السلف الصالح وما كانوا عليه من عقيدة التوحيد الخالص. . وقد سلك هذا المسلك عند دراساته للحديث النبوي الكريم، وسيأتي مزيدٌ من الرد عليه لاحقًا (¬1)، بيد أنَّ ما كتمه (جولدزيهر) هو تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة المرتكز على عقيدة التوحيد التي أخفق فيها اليهود والنصارى وهدى اللَّه إليها الأُمَّة الإسلاميَّة. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الثاني: موقف المستشرقين من خصائص التميُّز: موقفهم من خصيصة الربانية.

الشريعة

الشريعة • تمهيد. • تعريف الشريعة لغة واصطلاحًا. • أهمية النظام في الكون والحياة. • حاجة البشرية إلى النظام. • قصور العقل البشري عن تشريع النظم. • لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية. • خصائص الشريعة الإسلاميَّة. • موقف المستشرقين من الشريعة.

تمهيد

الشريعة تمهيد من مقومات تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة التلازم المحكم بين العقيدة والشريعة، فالشريعة في دين الإسلام منبثقة من عقيدته ومرتبطة بها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]. والحكم في شريعة الإسلام للَّه، {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وبهذا المقوم تتميز الأُمَّة الإسلامية عن غيرها من الأمم، كما أنّ شريعة الإسلام تعتمد على مصادر للتشريع، تحقق مصالح الأُمَّة بل الإنسانية قاطبة لما اشتملت عليه من أحكام تجلب المصالح وتدفع المفاسد، وتلائم الظروف الزمانية والمكانية، وتنطوي على مرونة تمكنها من احتواء المستجدات، وربطها بالقواعد المقرَّرة والأصول الثابتة، وفقًا لضوابط شرعيَّة دقيقة تتميز بها الأُمَّة الإسلاميَّة عن غيرها من الأمم.

تعريف الشريعة لغة واصطلاحا

تعريف الشريعة لغة واصطلاحًا تعريف الشريعة لغة: مشتقة من الفعل الثلاثي (شَرَعَ)، قال ابن فارس: (الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه، من ذلك الشريعة، وهي مورد الشاربة للماء، واشتق من ذلك الشرعة في الدين، والشريعة. .) (¬1). وقال الزمخشري: (والشريعة والشِّرعة وشرع اللَّه تعالى الدين. . وشرع الباب إلى الطريق، وأشرعته، والناس فيه شَرَعَ وشَرْع: سواء) (¬2). وممَّا أورده ابن منظور في دلالتها اللغويَّة قوله: (والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يسقى بالرِّشاء. .) (¬3). وتطلق الشريعة على المثل، كما ذكر الجوهري إذ قال: (ويقال أيضًا: هذه شرعة هذه، أي: مِثْلُها، وهذا شِرْع هذا، وهما شرعان، أي: مثلان) (¬4). وأورد الفيروزآبادي في معنى الشريعة: (الظاهر المستقيم من المذاهب. . .) (¬5) إلى قوله: (وشَرَعَ لهم، كمَنَعَ: سَنَّ) (¬6). ¬

_ (¬1) معجم مقدمة اللغة: مادة (شرع)، (مرجع سابق). (¬2) أساس البلاغة مادة: (شرع)، (مرجع سابق). (¬3) لسان العرب: المادة نفسها، (مرجع سابق. (¬4) الصحاح: المادة نفسها، (مرجع سابق). (¬5) القاموس: المادة نفسها، (مرجع سابق). (¬6) القاموس: المادة نفسها، (مرجع سابق).

تعريف الشريعة اصطلاحا

تعريف الشريعة اصطلاحًا: تطلق الشريعة ويراد بها دين الإسلام بمعنى شامل، أي: (ما شرعه اللَّه لعباده من العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة، في شعبها المختلفة، لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة) (¬1). وتطلق ويراد بها (جملة القواعد والقوانين التي تحدد طريقة عبادة الإله من خلال نصوص شفهية أو مكتوبة، ومن خلال ممارسات عملية يقصد بها التدريب العملي على هذه الكيفية ممن وكِّل إليه أمر إنشاء الدين أو إبلاغه كما في الأديان السماوية. وبعبارة موجزة إذا كانت العقيدة يترجمها الفكر والتصور فإن الشريعة تترجم الموقف والعلاقة التي يفترض أن تكون بين العابد والمعبود بناء على تعاليم الإله، أو من وكِّل إليه البلاع، أو من اضطلع بالإنشاء والتأسيس في الديانات الوضعية) (¬2). وممَّا يلحظ في التعريف الأول أنَّه تعريف شامل في إطلاق مسمى الشريعة على دين الإسلام، أمَّا التعريف الثاني فإنه يقابل العقيدة ولكنه أطلق مسمى الشريعة على أحكام الدين الإسلامي وغيره سواء كان الدين سماويًا أو وضعيًّا، على حين يرى بعض العلماء أن مسمى الشريعة لا يصح إطلاقه إلا على الشريعة الإسلامية (¬3). ¬

_ (¬1) مناع القطان: التشريع والفقه في الإسلام (تاريخًا ومنهجًا): ص: (15)، الطبعة الثانية: (1402 هـ - 1982 م) عن مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) محمد كمال جعفر: الإنسان والأديان (دراسة مقارنة)، ص: (45)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: مناع القطان: التشريع والفقه في الإسلام. .: ص: (16)، مرجع سابق، وفي بحث له مدرج في: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها (مجموعة أبحاث قدمت لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام بن سعود الإسلامية بالرياض سنة: (1396 هـ)، ونشرته: (1451 هـ - 1981 م) ص: (180)، ذكر أن إطلاق الشريعة على القوانين الوضعية يكون تجوزًا من باب الاستعمال اللغوي أو المادي.

وبالرجوع لكتب المصطلحات القديمة وُجِدَ تقسيم يمكن أن يحدد دلالة الشريعة بمفهومها المحدد أو المتخصص، فقد ورد في معناها الآتي: أ- (الشريعة ما شرع اللَّه تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى اللَّه عليهم وعلى نبينا وسلم، وسواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية ودُوِّن لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد وتسمَّى أصلية أو اعتقادية ودوِّن لها علم الكلام) (¬1). ب- وقال الأصفهاني: (الشرع نهج الطريق الواضح. . واستعير ذلك للطريقة الإلهية، فقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فذلك إشارة إلى أمرين: أحدهما: ما سخر اللَّه تعالى عليه كل الإنسان من طريق يتحراه ممَّا يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد، وذلك المشار إليه بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. الثاني: ما قيَّض له من الدين وأمره به ليتحراه اختيارًا ممَّا تختلف فيه الشرائع ويعترضه النسخ، ودلَّ عليه قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، فإشارة إلى الأصول التي تتساوى فيها الملل فلا يصح عليها النسخ كمعرفة اللَّه تعالى، ونحو ذلك. . .) (¬2). يتبين من هذين التعريفين أن الشريعة تطلق ويراد بها: - الأصول الاعتقادية والأحكام الفقهية بعامة. ¬

_ (¬1) محمد علي علي التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون: (1/ 759)، مادة: (الشرع)، طبعة إستانبول: (1404 هـ - 1990 م)، وانظر: محمد الدسوقي وأمينة الجابر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي: ص: (16)، الطبعة الأولى. (1404 هـ - 1990 م)، عن دار الثقافة - قطر. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (شرع)، (مرجع سابق).

- الأصول الاعتقادية. - نظام الكون ولحياة الذي أوجده اللَّه. - الأحكام الفقهية التي تعاقبت بها الرسل صلوات اللَّه عليهم. - الأحكام الفقهية التي جاء بها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- منبثقة عن عقيدة الإسلام الواحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين، ولكنها جاءت ناسخة لكثير من الأحكام التفصيلية في العبادات والمعاملات ونحوها، وجاءت عامَّة لكافة البشر وشاملة لجميع جوانب الحياة بعد أن أكمل اللَّه دينه، وأتم نعمته، ورضي الإسلام للأمة دينًا ممثلًا في رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم الأنبياء وسيد المرسلين. أما المقصود بمصطلح الشريعة في هذا المطلب فهو (الأحكام والقواعد التي شرعها اللَّه سبحانه لتنظيم أعمال الناس، وعلاقتهم المتعددة والمتنوعة، المنبثقة عن العقيدة الإسلامية) (¬1)، أو هي (النظم التي شرعها اللَّه أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون، وعلاقته بالحياة) (¬2). ومعنى ذلك أن (قواعد الإسلام وأحكامه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقضاء والعقوبات وغيرها من القواعد والأحكام التي تنظم الحياة الخاصة والعامة تشكل بمجموعها، وتفاعلها، وتناسقها، وترابطها نظام الإسلام) (¬3)، وكأنها مثيلة للعقيدة التي صدرت عنها، وعندئذ يظهر المعنى اللغوي الذي ذكره الجوهري في قوله: (هذه شرعة هذه أي مثلها) (¬4)، ويطلق علماء القانون مسمى (الشريعة) على جملة الأنظمة ¬

_ (¬1) عز الدين الحبيب وآخرون: نظرات في الثقافة الإسلامية: ص: (119)، (مرجع سابق). (¬2) حسن عيسى عبد الظاهر وآخرون: بحوث في الثقافة الإسلامية: ص: (331)، (مرجع سابق). (¬3) عز الدين حبيب وآخرون: المرجع السابق نفسه: ص: (119). (¬4) الصحاح: مادة (شرع)، وسبق ذكر ذلك في معنى الشريعة في اللغة.

والقوانين إذا اتصفت بالانسجام العام في مجموعها وانتظمها سياق واحد (¬1) (لانبعاثها عن روح واحدة) (¬2)، أما إذا كان القانون أو النظام يتكون من مجموعة قواعد وأحكام حول ظاهرة واحدة أو جانب من جوانب الحياة فقط، فإنَّهم يطلقون عليه النظام القانوني) (¬3). وبالنظر لهذه الدلالة مقارنة بالمعاني اللغوية والاصطلاحية الواردة في تعريف الشريعة يظهر جليًّا استقلال الشريعة الإسلامية بهذا المسمى دون غيرها لما اتصفت به من الظهور والوضوح واليسر والعمق وعدم الانقطاع وهو ما يتفق مع معناها اللغوي؛ ولأن أحكامها تنتظم جميع جوانب الحياة في انسجام تام في داخلها ومع نظام الكون العام والحياة؛ لأن خالق الكون والحياة وهو اللَّه جل جلاله هو الذي سنَّ هذه الشريعة وأبانها وأظهرها، ويتصل بذلك ما أجمله شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: (فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب اللَّه وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال، والسياسات والأحكام والولايات والعطيات) (¬4). والشاهد في قوله هذا أن سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وتطبيق السلف الصالح متصل بالشريعة ويتصل بها طاعة ولاة الأمر من المسلمين كما أوضح ذلك فيما تلا من كلامه، إذ قال: (ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع منزل وهو شرع اللَّه ورسوله، وشرع متأول، وهو: ما ساغ فيه ¬

_ (¬1) انظر محمد كمال عبد العزيز: الوجيز في القانون: ص: (12)، عن مكتبة وهبة - القاهرة، 1962 م. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (12). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (12). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (19/ 308)، أصول الفقه الجزء الأول، (مرجع سابق).

الاجتهاد، وشرع مبدل، وهو: ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع أو البدع أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع) (¬1)، ثم قال: (يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملاته وغير ذلك. . وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر منا) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (308، 309). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (359).

أهمية النظام في الكون والحياة

أهمية النظام في الكون والحياة يمثل النظام في الكون والحياة ضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها، وقد تكرر الكلام عن آفاق الكون ومشاهد الطبيعة في القرآن الكريم تكرارًا يلفت النظر، وأكثر سور القرآن تستعرض الكون بآفاقه الواسعة وأنواعه الكثيرة، وأقسامه المتعددة، وحركته الدائمة وحوادثه المتكررة (¬1)، وأنه محكوم بنظام بالغ الدقة، ويجري وفق سنن مطردة، وحوادثه السابقة واللاحقة تأتي وفقًا لإرادة اللَّه الأزلية، ولا يشذ عنها حادثة من الحوادث لا في زمان ولا في مكان. . كما أن التطور الذي يتم في الكون منضبط بنظام متقن متكامل (¬2). . متناسق مع نظام الحياة في غاية الإبداع. . فكل شيء في الحياة والكون مقدر وموزون ومحسوب، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. والسمة البارزة في عرض القرآن لموجودات الكون، أو ملكوت السموات والأرض، هي أن تعرض عرضًا متنوعًا يدعو الإنسان بإلحاح وتحفيز للنظر والتأمل والتفكير في مجرى حوادثها، والدعوة إلى توحيد اللَّه وإفراده بالعبادة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. ويدخل الإنسان ضمن مخلوقات اللَّه بدءًا ونهاية فردًا وجماعة وأمة بل ¬

_ (¬1) انظر: محمد المبارك: نظام الإسلام (العقيدة والعبادة)، ص: (38 - 44)، الطبعة الثانية: (1451 هـ - 1981 م)، عن دار الفكر، دمشق. (¬2) انظر: موريس بوكاي: ما أصل الإنسان؟ (إجابات العلم والكتب المقدسة): ص: (237)، الطبعة الثانية عشرة: (1985 م)، عن مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الرياض.

وأممًا في منظومة الوجود ونواميسه وعلله وأسبابه ومسبباته، فالكل خاضع للَّه، ويتحرك في نظام سنة اللَّه {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]. ورد في سورة (يس) ما يبين أهمية النظام، وأن الكون والحياة تسير وفق نظام في غاية الدقة والإعجاز، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40]. كذلك الإنسان وهو ذلك المخلوق المكرم الذي استخلفه اللَّه -جل جلاله- في الأرض، وسخر له الكثير من ملكوت السموات والأرض ليحقق الرسالة التي أنيطت به، وليسير نحو الغاية التي خلق من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فإن هذه الرسالة وذلك التكليف لا يتأتى والغاية لا تتحقق إلا في ضوء نظام يحدد مساره، وينظم علائقه، ويضبط أوضاعه، ويحل مسائله وقضاياه، وإلا سادت الفوضى وعمت الجهالة. ولقد استفاضت الآيات الكريمة في عرض قصة آدم عليه السلام، بما يبين أهمية النظام للإنسان، وأنه لا يمكن أن يجد النظام الملائم لفطرته والمتسق مع غايته والكفيل بإسعاده في الحياة الدنيا والآخرة إلا فيما جاء عن اللَّه من الهدى، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّ

هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 116 - 124]. * * *

حاجة البشرية إلى النظام

حاجة البشرية إلى النظام من الظواهر المتكررة في تاريخ البشرية، أن الإنسان يميل إلى الجماعة، ويندفع إلى التجمع بفطرته، ويلتف حول أفراد جنسه ليكونوا مجتمعًا يلبي حاجاتهم، ويوفر لهم الضرورات وفيه يتم التفاعل بين الفرد والجماعة على مختلف المستويات، وهذه الظاهرة يعبر عنها علماء الاجتماع بمقولة (أرسطو): (الإنسان مدني بالطبع) (¬1)، وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك في عدة آيات منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. ويدفع البشر إلى التجمع دوافع عدة من أهمها: أولًا: الدافع النفسي: فالفرد يحتاج أن يكون في جماعة ليسكن إليها، كما احتاج أبو البشر عليه السلام إلى حواء عليهما السلام ليسكن إليها، فالدافع النفسي إذًا هو الدافع الأول للتجمع البشري، والإنسان بفطرته يأنس للجماعة، ولا بد أن يعيش في جماعة، ومن أجل ذلك كانت عقوبة السجن مؤلمة للإنسان من الناحية النفسية؛ لأن فيها حرمانًا له من الجماعة (¬2). ¬

_ (¬1) نقلًا عن عمر عودة الخطيب: المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية: ص: (21)، الطبعة الثالثة: (1399 هـ - 1979 م)، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬2) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (19)، الطبعة الأولى: (1404 هـ - 1984 م)، عن دار العلم للطباعة والنشر - جدة.

ثانيا: الدافع المادي

ثانيًا: الدافع المادي: لعل فيما أورده ابن خلدون في مقدمته عن ضرورة الاجتماع البشري ما يوضح هذا الدافع، إذ قال: (إن اللَّه سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أنَّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه، وهو قوت يوم من الحنطة -مثلًا- فلا يحصل إلا بعلاج كثير، من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات، لا تتم إلا بصناعات متعددة، من حداد ونجار وفاخوري، وهب أنه يأكل حبًّا من غير علاج، فهو يحتاج في تحصيله -أيضًا- حبًّا، إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدّراس الذي يخرج الحب من غلاف السنابل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة. . . ويستحيل أن يفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصِّل القوت له ولهم) (¬1). ثالثًا: الدافع الأمني: ويمضي ابن خلدون في مقدمته مبينًا دافعًا آخر من دوافع الاجتماع البشري، وهو الدافع الأمني فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم -أيضًا- في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ لأن اللَّه -سبحانه وتعالى- لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان، فقدرة الفرس -مثلًا- أعظم بكثير من قدرة الإنسان، وكذا. . . قدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته، ولما كان العدوان طبيعيًا في الحيوان، جعل ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص: (41، 42)، (مرجع سابق). وانظر: محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (20).

لكل واحد منها عضوًا يختص بمدافعة ما يصل إليه من عادية غيره، وجعل للإنسان عوضًا من ذلك كله الفكر. . .) (¬1). ويواصل بيانه لهذا الواقع حتى قوله: (ولا تفي قدرته. . . فلابدَّ في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه) (¬2)، ويقرر أخيرًا بأن الاجتماع البشري ضرورة للإنسان ولا يتحقق وجود الأمة ورسالتها في إعمار الأرض وتحقيق الخلافة إلا بذلك (¬3). إذا كانت هذه الدوافع إلى الاجتماع البشري الذي يلبي ضرورات عدة نفسية، ومادية، وأمنية، كحاجة الإنسان إلى الأكل والشرب، وحاجته إلى الزواج وتكوين الأسرة، وحاجته إلى الأمن على نفسه وماله وعرضه ونسله، فإن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تقوم بصفة سوية، ووضع مرض إلا بالتعاون بين أفراد المجتمع ولكن هذا التعاون لا يتم بمجرد الرغبة فيه والحرص عليه، والنظرة إليه باعتباره أمنية لا مجال لتحقيقها في عالم الواقع (¬4)، بل لابد من نظام يحدد للإنسان ما له وما عليه في إطار الواجبات والحقوق، وينظم علاقاته التي تنشأ بينه وبين أفراد مجتمعه وهيئاته ومؤسساته المختلفة في شتى الشؤون وعلى كافة الأصعدة. وعلى هذا الفرد والمجتمع بل الأمة بحاجة إلى نظام تطبقه في واقعها وتحافظ به على الضرورات الخمس، وهي: (حفظ الدين، والنفس، ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص: (42). وانظر: محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (20، 21). (¬2) مقدمة ابن خلدون: ص: (42)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: مقدمة ابن خلدون: ص: (43)، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: عمر عودة الخطيب: المسألة الاجتماعية: ص: (23)، (المرجع السابق نفسه).

وهنا يأتي السؤال من الذي ينظم؟

والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل مِلَّة) (¬1)، وتجلب بها المصالح وتدفع بها المفاسد (¬2)، ونحو ذلك. وهنا يأتي السؤال من الذي ينظم؟: يرى بعض المهتمين بدراسة التاريخ البشري ودراسة علم الاجتماع والنفس والتربية، وكذلك النظم والتشريعات أن البشر قادرون على وضع التشريعات والنظم لقيام حياتهم وتحقيق وجودهم الإنساني المتميِّز، وينيطون ذلك بما وهبه اللَّه للإنسان من عقل قادر على عمل ذلك. ومهما كانت المسوغات والمبررات لهذا الرأي فإنَّ نهاية التحليل تصل إلى حقيقة مستقرة ومسلَّمة نهائية جوهرها ولبها أن العقل البشري المجرد عن هداية اللَّه وغير المتصل بوحيه تعالى إلى رسله لا يتأتى له ذلك بصفة شاملة كاملة مرتبطة بغاية وجود الإنسان ومتسقة مع حقائق الوجود، بل يقصر عن ذلك، وبيان أوجه قصوره في النقطة الآتية: * * * ¬

_ (¬1) أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: (2/ 8، شرح وتخريج وترجمة وفهرسة: عبد اللَّه دراز ومحمد عبد اللَّه دراز وعبد السلام عبد الشافي محمد، عن دار الكتب العلمية - بيروت. (¬2) انظر المرجع السابق نفسه: ص: (29)، وسيأتي الحديث عن مقاصد الشريعة.

قصور العقل البشري عن تشريع النظم

قصور العقل البشري عن تشريع النظم للعقل منزلة عظيمة، وبه يتميز الإنسان عن كثير من مخلوقات اللَّه، وقد أولى الإسلام الدقل اهتمامًا بالغًا وعنايةً كبيرة، وجاء في آيات كثيرة تنويه الإسلام بالعقل كقوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109] (¬1). وقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] (¬2) ونحوهما، فالعقل في الإسلام وسيلة إلى الإيمان، وهو مناط التكليف، وبه يفهم الشرع وتكاليفه وأحكامه، وله مجالاته الواسعة وآفاقه العريضة التي سخرها اللَّه للإنسان، ولكنه محدود بحدود طبيعية، ومقيد بضوابط كثيرة، وإذا كانت له مجالات واسعة يمكنه أن يبدع في مضمارها، وله طرائقه المنطقية الصحيحة في كثير من قضايا الحياة وميادين الفكر؛ فإنه غير قادر على تشريع نظام كامل شامل يكفل سعادة الإنسان، ويحقق غاياته العليا في الحياة والوجود إلا إذا أعمل في ضوء الوحي وبهديه (¬3)؛ وذلك لأوجه القصور الملازمة له وأهمها: أولًا: قصوره من ناحية الزمن، فالإنسان مهما نضج عقله، وبلغ من القوة منتهاها في إطاره الإنساني إلا أنه محدود بحدود زمنية وأخرى مكانية، لا يستطيع عقله تجاوزها أيًّا كانت عبقريته، أمّا الحدود الزمانية فعلى افتراض أن الإنسان علم بحاضره الذي يعيش فيه وعلم شيئًا عن الماضي بالدراسة والاطلاع فإنه لا يستطيع أن يدعي علم المستقبل، ومن الاستحالة على عقله علم ذلك، لهذا فإن النظام الذي تصدى لوضعه ¬

_ (¬1) وقد وردت في القرآن الكريم بهذه الصيغة نحو إحدى عشرة مرة. (¬2) وقد وردت بنحو هذه الصيغة نحو عشر مرات. (¬3) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (24)، (المرجع السابق نفسه).

وتشريعه لو صلح على سبيل المثال الافتراض فسيكون صلاحه في إطار فترة زمنية محدودة، ويكفي هذا الوجه من قصور العقل من الناحية الزمنية قادحًا في النظام الذي صدر عن عقل الإنسان؛ لأنه سيكون عرضة للجمود وعدم الصلاحية بمجرد مرور الزمن، فالغد يأتي بما لم يحط المنظر بعلمه، وعندئذٍ يكون التغيير أمرًا لا مفرَّ منه، وقد يكون تغييرًا شاملًا، ومع التغيير المستمر يصبح النظام غير قادر على توفير الاستقرار والأمن النفسي للمجتمع لما يعتريه من التقلب المستمر والتضارب والتناقض؛ لأنه خضع لإطار زمني ضيق. إن هذا القصور سمة لازمة للنظم البشرية؛ ممَّا جعل الطريق غير مأمون على المجتمعات البشرية في ظل تنظيمها لنفسها (¬1). ثانيًا: قصور العقل البشري من الناحية المكانية، حيث إن عقل الإنسان محدود بالمكان الذي يعيش فيه، والبيئة التي خضع لمؤثراتها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وما يؤدي إليه ذلك من محدوديَّة العقل وتركيزه على بيئته وجهله بالبيئات الأخرى؛ فإذا تصدى العقل البشري للتنظيم والتشريع فإن ما ينتج عنه لو صلح -افتراضًا- لبيئة لن يصلح لغيرها. . .، وعلى هذا لن تتحقق الوحدة المتوخاة في النظم تلك الوحدة التي تعد أساسًا في الشريعة؛ لأن البشرية متحدة في أصلها وفطرتها وغايتها، وإن تباعدت الأوطان واختلفت الألوان والألسنة والشعوب والقبائل، والوحدة مطلوبة لتعيش المجتمعات البشرية في سلام ووئام (¬2). ثالثًا: قصور العقل البشري من حيث الإلمام بجميع الأطراف التي ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (24). (¬2) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (25)، (المرجع السابق نفسه).

يتصدى لتنظيمها، وطبيعة من ينظم لهم، وتحقيق التوازن في ذلك كله؛ فالميل إلى طرف من الأطراف هي السمة الظاهرة على الفكر البشري، أو التركيز على جهة من الجهات، أو فكرة، أو نزعة. . . ونحو ذلك، استجابة لتأثير البيئة على المفكر، وتأثير النزعة التي تربَّى عليها، فمن ربِّي على نزعة مادية تطرف إليها وصار نحوها، ومن ربِّي على نزعة خيالية جنح إليها، وقد يميل المفكر إلى نزعة فردية ضد الجماعة أو على حسابها، وقد يميل آخر إلى نزعة جماعية ضد مصلحة الفرد (¬1)؛ لذلك فإن ما يصدر عن الإنسان من نظام سيصطبغ بصبغة ذلك الإنسان نفسه، ويكون انعكاسًا لنزعاته وأهوائه وميوله. وقد ألمح ابن خلدون إلى ذلك حينما تحدَّث عن الملكات وذكر: (أنَّ من أحكم ملكة وأجادها، ورسخت في نفسه لا يستطيع أن يجيد ملكة أخرى ويحكمها) (¬2)، أي: إن الإنسان لا يستطيع تحقيق التوازن وبلوغ درجة الإبداع حينما يتصدى للتنظيم، وهذا القصور لدى الإنسان يفرض عليه الميل في التفكير إلى فكرة يبدو له بريقها ثم لا يجيد الوصول إليها، وعندئذٍ يختل التوازن في النظم البشرية، ولعل (مدينة أفلاطون) إحدى النماذج الدالة على قصور العقل البشري، إذا أراد الخير لمجتمعه وشرع في التنظير له، ولكن بحكم قصور العقل البشري ومحدوديَّة تفكيره أفرز نظامًا مدمِّرًا، حيث اشتمل نظامه ذلك على أن يقتل الأولاد الذين يولدون لآباء شريرين، حتى يقضي على الشر في مجتمعه الفاضل أو مدينته الفاضلة، وكان هذا النظام متأثرًا بعقيدة باطلة تشربها (أفلاطون) من بيئته ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (26). (¬2) انظر: مقدمة ابن خلدون: ص: (405). وانظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (26)، (المرجع السابق نفسه).

التي تعتقد بتوارث الشر، فترسبت هذه العقيدة في سويداء قلبه، ومال إليها تفكيره، وتلونت بها شخصيته، وبالتالي دبَّت في نظامه فجاء نظامًا جائرًا وتشريعًا ظالمًا، وكان من الممكن أن ينجو الفكر البشري من هذه الأفكار الخاطئة والنظم الجائرة لو اهتدى بنور الوحي (¬1)، فاللَّه تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. ونزعة أخرى ظهرت في نظام (أفلاطون) بحكم اعتماده على عقله بعيدًا عن هداية الوحي، فقد تطرَّف نظامه إلى النزعة الجماعية على حساب الفرد، وكان يرى (أنَّ وجود أي منفعة شخصية لفرد يهدم منفعة المجموع، ولذا يجب أن تنهار المصالح الفرديَّة ويقضى عليها. . . بحيث لا يجوز أن يكون لأي فرد في الأمة منفعة شخصية تتميز عن منفعة مجموعها) (¬2). إنَّ (أفلاطون) أنموذج من النماذج البشرية التي حاولت أن تنظم لمجتمعها استنادًا على العقل البشري مستقلًا عن وحي اللَّه، فكان هذا التطرف الذي لم يستطع تحقيق التوازن بين الماديَّة والروحية، ولا بين نزعة الفرد ومصلحة الجماعة، ولا بين الواقع والخيال) (¬3). رابعًا: جهل الإنسان بحقيقته، إذا كان الإنسان الذي هو موضوع التنظيم، أو الأساس في التنظيم لا يزال مجهولًا عند نفسه، فكيف يضع النظام الذي يكفل المحافظة على ضروراته ويلبي حاجاته ومتطلبات حياته بصفة شمولية متوازنة؟!، وكيف يؤمل فيه أن يكون مصيبًا فيما يشرع من نظام بمنأىً عن الوحي الرباني الذي يصله بخالقه عز وجل. ¬

_ (¬1) انظر: عمر عودة الخطيب: المسألة الاجتماعية. . . ص: (46)، (مرجع سابق). وانظر: محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (26، 27). (¬2) عمر عودة الخطيب: المسألة الاجتماعية: ص: (46)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (47، 48)، وانظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (27)، (المرجع السابق نفسه)

إنَّ جهل الإنسان بحقيقة نفسه وطبيعة حاله حقيقة قررها العلماء المعنيون بدراسة الإنسان، وعلى سبيل المثال فإن (ألكسيس كاريل) وهو عالم مختص في مجال دراسة الإنسان، ألَّف كتابًا أسماه (الإنسان ذلك المجهول) أبان فيه أن الإنسان لا يفهم نفسه ككل، وهذا واضح في قوله: (لقد بذل الجنس البشري مجهودًا جبَّارًا لكي يعرف نفسه، ولكن وعلى الرغم من أننا نملك كنزًا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة -فقط- من أنفسنا. . . إننا لا نفهم الإنسان ككل) (¬1). ويواصل حديثه مبينًا أن هناك قصورًا كبيرًا في فهم الإنسان لطبيعته وأعماق نفسه، فيقول: (إننا نعرفه -أي: الإنسان- على أنه مكون من مركب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة) (¬2) ويؤكد فيما ذكر بأن معرفة الإنسان بنفسه ما زالت بدائية (¬3). إن جهل الإنسان بنفسه كان السبب الأساس في اختلاف النظرات إليه وتعدد مدارسها التي خبطت في قضاياه خبط عشواء، ففي حين ينظر إليه من خلال بعض تلك النظريات ومدارسها بأنه إله وأنَّه سيد الكون، ينظر إليه من خلال جانبه المادي ويصنَّف في منزلة تقترب به من منزلة الحيوانات. .، وذاق الإنسان في ضوء هذه النظريات المتعارضة المتناقضة صنوفًا من المرارة، وأصبح الإنسان في العصر الحديث يعيش في أزمة طاحنة، تحدث عنها كثير من المفكرين، وصرحوا بها في كتابات ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (28). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (28). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (28).

متنوعة (¬1)، منها على سبيل المثال: ما ذكره (تشارلز فريكل) في قوله: (على الرغم مما حققه العصر الحديث من معجزات العلم والتكنولوجيا، إلا أنَّ الثورة على الإنسان المعاصر الذي سيطر بعقله وعمله على الكون بدأت تشتد وتقوى، إذ أنَّه على الرغم من كل ذلك لم يحصل على السعادة ولا الطمأنينة، وما زالت قيمه في تخبط ووجوده مهددًا بالقلق) (¬2). جاءت هذه الأزمة التي تحدَّث عنها (تشارلز) وغيره من العلماء والمفكرين نتيجة طبيعية لاعتداد الإنسان بنفسه واعتماده على العقل فيما شرع لحياته من نظام لا يفي بمتطلبات الناس بصفة تكفل لهم السعادة المنشودة وتنسجم مع غاياتهم العليا ومنطلقاتهم الحقيقية؛ لذلك أصبحت حياة الإنسان، وفي ظل تلك النظم متأزمة (¬3)، وتحقق فيها قول اللَّه -عز وجل-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. * * * ¬

_ (¬1) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (28)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص: (29). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (32)، وانظر: سمير عبده في مقدمة كتاب: برتراند راسل: الفوز بالسعادة: ص: (12، 13)، من منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت طبعة: (1980 م)

لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية

لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية تعجز تشريعات البشر ونظمهم عن إسعاد الإنسان، وتحقيق غايات وجوده ونشاطه الحضاري الشامل إذا انقطعت عن وحي اللَّه وهدايته سواءً في القديم أو الحديث. أما في القديم فهناك ثلاثة أمثلة تبين بجلاء أن الأمم في ظل النظم التي وضعتها عقول البشر لم تجنِ إلا الفوضى والقلق والاضطراب والظلم والجور: الأول: النظام الروماني فقد كان للمجتمع الروماني قانون منظم يوصف بأنه متقن في الصياغة والسيادة، وذلك في القرن الخامس الميلادي وهو المشهور باسم (مدونة جوستينان) (¬1)، فماذا قدم هذا القانون للمجتمع الروماني؟. لقد حمى الأشراف وقرر لهم حقوقًا ليست للضعفاء، ومما قرره الآتي: - إن بعض الرعايا ممن ليسوا رومانًا بالسلالة ليست لهم حقوق الرومان، فهم كالعبيد يعملون لأجل الرومان ولتشبع بطونهم. ¬

_ (¬1) تتضمن خلاصة القوانين التي عرفتها الدولة الرومانية، وقد أنجز تحت رعاية الإمبراطور الروماني (جوستينان ت 565 م) خلال ست سنين: (528 - 534 م) اشتغل به أساتذة القانون في معهد حقوق (بيزانس) القسطنطينية، ومعهد حقوق بيروت، لمزيد من الاطلاع انظر: محمد محسن الرازي: حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني، مجلة الرسالة، العدد (108)، الصادر بتاريخ: (29 يوليو 1935 م)، السنة الثالثة: ص: (1215)، مجلة للآداب والعلوم والفنون، كانت تصدر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، القاهرة، وانظر: التعريف به في مكان لاحق، (البحث نفسه)، ص: (434).

- إن العبيد لا يعاملون معاملة الآدميين. - ليست للمرأة شخصية مستقلة بل هي في حكم المملوكة للرجل أبًا كان أم زوجًا. - تجميع الميراث في قريب واحد ويحرم منه الباقون (¬1). فهذا النظام ليس مقتصرًا على أنه طبقي فحسب بل يسلب حقوق الضعفاء ليزدادوا ضعفًا، ويعطيها الأقوياء ليزدادوا قوة على قوتهم (¬2). الثاني: النظام الفارسي، ارتكز هذا النظام على دعوة دينية تعتمد تعاليم (زرادشت) وهي القول بتعدد الآلهة، أو إله الخير وإله الشرِّ، وما انبنى على هذه العقيدة الفاسدة من الشركيات والتصورات الباطلة، كان من أبرزها دعوة (ماني) إلى التشاؤم المطلق، فقد دعا الى فناء الإنسانية ليتخلص العالم من شرورهم، ثم أعقبه (مزدك) فزعم أن آثار المباغضة والعداوة المستمرة بين الناس إنما تقع بسبب الأموال والنساء، فدعا إلى شيوعية الأموال والنساء حتى صار الرجل لا يعرف ولده، ولا المولود يعرف أباه، ولا يملك الناس شيئًا، فانهار المجتمع الفارسي بهذه الفوضى العارمة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (30)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد الدسوقي وأمينة الجابر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي: ص: (48 - 55)، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1990 م)، دار الثقافة، الدوحة. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (30)، وانظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (71، 72)، الطبعة الثانية: (1412 هـ - 1991 م)، عن العصر الحديث للنشر والتوزيع، بيروت. (¬3) انظر المرجع السابق نفسه: ص: (30)، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل: (1/ 283 - 289)، (مرجع سابق)

الثالث: الأعراف الجاهليَّة في المجتمع العربي، لم يكن العرب أسعد حالًا قبل الإسلام من غيرهم، ولم يكن لهم نظام جامع ولا وحدة تضم شتات قبائلهم، وإن كانت القبيلة تخضع لكبيرٍ منها يفصل في النزاع الناشب بين أفرادها ونحو ذلك، وكان لهم جملة من الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، ولكن كانت العلاقات بين الناس يسودها الظلم (¬1) والجهل والتفكك والثارات القبلية، والتبعيَّة للأمم الأخرى المجاورة لهم من فرس وروم، وكانت عصبيَّة الجاهليَّة تسيطر على المشاعر والمواقف، يقول الشاعر العربي: ومن لم يذُدْ عن حوضه بسلاحه ... يُهَدَّمْ ومن لا يظلم الناس يُظْلَمِ (¬2) ويقول الآخر: وهل أنا إلا من غزَيَّةَ إن غوت ... غويت، وإن تَرْشُدْ غزيَّةُ أرْشُدِ (¬3) ولما جاء الإسلام نهض العرب برسالة الإسلام فأصبحوا قادة العالم وأعلام الهداية، وجنود الحق والتوحيد، في ظل شريعة الإسلام الخالدة التي قام عليها تميُّز الأمة الإسلامية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: 309، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: (4/ 291 - 299 - 413)، الطبعة الثالثة: (1985 م)، عن دار العلم للملايين، بيروت. (¬2) زهير بن أبي سلمى: معلقة زهير بن أبي سلمى المزني، البيت [54]، شرح: محمد علي طه الدرة: فتح الكبير المتعال، إعراب المعلقات العشر الطوال (معلقة زهير بن أبي سلمى)، ص: (7)، عن دار الإرشاد بحمص، الطبعة الأولى: (1986 م). (¬3) البيت لدريد بن الصمة من قصيدة رثى بها أخاه عبد اللَّه لما قتلته عبس: مختارات الأغاني لابن منظور: (5/ 107 - 111)، الطبعة الأولى: (1383 هـ - 1964 م)، عن المكتب الإسلامي، بيروت، وانظر: السيد أحمد الهاشمي: جواهر الأدب في أبيات وإنشاء لغة العرب: (2/ 8)، من منثورات مؤسسة المعارف - بيروت (بدون تاريخ). (¬4) انظر عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة: ص: (16 - 33)، الطبعة الحادية =

أمَّا حال المجتمعات والأمم غير الإسلامية في العصر الحديث، تلك التي اعتمدت على العقل وتنكرت للدين وأهميته في سعادة الإنسان فإنها بما فيها من مذاهب فكرية متصارعة، ونظم متباينة إنما تعود في جذورها إلى ثقافات قديمة وتطبيقات جديدة شقي بها الإنسان في ظل القوانين الوضعية المختلفة، يقول (الدوكس هكسلي): (إن العالم -الآن- يشبه قبيلة تعبد الشيطان، وتعيش في ظل قوانين جديدة قائمة على الشر والحقد، والماديَّة البحتة، التي تجرد الإنسان من كل مشاعر الإنسان بلا حبّ وبلا تعاطف، وتقوم على تبادلات الاتصال الجنسي على نحو ما تفعل السائمة) (¬1). واعترف (جاك مارتيان) بأهمية الوحي في تنظيم حياة البشر، ودعا إلى الاعتراف بعجز الإنسان عن وضع النظم الكفيلة بإسعاده وإخراجه من الأزمة المعاصرة، يقول: (إنَّ أي مجتمع بشري يحتاج إلى مجموعة من القيم ذات المصدر الإلهي الذي يعلو على الإنسان، أي: إن مصدر القيم لا يجوز أن يرجع إلى الإنسان نفسه، وإلا سيكون طرفًا وقاضيًا في الوقت نفسه، إذًا لابُدَّ لكي يحتفظ المجتمع البشري باستقراره وخضوعه للسلطة السياسية، من وجود حقائق مطلقة يسلم بها الأفراد جميعًا) (¬2). ¬

_ = عشرة 1411 هـ - 1990 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت، ولمزيد من الاطلاع على حال العرب في الجاهلية. انظر: أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص: (52 - 62)، الطبعة الثامنة: (1404 هـ - 1984 م)، عن دار الكتاب العربي، بيروت، وعن العرب في ظل الإسلام انظر: المرجع نفسه: ص: (78 - 128). (¬1) نقلًا عن محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (29)، وانظر أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم. .: ص: (218 - 228)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نقلًا عن محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (29)، المرجع السابق نفسه وانظر: محمد عبد المنعم نور: النظم الاجتماعية في الإسلام: ص: (24 - 33)، الطبعة الأولى: (1979 م)، عن دار المعرفة، القاهرة.

وقال عالم القانون الشهير (جورج هوايت كروس باتون): (إن السبيل الوحيد للوصول إلى معايير متفق عليها هو الاعتراف بالوحي السماوي قانونًا) (¬1). إنَّ هذه الأقوال تلتقي مع الرأي الذي يعول على الوحي والدين السماوي في قضية التشريع، وأنّ البشرية من فجر تاريخها اعتمدت على الشريعة الإلهية: (فالحقيقة أن تنظيم الحياة البشرية هو من المفاتيح العليا المقدسة لهذه الحياة، ولم يكن اللَّه -سبحانه وتعالى- ليترك الناس عرضة للخطأ فيها وللتجارب الأليمة، فإنه في كل مرة يعدل الناس عن نظام إلى آخر تقوم الثورات والحروب والنكبات، وتراق الدماء، وتصادر الأموال، وتضطرب الأمور، وينقسم الناس، ولذلك فقد أهدى اللَّه هذه الهدية الغالية، وهي بيان نظم حياتهم) (¬2). ومن هنا يتضح (أنَّ الدين منذ القدم ضرورة اجتماعية، والوازع الديني أقوى حافز على احترام القواعد التنظيمية في أية جماعة، ومنذ وجدت الجماعات البشرية اتجهت إلى السمو عن طريق النزعات الدينية) (¬3)، و (أنَّ الديانات السماوبة بدأت منذ بدء الخليقة، فاللَّه -سبحانه وتعالى- منذ استخلف آدم على الأرض أوحى إليه أنَّه هو خالقه وبارئه، وخالق العوالم الأخرى من إنس وجن وحيوان وموجودات، وخالق الكون كله، كما أوحى إليه بحدود خلافته وذريته في الأرض، وبالقدر اللازم لتنظيم حاجاتهم كجماعة ¬

_ (¬1) محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (33). (¬2) مصطفى كمال وصفي: مدخل النظم الإسلامية: ص: (81)، عن عالم الكتب، القاهرة، (بدون تاريخ)، وانظر محمود شلتوت: من توجيهات الإسلام: ص: (14 - 17)، الطبعة السابعة: (1403 هـ - 1983 م)، عن دار الشروق، بيروت. (¬3) علي علي منصور: المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي: ص: (38)، عن مطبعة مخيمر، القاهرة: (1967 م).

بدائية) (¬1)، فالدين بشطريه (العقيدة والشريعة) أتى الإنسان من عند اللَّه وظلَّ على عقيدة التوحيد وشريعة الرحمن إلى حين. ثمَّ اقتضت حكمة اللَّه أن ينشب الصراع بين الجاهلية والإسلام، وكلما استحكمت الجاهليَّة أو كادت بعث اللَّه رسولًا يعيد الناس إلى شريعة اللَّه حتى جاء خاتم الأنبياء وسيد المرسلين بالهدي التام والشريعة الكاملة، فكان منَّة اللَّه على الأمة الإسلامية، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين} [آل عمران: 164]، ومما جاء في تفسيرها: (أنَّ الحكمة هي السنة، التي هي شقيقة القرآن، ووضع الأشياء موضعها، ومعرفة أسرار الشريعة، فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفيذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة، جميع المخلوقين وكانوا من العلماء الربانيين) (¬2). ويقوم تميُّز الأمة على عقيدة التوحيد الخالص التي جرى البحث في خصائصها، ويقوم أيضًا على شريعة غراء تنبثق من تلك العقيدة، وتماثلها في خصائصها. * * * ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (19، 27). (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . .: (1/ 450)، (مرجع سابق).

خصائص الشريعة الإسلامية

خصائص الشريعة الإسلامية تبينت مما سبق أهمية النظام في الكون والحياة وحاجة البشر إلى ذلك، واتضح عجز الإنسان عن الإتيان بتشريع يتوافر له الشمول والكمال الذي يكفل للإنسانية ما يسعدها وينسجم مع غاياتها العلياء وحقيقة وجودها، وتبين بالأدلة ضرورة الوحي الرباني وأهميته للاضطلاع بهذه المهمة، ومن أبرز ما يجلي ذلك هو ما وقع في تاريخ الإنسانية حيث كانت شريعة اللَّه هي المنهاج الذي سلكه الرسل -عليهم السلام- وأتباعهم على مر العصور حتى جاءت شريعة الإسلام فكانت هي مسك الختام كاملة لا يعتريها نقص، شاملة لا يلحقها قصور. وفي هذا يقول الشاطبي: (إنَّ هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أنَّ صاحبها -صلى اللَّه عليه وسلم- معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة) (¬1)، وساق الأدلة على ذلك، وصنفها على وجهين: الأول: ما دلَّ على ذلك تصريحًا أو تلويحًا، واستدل بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وكقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، واستدل على هذا الوجه -أيضًا- ببعض أقوال السلف وما صاحب نزول الوحي على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصونه عن تخليط الشياطين على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- واستراقهم السمع (¬2). الثاني: ما توافر للأمة الإسلامية من وعي وفكر وعمل ونحوها من ¬

_ (¬1) الموافقات: (2/ 44)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الموافقات: (2/ 45)، (المرجع السابق نفسه).

دواعي المحافظة على الشريعة والذب عنها، بدءًا بعنايتها بالقرآن الكريم وعلومه والستة النبوية وعلومها، واللغة العربية وعلومها (¬1)، وفي ذلك قال: (الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الآن، وذلك أنَّ اللَّه -عز وجل- وفَّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل. أما القرآن الكريم فقد قيض اللَّه له حفظه بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلًا عن القراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض اللَّه لكل علم رجالًا حفظه على أيديهم) (¬2). وتختص الشريعة الإسلامية إلى جانب ذلك بخصائص كثيرة جعلت منها نظامًا يصلح لكل زمان ومكان، ويعلو ولا يعلى عليه، ومن أهم هذه الخصائص الآتي: أولًا: تنبثق الشريعة في الإسلام من عقيدة التوحيد الخالص للَّه وترتبط بها وتلازمها؛ لذلك فإنَّ ما سبق ذكره، من أنَّ الشريعة تطلق على مجموعة الأنظمة والقوانين التي اتصفت بالانسجام لانبعاثها عن روح واحدة لا ينطبق إلا على الشريعة الإسلامية عند التحقيق؛ لأنها صادرة عن اللَّه، وانبثقت من عقيدة التوحيد التي تميَّزت عن سائر العقائد برؤيتها الشاملة للكون والحياة، ولا يمكن أن يتحقق الانسجام التام في جميع النظم إلا في الشريعة الإسلامية، حيث لا يقتصر شمولها على تناولها جميع جوانب حياة الإنسان دينًا وآخرة -فحسب- بل ينسجم مع سياق النظام الشامل للكون والحياة. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (45 - 47). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (45).

أمَّا من حيث ارتباطها بالعقيدة فإنَّ الآيات الواردة في تقرير أمور العقيدة كثيرًا ما تتناول قضية الحقوق والواجبات والأخلاقيات والآداب مثل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. قال بعض المفسرين في تفسيرها: (دخل في ذلك حقوق اللَّه كلها، لكون اللَّه ألزم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها اللَّه عليهم، والحقوق التي التزمها العبد. . .) (¬1). وعندما ينطق المسلم: (لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه)، (تأتي أهمية الشهادة الثانية وخطورتها وضرورتها وهي محمد رسول اللَّه، فمعناها عهد من الناطق بها على أنَّه يلتزم بالخضوع للَّه حسب ما جاء به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فقط، ونبذ كل ما على الأرض من أساليب الخضوع للَّه سواء كانت وضعية أو سماوية؛ لأن ذلك كله باطل من ناحية، كما أنَّه من الناحية العملية لا يحقق إفراد اللَّه تعالى بالخضوع، كما لا يحقق الخضوع التام اللائق بألوهيته تعالى، لذلك لا تنفصل الشهادتان عن بعضهما، فلو أخذ فرد أو مجتمع الشهادة الأولى (لا إله إلا اللَّه) وترك الثانية، لما كان موحدًا ولما أفرد اللَّه بالألوهية ولما قصر الخضوع له إلا قولًا فقط، وشأنه شأن الظمآن الذي يريد أن يرتوي بالاقتصار على التلفظ بكلمة ماء، فلا سبيل ولا كيفية عملية لإفراد اللَّه تعالى بالألوهية، أو لتحقيق الشهادة الأولى إلا بالإيمان ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . .: (1/ 212)، (مرجع سابق)

والعمل بمقتضى الشهادة الثانية (محمد رسول اللَّه)، أي: قصر التلقي والطاعة على ما جاء به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورفض التلقي عن غيره والطاعة لمن سواه، باعتباره المبلغ الوحيد عن اللَّه ولديه الوحي الأخير الذي لم يصبه تغيير أو تشويه أو تحريف، ففي الشهادة الأولى نبذ للأديان الوضعية والمذاهب الفلسفية والنظم الاجتماعية الجاهليَّة؛ لأن إفراد اللَّه بالألوهية هو رفض الخضوع لغير أمره وتنظيمه، وفي الثانية نبذ للأديان السماوية المحرفة التي تدعي نسبتها للَّه -سبحانه وتعالى- كاليهودية والنصرانية) (¬1). ومن مقتضى شهادة (محمد رسول اللَّه) تنبثق الشريعة الإسلامية (فالعلاقة إذًا بين العقيدة والنظم في المجتمع المسلم علاقة وطيدة وثيقة. . . ولذلك لا يوجد مجتمع مسلم بدون عقيدة التوحيد الإسلامية، ولو تغيرت عقيدة التوحيد لانتهت النظم الإسلامية أو أصابها التغير بقدر الانحراف عن التوحيد في نفوس الأفراد. . كما أنَّه من الخطأ البين وصف مجتمع بأنَّه مسلم. . أو موحد دون أن تكون نظمه إسلامية، أي: دون تطبيق الشريعة الإسلامية في شتى جوانب حياته) (¬2). وأما من حيث الانسجام مع النظام الشامل للكون والحياة، (فإنَّ جميع الموجودات في هذا العالم -من أكبر الأجرام الفلكية إلى أصغر الذرات- يخضع كل منها لقانونه الخاص الذي ينبع من ماهيته الذاتية ووجوده الخاص، كما أنَّ هذا العالم المخلوق ككل وفي مجموعه يخضع أيضًا لناموس كلِّي يسير حسبه أيضًا. . . وإلى تلك الربوبية الشاملة للكون المخلوق تشير الآية الأولى من فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. . . فكل شيء في ¬

_ (¬1) فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع المسلم: ص: (75، 76)، (مرجع سابق). (¬2) فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع المسلم: ص: (177، 178)، (المرجع السابق نفسه).

الكون خاضع لقاعدة معينة، ويسير في نشأته ونموه وفنائه حسب هذه القاعدة، سواء فلكًا أو جبلًا أو بحرًا أو حيوانًا أو إنسانًا، وهذا معنى قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. . . [ومما تعنيه أيضًا، الكفالة والإصلاح والإدارة وتسيير الأمور وتنظيمها والسيادة والحكم وحيازة السلطة والأمر النافذ. . .، والإيمان بالربوبية يقتضي بالضرورة إفراد اللَّه -سبحانه وتعالى- بالتشريع والتدبير والتنظيم في حياة البشر الفردية والاجتماعية، وذلك يعني رفض أي نظام جاهلي وضرورة الاقتصار على النظام الاجتماعي الإسلامي، وموحد الربوبية هو من يرفض أن يتعامل مع الناس بغير التشريع الإلهي) (¬1). ثانيًا: أنها ملزمة، ولا يصح لأحد الخروج منها، قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وورد عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (¬2)، ¬

_ (¬1) فاروق الدسوقي: المرجع السابق نفمه: ص: (78 - 83)، ولمزيد من الاطلاع انظر: صلاح الصاوي: تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين: ص: (23 - 29)، الطبعة الأولى: (1413 هـ - 1993 م)، عن دار الإعلام الدولي، القاهرة. انظر: مناع خليل القطان: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية. .: ص: (195، 327 - 330)، بحث مدرج في: وجوب تطبيق الشريعة والشبهات التي تثار حول تطبيقها، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة: (1396 هـ) ونشر عن إدارة الثقافة والنشر بالجامعة: (1451 هـ - 1981 م)، الرياض. (¬2) أدرجه ابن رجب في كتابه: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، الحديث الحادي والأربعون: ص: (417)، وقال عنه: (حديث حسن صحيح)، وهو مروي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وفي رواية أخرى زيادة =

وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. . . " (¬1). والآيات الواردة في ذلك والأحاديث مستفيضة (¬2)؛ قال ابن القيم في تفسير قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية: (أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق بقضائه وحكمه، ولم يكتف منهم بذلك أيضًا حتى يسلموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا) (¬3). وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام: (الاعتقاد بأن غير هدي الإسلام أكمل من هديه، وأن حكم غيره أحسن من حكمه،. . . ومن اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج من شريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬4). ¬

_ = (ولا يزيغ عنه) في آخره، وللمزيد الاطلاع على ما قيل في صحة هذا الحديث وضعفه راجع: المرجع نفسه ص: (418 - 419)، طبعة: (1407 هـ - 1987 م)، عن دار الجبل، بيروت، وانظر: السيوطي: مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة: ص: (98)، تحقيق: بدر بن عبد اللَّه البدر، (مرجع سابق). (¬1) رواه البخاري: صحيح البخاري: (1/ 304)، الحديث رقم: [853]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، جزء من حديث رواه عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه-، وأخرجه البخاري: صحيح البخاري في مواطن كثيرة من صحيحه منها ما ورد في: (1/ 304)، كتاب الجمعة، الحديث رقم: [853]، وتكرر بألفاظ متقاربة في الأحاديث ذات الأرقام الآتية [2278، 2416، 2892، 4904، 6719]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). (¬2) انظر: مناع خليل القطان: وجوب تطبيق الشريعة: ص: (200 - 208)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) بدائع التفسير: (2/ 32 - 37)، (مرجع سابق). وانظر: ابن رجب جامع العلوم والحكم، (المرجع السابق نفسه)، ص: (417 - 421). (¬4) الرسالة التاسعة (نواقض الإسلام): الناقض الرابع والناقض التاسع: ص: (386، 387)، من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب القسم الأول (العقيدة =

ومقتضى ذلك أن تكون ناسخة لما قبلها (¬1)، كفيلة بإيجاد الحلول الملائمة لكل ما يجد في حياة الأمة الإسلامية من قضايا ومشكلات. ثالثًا: (الجزاء في الشريعة دنيوي وأخروي) (¬2): تقترن الأنظمة البشرية بجزاء توقعه عندما يقتضي الأمر ذلك في حق من يخرج عليها، وتتعدد صور ذلك الجزاء ولكنه جزاء دنيوي (¬3)، أما الشريعة الإسلامية فإنها (تختلف معها في أن الجزاء فيها أخروي ودنيوي، بل أن الأصل في أجزيتها هو الجزاء الأخروي، ولكن مقتضيات الحياة، وضرورة استقرار المجتمع، وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح بين مؤثر، وضمان حقوقهم، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي. . .) (¬4). والأمثلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى بعد ذكر أحكام المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ¬

_ = والآداب الإسلامية)، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (1398 هـ) - الرياض)، تصنيف وإعداد: عبد العزيز زيد الرومي، محمد بلتاجي، سيد حجاب، (بدون تاريخ). (¬1) لمزيد من الاطلاع على هذا الجانب وما أثير حوله من آراء: انظر: عبد الرحمن بن عبد اللَّه الدرويش: الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية: ص: (147، 148)، الطبعة الأولى: (1410 هـ، وأصله رسالة دكتوراه مقدمة لقسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، نوقشت عام: 1398 هـ). (¬2) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (38)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (38). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (38).

وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14]، وفي جزاء قطاع الطريق قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، ومما يترتب على الجزاء في الشريعة الإسلامية الخضوع لأحكامها (خضوعًاا ختياريًا في السر والعلن خوفًا من عقاب اللَّه) (¬1) في حالة النهي والتحذير والطمع في الثواب في حالة الأمر والندب، إلى جانب ما يبعثه الجزاء في النفوس (من الهيبة والتأثير) (¬2). رابعًا: (الشمول والإحاطة: فما من عمل يعمله الإنسان أو قول يقوله إلا والشريعة الإسلامية قد اتخذت منه موقفًا بعينه، تأمر به، أو تنهى عنه، أو تندب إليه، أو تكرهه، أو تجعله من المباحات، ومن هنا كانت الأخلاق والعادات والأعمال، صغيرها وكبيرها مما تعنى به الشريعة الإسلامية أشد عناية حتى تلك الأمور التي يهتدي إليها الإنسان بفطرته كالأكل والنوم واللباس تضع الشريعة لها حدودًا، وترسم لها أبعادًا، وما من علاقة تسود المجتمع بين أفراده، أو المجتمع المسلم من المجتمعات الأخرى إلا وضعت الشريعة لها نظامًا، وحددت لها آدابًا، وما من قضية تتصل بنظام الاجتماع الإنساني، من سياسة أو اقتصاد أو إدارة إلا وبينت الشريعة الإسلامية فيها الرأي الصائب والموقف السديد) (¬3)، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي ¬

_ (¬1) انظر: فاطمة السيد علي سباك: الشريعة والتشريع: ص: (14)، من سلسلة دعوة الحق، عن رابطة العالم الإسلامي بمكة، العدد: [173]، جمادى الأولى: (1417 هـ). انظر عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (36، 37، 38). (¬2) فاطمة علي سباك: المرجع السابق نفسه ص: (15). (¬3) علي عبد الحليم محمود: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، ص: (66)، (بحث مدرج بهذا العنوان ضمن البحوث المقدمة في المؤتمر الذي عقدته جامعة الإمام =

الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. وانطلاقًا من هذا الشمول وتلك الإحاطة قسَّم بعض العلماء أحكام الشريعة إلى ثلاث مجموعات: الأولى: الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان باللَّه واليوم الآخر. . .، وهذه هي الأحكام الاعتقادية، ومحل دراستها في علم الكلام أو التوحيد. والثانية: الأحكام المتعلقة بالأخلاق كوجوب الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وحرمة الكذب والخيانة ونقض العهد، وهذه هي الأحكام الأخلاقية، ومحل دراستها في علم الأخلاق والتصوف. الثالثة: الأحكام المتعلقة بأقوال وأفعال الإنسان في علاقاته مع غيره، وهذه هي الأحكام العملية، وقد سميت فيما بعد بـ (الفقه) ومحل دراستها علم الفقه. والأحكام العملية بالنسبة إلى ما تتعلق به تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: العبادات كالصلاة والصوم، والمقصود بها تنظيم علاقة الفرد بربه. القسم الثاني: العادات أي المعاملات، وهي التي يقصد بها تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وهذه تشمل جميع روابط القانون العام والخاص في الاصطلاح الحديث. . .) (¬1). ¬

_ = محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة: (1396 هـ)، مؤتمر الفقه الإسلامي)، ونشر عنها، 1404 هـ - 1984 م الرياض. (¬1) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (50)، (مرجع سابق)، ولمزيد من التفصيل انظر: المرجع نفسه: ص: (49 - 53)، وانظر: محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (52، 53)، (مرجع سابق).

ولا يعني هذا التقسيم أو أي تقسيم نحوه استقلال جانب عن غيره من جوانب الشريعة، بل تتسم بالإحاطة والشمول من جانب آخر، وهو (شمول الأخذ والتطبيق فمن خصائصها أنها لا تقبل التجزئة لأنها كل مترابط متداخل، كترابط الإنسان وتداخله في كيان واحد) (¬1)، يؤثر بعضه في بعضه الآخر، ولا يصح (أن يؤخذ ببعضه ويترك بعضه؛ لأنه كل متكامل لا يمكن الاستغناء عن شيء منه بحال، ولا يستطيع نظام آخر من أنظمة البشر أن يحل محله أو محل بعضه أو يشاركه في تحقيق مصالح الناس) (¬2). وقد أنكر اللَّه على الذين يلتزمون ببعض أحكام الشريعة ويطبقونها ويفرطون في بعض أحكامها الأخرى ولا يلتزمون بها، بل ربما عملوا بضدها، فقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. قال ابن كثير في تفسيرها: (يقول اللَّه تبارك وتعالى منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج. . . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر. . وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم. . . ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملًا بحكم التوراة) (¬3)، فدلَّ ذلك على أن الشريعة لا تقبل التجزئة، وأنها ملزمة ومرتبطة بالإيمان. خامسًا: الثبوت والتحول اشتملت الشريعة الإسلامية على أحكام ثابتة ¬

_ (¬1) محمد رأفت سعيد: المدخل لدراسة النظم الإسلامية: ص: (51)، (مرجع سابق). (¬2) علي عبد الحليم محمود: الغزو الفكري. .: ص: (66)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) تفسير القرآن العظيم: (1/ 120)، (مرجع سابق).

قطعية وأخرى متغيرة واسعة مما حقق للشريعة خصيصة المرونة والسعة إلى جانب الثبوت والاستقرار (¬1)، وقد كفلت هذه الخصيصة صلاح الشريعة لكل زمان ومكان؛ لأنَّها (تلائم كافة متطلبات الحياة ومختلف متغيرات الاجتماع البشري) (¬2). وقد انقسمت أحكامها من أجل ذلك إلى قسمين: أحدهما: (قسم ثابت قطعي لا يتأثر بتغير الزمان والمكان والناس، وهو يتمثل بالأمور الثلاثة التالية: 1 - الأحكام القطعية الصريحة الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، كحرمة الزنى والخمر والميسر والربا، وكأنصبة الورثة من مورثهم، وكالحدود: وهي العقوبات المقدرة على جرائم بعينها؛ كحد السرقة، وحد الزنى، وحد القذف، وما إلى ذلك. ¬

_ (¬1) خصص يوسف القرضاوي قسمًا من كتابه مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (147 - 229)، للحديث عن عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، طبعة دار وهبة: (1990 م)، القاهرة، ويبدو أن أساسه مقدم لمؤتمر الفقه الإسلامي ضمن بحوث: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية. . .: ص: (67 - 140)، (المرجع السابق نفسه)، وتبين هذه العوامل بشكل تفصيلي هذه الخصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية، في عدة نقاط هي: 1 - سعة منطقة العفو المتروكة قصدًا. 2 - اهتمام النصوص بالأحكام الكلية. 3 - قابلية النصوص لتعدد الأفهام. 4 - رعاية الضرورات والأعذار والظروف الاستثنائية. 5 - تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف، وانظر: عبد الحميد محمود طهماز: ميزات الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية: ص: (53 - 58)، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م)، عن دار القلم - دمشق. (¬2) علي عبد الحليم محمود: الغزو الفكري: ص: (68)، (مرجع سابق).

2 - الضوابط العامة التي لا يجوز لمسلم أن يتجاوزها في تصرفاته وأعماله كحد عدد الزوجات بأربع، وحد الطلاق بثلاث مرات، وحد الثلث للوصية، وغير ذلك. 3 - القواعد العامة التي يعرف بها الحلال من الحرام، مثل حرمة كل شيء مسكر، وحرمة كل بيع لا يتم فيه تبادل منفعة بين الجانبين على تراضٍ منهما، ومثل قوامة الرجال على النساء) (¬1). فهذه الأحكام ثابتة لا تتأثر باختلاف الزمان والمكان ولا تتحول. والآخر: (قسم متغير متطور يخضع للمتطلبات الآتية في كل زمان ومكان، وهذا القسم يتمثل في الأمور التالية: 1 - تفسير الأحكام: أو تأويلها من لدن رجال الفقه الإسلامي بحيث يسوغ هذا التفسير اليوم، وربما يسوغ غدًا ما دام التفسير مؤيدًا بالقرائن والدلائل وهو باب اتسع وما يزال يتسع في مختلف العصور التي مرت على المسلمين. 2 - القياس: وهو تطبيق حكم شرعي ثبت في قضية ما، على قضية أخرى تماثل تلك القضية أو قياسها عليها (¬2)، وهو باب رئيس في هذه [الأحكام] المتغيرة المتطورة. 3 - الاجتهاد: وهو فهم قواعد الشريعة وأصولها العامة فهمًا دقيقًا واعيًا، ثمَّ تطبيق هذه القواعد والأصول على قضايا جديدة لم تكن لها نظائر في السابق (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (69). (¬2) وضابطه عند علماء الأصول: (حمل فرع على أصل في حكم، بجامع بينهما). الطوفي: شرح مختصر الروضة: (3/ 219)، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، (مرجع سابق). (¬3) وضابطه عند علماء الأصول: (بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع). المرجع السابق نفسه: (3/ 576).

4 - الاستحسان: وهو وضع ضوابط جديدة. . تحقق مصلحة عامة المسلمين جميعًا أو مصلحة عامة لبعض الأفراد منهم بحيث لا تتعارض تلك المصلحة مع شيء من قواعد الإسلام وأصوله وروحه. (هذا القسم المتغير المتطور هو الذي يتيح لأهل الرأي وأصحاب الحل والعقد من المسلمين أن يضعوا من النظم لكل عصر ما يناسبه، ولكل زمان ما يليق به متجاوبين في ذلك مع مصالح المسلمين المتجددة المتغيرة) (¬1). وبهذه الخصيصة حققت الشريعة الإسلامية الملاءمة التامة لحياة الأمة الإسلامية؛ فما كان ثابتًا في حياتها، فأحكامه في الشريعة ثابتًا، وما كان متطورًا فإن الشريعة تحدث له حلولًا تلائمه، ومن الأمثلة على ذلك: (أن الفتوى تتغير باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والنيات) (¬2). (من هنا فإنَّ الشريعة الإسلامية نظام لا يعيش في فراغ، ولا يمعن في الخيال، وإنما يتميَّز بالواقعيَّة وسهولة التطبيق) (¬3) واتصاله التام بحياة الأفراد والأمة وطبيعة الحياة. ومن جانب آخر فإن مصادر التشريع الإسلامي (الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس) مجال رحب يعمل المجتهد فكره في إطارها للكشف عن حكم شرعي أو إيجاد حل لما قد يعتور مسيرة الأمة، ويجد في ¬

_ (¬1) من معانيه عند علماء الأصول: (أحد القياسين لكن سمي استحسانًا، إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل، وأن العمل بالآخر جائز). المرجع السابق نفسه: (3/ 199)، وانظر: الشاطبي: الاعتصام: (2/ 635 - 668)، تحقيق الهلالي، (مرجع سابق). (¬2) علي عبد الحليم محمود: الغزو الفكري. .: ص: (69، 70)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/ 11 - 38)، ترتيب وضبط وتخريج: محمد عبد السلام إبراهيم، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م) عن دار الكتب العلمية - بيروت.

حياتها، وذلك وفق ضوابط شرعية مقررة تتميَّز بها الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، ممَّا جعل الشريعة الإسلامية تنطوي على عوامل البقاء والاستمرار على كر الجديدين محفوظة بحفظ اللَّه، ومحققة للخير والسعادة والفلاح للأمة في العاجل والآجل) (¬1). سادسًا: العدل والإحسان والمساواة، فاللَّه أنزل شريعته الإقامة العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم، فلا مجال فيها لأدنى ميل وانحراف عن ميزان العدل) (¬2)، والذي صدرت عنه الشريعة -جل جلاله- (حرم الظلم على نفسه لكماله وغناه وحكمته، وحرمه بين الناس، كما جاء في الحديث القدسي الشريف: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" (¬3)،. . . وأمر سبحانه بالعدل، وجعله أعظم الأمانات ومسؤوليات الحاكم المسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] (¬4)، والعدل مطلوب حتى مع العدو. . . قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. وتطبق المساواة في الشريعة الإسلامية بالصفة الصحيحة (فلا امتياز لأحد في ظل الشريعة الإسلامية، فاللَّه سبحانه هو الذي شرعها، وهو ¬

_ (¬1) علي عبد الحميد محمود: المرجع السابق نفسه: ص: (66، 67). (¬2) عن أثر الاجتهاد في المحافظة على منهاج الأمة وعقيدتها. إنظر عابد السفياني: بهذا العنوان نفسه، مجلة البيان، العدد: [25]، رجب: (1410 هـ) في الصفحات: (16 - 20)، تصدر عن المنتدى الإسلامي، لندن. (¬3) عبد الحميد محمود طهماز: ميزات الشريعة الإسلامية: ص: (75)، (مرجع سابق). (¬4) رواه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1994) كتاب البر - رقم الحديث [2577]، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

المالك الخالق لجميع المخلوقات، والناس كلهم عبيده، وهم سواء أمام شرعه) (¬1). والأمثلة على هذه الخصيصة كثيرة جدًا في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد سطر التاريخ ذلك الموقف الفذ لرسول الأمة وقدوتها -صلى اللَّه عليه وسلم- حينما سرقت المرأة المخزومية، وتحركت فيها الشفاعة لشرف قبيلتها ومنزلتها، فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي اللَّه عنه- وهو (حب الرسول وابن حبه): "أتشفع في حدٍّ من حدود اللَّه. . . وأيم اللَّه لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (¬2). (وتمتاز الشريعة أيضًا أنها سنت إلى جاذب العدل الإحسان والفضل، وهي مرتبة رفيعة ندبت إليها الشريعة، وحثت عليها) (¬3). . وبهذا حققت المثل الأخلاقية الرفيعة التي دعت الناس إليها، كالعفو والإيثار والتسامح،. . . والإحسان والفضل مقترن مع كثير من أحكام الشريعة (¬4). .، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، ¬

_ (¬1) عبد الحميد محمود طهماز: المرجع السابق نفسه: ص: (79). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (3/ 1315)، كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، الحديث رقم: [1688]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) عبد الحميد محمود طهماز: ميزات الشريعة الإسلامية: ص: (77)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (77 - 79)، ولمزيد من الاطلاع على ما تتسم به الشريعة من التزام بالقيم الخلقية. انظر: محمد عبد اللَّه دراز: دستور الأخلاق في القرآن: ص: (21 - 134)، تعريب وتحقيق وتعليق: عبد الصبور شاهين، الطبعة الأولى: (1393 هـ - 1973 م)، عن دار البحوث العلمية، الكويت. وانظر: يوسف القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (152 - 118)، (مرجع سابق)، وقد أورد أمثلة كثيرة تدل على أخلاقيات الشريعة، وأن هذه الأخلاق تشمل حتى =

وقال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]. وقد قرر بعض الباحثين -في مقارنة أجراها بين الشريعة والقانون- أن الشريعة (جاءت بتقنين الأخلاق، أي: جعل الأوامر والأحكام الأخلاقية قوانين ملزمة) (¬1)، بخلاف القانون الذي جاء على (أساس تقنين العادات، أي: صياغة ما تعارف عليه الناس من أوضاع وتقاليد في صورة قوانين) (¬2). وهنا يلحظ الفارق الكبير بين نظام ينظر للواقع، وينقاد لما فيه أخلاط الخير والشر والفضيلة والرذيلة والحق والباطل، وبين نظام يرتقي بالواقع وينطلق من تربية الناس على الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتنمية الخير ومكافحة الشر، ولزوم الحق ومدافعة الباطل، وإذا كان هذا هو نظام شريعة الإسلام فإنها أقرب إلى نفوس الناس من جانب آخر؛ لأنهم يلتزمونها باعتبارها من الدين (فيلتزمون بها التزامًا طوعيّا نابعًا من أعماق قلوبهم، ولا يساقون إليها بعصا السلطان وقهر الحكام، بل بصوت من القلب ورهبة من الدَّيَّان، ورغبة في النعيم المقيم فتكون الطاعة إرهاقًا للإحسان، وإيقاظًا للمشاعر، وتنمية لنوازع الخير وتطهيرًا للنفس من نوازع الشر. . . إنَّ ربط القانون الإسلامي بالدين جعله مرتبطًا كل الارتباط بقانون الأخلاق) (¬3). ومن مظاهر الفضل والإحسان في الشريعة الإسلامية واتسامها ¬

_ = الحيوان والرفق به، كما أن الشريعة الإسلامية لا تقتصر على تشريع أحكام للأخلاق والآداب، بل تربي الأمة عليها وتأخذ بيدها لتتحلى بالفضائل، وتبتعد عن الرذائل. (¬1) يوسف القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (104)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (104). (¬3) عبد الحميد محمود طهماز: ميزات الشريعة الإسلامية. .: ص: (100)، (مرجع سابق).

بالأخلاق النبيلة، ما قرره فقهاؤها من (عدم جواز تسليم الأجنبي في الدولة الإسلامية إلى دولته ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم؛ لأن الأجنبي دخل بأمان، وعلى الدولة الإسلامية أن تفي بعهدها له فيبقى آمنًا لا يمسه سوء، وتسليمه بدون رضاه غدر بالأمان لا رخصة فيه فلا يجوز) (¬1). ومن مظاهر العناية بالأخلاق، (أن الأجنبي الداخل إلى دار الإسلام بأمان تؤخذ منه ضريبة على أمواله التجارية بمقدار ما تأخذه دولته من المسلم إذا دخل إليها بأموال تجارية، ولكن إذا كان المأخوذ من المسلم كل ماله فإنَّ الدولة الإسلامية لا تفعل فلك بالنسبة لرعايا تلك الدولة، ويعلل الفقهاء هذا المسلك بأنَّ أخذ أموال الأجنبي ظلم ولا متابعة بالظلم، وإننا لا نتخلق بأخلاقهم وإن تخلقوا هم بها بل نهينا عنه، كما لو قتلوا الداخل إليهم منَّا بأمان لا نقابلهم بالمثل، فلا نقتل من دخل إلينا منهم بأمان) (¬2). ومن مظاهر عناية الأمة الإسلامية بالأخلاق في تعاملها مع أهل الذِّمَّة تحقيقًا لما تأمر به الشريعة ما روي (أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة بالبصرة: أمَّا بعد. . . وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن ¬

_ (¬1) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (51)، (الحاشية)، (مرجع سابق)، ولمزيد من الاطلاع على سماحة الإسلام في التعامل مع الآخرين وما تتسم به تشريعاته من وفاء بالعهد ورعاية الأنفس والأموال؛ انظر: الإمام محمد بن الحسن الشيباني: السير الكبير وشرحه للإمام السرخسي: (2/ 355)، وقبلها: (1/ 70، 71، 72)، تحقيق: مصطفى زيد، ومحمد أبو زهرة، طبعة جامعة القاهرة: (1958 م)، وانظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (51، 52)، (مرجع سابق). (¬2) عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (46): ص: (51)، (الحاشية).

كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فقد بلغني: أن عمر بن الخطاب مرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه) (¬1). سابعًا: أنَّها (مبنيَّة على مصالح العباد) (¬2)، قال ابن قيم الجوزية: (هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته ¬

_ (¬1) عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (46)، وانظر: القاضي أبو يوسف: كتاب الخراج: ص: (126)، أورد قصة عمر بن الخطاب مع ذلك الرجل المسن من أهل الذمة وما تفضل به أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- من عطاء له ولأمثاله من أهل الذمة. . ولكن لم أجد لكتاب عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه- المشار إليه أي ذكر على الرغم من البحث المتقصي في سائر الكتاب، ولكن توجد مواقف كثيرة تدل على الإحسان بأهل الذمة؛ انظر: المرجع نفسه: ص: (122 - 126)، طبعة دار المعرفة، بيروت، (بدون تاريخ)، وانظر: أبو عبيد القاسم بن سلم: كتاب الأموال: ص: (46 - 54)، تحقيق: محمد خليل هراس، الطبعة الأولى: (1406 هـ - 1986 م)، عن دار الكتب العلمية، بيروت. (¬2) ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/ 11)، (مرجع سابق)

الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم. . .) (¬1). وقال العز بن عبد السلام: (والشريعة كلها مصالح، إمَّا تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح) (¬2)، والمستقرئ لأحكام الشريعة الإسلامية يخلص إلى هذه النتيجة من وجوه: الأول: أنَّ رسالة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- بعامة جاءت رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فيدخل في ذلك ضمنًا (رعايا مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم) (¬3). الثاني: مجيء أحكام الشريعة -في جملتها- معلِّلة بكونها تحقق مصالح الأمة وتدرأ عنهم المفاسد (¬4)، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وكقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وكقول الرسول: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين. . .: (3/ 11)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (1/ 9)، طبعة دار المعرفة - بيروت، (بدون تاريخ). (¬3) انظر: الشاطبي: الموافقات: (2/ 29)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (40)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (40)، وانظر: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: ص: (45)، (مرجع سابق)، وقد بين أن من أحكام الشريعة ما هو معلل ومنها ما هو تعبدي محض لم يهتد إلى حكمته ومنها ما هو متوسط بين النوعين، وشرح ذلك في الصفحات: (45 - 48)، (المرجع السابق نفسه).

للبصر وأحصن للفرج" (¬1)، هذه الأحكام في مجملها لم تأت في مواد محددة تنص على فعل أو ترك، وإنما جاءت معلِّلَة بما به حياة النفوس وذكر الغاية من التشريع، وأنَّه في مصلحة الأمة إمَّا بجلب مصلحة أو دفع مفسدة في العاجل أو الآجل الإعلام المكلفين إنَّ تحقيق المصالح هو مقصود الشارع) (¬2). الثالث: اتسام أحكام الشريعة باليسر ورفع الحرج، ومن الأمثلة على ذلك (تشريع الرخص عند وجود مشقة في تطبيق الأحكام من ذلك إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها حفظًا لمصلحة بقاء النفس، وإباحة المحرم عند الضرورة كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر، وإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض ونحو ذلك. ولا شك أن دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة) (¬3). ومن يسر الشريعة التدرج في التشريع والتمهيد له وتخفيف بعض الأحكام بالنسخ ونحوه (¬4). وقد تواصل الفقهاء إلى وضع ضوابط فقهيَّة تنطلق في مجملها، وتتسم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (5/ 1950)، كتاب النكاح، الحديث رقم: [4779]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم: (2/ 1518)، كتاب النكاح، الحديث رقم: [1400]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (41)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة. .: ص: 73 - 77)، (مرجع سابق). (¬3) عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (41)، ولمزيد من الاطلاع انظر الشاطبي: الموافقات: (1/ 131، 223، 268)، ناقش فيها العزائم والرخص باستفاضة وتفصيل، (مرجع سابق). (¬4) انظر: محمد يوسف موسى: الإسلام وحاجة الإنسانية إليه، ص: (193 - 196)، الطبعة الرابعة: (1400 هـ - 1980 م)، مكتبة الفلاح - الكويت.

تفاصيلها باليسر ورفع الحرج عن المكلفين، وخصصوا لها كتبًا مستقلة من أبرزها: (كتاب تأسيس النظر للدبوسي الحنفي، وكتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام الشافعي، وكتاب القواعد لابن رجب الحنبلي) (¬1)، (والقواعد الفقهية. . تصوير جميل للمبادئ الفقهية وضبط الفروع، وقد اكتسبت هذه القواعد صياغتها عن طريق التداول بين الفقهاء) (¬2). ومن أبرز هذه القواعد الآتي: - اليقين لا يزول بالشك. - المشقة تجلب التيسير. - الضرر يزال. - العادة محكمة (¬3). الرابع: التفاوت في النظر إلى الأحكام وتقسيمها من حيث مقاصدها، (وجد بالاستقراء أنَّ مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حلَّ الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضرورات هي: (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل) (¬4)،. . . والحاجيات هي التي ¬

_ (¬1) كتاب تأسيس النظر، تأليف: أبي زيد عبد اللَّه بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي، الطبعة الثانية: (1415 هـ - 1994 م)، عن مكتبة الخانجي، القاهرة وكتاب قواعد الأحكام. . لعز الدين. . . يتكون من جزءين في مجلد واحد، الطبعة الثانية: (1408 هـ - 1988 م)، عن دار الجبل - بيروت. (¬2) كامل موسى: المدخل إلى التشريع الإسلامي: ص: (47)، الطبعة الأولى: (1410 هـ - 1989 م)، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬3) انظر: كامل موسى: المدخل إلى التشريع الإسلامي: ص: (47، 48، 50، 52)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: مناع خليل القطان: الشريعة الإسلامية: ص: (59، 60)، الطبعة الثانية: (1404 هـ - 1984 م)، عن الدار السعودية للنشر. .، جدة. (¬4) الشاطبي: الموافقات: (2/ 8)، (مرجع سابق).

يحتاج إليها الناس ليعيشوا بيسر وسعة، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة ولكن يلحق (المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. . . أما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق) (¬1)،. . . وإذا فاتت هذه -أيضًا- فلا يختل نظام الحياة ولا يصيب الناس حرج ولكن تخرج حياتهم عن النهج الأقوم وما تستدعيه الفطر السليمة والعادات الكريمة، والشريعة جاءت لتحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وبهذا حفظت مصالحهم) (¬2). وبناءً على ذلك فإنَّ الأحكام الشرعية تتفاوت بصفة أو أخرى بحسب درجة تلك المقاصد (¬3)، وتسعى لتحقيقها في عامة الأمة (بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع، فهي ترتقي بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى بمقدار ما تسمح به الأحوال وتيسر حصولها؛ وإلا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد) (¬4)، وهذا الوجه يسهم في (دوام أحكام الشريعة للعصور والأجيال) (¬5). ¬

_ (¬1) الشاطبي: المرجع السابق نفسه: (2/ 8). (¬2) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (41)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: يوسف القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (81، 82)، (مرجع سابق)، وقد ساق نماذج من ذلك التفاوت بدءًا بما حدث في عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد عمر بن عبد العزيز، ثم ما أفتى به الفقهاء وكان متفاوتًا في الأحكام بالنظر إلى مقاصد الشريعة. (¬4) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: (76، 77)، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (15).

ومهما تشعبت آراء الفقهاء في تفاصيل المقاصد وتطبيقاتها (¬1) إلا أنَّ هناك قدرًا مشتركًا -في الأعم الأغلب- فيما بينهم حول (أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، وهو نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات، فكليات الشريعة ومقاصدها العامة، هي أصول قطعية لكل اجتهاد، ولكل تفكير إسلامي) (¬2). ويرى بعض الباحثين أنَّ ما أقدم عليه علماء الأمة بعد الصدر الأول من تاريخها من (بيان علل الأحكام وغايات الإسلام ومقاصد الشريعة وأهدافها، فبينوا أن لكل حكم من أحكام الإسلام وظيفة يؤديها وغاية يحققها وعلَّة ظاهرة أو كامنة يعمل لإيجاده، ومقصدًا وهدفًا يقصده ويستهدفه لتحقيق مصلحة للإنسان، أو دفع مفسدة ومضرة عنه) (¬3)، إنَّ ذلك كله وما دار في إطاره يمكن الاعتماد عليه كمنهج في فهم الشريعة الإسلامية وبخاصة ما تميَّز به الشاطبي في هذا المضمار، وأنَّ ما سمي بـ (نظرية المقاصد عند الشاطبي) (¬4) يمكن أن يعاد لها الاعتبار (ولابدَّ من وضعها في المقام الأول، ثم يرتب ماعداها عليها. وهذه خطوة ضرورية لإعادة تشكيل العقل المسلم، ولإعادة ترتيب موازينه وأولوياته، ذلك أن ¬

_ (¬1) انظر: خلاصة آراء الفقهاء بصدد تعديل الأحكام الشرعية على أساس المصلحة العامة لدى: أحمد زكي يماني: الشريعة الخالدة ومشكلات العصر: ص: (41 - 46)، الطبعة الثالثة: (1402 هـ - 1983 م)، عن الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة. (¬2) طه جابر العلواني: مقدمة كتاب: أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: ص: [د]، الطبعة الثانية: (1412 هـ - 1992 م)، عن الدار العالمية للكتاب الإسلامي - الرياض. (¬3) المرجع السابق نفسه، ص: [أ]. (¬4) انظر: أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، (المرجع السابق نفسه).

من أهم مظاهر أزمة العقل المسلم: اختلال الموازين والأولويات التي وضعها الإسلام في نصابها، فوقع فيها -على مرِّ العصور- تقديم وتأخير، وتفخيم وتقزيم، على خلاف وضعها الحق) (¬1). وفي ختام هذا يحسن الربط بين الشريعة الإسلامية بخصائصها ومنطلقاتها وغاياتها وبين ما قاله ابن منظور في معناها اللغوي من أنَّ (العرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يسقى بالرِّشاء) (¬2)، فإنَّ هذا المعنى متحقق في الشريعة الإسلامية وهي بخصائصها التي سبق شرح مجملها تعد من مقومات تميُّز الأمة الإسلامية ذلك التميُّز الذي تسنَّم القمة في تاريخ الأمم والشرائع عندما أنزل الحق سبحانه وتعالى على رسوله محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم الأنبياء وسيد المرسلين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وكانت حكومة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- النموذج الأمثل في تطبيق الشريعة، والسلطة السياسية التي تنفذها وتشرف على تطبيقها (¬3)؛ دستورها كتاب اللَّه وسنّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم سارت الأمة منذ عهد الصحابة والسلف الصالح وحتى العصر الحاضر، وإلى أن يأتي أمر اللَّه في ظل هذه الشريعة الخالدة، (ومن الحقائق المسلمة أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله على تنائي أطرافه وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضاريَّة، وتجدد مشكلاته الزمنيَّة. . . وأنَّها -بمصادرها ونصوصها وقواعدها- لم تقف يومًا من الأيام مكتوفة اليدين أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيِّرة. . وأنَّها ظلت القانون المقدس المعمول به في بلاد الإسلام ¬

_ (¬1) طه جابر اللواني: مقدمة المرجع السابق نفسه: ص: [د]. (¬2) لسان العرب: مادة (شرع)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: علي عبد الحليم محمود: الغزو الفكري. .: ص: (67، 68)، (مرجع سابق).

حوالي ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، إلى أن جاء عهد الاستعمار الغربي الذي استبدل بها تشريعاته الوضعية. . .) (¬1)، ثم استمرت بعض تلك القوانين كأثر من آثار الاستعمار ولأسباب أخرى، منها الاعتماد على بعض التأويلات للنصوص الشريعة التي تنص على وجوب تطبيق الشريعة بما يبرر هذا الواقع (¬2)، ومنها الجهل بمكانة الشريعة وشمولها وكمالها، ومنها التأثر بالثقافة الغربية والغزو الفكري ومخططات أعداء الأمة الإسلامية (¬3). على أنَّ هناك أسبابًا أخرى تعود لما أصاب الفقه الإسلامي في بعض أطواره من (الضعف والركود والتوقف عن سيرة الأول شيئًا فشيئًا، [والجنوح] إلى التقليد والتزام مذاهب معيَّنة لا يحيد عنها، ولا يميل حتى وصل الحال إلى الإفتاء بسد باب الاجتهاد) (¬4). وممَّا ينبغي ذكره في هذا الصدد أنَّه على الرغم من هذا الواقع فإنَّ هناك جهودًا قام بها الفقهاء ومجتهدي الأمة حفظت للأمة الإسلامية تميُّزها من خلال المؤلفات التي أنجزوها، والتجديد الذي سلكوه (¬5). ¬

_ (¬1) يوسف القرضاوي: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية (ضمن بحوث): وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها: ص: (71)، (من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام بالرياض سنة: (1396 هـ)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: خلاصة تلك التأويلات ونقدها لدى: أحمد محمد جمال: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، ص: (317، 319)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: مناع القطان: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية: ص: (213 - 216)، (المرجع السابق نفسه)، ولمزيد من المعرفة بذلك. انظر: مناع القطان: معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1991 م)، عن مكتبة وهبة - القاهرة. (¬4) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص: (122)، (مرجع سابق). (¬5) انظر: محمد الدسوقي وأمينة الجابر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي: ص: (234، =

وفي العصر الحديث ظهرت اهتمامات تمثلت في (دراسة الفقه الإسلامي دراسة مقارنة وإظهار مزاياه وخصائصه وكثرة التأليف في مباحثه وظهور المبرزين فيه الجامعين بين الثقافة القانونية والثقافة الشرعية) (¬1)، وعلى الرغم مما يكتنف هذه الاهتمامات من المخاوف والمحاذير إلا أن الأمل معقود في (أن يزداد الاهتمام بالشريعة الإسلامية وفقهها حتى تعود إلى مكانتها الأولى وتسترد سيادتها القانونية، وتمد هي والفقه الإسلامي [الأمة الإسلامية] بالتشريعات اللازمة في جميع شؤونها كما كان الأمر في السابق) (¬2). وكما شهد بعض رجال الديانة النصرانية ورعاياها بفضل الشريعة الإسلامية، وما تتسم به من الرحمة والعدل والإحسان والمساواة في بداية انتشار الإسلام فقد دار التاريخ دورته، وعاد المنصفون من الغربيين ليؤكدوا الشهادة ذاتها. فأمَّا في بداية انتشار الإسلام، و (لمَّا بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن بقيادة أبي عبيدة كتب أهالي هذه البلاد المسيحيون إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين! أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، إنَّكم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا) (¬3). ¬

_ = 235)، (مرجع سابق)، "حيث أوردا نماذج من علماء الأمة مثل ابن تيمية وابن قيم الجوزية والعز بن عبد السلام. .، وغيرهم، وألمحا لجهودهم في الاجتهاد ومحاربة التقليد). (¬1) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة. .: ص: (129)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (128). (¬3) محمد يوسف موسى: الإسلام وحاجة الإنسانية إليه: ص: (282)، (مرجع سابق). ذكره الأزدي في كتابه: تاريخ فتوح الشام: ص: (155، 156)، تحقيق عبد المنعم =

وأما في العصر الحديث: (فهذا مؤتمر القانون المقارن المعقود في لاهاي سنة 1937 م الذي حضره مفكرون وباحثون من الغرب ومن مختلف أنحاء العالم وشاركوا فيه، يقرر: 1 - اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام. 2 - اعتبار الشريعة الإسلامية شريعة حيَّة. 3 - اعتبارها قائمة بذاتها ليست مأخوذة عن غيرها) (¬1). وإذا كانت المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقًا كاملًا، ويستمد الحكم فيها (سلطته من كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهما الحكمان على جميع أنظمة الدولة) (¬2)، وأنَّ الحكم فيها يقوم (على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية) (¬3)، فإنها قد حققت تميُّزًا لفت نظر العالم من ¬

_ = عبد اللَّه عامر، طبعة مؤسسة سجل العرب، القاهرة، (1970 م)، وذكر البلاذري عن أهل حمص أنهم قالوا للمسلمين (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغش ولندفعن جند هرقل مع عاملكم)، فتوح البلدان: ص: (143)، تحقيق رضوان محمد رضوان، عن دار الكتب العلمية، (1412 هـ - 1991 م)، بيروت، وانظر: أحمد محمود الحوفي: سماحة الإسلام، العدد الرابع من سلسلة: دراسات إسلامية، عن مكتبة نهضة مصر بالفجالة القاهرة (بدون تاريخ): ص: (90). (¬1) السيد محمد علوي مالكي: كمال التشريع الإسلامي، محاضرة مدرجة في ندوة المحاضرات (مجموعة محاضرات ثقافية للموسم: (1393 هـ/ 1394 هـ و 1394 هـ/ 1395 هـ، برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة): ص: (4)، عن دار عكاظ للطباعة والنشر - جدة، وانظر: كامل موسى: المدخل إلى التشريع الإسلامي: ص: (189، 190)، (مرجع سابق). (¬2) النظام الأساسي للحكم، الرقم [أ / 90]، التاريخ: (27/ 8/ 1412 هـ)، الباب الثاني، المادة السابعة، منشور بملحق المجلة العربية: (1414 هـ - 1993 م): ص: (13). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (13)، المادة الثامنة.

حولها وأظهر كبار رجال القانون والفكر في الغرب إعجابهم بذلك، يقول المستر (ماك برايد): (من هنا ومن هذا البلد الإسلامي [أي: المملكة العربية السعودية] يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان، وإنَّه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي، والتي كان الجهل بها سببًا لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين. . .) (¬1). وقال آخر: (إني بصفتي مسيحيًا أعلن أنَّه هنا في هذا البلد الإسلامي يعبد اللَّه حقيقة، وأنَّ أحكام القرآن في حقوق الإنسان: هي بلا شك تفوق على ميثاق حقوق الإنسان) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) نقلًا عن: ندوة علمية فيما بين فريق من كبار علماء المملكة العربية السعودية وبين فريق من كبار رجال القانون والفكر في أوروبة حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام، يلحق بها مذكرة حكومة المملكة العربية السعودية حول شريعة حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقها في المملكة، الموجهة للهيئات الدولية المختصة: ص: (41، 42)، الطبعة الثانية: (1407 هـ - 1986 م)، نشر وزارة الإعلام - المملكة العربية السعودية من وقائع الندوات الثلاث التي نظمتها وزارة العدل في المملكة العربية السعودية، ابتداء من يوم الأربعاء: 7 صفر 1392 هـ - الموافق 22 مارس 1972 م. وانظر: ص: (3 - 6)، المرجع السابق نفسه، لمزيد الاطلاع على أسماء المشاركين في الندوة من الطرفين والتعريف بهم. (¬2) نقلًا عن المرجع نفسه: ص: (42).

موقف المستشرقين من الشريعة الإسلامية

موقف المستشرقين من الشريعة الإسلامية درج معظم المستشرقين (¬1) على الزعم بعدم أصالة الشريعة الإسلامية ودرسوها في ضوء منهج يقوم على تفتيتها إلى أجزاء عديدة، وذهبوا بكل جزء إلى أصل آخر في الموروثات الرومانية واليهودية والنصرانية والمجوسية (¬2)، وكذلك تقاليد الجاهلية وأعرافها كما فعلوا في مجال العقيدة وأظهروا مزاعمهم تلك بمظهر البحث العلمي والدراسات الموضوعية والمنهجية المتداولة في المجامع العلمية والمؤتمرات والدوريات الاستشراقية (¬3)، فضلًا عن تأليف الكتب العديدة (¬4)، وتدريس تلك المزاعم في الجامعات والمعاهد الاستشراقية. ¬

_ (¬1) انظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ص: 62)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي، ص: (81)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: جولدزيهر في مجلة تاريخ الأديان، سنة: (1901 م) ج 43، ص: (1) وما بعدها! (R.H.R) نقلًا عن: ج. هـ. بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره، دراسة مدرجة في كتاب: هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي، ص (56)، عن دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى: (1393 هـ - 1973 م) - بيروت. (¬3) مثل المؤتمر الدولي للقانون الرومي المنعقد سنة: (1933 م)، في روما؛ انظر: كارلو ألفونسو نالينو ومحمد حميد اللَّه وآخرون: هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي (المرجع السابق نفسه)، ص: (7). (¬4) مثل مؤلفات جولدزيهر ويوسف شاخت وقبلهما: دومينيكو غاتيسكي في مؤلفه: (المسمى كتاب يدوي للحقوق العثمانية العامة والخاصة: المطبوع في الإسكندرية: 1856 م). انظر: نالينو: نظرات في علاقة الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: المرجع السابق ص: (9). أما مؤلفات جولدزيهر فمنها: العقيدة والشريعة في الإسلام (مرجع سابق)، وأما يوسف شاخت فمن مؤلفاته في هذا المجال: أصول الفقه الإسلامي، صدرت طبعته =

ولا شك أن تلك الدراسات والبحوث ونحوها تهدف في مجملها إلى القضاء على مقومات تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة من خلال زعزعة الثِّقة في استقلالية شريعتها والتشكيك في أصالتها هذا من جانب، وتحاول من جانب آخر أن تبعدها (شيئًا فشيئًا عن قيمها وتراثها وفي مقدمة ذلك التشريعات التي تحكم حياتها) (¬1)، ومن ثمَّ تتهيَّأ الفرصة لدخول القوانين الوضعية في واقع الأمَّة وتحلّ محلّ الشريعة الإسلاميَّة حتى تصبح الأمة الإسلامية غريبة عن دينها، ويصبح انتماؤها إلى شريعة ربها اسمًا أو شكلًا فحسب (¬2). وتنوعت كتابات المستشرقين لبلوغ هذه الغاية وبخاصة إشاعتهم دعوى اعتماد الشريعة الإسلامية على مصادر غير إسلامية، مع التركيز على تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني بصفة خاصة، ويكاد يجمع المستشرقون على ذلك، وقد ينفي بعضهم ذلك التأثر، ولكنه يرجح تأثير التلمود اليهودي على الفقه الإسلامي (¬3)، ثمَّ يختلفون أيضًا في مقدار التأثر؛ ¬

_ = الثالثة عام: (1959 م)، وكتاب آخر اسمه: مدخل إلى التشريع الإسلامي، صدر عام: (1964 م)، انظر: أحمد فؤاد الأهواني: التشريع الإسلامي؛ مجلة الأزهر، [10]، المجلد [40]، ذي الحجة 1388 هـ - فبراير 1969 م: ص: (824). (¬1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي، مجلة حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر، العدد [5] 1407 هـ - 1987 م: ص: (722). وانظر: محمد الدسوقي وأمينة الجابر: مقدمة في دراسة الفقه الإسلامي، ص: (55)، (مرجع سابق)، وقد أدرجا مقال الاستشراق والفقه الإسلامي (المرجع السابق)، في هذا الكتاب في الصفحات: (37 - 57)، وقد اعتمدت العزو -في هذا المطلب- إلى المقال (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (707)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (725).

ويعالج البحث هنا الدعوى من جانبين

فبعضهم يزعم أن الشريعة الإسلامية ما هي إلا القانون الروماني أو هي (يهودية ذات نزعة عالمية) (¬1)، وبعضهم الآخر (يذهب إلى أن الفقهاء المسلمين تأثروا بهذا التلمود وذاك القانون في طرف مما كتبوا) (¬2). ويعالج البحث هنا الدعوى من جانبين: 1 - عرض نماذج من أقوال المستشرقين في دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بمصادر مختلفة، كالقانون الروماني، والتلمود اليهودي (¬3)، والتعاليم النصرانية، وأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام. 2 - نقد أقوالهم في دعوى تأثر الشريعة بتلك المصادر. الجانب الأول: عرض نماذج من آراء المستشرقين في دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بمصادر مختلفة، منها: ¬

_ (¬1) ج. هـ بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره: المقالة الثالثة المدرجة في كتاب: (هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي)، (مرجع سابق)، ص: (84)، وانظر: الدسوقي: (المرجع السابق نفسه): ص: (725). (¬2) الدسوقي: المرجع السابق نفسه، ص: (707). (¬3) التلمود يتكون من (المشنا)، وهي السنة الموسوية و (الجيمارة)، شرح تلك السنة من قبل علماء اليهود. انظر: الدسوقي: المرجع السابق، ص: (724)، وانظر: المراجع الآتية: * عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين: (اتهامهم الشريعة بالجمود وعلمائها الأقدمين بالتأثر بالقانون الروماني): ص: (45)، الطبعة الأولى: (1403 هـ - 1983 م)، عن شركة مكتبات عكاظ للنشر. .، جدة. * ث. ج. كولسون: في تاريخ التشريع الإسلامي، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج: ص: (137، 138)، تعليق المترجم، الطبعة الأولى: (1412 هـ - 1992 م)، عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنثر والتوزيع - بيروت. * ج. هـ. بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. . ص: (70)، (المرجع السابق نفسه).

أولا: القانون الروماني

أولًا: القانون الروماني: جنح معظم المستشرقين إلى القول بأن الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي تأثر بالقانون الروماني، ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي: 1 - يقول المستشرق (شلدون آموس): (إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلًا وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية) (¬1)، ويقول أيضًا: (إنَّ القانون المحمدي ليس سوى قانون جوستينان في لباس عربي) (¬2). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي، ص: (83)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد حميد اللَّه: هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي (تأثير الحقوق الرومية على الفقه الإسلامي)، ص: (27، 28)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد اللَّه العلي الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني ص: (68)، مجلة أضواء الشريعة، العدد: [14]، (1403 هـ -كلية الشريعة- الرياض، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق. . ص: (107)، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ص: (63)، (مرجع سابق)، وانظر: المراجع السابقة، وفد عزا محمد حميد اللَّه قول (شيلدون آموس) إلى كتابه الإنجليزي: تاريخ القانون المدني لروما وأصوله، ص: (456 - 415)، بصيغة قريبة من المثبت أعلاه. أما قانون جوستينان فهي: المدونة الشهيرة التي تتضمن صفوة التشريع الروماني من نصوص قانونية وآراء حقوقية، قام الإمبراطور الروماني (جوسثينان (JUSYINIEN) المتوفى في عام 565 م، بإنجازها خلال ست سنين: (528 - 534 م)، وألفت من أربعة كتب: (كوديكس، ديجست، أنستيتود، نوفل)، وأسهم فيها أساتذة يشتغلون تحت رعايته ويعملون في معهد حقوق بيزانس (القسطنطينية)، ومعهد حقوق بيروت. ولمزيد من الاطلاع على تاريخ هذه المدونة ومخطوطاتها ومصادرها وطبعاتها والقائمين عليها وأماكن وجودها في المكتبات الأوروبية، راجع: محمد محسن البرازي: حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني: ص: (1215)، (مرجع سابق). ولمزيد من الاطلاع على القانون الروماني قبل تلك المدونة وبعدها ومراحل تطوراته؛ =

2 - ذكر المستشرق الإيطالي (كارلو ألفونسو نالينو): بأن أول من زعم من المستشرقين إن القانون الإسلامي في جوهره مأخوذ من القانون الرومي هو (دومينيكو غاتيسكي)، في كتابه (كتاب يدوي للحقوق العثمانية) (¬1) إذ قال: (إن القواعد الرومية دخلت في الإسلام بسهولة) (¬2). 3 - وذكر -أيضًا- بأنه (منذ ذلك الحين وجد هذا الاشتقاق تأييد عدد كبير من الناس في الغرب، مع ألوان لا نهاية لها، فمنهم من ادعى هذه الفكرة بكل صراحة، ومنهم من قال بها على أنها شيءٌ فيه نصيب من الاحتمال وكانوا جميعًا إمَّا من القانونين غير المستشرقين [الذين] أفصحوا رأسًا أن الفقه الإسلامي في الأساس ليس إلا القانون الرومي بتبديل لا يذكر -كما قال هنري هيوغ-، وإما من الذين درسوا العلوم الإسلامية ولم يدرسوا العلوم القانونية جيدًا) (¬3)، بل بلغ الأمر ببعض المستشرقين إلى القول: (إنَّ العرب لم يضيفوا إلى القانون الرومي إلا بعض الأخطاء) (¬4). ¬

_ = راجع: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين: (اتهامهم الشريعة بالجمود وعلمائها الأقدمين بالتأثر بالقانون الروماني): ص: (39، 40، 41)، (مرجع سابق). وانظر: علي محمد جعفر: تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي، ص: (113 - 118)، الطبعة الأولى: (1406 هـ - 1986 م)، عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت. (¬1) انظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي؛ المقالة الأولى في كتاب هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي: ص: (9)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (9). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (9 - 10). (¬4) نقلًا عن فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على قانون الإسلامي؛ (المقالة الخامسة من كتاب هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي؟): ص: (118)، =

4 - كتب (جولدزيهر) تحت مادة (الفقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (بأنَّ مصادر التشريع الإسلامي لم تنضب بسبب وجود القانون الرومي) (¬1). 5 - أقام المستشرق (كاروزي) نظرية في الفقه الإسلامي تقول: (الفقه الإسلامي ليس إلا القانون الرومي بدون تغيير) (¬2). وعندما قال هؤلاء المستشرقون هذه الأقوال فإنهم يتبعونها باستدلالات لتؤكد ما ذهبوا إليه، ومن أبرزها الآتي: 1 - إنَّ النبي محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- كان على معرفة واسعة بالقانون الروماني، وممن قال بذلك، المستشرق (كاروزي)، يقول أحد الباحثين: (وقد بلغ الإسفاف في القول بالمستشرق الإيطالي (كاروزي) إلى أن يقرر أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان على علم واسع بهذا القانون) (¬3). 2 - إن الفقهاء المسلمين (قد تعرفوا على آراء فقهاء القانون الروماني وأحكام المحاكم الرومانية في البلاد التي كانت لا تزال فيها هذه المدارس والمحاكم قائمة بعد الفتح الإسلامي) (¬4)، وممن قال بهذا الاستدلال (جولدزيهر) و (سانتيلا) و (شيلدون آموس) (¬5). ¬

_ = تعريف: محمد سليم العوا، وأصل هذه المقالة نشر في مجلة القانون الفصلية الإنكليزية: (67/ 81 - 102)، (عدد يناير 1951 م بعنوان THE ALLEGED DEBT OF IAMIC TO THE ROMAH LAW) (¬1) دائرة المعارف الإسلامية، (مرجع سابق)، وانظر: بوسكه: سر تكون الفقه وأصل مصادره، (مرجع سابق) ص 62. (¬2) نقلًا عن مترجم مقالة بوسكه: سر تكون الفقه وأصل مصادره، (مرجع سابق) ص 58. (¬3) الدسوقي السيد الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي عن القانون الروماني والرد على شبه المستشرقين، ص 17، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م، عن مكتبة التوعية الإسلامية مصر. (¬4) زقزوق: الاستشراق. . . ص 107، (مرجع سابق). (¬5) انظر: الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي. .: ص: (24)، (مرجع سابق).

ثانيا: التلمود اليهودي

3 - وخصص المستشرق (فون كريمر) استدلاله على اثنين من فقهاء المسلمين في قوله: (إن اثنين من الفقهاء المسلمين الأوائل؛ الأوزاعي والشافعي، وقد ولدا في سورية وكانا على علم بكثير من قواعد القانون الروماني البيزنطي التي استمرت في صور عادات قانونية) (¬1). 4 - واستدل بعض المستشرقين على تأثير القانون الروماني في الفقه الإسلامي بسرعة تدوين الفقه الإسلامي، وأن ذلك لا يمكن تأويله إلا بوجود نماذج جاهزة اعتمد عليها المسلمون في تدوين تشريعهم (¬2). 5 - واستدلوا بالتشابه بين النظم القانونية في القانون الروماني والأحكام والقواعد في الشريعة الإسلامية، وبما أن القانون هو السابق، فإن الشريعة الإسلامية هي المتأثرة به (¬3). ثانيًا: التلمود اليهودي: وإذا كان عامة المستشرقين يتحدث عن عقيدة الإسلام باعتبارها مقتبسة من التوراة؛ فإن مسارهم العام نحو الشريعة الإسلامية هو نسبتها إلى التلمود اليهودي، وسبق ذكر مقولة بعضهم (بأن الإسلام يهودية ذات نزعة عالمية) (¬4) وفيما يأتي بعض الأمثلة على هذه الدعوى: أ- جاء في كتاب: قاموس الإسلام، تحت مادة (تلمود): (بأن الفقه ليس شيئًا آخر غير التلمود) (¬5). ¬

_ (¬1) فون كريمر: التاريخ الثقافي للشرق، ص: (447)، نقلًا عن: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (136)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الاسلامي. .: ص: (21، 20)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: محمد يوسف موسى: التشريع الاسلامي. .: ص (79)، (المرجع السابق نفسه). (¬4) بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص (84)، (المرجع السابق نفسه). (¬5) فيما نقله هيوز في كتاب: قاموس الإسلام، تحت مادة (تلمود)، عن عمانويل دايتش، =

ب- وفي دراسة المستشرق الفرنسي (بوسكة) التي دلَّل فيها على انقطاع الصلة بين الشريعة الإسلامية وفقهها وبين القانون الروماني؛ جاء قوله: (وآخر ما أقول هو أن اليهودية لها تأثير عظيم جدًا على تكوين الإسلام في عصر محمد. . . إن نقاط التشابه بين اليهودية والإسلام بعدما تطورا أكثر لفتًا للانتباه) (¬1). أما كيف حدث هذا التأثر فإنهم يوردون عدَّة استدلالات كتلك التي استدلوا بها على تأثير القانون الروماني في الشريعة الإسلامية كقولهم: إن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على علم باليهودية، وقولهم بأن الفقهاء المسلمين وقفوا على التراث التشريعي اليهودي في طور نشأة الفقه الإسلامي (¬2)، وللمثال على ذلك: 1 - يقول (فون كريمر): (إن الموالي لما وصلوا إلى مناصب القضاء والإفتاء استطاعوا أن يدخلوا في الفقه في عناصر ثقافتهم السابقة [غير الإسلامية] وخاصة اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أمكن لهم أن يستفيدوا من التلمود) (¬3). ويقول (لامنس): (إننا نعتقد بدخول قسم يعتد به من هؤلاء الأشقياء -يقصد الذين دخلوا الإسلام، من اليهود- في صفوف الإسلام، ولقد كان لهؤلاء المرتدين ولذريتهم النصيب الرئيسي في إعداد التشريع الإسلامي وتكوينه، حيث لا يمكن إنكار التأثير التلمودي فيه) (¬4). ¬

_ = نقلًا عن بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص: (76)، (المرجع السابق نفسه). (¬1) بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص: (84)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص (728)، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن بوسكه، المرجع السابق نفسه: ص (82). (¬4) بوسكة: المرجع السابق نفسه: ص: (59).

ثالثا: التعاليم النصرانية

2 - ذكر (كارل بروكلمان) أن بعض المستشرقين يزعمون (بأن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وصاحب أبي يوسف، المتوفى 189 هـ، قد تأثر في تبويبه للقفه الإسلامي بكتاب (المشنا) اليهودي) (¬1). 3 - ومن قول (بوسكة) السابق يبرز الاستدلال بالتشابه بين اليهودية والإسلام في تأثر الشريعة الإسلامية بالتلمود اليهودي؛ وبخاصة من قوله: (يبدو لي واضحًا تمامًا أن نقاط التشابه بين اليهودية والإسلام. . . أكثر. . . من نقاط التشابه التي توجد في الإسلام والمسيحية) (¬2). ثالثًا: التعاليم النصرانية: يأتي تأثير التعاليم النصرانية على الشريعة الإسلامية في أقوال المستشرقين ضمنًا عندما يبحثون في كيفية تأثير القانون الروماني على الشريعة الإسلامية وفقهها، عن طريق الفرق النصرانية كونها وسيلة غير مباشرة في تسرب القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية، ولعل في استدلالاتهم على تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني ما يتناول هذه الجزئية، ولكن بعض المستشرقين أشار إلى قانون آخر كانت تلك الفرق النصرانية تحتكم إليه وليس إلى القانون الروماني، وذكروا بأن ذلك القانون أثر في الفقه الإسلامي إضافة لتأثير التعاليم النصرانية في الإسلام بصفة عامَّة. يقول (بوسكة): (إن القوانين الكنسية بالشكل الذي وجدت عليه في المناطق التي فتحها الإسلام (في أوائل الخلافة)، استطاعت أن تمارس تأثيرها على تدوين الفقه وتكميله، ولكن هذه المسألة لم تدرس بعد من قبل الباحثين المختصين) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي: (3/ 234، 253)، (مرجع سابق). وانظر: محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص (729). (¬2) بوسكة، المرجع السابق نفسه: ص (84). (¬3) بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص (66)، (المرجع السابق نفسه).

ويقول -أيضًا-: (إن فكرة القوانين الدينية هي شيءٌ يقربنا من روح الفقه، وهذا أمر يجب التنبيه الخاص عليه، حتى لو بقيت التأثيرات المتبادلة ضعيفة جدًّا، وهكذا يمكن التفكير بإظهار عدد ما من حوادث التشابه في البنية نفسها بين حقوق الكنيسة النصرانية وشريعة الإسلام) (¬1). ويشبه (جولدزيهر) إجماع الأمة في الفقه الإسلامي بالكنيسة النصرانية (¬2). أما عن وجود القانون الكنسي واحتكام الفرق النصرانية إليه فيذكر المستشرقون القائلون بذلك عدَّة مسوغات من أبرزها: أ- كراهة النصارى للسيطرة الرومية منعت التأثير بالقانون الروماني والاستعارة منه (¬3)، ومما يدل على ذلك وفقًا لرأي (فتزجيرالد) وجود كتاب يسمى (القانون السوري الرومي) (¬4)، وأنَّ وجوده في الشام يعدُّ (شهادة واضحة ضد القول ببقاء مجموعة قوانين (جوسيتينان) (¬5). ب- راج هذا القانون الذي ترجم إلى السريانية والعربية في الكنائس الشامية، ولعله كان السبب في مقولة (نالينو) (¬6): (إن السريانيين من القرن ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص (67). (¬2) انظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي. .: ص: (156)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (153). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (128)، القانون السوري الرومي، كما ذكر (فتزجيرالد)، (كتاب دراسي وجيز للقانون)، (المرجع السابق): ص: (129)، وفي المرجع السابق نفسه علق المترجم بقوله: (لما كان الإنجيل لا يحتوي على القوانين فقد اكتفى نصارى الشام بالقانون الرومي المعاصر للملوك النصرانيين من بيزنطة). (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (128). (¬6) فتزجيرالد: الدين المزعوم للفانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (129)، (المرجع السابق نفسه).

رابعا: أعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام

التاسع للميلاد لم يسمعوا قط عن (جوستينيان) كواضع قانون) (¬1). وأما عن تأثر هذا القانون الكنسي -الذي تحتكم إليه الفرق النصرانية في الدولة البيزنطية- في التشريع الإسلامي فإن من المستشرقين من يزعم بأن مؤلفات الفرق النصرانية -على تعددها- قد أثرت في الفقه الإسلامي (¬2) من جهة وأثر فيه كذلك الذين دخلوا الإسلام من النصارى وأهل الذمة من جهة أخرى (¬3). رابعًا: أعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام: لا تدع طائفة من المستشرقين في مناقشتها للشريعة الإسلامية مسألة من مسائلها إلا وقذفت بشكوكها في تلك المناقشة بغية نفي تميُّز الأمة الإسلامية الذي تشكل الشريعة الإسلامية أحد مقوماته، وإذا كانت دراسات المستشرقين قد اتسمت بالتعميم وإطلاق الأحكام على عواهنها؛ فإن بعض دراستهم الحديثة التي يقوم بها مستشرقون معاصرون تنحو منحًى متخصص، وبخاصة في مجال الشريعة الإسلامية لتؤكد بالأدلة التفصيلية تأثرها بالسابق واللاحق من النظم والتشريعات والأعراف والتقاليد الأخرى (¬4). ومن هذه الدراسات؛ الدراسة التي قام بها (ن. ج. كولسون): في تاريخ التشريع الإسلامي، فقد سلك منهجًا يتسم بالتركيز الشديد على نشأة ¬

_ (¬1) نقلًا عن: فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (129، 130). (¬2) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (714). وانظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي. .: ص: (22)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: محمد حميد اللَّه: تأثير الحقوق الرومية على الفقه الإسلامي، (مرجع سابق)، ص: (33، 43، 44)، وانظر: ن. ج. كولسون: في تاريخ التشريع الإسلامي: ص: 50، 53، 60)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (706).

التشريع الإسلامي ومدارس الفقه وتطوراته حتى وصل إلى التشريع الإسلامي في العصر الحديث؛ وإذا كان في بداية مناقشته لنشأة التشريع الإسلامي ذهب إلى القول بأن الإسلام عمد إلى العرف السائد في مجتمع العرب قبل الإسلام، وعدَّل فيه وغيَّر دون أن يلغيه، بل أبقى على قواعده (¬1)، فإنه يختم دراسته مؤكدًا على (استمرار خضوع المجتمعات الإسلامية لتلك السياسات القائمة على احتذاء مفاهيم الحياة الغربية) (¬2). ممَّا يؤكد تلاقي آراء المستشرقين على اختلاف أزمانهم وبلدنهم حول غاية واحدة وإن تنوعت الأساليب والصياغات هذه الغاية هي الإصرار على نفي أصالة الشريعة الإسلامية، وإثبات مصادر أخرى وضعية اعتمدت عليها الشريعة في فقهها وتشريعها، وبالتالي فإن الأمة الإسلامية لا تتميَّز عن غيرها سواء في بدء نشأتها أو في حاضرها بل هي -كما يشتهي المستشرقون- عالة على اليهودية والنصرانية في تاريخها الماضي وعالة على الحضارة الغربية وقوانينها ونظمها في الحاضر (¬3). ولا يقتصر أولئك المستشرقون على القول باعتماد الشريعة الإسلامية على العرف السائد في العرب قبل الإسلام باعتباره ذاتيًا للعرب من صميم حياتهم الخاصة وفكرهم العربي، بل باعتباره متأثرًا هو الآخر بالقانون ¬

_ (¬1) انظر: ن. ج. كولسون: في تاريخ التشريع الإسلامي: ص: (35)، (مرجع سابق)، ويوافقه في قوله هذا المستشرق (دارست)؛ انظر: الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي عن القانون الروماني. .: ص: (15)، (مرجع سابق). (¬2) محمد أحمد سراج: في تعليقه على خاتمة كتاب: ن. ج. كولسون: في تاريخ التشريع الإسلامي: ص: (220)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (724، 725)، (مرجع سابق).

الجانب الثاني: نقد أقوال المستشرقين حول الشريعة

الروماني الذي تسرب إلى عادات العرب وأعرافهم عن طريق رحلاتهم التجارية إلى الشام، أو عن طريق القانون الساساني (¬1). الجانب الثاني: نقد أقوال المستشرقين حول الشريعة: تصدَّى عدد من الباحثين لنقد تلك الأقوال والاستدلالات (السابق ذكرها) وخرجوا بنقضها جملة وتفصيلًا، ودللوا بأنها (لا تعد أدلة صحيحة، وأنها مجرد فرضيات لا تثبت أمام البحث التاريخي والنقد الموضوعي) (¬2)، وفي (المؤتمر القانوني المقارن الدولي الذي انعقد بمدينة (لاهاي) في دورته الثانية في جمادى الآخرة سنة 1326 هـ/ 1937 م، وشارك فيه نفر من علماء الأزهر الشريف إجابة لدعوة المؤتمر ببحوث متنوعة حول الشريعة الإسلامية، ومنها ما يتعلق بالرد على دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني، اتخذت قرارات عديدة من أبرزها: أ- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع. ب- اعتبار الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها وليست مأخوذة من غيرها) (¬3). وتتابعت الندوات والبحوث تؤكد تميُّز الشريعة الإسلامية واستقلالها عن غيرها من الشرائع والنظم والقوانين (¬4)، وتوافر عدد من المستشرقين على نقد بعضهم بعضهم الآخر حتى ليكاد الباحث في دراستهم وبحوثهم وأقوالهم أن يخرج بنتيجة باهرة البيان، وهي كون الشريعة الإسلامية مفخرة البشرية إذا هي انضوت تحت لوائها وطبقت أحكامها وأفادت من حلولها ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (725، 723). وانظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي. .: ص: (7)، (مرجع سابق). (¬2) محمد الدسوقي: المرجع السابق، ص: (716). (¬3) انظر: كامل موسى: المدخل إلى التشريع الإسلامي، ص: (189، 190)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (190).

وفي ضوء ما سبق يمكن نقد أقوال المستشرقين واستدلالاتهم في النقاط الآتية

الناجعة لمشكلات الإنسانية جميعًا حتى في العصر الراهن، وعن هذا المعنى قال أحدهم: (إنَّ البشرية تفخر بهذا التشريع، وإننا سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألف عام) (¬1). وفي ضوء ما سبق يمكن نقد أقوال المستشرقين واستدلالاتهم في النقاط الآتية: الأولى: دعوى التأثر بالقانون الروماني. الثانية: دعوى التأثر بالتلمود اليهودي. الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية. الرابعة: دعوى التأثر بأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام. نقد الدعوى الأولى: دعوى التأثر بالقانون الروماني: أكدت دراسات بعض المستشرقين بأن الشريعة الإسلامية وفقهها منقطعة الصلة بالقانون الروماني، وفي ذلك يقول (بوسكة): (إنَّ الفقهاء المسلمين أعطوا لبنائهم إطارًا خاصًا ووجهًا مميزًا. وهم بهذا الاعتبار لا يدينون بشيء للقانون الروماني، وإنَّ طبيعة الفقه الخاصة لا تدين له بشيء) (¬2). ويقول (فتزجيرالد): (من المستبعد أن يكون للقانون الروماني الغربي أدنى تأثير على تأسيس الشريعة الإسلامية) (¬3). ويتفق كثير من الباحثين على هذه النتيجة التي توصَّل إليها نفر من المستشرقين، وأمَّا الاستدلالات التي بنى عليها أولئك الزاعمون رأيهم، ¬

_ (¬1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (708)، (مرجع سابق). (¬2) بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص: (66)، (مرجع سابق). (¬3) فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (127)، (مرجع سابق).

فإنها مزاعم باطلة لا سند لها من علم ولا حقيقة لها في التاريخ وهي مردودة من أوجه عدة، وبيان ذلك في الآتي: 1 - زعمهم أنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على علمٍ واسعٍ بالقانون الرُّوماني يبطله العلمُ اليقيني والواقع التاريخي على حدٍّ سواء فإنّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. وأمية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مع ما جاء به من العلم والهدى من دلائل نبوته ومعجزاتها، وأثبت التاريخ بما لا يحتمل التأويل أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نشأ في بيئة عربية خالصة مقطوعة الصلة بالقانون الروماني وغيره مما كانت عليه الأمم السابقة من التنظيم والتقنين الوضعيين، وفي هذا يقول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نحسب" (¬1). ويكفي هذا الزعم إِبطالًا وتهافتًا أَنَّه ورد على لسان المستشرق (شيلدون آموس) وقد وصف بالجهل والصفاقة من صفوف المستشرقين أنفسهم إذ يقول عنه المستشرق (فتزجيرالد): (ومن مصيره الأسيف المضحك أن الموضوع الذي كان حجة فيه قد غمره موج البحث العلمي منذ أمد طويل. . . وأصبح لا يذكر الآن إلا بمحاولته غير الموفقة حول موضوع كان فيه حين تناوله أقرب ما يكون إلى الجهل التام) (¬2)، ويواصل قوله متهمًا ذلك المستشرق بالهوى والتملق على حساب البحث العلمي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 2/ 676 الحديث رقم: [1814]، ترتيب: البغا، (مرجع سابق). والحديث عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- يرفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: 119)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. .: ص: (72، 73)، (مرجع سابق).

النزيه، إذ قال: (فقد أضلته الرغبة في أن يجد مثيلًا للقاعدة الرومية اللاتينية التي تقول: إنَّ ما يعجب الحاكم له قوة القانون فتورط في القول) (¬1). والشاهد من هذا: إِنَّ الزَّعم بأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان على علم واسع بالقانون الروماني زعم متهافت باطل وكذلك الاستدلالات التي يوردها أصحاب ذلك الزعم (لا يصح مطلقًا أن يكون دليلًا) (¬2). 2 - إن ما زعموه من أن الفقهاء المسلمين قد تعرفوا على القانون الروماني من المدارس الرومانية ومحاكمها زعم باطل من وجوه عدة أبرزها الآتي: أ- (من المسلم به لدى المؤرخين القدماء والمحدثين أن هناك أحداثًا تاريخية جاءت على تلك المدارس الرومانية؛ أولها قرار الإلغاء لتلك المدارس عدا ثلاث مدارس منه فقط في بيروت والقسطنطينية وروما؛ فقد صدر بذلك قرار (جوستينان) في 16 ديسمبر 533 م) (¬3)، ثم في سنة (551 م) ضرب زلزال مدمر مدينة بيروت أتى على كل ما فيها بما في ذلك تلك المدرسة الرومانية للقانون، وحين دخل المسلمون بيروت لم تكن إلا أطلالًا، لا يمكن لعقل أن يتصور تأثير تلك المدرسة في الفقه الإسلامي بعد دمارها وما فيها من أساتذة وطلاب وآثار علمية بنحو مئة عام (¬4). ¬

_ (¬1) فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (119). (¬2) محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي. .: ص: (92)، (مرجع سابق). وانظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة. .: ص: (64 - 65)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني: ص: (69 - 71)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المسثشرقين. .: ص: (72، 73)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة. . ص: (65)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي. . ص: (72)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي. .: ص: (709)، (مرجع =

ب- كذلك ما يقال عن تأثير الإسكندرية (¬1) فقد ألغيت مدرستها القانونية بموجب قرار (جوستينيان) السابق ذكره، ومما ورد في التاريخ بأن (جوستينيان) لم يكتف بقرار الإلغاء فحسب، وإنَّما (أحرق ما كان بها من برديات قانونية بلغت عشرات الآلاف في بعض الروايات. والمعروف أن المسلمين دخلوا الإسكندرية سنة (641 م) بعد أن أغلقت مدرستها ودمر تراثها العلمي بأكثر من مئة عام) (¬2). ج- أما تأثُّر الفقهاء المسلمين بمدرستي القسطنطينية وروما فهو مردود من ناحيتين: الأولى: دخل المسلمون (القسطنطينية) عام (1453 م) بعد أن كان للفقه الإسلامي مدارس العامرة ومذاهبه المحددة، وهو في هذه وتلك متميز تمامًا عن المدارس الرومانية والقوانين الوضعية (¬3). الثانية: لم يدخل المسلمين (روما) فاتحين إلى العصر الحديث. 3 - أمَّا دعوى تأثر الفقهاء المسلمين بالمحاكم الرومانية الذي قال به بعض المستشرقين زاعمًا أنه حدث نتيجة الفتح الإسلامي للبلاد التي كانت فيها محاكم تطبق القانون الروماني، فإن دعوى هذا التأثر باطلة لعدة أسباب (¬4) من أبرزها: ¬

_ = سابق)، وانظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (135)، (مرجع سابق). (¬1) انظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (65). (¬2) محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (710). (¬3) انظر: محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (710)، وانظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (66). (¬4) انظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (66). وانظر: عبد اللَّه الركبان: المرجع السابق نفسه: ص: (74، 75).

أ- إنَّ الفتح الإسلامي لم يصل إلى البلدان التي تخضع للمحاكم الرومانية، إلا بعد زوال تلك المحاكم من جهة، وتشكل الفقه الإسلامي وتكامله في منأى عن تلك المحاكم من جهة ثانية (¬1). ب- قضى الفتح الإسلامي على أيِّ سلطة أجنبية للقضاء في الدولة الإسلامية (¬2)؛ لأنَّ الفتح الإسلامي ينطلق من عقيدة الحكم بما أنزل اللَّه، وهذا يعني رفض أي سلطة لغير شرع اللَّه، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 40]، وأيّ سلطة لغير اللَّه فهي في منظور الإسلام جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، ومن شأن الفتح الإسلامي أن يقضي على الجاهلية والضلال، ويحول بين من ركن لحكم الجاهلية أو ارتضاه وبين رغبته في بعث الجاهلية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وقد أدرك بعض المستشرقين هذه النقطة الجوهرية وعبَّر عنها بقوله: (ويبدو من المحال سماح العرب الفاتحين ببقاء المحاكم التي تأخذ سلطتها من دولة أجنبية غير خاضعة للإسلام، وتبذل ولاءها لها، وهذا بقطع النظر عن الفرق الأساس بين قانون مبني على مشيئة اللَّه وبين قانون مصدره الأساس رضا الإمبراطور) (¬3). 4 - أمَّا قول بعض المستشرقين بأن الأوزاعي والشافعي قد كانا على ¬

_ (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . ص: (108، 109)، (مرجع سابق)، وانظر: بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (60، 66، 83)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (142)، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص: (108، 109)، (مرجع سابق). (¬3) فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (142).

علم بالقانون الروماني، وعن طريقهما تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، فإن هذا القول مردود من وجوه عدة، من أبرزها: أ- إن تراث القانون الروماني قد اندثر من قبل عصر الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي بنحو قرنين من الزمان، ولم يكن أحد في تلك البيئة الشامية يعرف شيئًا عن القانون الروماني (¬1). ب- إن الإسلام قد صبغ مجتمع الشام بصبغته الإسلامية المختلفة عن الصبغة التي كان عليها في عصر البيزنطيين (¬2). ج- انقطاع صلة الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي بالقانون الروماني؛ لأنهما من مدرسة أهل الحديث التي تعول على النص (الكتاب والسنة) وفهم سلف الأمة أكثر من الميل للقول بالرأي الذي ربَّما لو كانا من أهله لتطرق الشك إلى فقههما باعتبار أن الفكر التشريعي القانوني مستمد من العقل في المقام الأول، وعلى هذا فإنَّ دعوى التأثر هذه ساقطة حجة وتاريخًا (¬3) (والعالم كله قبل الإسلام لم يعرف فكرًا أصوليًّا للقوانين والتشريعات) (¬4)، وإنَّما السبق في هذا للمسلمين إذ أصلوا المناهج ووضعوا قواعد البحث العلمي وعن طريقهم نقل الغرب ذلك الفكر، وأفادوا منه، ثمَّ تجاهلوا ذلك، وانثنوا ينسبون هذا السبق وتلك الريادة إلى القانون الروماني (¬5). ¬

_ (¬1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (711)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (711). (¬3) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والففه الإسلامي: ص: (711)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (712). وقد أدمجت الرد على هذه المقولة؛ لأن فقه الأوزاعي اندثر ولم يبق منه إلا ما ورد في فقه الشافعي؛ ولمزيد الاطلاع راجع: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. . ص: (58)، (مرجع سابق). (¬5) انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (712)، (المرجع السابق نفسه).

5 - أمَّا استدلال بعض المستشرقين بسرعة تدوين الفقه الإسلامي على كونه اقتبس من نماذج جاهزة تمثلت في القانون الروماني فقد ردَّ على ذلك المستشرق (نالينو) بقوله: (إنهم -أي المسلمين- جعلوا الفقه جزءًا من علم الدين لا ينفك عنه، ولم يجعلوه علمًا ماديًّا من أمور الدنيا، فازدهار الفقه السريع ليس إلا أحد مظاهر الازدهار العام للعلوم الدينية عند المسلمين وكان ابتداؤها من تفسير القرآن ومن جمع الحديث وتشريحه) (¬1). وعلى الرغم من كون تلك السرعة في تدوين الفقه الإسلامي ليست على إطلاقها، بل تدرجت في سلم الحضارة الإسلامية فإنها تعدُّ في نظر المنصفين ممَّا تميزت به الأمَّة الإسلامية، وقد أثبت الباحثون: (أن الفقه الإسلامي لا يلتقي مع القانون الروماني في منهج التدوين لا من حيث التقسيم، وترتيب المسائل، وتشقيق الفروع، ولا من حيث الصياغة واستخدام الألفاظ والعبارات) (¬2)، كما أثبتوا كذلك بأنَّ (كتب ذلك الفقه لا يحتوي على كلمة واحدة أو إشارة عابرة توحي بالتأثر والنقل) (¬3)، مما يبرهن على فساد آراء أولئك المستشرقين ومجافاتهم قواعد البحث العلمي وضوابطه المنهجية، حتى لقد بلغ الإسفاف ببعضهم إلى القول: (إن هناك تواطؤًا مقدسًا على السكوت الجنائي عند المؤلفين المسلمين بصدد المصادر التي أخذوا منها مادتهم) (¬4). ¬

_ (¬1) نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (21)، (مرجع سابق). (¬2) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (719)، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (719). (¬4) السير رولاند ولسون: خلاصة القانون المحمدي، ص: (24)، نقلًا عن: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (164)، (مرجع سابق).

ويدل هذا القول ونحوه عن أزمة الاستشراق، وإن توارى وراء ادعاء أنه يعالج قضية تاريخية وقد استدل (فتزجيرالد) بسكوت التاريخ الإسلامي عن مسألة التأثر بالقانون الروماني في الفقه الإسلامي وتدوينه على انتفاء ذلك التأثير، وذكر بأن الذين زعموا ذلك التأثر (لا يقدرون على إثبات وجود الاستعارة من القانون الرومي في الفقه الإسلامي بمجرد قولهم: إن الفقه لم يعترف بوجودها) (¬1). 6 - أمَّا قولهم بالتشابه بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني فهو مسألة تحتاج إلى تفصيل ومناقشة، وقد أجرى هذه المنافسة نفر من الباحثين وفصلوا القول فيها وخرجها بنتائج محددة. . وفيما يأتي استعراض لأبرز ما قاله ثلاثة من أولئك الباحثين وما خَلصوا إليه من نتائج: الأول: تناول المستشرق (نالينو) في دراسته لعلاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي جانب القول بالتشابه بينهما، وذكر بأن تلك المزاعم جاءت ثمرة للتخمين والاحتمال أكثر من كونها نتيجة لبحث علمي عميق، وأنهم حشدوا المتشابهات التي تدهش، ولكنها لا تملك قوة الإثبات (¬2)، ثمَّ انتقد هذا الاتجاه بقوله: (إنَّ من الضلالة؛ المماثلة الظاهرية الخارجية التي لا تؤيدها العناصر الداخلية ولا الوثائق التاريخية) (¬3) وبَيَّن (أن الذين جمعوا المتشابهات لكي يثبتوا أن قسمًا عظيمًا من الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني، قد أهملوا ثلاث نقاط مهمة في المسألة: ¬

_ (¬1) فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (164)، (مرجع سابق). (¬2) نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (10)، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (17، 18).

أ- أنهم أهملوا. . الاختلافات التي توجد بين مذهب ومذهب، وهي أحيانًا ذات أهمية حتى فيما بين مذاهب أهل السنة الأربعة، فإذا كانت هناك مماثلة في بعض المسائل بين رأي مذهب فقهي وبين القانون الرومي، فقد لا يكون تشابه بين رأي المذاهب الأخرى والقانون الرومي في تلك المسائل. وبسبب هذا الإهمال ذكر بعض الذين لا يعرفوا العربية خصائص مذهب واحد من المذاهب كأنها عناصر نموذجية في عموم الفقه الإسلامي. ب- إنهم يحاولون جاهدين اصطياد المماثلات، ويهملون من جانب آخر أي إشارة إلى الاختلافات التي تعد محكًا لقيمة المماثلات وقدرها. ج- إنَّهم أهملوا الفرق العظيم الذي يوجد بين الغرب وبين العالم الإسلامي في تصور القانون وفي مصادره) (¬1). وبعد مناقشته لهذه الفروق والاختلافات وإيراده أمثلة عديدة لتوضيحها قال: (إنه لو كان فقهاء العرب وضعوا أمامهم كتابًا من الكتب المتداولة من القانون الروماني ليحاكوه، لما فكروا أنْ يبعثروا مسائل المعادن أو العبيد، أو ملكية الأراضي في أبواب شتى لا يمر ببال أحد من أهل القانون من الأوروبيين أن يجدوا فيها أبدًا، ولما وضعوا مسائل الربا في باب البيوع) (¬2). ثمَّ يصل إلى النتيجة الآتية: (إنَّ العرب أنشؤوا فقههم إنشاءً مستقلًا في ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (18)، ولمزيد الاطلاع على الاختلافات العميقة بين أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الروماني واختلاف مصادرهما؛ انظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (88 - 94)، (مرجع سابق). (¬2) نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (20)، (المرجع السابق نفسه).

القسم الأعظم منه، وفي رأيي أن هذا الإنشاء المستقل كان نتيجة الأحوال التاريخية الخاصة التي تطورت فيها المؤسسات القانونية والاجتماعية الإسلاميَّة أكثر ممَّا كان بسبب النظريات القانونية المجردة) (¬1). الثاني: تناول محمد معروف الدواليبي دعوى التشابه بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني ضمن دراسته عن الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي عند المستشرقين (¬2)، وذكر بأن خلاصة ذلك التشابه المزعوم تنقسم إلى ثلاثة أمور: الأمر الأول: تشابه في الأفكار الحقوقية. الأمر الثاني: تشابه في لغة التعبير في كثير من النصوص. الأمر الثالث: تشابه في كثير من الكلمات الاصطلاحية الحقوقية) (¬3). وفي سياق مناقشته لهذه الأمور الثلاثة قال: (وإذا كان التشابه المدعى به فيما بين التشريعين هو تشابه في الأفكار أحيانًا، وفي لغة التعبير تارة، وفي بعض الاصطلاحات الحقوقية مرة أخرى، فإننا نجد أن أقوى أنواع التشابه تأييدًا للفرضية إنما هو النوع الثالث، وذلك لأن ما بين البشر من وحدة أساسية في التفكير تبعًا للحاجة ولظروف الحياة المتشابهة لدى الأمم هو عامل كبير للوحدة فيما بينهم في كثير من أفكارهم، وللتقارب في التعبير عن كثير منها من غير حاجة إلى نقل أحدهم عن الآخر) (¬4). ثم ركز مناقشته على الكلمات الاصطلاحية في الحقوق الرومية، ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (25). (¬2) الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي (المقالة الرابعة) مدرجة في كتاب: هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي: ص: (85 - 114)، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (98). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (99، 100).

وقسمها إلى أصيل ولاحق وإلى اصطلاحات متروكة وأخرى محتفظ بها، وصنفها بحسب متعلقاتها (¬1) إلى (أحكام الأشخاص، أحكام الأشياء، أحكام الدعاوى) (¬2). ثم يقرر بأن دعوى التشابه التي ضخمها المستشرقون تنحصر (في الكلمات الاصطلاحية الجديدة دون الأصيلة) (¬3)، وأنه إذا أمعن النظر في المتشابهات -بغض النظر عن معنى التشابه- لم يوجد (في جميع ما يدعي فيه المستشرقون من تشابه في الكلمات الاصطلاحية كلمة واحدة من الكلمات الاصطلاحية التابعة لعهد الحقوق الرومية القديمة الأصيلة حتى ولو كانت هذه الكلمة الاصطلاحية القديمة لا تزال متداولة ومستعملة في الحقوق الرومية الجديدة اللاحقة) (¬4). وهذا يعني أن الحقوق الرومانية تأثرت هي بالطابع الشرقي ولم يكن لها تأثير في التقاليد والأعراف الشرقية فضلًا عن تأثيرها في الحقوق الإسلامية (¬5)، وخلص في هذه المسألة إلى حصر التشابه المزعوم في المعنى اللغوي فقط، وأنه إذا نُظِرَ (نظرة خاصة في كل ما يدعى به من تشابه ما بين الكلمات الاصطلاحية في التشريعين. . وعن معنى التشابه المدعى ¬

_ (¬1) انظر: الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي. .: ص: (100، 102)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (102). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (104). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (104). (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (106). وقد أورد محمد يوسف موسى في كتابه: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي، جملة من الأدلة على تأثر القانون الروماني بالفقه الإسلامي؛ ص: (86، 95 - 102)، (مرجع سابق).

به) (¬1)، فإن التقارب يأتي (من جهة المعنى اللغوي الحقيقي، لا من جهة المعنى الاصطلاحي الخاص) (¬2). وقد ضرب لذلك مثالًا بكلمتين (لتكونا أنموذجًا لغيرهما من الكلمات) (¬3) التي ضخمها المستشرقون، وبنوا عليها دعوى تأثر الشريعة بالقانون الروماني، (وهاتان الكلمتان. . هما كلمة الإجماع عند الفقهاء في التشريع الإسلامي وكلمة كونسانسوس consensus اللاتينية المفيدة معنى الإجماع أيضًا عند الفقهاء في التشريع الرومي) (¬4)، ثم أجري المقارنة بينهما من حيث الأسس والغايات وطرق الحصول عليهما، وخلص إلى القول: (من المقارنة بين كلمتين اصطلاحيتين هما الإجماع في التشريع الإسلامي والإجماع في التشريع الرومي يتضح أنه لا تشابه بينهما كما ادعى المستشرقون لا في الأساس، ولا في الغاية ولا في طريق الحصول عليهما. . إنما هناك تقارب في المعنى اللغوي) (¬5). ويقرر بأن هذا التقارب في المعنى اللغوي لا يسمح بدعوى التشابه في المعنى الاصطلاحي، وأن دعوى التشابه فرضية لا تقوم على أساس سليم بل تخالف الوقائع العلمية (¬6). الثالث: تناول المستشرق (فتزجيرالد) مسألة التشابه المزعوم ضمن دراسة علمية نشرها في إحدى المجالات العلمية، وأدرجت في كتاب هل ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (106، 107). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (107). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (107). (¬4) الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي. .: ص: (107)، (المرجع السابق نفسه). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (113). (¬6) المرجع السابق نفسه: ص: (114).

للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي (¬1)، وتقوم هذه الدراسة على المنهج التاريخي المقارن الموضوعي (¬2)، وقد تعقب فيها آراء كل من (آموس) و (جولدزيهر) (وسوساس باشا) (¬3) ونقض تلك الآراء في ضوء المنهج العلمي الذي يظهر بمظهر النزاهة -واللَّه أعلم- (وردَّ على كل واحدٍ منهم بالتفصيل ردودًا قاطعة، كما أبان سطحية الأول منهم بصفة خاصة في تفكيره واستدلاله بما لا يصح مطلقًا أن يكون دليلًا. كما وصم (سواس باشا) بكونه ذا عقلية غير علميَّة ولا دقيقة، وأنه كان مدفوعًا في كتاباته بغرض سياسي وهو إظهار التشريع الإسلامي بأنه دائمًا قابل للمؤثرات الغربية. .) (¬4). أما (جولدزيهر) فذكر أنه مع علو شأنه في الأوساط الاستشراقية فقد جاءت آراؤه في الشريعة الإسلامية مماثلة لتلك الآراء الخاطئة، وأنها وجدت رواجًا كبيرًا، ويؤكد أيضًا بأن آراءه هذه على النقيض مع اتجاهه العام في دراسته خارج هذا البحث، كما يؤكد -أيضًا- بأنه قد عدل عن تلك الآراء) (¬5)، ولكن فيما يبدو لي أن (جولدزيهر) يعد زعيم ذلك المنهج ¬

_ (¬1) الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (115 - 166)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (92)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (118). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (120). وانظر: محمد يوسف موسى: المرجع السابق نفسه: ص: (92)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. .: ص: (72)، (مرجع سابق). (¬5) انظر: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (144)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: المرجع نفسه: ص (121)، وانظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (92)، (مرجع سابق).

الذي يهدف للنيل من تميُّز الأمة الإسلامية في عقيدتها وفي شريعتها وفي تاريخها وإن حاول صيغة أبحاثه في قوالب تظهر بمظهر العلمية والمنهجية. وبعد أن يناقش (فتزجيرالد) هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم، ويفند مزاعمهم؛ يصل إلى القول بأنه لا توجد (حتى كلمة واحدة مستعارة من اللاتينية أو اليونانية في العدد الضخم من المصطلحات الفقهية) (¬1)، وقبل ذلك أثبت بأن (القانون التلمودي مليء بالمصطلحات اليونانية واللاتينية. . في قالب عبراني) (¬2)، وكذلك دخلت القانون الروماني كلمات (تنادي جهارًا على الفور أنها يونانية الأصل) (¬3). وينهي بحثه بالنتيجة الآتية: (الشريعة كما ذكرنا من قبل تختلف اختلافًا أساسيًا عن القانون الرومي، سواء في طبيعتها أو في غرضها، فالقانون الرومي، حتى في خالص ناحيته المجردة والعلمية، ليس إلَّا قانون العلماء القانونيين أو كما يقال في المثل اللاتيني: كل قانون وضع فإنَّه وضع بسبب الإنسان. . أمَّا القانون الإسلامي فهو أولًا وقبل كل شيء نظام أهل دين يطبقون الأحكام الموجودة على الوقائع، وغرضهم وصل كل نفس إنسانية باللَّه تعالى. وهذا القانون يتضمن كثيرًا من أحكام الصوم والصلاة والحج وأمثالها وحتى حينما يعالج أمورًا مدنية مثل البيع والرهن. . تغلب فيها ناحيتها الدينية) (¬4)، والجدير بالذكر أن (فتزجيرالد) وضَّح أن مراده بالقانون الإسلامي الشريعة الإسلاميَّة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الدين المزعوم. .: ص: (160)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (158). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (158). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص: (158). (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: 158.

وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسة (لفتزجيرالد) وما وصل إليه من نتائج حاسمة في دعوى تأثير القانون الروماني على الشريعة الإسلامية، وأن هذه الدعوى تسقطها الحجج البينة ويبطلها التاريخ الثابت، فإن هذا المستشرق يستثني من بحثه التأثير بطرق غير مباشرة، ويعد ببحثها في مستقبل الأيام (¬1) غير أنني لم أقف على شيء من ذلك، واللَّه أعلم. وفي هذا الصدد ينفي (محمد أسد) أي مظهر للتأثر والتأثير، ويرى بأن الموازنة بين الإمبراطورية الرومانية والأمة الإسلامية من السخافات الكثيرة التي تغذى بها عقول الجيل الحاضر، إذ ليس ثمة شيءٌ ما مشترك بينهما إلا (أنهما امتدتا فوق أرض شاسعة وشعوب متباينة) (¬2)، ويؤكد المستشرق (زيس) بأن الصلة منقطعة بين الشريعة الإسلامية، وهذا القانون -القانون الروماني- فبينما يعتمد قانونيًا على العقل البشري تقوم الشريعة على الوحي الإلهي، فكيف يتصور التوفيق بين نظامين قانونيين وصلا إلى هذه الدرجة من الاختلاف) (¬3). وخلاصة القول: إنَّ دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني دعوى غير صحيحة تعارضها الأدلة الثابتة، وتبطلها شواهد التاريخ (والشريعة الإسلامية تناقض القانون الروماني في القيم الخلقية والاجتماعية وتخالفه مخالفة واسعة الأمد في النظرة إلى الإنسان وإلى الحياة كلها) (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: (166). (¬2) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص: (35)، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة ت ص: (74)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (722)، (مرجع سابق). (¬4) محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة. .: ص: (86)، (مرجع سابق).

نقد الدعوة الثانية: دعوى التأثر بالتلمود اليهودي

ولا يوجد بينهما توافق (في المنابع والغايات، أو تشابه في الحقوق والواجبات، أو تقارب في المبادئ والعقوبات) (¬1). وقبل هذا وبعده فإنَّ هناك فرقًا جوهريًّا بينهما (حيث بدأ القانون عادات. . ونما وازدهر عن طريق الدعوى والإجراءات الشكلية. . أما الشريعة فقد بدأت كتابًا منزلًا من عند اللَّه، وازدهر فقهها عن طريق القياس والأحكام الموضوعية) (¬2). وفرق جوهري آخر؛ (هو أن أساس الفقه يبنى على عقيدة التوحيد، بينما القانون الرومي يبنى على الإيمان بتعدد الآلهة، ومن هذا الأصل تتشعب الاختلافات وتتفرع في كثير من المسائل بين النظامين) (¬3). نقد الدعوة الثانية: دعوى التأثر بالتلمود اليهودي: وصل تحامل بعض المستشرقين على تميُّز الأمة الإسلامية إلى الادعاء بأن (اليهودية أثرت في الإسلام كله، عقائده وعباداته ومعاملاته) (¬4)، والمقصود هنا هو الرد على دعوى تأثر الشريعة الإسلامية وفقهها بالتلمود ممثلة في أقوال (فون كريمر) و (كارل بروكلمان) و (بوسكة) و (لامنس) ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (86). (¬2) انظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية. .: ص: (74)، (مرجع سابق)، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق. . ص: (109)، (مرجع سابق). (¬3) محمد حميد اللَّه: تأثير الحقوق الرومية على الفقه الإسلامي: ص: (43)، (مرجع سابق)، لمزيد من الاطلاع على الفروق بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني؛ انظر: * محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (719 - 722). * محمد حميد اللَّه: المرجع السابق نفسه: ص: (41 - 43). * عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (70 - 74). (¬4) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (725)، (مرجع سابق).

المتقدم ذكرها، وبالنظر إلى تلك الأقوال يتضح أنها تدور حول النقاط الآتية: 1 - دعوى أن الذين دخلوا من اليهود في الإسلام نقلوا إلى شريعته عناصر ثقافتهم، وبخاصة إدخال تعاليم التلمود في الفقه الإسلامي. 2 - وما يلحظ من تشابه التشريع الإسلامي وفقهه بالتلمود اليهودي؛ وبما أن الإسلام متأخر عن اليهودية فإنه هو المتأثر بها، وهو المقتبس من تلمودها. 3 - ما يزعم من تأثر بعض علماء المسلمين في تبويب الفقه الإسلامي ببعض كتب اليهود. وفي الرد على هذه النقاط التى تصدى لها بعض الباحثين وكشفوا زيفها يتضح ما يأتي: 1 - (التفاوت بين التعاليم اليهودية وتشريعات الإسلام وأحكامه الفقهية. 2 - عدم وقوف الفقهاء المسلمين في عصر نشأة الفقه الإسلامي، وتكون مذاهبه على تراث اليهود) (¬1). 3 - عدم تأثير اليهود الذين دخلوا الإسلام على الشريعة الإسلامية وفقهها (¬2). ومن خلال عدد من هذه الدراسات ونتائجها تفند الردود أقوال المستشرقين وفق ما يأتي: 1 - يرد على (فون كريمر) و (لامنس) اللذين ادعيا بأن الثقافة اليهودية وبعض تعاليم التلمود دخلت في الشريعة الإسلامية وفقهها بواسطة الذين دخلوا الإسلام من اليهود أو بعض المتأثرين بتلك الثقافة وتلك التعاليم: ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (726). (¬2) انظر: عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي. .: ص: (81)، (مرجع سابق).

(بأن التاريخ حفظ أسماء الأشخاص الذين أسهموا في الحركة العلمية الإسلامية التي بدأت منذ صدر الإسلام، وكان من بين هؤلاء نفر من اليهود شاركوا في تلك النهضة العلمية، ولكننا لا نعثر على فقيه إسلامي واحد كان من أصل يهودي، أو تثقف بالثقافة اليهودية، كما أن الذين أسلموا من علماء اليهود لم يكن من بينهم من تخصص في دراسة التلمود، حتى يكون هذا مسوغًا للظن بأن التراث اليهودي في مجال التشريع قد انتقل إلى المسلمين عن طريق هؤلاء العلماء) (¬1). 2 - يرد على ما نقله (بروكلمان) عن بعض المستشرقين: (من أن الشيباني قد تأثر في تبويبه للفقه الإسلامي بكتاب المنشا اليهودي) (¬2)؛ بأن الإمام الشيباني (دون الفقه على منهج علمي لم يسبق إليه. . وما كان يعرف إلا العربية وقد توفي رحمه اللَّه سنة (189 هـ)، ومن الثابت تاريخيًا أن الفقهاء المسلمين خلال القرون الثلاثة لم يطلعوا على التراث اليهودي؛ لأنه كان مكتوبًا بلغة غير عربية، وما كان الإمام محمد يعرف إلا العربية، وبذلك تصبح دعوى تأثر هذا الإمام في ترتيب كتبه بمنهج المشنا باطلة، وليست غير وهم سيطر على مخيلة القائلين بها) (¬3). 3 - أما أقوال (بوسكة) فإنَّها جاءت بعد أن أثبت بصفة قاطعة عدم تأثر الشريعة الإسلامية وفقهها بالقانون الروماني مستدلًا بأدلة عقلية وتاريخية، وطبق في ذلك منهجًا علميًا يتسم بالجديَّة، ولو طبق ذلك المنهج وأعمل ¬

_ (¬1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (729، 730)، (مرجع سابق)، وانظر: الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي: ص: (80، 81)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي: (3/ 235، 253)، (مرجع سابق). (¬3) محمد الدسوقي: (المرجع السابق نفسه)، ص. (729)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين: ص: (64)، وما قبلها، ص: (62، 63)، (مرجع سابق).

تلك الأدلة لخلص إلى النتيجة ذاتها حتى على صعيد التلمود ولكنَّه لم يفعل ذلك، ولعله كان يحاول أن يوهم بذلك المنهج الجاد أنه أهل للثقة والاحترام حتى تنسحب هذه الثقة على آرائه جميعها ومنها: دعواه عدم تميُّز الأمة الإسلامية وعدم أصالة شريعتها وفقهها، ونسبة ذلك إلى اليهودية والتلمود. ولقد ساق (بوسكة) جملة من الأمور التي ادعى فيها التشابه بين الشريعة الإسلامية والتلمود وعقب على ذلك بقوله: (إنَّ هناك تشابهًا فكريًا عميقًا بين نظامين استطاع أحدهما أن يؤثر في الآخر. . بحيث يبدو أن ثمة صعوبة في رد مقولة أن الفقه قد استوحى من التلمود كثيرًا، وخاصة بالنسبة للروح المشتركة بينهما) (¬1)، بل لقد ادعى أن الإسلام (يهودية ذات نزعة عالمية) (¬2) و (أنَّ اليهودية لها تأثير عظيم جدًا على تكوين الإسلام في عصر محمد) (¬3). هذا وقد تتبع بعض الباحثين (أوجه التفاوت بين التلمود والفقه. . في مختلف المجالات التشريعية كنظام الأسرة، ونظام العقوبات، فضلًا عن الإجراءات الشكلية التي تحكم التعاليم اليهودية. . ولا يعرفها الفقه الإسلامي) (¬4)، وخلص إلى (أن الخلاف الجوهري بينهما، وأن الطريق مقطوع بين التعاليم اليهودية والأحكام الفقهية الإسلامية) (¬5)، وهذا من حيث الواقع التاريخي، أما ما قد يتبادر إلى الذهن من الصلة التشريعية بين ¬

_ (¬1) بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (73)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (84). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (84). (¬4) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: (727، 726)، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (727).

نقد الدعوى الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية

الإسلام والتوراة والإنجيل باعتبار أن الدين الإلهي واحد، فإن ذلك أمر آخر ليس هذ محل مناقشته. نقد الدعوى الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية: تنحصر دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بالتعاليم النصرانية عند التحقيق في مسألتين: الأولى: أثر مؤلفات الفرق النصرانية الشرقية على تأليف الفقه الإسلامي. الثانية: أثر الذين دخلوا الإسلام من النصارى وأهل الذِّمَّة على الشريعة الإسلامية وفقهها. أما المسألة الأولى: فإن الذين أثاروها ومنهم (بوسكة) عاد ليعترف بأن (الاختلافات بين الفقه والقانون الكنسي الكاثوليكي ذات أهمية واعتبار، وهي تشير -كما قال- إلى أن الأمر يتعلق بنظامين لا يمكن عقد مقارنة بينهما إلا قليلًا) (¬1)، ثم أثار جملة من تلك الاختلافات في أربع نقاط تناولت مصادر النظامين ومجمل أحكامهما وما يتميز به كل نظام منهما، وخلاصة هذه النقاط: 1 - اتصاف النظام الإسلامي بالثبات واختلاف القانون الكنسي عنه في ذلك. 2 - التعارض بين النظامين من حيث تكونهما حيث انبثق الفقه الإسلامي من القرآن والسنة والقانون الكنسي من مصادر عديدة غير إنتاج الفقهاء النصارى. 3 - شمول الفقه الإسلامي لحياة الفرد وحياة الأمة (ابتداءً من أحكام الاستنجاء وقضاء الحاجات الطبيعية وصلاة وقواعد الجهاد والحرب، ¬

_ (¬1) سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (67)، (مرجع سابق).

والزكاة. . . مارًّا بالزواج والبيوع والوصايا. . . والأمر ليس كذلك في القانون الكنسي) (¬1). 4 - ارتباط الفقه الإسلامي بالأخلاق الإسلامية، أما في القانون الكنسي فإن الأخلاق شيء (والقانون الكنسي شيء آخر مختلف عنه) (¬2). وفي ختام هذه المقارنة قال مستنتجًا: (إنه ليبدو لي أننا نستطيع أن نستنتج أن نظامي التفكير الإسلامي والكاثوليكي هما غير متشابهين، وأنهما تطورا طبقًا لمبادئ مختلفة حيث انتهيا إلى نتائج لا تقبل المقارنة بينهما، إنَّ روح النظامين ليست واحدة) (¬3). أما مؤلفات الفرق النصرانية فإن مما حفظه التاريخ (أنها وضعت في تاريخ لاحق لنضج الفقه الإسلامي واكتماله. . إذ وضعت بعد القرن العاشر الميلادي) (¬4). ومن جهة أخرى فإنها هي التي تأثرت بالفقه الإسلامي وأفادت منه، يقول (يوسف شاخت): (بالنسبة للجانب المسيحي فليس هناك شك في أن الفرعين الكبيرين للكنيسة المسيحية الشرقية وهما؛ اليعاقبة والمونوفيزية. . والنسطوريون. . .، لم يترددوا في الاقتباس بحرية من قواعد التشريع الإسلامي) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (68). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (69). (¬3) سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (69)، (مرجع سابق). (¬4) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (714)، (مرجع سابق). (¬5) الشريعة الإسلامية بحث مدرج في كتاب: تراث الإسلام 2/ 162، 213، تصنيف شاخت وبوزورث؛ ترجمة: حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، ومراجعة فؤاد زكريا، وقام بمراجعة بحث شاخت: (الشريعة الإسلامية)؛ محمد عبد الهادي أبو ريدة، الطبعة الثانية ت 1408 هـ - 1988 م، عن عالم المعرفة (سلسلة تصدر شهريًا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، الكويت.

وأما حركة الترجمة التي بدأت في نهاية القرن الهجري الأول، ونشطت في العصر العباسي، وتزامنت في بعض مراحلها مع تدوين الفقه الإسلامي (فإنها أهملت إهمالًا واضحًا كتب القانون فلم يترجم إلى العربية أي كتاب قانوني من لغة أجنبية. . وكانت أول ترجمة للكتب القانونية الأجنبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي على أيدي النصارى السوريان، ولم يكن لهذا تأثير على الفقه الإسلامي؛ لأنه كان قد بلغ نضجه -قبل ترجمة هذه الكتب بعدة قرون) (¬1). وأما المسألة الثانية: وهي أثر الذين دخلوا الإسلام من النصارى وأهل الذمة على الشريعة وفقهها؛ فإن هذه المسألة لا تعدو أن تكون مجرد افتراض يدحضه الواقع التاريخي من وجوه عدة، من أبرزها: 1 - من المتعذر على الذين دخلوا الإسلام من النصارى وغيرهم أن يؤثروا في التشريعات الإسلامية (لأن السلطة التشريعية في الإسلام هي في يد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أثناء حياته يستمد ذلك من الوحي الإلهي، وبعد وفاته انتقلت تلك السلطة إلى نفر من المسلمين يسمون المجتهدين، وهؤلاء يشترط فيهم شروط خاصَّة أفاض في تفصيلها وبيانها الأصوليون في كتبهم، وليس هذا مجال إيرادها، ولا يعرف أن أحدًا من مجتهدي القرن الأول والثاني كان متثقفًا) (¬2) بغير الثقافة الإسلامية أو ممن اهتدى إلى الإسلام وهو عارف بالقانون الكنسي أو غيره من القوانين الأخرى (¬3). 2 - ومن المسلمات في دين الإسلام أن من يدخل فيه يخلع عنه كل أمر من أمور الجاهلية، ويستسلم لأمر اللَّه وحكمه، وفي مقدمة ذلك ¬

_ (¬1) محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: 714، 715. (¬2) عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي ص 80، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 80.

الانصياع لشرع اللَّه في جميع شؤون الحياة إجابة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وجاء في الحديث أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يتلو قول اللَّه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. حينما دخل عليه عدي بن حاتم؛ قال عدي: (فقلت: إنهم لم يعبدوهم)، فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" (¬1). والشاهد من ذلك أن التشريع في الإسلام منبثق من عقيدة التوحيد الخالصة للَّه، ولا يمكن أن يسمح لمن دخل الإسلام من النصارى أو غيرهم من ذوي الثقافات الأخرى أن يشرعوا للمسلمين ولو فرض جدلًا أنهم بلغوا درجة الاجتهاد فإنهم عند ذلك ينطلقون من الكتاب والسنة وإجماع الأمة الإسلامية وما خلَّفه الصحابة والتابعون من ثروة فقهية انبعثت من صميم عقيدة الإسلام وهدي رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، والشريعة الإسلامية وفقهها في كل ذلك متميزة تميزًا جليًا يشهد به الواقع التاريخي، والحقائق المسلم بها. 3 - أما أهل الذمة فإن الإسلام وفر لهم حرية قضائية خاصة بهم؛ قال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، (وكذلك اليهود، وسائر أهل الذمة، ومنه ينتج أن لا تماس بين الحقوق الإسلامية والحقوق الأجنبية فلا يوجد بينهما فعل ورد فعل، ذلك لأن هذا الحكم الذي فرضه القرآن لم يبق قولًا بلا عمل، بل نراه قد طبق بحذافيره في عهد ¬

_ (¬1) ابن كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 348، (مرجع سابق). والحديث مروي من طرق منها ما رواه الترمذي: بالجامع الصحيح 5/ 260، الحديث رقم: [3095]، تحقيق كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق).

الدعوى الرابعة: دعوى التأثر بأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام

الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم من ملوك الإسلام، وكان لكل ملة من ملل أهل الذمة (مسيحية كانت أو يهودية أو مجوسية أو أي ملة أخرى) نظام حقوقي وقضائي خاص بها. . . والحالات التي راجع فيها غير المسلمين المحاكم الإسلامية ورجحوها على محكمتهم الخاصة كانت نادرة، وكان الواجب فيها أن يرضى الفريقان الحضور أمام القاضي المسلم -سواء لأنهما من ملتين مختلفتين: واحد نصراني وآخر يهودي مثلًا، أو من نفس الملة ولكن لم يرضيا بقاضي ملّتهم لسبب من الأسباب، وفي هذه الحالة كانت المحكمة الإسلامية تطبق [القانون] الإسلامي، فلم يكن كذلك تماس بين أنظمة القانون المختلفة. . .) (¬1). الدعوى الرابعة: دعوى التأثر بأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام: لهذه الدعوى شقان رئيسيان: الأول: كون العرب في تقاليدهم وعاداتهم قد تأثروا بالأمم المجاورة لهم، بل يزعم بعض المستشرقين أنه كان للعرب قبل الإسلام قانون (راق إلى حد يعتد به) (¬2)، ومن المحتمل أن هذا القانون مقتبس أو متأثر بالقانون الروماني، أو القانون الساساني. الثاني: اعتماد الإسلام في شريعته على قانون العرب باعتبار (أن الإسلام أقر بعض نظم الجاهلية) (¬3). ¬

_ (¬1) محمد حميد اللَّه: تأثير الحقوق الرومية على الفقه الإسلامية: ص 40، 41، وانظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص 22، 23، (مرجع سابق)، وانظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص 141، 142، (مرجع سابق). (¬2) نالينو المرجع السابق نفسه: ص: 15. (¬3) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص 69، (مرجع سابق).

أما الشق الأول لهذه الدعوى فهو باطل ومردود حتى لدى بعض المستشرقين لأسباب عدة تجمل في الآتي: 1 - (تفشي الأمية في العرب وجهلهم باللغات الأجنبية) (¬1)، وعلى الرغم من عنايتهم باللغة والشعر والأدب والسير والتاريخ، وكذلك احتكامهم إلى العادات والأعراف القبلية في تنظيم معاملاتهم إلا أنهم لم ينقلوا عن الروم بخاصة شيئًا من القوانين (¬2)، ولا يوجد -كما ذكر المستشرق (نالينو)؛ (أي دليل على تسرب التشريعات الرومانية إلى الشريعة الإسلامية بواسطة العرب في الجاهلية) (¬3)، كما أورد (نالينو) شهادة (تيودوريتو) (¬4) إذ قال: (إنه توجد أقوام في أقصى حدود الإمبراطورية الرومية رغم أنهم خاضعون لحكم الروميين، فإن القانون الرومي لا يطبق عليهم. يصرح (يتودوريتو) أن منهم القبائل الإسماعيلية الكثيرة العدد) (¬5). والشاهد من هذا أنه إذا كانت بعض القبائل في أطراف الجزيرة العربية مع أنها خضعت للإمبراطورية الرومية لم تعرف القانون الروماني ولم تخضع لأحكامه، فمن باب أولى عرب الحجاز الذين لم يخضعوا لأي سلطة أجنبية، ولم يتأثروا بحضارات الأمم المجاورة لهم، وهذا ما حفظه لهم التاريخ (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 69. (¬2) انظر: الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي. . .: ص 45، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص 69، (مرجع سابق)، وانظر: نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص 13، (مرجع سابق) (¬4) لعله من مؤرخي (النصف الأول من القرن الخامس الميلادي). انظر: نالينو: المرجع السابق نفسه: ص 14. (¬5) نالينو: المرجع السابق نفسه ص 14. (¬6) انظر: الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي: ص 42 - 45، (مرجع سابق).

2 - وإذا كان القول السابق ينفي تسرب القانون الروماني إلى عادات العرب وأعرافهم، ومن ثم استحالة تسربه عن طريق العرب في الجاهلية إلى الشريعة الإسلامية؛ فإن تأثر العرب بالقانون الساساني ليس إلا كما قال (نالينو): (ظن يسير ادعاؤه عسير إثباته) (¬1). وهذا القانون طواه التاريخ وأصبح في حكم النسيان وإلى ذلك يشير (فتزجيرالد) في رده على (جولدزيهر) إذ قال: (وكذلك فإن مصدرًا ممكنًا آخر للقانون الإسلامي الذي يشير إليه (جولدزيهر) أيضًا في سياق مختلف، فإنه يتكلم عنه في صدد العادات والعبادات الدينية (لا القانونية) ولكن لا نعرف عن هذا المصدر إلا النزر اليسير، ألا وهو النظام القانوني للإمبراطورية الساسانية) (¬2). أما الشق الثاني من هذه الدعوى وهو إقرار الإسلام لبعض عادات الجاهلية وأعرافها، وهو ما عبَّر عنه (كولسون) بالعرف السائد في مجتمع العرب قبل الإسلام، وأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عمد إليه فعدل فيه وغير دون أن يلغيه بل أبقى على قواعده (¬3). والصحيح عند التحقيق (أن قرار الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لهذا العرف أو ذاك لم يكن مبينًا على أساس التأثر بما أقر، أو على أساس الأخذ بعرفٍ سائد بدافع التقليد، بل على أساس أنَّ ذلك هو حكم الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها، فضلًا عن أخذه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا العرف أو ذاك إنما كان بإلهام سابق أو إقرار لاحق من اللَّه سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يقر بعض الأعراف لصلاحه؛ (كالمضاربة والبيوع والإجارات الخالية من المفاسد والقسامة وجعل الدية ¬

_ (¬1) نالينو: المرجع السابق نفسه، ص 17. (¬2) فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص 157. (¬3) كولسون في تاريخ التشريع الإسلامي: ص 35، (مرجع سابق).

في القتل الخطأ على عاقلة الجاني. . وغير ذلك)، ويلغي كثيرًا من الأعراف السائدة لفساده، "كالتبني والربا وشرب الخمر وحرمان الصغير والنساء من الميراث. . وغير ذلك". ثم إنه يمكن القول إضافة إلى ما سبق: إن أكثر ما أقره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأعراف، لم يكن يقره على حاله، وإنما عدله وشذب منه وأضاف إليه وحدد له الحدود الشرعية، فوضع -على سبيل المثال- للمضاربة شروطًا، وللوصية حدودًا، وللطلاق وتعدد الزوجات قيودًا وضوابط) (¬1). وعلى هذا فإن مقولة (كولسون) -آنفة الذكر- لكي تتفق مع حقائق الأمور ينبغي أن تعكس لتصير: والذي أبقاه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من العرف السائد عند العرب قبل الإسلام لم يبقه على عواهنه، وإنما عدل فيه وغير حتى أعاده لما كان عليه من الحق والفطرة السليمة؛ لأن العرب كانوا (في أول أمرهم على دين إسماعيل [عليه السلام]، المبني على التوحيد والتقوى، المشتمل على شريعة قائمة على أساس العدل والإنصاف، وهم لم يتحولوا إلى الشرك إلا بعد طول العهد وتقادم الزمن، ولم يبتعدوا عن أحكام تلك الشريعة إلا بعد توالي الحقب وتصرم الأزمان، وابتعادهم هذا لا يعني أنهم ضيعوا كل أحكام شريعة سيدنا إسماعيل [عليه السلام]، وفقدوا كل جزئياتها وقواعدها؛ لذلك من المعقول جدًا أن ما أقره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأعراف هو من بقايا شريعة إسماعيل [عليه السلام]، التي توارثها العرب، ويكون هذا الإلهام نتيجة إلهام اللَّه له بأن مثل هذه الأحكام هو من أحكام شريعته كما كان من أحكام شريعة إسماعيل [عليه السلام]، إذ من المعلوم أن بعض أحكام الشرائع السماوية تتفق كل الاتفاق فيما بينها؛ لأنها من الأحكام التي لها طابع الدوام والثبات والصلاح لكل وقت وزمان) (¬2). ¬

_ (¬1) الدسوقي عيد: استقلال الفقه الإسلامي. . .: ص 46، 47، (مرجع سابق). (¬2) نظام الدين عبد الحميد: مفهوم الفقه الإسلامي (تطوره، وأصالته، ومصادره العقلية =

وفي ختام هذا المطلب ألمح إلى بعض الاستنتاجات في الآتي: 1 - إن مقولة أن الشريعة الإسلامية أو فقهها قد تأثرت بمصادر أجنبية سواء القانون الروماني أو التلمود اليهودي أو القوانين الكنسية أو غيرها، أو أنها امتداد للعرف السائد عند العرب قبل الإسلام، تقوم على الخلط بين جانب من الشريعة الإسلامية وجانب آخر، تخلط بين الشريعة الإسلامية من حيث كونها منبثقة من الوحي ومصدرها الكتاب والسنة، وأنها قد اكتملت في حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في مبادئها الأساسية وأحكامها العامة وسار عليها سلف الأمة الصالح، وبين بعض مسائل الاجتهاد وما انبثق عنه من ثروة فقهية قام بها فقهاء الأمة سواء في بعض القضايا المستجدة أو تطبيق أحكام الشريعة على الوقائع والحوادث التي تجري في حياة المسلمين. 2 - إن الشريعة الإسلامية من حيث مصدرها ومن حيث واقعها متميزة عن غيرها، (ويدل كل ما فيها على أنها قائمة بذاتها غير مستمدة من غيرها ولا متأثرة به) (¬1)، وهذا ما وصل إليه نفر من المستشرقين جاء الاستدلال بأقوالهم فيما سلف. 3 - ظاهرة الاقتباس والتأثر والتأثير واضحة في تاريخ القانون الروماني والتلمود اليهودي والقوانين الكنسية وكلها عرضة للتغيير والتبديل والإلغاء. . أما الشريعة الإسلامية فإنها اختصت بصفات الثبات والاستمرار في جانب من أحكامها، واتسمت بالمرونة ومواكبة التطورات في جانب ¬

_ = والنقلية): ص 62، 63، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬1) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: ص 75، (مرجع سابق).

آخر مما أهلها للإحاطة بقضايا الإنسان وشمول أحكامها لمستجدات الزمان والمكان. وفي هذا الصدد عاب المستشرق المجري (فيري) على بعض الدول العربية والإسلامية إدخال القوانين الوضعية في بلدانهم وإحلالها محل الشريعة؛ إذ قال: (إن فقهكم الإسلامي واسع جدًا إلى درجة أنني أعجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا من الأنظمة والأحكام الموافقة لبلادكم وزمانكم) (¬1). وقال آخر: (إن النظام القانوني الإسلامي حيّ ومتفاعل ومطبق في المجتمعات الإسلامية وقائم في ضمائر أفرادها، وينبغي أن يعتمد عليه في تشكيل النظم القانونية في البلاد الإسلامية، لتأتي هذه النظم معبرة عن روح البلاد التي تطبقها) (¬2). 4 - أثبت بعض الدارسين في تاريخ القوانين أن القانون الغربي هو الذي تأثر بالفقه الإسلامي، وأفاد منه في خلال الاحتكاك الحضاري في الأندلس ومن منافذ أخرى، أما ما حدث في الأندلس فورد في بعض المصادر (أنَّ طلبة العلم من الإفرنج الذين كانوا يسافرون إلى غرناطة لطلب العلم اهتموا كثيرًا بنقل فقه الإسلام إلى لغتهم لعلهم يستعملونه في بلادهم لرداءة ما فيها من الأحكام خصوصًا في المئة الرابعة والخامسة من الهجرة، ومن الثابت أن كثيرًا منهم قد برعوا في اللغة العربية، ومنهم ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمود الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص 708، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: محمد سليم العوا: النظام القانوني الإسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة (دراسة لمنهج المستشرق: نويل ج. كولسون) بحث مدرج في: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية: 1/ 254، 255، (مرجع سابق)، وانظر: سامي الصفار: دور المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي مجلة المنهل (العدد السنوي المتخصص عام 1409 هـ عن الاستشراق والمستشرقين): ص 145، (مرجع سابق).

(هوبرت) و (ألبرت)، اللذان طلبا مساعدة علماء المسلمين بغية التمكن من استيعاب هذه الأحكام، وقد ساعدوهم حتى دونوا الفقه كاملًا ثم حوروه إلى ما يوافق بلادهم) (¬1). ويذكر سعيد مراد الغزي بأن طلبة العلم أولئك (اتفق رأيهم على. . . عدم غزو المأخوذ عن الشرائع الإسلامية لمنبعه الأصلي خوفًا من نفرة العامة من المسيحيين الذين كانوا بواسطة رؤساء الدين ينفرون من كل شيء مصدره الإسلام مهما كان حسنًا ونافعًا، فاتفقوا على إهمال مصدر ما يأخذونه عن الشريعة الإسلامية من تلك الحقوق (الشرائع الرومانية) أو (القانون المدني) بل لقد عزوا ذلك إلى اجتهادات علماء الحقوق منهم بنتيجة البحث والدرس) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) هذا الكلام منسوب إلى: مفضل بن رضي الإسفرنكاني: مجموعة رسائل في شوارد المسائل (لم أجده)؛ نقلًا عن سعيد الغزي: الحقوق المدنية في العالم القديم ومنابعها الثابتة؛ مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء الرابع، المجلد الثاني، شعبان 1340 هـ - نيسان 1922 م ص 1160، وأصلها محاضرة ألقاها في بهو المجمع العربي ليلة الجمعة 13 تشرين الأول 1921 م، ثم نشرتها مجلة المجمع. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: 116، ويؤكد الباحث بأن مسألة الظهور القانون الروماني فجأة بعد اختفائه مدة أربعة أو خمسة قرون تعزز هذه المقولة كما أنَّه أورد لأثباتها قولين من مصدرين أحدهما شرقي وهو المثبت أعلاه وآخر غربي، لمزيد الاطلاع انظر: المرجع السابق نفسه: ص 117.

الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية

الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية • تمهيد • تعريف الأخوة في اللغة والاصطلاح. • منهج الإسلام في تقرير الأخوة، ووحدة الأمة. • أثر الأخوة في تميز الأمة الإسلامية، ووحدتها. • موقف المستشرقين من الأخوة ووحدة الأمة.

تمهيد

تمهيد تبين من خلال البحث في العقيدة والشريعة- أن تميز الأمة الإسلامية يقوم على عقيدة راسخة حقة يتسع نطاقها لتشمل كل من قال: (لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه)، كما قال أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: "من شهد أن لا إله إلا اللَّه واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم" فهذه العقيدة تصبغ الأمة بصبغتها المتميزة ولا تحجبها عن أحد أراد الانتماء إليها والدخول فيها، ويقوم -أيضًا- على شريعة تربط تلك الأمة بمنظومة من القيم والنظم، تنبثق من تلك العقيدة. ومن هذا المرتكز فإن تميُّز الأمة الإسلامية يقوم على أخوة توجبها عقيدة الإسلام وشريعته، وتربط أواصر العلاقات الاجتماعية بقيم الحق والود والتراحم والتعاون، فإِنَّ هذه الأخوة لا تركز على وشائج الدم والنسب ودواعي الحسب والجاه، أو مؤثرات التاريخ واللغة أو دوافع العنصر والبيئة أو اللون، أو ما عدا ذلك من الأعراض والأوصاف المادية، التي إن دارت حولها العلاقة أو ارتبطت بها ظهرت بمظهر العنصرية الزائفة، أما في الإسلام فهي أخوة إيجابية، أخوة في اللَّه، حبًا فيه وبغضًا من أجله ولاءً وبراء، ثم لكل رابط من الروابط الأخرى ما يناسبه من البر والإحسان أو العداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

تعريف الأخوة في اللغة والاصطلاح

تعريف الأخوة في اللغة والاصطلاح أ- الأخوة لغة: تطلق الأخوة ويراد بها النسب القريب، ويسمى الواحد (الأخ)، والاثنان (أخوان) والجمع (إخوان) و (إخوة) (¬1)، وفي اللغة تفصيلات كثيرة في أصل الكلمة وتصريفها. . .، وما يهم البحث منها هو: أنها تطلق على معان عدة منها ما ذكرآنفًا (¬2). ومنها: النسب البعيد الذي يراد به الأخوة في الأصل الأول إلى أبي البشر عليه السلام (¬3)، أو النسب إلى قوم كقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] قال بعض اللغويين: (آخاهم لأنه من قومهم) (¬4). ومنها: الصديق والصاحب، ومنها آصرة الدين كقوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} [الأعراف: 202]، ومنها آصرة العمل، أو الاتفاق في صفة خير أو شر، فيقال: إخوان العمل وإخوان العزاء، وأخو كربة، أي: صاحب كربة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: ابن منظور: (لسان العرب)، مادة (أخا)، مرجع سابق. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: المادة نفسها. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: المادة نفسها. (¬4) انظر ابن منظور: المرجع السابق نفسه: مادة (أخا). (¬5) انظر: ابن منظور: المرجع السابق نفسه: مادة (أخا)؛ ولأن تصريف اللفظ في الأصل فيه إبدال فقد تشتت في معجم اللغة العربية، واكتنف البحث عنه صعوبة. انظر: ابن فارس: (معجم مقاييس اللغة): مادة (أخو)، الزمخشري: (أساس البلاغة): مادة (أخو)، ولمزيد الاطلاع على ما قيل حول مادتها من آراء في النحو. . . وإحصاء لورود مادتها ومشتقاتها لدى البخاري. انظر: محمود حسين أبو الفتوح: (معجم ألفاظ الحديث النبوي الشريف)، في (صحيح البخاري)، المجلد الأول: المادة: (26)، (أخو): ص: (109 - 116)، الطبعة الأول: (1993 م)، عن مكتبة لبنان - بيروت.

كما تطلق ويراد بها وحدة القصد، قال بعض النحويين: (سمي الأخ أخًا؛ لأن قصده قصد أخيه) (¬1)، ويقال: (وآخى الرجل مؤاخاة وإخاء ووخاء) (¬2)، ويقال: (ولقد تآخيت وآخيت. . . وتآخيت أخًا، أي: اتخذت أخًا) (¬3). ومما ورد في اللغة من مادة الأخوة، ولها دلالة تفيد سياق البحث: (الأخية والآخية، واحدة الأواخي: عود يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير وسطه كالعروة تشد إليه الدابة) (¬4)، وقيل: (حبل يدفن في الأرض ويبرز طرفه فيشد به) (¬5). وخلاصة ذلك أن للأخوة في اللغة معان عدة من أهمها: النسب القريب، النسب البعيد، الصداقة والصحبة والملازمة، آصرة الدين، آصرة العمل، الاشتراك في صفة من الصفات حسنة كانت أم سيئة، الاشتراك في القصد. وتدل بعض الألفاظ التي تشترك معها في الاشتقاق على معنى الآصرة أو الركيزة أو الرابط القوي الذي يشد إليه. ¬

_ (¬1) ابن منظور: المرجع السابق نفسه: المادة نفسها. (¬2) المرجع السابق نفسه. وانظر: إبراهيم أنيس وآخرون: (المعجم الوسيط): مادة (أخا)، مرجع سابق. (¬3) المرجع السابق نفسه. وانظر: إبراهيم أنيس وآخرون: (المعجم الوسيط): مادة (أخا)، مرجع سابق. (¬4) ابن منظور: (لسان العرب): مادة: (أخا)، المرجع السابق نفسه، وانظر: (إبراهيم أنيس وآخرون: (المعجم الوسيط): مادة: (أخا)، مرجع سابق. (¬5) ابن منظور: المرجع السابق نفسه، وانظر: إبراهيم أنيس وآخرون: (المعجم الوسيط): مادة (أخا)، مرجع سابق.

ب- تعريف الأخوة اصطلاحًا: عرفها الراغب الأصفهاني بقوله: (الأصل أخو، وهو المشارك آخر في الولادة من طرفين، أو أحدهما أو من الرضاع، ويستعار في كل مشارك لغيره في القبيلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة، وفي غير ذلك من المناسبات) (¬1). أما المقصود بالأخوة هنا فهي: (الأخوة الإيمانية التي تربط فيما بين أصحاب العقيدة الإسلامية) (¬2)، بما تقتضيه من التناصر والتراحم والتكافل، والتعاون والمناصحة، (التي لا تقاربها رابطة معها كانت وشائج القربى متينة) (¬3). (ولقد اختير وصف الأخوة دون الأبوة أو النبوة؛ لأنها جامعة تماثل، في الاعتقاد والتفكير والعمل، فشابهت تماثل الأخوين؛ لأن الأخوة يلزمها التماثل) (¬4). كذلك لما تتسم به الأخوة من الشعور بالارتياح وعدم التكلف بخلاف الأبوة والنبوة، فإن لكل منهما مشاعر تتسم بنوع من المهابة والإجلال والتوقير والطاعة من الابن لأبيه، واستمداد الأب الطاعة والبر والإحسان ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن: ماد (أخ). وانظر: محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف: (معجم لغوي مصطلحي): مادة الأخ، مرجع سابق. (¬2) محمود محمد بابللي: معنى الأخوة في الإسلام ومقاصده: ص: (14، 17)، سلسلة دعوة الحق، العدد: [38]، السنة الرابعة، جمادى الأولى: (1405 هـ - 1985 م)، عن رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (14). (¬4) المرجع السابق نفسه ص: (13).

من ابنه، وتتسم الأخوة أيضًا بأنها تجمع أواصر كثيرة منها: التماثل في الطباع والإلفة والصحبة والمحبة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: محمد الطاهر بن عاشور: (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): ص: (121)، طبعة: (1979 م)، عن الشركة التونسية للتوزيع، تونس.

منهج الإسلام في تقرير الأخوة، ووحدة الأمة

منهج الإسلام في تقرير الأخوة، ووحدة الأمة انتهج الإسلام في تقرير الأخوة وبنائها منهجًا تربويًا فريدًا، ينطلق من عقيدة التوحيد الصحيحة الأصلية، ما يندرج تحتها من مبادئ وقيم تضبط الفكر ورؤية الكون والحياة. . .، في ضوء العبودية الخالصة للَّه عز وجل وما ينجم عنها من آثار إيجابية تنعكس على سلوك الفرد، وسلامة الأمة، إلى جانب نظم الإسلام الشرعية وأخلاقياته السامية التي عنت بالأخوة ووحدة الأمة غاية العناية، أمرًا بها، وحثًا عليها، وحرصًا على كل ما يجعلها راسخة في سلوك الفرد، وبناء الأمة، ومن جانب آخر النهي عن كل ما يمسها، أو يصدع بنيانها، أو يضعف تأثيرها من الاعتداد بالروابط المنافية لها، أو المواقف التي تجافيها والأخلاق التي تصادمها. . .، وتفصيل ذلك في الآتي: أولًا: جعل العقيدة آصرة تلك الأخوة دون غيرها من الأواصر الأخرى، كآصرة النسب أو القبيلة أو اللغة أو التاريخ أو المناهج المتنوعة، والمصالح المختلفة، مع أن الإسلام لم ينكر تلك الأواصر أو يلغها ما دامت في المسلك الفطري السليم، من حيث صلة الرحم، وحقوق القرابة والجوار ونحو ذلك، وإذا كان قد ركز على آصرة العقيدة، والرابطة القائمة على أساسها فهو إنما ميزة هذه (الأخوة الإيمانية عن غيرها ورفع من شأنها؛ لأنها أخوة مستمدة من عناصر روحية لا تدانيها في التقارب أي علاقة أخرى) (¬1)، أما لو اجتمعت الآصرتان معًا فإن ذلك أبعد أثرًا وأعمق في التقارب؛ والإسلام يقر ذلك ولا ينكره، ولعل في سؤال ¬

_ (¬1) محمود محمد بابللي: معني الأخوة في الإسلام: ص: (14)، مرجع سابق.

نبي اللَّه موسى عليه السلام ربه أن يشد عضده بأخيه هارون عليه السلام ما يؤكد هذا (¬1)، بل إن الإسلام حينما أطلق على رابطة العقيدة مسمى الأخوة إنما فعل ذلك إقرارًا بمكانتها الغريزية، وما تقتضيه من العصبية والحمية من الأخ لأخيه في الدم والنسب (¬2)، ولكنه أراد أن تكون تلك الرابطة مشدودة بعقيدة الإسلام وشريعته في المقام الأول، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، (وأخوة الإيمان أوثق روابط النفوس، وأمتن عرا القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح) (¬3)؛ لأنها ترتكز على عقيدة التوحيد الخالص للَّه، (ووحدة العقيدة هي ملاك ذلك كله؛ لأنها هي التي تزود القلوب برصيد الحب الخالص، وروح الأخوة الصادقة، وتسل من النفوس ما يعلق بها من أوضار الحقد، وتطهرها من شوائب التنافر، وتصوغ الإنسانية صياغة فريدة، قوامها التناصح والتآزر، وجوهرها الإخلاص والوفاء، بحيث يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى لخيره وما يصلح شأنه، سعيه لذاته وصلاح أمره) (¬4). أما إذا ارتكزت الأخوة على عصبية النسب، وحمية الجاهلية جنسية كانت أو إقليمية فإنها تكون (وليدة نزعات خاصة لا تعرف غير الجنس أو الإقليم، ولا تمت في أكثر أحوالها إلى القلب، ولا إلى الصالح العام، ¬

_ (¬1) انظر: سورة طه: الآيات: (29 - 36). وانظر: (محمود محمد با بللي)، المرجع السابق نفسه: ص: (15). (¬2) انظر: محمود محمد بابللي: المرجع السابق نفسه: ص: (15)، (¬3) محمد علي الهاشمي: شخصية المسلم كما يصوغها المسلم في الكتاب والسنة: ص: (185)، من مطبوعات الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، رقم: [42]، بدون تاريخ. (¬4) عمر عودة الخطيب: المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية: ص: (206)، مرجع سابق.

وبها يذوي الضمير العالمي، وينكمش الروح الإنساني، وينسى الرحم العام، الذي يقضي بالتعاون العام، والسلام العام، ويقضي بالحدب الشديد على المصالح العامة، ثم تجعل من أفراد الإنسان أو جماعاته حيوانات غابية مفترسة، تفتك قويها بضعيفها، ويأكل كبيرها صغيرها) (¬1). إن تميز الأمة الإسلامية يقوم على مبدأ الأخوة ووحدة الأمة الذي أعلنه رسول الهدى -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى" (¬2). قال أبو الحسن الندوي: (هذا الإعلان يتضمن إعلانين، هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام السلام في كل مكان وزمان، هما وحدة الربوبية والوحدة البشرية، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين: مرة، وهي أساس؛ لأن الرب واحد، ومرة ثانية لأن الأب واحد، قال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقال جل شأنه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ¬

_ (¬1) محمود شلتوت: من توجيهات الإسلام: ص: (225)، مرجع سابق. (¬2) من إحدى خطب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع، وذكر الإمام الصالحي: سبل الهدى والرشاد: (8/ 482)، أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- خطب الناس بعد أن نزل قول الحق تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، (فعرف أنه الوداع. . . فوقف للناس بالعقبة وحمد اللَّه وأثنى عليه. . .)، وكان مما جاء في الخطبة ما ذكر أعلاه. . . وأن هذه الخطبة كانت في اليوم الثاني ليوم النحر، وقد أخرج الحديث الإمام أحمد: (مسند الإمام أحمد بن حنبل): (6/ 570)، الحديث رقم: [22978]، ترتيب وترقيم: دار إحياء التراث العربي، مرجع سابق.

[الحجرات: 13] ويقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه قد أذهب عنكم عُبِّيَةَ الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: برٌّ تقي كريم على اللَّه، وفاجر شقي هين على اللَّه، والناس بنو آدم، وخلق اللَّه آدم من تراب" (¬1)؛ لذلك كان الدين الإسلامي حقًا مشاعًا وثروة مشتركة لجميع الأمم والشعوب والعناصر والأجناس، والأسر والبيوت والبلاد والأوطان، ليس فيه احتكار مثل احتكار بني لاوي من اليهود، أو البراهمة من الهنود، لا يتميز فيها شعب عن شعب، ولا نسل عن نسل، وليس الاعتماد فيها على العرق والدم، بل الاعتماد فيها على الحرص والشوق، وحسن التلقي وزيادة التقدير والتفوق في الجهاد والاجتهاد) (¬2). إن هذه الرابطة التي قررها الإسلام وأعلنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مشدودة بالعقيدة والإيمان؛ ولذلك فإن من لوازمها الولاء للَّه وللرسول وللمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فالمسلم مطالب (بأن يكون ولاؤه القلبي والعملي لإخوانه في الدين) (¬3)، ومقتضى ذلك الحب في اللَّه، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]، قال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: (نزلت هذه الآية في المتحابين في اللَّه) (¬4)، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي: (الجامع الصحيح): (5/ 363)، رقم الحديث: [3270]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مرجع سابق، ومعنى (عُبِّيَة الجاهلية: أي نخوتها وكبرها وفخرها)، المرجع السابق نفسه، حاشية الصفحة: [363]. (¬2) أبو الحسن علي الحسني الندوي: الإسلام (أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية): ص: (34، 35)، مرجع سابق. (¬3) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: المعاملات في الإسلام: ص: (108)، الطبعة الثانية: (1406 هـ)، عن دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة. (¬4) أخرجه الحاكم: المستدرك على الصحيحين: (2/ 359)، الحديث رقم: [3269/ =

وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للَّه، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه كما يكره أن يقذف في النار" (¬1)، ومن لوازم مبدأ الأخوة في الإسلام من جانب آخر مما تقتضيه العقيدة ويوجبه الإيمان البغض من أجل اللَّه والبراء من أعدائه وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، قال بعض المفسرين: (لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا باللَّه واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملًا على مقتضى إيمانه ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة الذي وجدت ثمرته) (¬2). والآيات والأحاديث مستفيضة في هذا المضمار تؤكد الحب في اللَّه ولوازمه والبغض في اللَّه ولوازمه ومقتضياته، وكلها يدور حول وحدة العقيدة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23] وقوله تعالى في النهي عن موالاة اليهود والنصارى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]، فكل هذه الآيات ¬

_ = 386]، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، مرجع سابق. (¬1) أخرجه البخاري: (صحيح البخاري): (1/ 14)، الحديث رقم: [16]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأورده في عدة مواطن بألفاظ متقاربة وهو من الأحاديث المتفق عليها. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (6/ 322)، مرجع سابق.

وما جاء على نحو منها من الأحاديث والآيات الأخرى تبني شخصية الأمة المسلمة بناء متميزًا تجعل الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة من مقوماته، وتأمر بالترابط والتماسك والالتفاف حول عقيدة التوحيد الخالص للَّه، وتنهى عن التفرق والاختلاف والذوبان في شخصيات الآخرين، وبلغ ذلك أن نهى اللَّه عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]، (فوضح لعباده المؤمنين الأمور الموجبة للبراءة من اتخاذهم بطانة بأنهم لا يألونكم خبالًا: أي هم حريصون غير مقصرين، في إيصال الضرر بكم. . .) (¬1). ومع هذا التحذير وإظهار الشخصية المتميزة فإن اللَّه عز وجل جعل من خصائصها أيضًا الانفتاح على الآخرين والإيجابية في التعامل وتبادل البر، لا أن تكون شخصية منغلقة متعصبة، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، لذلك أنه لما (نزلت. . . الآيات الكريمات المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى اللَّه عنه، فأخبرهم اللَّه أن ذلك لا يدخل في المحرم. . .) (¬2)، وإنما (نهاكم اللَّه أن تولوهم بالنصرة والمودة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (1/ 413)، المرجع السابق نفسه، وانظر: سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب: أوثق عرا الإيمان، بتحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان، الطبعة الأولى: (1409 هـ - 1988 م)، يعني بتأصيل الولاء والمحبة وما يقتضيان من البغض والبراء وأنهما أساس أخوة الإسلام وساق الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، ثم جعل خاتمة الرسالة في فضل الحب في اللَّه ص: (68، 74)، وأورد على ذلك أدلة مستفيضة من الكتاب والسنة. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 356)، مرجع سابق.

الذي ليس بتولٍّ للمشركين، فلم ينهكم اللَّه عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم، من الآدميين وغيرهم) (¬1). ثانيًا: ومما انتهجه الإسلام في تحقيق الأخوة وبناء وحدة الأمة ما أوجبه على عباده من عبادات يؤدونها في جماعة، وأخلاق يتعاملون بها في علاقاتهم الخاصة والعامة، ومقتضيات تفضي إليها الأخوة من التناصر، والتراحم، والتعاون والمناصحة. أما العبادات فإن الإسلام حث على صلاة الجماعة، وفيها يلتقي المؤمنون المجاورون لكل مسجد في مسجدهم خمس مرات لأداء الفروض الخمسة من الفجر إلى العشاء، ويجمعهم لقاء أكبر يتم في كل أسبوع مرة لأداء صلاة الجمعة والاستماع لخطبتيها، ثم يجتمعون في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، ويجتمعون لصلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف وصلاة الكسوف ونحو ذلك. وفي هذه اللقاءات التي تتكرر يوميًا وأسبوعيًا وفي العيدين ونحوها مما أشير إليه تتجلى الأخوة ووحدة الأمة في أسمى معانيها، حيث تتضح الغاية من تلك الاجتماعات وهي عبادة اللَّه والخضوع له والتذلل بين يديه يلتقي من أجلها المؤمنون في بيت من بيوت اللَّه يتقدمهم إمام يأتمون به، رمزًا لوحدة لغاية ووحدة الهدف، ويصطفون من خلفه في نسق ونظام متجهين لرب واحد، وقبلة واحدة، وعلى منهج واحد (¬2)، اتباعًا لنبيهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: (7/ 357). (¬2) انظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص: (222، 223، 229، 230، 231، 233، 234)، الطبعة التاسعة: (1401 هـ - 1981 م)، عن مؤسسة الرسالة، بيروت، وانظر: عبد رب النبي علي أبو السعود: (الأخوة الإسلامية): ص: (110 - 123)، الطبعة الأولى: (1411 هـ - 1990 م)، عن مكتبة وهبة - مصر.

محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إمام الأمة وقدوتها الذي قال: "وصلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1) والذي حث على صلاة الجماعة وقال بشأنها: "تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده، بخمسة وعشرين جزءًا. . . " (¬2). ولا يتسع المقام هنا لاستقصاء ما ورد من الحث على تلك اللقاءات، ولا ما تنطوي عليه من الفوائد والحكم التي تتميز بها الأمة الإسلامية على سائر الأمم الأخرى، والتي تعد -في الحقيقة- من نعم اللَّه على هذه الأمة وعلى نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كما قال تعالى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وكما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، ويكفي أن ينوه هنا بما يتصل بالأخوة وما تعكسه تلك اللقاءات من وحدة في القول والعمل والقصد والنية، وما ينجم عن هذه اللقاءات من تعارف وتآلف في ظل طهر الضمير ونقاء السريرة وغذاء النفس الذي تصقله العبادة بما فيها من دعاء وذكر وغذاء روحي يرتوي منه المؤمنون في تلك اللقاءات إذا هم أدوها على الوجه الشرعي الصحيح (¬3). فالصلاة أولًا تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: (صحيح البخاري): (1/ 229)، الحديث رقم [605]، تحقيق مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬2) أخرجه البخاري: (صحيح البخاري): (1/ 232)، الحديث رقم [621]، تحقيق مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬3) عن تحول العبادات إلى عادات وأثر ذلك في حياة المسلمين انظر: محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات وأثره في حياة المسلمين: مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول، العدد الثاني، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة: (1395 هـ)، والمحرم، صفر، ربيع الأول: (1396 هـ)، ص: (185 - 197)، عن إدارة البحوث العلمية والإفتاء. . . الرياض.

تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، والصلاة وسائر العبادات في الإسلام تصقل نفوس المسلمين، وتحقق فيهم معنى الأخوة والوحدة في أجمل صورة؛ لأنها تشد (آصرة الأخوة في الدين في تفاعلها العميق مع وجدان المؤمن على هدى وبصيرة ومحبة وتعاون، ومشاركة في المثل العليا، فإذا الكثرة المتفرقة وحدة مجتمعة، وإذا النفوس في ألقها وصفائها كالمرايا المتقابلة، تنعكس صور بعضها في بعض وتذوب الفوارق مهما عظمت) (¬1)، فيظهر المسلمون صفًا واحدًا لا فرق بين غني وفقير، ولا رئيس ومرؤوس، ولا سيد وعبد، ولا صغير ولا كبير، الكل سواسية كأسنان المشط تجمعهم الطاعة والإيمان والانقياد للَّه، ثم إن لهذه الأخوة والوحدة في الدين والعبادة امتدادًا في الاهتمام بالشؤون الخاصة، فعلى سبيل المثال حينما يندُّ عن هذا النسق بعض المسلمين، فإن الأخوة الإسلامية توجب عليهم التساؤل عن سبب ذلك والتعامل مع كل حالة بما يناسبها من الحقوق والواجبات (¬2). وعلى هذا فإن الاجتماع للصلوات والشعائر الإسلامية الأخرى كالعيدين وغيرهما وكذلك صوم رمضان وحج بيت اللَّه الحرام وما يلازمهما من مبادئ وقيم وتعاليم، إن ذلك كله يحقق معنى الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة وآفاقها الكبرى التي تتجلى في صور كثيرة تؤكد كلها تميُّز الأمة الإسلامية. وأما الأخلاق التي أوجبها الإسلام على أمته أو حث عليها أو ندب ¬

_ (¬1) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية: ص: (366)، مرجع سابق. (¬2) انظر: محمود محمد بابللي: معاني الأخوة في الإسلام ومقاصدها ص: (154 - 170)، مرجع سابق وانظر: محمد عبد اللَّه عفيفي: النظرية الخلقية عند ابن تيمية: ص: (418 - 439)، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1988 م)، من مطبوعات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية - الرياض.

إليها فإنها من الكثرة بمكان منها ما دعا الإسلام إلى التحلي به كالصدق والأمانة والعدالة والرحمة والصبر، ومنها ما نهى عنه وحذر منه مثل الحسد والحقد والغل والغضب ونحو ذلك. فأما الصدق فقد أوجب الإسلام على كل مسلم أن يتحلى بهذه الصفة في اعتقاه، وفي قوله وفي فعله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر" (¬1)، والبر في الإسلام يتناول (كافة وجوه الخير التي يمكن أن يقوم بها إنسان بدءًا من المعتقدات والمعاملات بين الناس ونهاية بالواجبات والأخلاقيات الدينية والدنيوية وما يتصل بحياة الإنسان في أسرته وعشيرته وقومه وفي المجتمع الدولي) (¬2)، ويتبين من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]: أن مفهوم البر يربط بين العقيدة والشريعة في الإسلام ويربطهما بالأخلاق (حين يمتزج كمال العقيدة بكمال الأخلاق ويرتبط القول بالعمل، ويتصل الشكل بالمضمون ويتزاوج المعنى بالمبنى ليصبح ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 2013)، كتاب البر والصلة والآداب، الباب: [29]، الحديث رقم [2607]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق، وأخرج البخاري نحوه: (صحيح البخاري): (5/ 2261)، كتاب الأدب، الباب: [69]، الحديث رقم: (5743)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأخرجه في كتاب الأدب المفرد بلفظ: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر. . . "، الصفحة: (57)، عن دار الكتب العلمية - بيروت بدون تاريخ، وورد في الموطأ وعند أبي داود والترمذي. (¬2) انظر: عبد اللَّه الكامل الكتاني: مفهوم البر في الإسلام: ص: (30)، مجلة المنهل، عدد ذي القعدة: (1404 هـ - أغسطس 1984 م)، السنة: [50]، المجلد: [46]، مرجع سابق.

البر واجبًا معلومًا، وعمل الخير فريضة مقدسة، تستوي عندها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود والصبر عند الشدائد كأنها محطات التقاء بين الواجبات والأخلاقيات تصبح الأخلاقيات معها كالواجبات سواء بسواء) (¬1)، وهنا تأتي حقيقة الصدق ومنزلته حيث ختمت هذه الآية العظيمة بقول الحق تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، (أي: المتصفون بما ذكر، من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان، وحقيقة الإنسانية، فأولئك الذي صدقوا في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدقت إيمانهم) (¬2)، فإذا اتصف أفراد المسلمين بصفة الصدق على هذا النحو، وبهذا المفهوم الشامل فإنَّ أخوَّة الإسلام ووحدة أمته ستقوم على أساس متين يسهم في قوتها مع غيره من الأسس الأخلاقية الأخرى. أمَّا الأمانة فإنها كذلك من الأسس الأخلاقية المهمة في بناء الأخوَّة الإسلامية ووحدة الأمَّة، والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة تتضافر في الأمر بها والنهي عما يقابلها كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. . .} [النساء: 85] وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- قال: ما خطبنا نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (¬3)، ويتسع مفهوم ¬

_ (¬1) عبد اللَّه الكامل الكتاني: مفهوم البر في الإسلام ص: 29، المرجع السابق نفسه. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (1/ 213) (مرجع سابق). (¬3) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (3/ 594)، بترتيب: دار إحياء التراث العربي. . .، مرجع سابق.

الأمانة ليشمل ما دعا إليه قول اللَّه عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. جاء في تفسيرها بأنها: (امتثال الأوامر، واجتناب المحارم في حال السر والخفية كحال العلانية. . .) (¬1)، وأن اللَّه عز وجل: (عرضها على المخلوقات العظيمة. . . عرض تخيير لا تحتيم، وإنك إن قمت بها وأديتها، على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها ولم تؤديها فعليك العقاب، "فأبين أن يحملنها وأشفقن منها". . . خوفًا أن لا يقمن بما حملن لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها على الإنسان على ذلك الشرط المذكور، فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل، فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام: مثافقون قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون قائمون بها ظاهرًا وباطنًا) (¬2). وعلى هذا فالأمانة هي (باختصار الأخلاق؛ لأن الأخلاق في مجملها الصدق في الأقوال كلها والعمل الصالح في السلوك كلَّه) (¬3)، ولذلك قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" (¬4)، ويدخل في الأمانة أداء ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (6/ 254)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (254، 255). (¬3) مقداد يالجن: الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: ص: (239)، الطبعة الأولى: (1392 هـ - 1973 م)، عن مكتبة الخانجي - القاهرة. (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (5/ 2262)، كتاب الأدب، الحديث رقم: [5744]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وزيادة "وإن صلى وصام وزعم أنه =

ما أوجبه اللَّه على الإنسان من حقوق اللَّه تعالى، وحقوق لعباده، وحقوق لنفس الإنسان ذاته، وما ينبغي التوجيه إليه والتأكيد عليه هنا من معنى الأمانة هو تعامل الفرد المسلم مع أخيه، ثم تعامل الأمة بعضها مع بعضها الآخر ومع غيرها من المجتمعات البشرية والأمم الأخرى، والضابط في ذلك هو؛ أن يتعامل الإنسان مع غيره بمثل ما يحب أن يعاملوه به من النصح والصدق والإخلاص والوفاء في شتى ميادين الحياة ومجالات التعامل الإنساني إلا أن هناك فرقًا يتميز به المسلم وتتميز به الأمة الإسلامية في التعامل مع الآخرين وهو أن الإسلام ينهى عن خيانة الذين يخوننا، أي: أن اقتراف جريمة الخيانة من قبل الآخرين لا يسوغ لنا خيانتهم، فالخيانة ليست من الاعتداءات التي تقابل بالمثل) (¬1). وعن هذا المعنى قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (¬2)، وهذا مما امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، فإن اليهود على سبيل المثال كانوا يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] (أي: لا حرج عليهم في خيانة العرب، ولكن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = مسلم"، وردت في الحديث في بعض روايته لدى مسلم: (صحيح مسلم): (1/ 78)، كتاب الإيمان، حديث رقم: [109]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬1) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام: ص: (238)، الطبعة الأولى: (1402 هـ - 1982 م)، عن دار العلوم - الرياض. (¬2) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (3/ 564)، الحديث رقم: [1264]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). وانظر شرح الحديث وتخريج طرقه وما قيل عن بعض أحكامه واختلاف العلماء فيها: ابن الأثير الجزري: جامع الأصول في أحاديث الرسول: (1/ 322، 323)، مرجع سابق.

كذبهم وقال: "كذب أعداء اللَّه، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلَّا الأمانة فإنها مؤداة للبر والفاجر" (¬1) (¬2). وعلى هذا فإن الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة ترتكز على أساس متين آخر هو الأمانة بهذا المفهوم الإيجابي الخير كفضيلة من الفضائل الأخلاقية المهمة لقيام حياة الأمة بعامة والناحيتين الاجتماعية والاقتصادية بخاصة (¬3). وأما العدالة فقد حرص الإسلام على تحقيقها بين أفراد الأمة على نمط (يقوم على الموازنة بين الحقوق والواجبات، والفطرة والجهد، وما إلى ذلك من عناصر الموازنة التي يرتب الشارع عليها حكمه العادل ومساواته المحسوبة، وليست المراسلة إرسالًا يعتمد على ظواهر الأشياء) (¬4). وهناك معنى آخر للعدل والعدالة تنطلق من ذات الفرد المسلم ومن ذاتية الأمة الإسلامية، وهو (أن يأخذ المرء ويدع طبقًا لمبادئ الإسلام) (¬5)، وعند ¬

_ (¬1) الآلوسي: روح المعاني: (3/ 203)، مرجع سابق، وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 374)، مرجع سابق. (¬2) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام: ص: (238)، مرجع سابق. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه ص: (243). (¬4) انظر: عبد الستار فتح اللَّه سعيد: المعاملات في الإسلام ص: (138، 139)، مرجع سابق. (¬5) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام ص: (126)، مرجع سابق. لمزيد من الاطلاع على مفهوم العدل في الإسلام ومقارنته بالنظريات الأخلاقية الأخرى، انظر: المرجع السابق نفسه ص: (121 - 140)، وانظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (عدل)، مرجع سابق، وانظر: محمد عبد اللَّه عفيفي: النظرية الخلقية عند ابن تيمية ص: (455 - 460)، مرجع سابق.

ذلك يحقق المسلم العدل في ذاته ويتخلق به في تعامله مع إخوانه فتقوم الأخوة الإسلامية، ووحدة الأمة على أساس من العدل في الأخذ والعطاء وتحديد المواقف، قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] وقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقال أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، قال بعض المفسرين في تفسيرها: (كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق اللَّه، وحقوق عباده، فالقسط في حقوق اللَّه أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته، والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك، فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به من الأخلاق والمكافأة، وغير ذلك، ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين، أو أحد المتنازعين، لانتسابه أو ميله لأحدهما بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب، بل على النفس) (¬1). وأما الرحمة فهي (أثر من آثار الإيمان، يبعثها الطمع في رحمة اللَّه -وهي تعد فضيلة من فضائل الإنسان- وتدفع إليها العواطف النبيلة والإحساس الإنساني الشريف، وقد وصف اللَّه بها نفسه، وتفضل بها على خلقه، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]، واللَّه يحب من عباده أن يكونوا رحماء فيما ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (2/ 191)، مرجع سابق.

بينهم، فيعطف كبيرهم على صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، يواسي غنيهم فقيرهم، ويعين قويهم ضعيفهم، ويرشد عالمهم جاهلهم، ويهدي حكيمهم سفيههم، ويرى المحكوم رحمة الحاكم به، كما يرى الأبناء رحمة الآباء، والتلاميذ رحمة المعلمين، والمرضى رحمة الأطباء، أولئك هم الذين يرحمهم اللَّه، ويعطف عليهم، ويسعدهم بحسن لقائه، وينجيهم من فتنة الحياة والممات "الراحمون يرحمهم الرحمن" (¬1)، وكما أوجب اللَّه على الإنسان أن يرحم أخاه الإنسان أوجب عليه أن يرحم الحيوان (¬2)، فالرحمة تشمل في قلب المؤمن سائر خلق اللَّه من حيوان وطير ونحوها إلا الفواسق (¬3). وقد وردت أقوال كثيرة للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جانب ما ورد في القرآن الكريم كلها تحث على الرحمة، وتبين أهميتها، وأنها من أجل نعم اللَّه، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (4/ 285)، الحديث رقم: [1924]، وفيه: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة [أي قرابة من اللَّه تعالى مشتبكة كاشتباك العروق من الرحمن، فمن وصلها وصله اللَّه ومن قطعها قطعه اللَّه"، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مرجع سابق. (¬2) محمود شلتوت: من توجيهات الإسلام ص: (276)، مرجع سابق. (¬3) أجاز الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قتل بعض المخلوقات السامة المؤذية للإنسان مثل الحية والعقرب والكلب العقور وبعض الوحوش المفترسة ولكنه نهى عن تعذيبها وإحراقها، وقد عقد الفقهاء والمحدثون فصولًا في كتبهم لمناقثة ذلك وبيان أحكامه. راجع كتب الفقه والسنة مثل: صحيح البخاري، الأحاديث ذات الأرقام [2826، 3315، 1828]، وصحيح مسلم: (8/ 115، 116)، ومسند الإمام أحمد: (8/ 113، 115، 116)، وغيرها وانظر من كتب الفقه: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) تأليف: شمس الدين محمد بن عبد اللَّه الزركشي المصري الحنبلي، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد الرحمن الجبرين، المجلد [3]، ص: (154 - 158)، الطبعة الأولى: (1410 هـ)، عن شركة العبيكان للطباعة والنشر - الرياض.

قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جعل اللَّه الرحمة في مئة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" (¬1)، ومن لطف اللَّه وكرمه أن رحمته سبقت غضبه كما في الحديث: "إن اللَّه كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: أن رحمتي سبقت غضبي" (¬2)، ولذلك ورد أيضًا في الحديث الشريف: "لو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحدٌ" (¬3)، وقد بين اللَّه عز وجل أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه يختص بها من يشاء، وأنه سيكتبها لعباده المؤمنين كما في قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2]، ولئن كانت الرحمة بهذا الشمول والعمق والتأثير فإن ما يتعلق منها بالأخوة الإسلامية يتمثل في ذلك القلب النابض بالحب والرأفة والحدب على غيره الذي يكتنفه كل مسلم. ومن هنا تكون لَبِناتُ الأمة الإسلامية سليمة الطوية مرهفة الحس تتعاطف وتتألف وقدوتها في ذلك، وفي كل خلق كريم سيد الأنبياء وخاتم المرسلين -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد (كان رحيمًا في كل المواطن، وكانت عيناه تفيضان بالدموع عندما يفيض قلبه بالرحمة، وقد يسمع صوت بكائه عليه الصلاة والسلام، ولم يفقد الرحمة حتى في المواقف التي يضطهد فيها، يضيق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (5/ 2236)، رقم الحديث: [5654]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (6/ 2745)، رقم الحديث: [7115]، المرجع السابق نفسه. (¬3) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 2109)، رقم الحديث: [2755]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق.

عليه أهل مكة الخناق هو وأصحابه، بل يؤذونه ويعذبون أصحابه فيقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (¬1)، وفي يوم الفتح صنع بمن حاربه السنين الطويلة ووقف في وجه الدعوة وقتل أصحابه فعل بهم كما فعل يوسف بإخوته عندما قال: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (¬2)، وكانت رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- تسع جميع الناس، ويحس بها كل الناس الضعفاء والأقوياء على حد سواء (¬3)، وعندما طلب منه أن يدعو على المشركين قال: "إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة" (¬4). وبهذه الرحمة وما تفعله من آثار وما تتصل به من صفات الجلال والكمال أنشأ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمة الإسلامية، (فالرحمة مبادرة إنسانية. . . توطد مشاعر الإخاء الإنساني. . . وهي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض أو الألم أو حين يقع في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 3/ 1282، الحديث رقم [3290]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه ابن هشام: السيرة النبوية: (4/ 55)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، مرجع سابق. وانظر: فاروق حمادة: خطبة الفتح الأعظم (فتح مكة)، ص: (19 - 42)، وفيها تخريج موسع لما اشتملت عليه الخطبة ومصادرها من كتب السنة والسيرة والتاريخ، الطبعة الأولى: (1404 هـ - 1983 م)، عن دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب، العدد [45]، ربيع الأول - جمادى الآخرة: (1416 هـ). (¬3) مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي: رحمه اللَّه، أسبابها وآثارها، مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض: ص: (217، 218)، العدد [45]، ربيع الأول - جمادى الآخرة: (1416 هـ). (¬4) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 2007)، الحديث رقم: [2559]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق.

المآزق والملمات. . والإنسان الرحيم يبادر إلى هذا وذاك تحدده الرغبة في كشف العذاب عنه أو تخفيفه عن كاهله) (¬1). وقد تقتضي الرحمة ضروبًا أخرى من التعامل يفرضها العدل أو تدعو إليها مقتضيات الحكمة، منها ما يكون على مستوى الفرد ومنها ما يكون على مستوى الأمة. فأما الأول فمثاله إلزام الوالد والده والأخ أخاه بما يشق عليه لنفعه ومصلحته كأن (يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه، ويرفهه ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل) (¬2). وأما على مستوى الأمة فإن ذلك يتمثل في عدم رحمة الظالمين ومن صدر في حقه حكم شرعي لارتكابه جريمة من الجرائم، فلا يجوز أن تحول الرحمة بينه وبين ما يستحق من العذاب؛ لأن البواعث الإنسانية وراء العمل الرحيم لا تنبعث ولا تتحرك لرؤية كل عذاب، ولكنما تتحرك فقط عند رؤية الأبرياء والرحماء يتعذبون، فتجاوز العدل بالانتهاك أو باعتداء يكشف عن العلاقة الدفينة بين فضيلة الرحمة وفضيلة العدل، ويبين بوضوح أن الذي لا يعرف وجه العدل لا بد أن يخطئ في الرحمة، فيميل إلى الرحمة بالظالمين والمعتدين الذين لا يستحقونها) (¬3). ومما انتهجه الإسلام في بناء الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة وضمان ¬

_ (¬1) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام: ص: (188)، مرجع سابق. (¬2) مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي: المرجع السابق نفسه ص: (180). (¬3) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام: ص: (191)، المرجع السابق نفسه، وانظر: ابن تيمية مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (28/ 228)، مرجع سابق.

استمرارها وسلامتها الأمر بالصبر والحث عليه لأهميته في حياة الأمة كركيزة من ركائز المجتمع الإسلامي السليم، وتتسع دائرة الصبر في الإسلام على مستوى الفرد والأمة ليشمل أنواعًا عديدة منها، الصبر على طاعة اللَّه، والصبر عن معاصيه والصبر على البلايا والمصائب والشدائد، أي الصبر في البأساء والضراء (¬1)، كما قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (¬2) [البقرة: 177]، وقال بعض المفسرين: (في البأساء: الفقر، والضراء: المرض، وحين البأساء: القتال) (¬3). وفي قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، ما يدل على المصاعب التي قد تواجه المجتمع الإسلامي ابتلاءً من اللَّه، وأن الصبر فضيلة ينبغي على المسلم وعلى الأمة الإسلامية التذرع بها لمواجهة تلك المصاعب والأعباء وبالصبر يتحقق لها الفلاح والنجاح، حيث جاءت البشارة للصابرين في نهاية الآية في آيات أخرى كثيرة كقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]. ومما تفرد به الإسلام وتميزت به الأمة الإسلامية أن الصبر مأمور به بصفة مستمرة ومؤكدة كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] فالمصابرة كما ذكر المفسرون: (انتقال من الأدنى إلى الأعلى، فالصبر دون المصابرة) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (10/ 123)، مرجع سابق. وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (4/ 547، 548)، مرجع سابق. (¬2) وانظر: معاني الصبر في القرآن الكريم: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (صبر)، مرجع سابق. (¬3) أبو القاسم الغرناطي: التسهيل لعلوم التنزيل: ص: (69، 70)، مرجع سابق. (¬4) ابن قيم الجوزية، بدائع التفسير: (1/ 541)، مرجع سابق.

(والمصابرة هي الملازمة والاستمرار على ذلك) (¬1) أي: (لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر على النفوس) (¬2)، والتي يأتي في قيمتها الصبر على مواجهة الإعداد والانتقال من الصبر والمصابرة إلى درجة المرابطة (¬3)، وهي الإقامة في الثغور استعدادًا لمواجهة الأعداء (¬4). ومما يستفاد من ذلك أن الصبر بهذا المفهوم الإسلامي الأصيل يوجد في الأمة أفرادًا لهم (قدرات روحية وطاقات خلقية متميزة) (¬5)، وهذه الطاقات والقدرات تجعلهم قادرين على التضحية والفداء (¬6). . .، وإن ما تستوجبه الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة من حقوق وواجبات يكون من اليسر بمكان لدى تلك النفوس التي تدربت على الصبر، واعتادت عليه، وأصبح من المبادئ الأساسية في حسها وتصورها لإيمانها بقيمة الدين الذي تعتنقه والأمة التي تنتمي إليها؛ ولذلك (كان الرجلان من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخرة سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر) (¬7)، حيث إن التواصي بالصبر، ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (1/ 480)، مرجع سابق. ولمزيد من الاطلاع على الصبر: (ضرورته ومجالاته، درجاته، وعلاقته ببعض الفضائل الأخرى، بعض نماذجه الواقعية)، انظر: محمد عبد اللَّه عفيفي: النظرية الخلقية عند ابن تيمية: ص: (460 - 476)، مرجع سابق. (¬2) محمد عبد اللَّه عفيفى: المرجع السابق نفسه: ص: (480). (¬3) انظر: ابن قيم الجوزية: المرجع السابق نفسه ص: (1/ 541). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: (1/ 542، 543)، وانظر: أبو القاسم الغرناطي: التسهيل لعلوم التنزيل: ص: (127)، مرجع سابق. (¬5) أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام: ص: (178)، مرجع سابق. (¬6) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (177، 178). (¬7) سيد قطب: في ظلال القرآن: (6/ 3971)، مرجع سابق، وانظر: محمد عبده: تفسير =

(ضرورة في جهاد النفس وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة. . . والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، تساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار) (¬1). هذه من أهم الأخلاق التي تعد بمثابة قاعدة راسخة يقوم عليها بناء الأخوة والوحدة في الإسلام، ويتصل بها جملة أخرى من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال أمر اللَّه -عز وجل- ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بها وندبًا إليها وحثًا عليها مثل الوفاء والعفو والصفح والستر على المسلم وحفظ سره ونحو ذلك. وهناك إلى جانب هذه الأخلاق والفضائل المأمور بها والمندوب إليها صفات وأخلاق مذمومة نهى اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- عنها؛ منها البغض والحسد والتدبر والقطيعة والسخرية والاستهزاء وإساءة الظن والغيبة والنميمة والتجسس، والغضب، ونحو ذلك مما يفسد أواصر الأخوة ويهدم وحدة الأمة من مرذولات الأخلاق ومساوئ الأعمال. وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية منها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (¬2)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم ¬

_ = سورة العصر: ص: (7)، الطبعة الثانية: (1976 م)، عن دار الكتاب الجديد - بيروت؛ وأصلها محاضرة ألقاها على علماء الجزائر حينما زارهم سنة: (1321 هـ - 1903 م)، انظر: عمار الطالبي: ابن باديس (حياته وآثاره): (1/ 25)، عن دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية: (1403 هـ - 1983 م) - بيروت. (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (6/ 3968)، المرجع السابق نفسه، ولمزيد الاطلاع على أهمية الصبر في بناء المجتمع الإسلامي، وأثره في حياة الأمة وقوتها. انظر: محمد عبده: المرجع السابق نفسه: ص: (21، 25، 31، 45)، وانظر: عبد الرحمن بن ناصر السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن: ص: (183 - 185)، مرجع سابق. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1983)، الحديث رقم: [2559]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق، وأخرج البخاري والترمذي نحوه.

والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب" (¬1)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (¬2)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا غضب أحدكم فليسكت" (¬4)، وقد امتدح اللَّه -عز وجل- الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وقرن الغضب بالإثم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]، وقد بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن الغضب من الشيطان، وأن الشيطان خلق من نار، وأرشد إلى ما يطفئ حرارة الغضب وهو الوضوء، فالماء يطفئ النار، والوضوء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: سنن داود: (4/ 278)، الحديث رقم: [4903]، مرجع سابق. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (1/ 27)، الحديث رقم: [48]، وتكرر عنده. انظر: الأحاديث رقم: [5697، 6665]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأخرجه مسلم: صحيحه: (1/ 81)، الحديث رقم [64]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المرجع السابق، وأخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: (5/ 22)، الحديث رقم [2635]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مرجع سابق. (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1164)، الحديث رقم: [3015]، وله روايات عدة في الأحاديث ذات الأرقام [3016، 5823، 5824، 6565، 6694]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم: (3/ 1359، 1360)، الحديث رقم: [1735]، بروايات نحو ما أورده البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬4) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (1/ 239)، رقم الحديث: [2137]، مسند عبد اللَّه بن عباس، وأوله: "علموا وبشروا ولا تعسروا" الحديث، بترتيب: دار إحياء التراث العربي، مرجع سابق.

يطفئ الغضب، حيث قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (¬1). ومن هذه النصوص التي تنهى عن مساوئ الأخلاق وترشد للتي هي أقوم يتضح ذلك الحرص الأكيد على سلامة القلوب المؤمنة مما يكدر صفو الأخوة الإسلامية، وينحرف بالسلوك عن مقتضى الحب في اللَّه والاجتماع على ما يرضيه، وقد بلغ الأمر في الحرص على سلامة القلب وطهر النفس ونقاء الضمير أن أرشد للَّه سبحانه وتعالى عباده إلى نوع من الدعاء يركز على مكنون القلب وأعماق الوجدان، حيث قال تعالى حكاية عن أخوة الإسلام ووحدة أمته، وأنها تمتد في أعمق التاريخ لتصل ماضي الأمة بحاضرها ومستقبلها: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، قال بعض المفسرين: (والذين جاؤوا من بعدهم أي: من بعد المهاجرين والأنصار يقولون على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، ومن السابقين، من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الايمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها، أن يدعو بعضهم لبعض وأن يحب بعضهم بعضًا. . .) (¬2). إلى أن قال: (ذكر اللَّه في هذا الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل: (5/ 266)، رقم الحديث: [17524]، حديث عطية السعدي: (4/ 226)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي، مرجع سابق. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 336)، مرجع سابق.

لقليله وكثيره الذي إذا انتفى، ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. . . ووصفهم بالإقرار بالذنوب، والاستغفار منها واستغفار بعضهم لبعض واجتهادهم في إزالة الغل والحقد لإخوانهم المؤمنين؛ لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا ومتضمن لمحبة بعضهم بعضًا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرًا وغائبًا حيًا وميتًا) (¬1). وفي النهي عن سوء الظن بالمسلم والسخرية به واغتيابه ونحو ذلك مما لا يليق بآداب الأخوة وحقوقه، يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11 - 12]، ففي هاتين الآيتين ما يؤكد على ضرورة صيانة الأخوة الإسلامية ووقايتها من (هذا السداسي الجاهلي، السخرية واللمز والنبز وسوء الظن والتجسس والغيبة. . . وبذلك ينغصون حياتهم وأخوتهم الإسلامية وترابطهم بقلق وإرجاف ومسالك سيئة. . . والآيتان تترابطان وتتساندان في تهذيب المجتمع ورسم المنهج القويم له، فالآية الأولى اختصت بعلاج مرض السخرية واللمز والنبز بالألقاب، والثانية بالظن والتجسس والغيبة، وتلك لبنات الشر وصورة الجهل والدمار، وكلها آخذ بعضها ببعض) (¬2)، على أن هناك حالات تستثنى من هذا النهي ذكرها ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 336)، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: محمد بن محمد الأمين الأنصاري: منهج الدعوة الإسلامية في البناء الاجتماعي على ضوء ما جاء في سورة الحجرات ص: (389)، الطبعة الأولى: (1404 هـ - 1984 م)، عن مكتبة الأنصار - الرياض، وأساسها رسالة علمية نال بها الباحث درجة =

العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين، وجعلوا لها ضوابط شرعية محددة، لا يتسع المجال لذكرها وهي مبسوطة في مظانها، والمراد هنا أن الإسلام أقام (سياجًا قويًا حول حرمات المسلمين فلا تحلل، وكراماتهم فلا ينال منها، وأعراضهم فلا تنتهك وحرياتهم الممنوحة لهم شرعًا فلا تقيد ولا تصادر) (¬1) إلا في ضوء ما أباحه الشرع، واقتضته الضرورة، وهذا ما تتميز به الأخوة الإسلامية دون سائر الروابط والصلات والأواصر في المجتمعات الإنسانية الأخرى والأمم سوى الأمة الإسلامية المختارة. وللأخوة الإسلامية ووحدة الأمة مقتضيات تعد بمثابة الثمار الحلوة لتلك الأسس الراسخة التي اعتمدت في بناء الأخوة الإسلامية على الأمر والنهي والحث والندب، الأمر بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال والحث عليها والندب إليها وإلى كل ما يتصل بها من عمل صالح وخير وفضيلة، والنهي عن مرذولات الأخلاق ومذموم الصفات وسفاسف الأمور وما يتصل بذلك من أقوال وأعمال ومشاعر وأحاسيس. وأهم ما تقتضيه الأخوة الإسلامية: أ- التناصر: وله في الإسلام صورٌ كثيرة يتداخل بعضها مع بعض في إطار ما تقتضيه الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة من التراحم والتعاون والتكافل، ويقتصر هنا على بعض تلك الصور مثل ما دلَّ عليه الحديث الشريف في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" (¬2) وقوله ¬

_ = الماجستير من المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض، ولم يذكر تاريخ مناقشتها. وانظر: نشأة ظبيان: العالم المتفوق (منهج سلوكي متكامل، انتفت فيه الآثرة وتجلت كرامة الإنسان): ص: (95 - 99)، مرجع سابق. (¬1) محمد الأنصاري: المرجع السابق نفسه ص: (385). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (2/ 862، 863)، رقم الحديث: [2310]، و: =

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه [أو قال لجاره] ما يحب لنفسه" (¬1) وهذا الحديث يؤكد مع أحاديث أخرى كثيرة أن الأخوَّة الإسلامية تقتضي من المسلم (أن ينصر أخاه من أعدائه فلا يسلمه إليهم ولا كلمة "لا يسلمه" لا تقتصر على أن يسلم المسلم أخاه إلى عدوه بالمعنى الظاهر من هذه الكلمة، وإنَّما يتضح أنَّ لهذه الكلمة شمولًا واسعًا، وذلك أن لا يسلمه إلى اليأس، ولا يسلمه إلى التهلكة، ولا يسلمه إلى الخزي والعار، ولا يسلمه إلى التردي في مهاوي الفساد، كما تفيد أيضًا أن لا يسلمه إلى عدوه. . . وهذه من بعض معاني التناصر بين المسلمين، وكذلك يجب على المسلم أن لا يظلم أخاه المسلم) (¬2). ويتجاوز التناصر في أخوة الإسلام ما يعهده الناس في الجاهلية من حمية جاهلية تقتضي الوقوف إلى جانب الأخ سواء كان ظالمًا أو مظلومًا، إلى نصرته على نفسه وإنقاذه من ذاته، فقد جاء الإسلام والعرب تقول: (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) (¬3) فأقر هذا القول وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ = (6/ 2550)، رقم الحديث: [6551]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1996)، رقم الحديث: [2580]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق)، وورد لدى مسلم برواية "لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. . . كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". المرجع السابق نفسه: الحديث رقم: [2564]، (4/ 1986). (¬1) أخرجه مسلم: المرجع السابق نفسه: (1/ 67)، الحديث رقم: [45]. (¬2) محمود محمد بابللي: معاني الأخوة في الإسلام ومقاصدها: ص: (64)، مرجع سابق. (¬3) تنسب إلى جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، (ولم أجد له ترجمة وفية)، وأنه أول من قالها في الجاهلية ذكر ذلك ابن حجر: فتح الباري: (5/ 98)، مرجع سابق، وانظر: أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص: (70)، مرجع سابق.

"أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬1)، وعندما سأل رجل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره" (¬2). وهناك صورتان أخريان في التناصر تميز بها الإسلام، واختصت بها أخوته على سائر المبادئ والنظم والأعراف الأخرى: الأولى: التدخل بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا بالصلح بينهما، وهذه الصورة بما ذكر فيها من تفصيلات وأحكام تعطي دلالة واضحة على مبدأ الأخوة الإسلامية وأصالته حيث أوجب الإسلام -بمقتضى أخوة الإسلام- على ولاة أمر المسلمين أن يتدخلوا بالصلح بين فريقين من المسلمين اقتتلوا، ولا ينتهي الأمر عند ذلك، بل أوجب متابعة الحدث والوقوف بجانب الحق ومن كان عليه من الفريقين حتى يحسم الأمر ويظهر الحق. وللعلماء في ذلك آراء كثيرة تدل -فيما تدل عليه- أن الأخوة الإسلامية عميقة الدلالة قوية التأثير. . ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10 - 11]، أوجب اللَّه على الأمة الإسلامية (أن تقف موقف الأخوة الناصحة كما أمرها اللَّه، وتعيد العلاقات والأخوة الإسلامية ولوازمها بين فريقين اقتتلا أو اختلفا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (2/ 863)، رقم الحديث: [23111، 2312]، تحقيق مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (6/ 2550)، رقم الحديث: [6552]، تحقيق مصطفى ديب البغا، مرجع سابق.

بأي سبب من الأسباب وإن أدى ذلك إلى الوقوف إلى جانب الفريق المظلوم ومساندته على الفريق الظالم) (¬1). ثم إن في تحديد موقف الأمة الإسلامية من الطائفة الباغية، أو الفريق المعتدي، تفصيلات وآراء كثيرة ذكرها العلماء (¬2) تؤدي في نهاية الأمر إلى استخلاص النتيجة الآتية وهي: إن مما يترتب على الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة (أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في [الأمة الإسلامية]، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة وهو إجراء صارم حازم) (¬3). أما الصورة الثانية فهي: درء ما يحيط بالأمة من الشر بالأخذ على يد الجاهل أو من يتسرب عن طريقه الشر، وإن كان لا يقصد ذلك، ولا يعلم به، ومما ورد في ذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل القائم على حدود اللَّه والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا أستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" (¬4). ¬

_ (¬1) محمد الأنصاري: منهج الدعوة الإسلامية: ص: (362)، مرجع سابق. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (368 - 376). (¬3) سيد قطب: في ظلال القرآن: (6/ 343)، مرجع سابق. وانظر: محمد الأنصارى: منهج الدعوة الإسلامية: (373)، مرجع سابق. (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (2/ 882)، رقم الحديث: [2361]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. وله رواية أخرى عند البخاري: المرجع السابق نفسه: (2/ 954)، رقم الحديث: [2540].

في هذه الصورة والتي قبلها ما يميز التناصر في المجتمع الإسلامي وعلى مستوى الأمة الإسلامية، وأنه تناصر ذو مفهوم شامل واع يقدر المصلحة العليا للأمة، وهو بهذا المفهوم الفريد (أمر توجبه الأخوة الإيمانية، كما توجبه المصالح المشتركة للجميع) (¬1). ب- التراحم: وهو من آثار الرحمة -التي سبق الكلام فيها- عندما تفيض قلوب المؤمنين بالرحمة التي تشربها قلب كل مؤمن منهم وأصبح مجتمع الأمة الإسلامية مجتمعًا متراحمًا متعاطفًا متجاذبًا كالجسد الواحد، وفي ذلك يقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (¬2)، والنصوص الواردة من الكتاب والسنَّة مستفيضة وكلها (توضح للمسلمين أن وضعهم الصحيح المرضي عنه من ربهم هو أن يتراحموا ويتعاطفوا ويتكاتفوا ويتساندوا حتى يكونوا كالبنيان المرصوص) (¬3)، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" (¬4)، وقال أيضًا: "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله" (¬5). وبهذا التراحم وما يوجبه من تكافل ومحبة وتهاون ومناصحة، بل ¬

_ (¬1) محمود محمد بابللي: معاني الأخوة في الإسلام: ص: (67)، مرجع سابق. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1999، 2000)، الحديث رقم: [2586]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬3) علي عبد الحليم محمود: مع العقيدة والحركة والمنهج ص: (159)، مرجع سابق. (¬4) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1999)، رقم الحديث [2585]، المرجع السابق نفسه. (¬5) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 2000)، رقم الحديث [2585]، المرجع السابق نفسه.

وإيثار بين المسلمين (في غير إثم ولا مكروه) (¬1) تظهر الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة في صورتها الناصعة وتؤتي ثمارها الطيبة على خير وجه (¬2). ج- التعاون: (وقد أمر اللَّه تعالى به المؤمنين على وجه عام مطلق في كل خير، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقد جعل اللَّه تعالى له وجوهًا عملية محددة، منها (¬3): - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (وبهذا المبدأ يكون المجتمع متضامنًا في حمل المسؤولية الاجتماعية) وملزمًا بتحقيق المعروف في ربوعه، ورفع المنكر عن طريق الوجوب، لا عن طريق كفالة الحق له -كما هو شأن الدساتير الوضعية- وهو وجوب ديني ومسؤولية يترتب عليها الثواب والعقاب) (¬4). - التعاون في مجال الحياة الاجتماعية والمقصود بذلك (تعاون الناس في شؤون حياتهم، وما يعرض لهم من حاجات، وقد توسع فيه الإسلام حتى مده إلى الشؤون العاطفية، والنفسية وغيرهما، كالمبادأة بالهدية، وعيادة المريض، وصنع الطعام لأهل الميت، ورعاية اليتيم والمسكين وابن السبيل، وإكرام الضيف وتفقد الغائب، وتعهد الضعيف، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإقراء السلام ورده، والتكافل الاقتصادي على سعته جزء من هذا الباب) (¬5). ¬

_ (¬1) محمد فؤاد عبد الباقي في شرحه للحديث السابق "المؤمن للمؤمن كالبنيان. . . ": صحيح مسلم: (4/ 2000)، رقم الحديث: [2586]، المرجع السابق نفسه. (¬2) انظر: علي عبد الحليم محمود: المرجع السابق نفسه: ص: (157 - 165)، ص: (75 - 80). (¬3) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: المعاملات في الإسلام ص: (110)، مرجع سابق. (¬4) المرجع السابق نفسه ص: (111). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (111)، وانظر: بعض ما ورد في ذلك من أحاديث لدى =

ومجالات التعاون كثيرة، ويضيق المجال عن التفصيل، ولكن يكتفى بالقول إن الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة بما تقتضيه من تعاون على البر والتقوى بعامة تشكل (شبكة من الروابط الاجتماعية تتبع تسلسلًا رائعًا في التكليف فعبادة اللَّه أولًا، فالإحسان للوالدين، ثم الإحسان لذي القربى، ثم اليتامى، فالمساكين فالجار القريب، ثم الجار الغريب، فالقرين فابن السبيل، علاقات تكون شبكة متآلفة تتصل بصلات اجتماعية بارَّة كلها متصل بحبل اللَّه) (¬1)، وإذا عمل كل مسلم على أداء ما أوجبه عليه الإسلام وندبه إليه في ضوء هذه (الصلات. . . التي تؤلف دعائم المجتمع المسلم) (¬2) مع ما سبق ذكره من حقوق الأخوة الإسلامية وآدابها فإن الأمة الإسلامية تتميز على غيرها (بأنها أمة الأخوة في الدين) (¬3)، والوحدة في المنطلق والغاية والاتجاه والمسلك، ويقوم تميزها على أخوة الإسلام ووحدة أمته مع المقومات الأخرى وفي مقدمتها العقيدة والشريعة، فتكون بذلك خير أمة أخرجت للناس (بل إن الأخوة في الدين من أكبر نعم اللَّه على عباده المؤمنين، فبها صار المسلمون أمة واحدة بعد أن كانوا فرقًا وأحزابًا، وبها صار المسلمون أحبابًا في اللَّه بعد أن كانت العداوة بينهم وبين أسلافهم مما يتناقل أحاديثه الركبان، لقد امتن اللَّه على عباده المؤمنين بهذه الأخوة وما تقتضيه من محبة وتعاون وما تفضي إليه من ¬

_ = البخاري في صحيحه كتاب المظالم وغيره، ولدى مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب وبخاصة الأبواب: [7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23]، (4/ 1983 - 2004)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬1) نشأة ظبيان: العالم المتفرق: ص: (40)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (40). (¬3) علي عبد الحليم محمود: مع العقيدة والحركة والمنهج ص: (80)، مرجع سابق.

وحدة الأمة الإسلامية، حيث يقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]،. . . ونعمة اللَّه في هذه الآية هي الإسلام واتباع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبه زالت العداوة والفرقة وحلت محلها المحبة والألفة والأخوة في الدين) (¬1). د- المناصحة: قال الراغب الأصفهاني: (النصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، قال تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]، وقال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعرف: 21]، وهو من قولهم: نصحت له الود، أي: أخلصته، وناصح العسل: خالصه. . . وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، إما الإخلاص، وإما الإحكام) (¬2). وقال ابن الأثير في معنى قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الدين النصيحة. . . للَّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬3): (نصيحة اللَّه: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته والنصيحة لكتاب اللَّه: هو التصديق به والعمل بما فيه، ونصيحة رسوله: التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه، ونصيحة الأئمة: أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا، ونصيحة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم) (¬4). يتبين من ذلك أن المناصحة من النصح، وأن النصح يعني الإخلاص ¬

_ (¬1) علي عبد الحليم محمود: مع المرجع السابق نفسه: ص 78. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (نصح)، مرجع سابق. (¬3) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 74)، الحديث رقم: [55]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬4) النهاية في غريب الحديث والأثر: (5/ 63)، مرجع سابق.

والخلوص والإحكام، كما أنها تعني في إطار الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة، أن يحب المسلم لإخوانه (ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم وإن ضر ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم وإن كان في ذلك فوت ربح ما يبيع من تجارته، وكذلك يكره جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم) (¬1). ومما تعنيه المناصحة الإخلاص والصدق في الرأي لمن طلب المشورة وهي من حق المسلم على أخيه، كما قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حق المسلم على المسلم ست. . . " (¬2) إلى أن قال: "وإذا استنصحك فانصح له" (¬3)، ويبلغ الأمر بالنصح -بداعي الأخوة- درجة الذب عن عرض الأخ المسلم والنصح له في غيابه، وفي ذلك ورد عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن من حق المسلم على المسلم أن ينصح له إذا غاب" (¬4)، قال ابن رجب في معناه: (ومعنى ذلك أنه إذا ذكر في غيبته بالسوء أن ينصره ويرد عنه، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبته كفه عن ذلك) (¬5). وتعني المناصحة من جانب آخر إرشاد المسلمين لما فيه مصالحهم، (وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وستر عوراتهم، وسد خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم ومجانبة الغش والحسد لهم وسلامة الصدور والنصح للأمة. . . وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًا حتى قال ¬

_ (¬1) ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم والحكم ص: (90)، مرجع سابق. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (4/ 1750)، الحديث رقم: [2162]، مرجع سابق. (¬3) المرجع السابق نفسه: (4/ 1705)، الحديث رقم [2162]، مرجع سابق. (¬4) أورده ابن رجب الحنبلي: المرجع السابق نفسه ص: (91). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص: (91).

بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه، وقال الفضيل بن عياض رحمه اللَّه: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير -وقال عبد العزيز بن أبي داود: كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئًا يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم والحكم: ص: (90، 92)، المرجع السابق نفسه.

أثر الأخوة في تميز الأمة الإسلامية، ووحدتها

أثر الأخوة في تميز الأمة الإسلامية، ووحدتها يعد أثر الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة -وفق ما انتهجه الإسلام في بنائها وما اقتضته دلالاتها ومنطلقاتها وأهدافها- في تميز الأمة الإسلامية من آيات اللَّه الدالة على قدرته كما قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ. . .} [الأنفال: 62 - 63]- قال ابن خلدون: (وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة اللَّه في إقامة دينه. . . وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل، والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على اللَّه اتحدت وجهتها، فذهب التنافس، وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاطف، واتسع نطاق الكلمة) (¬1). ومن رحمته تعالى بهذه الأمة أن جعل نصرة الأخوة ووحدة الأمة التي هي من مقومات تميزها، تتمثل في أخلاق قائدها ومعلمها وهاديها وإمامها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وأرشده -جل وعلا- في الآية نفسها إلى عوامل الألفة ومظاهر اللين، فقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. وأدى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكان في كل ذلك كما قال اللَّه عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وبكلمة جامعة ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص: (142)، مرجع سابق، وانظر: عبد العال سالم مكرم: أثر العقيدة في بناء الفرد والمجتمع: ص: (166، 167)، الطبعة الأولى: (1408 هـ - 1988 م)، عن مؤسسة الرسالة - بيروت.

وصفت أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- خلقه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: (كان خلقه القرآن) (¬1). بهذه الأسوة الحسنة والقدوة الراشدة انداح أثر الأخوة الإسلامية في الأمة وتحققت به وحدتها، وشاع أثرها في الإنسانية، وكان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يؤكد على هذه الآصرة الفريدة، ويرسم منهجها الذي لا يوجد (على وجه الأرض نظام أو منهج يشبه المنهج الإسلامي أو يقاربه فضلًا عن أن يساويه) (¬2) في منطلقاته وأهدافه ومراميه إزاء هذه الآصرة وتأثيرها في الأمة، شأنه في ذلك شأن جميع مقومات تميز الأمة وخصائصه وأهدافه ووسائله. ومن أهم ما يبين أثر الأخوة في تميز الأمة الإسلامية وتحقيق وحدتها وفق المنهج الإسلامي وتطبيق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته الكرام الآتي: أ- ما كان عليه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه قبل الهجرة من الحب والتآخي فقد كان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويحثهم على الخضوع لرب العالمين في أداء ما افترضه عليهم من الصلاة خمس مرات في اليوم في طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل؛ فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق، وتحريرًا من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعًا إلى رب الأرض والسموات، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل، وقهر النفس، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف، وهم من أمة، من أيامها حرب البسوس وداحس والغبراء، وما يوم الفجار منهم ببعيد -ولكن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يعالج - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: الأدب المفرد، باب: من دعا اللَّه أن يحسن خلقه، ص: (47)، مرجع سابق. وانظر تخريجًا أوسع له لدى: محمد بن يوسف الصالحي: سبل الهدى والرشاد. . .: (7/ 6)، مرجع سابق. (¬2) عبد رب النبي علي أبو السعود: الأخوة الإسلامية: ص: (54)، مرجع سابق.

بحكمته- ما في طبيعتهم السابقة من قسوة وشدة، يوجههم إلى أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة، فكان أن لانوا، ورقت طبائعهم وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تهيج به النفوس في غير جبن وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان وبلغ السيل الزبى أذن اللَّه لرسوله ولأصحابه بالهجرة: وهاجروا إلى يثرب وقد سبقهم إليها الإسلام) (¬1). ومنذ بعثته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى زمن هجرته وما بينهما من تفصيلات تاريخية كانت نماذج الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة تتجلى في أجمل صورها في ميدان التربية والتعليم والتهذيب والتضحية والفداء (¬2)، ولا يتسع المجال لاستعراض تلك الصور أو معظمها، ولكن تكفي الإشارة إلى موقفين تجلت فيهما الأخوة الإسلامية بصورة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا: الأولى: ما يذكر في بعض مصادر السيرة من أنَّ عليًا بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- وكرم وجهه نام على فراش الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لدى مغادرته داره في أعقاب ¬

_ (¬1) انظر: أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص (92، 93)، مرجع سابق. (¬2) انظر: كتب السيرة والتراجم منها سيرة ابن هشام: (1/ 274 - 293)، عن إسلام أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ووقوفها بجانب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإسلام علي بن أبي طالب ومرافقته للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإسلام زيد بن حارثة، وأنه فضل البقاء مع الرسول حين قدم والده يطالب به وخيره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الذهاب مع أبيه والإقامة مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقام عنده حتى بعثه اللَّه فصدقه وأسلم -صلى اللَّه عليه وسلم- وصلى معه، كذلك ذكر إسلام أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- وإيلاف قريش له دعوته للإسلام، وفي هذه القصص وما جاء بعدها حتى هاجر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته إلى المدينة. . . ما يجلي الأخوة الإسلامية، ويبين عمق أثرها في المسلمين.

ليل مريع، أحاط أبناء القبائل المسلحون طيلة ساعاته بدار الرسول ينتظرون اللحظة التي سيطيحون فيها برأسه ويفرقون دمه بين القبائل. قال ابن إسحاق: (فلمَّا كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام، فيثبون عليه، فلمَّا رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: "نمْ على فراشي، وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. . . "، وخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ اللَّه على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم. . .) (¬1). الثانية: اختيار أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-: ليكون رفيق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخاه في هجرته، وما صاحب ذلك من مشاعر الحب والفداء والتضحية (¬2) والثقة في نصر اللَّه ووعد الحق، ولئن كان المجال لا يتسع لذكر تفاصيل ذلك؛ فإنَّ من المواقف الخالدة ما سجله القرآن الكريم حكاية عن أبي بكر إذ هو مع ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 124)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، مرجع سابق، وانظر: عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص: (137)، الطبعة السادسة: (1402 هـ - 1982 م)، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬2) كان لأبي بكر وأسرته مواقف كثيرة ذكرتها كتب السيرة إبان هجرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر: ابن هشام: السيرة النبوية: (3/ 127 - 129، 130)، ومما وردت من مفادات أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- للرسول كما رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: (لقد خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فقال: "يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة خلفي، وساعة بين يدي"؟ فقال: يا رسول اللَّه اذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك. . .) الحديث، وفي نهايته قال عمر -رضي اللَّه عنه- وأرضاه: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر)؛ انظر: البداية والنهاية لابن كثير: (3/ 180)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد أبا زهرة (خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم- القسم المكي: ص: (623، 624)، وما قبلهما وما بعدها من ص: (608 - 632)، مرجع سابق.

الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغار، ينظر إلى أقدام المشركين المطاردين الخانقين عند أسفل الغار، فيخاف ويحزن ليس على نفسه بل على الرسول نفسه، وعلى ما يمثله الرسول، فيقول له: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا) (¬1). ويأتي رد الرسول صادرًا عن ذلك الإيمان القوي بعون اللَّه لعباده ودفعه عنهم وحمايته لهم: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، اللَّه ثالثهما" (¬2)، ويعلن اللَّه -تبارك وتعالى- هذه الحماية التي لا حماية بعدها بقوله في كتابه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]. وفي هاتين السورتين تتجلى معاني الأخوة بعمقها وشمولها، إذ تضمنت الفداء بالنفس والمال والأهل والثقة المطلقة بموعود اللَّه مع ما اكتنفتا من مشاعر الحب والإيثار، يقول ابن إسحاق: (انتهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر إلى الغار ليلًا، فدخل أبو بكر -رضي اللَّه عنه- قبل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه) (¬3)، إنها قمة التضحية والفداء التي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1337)، الحديث رقم: [3453]، والحديث رقم [3707]، وفي: (17134)، الحديث رقم: [4386]، بألفاظ متقاربة واللفظ المثبت أعلاه هو الحديث رقم [3453]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه"، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ انظر: الموسوعة الحديثية (مسند الإمام أحمد بن حنجل: (1/ 189، 190)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين، مرجع سابق. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده باللفظ نفسه: المرجع السابق نفسه: ص: (190). (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 127)، مرجع سابق. وانظر: الإمام الصالحي: سبل الهدى والرشاد: (3/ 238 - 265)، مرجع سابق.

لا تتأتى إلا بروح الأخوة الإسلامية وتأثيره، وهو ما كان من أبي بكر الصديق، ومن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، ومن كافة الصحابة الكرام مع رسول الهدى -صلى اللَّه عليه وسلم- مما سطرته صفحات التاريخ -ولأبي بكر مزية في أخوة الإسلام ذكرها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في خطبة عرض فيها بقرب وفاته وكان مما جاء فيها: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد بابٌ إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر" (¬1). قال ابن رجب في معناه: (لما عرض الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على المنبر باختياره للقاء على البقاء ولم يصرح، خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثاني اثنين إذا هما في الغار وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- جزعه وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله، ولا يقع عليه اختلاف في خلافته. . .) (¬2). ب- المؤاخاة التي شرعها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وجعل منها (أساسًا لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم، ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة، ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على الأخوة الإسلامية التي تأسست على حقيقة العقيدة الإسلامية، ولولا ذلك لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1377)، الحديث رقم: [3454]، والحديث رقم [3691]، وقبلهما الحديث رقم: [454]، (1/ 177، 178)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬2) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف: ص: (202)، تحقيق: ياسين محمد السواس، الطبعة الأولى: (1413 هـ/ 1992 م)، عن دار ابن كثير - دمشق.

الإسلامي ودعم وحدته- لم يكن ما أقامه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين) (¬1). لقد كانت المؤاخاة من أوائل الأعمال التي قام بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما وصل إلى مهاجره، قال ابن إسحاق: (وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال -فيما بلغنا. . . تآخوا في اللَّه أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب. . . وزيد بن حارثة، مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخوين. . .) (¬2). ومما يقوله ابن إسحاق في ذكر تفصيلات المؤاخاة: (فهؤلاء من سمي لنا ممن كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بينهم من أصحابه، فلما دون عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهدًا، فقال عمر لبلال: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبدًا، للأخوة التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عقد بينه وبيني، فضم إليه) (¬3). وفيما أورده ابن إسحاق دليل على عمق هذه المؤاخاة ورسوخها في ¬

_ (¬1) انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة: ص: (157)، الطبعة السابعة، (1398 هـ - 1978 م)، دار الفكر - دمشق، انظر: حسن زكريا فليفل: إنما المؤمنون إخوة (الأخوة الإسلامية) ص: (42، 43)، عن مكتبة الإيمان للطبع والنشر والتوزيع - الاسكندرية بدون تاريخ. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 146)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، مرجع سابق. (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 148)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، المرجع السابق نفسه.

نفوس صحابة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- اتخذ في سبيلها من التدابير التشريعية والتنظيمية ما لم يسبق لمثله من قبل، ولعل وثيقة الموادعة التي كتبها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، ووادع فيها اليهود؛ تعطي دلالة حضارية بعيدة المدى وعميقة المعنى، ذلك أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسى دعائم الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة وبين حقوقها ودعائمها، وأنها إحدى مقومات تميز الأمة الإسلامية، وقد ورد نص الوثيقة: (في كل كتب السيرة كاملة، وفي كثير من كتب السنة النبوية مجزأة) (¬1)، واستشهد بها بعض الباحثين في دراسة المجتمع الإسلامي، واستخلص منها حقائق كبرى في قيام الأمة الإسلامية المتميزة (¬2)، منها: - (تأكيد وحدة الأمة الإسلامية وترابطها وتميزها من دون الناس بإيمانها الصحيح وإسلامها الواعي. . . وبأنها الأمة التي تحمل تبعة الدعوة، دعوة البشرية كلها إلى هذا الدين لتأكيد أنها خير أمة أخرجت للناس. . . وإعلاء عنصر الإيمان ورفع شأن المؤمنين. . . وأن المؤمن أعلى عناصر الوجود قدرًا وأرفعها ذكرًا عند اللَّه. . .) (¬3). - (تكافل المسلمين وتكاتفهم في الحرب. . . (وأن المؤمنين لا يتركون مفدحًا بينهم) (¬4) والمفدح: المثقل بالدين والكثير العيال، فهذا يرعاه إخوانه المسلمون ولا يتركونه لدين يفدحه ولا لنفقة عيال تعجزه، ¬

_ (¬1) عبد رب النبي علي أبو السعود: الأخوة الإسلامية: (52)، مرجع سابق. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص (52، 54)، وانظر: ص: (46 - 50)، المرجع السابق نفسه. (¬3) المرجع السابق نفسه. (¬4) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 144)، مرجع سابق. وانظر: مهدي رزق اللَّه أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (دراسة تحليلية) ص: (306)، الطبعة الأولى (1412 هـ - 1992 م)، من مطبوعات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية - الرياض.

هذا واجب المسلم نحو أخيه المسلم في السلم والأمن، فإذا كانت حرب وجهاد في سبيل اللَّه فإن المسلمين يتكافلون فيما بينهم، ويخفف بعضهم على بعض ما أصابهم من مغارم الحرب وتبعات الجهاد) (¬1). - (إقرار المساواة بين المسلمين وتكافؤهم في المكانة والكرامة والحقوق. . . ويتضح ذلك من قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأن ذمة اللَّه واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس" (¬2) ومهما قال أصحاب النظريات والنظم من المتشدقين بالمساواة والعدالة، فلن يصلوا إلى أدنى ما يدل عليه قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ويجير عليهم أدناهم" (¬3) فأقل المسلمين مالًا أو جاهًا أو قوة كأكبر المسلمين مالًا أو جاهًا أو قوة يجير عليه فلا يرد إجارته) (¬4). - (والأمة الإسلامية مطالبة أبدًا بأن تكون أبدًا مع الحق وضد الباطل ولو تمثل هذا الباطل في واحد منهم، يتضح ذلك من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثمًا أو عدوانًا فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم" (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) عبد رب النبي علي أبو السعود: الأخوة الإسلامية: ص: (55)، مرجع سابق. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية: (2/ 144)، المرجع السابق نفسه. (¬3) المرجع السابق نفسه: (2/ 144). (¬4) عبد رب النبي علي أبو السعود: الأخوة الإسلامية: ص: (55)، مرجع سابق. (¬5) ابن هشام: السيرة النبوية: المرجع السابق نفسه: (2/ 144)، ولمزيد الاطلاع على نصوص هذه الوثيقة (الصحيفة) ومصادرها، وتاريخ كتابتها وشواهدها من كتب السنة والسيرة والتاريخ، وما تضمنت من مبادئ دستورية، وقيم أخلاقية؛ انظر: مهدي رزق اللَّه أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، المرجع السابق نفسه في الصفحات: (306 - 318)، ونظر: محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة: ص: (1 - 7)، مرجع سابق. (¬6) عبد رب النبي علي أبو السعود: المرجع السابق نفسه: (56).

وبهذا أصبحت الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة شريعة تنتهج، ونظامًا يطبق ويقنن؛ فإن إطار الحقوق والواجبات وهذا (مما تميز به الإسلام على غيره من الأديان ومن النظم والنظريات، حتى إنَّ بعض العلماء يرون أن هذه المؤاخاة مما خص به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون سائر الرسل عليهم السلام) (¬1). وقد اتسمت هذه المؤاخاة بمظاهر كثيرة وتطبيقات رائعة، منها ما كان على مستوى الأمة، ومنها ما كان على مستوى الأفراد. . . ويجمل الحديث عن بعض نماذجها فيما يأتي: أولًا: لقد بلغ من تأثير المؤاخاة في بداية الأمر حد التوارت بين الإخوة في الدين بعد الموت، (وظلت كذلك حتى تغيرت بجعل هذا التوارث بين أولي الأرحام فحسب) (¬2)، فكان (ميراث الأنصاري يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجر بدلًا من ذوي رحمه من الإخوة أو الأبناء أو النساء. . . واستمر ذلك حتى موقعة بدر التي حظي فيها المسلمون بمقادير لا بأس بها من الغنائم والأموال) (¬3)، ونزل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]- قال ابن عباس: (هذه الآية نسخ لما تقدم من الموالاة بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة) (¬4). وقال ابن العربي: (إنه عموم في كل قريب بينته السنة بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" (¬5) حسبما ثبت في كتاب ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (57). (¬2) المرجع السابق نفسه: (51). (¬3) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة ص: (153)، مرجع سابق. (¬4) صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم، تحقيق: راشد عبد المنعم الرحال: ص: (258)، مرجع سابق، والنص المثبت منقول عن ابن العربي الآتي ذكره، أما لفظ الصحيفة فهو "نسخت ما قبلها، وصار الميراث لذوي الأرحام" (¬5) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: (3/ 1233، 1234)، الحديث رقم: [1615]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق.

اللَّه، وقال رسول اللَّه) (¬1) وقال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ. . .} [الأنفال: 74 - 75]: (هذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم. . . لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة، والنصرة، والموالاة، بعضهم لبعض، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين. . . وكذلك من جاء بعد هؤلاء من المهاجرين والأنصار، ممن تبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللَّه، {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. فهذه الموالاة الإيمانية -وقد كانت في أول الإسلام- لها وقع كبير، وشأن عظيم، حتى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللَّه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات، وأصحاب الفروض، فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته، من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم الآية الكريمة) (¬2). ومما يستخلص من هذا الحدث الإسلامي الفريد في إطار العقيدة والأخوة والتشريع: (أن نظام الميراث الذي استقر أخيرًا، إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين، إذ لا توارث بين دينين مختلفين، إلا أن الفترة الأولى من الهجرة وضعت كلًا من الأنصار والمهاجرين أمام مسؤولية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة، ونزولهم ضيوفًا على إخوانهم ¬

_ (¬1) أحكام القرآن: (2/ 889، 890)، تحقيق: علي محمد البحاوي، عن دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، بدون تاريخ. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (3/ 195، 196)، مرجع سابق.

الأنصار في المدينة، فكان ما أقامه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسؤولية، ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من حقيقة أخوة الرحم المجردة، فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة، وتمكن الإسلام فيها، وغدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الحقيقي الطبيعي للمجتمع الجديد في المدينة، أصبح من المناسب انتزاع القالب الذي كان قد صب فيه نظام العلاقة بين المهاجرين والأنصار إثر التقائهم في المدينة، إذ لا يخشى على هذا النظام بعد اليوم من التفكك والتميع في ظل الأخوة الإسلامية العامة وما يترتب عليها من المسؤوليات المختلفة، ولا ضير حينئذ أن يعود تأثير قرابة الرحم بين المسلمين من حيث كونها مؤثرًا زائدًا على قرابة الإسلام وأخوته) (¬1)، في إطار عقيدة التوحيد وتحت مظلة الشرع؛ ولأن في ذلك ما (يلبي جانبًا فطريًا في النفس الإنسانية، ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي) (¬2). ثانيًا: بلغت مشاعر الأخوة وتأثيراتها بين المهاجرين والأنصار أعلى درجات الأخوة ومشاعر الوحدة من الإيثار والسماحة والنبل؛ ولذلك شواهد عدة سجلها التاريخ، وامتدحها اللَّه عز وجل في محكم التنزيل، وهي من الكثرة بمكان، تعج بها كتب السنة والسيرة والتاريخ والتراجم، سواء ما كان منها في صفوف الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار، أو من جاء من بعدهم وسار على نهجهم واقتفى أثرهم في فهم عقيدة الإسلام واعتناقها، وطبق ¬

_ (¬1) محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة: ص: (158)، مرجع سابق. وانظر: حسن زكريا فليفل: إنما المؤمنون إخوة: ص: (43، 44)، مرجع سابق. (¬2) سيد قطب: في ظلال القرآن: (3/ 1561)، مرجع سابق.

شريعته وارتبط بآصرة الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة، ويكفي شاهدًا على ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فهذه صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة ورؤى مجنحة ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق) (¬1). وبالرجوع إلى ما ذكره المفسرون في نزول بعض هذه الآية وما ذكروا من شواهد على الإيثار الذي وصف اللَّه به الأنصار تتحقق المقولة السابقة؛ من أن هذه الأفعال التي كانت من أثر الأخوة الإسلامية لو لم تحدث بالفعل ويتواتر خبر ذلك لكانت من نسج الخيال، وفي ذلك ما يبرز تميز الأمة الإسلامية على سائر الأمم، ومن هذه الشواهد: - ما ذكره الواقدي من أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: لما تحول من بني عمرو بن عوف (في قباء) إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين، فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد منهم على أحد إلا بقرعة سهم) (¬2). - أنزل الأنصار إخوانهم المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم وأحسنوا إليهم (¬3) وآووا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومنعوه من الأحمر ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (6/ 352)، مرجع سابق، وانظر: أبا الحسن الندوي: الإسلام وأثره في الحضارة: ص: (126 - 128)، مرجع سابق. (¬2) كتاب المغازي: (1/ 378)، تحقيق: مارسدن جونس، الطبعة الثالثة: (1404 هـ - 1984 م)، عن عالم الكتب، بيروت، وانظر: عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص: (153)، مرجع سابق. (¬3) انظر: الشوكاني: فتح القدير: (5/ 201)، مرجع سابق.

والأسود، وتبؤوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن حماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها، بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي وجعل يزداد شيئًا فشيئًا) (¬1) حتى إذا أفاء اللَّه على رسوله وغنم أموال بني النضير (دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين. . . ثم قال: "إن أحببتم قسمت مما أفاء اللَّه علي من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم" فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونوا في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار") (¬2). - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: (قالت الأنصار: أقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال: "لا" قال: "تكفوننا المؤونة وتشركوننا في التمر" قالوا: سمعنا وأطعنا) (¬3)، فهذه صورة أخرى من الإيثار الذي اتصفت به الأنصار فقد ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 334)، مرجع سابق. (¬2) الإمام الصالحي: سبل الهدى والرشاد: (4/ 325)، مرجع سابق، والواقدي: كتاب المغازي: (1/ 379)، مرجع سابق، والشوكاني: فتح القدير: (5/ 201)، مرجع سابق، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (18/ 18)، مرجع سابق، وانظر: عماد الدين خليل: دراسات في السيرة النبوية: ص: (153، 154)، مرجع سابق، وقد ورد لفظ دعاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لدى مسلم على هذا النحو: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار" صحيح مسلم: (4/ 1948)، رقم الحديث: (2506)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مرجع سابق. (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: (3/ 1378)، رقم الحديث: [3571] و (2/ 819)، رقم الحديث: [2200]، بلفظ قريب منه، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق.

أشركوا إخوانهم المهاجرين في أموالهم، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل كفوهم مؤونة العمل وقاسموهم في ثمار أموالهم إجابة لقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هم قوم لا يعرفون العمل -أي: في الزراعة- فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر" (¬1). - وقال ابن كثير في تفسيره قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]: (أي: من كرمهم وشرف نفوسهم، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم. وقوله: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]: أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم اللَّه بهم، من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة) (¬2). وقال القرطبي في معنى قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]: (الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ورغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته) (¬3)، وساق شواهد عدة على ذلك من تطبيقات الأنصار رضوان اللَّه عليهم، مما يؤكد أن أخوة الدين هي التي جعلت الأنصار يفتحون قلوبهم لإخوانهم المهاجرين قبل أن يفتحوا منازلهم (¬4). ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (4/ 338)، مرجع سابق، وذكر الواحدي: أسباب النزول: ص: (393)، مرجع سابق: أن الأنصار قالوا: يا رسول اللَّه، اقسم بيننا وبين إخواننا من المهاجرين الأرض نصفين قال: "لا، ولكنهم يكفونكم المؤونة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم "قالوا: رضينا. فأنزل اللَّه تعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] لكن الشاهد في سياق القصة ما أثبت أعلاه، وربما حدث هذا وذاك والتحقيق في ذلك أمر يخرج عن سياق البحث. (¬2) تفسير القرآن العظيم: (4/ 337)، مرجع سابق. (¬3) الجامع لأحكام القرآن: (18/ 18، 19)، مرجع سابق. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: (18/ 17 - 20). وانظر: محمود محمد بابللي: معاني الأخوة في الإسلام: ص: (50)، مرجع سابق.

- ومما أورده المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] أنها نزلت في رجل من الأنصار (آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده، وباتوا جياعًا) (¬1)، وقيل: (أهدي لرجل من أصحاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رأس شاة فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه إلهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك) (¬2). - وذكر ابن كثير صورة أخرى -وذكرها غيره- وهو: (الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 335)، مرجع سابق، وقد وردت أقوال عديدة في ذلك الرجل ومن هو؛ انظر: ابن كثير: في تفسير القرآن العظيم: (4/ 338)، مرجع سابق، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (18/ 18 - 19)، مرجع سابق، والشوكاني: فتح القدير: (5/ 201)، مرجع سابق. وأصل الحديث عند البخاري أخرجه في كتاب فضائل الصحابة، باب: [40]، قول اللَّه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، ونصه: عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن رجلًا أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من يضم أو يضيف هذا"؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا العشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "ضحك اللَّه الليلة، أو عجب من فعلكما"، فأنزل اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، صحيح البخاري: (3/ 1382)، رقم الحديث: [3587]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، مرجع سابق. (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (18/ 18)، مرجع سابق. وانظر: الواحدي: أسباب النزول ص: (314)، مرجع سابق، والقصة عنده عن عبد اللَّه بن عمر.

جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم -رضي اللَّه عنهم- وأرضاهم) (¬1). ومما ينبغي الإشارة إليه أن ذلك الإيثار الذي اتصف به الأنصار في صور كثيرة تفوق الحصر كانت تقابل من المهاجرين في إطار الأخوة الإسلامية نبلًا وسماحة خلق، من ذلك قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه الأنصاري سعد بن الربيع، التي رواها البخاري؛ من أن سعدًا قال لعبد الرحمن: (إني أكثر الأنصار مالًا، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك اللَّه لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثر صفرة، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مهيم"؟ قال: تزوجت، قال: "كم سقت إليها"؟ قال: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب -شك إبراهيم) (¬2). وهذا يبين ما كان عليه المهاجرون من سماحة الخلق والنبل، وأنهم قابلوا (إيثار إخوانهم وسماحتهم بتقدير كامل وسماحة مماثلة رافضين منذ البدء أن يكونوا اتكاليين على إخوانهم وعالة على أولئك الذين آووهم وقاسموهم) (¬3)، ولا يتعارض هذا المعنى مع قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي سبق آنفًا: "هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر" (¬4)؛ لأن المقصود بذلك العمل في مجال الزراعة؛ ولأن المجتمع الإسلامي الوليد ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم: (4/ 338)، مرجع سابق. (¬2) صحيح البخاري: (3/ 1378)، الحديث رقم: [3569]، ومعنى "مهيم" (ما حالك وما شأنك وما خبرك) وقوله: (شك إبراهيم)، هو راوي الحديث. انظر: مصطفى ديب البغا، المحقق، مرجع سابق. (¬3) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة ص: (154)، مرجع سابق. (¬4) سبق تخريجه: ص: (536)، البحث نفسه.

مجتمع يكمل بعضه بعضه الآخر فهو (ما بين مهاجرين، قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار، والأوطان، والأحباب، والخلان والأموال، رغبة في اللَّه ومحبة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وبين أنصارهم؛ الأوس والخزرج الذين آمنوا باللَّه ورسوله طوعًا ومحبة واختيارًا. . .) (¬1)؛ ولذلك فإن اللَّه امتدح المهاجرين ووصفهم في الآية السابقة للآية التي وصف فيها الأنصار وامتدحهم بها إذ قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، (وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين) (¬2) إلى جانب الصورة التي ذكرت عن الأنصار، وهما صورتان متكاملتان لتميز الأمة الإسلامية، وأن من مقوماته الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة التي تقوم على (مبدأ العطاء قبل الأخذ، وتشده أواصر العقيدة. . . ويوجهه الإيمان العميق في كل فاعلياته، ويقوده الرسول (الأسوة) الذي ضرب بتجرده وإيثاره وانسلاخه عن الأخذ وعطائه الدائم مثلًا عاليًا ومؤثرًا) (¬3). وخلاصة القول: (أن تجربة المؤاخاة نجحت، وكان لابد لها أن تنجح ما دامت قد استكملت الشروط، وتهيأت لها الأسباب في القيادة والقاعدة على السواء وبغض النظر عن عدد الذين تآخوا عشرات كانوا أو ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (7/ 333)، مرجع سابق. (¬2) سيد قطب: في ظلال القرآن: (6/ 3526)، مرجع سابق. (¬3) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص: (156)، مرجع سابق. ولمزيد الاطلاع على نماذج من تطبيقات الإيثار بين المهاجرين والأنصار بل بين إخوة الإسلام؛ انظر: المرجع السابق نفسه: (152 - 158)، وانظر: حسن زكريا فليفل: إنما المؤمنون إخوة: ص: (33 - 44)، مرجع سابق، وانظر: نماذج من الأخوة والحب بين الصحبة والتابعين وتابعيهم ص: (44 - 52)، المرجع نفسه.

مئات أم ألوفًا) (¬1) ومن هذه التجربة الرائدة في تاريخ البشرية بعامة انطلقت آثار الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة في أقطار المعمورة وآفاقها (حتى غمر كل جزء من أجزائها وكل ركن من أركانها بدعاة ربانيين مخلصين مجاهدين مصلحين، مربين عارفين باللَّه، متحرقين لخلق اللَّه، باذلين نفسهم ونفيسهم لخير الإنسانية، وإنقاذها. . . أذكوا شعلة الحب الإلهي، وفجروا أنهار العلوم والآداب، والحكم والمعارف وعرفان، والإيمان والحنان، وأنشؤوا في نفوس البشر مقتًا جديدًا للظلم والجور، والعدوان والبغضاء. . . وضموا المنبوذين والمهجورين والمساكين الذين لفظهم المجتمع، وطردهم أهلهم وعشيرتهم، إلى صدورهم العامرة بالحب والحنان، إنك تجد آثارهم، وتلمس آياتهم على كل جزء من أجزاء البسيطة كمواقع المطر، لا يخلو منها بيت وبر ولا مدر) (¬2). ¬

_ (¬1) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص: (158)، مرجع سابق. (¬2) أبو الحسن الندوي: الإسلام أثره في الحضارة أو فضله على الإنسانية ص: (126، 127)، مرجع سابق. وعن واقع الأخوة الإسلامية في العصر الحاضر؛ انظر: حسن زكريا فليفل: إنما المؤمنون إخوة ص: (55، 56)، مرجع سابق، وانظر: محمد علي الهاشمي: القيم الكبرى التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية ضمن الإسلام والحضارة ودور الشباب المسلم: (1/ 65، 66)، من مطبوعات الندوة العالمية للشباب الإسلامي: (1401 هـ - 1981 م) الرياض، لمزيد الاطلاع على وحدة الأمة الإسلامية من حيث مرتكزاتها، وجذورها التاريخية، وضرورتها، ومقوماتها، ودعائمها؛ انظر: المراجع الآتية: • شيخ الإسلام ابن تيمية: قاعدة في جمع كلمة المسلمين، عن مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى: (1408 هـ/ 1988 م)، تحقيق: حماد سلامة، ومراجعة: محمد عويضة. • الإمام محمد أبو زهرة: الوحدة الإسلامية، عن دار الفكر، القاهرة، بدون تاريخ. • عمر يوسف حمزة وأحمد عبد الرحيم السايح: معالم الوحدة في طريق الأمة الإسلامية، =

موقف المستشرقين من الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية

موقف المستشرقين من الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية تعد وحدة الأمة الإسلامية من لوازم الأخوة الإسلامية ومقتضياتها الأساس، وإذا كانت بعض الدراسات الاستشراقية قد وقفت على عوامل هذه الوحدة، وما تفرد به الإسلام من تحقيق لها بصفة تقصر دونها جميع المناهج والمذاهب والأديان (¬1)؛ فإن هناك دراسات استشراقية وأبحاثًا ¬

_ = الطبعة الأولى: (1413 هـ - 1993 م)، عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة. • محمود حمدي زقزوق: قضايا فكرية واجتماعية في ضوء الإسلام: ص 9 - 31، بعنوان (مفهوم وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة)، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1988 م، عن دار المنار، القاهرة. • أحمد بن سعد الغامدي: الوحدة الإسلامية (أسسها ووسائل تحقيقها)، مقال مدرج في مجال البحوث الإسلامية، العدد [21]، ص: (237 - 275)، مرجع سابق. • أكرم ضياء العمري: قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي، الجزء الأول: (94 - 114)، الطبعة الأولى: (1414 هـ)، الإصدار: [39]، من سلسلة كتاب الأمة؛ سلسلة فصلية تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر. • محمد رشاد خليل: المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره: ص: (146 - 152)، الطبعة الأولى: (1404 هـ - 1984 م)، عن دار المنار، القاهرة. • يوسف كمال: مستقبل الحضارة ص: (175 - 213)، الطبعة الثانية: (1408 هـ - 1987 م)، عن دار الوفاء، المنصورة - مصر. • فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع الإسلامي: ص: (129، 133)، مرجع سابق. (¬1) لمزيد من الاطلاع على هذه الدراسات والأبحاث انظر: • عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص: (78، 196، 197، 136)، مرجع سابق. • صالح بن حميد شهود على الوحدة من خارجها ص: (9 - 14)، أورد ما يزيد على عشرة أقوال لعدد من المستشرقين منهم (هارولد سمث) و (جوستاف لوبون) و (لوثروب ستودارد) و (برنارد لويس) و (ر. ل ميليما)، والباحثة الفرنسية (دانكوس) و (مونتغمري وات). =

أنجزها عدد من المستشرقين عرفوا بعدائهم للإسلام وأمته، وارتبطوا بالاستعمار والصهيونية وغيرهما من دوائر العداء للإسلام، وجاءت هذه الدراسات والأبحاث محاولة موجهة لهدم الوحدة الإسلامية، وذلك بالتحذير منها وإبراز تاريخها وآثارها على الأمم والشعوب أولًا، ثم العمل على تنشئة عوامل أخرى تعمل على هدمها وتفتيتها. وللمثال على إبراز ملامح الوحدة الإسلامية وتاريخها وآثارها على الأمم والشعوب التي انتشر فيها الإسلام، وصاغها صياغة فريدة جاءت الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة فيها من أهم مقومات تميز الأمة الإسلامية، ما كتبه (هانوتو) المستشرق الفرنسي بعنوان: (قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية) وجاء فيه: (لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق. . فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرًا وأفواجًا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه) (¬1). ¬

_ = وانظر: هاملتون جيب: أين يتجه الإسلام: ص: (20)، حيث أبرز في حديثه مظهرًا من مظاهر الوحدة الإسلامية وهي الحروف العربية التي تستعمل في سائر العالم الإسلامي. . . نقلًا عن السيد رزق الطويل: اللسان العربي والإسلامي معًا في معركة المواجهة: ص: (102)، العدد [60]، السنة السادسة من سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة. (¬1) نقلًا عن: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص: (32، 33)، مرجع سابق، وانظر: محمد محمد الدهان: قوى الشر المتحالفة: ص: (22)، مرجع سابق، وأساس مقولة هانوتو نشر في مقال له بعنوان: لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية، نشرته جريدة المؤيد عام: (1317 هـ)، ومثل ذلك ما نشرته مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية في عدد يونيو: (1930 م)، تحت عنوان: (الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي)، انظر: محمد محمد الدهان، المرجع السابق نفسه: ص: (22 - 25).

وبعد أن يصف رقعة الإسلام في آسيا وإفريقية، وأنها تفصل الدول الغربية بعضها عن بعضها الآخر، وأن دعائم الإسلام ثابتة الأركان في أوروبا عينها. . .، قال (وخلاصة القول: إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة بها يديرون أعمالهم، ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، ومتى اقتربوا من الكعبة: من البيت الحرام، من زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس، من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة، من الركن الذي يقولون عنه أنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام، اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفًا. . . وتقدمهم الإمام مستفتحًا العبادة بقوله: (بسم اللَّه)، فيعم السكوت والسكون، وينشران أجنحتهما عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف، ويملأ الخشوع قلوبهم ثم يقولون بصوت واحد: (اللَّه أكبر) ثم تعنو جباههم بعد ذلك قائلين: (اللَّه أكبر) بصوت خاشع يمثل معنى العبادة) (¬1). وعلى الرغم من وقوف (هانوتو) على هذا المعنى السامي لجوهر الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة الإسلامية، فإنه لا يهتدي بما فيها من نور وروحانية -بغض النظر عن تجاوزاته في بعض العبارات والمفاهيم- بل يرفع عقيرته محذرًا بني جلدته من هذه الوحدة، ومستنفرًا لهم كي يعملوا على إضعافها وتفتيتها؛ فيقول: (لا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد، غريب عن إسلامنا (في تونس والجزائر) ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص: (33)، المرجع السابق نفسه.

ولا علاقة له به؛ لأنه وإن كانت البلاد (الإسلامية) التي تحكمها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة بـ (دار سلام) وإنما هي (دار حرب)، فإنها لا تزال عزيزة وموقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان! والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأسد حول قفص جلست فيه صغارها، وربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة، ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها) (¬1). ومما سلكه المستشرقون في أبحاثهم ودراساتهم بهدف هدم الوحدة الإسلامية الآتي: 1 - بعث الحضارات القديمة، والعودة بالشعوب الإسلامية تبعًا لتلك الحضارات حتى تفقد وحدتها الإسلامية. 2 - إحياء القوميات لتحل محل عقيدة الإسلام وأخوته وتمزق وحدة الأمة الإسلامية. 3 - إظهار الفرق المنشقة عن الأمة الإسلامية والتنظير لها، ودعوة الدول الاستعمارية لمساندتها ودعمها بغية إضعاف الأخوة الإسلامية وتفتيت وحدة الأمة. إضافة لما سبق الحديث عنه من دعوة إلى تطوير الإسلام (¬2)، والأخذ بالأنموذج الغربي في ذلك التطوير أن انتهاج أساليب أخرى من التطوير تؤدي في نهاية الأمر إلى انفكاك الأمة الإسلامية من أواصر الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة لتعدد نماذج تلك الأساليب التطويرية إما باختلاف الأزمان، أو باختلاف الأمكنة والبلدان. ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص: (33، 34). (¬2) انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث: ص: (217، 218، 219، 220، 226 - 232، 286، 392)، المرجع السابق نفسه.

إن هذه المنطلقات وغيرها كانت الدوافع والبواعث الحقيقية وراء كثير من الدراسات الاستشراقية التي لاقت أصداء واسعة لدى قادة الاستعمار ودهاقين السياسة والفكر الغربي، (فقد جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني (أورمسبي غو) لرئيس حكومته بتاريح: (9) يناير كانون الثاني (1938 م)، ما يأتي: [إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها، بل فرنسا أيضًا، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة]. . .) (¬1). وعن المعنى نفسه قال (لورانس براون): (إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضًا، أما إذا ظلوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذٍ بلا قوة ولا تأثير) (¬2). ولتحقيق هذه الغاية التي يسعى إليها المستعمرون وتنظر لها طائفة من المستشرقين، وهي إضعاف الأخوة الإسلامية وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية انطلقت بعض الدراسات الاستشراقية من المنطلقات المذكورة آنفًا، وفيما يأتي لمحة موجزة عن ذلك: 1 - أما محاولة بعث الحضارات القديمة، فقد تولاها دعاة ينادون ببعث الحضارات القديمة، فقد تولاها دعاة ينادون ببعث الحضارات الجاهلية التي قامت على أنقاضها حضارة الإسلام مثل الفرعونية في مصر، ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمود حمدي زقزق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص (98)، مرجع سابق. (¬2) الإسلام والإرساليات: ص: (44، 48)، نقلًا عن: أحمد العناني: أطول معارك التاريخ: ص: (141)، مرجع سابق، وانظر: الخالدي وفروح: التبشير والاستعمار ص: (37)، مرجع سابق.

والفينيقية في الشام، وغيرهما من الحضارات البائدة. . .، ولئن دار الصراع الفكري حول هذه الحضارات في العالم الإسلامي بين دعاة متحمسين لهذه الدعاوى ومعارضين لها يعون ما تهدف إليه من إضعاف الأخوة الإسلام وتمزيق لوحدة الأمة الإسلامية، وتهديم لكيانها في مواجهة الغرب، فقد كان للمستشرقين إسهام بارز في الدعوة إلى بعض هذه الحضارات وتنميتها. يقول (جيب): (وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغله المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا ومصر، وفي أندونيسيا وفي العراق وفي إيران) (¬1). أما الدعوة إلى الفرعونية فهي تدرك أبعاد هذه الدعوة، ومقاصدها الخطيرة؛ من خلال المعرفة الوافية بعقائدها وتاريخها، ذلك أن (الفرعونية: نسبة إلى الفراعنة حكام مصر في عهدها القديم، وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 10 - 12]. وكانوا طاغين. . أهل بطش وجبروت، زعموا أنفسهم أربابًا من دون اللَّه، وقسروا الناس على تأليههم وعبادتهم، قال تعالى على لسان فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، وكانوا يعبدون الشمس والعجل، ويقدسون النيل ويقدمون إليه القرابين، ولما فتح المسلمون مصر دخل الشعب المصري الإسلام، وربط ¬

_ (¬1) وجهة العالم الإسلامي، ص: (342)، نقلًا عن أبي الحسن الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: ص: (185)، طبعة: (1397 هـ - 1977 م)، عن دار القلم، الكويت.

الإسلام بين هذا الشعب وسائر الشعوب الإسلامية برباط الأخوة في إطار الأمة الإسلامية الواحدة) (¬1). ولم يكن الاستشراق بريئًا مما أقدم عليه الاستعمار عندما طرح شعار (مصر للمصريين، وأخذ ينادي بالفرعونية، ونشط لكي يجعل لمصر الفرعونية حضارة فأخذ ينبش قبور الفراعنة، ويبحث في آثارهم ليختلق تاريخًا، وليؤكد حضارة، وليصرف المسلمين في مصر عن الاعتزاز بحضارتهم الإسلامية إلى الاعتزاز بالحضارة الفرعونية) (¬2). وعلى الرغم مما بذله الاستعمار في تضخيم التراث الفرعوني في المناهج الدراسية وعلى صفحات الجرائد والمجلات، ومن خلال المسرح والتمثيل والتماثيل التي نصبت في الساحات والميادين وغيرها لتعبر عن الاعتزاز بتلك الحضارة الغابرة إلى جانب عنايته بعلم الآثار لهذا الغرض بخاصة مستخدمًا في ذلك طائفة من المستشرقين في البحث والتنظير، فإن هذه الدعوى لم تستطيع تحقيق الأهداف المرسومة لها من قبل المستشرقين والمستعمرين بالصفة التي كانوا ينشدونها وفي الوقت الذي وقتوا له، إذ قابلها المفكرون والأدباء بالاستهجان وماتت في مهدها. يقول محمد حسين هيكل: (وانقلبت ألتمس تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلًا لوحي هذا العصر ينشئ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرًا لنهضة جديدة، وروَّأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، والفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد في الإيمان باللَّه تنزع في ظلال حرية الفكر ¬

_ (¬1) عز الدين الخطيب التميمي وآخرون: نظرات في الثقافة الإسلامية: ص: (51)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (52).

إلى وحدة الإنسانية، وحدة أساسها الإخاء والمحبة، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور اللَّه بينهم، وهم لذلك أمة واحدة تحيتها السلام، وغايتها السلام، وهذه الفكرة تخالف ما يدعو إليه عالمنا الحاضر من تقديس القوميات وتصوير الأمم وحدات متنافسة يحكم السيف، وتحكم أسباب الدمار بينها فيما تتنافس عليه، ولقد تأثرنا معشر أمم الشرق بهذه الفكرة القومية واندفعنا ننفخ فيها روح القوة، نحسب أنا نستطيع أن نقف بها في وجه الغرب الذي طغى علينا وأذلنا، وخيل إلينا في سذاجتنا أنا قادرون بها وحدها على أن نعيد مجد آبائنا، وأن نسترد ما غصب الغرب من حريتنا وما أهدر بذلك من كرامتنا الإنسانية) (¬1). ثم يواصل نقده لفكرة القومية قائلًا: (ولقد أنسانا بريق حضارة الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها. وزادنا ما خيم علينا من سخف الجهل إمعانًا في هذا النسيان. على أن التوحيد الذي أضاء بنوره أرواح أبنائنا قد أورثنا من فضل اللَّه سلامة في الفطرة هدتنا إلى تصور الخطر فيما يدعو الغرب إليه، وإلى أن أمة لا يتصل حاضرها بماضيها خليقة أن تضل السبيل. . وكم في ماضينا من أرواح ذات سناء باهر قادرة بقوتها على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقًا جديدًا. . . ومحمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها. . . لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في "حياة محمد") (¬2). ويقول كاتب آخر: (هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرنًا وثلث من التاريخ الإسلامي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الصباحية ¬

_ (¬1) في منزل الوحي: ص: (23)، الطبعة السابعة: (1979 م)، عن دار المعارف، القاهرة. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (23، 24).

سوابغ الظلال) (¬1) ثم يؤكد بأن (الحضارة الفرعونية قد ماتت) (¬2)، غير أن هذه الدعوة تنشط من حين لآخر وبخاصة في الوقت الراهن) (¬3). والفينيقية: كلمة يونانية (أطلقها اليونان على إحدى الجماعات الكنعانية التي استقرت على الساحل المعروف الآن بساحل لبنان) (¬4). وأصل الكلمة مشتق من (فينيقيا) وتعني اللون الأحمر أو اللون البني، وقد نسبت إليها هذه الجماعة من الكنعانيين؛ لأنهم كانوا تجار أقمشة تصبغ باللون الأحمر، أو لأن بشرتهم ذات لون بني (¬5)، (على أن هذه التسمية قد زالت بزوال الفينيقيين تحت ضغط الهجرات، وأصبحوا تاريخًا لا يعدو في صورته أكثر من حجارة وأوابد مدفونة في أعماق الأرض، وعندما جاء الفتح الإسلامي كانت هذه البلاد جزءًا من بلاد الشام، وكان ¬

_ (¬1) عز الدين الخطيب وآخرون: نظرات في الثقافة الإسلامية: ص: (52)، مصدر سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه ص: (52). (¬3) انظر: محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية: ص: (141)، مرجع سابق. ولمزيد من الاطلاع على الدعوة إلى الفرعونية والأدبيات عولجت بها هذه الدعوة والوسائل والأساليب المستخدمة في بعثها وإحلاله كعقيدة للأمة المصرية المنشودة لدى أولئك الدعاة، انظر: محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: (2/ 140 - 158)، الطبعة السابعة: (1405 هـ - 1984 م)، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬4) عز الدين الخطيب وآخرون: المرجع السابق نفسه: ص: (55)، ولمزيد من الاطلاع على الفينيقية وتأريخها وحضارتها. انظر: جاك ريسلر: الحضارة العربية: ص: (25، 26)، تعريب خليل أحمد خليل، الطبعة الأولى: (1993 م)، بيروت - باريس، عن منشورات عويدات، وانظر: حسان حلاق: ملامح من تاريخ الحضارات (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والديني)، الفصل الرابع: (الحضارة الفينيقية)، ص: (57)، حتى ص: (79)، طبعة: (1411 هـ - 1991 م)، عن الدار الجامعية - بيروت. (¬5) عز الدين الخطيب. . . وآخرون: المرجع السابق نفسه، ص: (55)، وانظر: الموسوعة الذهبية: (10/ 1086)، طبعة يناير: (1980 م)، عن مؤسسة سجل العرب - القاهرة.

القاطنون فيها شعوبًا مختلفة لا يمتون إلى الفينيقيين بسبب أو بآخر، وكانوا تحت حكم البيزنطيين وسرعان ما دخلوا في الإسلام وصاروا والفاتحين بنعمة اللَّه إخوانًا، وما عرفت هذه البلاد عبر أربعة عشر قرنًا حضارة غير الحضارة الإسلامية) (¬1). ثم جاء المستشرقون وعملوا على تجميع رفات هذه الحضارة وإحياء أمجادها؛ لتكون آصرة أخوة وعقيدة لطائفة من الشعوب الإسلامية، وعلى ذلك تنسلخ من انتسابها لأخوة الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية، وتصبح عائقًا عويصًا من عوائق وحدة الأمة الإسلامية التي هي من أهم مقومات تميزها، ويتحقق للغرب كما قال أحد الباحثين عن آثار إحياء الحضارة الفينيقية، وأنها تعني في المقام الأول: (سلخ لبنان عن بلاد الشام والعالم الإسلامي والحضارة الإسلامية، وهي دعوة تقوم على إرجاع سكان لبنان إلى أصول فينيقية أو صليبية، وإلى الأخذ بلغة فينيقية والكتابة بالحروف اللاتينية وإلى اتخاذ الفينيقية مصدرًا حضاريًا وتاريخيًا وفكريًا) (¬2). ولا تقتصر على هذا، بل هي -أيضًا-: (دعوة تستهدف فوق هذا اتخاذ لبنان قاعدة فكرية وثقافية وحضارية تنطلق منه حركة التغريب الواسعة) (¬3). ¬

_ (¬1) عز الدين الخطيب. . . وآخرون: نظرات في الثقافة الإسلامية: ص: (56)، مرجع (سابق)، ومما ورد عن الفينيقيين في الموسوعة الذهبية: (أنه لم يكن لديهم أي أفكار عن نظم العلوم والفن والحكم، وإنما كانوا تجارًا بسطاء وملاحين إلى أنهم قدموا للحضارة الإنسانية خدمة واحدة بارزة تمثلت في نقلهم حروف الهجاء إلى الإغريق، من أجلها أطلق عليهم مسمى (رسل الحضارة) انظر: مادة: (الفينيقيون من الموسوعة الذهبية): (10/ 1086)، المرجع السابق نفسه. (¬2) عز الدين الخطيب. . . وآخرون: نظرت في الثقافة الإسلامية: ص: (56)، المرجع السابق نفسه. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (56).

وعلى هذا النحو ركزت الدراسات الاستشراقية على بعث الحضارات الغابرة كالحضارة الآشورية ولغتها في العراق، والبربرية في إفريقية الشمالية (¬1)، (ولم يكن الغرض بمثل هذه البرامج إلا أن يضطرب حبل المجتمع الإسلامي، وتتمزق وحدة المسلمين، وتواجه الحضارة الإسلامية واللغة العربية ضررًا، وتنال الجاهلية القديمة حياة من جديد، وقد نجحت كتاباتهم وجهودهم في إنشاء طائفة من تلاميذهم قاموا بحركة إحياء) (¬2) لهذه الحضارات (الغارقة في التاريخ القديم وإحياء اللغات البالية التي فقدت صلاحيتها للبقاء، ودفنت تحت أنقاض الماضي السحيق منذ آلاف السنين) (¬3). 2 - أما إحياء القوميات فإن ذلك امتداد لإحياء الحضارات القديمة ولكن بدهاء ومكر تلون بلون المرحلة التي انطلقت تلك الدعوات خلالها، وحكمتها الظروف التاريخية وسنة التدرج، وما يعبر عنها الغربيون بمقولة (الفعل ورد الفعل) (¬4)، فقد نفخوا الروح المغرضة في القومية الطورانية ¬

_ (¬1) انظر: أبا الحسن الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، ص: (185)، مرجع سابق. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص: (185). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص: (185). (¬4) يقوم بعض المناهج في تفسير التاريخ ونشوء الحضارات وسقوطها على هذه الجدلية بين الفعل ورد الفعل باعتبار أن لكل فعل رد فعل يتكافئ معه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، أما المنهج الإسلامي وبخاصة في مجال الأخلاق فإنه لا يتأتى لهذه الجدلية، وإنما يدفع بالتي هي أحسن، ويقابل السيئة بالحسنة، والإساءة بالعفو والإحسان ولهذا دلائك كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 54]، وقوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

بغية فصل الترك عن الأمة الإسلامية أولًا؛ حتى إذا أثمرت هذه الدعوة في فصل الأتراك عن المسلمين وارتكاز دولتهم على القومية الطورانية. . . أعقبها بعد ذلك إلغاء الخلافة وفصل الدولة عن الدين، وكان من آثار ذلك أن نشطت الدعوة إلى القومية العربية كرد فعل على عمل الأتراك. يقول الأستاذ محمد المبارك عن هذه الفكرة: (ولقد أخذت الفكرة القومية أشكالًا وصيغًا مختلفة: فكانت شعورًا طبيعيًا في بداية الأمر لا يتجاوز شعور الإنسان بانتمائه إلى أسرة معينة أو قبيلة أو نسب، وهي في هذه الحدود أمر طبيعي لا يتعارض لا مع الشعور الإنساني، ولا مع الأخلاق، ولا مع العقيدة الدينية، ثم اشتد هذا الشعور في نطاق ظروف معينة بدأت من رد فعل عند العرب تجاه العصبية التركية التي غذاها ملاحدة الأتراك من جماعة (تركيا الفتاة) و (الاتحاد والترقي)، واستمرت واشتدت في عهد الاستعمار الفرنسي والإنكليزي في بعض البلاد العربية، واتخذ هذا الشعور حينئذ شكل مذهب أو خطة سياسية هدفها توحيد البلاد وتحريرها، وكانت هذه الصيغة في الحقيقة تمهيدًا لمرحلة ثالثة خطيرة وهي اتخاذ القومية عند أبناء الشعوب الإسلامية، من عرب وأتراك وأكراد وغيرهم، مبدأ بل فلسفة بل عقيدة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة) (¬1). وفي نهاية حديثه عن تيار الفكرة القومية أكد بأن مهمتها: (ليس إقصاء ¬

_ (¬1) المجتمع الإسلامي المعاصر: ص: (115)، مرجع سابق، وانظر: محمد محمود الصواف: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام: ص: (48)، مرجع سابق، وفي صفحة: (186)، من المرجع نفسه نقل الصواف قولًا لمحمد إقبال عن مجلة رابطة العالم الإسلامي في عددها الصادر في شوال: (1384 هـ - فبراير 1965 م)، ذكر فيه أنه اطلع على مؤلفات لكتاب أوروبيين تدعو للقومية في الشعوب الإسلامية من أجل تحطيم الوحدة الدينية القائمة بين المسلمين. مرجع سابق، وانظر: شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي 1/ 342، مرجع سابق.

الإسلام بل تفريغ القضية السياسية والاجتماعية بوجه عام من المحتوى الإسلامي وإحلال فلسفة أخرى وعقيدة أخرى محل عقيدته، استبدال رابطة أخرى برابطته لعزل الشعوب الإسلامية بعضها عن بعض عزلًا نهائيًا؛ بحيث تكون صلة بعضها ببعض كصلتها بأي شعب من الشعوب الأخرى التي تدين بالوثنية أو الماركسية أو غيرها التي لم تكن تربطها بها أي رابطة، وبذلك تنسف الجسور التي تصل بين الشعوب الإسلامية، ويلغى ذلك التيار الطويل، وتمحى روابط الثقافة المشتركة ولغة الدين المشترك والقيم الخلقية المشتركة، وتلغى بذلك الأخوة الإسلامية) (¬1). وإذا تأمل الباحث فيما أنجزه المستشرقون من دراسات في التاريخ والحضارة والدراسات الإسلامية وحاضر العالم الإسلامي فإنه يقف على حقيقة أن هذه الدراسات تهدف -بشكل مباشر وغير مباشر- إلى (إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم، وكذلك يفعلون في البلاد الإسلامية، ويجهدون لمنع اجتماع شملها، ووحدوا كلمتها بكل ما في أذهانهم من قدرة على تحريف الحقائق، وتصيد الحوادث الفردية في التاريخ، ليصنعوا منها تاريخيًا جديدًا يدعو إلى ما يريدون من منع الوحدة بين البلاد العربية والإسلامية والتفاهم على الحق والخير بين جماهيرها المؤمنة) (¬2). يقول (لورنس العرب): (وأخذت أفكر طول الطريق في سوريا. . . وفي الحج، أتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية، وهل ¬

_ (¬1) المجتمع الإسلامي المعاصر: ص 116، (مرجع سابق)، وانظر: عمر فروخ وآخر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية: ص 176، 177، (مرجع سابق). (¬2) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية: ص 205، (مرجع سابق).

يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية، وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام) (¬1). وعلى هذا فإن الاستشراق نظر للقوميات، وأسهمت الدراسات الاستشراقية في إضعاف الأخوة الإسلامية وتمزيق الوحدة الإسلامية من خلال ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد المبارك بأن (الدول الأوروبية ولا سيما فرنسا وإنجلترا، وهما أقوى دول أوروبا يومئذ من جهة والمكونتان لإمبراطورية استعمارية ينضوي تحت حكمها شعوب إسلامية كثيرة، وجدت في هذا الجو بالذات مجالًا لإضعاف الربطة الإسلامية بين هذه الشعوب، بل لتهديمها وإزالتها نهائيًا عن طريق إثارة العصبيات القومية واتخاذ القومية أساسًا لإقامة المجتمع. فان هذا التفريق وإزالة صعيد الالتقاء المشترك بين الشعوب الإسلامية من مصلحتها، وقد ثبت أن فرنسا وإنجلترا دفعتا أمريكا في ذلك في أواخر العهد العثماني، وليرجع من يريد الأدلة المؤيدة لذلك إلى كتاب جورج أنطونيوس (يقظة العرب) وإلى كتاب (تركيا الفتاة) من تأليف رامزر Ramsaur (¬2) . ¬

_ (¬1) الثورة العربية: ص 12 تعريب: شعبان بركات، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م، وانظر: سعد الدين السيد صالح: احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام: ص 145، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1993 م، عن دار الأرقم - مصر. وانظر: توفيق يوسف الواعي: الإسلام في العقل العالمي: ص 255، 256، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1995 م، عن دار الوفاء، المنصورة، مصر. (¬2) المجتمع الإسلامي المعاصر: ص 114، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على نشوء القومية العربية وصلتها بالغرب من حيث الفكرة أولًا، ثُمَّ من حيث الرعاية والدعم، وأنَّ الذين دعوا إليها ونظروا لها كانوا من العرب المسيحيين الذين أسسوا جمعيات تدعو إلى القومية العربية تحت ظل البعثات الغربية والأمريكية بخاصة. . .، وما نجم عنها من تفتيت للوحدة الإسلاميَّة، وما أسفرت عنه من طعنات غادرة وقاتلة لحركة القومية العربيّة وأحلام العرب في الوحدة والاستقلال والحرية، مثل اتفاقية (سايكس =

ومما يستنتجه الباحث من هذا الواقع أن موقف المستشرقين من أخوة الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية انطلق من إدراكهم الشديد لتميز الأمة الإسلامية في ترسيخ مبدأ الأخوة الإسلامية، وأنه ألف بين الشعوب الإسلامية وربط بعضها ببعضها الآخر في دائرة أوسع من دائرة القوميات والأعراق والأجناس، وأن دائرة الأخوة تتسع لتشمل جميع البشر، وهذا السبق نحو العالمية لم يتحقق بالصفة العمليّة المتكاملة إلا في تاريخ الأمة الإسلامية وبهدي الإسلام وتعاليمه، وأن أخوة الإسلام ووحدة أمته من أهم مقومات تميز الأمة الإسلامية على سائر الأمم، لذلك جدَّ المستشرقون -المعادون للإسلام- في نقل حمى القوميات التي شقي بها الغرب، وانقسم من أجلها على نفسه، وتطاحنت شعوبه وأممه تحت وطأة النزعات القومية، وما انبنى حولها من أفكار وفلسفات لخصها أحد الباحثين في النقاط الآتية (¬1): 1 - عاطفة الفخر القومي. 2 - عاطفة الغيرة القومية. 3 - عاطفة الاستعلاء والتوسع. 4 - عاطفة الحفاظ على المصالح القومية الواقعية الافتراضية. وذكر أن هذا المبدأ أو الفلسفة القومية (تخلق داخل كل أمة متطورة قوية ادعاء أنها ¬

_ = بيكو) التي أبرمتها بريطانيا سريًّا مع فرنسا لاقتسام أجزاء من الوطن العربي، انظر في ذلك: عبد اللَّه محمد سندي: القوميَّة (دراسات في المفاهيم السياسية المعاصرة)، مجلة الدراسات (الدبلوماسية)، العدد الأول، رجب 1404 هـ - إبريل 1984 م: ص 81 - 99، دورَّية علميَّة متخصصة في الدراسات الدبلوماسيَّة والدوليَّة، عن معهد الدراسات الدبلوماسية، المملكة العربية السعودية - الرياض. (¬1) انظر: أبا الأعلى المودودي: الأُمَّة الإسلاميّة وقضية القومية: ص 156، 157، ترجمة وتعليق: سمير عبد الحميد إبراهيم، عن دار الأنصار - القاهرة، (بدون تاريخ).

أقوى وأسمى من جميع الأمم. . . وترى من واجبها نشر ثقافتها وحضارتها بين الأمم المختلفة، وترى أن من حقها الطبيعي أن تستفيد من الثروة الطبيعية للدول الأخرى) (¬1). وبعد ذلك يرصد الباحث ما نجم عن هذه النظرة الاستعلائية من تمزق وعداء بين أمم الغرب وشعوبه. . . فيقول: (هذه هي القومية الأوروبية التي انتشى البعض بها فصاح (ألمانيا فوق الجميع)، وصاح البعض الآخر (أمريكا بلد اللَّه) وأعلن البعض الآخر (إيطاليا هي الدين)، ووجه البعض رسالة إلى الدنيا قائلًا: (الحكم حق لبريطانيا)، ويؤمن كل وطني بهذه العقيدة الدينية وهي: (أن بلدي بلدي سواء كان على حق أو على باطل)، هذا هو جنون القومية الذي (حل) بالإنسانية في العالم اليوم، وأعظم خطر يحدق بالحضارة الإنسانية، ويجعل من الإنسان وحشًا ضاريًا أمام الأمم الأخرى إلَّا أمَّته) (¬2). لقد أدرك بعض المستشرقين أهمية نقل فكرة القوميات إلى شعوب العالم الإسلامي لإضعاف التآخي بينهم وللقضاء على وحدة الأمة الإسلامية، واستشرف ما تؤول إليه هذه الفكرة على الرغم من كونها قد تسبب في بداية الأمر عداء للغرب، غير أنها كفيلة بهدم وحدة الأمة أولًا، ثم يمكن الغرب بعدها أن يتمكن من احتوائها. وهذا ما أفصح عنه (جيب) حينما تحدث عن المبدأ القومي وأهمية تنميته في شعوب العالم الإسلامي في كل من تركيا ومصر والعراق وإيران وإندونيسيا، وما يمكن أن يترتب عليه عاجلًا وآجلًا فقال: (وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من الممكن ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 157. (¬2) أبو الأعلى المودودي: الأمَّة الإسلاميَّة، وقضية القوميَّة: ص 157، (المرجع السابق نفسه).

أن يلعب في المستقبل دورًا في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها) (¬1)، وعندئذٍ يسهل التعامل مع كل وطن بمفرده، ويمكن فرض التبعية عليه بعد أن فقد القوة الكامنة في وحدة الأمة ومواجهة الأخطار المحدقة بها، بل تجاوزوا ذلك إلى تجزئة الوطن الواحد وتفتيته من خلال الأحزاب المتعارضة والمناهج المتناقضة. 3 - إظهار الفرق المنشقة في تاريخ الإسلام، وذلك بدراسة تاريخها والتنظير لها، وممن كتب عن الفرق من المستشرقين: (فون كريمر: تاريخ الفرق في الإسلام، وهوتسما: العقيدة الإسلامية والأشعري، وبرنارد لويس: أصول الإسماعيلية والنصيرية والإباضية والشيعة، وهابولد: المذاهب الباطنية، كما قام شيرنجر بإعداد فهرست كتب الشيعة للطبع، وهو من تأليف الطوسي) (¬2). وتطرق (آدم متز) في كتابه: الحضارة الإسلامية للحديث عن الدين وظهور الفرق الشيعية وفرق الخوارج والطرق الصوفية (¬3)، وكتب (هنري كوبان): تاريخ الفلسفة الإسلامية (¬4). ومما يلحظ على تناول المستشرقين لتاريخ الفرق وذكر مذاهبها وتطبيقاتها الآتي: أ- الخلط بين الإسلام الصحيح الذي أبانه اللَّه في كتابه العزيز وطبقه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلمه أمته وسار عليه السلف الصالح وبين الواقع التاريخي ¬

_ (¬1) نقلًا عن: أبي الحسن الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلاميَّة والفكرة الغربية: ص 185، (مرجع سابق). (¬2) محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق: ص 55، (مرجع سابق). (¬3) ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، الطبعة الخامسة في جزءين عن دار الكتاب العربي - بيروت (بدون تاريخ). (¬4) ترجمة نصير مروة وآخر. . .، عن منشورات عويدات - بيروت، الطبعة الثالثة 1983 م.

لتلك الفرق الضالة على ما فيه من تعارض وتناقض وانحراف، وهذا ما عبر عنه أحد الباحثين بقوله: (ولو استعرضنا اعتبار المستشرقين لمصادر الإسلام: لوجدناهم يعتبرون أن الإسلام في دراسته كما يؤخذ من القرآن والسنة، يؤخذ من تفكير المسلمين في مدارسهم المتنوعة ومذاهبهم المختلفة في تاريخ جماعتهم. ومعنى ذلك: أن لهذا التفكير نفس الحجة التي للقرآن والسنة الصحيحة وهذا التفكير كذلك يصور الإسلام تمامًا، كما يجب أن يصوره القرآن والسنة، فالإسلام والمجتمع الإسلامي سواء، أحدهما يصح أن يكون دليلًا على الآخر، بل يجب أن يكون دليلًا على الآخر) (¬1). ولو أن اعتبار المستشرقين لمصادر الإسلام اقتصر على المجتمع الإسلامي الذي طبق الإسلام في ضوء القرآن والسنة والمنهج الإسلامي الصحيح لهان الأمر، ولكن اعتبار المستشرقين لمصادر الإسلام يتسع ليشمل الفرق الضالة من باطنية وغلاة الصوفية والشيعة والخوارج وغيرهم، وفي هذا ما يؤكد أن المذاهب الإسلامية في العقيدة والفقه -من وجهة نظر هؤلاء المستشرقين- تعبيرات صادقة عن القرآن والسنة الصحيحة، والإسلام هو مجموع هذه المذاهب، بالإضافة للقرآن والسنة، فلا فرق بين رسالة اللَّه، وصنعة الإنسان في هذه الرسالة، ومنطلق اعتبارهم أن (تفكير المسلمين ومذاهبهم) تساوي في الحجية القرآن والسنة الصحيحة؛ يؤدي إلى: أن تفكير الباطنية والصوفية والملاحدة مثلًا. . . له نفس الحجية التي للقرآن والسنة، ومساوٍ في القيمة لمذاهب أهل السنة ومعتدلي الشيعة. . . وأن أنواع تفسير القرآن الكريم المختلفة من صوفية رمزية، إلى تعليمية باطنية، إلى تفسير بالتأويل، إلى تفسير بالرواية، إلى تفسير بالقصص الإسرائيلي، لها نفس الحجية التي للقرآن) (¬2). ¬

_ (¬1) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار: ص 214، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 215.

ولا شك أن اعتبار المستشرقين للإسلام على هذا النحو من أكبر ما يهدد وحدة المسلمين لتعد المناهج في فهم الإسلام وتناقضها وتعارضها، ومن المعلوم عقلًا وشرعًا أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال (¬1)، وعندئذ تكون الأمة الإسلامية محطمة من داخلها كما قال (جيب): (إن الإرث الديني الإسلامي ليس مهددًا من الخارج بقدر ما هو مهدد من الداخل) (¬2). ب- إحياء مناهج الفرق الضالة وبعثها من جديد لتؤدي في واقع الأمة المعاصر مثل ما أدت في تاريخها الماضي، وهو ما عبر عنه أحد المفكرين المسلمين بقوله: (الاهتمام البالغ بمظاهر الانحرافات الدينية والثقافية التي ظهرت عبر التاريخ الإسلامي، والتي أدت في الماضي إلى تمزيق المسلمين فكرًا وواقعًا، وطعنت في وحدتهم العقيدية وانسجامهم الفكري، أي: إن المستشرقين في إطار مخططات السياسة الاستعمارية الغربية أرادوا نقل الصراع الفكري الدموي الميت من الماضي إلى الحاضر لإشغال المسلمين عن واقعهم والحيلولة دون الاجتماع على مبادئ الإسلام الفطرية القائمة على الوحي الإلهي) (¬3). ويرى هذا المفكر أن تلك الفرق الضالة في تاريخ نشأتها، والتي شكلت تيارات هدامة لوحدة الأمة الإسلامية من خوارج وشيعة وخرمية وقرامطة وحركة الزنج والباطنية بعامة (¬4) كانوا في الحقيقة: (ملاحدة أو ¬

_ (¬1) انظر: أبا الحسن علاء الدين بن اللحام: القواعد والفوائد الأصولية. . .: ص 235، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م، عن دار الكتب العلميّة، بيروت. (¬2) الاتجاهات الحديثة في الإسلام: ص 164، 165، (مرجع سابق). (¬3) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث: ص 38، طبعة دار الصحوة. . .، 1405 هـ - 1985 م، القاهرة. (¬4) انظر: محسن عبد الحميد: تجديد الفكر الإسلامي: ص 136، عن دار الصحوة - القاهرة (بدون تاريخ).

مشركين أو يهودًا متآمرين تقدموا إلى المجتمع الإسلامي من خلال الخرافة والفلسفات المادية أو الغنوصية للسيطرة على عقلية العوام، متسترين وراء الشعارات المحببة إلى نفوس المظلومين في تلك الأزمان الذين كانوا مهيئين لاتباع كل من كان يدعي خطة لإنقاذهم من أوضاعهم المزرية، والانتقام من ظالميهم) (¬1). ويمضي في بيان ما آل إليه أمر هذه التيارات من (تسليم الأمة إلى الأعداء عبر تحالفات تاريخية معروفة، بينهم وبين أعداء الإسلام انتهت بتدمير الحضارة الإسلامية في بغداد، والتحالف مع الصليبيين لإقامة مجازرهم التاريخية المعروفة في بلاد الشام) (¬2). ج- توسيع الفجوة بين مناهج الفرق واستثمار ذلك بدعوة الدول الاستعمارية لمساندة بعض الفرق وإذكاء روح الثورة فيها على غيرها، ومن ثم حدوث الانقلابات ذات (الأيديولوجية) التي تهدم الأمة من داخلها وتفتت وحدتها، وذلك بتقسيم الأمة إلى أقسام رئيسة، ثم تفتيت تلك الأقسام إلى أجزاء متناثرة متناحرة متهالكة، وإذا كانت مثل هذه الخطط تتم تحت نظر الاستعمار الغربي وسياسته فإن أثر الاستشراق في ذلك ملموس ومؤكد من أكثر من وجه، منها: - كون المستعمرين ورجال السياسة في الغرب (على صلة وثيقة بأساتذة كليات اللغات الشرقية في أوروبا من المستشرقين يرجعون إلى آرائهم قبل أن يتخذوا القرارات المهمة في الشؤون السياسية الخاصة بالأمم العربية والإسلامية) (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 137. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 138. (¬3) توفيق يوسف الواعي: الإسلام في العقل العالمي: ص 242، (مرجع سابق).

وهذا ما أثبته التاريخ، وتحدث عنه بعض المستشرقين قائلًا: (إن مستر (إيدن) كان قبل أن يضع قرارًا سياسيًا في شؤون الشرق الأوسط يجمع المستشرقين المستعمرين ويستمع لآرائهم، ثم يقرر ما يقرر في ضوء ما يسمع منهم) (¬1). - ما يصرح به بعض المستشرقين من اعتبار إسلام الكتاب والسنة (إسلامًا ميتًا، أما الإسلام الحي الذي يجب الاهتمام به ودراسته فهو ذلك الإسلام المنتشر بين فرق الدراويش في مختلف الأقطار الإسلامية) (¬2)، وإذا كان الاستشراق يهتم بهذا الواقع المتردي للعالم الإسلامي كي يرسم صورة مشوهة عن المجتمع الإسلامي فإنه من ناحية أخرى (يعمل على تعميق الخلاف بين السنة والشيعة، والمستشرقون يعدون المنشقين عن الإسلام على الدوام أصحاب فكر ثوري تحرري عقلي) (¬3)، ويدعون إلى استخدام تلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية لإضعاف وحدة الأمة الإسلامية، وتأليب بعضها على بعضها الآخر (وهو ما عبر عنه (البارون كاردي فو) بقوله: (أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي، وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية. . . دعونا نمزق الإسلام بل ونستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة، والطرق الصوفية. . . وذلك كي نضعف الإسلام. . . لنجعله إلى الأبد عاجزًا عن صحوة كبرى" (¬4). - ما كتبه المستشرقون في بعض دوائر المعارف عن تاريخ الأمة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 242. (¬2) زقزوق: الاستشراق. . . ص 117، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 117. (¬4) نقلًا عن: مناع القطان: معوقات تطبيق الشريعة الإسلاميَّة: ص 116، (مرجع سابق).

الإسلامية وهو يبرز تلك الفرق وتناقضاتها، والإشادة بها من ناحية والقدح من ناحية أخرى في الأمة الإسلامية الملتزمة بالمنهج الإسلامي الصحيح في تطبيق الإسلام، وإخضاع حياتها المعاصرة وفقًا للأنموذج الذي عاشه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته الكرام. أما الشق الأول من هذه النظرة الاستشراقية فيدل عليها -كمثال- ما ورد في دائرة المعارف البريطانية حينما ذكرت في وصفها للإسلام (بأن التواترات والانقسامات المتمثلة في الخوارج، والمعتزلة، والإسماعيلية وغيرها من الفرق الضالة هي أشكال الإسلام) (¬1). وهذا يعني عدم (التميز بين ما هو إسلامي، وما هو غير إسلامي (وتجاهل) المبادئ الجوهرية والركائز الأساسية التي تنهض عليها العقيدة الإسلامية، (والاجتهاد) في أن يصور الإسلام على أنه ليس سوى كم من المتناقضات) (¬2)، على أن هذا الاتجاه لدى بعض المستشرقين يتجاهل موقف المسلمين من هذا الواقع (فالمسلمون يعتبرون سائر الفرق الباطنية فرقًا خارجة عن الإسلام وإن ادعته. . . وجميع العلماء المسلمين في كافة أنحاء العالم يعتبرون هذه الطوائف جماعات غير إسلامية، وألفوا عشرات الكتب في التعريف بحدود الإسلام ومعالمه وبيان موقع هذه الطوائف علميًا في ضوء القرآن والسنة) (¬3). ويدل على شقها الآخر الأوصاف التي يصفون بها تطبيق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته الكرام والسلف الصالح، فقد درجوا على وصف هذا التطبيق ¬

_ (¬1) انظر: ملك غلام مرتضى: دائرة المعارف البريطانية بين الجهل والتضليل: ص 52، ترجمة: محمد كمال علي السيد، الناشر: محمد زيد ملك، لاهور - باكستان، (بدون تاريخ). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 52. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 52، وانظر: ص 53، (المرجع نفسه).

للإسلام بأنه بدائي، ولا يمكن أن يساير الحياة وتطوراتها ونحو ذلك من الأوصاف التي تقدح في التطبيق الصحيح للإسلام، وفي منهج أمة الاستجابة والاتباع ذلك المنهج الإسلامي الأصيل، وللمثال على هذا ما أوردته (دائرة المعارف الإسلامية) في تعليقها على آراء (محمد عبده) فيما يتصل بشرحه للإسلام، وإذ قالت: (والإسلام البدائي -نقصد الإسلام على عهد الرسول وصحبته- في نظر الشيخ عبده، ليس هو الإسلام التاريخي (الذي صار إليه الأمر في حياة المسلمين). . . وإنما هو إسلام اصطنع مثاليته، وجعله متفوقًا على المسيحية في أنه دين معقول، ومتصل بالحياة اتصالًا كثيفًا) (¬1). د- التنظير لأديان جديدة (تقوم على نسخ المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية التي كانت تشكل عقبة أساسية أمام مطامع المستعمرين، والتي تجلت في ظهور البهائية في إيران والقاديانية في الهند) (¬2). والبهائية: نسبة لشخص اسمه (المرزا حسين) ويلقب (البهاء) توفي ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار: ص 181، (المرجع السابق)، وانظر: ص 59، 60، (المرجع نفسه). (¬2) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين تجاه الإسلام. . . ص 39، (مرجع سابق)، ولمزيد من التعرف على نشأة القاديانية والبهائية؛ انظر: • محسن عبد الحميد: حقيقة البابيَّة والبهائية، الطبعة الأولى 1389 هـ - 1969 م - بيروت. • محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار: ص 45 - 51، (المرجع السابق نفسه). • أبو الحسن الندوي: القاديانية ثورة على النبوة المحمديَّة، الطبعة الثانية، 1401 هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة. • عبد الرحمن عميرة: المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها: ص 231 - 270، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م، منشورات دار اللواء. . .، الرياض، بحث خاص بالبابيَّة، ومن ص 273 - 307 عن القاديانية.

عام: (1892 م) (¬1)، وتعود إلى البابية نسبة إلى شخص يسمى (ميرزا علي محمد) وقد تتلمذ على يدي (الرشتي) تلميذ (أحمد الإحسائي) (¬2) الذي قال عنه محسن عبد الحميد: (هنالك رأي يستند على تقارير المستشرقين يقول: إن الإحسائي لم يكن أصله من الأحساء، ولا ثبت ذلك تاريخيًا، وإنما كان قسًا غربيًا أرسل من إندونيسيا إلى الشرق حسب خطة مرسومة لإفساد العقيدة، وتغيير أحكام الدين) (¬3). وعقيدة البابيين والبهائيين أن الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته، والمبدأ الذي ظهرت عنه جميع الأشياء (¬4)، (ويردد (جولدزيهر) ما يقوله البابيون عن الباب (بأنه أرفع مراتب الحقيقة الإلهية التي حلت في شخصه حلولًا ماديًا وجسمانيًا) (¬5). وقد أعلنت دعوة البابية سنة: (1844 م)، وقبض على الباب ورتبت له حيلة في مجلس حاكم (شيراز) فصرح بمبادئه وهي نسخ نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن الكريم، ثم أعقب ذلك مؤتمر (بدشت) الذي أعلنت فيه (قرة العين) بأن البابية ناسخة للشريعة الإسلامية وكان وراءها البهاء، وجاء ¬

_ (¬1) انظر: محسن عبد الحميد: حقيقة البابية والبهائية: ص 81، 148، 149، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م، المكتب الإسلامي. . .، بيروت. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 57، 58، 61، وانظر بتوسع: دائرة المعارف الإسلاميَّة، مادة (باب): 5/ 501 - 510، ومادة (بابية): 5/ 558 - 562، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 49. (¬4) انظر: محسن عبد الحميد: حقيقة البابية والبهائية: ص 49، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عبد الرحمن عميرة: المذاهب المعاصرة: ص 240، (مرجع سابق). (¬5) نقلًا عن عبد الرحمن عميرة: المرجع السابق نفسه: ص 251، وانظر: دائرة المعارف الإسلاميَّة، مادة (باب): 5/ 501 (المرجع السابق نفسه).

إعلانها هذا مؤكدًا صلة هذه الدعوة بالدعوات الإلحادية السابقة من مزدكية ومانية وقرامطة وباطنية (¬1). أما القاديانية: فنسبة إلى (مرزا غلام أحمد القادياني: (1839 - 1908 م)، نسبة إلى قاديان بإقليم البنجاب (¬2)، قالت عنها الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة: (القاديانية حركة نشأت (1900 م)، بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فرضية الجهاد بشكل خاص) (¬3)، وقد لحظ الباحثون في نشوء الحركة القاديانية أن صاحبها لم يتهور في إعلان مقاصده وأهدافه بحماقة كما فعل الباب، وإنما تدرج فيها حتى ادعى النبوة. وقد قرر علماء المسلمين بأن القاديانية أقلية غير مسلمة ولا تعد من الفرق الإسلامية؛ حكى الإجماع ملك مرتضى في كتابه دائرة المعارف البريطانية فقال: (لقد قرر جميع علماء المسلمين في كافة أنحاء العالم بالإجماع إدانة الأحمدية القاديانية واعتبارهم أقلية غير مسلمة في الباكستان، وذلك في شهر سبتمبر من عام: (1975 م) (¬4). ولم يكتف المستشرقون المعادون للإسلام بإظهار الفرق المنشقة عن الأمة الإسلامية في تاريخها القديم، وإظهار الإسلام من خلال معتقداتها كقول دائرة المعارف البريطانية: (إن النبي محمدًا قد تبعه سبع أئمة يتولون ¬

_ (¬1) انظر: عبد الرحمن عميرة: المذاهب المعاصرة: ص 240 وما قبلها، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: الموسوعة الميسرة. . .: ص 389، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 389. (¬4) دائرة المعارف البريطانية بين الجهل والتضليل: ص 53، (مرجع سابق).

تفسير إرادة اللَّه إلى الناس، وهم بمعنى معين أسمى منزلة من النبي؛ لأنهم يستمدون علمهم مباشرة من اللَّه وليس من ملك التنزيل) (¬1). كذلك لم يقتنعوا بما لدى الفرق الضالة من عقائد فاسدة حول المهدي المنتظر من شأنها هدم الأمة الإسلامية ونسف عقيدتها هو ما عبر عنه (جولدزيهر) بقوله: (وهذا التطبيق لفكرة المهدي يهدم إحدى دعائم الإسلام الأساسية وهي أن محمدًا قد ختم إلى الأبد سلسلة الأنبياء، وأنه الحامل لآخر رسالة بعث اللَّه بها إلى الجنس البشري، وتحت لواء هذه الجماعة الشيعية وهي الإسماعيلية، روجت الدعاية السرية مبادئ هادمة للإسلام ومقوضة لأركانه، وصار ادعاء الألوهية أمرًا هينًا) (¬2). وإنما تطاولوا على وحدة الأمة الإسلامية بإيجاد فرق جديد من شأنها التبشير بشريعة تخضع لإملاءات الاستعمار وتحقق له أكثر من هدف، وفي مقدمة ذلك إلغاء فريضة الجهاد التي وجدها المستشرقون عقيدة راسخة، ومبدأ مستقرًا في عقائد جميع تلك الفرق. وللمثال على هذا الهدف ما ذكره (جولدزيهر) عن القادياني فقال: (وقد أضاف إلى دعواه المزدوجة -بأنه عيسى الموعود، وأنه المهدي المنتظر- زعمًا ثالثًا من أجل إخوانه الهنود هو أنه (الأوتاد) أي: أن الألوهية حلت في جسده، وهو لا يرمي فحسب إلى تحقيق آمال الإسلام في فوزه الشامل على سائر الأقطار المعمورة في آخر الزمان فحسب، وإنما يعبر عن رسالته العالمية التي يتوجه بها إلى الإنسانية جمعاء، غير أن مهدية أحمد تخالف نظرية المهدي كما جاءت في الروايات الإسلامية فهي تتسم بالطابع السلمي، أما السنة الإسلامية فتصور المهدي قائدًا حربيًا يقاتل ¬

_ (¬1) نقلًا عن ملك مرتضى: المرجع السابق نفسه: ص 53. (¬2) نقلًا عن عبد الرحمن بن عميرة: المذاهب المعاصرة. . . ص 230، (مرجع سابق).

الكفار بالسيف، وتلوث طريقه بقع الدماء، ويطلق عليه الشيعة -مع ماله عنهم من ألقاب- لقب صاحب السيف، غير أن النبي الجديد أمير من أمراء السلام، إذ أنكر الجهاد وأسقطه من الفرائض الإسلامية وحبب أتباعه السلم والتسامح ونهاهم عن التعصب، وجد أن يبعث في نفوسهم ميلًا للعلم والثقافة) (¬1). ويقول (جيب): (فالهند هي التي أنتجت طائفة إسلامية بوسعنا أن نقول أنها ناجحة، فقد اتخذت شكلًا تحرريًا سلميًا، تفتح أمام الذين فقدوا إيمانهم بالإسلام طريق العودة، فمؤسسها (ميرزا غلام أحمد)، لم يكتف باعتبار نفسه مهدي المسلمين بل اعتبر نفسه تجسيدًا لكريشنا) (¬2). لقد أكد العلماء والباحثون ارتباط هاتين الفرقتين بالاستعمار والاستشراق باعتبار الاستشراق هو المنظر لهما إمعانًا في تفريق كلمة المسلمين، والقضاء على وحدة الأمة الإسلامية، وإيجاد طوائف جديدة ترفع لواء التجديد في الإسلام بإلغاء شريعته وصناعة مدعي النبوة بعد محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أخبر عن مجيء كذابين يدعون النبوة من بعده (¬3)، وكان هذا الواقع من دلائل إعجازه وعلامات نبوته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان الاستعمار الداعم والراعي لهاتين الفرقتين الضالتين. وعن ارتباط البهائية بأعداء الإسلام قال أحد الباحثين: (كانت إيطاليا تعد عدتها لالتماس طرابلس، وتجد في جمع العدد الوفير من الخونة الذين ¬

_ (¬1) نقلًا عن عبد الرحمن بن عميرة: المذاهب المعاصرة. . . ص 305، (مرجع سابق). (¬2) الاتجاهات الحديثة في الإسلام: ص 90، 91، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الرحمن عميرة: المرجع السابق نفسه: ص 306. (¬3) ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول اللَّه" أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 4/ 2240، رقم الحديث (2923)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

يمهدون لها الطريق، وقد راعها ما قام به عبد البهاء من أجل إنجلترا والصهيونية، فبادرت إلى شراء عبد البهاء، وكانت مقدمة الثمن عرض القنصل الإيطالي عليه الفرار إلى طرابلس على سفينة حربية إيطالية أعدت من أجله، ولكنه رفض أن يحطم أغلال الصهيونية وقيودها التي غاصت في عنقه وقدميه، رفض لأنه لم يكن حينئذ يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه؛ فلقد كان غريقًا في عبوديته لسيد آخر، فكيف يبيع للسيد الجديد ما لا يملك) (¬1). وأكد الباحثون على أن هناك صلات وثيقة تربط القاديانية بالمستعمرين من ملحوظتين بارزتين لازمت حركتها الهدامة: إحداهما: تصريحات القادياني بصداقته لهم، ووفائه معهم، إذ نقل عنه قوله: (ينبغي لي أن أقول لكم قبل كل شيء: أنني أنتمي إلى تلك الأسرة التي اعترفت الحكومة البريطانية -منذ مدة طويلة- بأنها صديقة، ومتمنية للخير والسعادة للحكومة البريطانية من الدرجة الأولى. . .) إلى أن يقول: (لذلك أعمل بحرارة قلبي في خدمة هذه الحكومة، وأعلن عن منافع هذه الحكومة وإحسانها إلى الناس كما عمل من قبل أبي وأخي، وأفرض عليهم الخضوع لهذه الحكومة وطاعتها كاملة) (¬2). ونقل عنه قوله -أيضًا-: (لقد خطوت أكبر مرحلة من حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاع عنها، وألفت كتبًا كثيرة أحرم فيها الجهاد ضدها، ووجوب الطاعة والخضوع لها، ولو جمع كل ما كتبته في هذا الصدد لبلغ خمسين كتابًا، ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم) (¬3). ¬

_ (¬1) عبد الرحمن الوكيل: البهائية تاريخها وعقيدتها: ص 164، الطبعة الثانية 1407 هـ - 1986 م، مطبعة المدني، القاهرة، وانظر: عبد الرحمن عميرة: المذاهب المعاصرة: ص 261 (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: عبد الرحمن بن عميرة: المرجع السابق نفسه: ص 280. (¬3) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 282.

والملحوظة الأخرى ما صرح به (نكلسون) عن القاديانية، وأنها وفية للإنجليز، إذ قال: (إن في قاديان تسكن هذه الأسرة التي وجدنا فيها دون جميع الأسر الوفاء للإنجليز) (¬1). وقد ذكر أبو الحسن الندوي بأنه: (تحقق علميًا وتاريخيًا أن القاديانية وليدة السياسة الإنجليزية) (¬2) وأن القادياني قام بدوره (وبما كلف به خير قيام، وحماه الإنجليز ومكنوه من نشر دعوته، وحفظ القادياني هذه اليد وعرف الفضل للإنجليز في ظهوره) (¬3). وبهذا يتضح أن الاستشراق ضليع في إبراز هاتين الفرقتين لتكونا معولي هدم في وحدة الأمة الإسلامية، وعلى الرغم من إجماع المسلمين على تكفيرهما، وعدم اعتبارهما من الفرق الإسلامية فإن الأعمال الاستشراقية تؤكد على أنهما من الفرق الإسلامية، ويشيد المستشرقون -كما سبق- بمنهجهما في التجديد والإصلاح المزعوم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 280. (¬2) القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام ص 4، (مرجع سابق)، وانظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص 48، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الرحمن عميرة: المذاهب المعاصرة: ص 283، (المرجع السابق نفسه). (¬3) أبو الحسن الندوي: المرجع السابق نفسه: ص 5، وانظر محمد البهي: المرجع السابق نفسه: ص 48، وانظر: عبد الرحمن عميرة: المرجع السابق نفسه: ص 284. (¬4) انظر: ملك مرتضى: دائرة المعارف البريطانية بين الجهل والتضليل: ص 53، (مرجع سابق)، وذكر إحسان إلهي ظهير: القاديانية (دراسات وتحليل) ص 22، الطبعة السادسة عشرة 1404 هـ - 1983 م، عن إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، بأنه ألحق بقاموس المنجد؛ ضميمة تعرف (القاديانية) بأنها فرقة من فرق المسلمين سوى أنها تعتقد بعدم فرضية الجهاد على المسلمين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لوزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية الطبعة الأولى 1434 هـ - 2013 م

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ [المجلد الثَّانِي]

الكتاب الثالث: خصائص تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ تأليف: د. إِسْحَاق بن عبد اللَّه السَّعْدِيّ الكتاب الثالث 3/ 5 خصائص تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها • خارطة ذهنية توضحية. • الربانية وموقف المستشرقين منها. • العالمية وموقف المستشرقين منها. • الوسطية وموقف المستشرقين منها. • الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها.

[مخطط]

الربانية وموقف المستشرقين منها

الربانية وموقف المستشرقين منها • تمهيد. • مفهوم الربانيَّة. • القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. • السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم. • موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة.

تمهيد

الربانية وموقف المستشرقين منها تمهيد الربانيَّة خصيصة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، إذ هو تميُّزٌ يستند إلى دين اللَّه الموحى به إلى الرسول الخاتم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو دين الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والإسلام صبغة اللَّه {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. قال القرطبي: (صبغة اللَّه أحسن صبغة، وهي الإسلام، فسمِّي الدين صبغة استعارة ومجازًا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب) (¬1). وقال أيضًا: (وأصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعموديَّة [التعميد] (¬2)، ويقولون هذا تطهير. . . فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانيًّا حقًّا، فردَّ اللَّه تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي: صبغة اللَّه أحسن صبغة وهي الإسلام. . .) (¬3). يتضح من هذا أنَّ خصيصة الربَّانيَّة من أهم خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، حيث إنَّ الأُمَّة إذا أضيف إليها الإسلام أو وصفت به فإنَّها تصطبغ به حتى يصبح الإسلام صبغتها الذي تظهر به وتتطهر بطهوره، ويظهر سمته عليها، وتحقق بذلك ذاتيَّة متميِّزَة، وبذا فإنَّ من أهم خصائص تميُّزها خصيصة الربانية. * * * ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 2/ 98، (مرجع سابق). (¬2) من الشعائر النصرانيَّة. انظر:/ مادة (عمد) في معجم المنجد. (¬3) القرطبي: المرجع السابق نفسه 2/ 98.

مفهوم الربانية

مفهوم الربانيَّة أ- معنى الربانية لغة: الربانية في اللغة: مأخوذة من مادة (ربَّ)؛ قال ابن فارس: (الراء والباء يدل على أصول؛ فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه. .، والأصل الآخر: لزوم الشيء والإقامة عليه. .، والأصل الثالث: ضم الشيء إلى الشيء. . .) (¬1). وقال الفيروزآبادي: (الرَّبَّاني: المتأله العارف باللَّه عز وجل. . . وفعلان يبنى من فَعِلَ كثيرًا، كعطشان، وسكران، ومن فَعَل قليلًا كنعسان، أو المنسوب إلى الرب؛ أي: اللَّه تعالى، فالرباني كقولهم: إلهي، ونونه كلحياني، أو هو لفظة سريانية. . .، وربَّ: جَمَعَ، وزاد، ولَزِمَ، وأقام) (¬2). وقال الراغب الأصفهاني: (الرَّبُّ في الأصل: التربية؛ وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التَّمام، يقال: ربَّه، وربَّاه، وربِّيبَة. . . ولا يقال: الرَّبُّ مطلقًا إلَّا للَّه تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، نحو قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]، وعلى هذا قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80] أي: آلهة وتزعمون أنَّهُم الباري مسبب الأسباب، والمتولي لمصالح العباد، وبالإضافة يقال له ولغيره، نحو قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126]، ويقال: ربُّ الدَّار، وربُّ الفرس: لصاحبهما، ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة: مادة (ربَّ)، (مرجع سابق). (¬2) القاموس المحيط: مادة (ربب)، (مرجع سابق).

وعلى ذلك قول اللَّه تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] (¬1). وقال ابن الأثير: (الرَّبُّ يطلق في اللغة على المالك، والسيد والمدبِّر والمربِّي والقيِّم والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلَّا على اللَّه تعالى، وإذا أطلق على غيره أضيف فيقال: ربُّ كذا. . . وفي حديث عليٍّ: "الناس ثلاثة؛ عالم ربَّاني. . . " (¬2)، هو المنسوب إلى الرَّبّ بزيادة الألف والنون للمبالغة، وقيل: هو الربّ بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، والربَّاني العالم الراسخ في العلم والدين، أو الذي يطلب بعلمه وجه اللَّه، وقيل: العالم العامل المعلِّم) (¬3). ومِمَّا يستخلص من هذه النصوص التي وردت في معنى (ربَّ) و (الرَّبّ)، في معاجم اللغة ومعاجم القرآن الكريم والسنّة النبويَّة: أنّ الرَّبّ ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (ربّ)، (مرجع سابق). وانظر: • الحسين بن علي الدامغاني: قاموس القرآن (إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) مادة (ربب)، (مرجع سابق). • أثير الدين أبو حيان الأندلسي: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب: مادة (ربب)، (مرجع سابق). • مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، مادة (الرَّبّ)، (مرجع سابق). • أبو البقاء الكفوي: الكليات. . . مادة (الرب) ومادة (الرباني، الربانيون)، (مرجع سابق). (¬2) ذكره ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر: 2/ 181، ولم أجده عند غيره فيما بحثت من المسانيد والمصنفات. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (ربب)، (مرجع سابق).

ب- معنى الربانية اصطلاحا

يطلق على معانٍ عِدَّة منها: (المربِّي، والجامع، والمالك السيد المتصرف الحاكم، والكفيل المصلح المدبر) (¬1). وكل هذه المعاني متحققة في الربانية بصفتها خصيصة من خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة، فالرَّبُّ جَلَّ وعَلَا هو مربي هذه الأُمَّة المختارة، وهو المالك لها والسيد المتصرف في شؤونها، وهو الحاكم الكفيل المدبر المصلح لشأنها كله، وهي تستمد هذه المعاني كلها من كتاب اللَّه ومن سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتميُّزها تميُّز متصل بالوحي (القرآن والسنَّة) في المقام الأول. ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا: الرَّبَّانيَّة نسبة إلى الرَّبِّ، وزيادة الألف والنون للمبالغة كما أشار إلى ذلك ابن الأثير -في النص آنف الذكر-، وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة ولكنها تنصب على مَنْ وُصِفَ (بالرَّبَّاني) (¬2)، أمَّا الرَّبَّانيَّة في هذا المطلب فالمقصود بها: أنَّ تَميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة ذو صبغة إلهية ربَّانيَّة فهو تميُّزٌ ينبثق من الوحي (الكتاب والسنة) وعلى ذلك فالربَّانيَّة إحدى الخصائص التي يتصف بها تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، من حيث المصدر، ومن حيث الهدف والغاية. ويقتصر الحديث هنا عن القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة، باعتبارهما صَدَرَا عن اللَّه -عز وجل- كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، ومنهما انبثق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة فأصبحت الرَّبَّانيَّة خصيصة لازمة من خصائص هذا التميُّز من حيث المصدر، أمَّا من حيث الهدف والغاية فالحديث عن هذا الجانب متداخل ومماثل للحديث عن العبوديَّة ¬

_ (¬1) لمزيد الاطلاع على مادة (ربّ، ربب، رباني) انظر: ابن منظور: لسان العرب مادة (ربب)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط: مادة (ربب)، (مرجع سابق).

بوصفها من أهداف تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وهي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لذلك فإنَّ الحديث عن هذا الجانب سيكون في مطلب العبوديَّة لالتصاقه بها، ولما اقتضاه سياق البحث. * * *

القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميز الأمة الإسلامية

القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة ومظاهر العناية الربانية لحفظه في الأُمَّة، ويجلِّي ذلك ما يأتي: أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه: ذكر علماء اللغة معاني كثيرة لأصل لفظ القرآن، منها (القرء)؛ ومعناه الجمع، جاء في لسان العرب: (والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمَّى القرآن؛ لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران) (¬1). وقال الراغب: (والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، [وليس يقال ذلك لكل جمع] (¬2). لا يقال: قرأت القوم: إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنَّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة، والقرآن في الأصل مصدر [مرادف للقراءة] (¬3)، نحو: كفران ورجحان، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17 - 18]، وقد خصَّ بالكتاب المنزل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصار له كالعلم كما أن التوراة ¬

_ (¬1) مادة (قرأ). (¬2) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (قرأ)، (مرجع سابق). وعزا المحقق ما بين القوسين المركنين للزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/ 277، عن دار المعرفة - بيروت، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم 1391 هـ - 1972 م، وبالرجوع إليه لم أجد لفظ ليس في قوله: [وليس يقال ذلك في كل جمع] بل قال: (ولا يقال ذلك في كل جمع) ثُمَّ استدرك عليه الزركشي بقوله: (ولعل مراده بذلك في العرف والاستعمال لا أصل اللغة). المرجع نفسه. 1/ 277. وانظر: مفردات ألفاظ القرآن: ص 668 (الحاشية)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 140، الطبعة الثالثة، عن مطبعة الحلبي وشركاه (بدون تاريخ).

لما أنزل على موسى، والإنجيل على عيسى -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال بعض العلماء: (تسمية هذا الكتاب قرانًا من بين كتب اللَّه لكونه جامعًا لثمرة كتبه) بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار تعالى إليه بقوله: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] (¬1). وقال الزرقاني بعد أن أورد بعض آراء علماء اللغة في لفظ القرآن، واختار منها أنَّه (مصدر مرادف للقراءة. . . ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسمًا للكلام المعجز المنزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من باب إطلاق المصدر على مفعوله) (¬2). قال بعد ذلك: (وعلى الرأي المختار فلفظ قرآن مهموز، وإذا حذف همزه، فإنَّما ذلك للتخفيف، وإذا دخلته (أل) بعد التسمية فإنَّما هي للمح الأصل لا للتعريف)، ثُمَّ تطرق بعد هذا إلى أشهر أسماء القرآن الكريم فقال: (ويقال للقرآن: فرقان أيضًا، وأصله مصدر كذلك، ثمَّ سمي به النظم الكريم. تسمية للمفعول أو الفاعل بالمصدر، باعتبار أنه كلام فارق بين الحق والباطل، أو مفروق بعضه عن بعض في النزول، أو في السور والآيات. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ثم إن هذين الاسمين هما أشهر أسماء النظم الكريم، بل جعلهما بعض المفسرين مرجع جميع أسمائه، كما ترجع صفات اللَّه على كثرتها إلى معنى الجلال والجمال، ويلي هذين الاسمين في الشهرة: هذه الأسماء الثلاثة: الكتاب، والذكر، والتنزيل) (¬3). واعترض الزرقاني أيضًا على التزيد في تعداد أسماء القرآن الكريم، ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (قرأ)، (مرجع سابق). (¬2) مناهل العرفان. . 1/ 14، (المرجع السابق نفسه). (¬3) مناهل العرفان. . 1/ 14، 15، (المرجع السابق نفسه).

وذكر أن بعض العلماء أوصلها إلى خمسة وخمسين اسمًا، وبعضهم أوصلها إلى نيف وتسعين اسمًا، وذكر أن سبب ذلك هو عدم تفريقهم (بين ما جاء من تلك الألفاظ على أنه اسم، وما ورد على أنه وصف) (¬1)، ومثَّل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، وقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، فإنَّ من العلماء من عدَّ لفظ (كريم) ولفظ (مبارك) اسمين آخرين للقران الكريم مع لفظ (قرآن) ولفظ (ذكر) (¬2)، وعقب الزرقاني على ذلك بقوله: (إنَّ لفظ قرآن وذكر في الآيتين، مقبول كونهما اسمين. أمَّا لفظ كريم ومبارك، فلا شك أنهما وصفان، والخطب في ذلك سهل يسير، بيد أنَّه مسهب طويل، حتى لقد أفرده بعضهم بالتأليف) (¬3). ومِمَّا أشار إليه بعض الباحثين أن القرآن الكريم عُرف (بصورته الشفويَّة والخطيَّة، وعرفت صورته الشفوية باسم القرآن، أي: المرتل، وصورته الخطيَّة باسم الكتاب؛ أي: المخطوط) (¬4)، واستنتج من ذلك: أن في تسمية القرآن الكريم بهذين الاسمين: (إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين، لا في موضع واحد؛ أعني حفظه في الصدور والسطور جميعًا إنجازًا لوعد اللَّه الذي تكفل بحفظه) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 1/ 15. (¬2) انظر: الزرقاني: مناهل العرفان: 1/ 15، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: 1/ 15. (¬4) محمد عبد اللَّه دراز: دراسات إسلامية (في العلاقات الاجتماعية والدوليَّة): ص 5، 6، طبعة دار القلم - الكويت 1400 هـ - 1980 م. (¬5) محمد عبد اللَّه دراز: النبأ العظيم: ص 12، 13، الطبعة الثانية، 1390 هـ - 1970 م، عن دار القلم، الكويت، وانظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم (1) في بلاد العرب: ص 38، (مرجع سابق).

وأمَّا اسم (مصحف) فهو من الصحيفة وهي: (التي يكتب فيها، وجمعها صحائف وصُحُفٌ. قال تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3]. قيل: أريد بها القرآن، وجعله صُحُفًا فيها كتب من أجل تضَمُّنه لزيادة ما في كتب اللَّه المتقدمة، والمصحف: ما جُعِلَ جامعًا للصحف المكتوبة، وجمعه مصاحف) (¬1). وعُرِّف القرآن الكريم بتعريفات كثيرة لدى المتكلمين وعلماء أصول الفقه والفقهاء وعلماء اللغة العربيَّة، منها قولهم بأنه: (اللفظ المنزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس) (¬2)، وقولهم: (بأنَّهُ الكلام المعجز المنزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته) (¬3)، ومنها قولهم بأنَّه: (اللفظ المنزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته) (¬4). وهذه التعريفات ونحوها فيها قدر مشترك بين علماء العلوم المشار إليها آنفًا، وهناك تعريفات أخرى انفرد بها بعض المتكلمين أو وضعتها بعض الطوائف والفرق الضَّالة سأطَّرِحُها، وأكتفي بما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- من إجماع الأُمَّة: (على أن القرآن كلام اللَّه حقيقة منزل غير مخلوق سمعه جبريل من اللَّه، وسمعه محمد من جبريل، وسمعه الصحابة من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين دفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا وكل حرف منه كالباء والتاءُ، كلام اللَّه، غير ¬

_ (¬1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ الفرآن: مادة (صحف)، (مرجع سابق). (¬2) محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان. . 1/ 18، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: 1/ 19. (¬4) المرجع السابق نفسه: 1/ 20. وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 20، 21، الطبعة الثامنة 1401 هـ - 1981 م مكتبة المعارف - الرياض.

ب- مصدر القرآن الحريم ونصه

مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وهو كلام اللَّه حروفه ومعانيه، ليس الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، وبدَّعوا من قال: إنَّه فاض على نفس النبي من العقل الفعَّال، أو غيره كالفلاسفة والصابئية، أو أنَّه مخلوق في جسم من الأجسام، كالمعتزلة، والجهميَّة، أو في جبريل، أو محمد، أو جسم آخر غيرهما، كالكلابية والأشعرية، أو أنَّه حروف وأصوات قديمة أزليَّة كالكلاميَّة، أو أنه حادث قائم بذات اللَّه، ممتنع في الأزل، كالهاشميَّة والكراميَّة، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فجمهي، أو غير مخلوق فمبتدع) (¬1). ب- مصدر القرآن الحريم ونصه: تبين من تعريفات القرآن الكريم -التي سلف ذكرها- أنَّ القرآن الكريم صادر عن اللَّه -عز وجل- قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف: 2]، وقال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 2]، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 163 - 166]، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. ¬

_ (¬1) حاشية مقدمة التفسير: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي: ص 13 - 18، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م، (لم يذكر المطبعة ولا الناشر).

وعلى هذا فإنَّ القرآن الكريم صدر عن اللَّه وأوحاه إلى رسوله محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ليبشر الناس وينذرهم شأنه في ذلك شأن الرسل من قبله، وقد قصَّ اللَّه عليه قصص بعضهم وترك بعضهم الآخر، والقرآن أنزله اللَّه بعلمه على نبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- والملائكة يشهدون بذلك وشهادة اللَّه كافية، ومِمَّا امتاز به القرآن الكريم أنَّه إضافة لكونه مصدقًا لما بين يديه من الكتاب فهو مهيمنٌ عليه. قال بعض المفسرين: (أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله جعل اللَّه هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كله وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة) (¬1). وقد أحيط القرآن الكريم بعناية ربَّانيَّة خاصَّة تمثلت في مظاهر عدّة، منها: 1 - حيث أوحاه اللَّه إلى رسوله محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- عن طريق جبريل، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]. 2 - وجعل اللَّه من أجله رصدًا يحرسون السماء ممن يسترق السمع من الشياطين، وعن ذلك رُوِيَ عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: (كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي فيخبرون به الكهنة، فلمَّا بعث اللَّه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- دحروا. . .) (¬2)، ورُوِيَ عنه أيضًا أنَّه قال: (لم تكن سماء ¬

_ (¬1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/ 65، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم؛ انظر: السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 110،=

الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وكانوا يقعدون منها مقاعد للسمع، فلمَّا بعث اللَّه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- حرست السماء حرسًا شديدًا ورجمت الشياطين) (¬1). ويؤيد هذه المرويات وأمثالها ما ورد في القرآن الكريم بشأن حراسة الوحي قبل وصوله إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وبعد ذلك، وحفظ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يبلغ رسالة ربه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. قال بعض المفسرين في تفسيرها: (أي: في حالة إنزاله وبعد إنزاله. ففي حال إنزاله حافظون له، من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه اللَّه في قلب رسوله، واستودعه في قلوب أمته، وحفظ اللَّه ألفاظه كان التغيير فيها، والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل) (¬2). وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9]، قال السعدي: أي: أتيناها واختبرناها {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} عن الوصول إلى أرجائها، والدنو منها {وَشُهُبًا} يرمي بها من استرق السمع، وهذا مخالف لعادتنا الأولى فإنَّا كُنَّا نتمكن من خبر السماء ما شاء اللَّه، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي: مرصدًا له، معدًّا لإتلافه وإحراقه) (¬3). وفي تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ¬

_ = (مرجع سابق). وانظر: أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة 1/ 225 - 228، (مرجع سابق)، أورد خمسة أحاديث تنص على قصة حراسة السماء وارتباط ذلك بالقرآن الكريم ومبعث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬1) أخرجه البيهقي. دلائل النبوة: ص 111، (مرجع سابق). (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . 4/ 158، (مرجع سابق). (¬3) تيسير الكريم الرحمن. . 7/ 491، (مرجع سابق).

خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 27 - 28] قال رحمه اللَّه: (أي: فإنَّه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن اللَّه أيَّدَهُم بتأييد ما أيده أحدًا من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته من غير أن تقربه الشياطين فيزيدوا فيه أو ينقصوا، ولهذا قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أي: يحفظونه بأمر اللَّه هو {لِيَعْلَمَ} بذلك {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} هو بما جعله لهم من الأسباب، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي: بما عندهم، وما أسروه وما أعلنوه) (¬1). 3 - ومن مظاهر عناية اللَّه بالقرآن الكريم وحفظه ما تَمَّ على يد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته من حفظ القرآن في صدورهم وكتابته في الصحف، وقد بلغ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته في ذلك أرقى مناهج التوثيق، ذلك أن القرآن الكريم (نزل على رسول اللَّه -صلوات اللَّه وسلامه عليه- منجمًا في ثلاث وعشرين سنة (¬2)، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت السور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعوها ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن. . . 7/ 496، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الزرقاني: مناهل العرفان. . ص 51، (مرجع سابق). وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 105، (مرجع سابق). وانظر: إبراهيم الأبياري: تأريخ القرآن: ص 96، الطبعة الثانية 1402 هـ - 1982 م، عن دار الكتب الإسلاميَّة - القاهرة. وأخرجه البخاري في صحيحه 4/ 1905 الحديث رقم [4694]، ترتيب: مصطفى ديب البُغا، عن أبي سلمة قال: "أخبرتني عائشة وابن عباس رضي اللَّه عنهما قالا: لبث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين". وللعلماء في مدّة نزول القرآن عدّة آراء يُمكن التوفيق بينها على نحو أو آخر، فمن أنقص المدّة عن ثلاث وعشرين سنة كان سبب ذلك عدم احتساب المدّة التي كان ينقطع فيها الوحي عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر: الأبياري: المرجع السابق: ص 96.

في مكان كذا. . . سورة كذا" (¬1)، فقد ورد أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل بالآية والايات على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقول له: "يا محمد إنَّ اللَّه يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا" (¬2)، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن توقيفي، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنَّما هو بأمر اللَّه ووحي من اللَّه) (¬3). وعلى الرغم من هذا التوفيق وما أحاط بالتنزيل من عناية اللَّه -عز وجل- والتأكيد على أنه تكفل بحفظه، كقدر أراده اللَّه، ومشيئة قضاها، فإنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته بذلوا جهدهم في حفظ كتاب اللَّه في الصدور والسطور، ¬

_ (¬1) انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/ 60، 61، عن المكتبة الثقافية - بيروت (بدون تاريخ). وانظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن: 1/ 241، (مرجع سابق)، وأصل الحديث مرويٌّ عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنَّه قال لعثمان رضي اللَّه عنه: (ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى البراءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي اللَّه عنه: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذوات عدد، فكان إذا نزل عليه الثيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا! وتنزل عليه الآية فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" الحديث. أخرجه الحاكم: المستدرك على الصحيحين: 2/ 241، رقم الحديث 2/ 2875، (مرجع سابق)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: 5/ 254، رقم الحديث (3086)، (مرجع سابق)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". (¬2) انظر: السيوطي: المرجع السابق نفسه 1/ 60، 61، وانظر: مناع القطان: المرجع السابق نفسه: ص 139 - 145. وانظر: الزركشي: المرجع السابق نفسه: ص 234، 235، وص 241. (¬3) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 19، (مرجع سابق)، وانظر: الزركشي المرجع السابق نفسه: ص 237.

وكان ذلك من مظاهر حفظ اللَّه لكتابه، ولمزيد الإيضاح والبيان مع الاختصار والإجمال أورد بعض الجهود التي بذلت في تدوين القرآن الكريم إلى جانب حفظه واستظهاره في صفوف الأُمَّة: أ- تخصص بعض الصحابة في كتابة الوحي، وذكر بعض العلماء أن عددهم بلغ تسعة وعشرين كاتبًا؛ منهم الخلفاء الراشدون، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهم (¬1): كانوا يكتبون ما ينزل على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من القرآن (ويسجلونه آية بعد آية، حتى إذا ما كمل التنزيل، وانتقل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله مسجلًا في صحف (وكانوا يضعون ما يكتبونه في بيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمّ يكتبون لأنفسهم منه صورًا أخرى يحفظونها لديهم) (¬2)، وإذا كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، ولم يلزموا القراء توالي سورها) (¬3). ب- ثبت أن جبريل -عليه السلام- كان يعارض الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقرآن مرَّة واحدة ¬

_ (¬1) انظر: محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان. . 1/ 246، (مرجع سابق). وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 123، (مرجع سابق). وانظر: إبراهيم الأبياري: تأريخ القرآن: ص 95، (مرجع سابق). وانظر: الفهرست لابن النديم: ص 41، طبعة دار المعرفة، بيروت، (بدون تاريخ)، وانظر: ابن حزم: جوامع السير. . ص 26 - 27، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد. . 1/ 29، وقد أفرد أحمد عبد الرحمن عيسى كتابًا بعنوان: كتاب الوحي، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م، عن دار اللواء، الرياض، وأفرد محمد مصطفى الأعظمي كتابًا آخر عنوان: كُتَّاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، الطبعة الثالثة، 1401 هـ، 1981 م، عن المكتب الإسلامي، بيروت، وقد أحصى فيه واحدًا وستين كاتبًا للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ (لمزيد الاطلاع). (¬2) انظر: الزركشي: البرهان. . 1/ 238، (مرجع سابق). وانظر: السيوطي: الإتقان. . 1/ 58 (مرجع سابق). وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. . ص 36، طبعة دار القلم - الكويت، 1400 هـ - 1980 م. (¬3) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 20، (مرجع سابق).

في كل سنة، ثم عارضه به في السنة التي توفي فيها -صلى اللَّه عليه وسلم- مرتين (¬1)، ومعنى هذا أنَّ القرآن الكريم كان في صورته التَّامَّة في هذه السنة التي تَمَّ عرضه فيها مرتان، ولذلك شواهد كثيرة ذكرها العلماء، من أظهرها ما أورده البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنَّه قال: (كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون القراءة العامَّة فيه، وهي القراءة التي قرأها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتّى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولَّاه عثمان كتبة المصحف) (¬2). بيد أنَّه وردت أقوال وآراء أخرى حول جمع القرآن في عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- اهتبلها بعض الباحثين وبخاصة بعض المستشرقين في العصر الحديث ليشككوا في نص القرآن الكريم من ناحيتين: الأولى: من ناحية تواتره. الثانية: من ناحية ضبط نصه وإجماع الأُمَّة على ذلك. فأمَّا من ناحية التواتر فزعموا أن نص القرآن الكريم ليس متواترًا، وأنَّه خضع لفكرة التاريخيَّة (¬3) واستشهدوا بمثل ما رواه البخاري عن أنس أنه قال: ¬

_ (¬1) روى البخاري في صحيحه 1/ 1911 الحديث رقم [4710]، ترتيب: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق) عن مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام: (أسر إليَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلَّا حضر أجلي"). (¬2) شرح السنَّة؛ تحقيق: علي محمد عوض وعادل أحمد عبد الموجود، 3/ 50، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م، دار الكتب العلمية - بيروت. (¬3) انظر: آرثر جفري: مقدمتان في علوم القرآن؛ نقلًا عن أحمد خليل: دراسات في القرآن: ص 86، طبعة 1969 م، عن دار النهضة العربية - بيروت. =

"مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد" (¬1)، وفي رواية أخرى عن قتادة قال: (سألت أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- عن جمع القرآن على عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (¬2). وللعلماء في ذلك تخريجات كثيرة، منها: أن المراد بذلك مجرد التمثيل لا الحصر، ويدل على ذلك -كما قال الزرقاني-: (أنَّ أنسًا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبي بن كعب بدلًا من أبي الدرداء في الرواية السابقة، وهو صادق في كلتا الروايتين؛ لأنَّه ليس معقولًا أن يكذب نفسه، فتعين أنَّه من يريد الحصر الذي أورده الحصر الإضافي) (¬3). ومنها: أن المقصود يقول أنس -رضي اللَّه عنه- الكتابة لا الحفظ. ¬

_ = وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. . . ص 44 - 51، (مرجع سابق) تناول فكرة (آرثر جفري) بالرد والتفنيد، وأكد أنَّه حاول في فكرته تلك أن يقيس نص القرآن الكريم، وعمل الأُمَّة الإسلاميَّة في سبيل المحافظة عليه؛ بما حدث للأناجيل، وأنَّ النص القرآني مرَّ (بأطوار تشبه من جوانب كثيرة ما مرَّ به الإنجيل): ص 45، وأكد (دراز) بأن البحوث المسيحية الحديثة تنفي مزاعم (جفري)، واستشهد يقول (شوالي): (لقد أثبتنا فيما تقدم أن نسختي زيد متطابقتان، وأنَّ مصحف عثمان ما هو إلَّا نسخة من المصحف الذي كان عند حفصة)؛ المرجع نفسه: ص 46. (¬1) صحيح البخاري 4/ 1913 الحديث رقم [4718]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وقد اختلف في أبي زيد، من هو؟ ولكن الأصح واللَّه أعلم أن اسمه: قيس بن السكن، وهذا ما حققه ابن حجر. انظر: فتح الباري 9/ 53، (مرجع سابق)، وانظر: المرجع نفسه: 7/ 127، 313. (¬2) صحيح البخاري 4/ 1913 الحديث رقم [4717]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق). (¬3) مناهل العرفان. . 1/ 243، (مرجع سابق).

ومنها: أن المراد حفظ القرآن بجميع أوجه القراءات، أو تلقي القرآن مشافهة عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أو الجمع شيئًا فشيئًا حتى تكامل نزوله (¬1). والسبب في هذه التخريجات دفع ما قد تحمله تلك الرواية وأمثالها من توهين في نص القرآن الكريم؛ من حيث تواتر جمعه سواء بمعنى حفظه في الصدور، أو كتابته في السطور، بل جاءت بعض ردود العلماء على الطاعنين في تواتر نص القرآن الكريم في المصادر القديمة، فقد نقل ابن حجر ردَّ (المازري) على الملاحدة إذ يقول: (وقد تمسك يقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسك لهم فيه إنا لا نسلم حمله على ظاهره: سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألّا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى) (¬2). ومعنى كلامه: أنَّ نصَّ القرآن الكريم متواتر بالحفظ في مجموع الأُمَّة (¬3). وأمَّا من ناحية ضبط النص وإجماع الأُمَّة على ذلك، فقد اتكأ المشككون على بعض الروايات وما كان لدى بعض الصحابة من مصاحف خاصَّة بهم، فمن الروايات ما ورد عن زيد بن ثابت أنَّه قال: (قبض الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن القرآن جمع في شيء) (¬4). ووجه ذلك: أنَّ القرآن الكريم لم يجمع في مصحف واحد (وإنَّما كان ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 244. (¬2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/ 52، (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني. .: مناهل العرفان: 1/ 244، 245، (مرجع سابق). (¬3) انظر: ابن حجر: فتح الباري. . 9/ 12، (المرجع السابق نفسه). (¬4) أورده ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/ 12، (المرجع السابق).

مكتوبًا كلُّه عند الصحابة، قد لا يكون الأمر كذلك عندهم جميعًا، أو عند واحد منهم بعينه، ولكنه كذلك عند الجميع، وما ينقص الواحد منهم يكمله الآخر، ومن ثَمَّ فقد تضافروا جميعًا على نقله مكتوبًا، وإن تقاصر بعضهم عن كتابته كمل الآخر، وكان الكمال النقلي جماعيًّا وليس أحاديًّا) (¬1). أمَّا ما كان لدى الصحابة من صحف كتبوا فيها بعض القرآن أو كلَّه فرُبَّما حدث الاختلاف في ترتيب السور، وكتابتها بتمامها، فيما هو مكتوب لديهم، لاعتبارات متنوعة؛ منها: اعتماد بعضهم في ترتيبه لصحفه أو مصحفه نزول القرآن الكريم على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما هو الحال فيما يروي عن مصحف الإمام علي -رضي اللَّه عنه- (¬2)، أو تقديم سورة على سورة أخرى كتقديم سورة النساء على سورة آل عمران، كما هو الحال في مصحف عبد اللَّه بن مسعود، وأبي بن كعب (¬3)، ونحو ذلك. ومنها: ما يحدث من النسخ لبعض الآيات، وتبقى مكتوبة عند بعض الصحابة لعدم علمه بالنسخ مثلًا كما حدث في كتابة آية الرجم، وما ذكر عمرو بن العاص عنها حين كتابة المصحف في عهد أبي بكر؛ من نسخها (¬4)، ومنها: كون ترتيب القرآن الكريم لم يكن موافقًا لترتيب نزوله ¬

_ (¬1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم. .: ص 21، (المرجع السابق). (¬2) انظر: السيوطي: الإتقان. . 1/ 62، (مرجع سابق)، وانظر: صحيح البخاري 4/ 1910 الحديث رقم [4707]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، إذ ورد في الحديث ما يدل على أن لأم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها مصحفًا مرتبًا حسب نزول القرآن الكريم. (¬3) انظر: السيوطي: الإتقان. .: 1/ 64، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 420، (مرجع سابق). وقد نقل عن الإمام مالك: (أن لكل واحد من أهل الشورى مصحفًا خاصًّا به؛ وهم: علي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان)، ولم أجد هذا في الموطأ. (¬4) انظر: الحاكم: المستدرك على الصحيحين 4/ 401، (مرجع سابق). فقد أورد حديثًا =

وإنَّما كان توقيفيًّا، فبقيت الكتابة مفتوحة انتظارًا لما يحدث من زيادة، ومنها: ما يتعلق بالأحرف السبعة والقراءات الأخرى. وأمر آخر يتعلق بالنسخ (لأن النسخ كان يرد على بعضه ويرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته، كما ينسخ بعض أحكامه، فلو جمع ثُمَّ رفعت تلاوة بعضه أدى ذلك إلى الاختلاف، واختلاط أمر الدين، فحفظه اللَّه في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثُمَّ وفق لجمعه الخلفاء الراشدين) (¬1). لهذه الاعتبارات ونحوها كانت كتابة المصحف تتسم بالكثرة، والتنوع، وكانت متناثرة لا يربطها نظام في كتاب واحد (¬2)، وقد عَدَّ بعض العلماء هذه الاعتبارات مجتمعة أو متفرقة أسبابًا لعدم جمع ما كتب من التنزيل في كتاب واحد في عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ تَمَّ ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، ومن المعلوم أنَّ سنتهم متممة لسنّة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومِمَّا ورد في ذلك ما أخرجه الإمام أحمد رحمه اللَّه أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ" (¬3). ج- وفي عهد أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، أجمعت الأُمَّة على أهميَّة جمع ¬

_ = عن كثير بن الصلت، قال: (كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمرا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" فقال عمرو: لما نزلت أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلت: أكتبها، فكأنه كره ذلك. فقال له عمرو: "ألا ترى أن الشيخ إذا زنى وقد أحصن جلد ورجم، وإذا لم يحصن جلد، وأن الثيب إذا زنى وقد أحصن رجم" قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المرجع السابق نفسه: الصفحة نفسها). (¬1) البغوي: شرح السنة 3/ 50، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/ 238، (مرجع سابق). (¬3) مسند الإمام أحمد 4/ 126، الحديث رقم (16694)، طبعة دار الإحياء العربي: 5/ 109 (مرجع سابق).

القرآن الكريم عندما أدرك ولاة أمرها (الخطر الداهم الذي لاحت نذره في معركة اليمامة، ويوشك أن يلتهم كل حفاظ القرآن من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وهم الشهود العدول على وثاقة النص المكتوب، وقد كان مفرقًا في لخاف وكرانيف وعسب وأضلاع وأكتاف (¬1)، إلى جانب ما كان في الصدور، ولم يأخذ بعد سورة الكتاب الواحد، اللهم في صدور الصحابة الذين جمعوه حفاظًا على عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد بدأت الحرب تقرضهم واحدًا إثر واحد) (¬2). وفي ذلك روى البخاري عن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- عنه قصة جمع القرآن الكريم وهي قصة تنم عن وعي ولاة أمر الأُمَّة، وتحملهم مسؤولية مصالحها، وتثبتهم، وحرصهم الشديد على متابعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كل ما يأتي ويذر بغاية الدقة والمحبة والإخلاص، وقد ورد في تلك القصة (أن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف ¬

_ (¬1) قال السيوطي في معناه: (العُسْبُ: جمع عَسِيْب، وهو جريد النخل؛ كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف [بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء]: جمع لَخْفة [بفتح اللام وسكون الخاء] وهي: الحجارة الدقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة. . . والأكتاف: جمع كتف؛ وهو العظم الذي للبعير أو الشاة؛ كانوا إذا جَفَّ كتبوا عليه) الإتقان 1/ 58، 59، (مرجع سابق). ولمزيد الاطلاع على مواد الكتابة في الجاهليَّة وصدر الإسلام؛ انظر: محمد قبيسي: القرآن الكريم الوثيقة الأولى في الإسلام: ص 113 - 118، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، من منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت. (¬2) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم. . . ص 27، (مرجع سابق).

تفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال عمر: هذا واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتتبع القرآن فاجمعه. فواللَّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمَّا أمرني به من جمع القرآن. قلتُ: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول اللَّه؟ قال: هو واللَّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما-، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللَّه، ثُمَّ عند عمر حياته، ثُمَّ عند حفصة بنت عمر -رضي اللَّه عنه-) (¬1). وقد سلك زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- في جمع القرآن الكريم مسلكًا علميًّا حقق للأُمَّة الإسلاميَّة السبق في مجال التوثيق، وهو ما عبَّر عنه بعض الباحثين بقوله: (إنَّ زيدًا اتبع طريقة في الجمع نستطيع أن نقول عنها في غير تردد، أنها طريقة فذَّة في تاريخ الصناعة العقليَّة الإنسانية، وأنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث، وأن الصحابي الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، وأن هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد باللَّه، فالقرآن كلام اللَّه جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدًا -في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتنزه عنه، وقد شهد المنصفون من المستشرقين جميعًا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 1907 كتاب فضائل القرآن - باب: جمع القرآن، رقم الحديث [4701]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق).

بهذه الدقة حتى ليقول (سير وليم موبر): "والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظَلَّ أربعة عشر قرنًا كاملًا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته" (¬1) (¬2). إن ما قام به زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- بتكليف من خليفة المسلمين أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- ومشورة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، ومعاونة عمر -رضي اللَّه عنه- وأبي بن كعب ومشاركة جمهور الصحابة ممن كان يحفظ القرآن أو يكتبه (¬3)، وإقرار جمع من المهاجرين والأنصار، مظهرٌ من مظاهر العناية الربانيَّة بحفظ القرآن الكريم، وتوفيق من اللَّه للأُمَّة الإسلاميَّة، وتسديد منه لمسيرتها. ويتضمن ذلك -أيضًا كما قال أبو زهرة-: (حقيقتين مهمتين، تدلان على إجماع الأُمَّة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل، وأنه مصون بصيانة اللَّه سبحانه وتعالى، ومحفوظ بحفظه، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته. الأولى: أن عمل زيد -رضي اللَّه عنه- لم يكن كتابة مبتدأة، ولكنه إعادة لمكتوب (¬4)، فقد كتب القرآن كله في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعمل زيد الابتدائي ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 31. وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 7، 74، 75، 76، 85، (مرجع سابق). (¬2) محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 30، 31. (¬3) انظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 281، 282، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن دار الوفاء. . .، المنصورة، وقد جاء في فتح الباري لابن حجر: أن أبا بكر رضي اللَّه عنه قال لزيد ولعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهم أجمعين: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللَّه فاكتباه" وقال: رجاله ثقات مع انقطاعه 9/ 14، (مرجع سابق). وانظر: فهد الرومي: دراسات في علوم القرآن. .: ص 90، الطبعة الرابعة، 1415 هـ - 1994 م، عن مكتبة التوبة، الرياض. (¬4) وكان يكتب على ورق كما ذكر ذلك السيوطي عن ابن أشته في كتابه (المصاحف) =

هو البحث عن الرقاع والعظام التي كان قد كتب عليها، والتأكد من سلامتها بأمرين، بشهادة اثنين على الرقعة التي فيها الآية والآيتان أو الآيات، وبحفظ زيد نفسه، وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجم الغفير والعدد الكبير، فما كان لأحد أن يقول: إن زيدًا كتب من غير أصل مادي قائم، بل إنَّه أخذ من أصل قائم ثابت مادي، وبذلك نقرر أنَّ ما كتبه زيد هو تمامًا ما كتب في عصر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه ليس كتابة زيد، بل ما كتب في عصره عليه الصلاة والسلام، وأملاه، وما حفظه الروح القدس. . . الثانية: أن عمل زيد لم يكن عملًا أحاديًّا، بل كان عملًا جماعيًّا من مشيخة صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده شيءٌ مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة، وكل ما كتب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعند ذلك بدأ زيد يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلَّا إذا اطمأنَّ إلى إثباتها، كما أوحيت إلى رسول اللَّه (¬1)، واستمر الأمر كذلك، حتى إذا ما أتَمَّ زيد ما كتب، تذاكره ¬

_ = حيث قال: (لَمَّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف. .). الإتقان. . 1/ 51. وانظر: فهد الرومي: المرجع السابق نفسه: ص 93. (¬1) انظر: أحمد خليل: دراسات في القرآن: ص 90، طبعة 1969 م، عن دار النهضة العربية. .، بيروت، حيث أشار إلى أنَّ مِمَّا يعد (أصلًا من أصول النقد العلمي المحرر في الحكم على النصوص ثقة وزيفًا وصحة وفسادًا وهو لغة النص، وخصائصه المتميِّزة له والكاشفة عن سماته وملامحه التي لا يضل في معرفتها ما أشار إليه "الحارث المحاسبي" في كتابه: "فهم السنن" عن ثقة زيد ومن معه من المسلمين في النصوص التي تعرض عليهم من الرقاع ونحوها، إذ قال: "لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف وقد شاهدوا نزوله وسمعوا تلاوته من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنَّما الخوف من ذهاب شيء من الصحف؛ ولهذا جمع أبو بكر القرآن").

الناس، وتعرفوه وأقروه، فكان المكتوب متواترًا بالكتابة ومتواترًا بالحفظ في الصدور، وما تَمَّ هذا لكتاب في الوجود غير القرآن، وتلك -وايم اللَّه- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم) (¬1)، وشرف للأمَّة الإسلاميَّة تميزت به على سائر الأمم، ووفقها اللَّه لخدمة كتابه في منهج علمي سبقت إليه جميع الأمم. يقول (لوبلوا) مشيرًا إلى هذا السبق العلمي للأُمَّة الإسلاميَّة: (من ذا الذي لم يتمنَّ لو أنَّ أحدًا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة) (¬2). د- وفي عهد عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- وقد اتسعت الفتوحات الإسلاميَّة وانتشرت الأُمَّة الإسلاميَّة في أرجاء المعمورة، وصاحب ذلك التوسع والانتشار خوف ولاة أمر الأُمَّة أن يختلف المسلمون في القرآن كما حدث لليهود والنصارى، فأقدم خليفة المسلمين -رضي اللَّه عنه- وأرضاه على عمل آخر في صالح الأُمَّة الإسلاميَّة؛ إذ أمر أربعة من الصحابة الكرام وهم (زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام) (¬3) أن ينجزوا للأُمَّة مصاحف قيل أنَّ عددها خمسة، وقيل: سبعة، ¬

_ (¬1) المعجزة الكبرى (القرآن، نزوله، كتابته، جمعه، إعجازه. .): ص 26، 27، طبعة دار الفكر، (بدون تاريخ)، وانظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 31 - 32، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 29. (¬3) انظر: تراجمهم لدى: النووي: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 200 - 202 (ترجمة زيد بن ثابت) و 1/ 218 (ترجمة سعيد بن العاص) و 1/ 266، 267 (ترجمة عبد اللَّه بن الزبير)، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، (ولم أجد لعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ترجمة)، وجاءت أسماؤهم على هذا النحو فيما أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1906 - كتاب: فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب. . الحديث رقم [4699]، تحقيق: (البُغا)، (مرجع سابق).

وقيل: أربعة، ثُمَّ بعثها (إلى كل من مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا) (¬1). وقد انتهج عثمان -رضي اللَّه عنه- والجماعة التي كلَّفها بهذا العمل منهجًا علميًّا تجلَّت فيه مظاهر حفظ اللَّه لكتابه، حتى بلغ الأمر بكثير من المستشرقين أن يعترفوا بذلك المنهج، ويتوافر معظمهم على القول بأنَّ الفضل -بعد اللَّه- يعود لعثمان في المحافظة على نص القرآن الكريم كما هو الآن بين ظهراني الأُمَّة الإسلاميَّة كقول (بلاشير): (إنَّ الفضل -[بعد اللَّه]- يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- لإسهامه قبل سنة 655 م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل على مدى الأجيال القادمة) (¬2). وله أيضًا مقولة أخرى تبين أنَّ هذا النص ثابت عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ يقول: (ليس لدينا أي سبب يحملنا على الاعتقاد بأنَّ هناك أيَّة آية في القرآن كله لم ترد عن محمد) (¬3). ويعترف كثير من المستشرقين أنَّ القرآن الكريم منذُ أنجز المصحف الإمام برسمه العثماني حتى العصر الحاضر تواتر نقله في غاية الضبط والمطابقة وعدم تحريف حرف منه أو تغييره أو تبديله؛ من ذلك قول (لوبلوا): (إنَّ القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) (¬4). ¬

_ (¬1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 32، (مرجع سابق)، وللاطلاع على ما قيل عن عدد المصاحف. انظر: الزركشي: البرهان. . 1/ 240. وانظر: الإتقان للسيوطي 1/ 60، والزرقاني. . 1/ 395، 396، ولديه أيضًا مبحث بعنوان (أين المصاحف العثمانية الآن؟) ص 397، 398. (¬2) نقلًا عن عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 52، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن زقزوق: الاستشراق: ص 92، (مرجع سابق). (¬4) نقلًا عن محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. .: ص 40، (مرجع سابق).

ويقول (موير): (إنَّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلاميَّة الواسعة. . . فلم يوجد إلَّا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلاميَّة المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجَّة ودليل على صحة النص المنزل) (¬1). أمَّا المنهج الذي طبقته الجماعة المكلفة بأمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- فإنَّه يرتكز على ما يأتي: أولًا: تطبيق مبدأ الشورى فيما استجد في حياة الأمَّة من سعة الانتشار وتفرق علماء الأُمَّة في الأمصار المفتوحة، وما نجم عن تعلم القرآن لناشئة المسلمين من أوجه متعددة في قراءة القرآن؛ أخرج أبو داود في المصاحف عن طريق أبي قلابة أنه قال: (لما كانت خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين حتى كفر بعضهم بعضًا، فبلغ ذلك عثمان، فخطب فقال: "أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافًا" (¬2). وأخرج البخاري: أن حذيفة بن اليمان قَدِم على عثمان، وكان يغازي أهل الشَّام في فتح أرمينيَّة، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأُمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى. . .) (¬3). ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 40، وقد عقَّبَ دراز على قول المستشرق المذكور من ناحيتين، انظر: المرجع السابق نفسه: ص 41 - 44. (¬2) ص 29. وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان: 1/ 249، (مرجع سابق). (¬3) صحيح البخاري 4/ 1908، الحديث رقم [2702]، فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، تحقيق: (البُغا)، (مرجع سابق).

عند ذلك جمع أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- (أعلام الصحابة وذوي البصر منهم، وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ووضع حدٍّ لذلك الاختلاف، وحسم مادة هذا النزاع، فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها، وألَّا يعتمدوا سواها) (¬1). ثانيًا: الاعتماد على المصحف الذي تَمَّ جمعه في عهد أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، واستقر حفظه عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي اللَّه عنهما-، ورد في حديث حذيفة بن اليمان -آنف الذكر- (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان) (¬2). ثالثًا: تشكيل جماعة من أربعة من الصحابة أحد أفرادها زيد بن ثابت، وفي ذلك دلائل عميقة، من أهمها: الارتكاز على ما أنجزه في عهد أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، والإفادة من علمه وخبرته، ثُمَّ مساعدته، وتوثيق عمله، وإنجازه على أكمل وجه، بجهود الثلاثة الآخرين -وكلهم من قريش- إلى جهوده، وقد جاء في بعض الروايات (أنَّ الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلًا) (¬3). رابعًا: سلكت هذه الجماعة -سواء كانت من الأربعة أو أكثر- في نسخ القرآن الكريم منهجًا علميًّا، أطلق عليه بعض الباحثين -فيما بعد- ¬

_ (¬1) الزرقاني. . .: المرجع السابق نفسه: 1/ 249، 250. (¬2) جزء من الحديث الذي رواه البخاري (سبق تخريجه في الصفحة السابقة). (¬3) أبو داود: المصاحف: ص 33، وانظر: فهد الرومي: دراسات في علوم القرآن الكريم: ص 99، (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان. .: 1/ 250، (مرجع سابق).

مسمى: (دستور عثمان في كتابة المصاحف) (¬1)، ثُمَّ وصفه -أيضًا- بقوله: (ومِمَّا تواضع عليه هؤلاء الصحابة، أنَّهم لا يكتبون في هذه المصاحف إلَّا ما تحققوا أنه قرآن، وعلموا أنَّه استقر في العرضة الأخيرة، وأيقنوا صحته عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّا لم ينسخ، وتركوا ما سوى ذلك) (¬2). خامسًا: رسمت تلك المصاحف العثمانية بطريقة تحتوي القراءات المتعددة الواردة عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان من أهم سماتها؛ إهمال (النَّقْط والشَّكْل) (¬3)، واعتماد طريقة في الرسم غاية في الإبداع، حيث اشتملت على الأوجه والقراءات الواردة عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّا لم ينسخ، وفي ضوء العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وهذا ما أجمعت عليه الأُمَّة، وقد وصف أحد الباحثين هذا الرسم العثماني بقوله: (فقد وهبهم اللَّه القدرة العظيمة والفكر الثاقب ليكتبوا القرآن بهذه الطريقة التي جمعت العرب والمسلمين على لسان واحد ولغة واحدة في قراءة القرآن الكريم، وبهذا تحققت الوحدة بين المسلمين جميعًا) (¬4). سادسًا: كان من توجيه عثمان -رضي اللَّه عنه- لهم في هذا الجمع أيضًا قوله ¬

_ (¬1) الزرقاني: المرجع السابق نفسه: 1/ 250. (¬2) المرجع السابق نفسه: 1/ 250. (¬3) انظر: ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 402، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم: ص 254، الطبعة الجديدة 1412 هـ - 1992 م، دار الجيل - بيروت، ولمزيد الاطلاع على المصاحف العثمانية وما قيل عن تطابقها أو تنوعها. انظر: المرجع السابق نفسه: ص 253، وعن اشتمالها على القراءات والأحرف السبعة انظر: أبا عمر الداني الأحرف السبعة للقرآن: ص 60 - 63، تحقيق: عبد المهيمن صمان، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن مكتبة المنارة. وانظر: هامش ص 60، 61 (لمرجع السابق نفسه). (¬4) محمد حسين أبو الفتوح: ابن خلدون ورسم المصحف العثماني: ص 28، الطبعة الأولى 1992 م، مكتبة لبنان - بيروت.

لهؤلاء القرشيين (¬1): "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنَّما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" (¬2). ومِمَّا ينبغي الإشارة إليه بصدد مظاهر العناية الربَّانيَّة بالقرآن العظيم من جهة ومن كونه المصدر الأول لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة من جهة أخرى، أن الجهود التي بذلت في جمعه في عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ في عهد أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ في عهد عثمان بن عفان -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت جهودًا متكاملة في حفظ كتاب اللَّه جاء بعضها ليكمل الآخر ويعتمد اللاحق على السابق؛ ففي عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان القرآن الكريم مجموعًا بتمامه، وذلك بالنظر لمجموع الأمَّة -كما سبق الإشارة إلى ذلك- ثُمَّ كان جمعه في عهد أبي بكر -وحفظه لديه مدوَّنا في صحف- لا يقتصر على إيجاد سورة يسهل الرجوع إليها وتكون في مأمن من الأخطار فحسب، بل (إقرار الشكل النهائي لكتاب اللَّه الكريم وتوثيقه عن طريق حفظته الباقين على قيد الحياة، واعتماده من الصحابة الذين كان كل منهم يحفظ منه أجزاء كبيرة أو صغيرة) (¬3)، ثمَّ نسخت منه نسخٌ عِدَّة في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- برسم جامع أجمعت ¬

_ (¬1) انظر: البغوي: شرح السنة 3/ 51 - 58، (مرجع سابق). وانظر: هامش: ص 52 - 54 لمزيد الاطلاع على أقوال العلماء حول هذه المسألة. وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 395، (مرجع سابق). (¬2) من حديث حذيفة بن اليمان؛ أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1908، الحديث رقم [4702]، (مرجع سابق). (¬3) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 28، (مرجع سابق)، وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 36، (مرجع سابق).

الأُمَّة على نصه، وجعلته المرجع لسائر القراءات التي حفظتها عن رسولها الخاتم -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعلى ذلك فإن (المصحف الذي كتب على أيام أبي بكر -هو نفس المصحف الذي كتب على أيام الرسول- صلوات اللَّه وسلامه عليه- وهو نفسه الذي كتب على أيَّام عثمان، وبالتالي فإنَّ كل قراءة قرآنية يجب أن تكون متفقة مع نصه، وأن الشك فيه كفر، وأن الزيادة عليه لا تجوز، وأنَّه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة) (¬1)، هذا من جهة. أمَّا من حيث كون القرآن الكريم المصدر الأول لتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من جهة أخرى؛ فإنه ينبغي الإشارة إلى ذلك المنهج التربوي الفريد الذي صاحب نزول القرآن الكريم: (منجمًا في ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث ومقتضى الحال) (¬2)، وما تلا ذلك من عناية الأُمَّة بكتاب ربها، مِمَّا لا يتسع المجال للتفصيل فيه، ولكنني أكتفي بذكر أهم ما يتصل بربانية الأُمَّة الإسلاميَّة كخصيصة من خصائص تميّزها، فبالنظر إلى المعاني التي وردت في مفهوم الربانيَّة فيما سبق، وإلى ذلك المنهج المشار إليه آنفًا يتبين أن القرآن الكريم (تدرج في تربية الأُمَّة الإسلاميَّة تدرجًا فطريًّا لإصلاح النفس البشرية، واستقامة سلوكها، وبناء شخصيتها، وتكامل كيانها، حتى استوت على سوقها، وآتت أكلها الطيب بإذن ربها لخير الإنسانية كافة، ¬

_ (¬1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم، ص 37، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 389 - 403 (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني: ماهل العرفان. . 1/ 161، (مرجع سابق). (¬2) محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 19. وانظر: محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم: ص 65 - 72، (مرجع سابق).

وكان تنجيم القرآن خير عون لها على حفظه وفهمه ومدارسته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه) (¬1). وقد عَوَّل هذا المنهج على حفظ القرآن الكريم في الصدور في المقام الأول، وربَّى الأُمَّة على ذلك وكان (الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأُمَّة) (¬2)، وفي هذا قال ابن الجزري: (إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب، أشرف خصيصة من اللَّه تعالى لهذه الأُمَّة) (¬3). ومِمَّا ورد في وصف الأُمَّة الإسلاميَّة لدى أهل الكتاب أنَّ (أناجيلهم في صدورهم) (¬4). ومِمَّا اشتهر عن الصحابة أنهم كانوا (يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت، حتى كان الذي يصر ببيوت الأنصار في غسق الدجى، لا يسمع فيها إلَّا صوت القرآن يتلى، وكان المصطفى -صلوات ¬

_ (¬1) مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 116، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة المرجع السابق نفسه: ص 68 - 77، وانظر: الزرقاني: المرجع السابق نفسه: 1/ 48 - 55. (¬2) مناع القطان: المرجع السابق نفسه: ص 117، وانظر: محمد أبو شهبة المرجع السابق نفسه: ص 352، ولمزيد الاطلاع على العوامل المساعدة على حفظ القرآن الكريم؛ انظر: المرجع السابق نفسه ص 354 - 376. (¬3) نقلًا عن مناع القطان: المرجع السابق: ص 123، وقد عزاه إلى كتاب ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (ولم أتمكن من الرجوع لقوله فيه). (¬4) نقلًا عن ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام. . . 13/ 400، (مرجع سابق)، وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان: 1/ 235، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة: المرجع السابق نفسه: ص 350.

اللَّه وسلامه عليه- يصر على بعض دور الصحابة، فيقف عند بعضها يستمع القرآن في ظلام الليل. . . وروي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار" (¬1). وكان من منهجهم في حفظه ودراسته ما ذكره ابن كثير وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود، وأبي عبد الرحمن السلمي، حيث ذكر أن عبد اللَّه بن مسعود كان يقول: (والذي لا إله غيره! ما من كتاب اللَّه سورة إلَّا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب اللَّه مني، تبلغه الإبل، لركبتُ إليه) (¬2). ونقل عنه أيضًا أنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (¬3)، وذكر أن عبد الرحمن السلمي كان يقول: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا [زاد ابن تيمية قوله: عثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما] أنهم كانوا يستقرئون من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا) (¬4). ولأم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنهما- كلام حول هذا المعنى، فقد ورد عنها في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1547، الحديث رقم [3991] كتاب المغازي - باب: غزوة خيبر، (ترتيب البُغا) (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1913، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه الحديث رقم [2463]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) تفسير القرآن العظيم 1/ 3 (مقدمة الكتاب)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 3. وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 402، (مرجع سابق).

بعض الروايات أنها قالت: (كانت تنزل علينا الآية في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فنحفظ حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، قبل أن نحفظها) (¬1). وما ورد عن جندب بن عبد اللَّه وعبد اللَّه بن عمرو وغيرهما أنهم كانوا يقولون: (تعلمنا الإيمان ثُمَّ تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وأنتم تتعلمون القرآن ثُمَّ تتعلمون الإيمان) (¬2). والشاهد من هذا ونحوه مِمَّا تضافر عن كثير من الصحابة، وأصبح منهجًا في التربية والتعليم (¬3): أنَّ الأُمَّة تربت بالقرآن الكريم وصنعت على عينه تعالى وكان قدوتها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" (¬4)، وكان تنزلُ القرآن منجمًا في ثلاث وعشرين سنة منذ نزول قول اللَّه تعالى: {اقرأ} وحتى نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬5) [النصر: 1]، وغيرهما، وما بين ذلك من أمر ونهي، وتحريم وتحليل، ودعوة لمكارم الأخلاق، وزجر عن مرذولاتها، وتنظيم لشؤون المجتمع والأسرة ¬

_ (¬1) أورده ابن عبد ربه في العقد الفريد (قولهم في حملة القرآن): 2/ 103، بتحقيق: مفيد محمد قميحة، طبعة دار الكتب العلمية، 1417 هـ، بيروت، ولم أجد هذا الأثر عند غيره فيما بحثت فيه من المسانيد والمأثورات، ولكنه يتقوى بما ذكر قبله. (¬2) ابن تيمية: المرجع السابق نفسه: 13/ 403. (¬3) انظر: عبد اللَّه بن إبراهيم بن عبد اللَّه الوهيبي: التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما، (مقال منشور بمجلة البحوث الإسلامية): ص 204 - 206، العدد [7] عن: رجب وشعبان ورمضان وشوال لعام 1403 هـ، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. . . الرياض. (¬4) أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة [72] آداب الزفاف: ص 3. (¬5) لمزيد الاطلاع على آخر ما نزل من القرآن الكريم، انظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن: 1/ 209، 210، (مرجع سابق)، وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 69 - 74، (مرجع سابق).

والأموال والمواريث وقبل ذلك كله ما يتعلق بالعقيدة والعبادة (¬1)، (والمفاصلة التامة بين الإسلام والشرك) (¬2)، كل ذلك تَمَّ في مراحل متدرجة أخذت بالأمة من حال إلى حال، ومن طور لآخر، وتربت في خلالها حتى اكتمل الدين وتمت النعمة، واللَّه سبحانه وتعالى هو المربي والمنعم والقيم والمالك والسيد والمتصرف والمصلح والمدبر، وقد تجلت هذه المعاني في نشوء الأُمَّة الإسلاميَّة وتطورها وتمامها. وعن هذا المعنى قال أحد المفكرين المسلمين: (لم تتجاوب -في التاريخ القديم والحديث- أُمَّة مع كتاب تجاوب العرب مع القرآن، فبعد أن اصطفى الخالد من مكارمهم، وأبطل الشائن من عاداتهم، وزكَّى ما عندهم من استعداد، وأنار لهم طريق الهداية بعد حيرة، واستجابوا له، فأصبح الكتاب الذي من خلاله ينظرون إلى الكون والحياة والوجود، وفي جوه الفكري والروحي يعيشون ويحيون، وبمفاهيمه في الحياة يأخذون. ولذلك لم يكن القرآن كتابًا فلسفيًّا، ولا نظريات فكريَّة، بل كتابًا امتزج بحياتهم، ومدرسة حيَّة عاشوا في جوها، ورأوا فيه مراحل الدعوة التي قاوموها ثُمَّ أخذوا بها، ورأوا فيه أحزابهم ومواقفها من الدعوة ونماذج من ¬

_ (¬1) لمزيد من الاطلاع على ما تضمنه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام وقصص وتاريخ ومغيبات وإخبار عن اللَّه وأسمائه وصفاته وملكوت السموات والأرض والأرض والجَنَّة والنار وما كان وما يكون. . . إلخ. انظر: محمد أحمد العدوي: دعوة الرسل إلى اللَّه: ص 369 - 529، الطبعة الأولى 1354 هـ - 1935 م، مطبعة الحلبي - مصر. وانظر: حسين مطاوع الترتوري: مصادر النظم الإسلاميَّة، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (27] عن ربيع الآخر - جمادى الآخرة 1410 هـ: ص 123 - 125، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. . .، الرياض، وانظر: محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي: ص 175 - 193، الطبعة الثانية (بدون تاريخ). (¬2) مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 116، (مرجع سابق).

شخصياتهم. والقرآن على أنَّه وحيٌ نزل من السماء ليصور حياة أفضل ويدعو إليها، وقد وصف حوادث حدثت في الأرض فكان واقعيًّا ومثاليًّا في آن واحد) (¬1). ولولا أنَّ اللَّه جل وعلا أحاط هذه الأُمَّة بعنايته ورعايته، وأصلح شأنها بالقرآن الكريم وبهدي سيد الأنبياء والمرسلين، لما بلغت هذه المرتبة الرفيعة من التربية والثقافة. * * * ¬

_ (¬1) محمد المبارك: دراسات أدبية لنصوص من القرآن: ص 91، الطبعة الرابعة 1392 هـ - 1973 م، دار الفكر، بيروت.

السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم يتضمن القرآن الكريم الأخذ بالسنة والتزامها من أكثر من وجه، وقبل ذكر تلك الأوجه ينبغي التعريف بالسنة في اللغة والاصطلاح، ثُمَّ بيان منزلتها من القرآن الكريم. أولًا: تعريف السنة: أ- السُّنَّة في اللغة: جاء في لسان العرب: (السُّنَّة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة، وقيل: الطريقة المحمودة المستقيمة، والسُّنَّة الطبيعة. سنن الطريق وسُننه: نهجه) (¬1). وفي القاموس المحيط: (سَنَنُ الطريق. . .: نهجه وجهته) (¬2). وقال الراغب الأصفهاني: (السُّنَن: جمع سُنَّة، وسُنَّة الوجه: طريقته، وسُنَّة النبي: طريقته التي كان يتحراها، وسُنَّة اللَّه تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريق طاعته، نحو {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، فتنبيه أنَّ فروع الشرائع -وإن اختلفت صورها- فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل، وهو تطهر النفس، وترشيحها للوصول إلى ثواب اللَّه تعالى وجواره) (¬3). ب- السُّنَّة في الاصطلاح: قال ابن الأثير: (تكرر في الحديث ذكر (السُّنَّة) وما تصرَّف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة، وإذا أُطلقت في الشرع فإنَّما يراد بها ما أَمَرَ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ونهى عنه وندب إليه قولًا وفعلًا، ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب؛ مادة (سنن)، (مرجع سابق). (¬2) الفيروزآبادي: القاموس المحيط؛ مادة (سنن)، (مرجع سابق). (¬3) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (سنن)، (مرجع سابق).

ثانيا: منزلة السنة من القرآن الكريم

مِمَّا لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسُّنَّة، أي: القرآن والحديث) (¬1). وقد كثرت المعاني التي اصْطُلِحَ عليها في تعريف السُّنَّة بالنظر لتعدد العلوم التي تُعنى بالسُّنَّة (فهي عند المحدثين غيرها عند الأصوليين والفقهاء، والشارع في أي علم عليه أن يلم باصطلاحات أهله؛ لئلا تلتبس عليه الأمور وتضطرب الموازين) (¬2). وعلى الرغم من ذلك فإنَّ المعنى المراد هنا بالسُّنَّة: ما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أقوال وأفعال (تؤكد ما ورد في القرآن الكريم، أو تفسر أحكامه وتبين شرائعه؛ من تفصيل لمجمل، أو تخصيص لعام أو تقييد لمطلق، أو توضيح لمشكل، أو بزيادة على ما ثبت في القرآن الكريم في حكم من الأحكام، أو بإنشاء حكم سكت عنه القرآن وثبت بالسنة، ونحو ذلك مِمَّا يقتضيه الأخذ بالسُّنَّة، كنسخها لبعض أحكام القرآن الكريم) (¬3). ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم: أ- تماثل السُّنَّة القرآن الكريم في كونها وحيًا من اللَّه -عَزَّ وجَلَّ- لقوله ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث: مادة (سنن)، (مرجع سابق). (¬2) البغوي: شرح السنة 1/ 11، (مرجع سابق). وانظر: محمد لقمان السلفي: السُّنَّة (حجيتها ومكانتها في الإسلام والرد على منكريها): ص 12، الطبعة الأولى 1409 هـ، عن مكتبة دار الإيمان - المدينة المنورة. (¬3) انظر: محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر: 88، 91، 92، 150 - 156، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، (لمزيد الاطلاع على أمثلة مستفيضة على جميع هذه الأحوال). وانظر: ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 220 - 274، وانظر: حسين مطاوع الترتوري، (مجلة البحوث الإسلامية، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية. . الرياض) مقال بعنوان: مصادر النظم الإسلاميَّة: ص 145 - 147، (مرجع سابق).

تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ولما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ" وأشار بيده إلى فيه) (¬1)؛ وذلك في قصة كتابة عبد اللَّه بن عمر بن العاص لما يسمعه عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّ قريشًا نهته عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشر يتكلم في الرضاء والغضب؟) (¬2)، فأمسك عن الكتابة، وذكر ذلك للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- القول المذكور آنفًا. وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} قال ابن قيم الجوزية: (أي ما نطقه إلَّا وحي يوحى. وهذا أحسن ما قول من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فانَّه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأنَّ كليهما وحي يوحى) (¬3). وللعلماء في كون السُّنَّة وحيًا من اللَّه تفصيلات طويلة تخرج عن إطار هذه الدراسة (¬4)، ويكفي منها ما يأتي: ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . (مسند عبد اللَّه بن عمرو 2/ 192) الحديث رقم [6763] المجلد 2/ 395، عن دار إحياء التراث، (مرجع سابق)، وزيادة (وأشار بيده إلى فيه) لم ترد هنا، ووردت لدى الحاكم: المستدرك على الصحيحين 1/ 187، الحديث رقم (359/ 70)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الحاكم: المستدرك على الصحيحين: 1/ 187، 188، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 300، الحديث رقم [389]، تحقيق: أبي الأشبال، عن دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م - الرياض. (¬3) بدائع التفسير 4/ 276، 277، (مرجع سابق). (¬4) انظر: الشافعي: الرسالة: ص 93 - 103، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين: ص 3، 4، الطبعة الثانية 1407 هـ - 1987 م، عن دار اللواء. . الرياض، وانظر: محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون (أو عناية الأُمَّة الإسلامية بالسنة النبوية): ص 11 - 19، طبعة 1404 هـ - 1984 م، عن دار الكتاب العربي - بيروت.

• أنَّ ما صدر عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قسمان: (وحيٌ -قطعًا- معصوم عن الخطأ والسهو فيه. . . وهذا القسم: إمَّا أن يكون قد أوحي إليه مصحوبًا بلفظ دال عليه أو لا، فإن كان مصحوبًا به: فإمَّا أن يكون قد قصد به التعبد والإعجاز والتحدي بأقصر سورة منه، وهو القرآن. وإمَّا أن لا يكون كذلك وهو الحديث القدسي. . . ولا شكَّ في أنَّه وحيٌ؛ لأنَّه يخبر به عن اللَّه. . . وهو خبر معصوم عن الكذب، فدلَّ أنه كلام اللَّه، كما دلَّ خبره على أن القرآن كلامه، وإن لم يكن مصحوبًا بلفظ فهو الحديث النبوي. . .، ثُمَّ إنَّ الموحى به إذا لم يكن مصحوبًا بلفظ: فإمَّا أن يكون قد دلَّ عليه الملك [جبريل -عليه السلام-]، بإشارة أو فعل من أفعاله. . .؛ القسم الثاني: ما صدر عن [النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-]، غير قاصد به التبليغ عن اللَّه، فإمَّا أن يكون قد أقره اللَّه عليه أو لا، فإنْ أقرَّه اللَّه عليه، فهو -وإن لم يكن في ذاته موحًى به- إلَّا أنَّه بمنزلته، وفي حكمه؛ لأنَّ التقرير المصاحب له يدلنا على صحته وحقيقته ومطابقته لما عند اللَّه، بل لم يقتصر الأمر على هذا التقرير: فإنَّ اللَّه تعالى أمرنا باتباعه فيما يصدر عنه؛ فإن كان بعض ما يصدر عنه ليس بوحي -فقد فرض اللَّه علينا- في الوحي اتباعه فيه: فمن قبل عنه فيما لم يوح إليه: فإنَّما قبل بفرض اللَّه. فكان ما يصدر عنه من هذا القبيل بمنزلة الموحى إليه في حقيقته وصوابه بلا شبهة. . . فتبين من هذا كله: أنَّ جميع ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، وأقرَّه اللَّه عليه، فهو وحي من عند اللَّه أو بمنزلته) (¬1). ¬

_ (¬1) عبد الغني عبد الخالق: حجيَّة السُّنَّة: ص 334 - 341، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م، عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، ونشر دار القرآن الكريم - بيروت. وانظر: توفيق يوسف الواير: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 284، (مرجع سابق).

ومِمَّا ترتَّبَ على ذلك: أنَّ سُنَّة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- (حجَّة على العباد يلزمهم العمل بمقتضاها) (¬1)، وهو ما أجمعت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، كما (أنَّ الإجماع قد انعقد على أنَّه كان يوحى [إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-] غير القرآن) (¬2)، وفي مثل قول اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، قال الشافعي: (الحكمة سُنَّة رسول اللَّه) (¬3). • أمَّا بالنسبة لنقل السُّنَّة فإنها تختلف عن القرآن الكريم من حيث إنَّ القرآن الكريم (مقطوع به في الجملة والتفصيل) (¬4). والسُّنَّة: (القطع فيها إنَّما يصح في الجملة لا في التفصيل) (¬5). ب- تدخل السُّنَّة النبويَّة في حفظ اللَّه تعالى الذي دلَّ عليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]، فقد أكد بعض العلماء أن السُّنَّة داخلة في الذكر، وفي ذلك قال ابن حزم: (فصح أن كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كله في الدين وحي من عند اللَّه عز وجل، ولا شكَّ في ذلك، ولا خلاف بين أحدٍ من أهل اللغة والشريعة: في أن كل وحي نزل من عند اللَّه تعالى فهو ذكر منزل، والوحي كله محفوظ بحفط اللَّه تعالى له بيقين. . . لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدين، ولا سبيل البتة أن يختلط به باطل موضوع اختلاطًا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين؛ لأنه لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ) (¬6). ¬

_ (¬1) عبد الغني عبد الخالق. المرجع السابق نفسه: ص 341. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 338. (¬3) الرسالة: ص 32، (مرجع سابق). وقد ذكرها في مواضع كثيرة من الرسالة منها ما ورد في الفقرات التالية (96، 245 - 257، 305 - 307). (¬4) الشاطبي: الموافقات 4/ 6، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 6. (¬6) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 114، 115، (مرجع سابق).

وما قاله ابن حزم ينطبق على السُّنَّة من حيث الجملة لا على وجه التفصيل، كما ذكر الشاطبي فيما سبق ذكره. وبالنظر لتاريخ السنة الشريفة تتجلى بعض صور ذلك الحفظ الرباني، فقد حفظ (الصحابة سُنَّة نبيهم في الصدور، ومن أمن منهم التباس السُّنَّة بالقرآن، كتب ما سمعه من رسول اللَّه بعد إذنه، وكان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد نهى عن كتابة الأحاديث، ولا سيما إذا كتب هذا في صحيفة واحدة من القرآن، مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقرآن، وقال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار" (¬1). وظل الحال على هذا المنوال في عصر الخلفاء الراشدين، ولم يتغير الحال كثيرًا، فأبو بكر رضوان اللَّه عليه يجمع بعض الأحاديث، ثُمَّ يحرقها (¬2)، وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أن يعدل عن كتابة السُّنَّة بعد أن عزم على تدوينها. . . "فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأشار عليه عامتهم بذلك، ثُمَّ عدل عن ذلك" (¬3). وجاء في عصر التابعين، فمنهم من كان متشددًا في المنع. . . وما ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم - الحديث رقم [3004]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، والإمام أحمد 1/ 12، 21، 39، 56، (مرجع سابق)، والنسائي: فضائل القرآن 33، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على طرق هذا الحديث ورواته وما قيل في التوفيق بينه وبين الأحاديث الواردة في جواز الكتابة، انظر: مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، 2/ 446، 467، الحديث رقم (314/ 1288) وحاشيته، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/ 5، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ). (¬3) انظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 275، (مرجع سابق).

تزال الأخبار عن الخلفاء بمنعه مستفيضة (¬1)، ثُمَّ جاءت بعدهم طبقة بدأت تستسيغ التدوين. . .، ثُمَّ جاء عهد عمر بن عبد العزيز (101 هـ)، فأمر رسميًّا بالشروع في تدوين الحديث كما هو المشهور) (¬2)، وتوافر علماء الأُمَّة على كتابة السنَّة وجمعها (¬3). وقد اشتهر في القرن الثاني الإمام الزهري، (ثُمَّ شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل (الزهري). . .، ثُمَّ جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السُّنَّة وأسعدها بأئمة الحديث وتآليفهم العظيمة الخالدة، فقد ابتدأ التأليف في هذا القرن على طريقة المسانيد، وهي جمع ما يروى عن الصحابي في باب واحد. . . ولكنهم كانوا يمزجون فيها الصحيح بغيره، وفي ذلك من العناء ما فيه على طالب الحديث، فإنَّه لا يستطيع أن يتعرف على الصحيح منها إلَّا أن يكون من أئمة الشأن، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث، فإن لم يتيسر له بقي الحديث مجهول الحال عنده (¬4). وهذا ما حدا بإمام المحدثين ودرّة السُّنَّة في عصره محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) أن ينحو في التأليف منحًى جديدًا بأن يقتصر على الحديث الصحيح فقط دون ما عداه، فألف كتابه الجامع الصحيح ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 286 - 297. (¬2) توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 284، 285، (مرجع سابق). (¬3) انظر: مصطفى السباعي: السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 104، 105، الطبعة الرابعة، 1405 هـ - 1985 م، عن المكتب الإسلامي، بيروت، المزيد من الاطلاع على بدايات جمع الحديث من الأمصار الإسلامية، ومن جمع الحديث في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام وغيرها من البلاد الإسلاميَّة). (¬4) قام بعض العلماء بتحقيق مسند الإمام أحمد، كما فعل أحمد محمد شاكر ولم يتمه، وشرعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة بالمملكة العربية السعودية في الرياض، بتحقيقه، وقد أصدرت منه أجزاء عدَّة.

المشهور، وتبعه في طريقته معاصره وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (261 هـ) فألف صحيحه المشهور، وكان لهما فضل تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الصحيح من غير بحث وسؤال، وتبعهما بعد ذلك كثيرون، فألفت بعدهما كتب كثيرة. ثُمَّ جاء القرن الرابع فلم يزد رجاله على رجال القرن الثالث شيئًا جديدًا إلَّا قليلًا مِمَّا استدركوه عليهم، وكل صنيعهم جمع ما جمعه من سبقهم، والاعتماد على نقدهم، والإكثار من طرق الحديث. . . بهذا تَمَّ تدوين السُّنَّة وجمعها، وتمييز صحيحها من غيره، ولم يكن لعلماء القرون التالية إلَّا بعض الاستدراكات على كتب الصحاح كمستدرك أبي عبد اللَّه الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) الذي استدرك على البخاري ومسلم أحاديث يرى أنها من الصحاح متفقة مع شرطيهما مع أنهما لم يخرجاها في صحيحهما، وقد سلم له العلماء -ومن أشهرهم الذهبي- قسمًا منها وخالفوه في قسم آخره) (¬1). وخلاصة القول في ذلك: (أنَّ السُّنَّة حفظت زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته في الصدور، ودُوِّن بعضها في السطور، وبعد عصر الصحابة بذل العلماء جهودًا كبيرة في التثبت من صحة الأحاديث عن طريق دراسة سند الحديث ¬

_ (¬1) مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 104 - 107، (مرجع سابق). ومِمَّا ينبغي ذكره ما تشهد الأمَّة الإسلاميَّة من إقبال العلماء وطلبة العلم على خدمة السنة وعلومها ومتون الحديث والأثر وشروحها وتراجم أعلامها وخدمة معاجمها، وتحقيق المسانيد والصحاح والسنن والمصنفات المتنوعة. . مع الإفادة من الوسائل الحديثة، ولمزيد الاطلاع انظر: محاضرة لمحمد مصطفى الأعظمي؛ بعنوان: تقنية المعلومات وفك القيود عن كتب السنَّة، ألقاها في قاعة المحاضرات التابعة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية - الرياض، بتاريخ 16/ 6/ 1414 هـ.

ومتنه، دراسة دقيقة، ودراسة السند من العلوم التي اختصت بها الأُمَّة الإسلاميَّة (¬1)، وهو علم هام يتوقف عليه قبول الحديث أو رده (¬2)، وبلغ من عناية السلف به اعتبروا (علم أسماء الرجال نصف علم الحديث) (¬3). وإلى جانب ذلك فإن علماء الحديث طبقوا منهجًا علميًا نقديًّا شرعيًّا أفاد منه النقد التاريخي في العصر الحديث، واعترف المنصفون بأنَّ منهج علماء الحديث في نقد الرواة وبيان حالهم، وفي حفظ السُّنَّة وكتابتها، وتدوينها. . .؛ يعد تاجًا على رأس الأُمَّة الإسلاميَّة (¬4)، وقد كان من ثمرات تلك الجهود أن (استقام أمر الشريعة بتوطيد دعائم السُّنَّة التي هي ثاني مصادرها التشريعية، واطمأن المسلمون إلى حديث نبيهم، فأقصي عنه الدخيل، وميَّز بين الصحيح والحسن والضعيف، وصان اللَّه شرعه من عبث ¬

_ (¬1) انظر: عاصم بن عبد اللَّه القريوتي: الإسناد من الدين ومن خصائص أُمَّة سيد المرسلين -صلى اللَّه عليه وسلم-، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م، عن مكتبة المعلا - الرياض. وانظر: عصام أحمد البشير: أصول النقد عند أهل الحديث، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992، عن مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت. (¬2) انظر: مقدمة صحيح مسلم: ص 14 - 29، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) عاصم بن عبد اللَّه القريوتي: الإسناد من الدين: ص 17، (مرجع سابق). وهذا القول منسوب إلى علي بن المديني. انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون: 1/ 87، عن المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، (بدون تاريخ). (¬4) انظر: مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 107، 108، 123، (مرجع سابق). وانظر: محمد مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: مقدمة الكتاب، صفحة (س)، الطبعة الثالثة، 1401 هـ - 1981 م، عن شركة الطباعة العربية السعودية - الرياض، وانظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة: ص 289، 290، (مرجع سابق).

المفسدين، ودسّ الدَّسَّاسين، وتآمر الزَّنادقة والشعوبيين، وقطف المسلمون ثمار هذه النهضة المباركة) (¬1). ج- كونها مصدرًا من مصادر الأحكام وحجة على المكلفين: (اتفق علماء الأُمَّة على أن السُّنَّة بمجموعها حجّة، ومصدر من مصادر الأحكام) (¬2)، واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح. فمن الكتاب آيات كثيرة جاءت تأمر الأُمَّة بطاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يشرع لها، وتبين أنَّه مبين لما نزل عليه من القرآن، وحاكم، وقاضٍ، ومعلم يعلم الكتاب (القرآن)، والحكمة (السُّنَّة) كما فَسَّرَها الشافعي بذلك (¬3). وقد جاءت تلك الآيات بصيغ عِدَّة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وجعل اللَّه تعالى محبة عباده له مرتبطة باتباع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وكقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. ¬

_ (¬1) مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 103، 123، (مرجع سابق). (¬2) حسين مطاوع الترتوري: مصادر النظم الإسلاميَّة، مجلة البحوث الإسلاميَّة. . .، العدد [27]: ص 139، (مرجع سابق). (¬3) انظر: الرسالة للإمام الشافعي: ص 32، 76، 77، 78، 79، (مرجع سابق).

ومِمَّا ورد عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في وجوب الأخذ بالسُّنَّة أحاديث كثيرة؛ لعل من ألصقها بهذا السياق ما ورد من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ألفينَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مِمَّا أمرتُ به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعناه" (¬1). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم [لحم] الحمار الأهلي ولا أكل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (¬2)، وقد وردت لهذا الحديث روايات أخرى جاء في بعضها: "وإن ما حرم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل ما حرَّم اللَّه" (¬3). ثُمَّ إنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يؤى في وصاياه لأُمَّته على الالتزام بالكتاب والسُّنَّة، وكان يقول: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي" (¬4)، ويقول: "فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي [محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-]، وشر الأمور محدثاتها. . . " (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 199، الحديث رقم (4605)، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 199، الحديث رقم: (4604)، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد 4/ 132 الحديث رقم: (1674)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 5/ 118، 119، (مرجع سابق)، وانظر: الشافعي: الرسالة: ص 90 (مرجع سابق). وانظر: عبد الغني عبد الخالق: حجيَّة السنة: ص 308 - 338، (مرجع سابق). (¬4) سبق تخريجه في مقدمة البحث: ص 22. (¬5) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 2/ 592، الحديث رقم [867]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 1161 الحديث رقم [2300]، تحقيق: أبي الأشبال، (مرجع سابق).

أمَّا الصحابة رضوان اللَّه عليهم فكانوا يلتزمون بالسُّنَّة في جميع شؤون حياتهم، في العقيدة، والعبادة، والخلق، والسلوك، والحياة الخاصَّة والعامَّة، على المستوى الفردي، وعلى مستوى الأُمَّة، وكانوا يحتكمون إليها. ومِمَّا ورد في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]؛ ما قاله ابن قيم الجوزية: (وقد أجمع الناس على أن الرد إلى اللَّه إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته) (¬1). وقال بعض المفسرين عن تفسيرها: (ثُمَّ أمر برد كل ما تنازع الناس فيه؛ من أصول الدين وفروعه، إلى اللَّه والرسول؛ أي: إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إمَّا بصريحهما، أو عمومهما، أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى، يقاس عليه ما أشبهه) (¬2). وبلغ الأمر بالصحابة رضوان اللَّه عليهم في التأسي بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ أحدهم يقتفي أثره في كل شيء حفظه عنه مِمَّا يفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن فعله خاصًّا به -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، تحقيقًا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ¬

_ (¬1) بدائع التفسير 2/ 23، 24، (مرجع سابق). (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . . 2/ 89، (مرجع سابق). (¬3) انظر: السيوطي: مفتاح الجنَّة في الاعتصام بالسنة، (تحقيق: بدر بن عبد اللَّه البدر): ص 120، 121، (مرجع سابق)، حيث أورد من الآثار ما يؤكد شدّة متابعة عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّه كان يترسم خطأه في حله وترحاله، حتى في أيسر الأحوال. .، وانظر: المرجع نفسه: ص 60 - 79، فقد أورد جملة من القضايا التي كانت تعرض للخلفاء الراشدين فيقضون فيها بسنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حين تظهر لهم، ويجتهدون في البحث عنها والسؤال عنها حتى تظهر لهم قبل أن يجتهدوا فيما يجد من القضايا. .، وانظر: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة. .: ص 17 - 19، (مرجع سابق).

[الأحزاب: 21]، وقد (استدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن الأصل أنَّ أمته أسوته في الأحكام، إلَّا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به) (¬1). ومِمَّا أورده بعضر المفكرين عن حال علماء الأُمَّة مع السُّنَّة من حيث التمسك بها، والعمل بمقتضاها، والاحتجاج بها قوله: (إذا تتبعنا آثار السلف، وأخبار الخلف، من ابتداء عهد الراشدين إلى هذا العهد؛ لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين في قلبه ذرة من الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص: ينكر التمسك بالسنة من حيث هي سُنَّة والاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها، بل بالعكس من ذلك: لا نجد متمسكًا بها، مهتديًا بهديها، حاثًّا غيره على العمل بها، محذرًا من مخالفتها. . . معتبرًا لها، مكملة للكتاب شارحة له؛ راجعًا عن رأيه الذي ذهب إليه باجتهاده في كتاب أو غيره من الأدلة، إذا ما ظهر له حديث صح عنده، واعتبر في نظره، ولقد رويت هذه العبارة المشهورة "إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط"، وتواتر معناها عن الشافعي، ونقل ما يقرب منه عن كثير من المجتهدين. . . وما ذاك إلَّا لأمر عظيم الخطر، جليل الأثر، ألا وهو: أنه أصل من أصول الإسلام، وعليه مدار فهم الكتاب وثبوت الأحكام، فعلى حجية السُّنَّة انعقد إجماعهم، واتفقت كلمتهم، وتواطأت أفئدتهم) (¬2)، ثُمَّ في نهاية قوله بين أن الخلاف إنَّما حدث بين الأئمة في أمرين: أولهما: الاقتناع بأن الحديث صح إسناده للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو لم يصح. ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .، 6/ 208، (مرجع سابق). (¬2) عبد الغني عبد الخالق: حجية السُّنَّة: ص 41، 342، (مرجع سابق).

وثانيهما: أن هذا الحديث أيدلُّ على هذا الحكم أم لا يدلّ؟) (¬1). ومِمَّا يتصل بالسُّنَّة ما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة من فهم للقرآن والسُّنَّة، وتطبيق لهما في شؤون دينهم ودنياهم، والدليل على ذلك ما ورد من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬2). وفي حديث آخر يحذر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه أمته من متابعة بني إسرائيل في التفرق، والانحراف عن المنهج الرباني المتميِّز، ويخبر بأن أمته تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلَّا واحدة، وحينما قالوا: من هي يا رسول اللَّه؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" (¬3). فدلَّ هذا الحديث وما قبله على اتصال سُنَّة الصحابة والخلفاء الراشدين بسنته -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذلك أنهم صفوة الأُمَّة وخيارها، وحملة الرسالة وصفهم عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- وعنهم أجمعين بقوله: (أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأُمَّة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم) (¬4). ¬

_ (¬1) عبد الغني عبد الخالق: حجية السنة: ص 342، (المرجع السابق نفسه)، ولمزيد من الاطلاع على تمسك السلف -ومن تبعهم من أئمة الأُمَّة وعلمائها- بالسنّة واحتجاجهم بها، وإنكارهم على من خالفها، ورفعهم من شأنها، واحترامهم للحديث والتأدب في مجالسه، وعنايتهم بحفظه وكتابته؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 341 - 382، فقد أورد عن ذلك آثارًا مستفيضة. (¬2) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 200، الحديث رقم: (4607)، (مرجع سابق). (¬3) سبق تخريجه: ص 370، 98، (البحث نفسه). (¬4) ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 141. وانظر: الشاطبي: الموافقات 4/ 58،=

ولأنهم تلقوا العلم عن معلم البشرية -صلى اللَّه عليه وسلم- وعاصروا نزول القرآن الكريم، وشاهدوا بيان الرسول له وتطبيقه لأحكامه، فكانوا أقرب الأُمَّة فهمًا لمقاصده ومراده، وقد أجمل الإمام أحمد الحديث عن ذلك في كتاب صنَّفه في طاعة الرسول، وردَّ فيه -كما ذكر ابن قيم الجوزية- على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك الاحتجاج بها، ومِمَّا جاء فيه: (إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه. الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدَّال على ما أراده من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب؛ فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو المعبر عن كتاب اللَّه، الدَّال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم اللَّه لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا أعلم الناس برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبما أراد اللَّه من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال جابر: ورسول اللَّه بين أظهرنا عليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به) (¬1). وخلاصة القول: أن الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة ربانيَّة، وقد تبين ذلك حين الحديث عن كيفية تلقيها القرآن الكريم، على مدى ثلاث وعشرين سنة، وهي تتفاعل مع هديه وتوجيهاته، وأحكامه وأوامره ونواهيه، وكان قدوتها ¬

_ = (مرجع سابق). وقد أورد نحوه عن غير عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّه عنه من أقوال الحسن وسعيد بن جبير، وحذيفة بن اليمان، وعن علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وأثر ابن مسعود أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 305، 306، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 2/ 947، رقم [1810]، وأخرج نحوًا منه للحسن البصري، برقم: [1807]، تحقيق: أبي الأشبال، (مرجع سابق). (¬1) ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 207، (مرجع سابق).

في ذلك الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بلغت ذروة التمام والكمال، وفي ضوء المنهج الرباني، الذي تدرج في تربيتها من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، وستبقى الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة متميِّزة، ما تمسكت بكتاب اللَّه وسُنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وما دامت على ما كان عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- وما كان عليه أصحابه الغير الميامين، ففي ذلك الصلاح والفلاح، والخير والهدي والنور، لأنهم التزموا صراط اللَّه المستقيم، والمنهج الرباني القويم، ورسموا للأُمَّة السبيل إلى ربها (¬1). يقول عمر بن عبد العزيز: "سنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب اللَّه واستكمال لطاعة اللَّه، وقوة على دين اللَّه، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه اللَّه ما تولَّى، وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرًا" (¬2)، وللصحابة أقوال متقاربة حول هذا المعنى؛ كقول ابن مسعود: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" (¬3)، وقول حذيفة: "اتبعوا آثارنا، فإن أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 172، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 4/ 54 - 59، (مرجع سابق). وفيها بحث ما يتعلق بسنة الصحابة، وأورد الأدلة التي توجب العمل بها ومضامين ذلك. (¬2) الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58. (¬3) الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58. (¬4) الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58.

موقف المستشرقين من خصيصة الربانية

موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة من أبرزت ما يوضح موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة موقفهم من القرآن الكريم، والسنة النبوية وسيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتدل نماذج من أقوالهم في ذلك على حقيقة هذا الموقف، وذلك وفق ما يأتي: أولًا: أقوالهم في مصدر القرآن الكريم مع الرد عليها. ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية مع الرد عليها. أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم: تناول كثيرٌ من المستشرقين القرآن الكريم بالطعن والتشكيك من جوانب عدَّة؛ من حيث لفظه ومعناه، وتلاوته وأسلوبه، ونظمه وشكله، وطريق تنزيله وتدوينه، وثبوته، والأحكام المستنبطة منه، وما ورد فيه من أخبار وقصص، وكذا فيما ورد فيه من مغيبات، والأوامر والنواهي، وما يتصل بتاريخ القرآن الكريم وتفسيره، وكأنهم بعملهم هذا يرمون إلى إحداث اللغو فيه كما فعل المشركون من قبل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26]. ولعل من أبرز أقوالهم في القرآن الكريم التي تبين موقفهم من خصيصة الربانية ما يتعلق بمصدر القرآن الكريم، إذ يحاول معظمهم -بشكل مباشر وغير مباشر- أن ينسبه إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وينفي كونه وحيًا من اللَّه؛ ويبثون محاولاتهم تلك في مؤلفاتهم عن القرآن الكريم (¬1)، وفيما صنعوه من ¬

_ (¬1) انظر: عمر إبراهيم رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره ص 99 - 188، (مرجع سابق)، تناول الباحث ثلاثة عشر كتابًا مؤلفة حول القرآن الكريم لثلاثة عشر مستسْرقًا أفردوا تلك المؤلفات عن القرآن الكريم، وفي فصل آخر تناول مؤلفات أخرى خصصت للحديث عن القرآن الكريم صفحات منها، وختم ذلك الفصل بذكر =

ترجمات لمعانيه بمختلف اللغات الغربية (¬1)، وكذلك في الموسوعات ودوائر المعارف، ونحو ذلك من الأعمال التي أصدروها تحت مسمى البحث العلمي (¬2). وإذا كانت تراجم معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، أو الإنجليزية، أو الفرنسية، أو غيرها تعدُّ -في الغرب- السبيل إلى معرفة مصدر القرآن الكريم؛ فقد حرص المستشرقون الذين تخصصوا في هذا المجال على ترسيخ الاعتقاد لدى كل من يطلع على تلك التراجم من الغربيين بأن مؤلف القرآن الكريم هو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفي كونه رباني المصدر؛ ومن أمثلة ذلك ما ورد في مقدمة ترجمة (جورج سيل) لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية الصادرة في عام 1149 هـ - 1736 م: (أمَّا إنَّ محمدًا كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيس له فأمر لا يقبل الجدل، وإنْ كان من المرجح -مع ذلك- أن المعاونة التي حصل عليها في خطته هذه لم تكن معاونة يسيرة، وهذا واضح في أنَّ مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك) (¬3). ¬

_ = 108 عنوانًا حول القرآن الكريم ما بين كتاب مستقل عن القرآن الكريم أو مقال أو بحث أو دراسة؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 220 - 131. (¬1) انظر: محمد صالح البُنْدَاق: المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، (مرجع سابق)، وانظر: ساسي سالم انحاج: الظاهرة الاستشراقية: 2/ 309 - 313، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد حسين علي الصغير: المستشرقون والدراسات القرآنية، أفرد فصلًا عن كتابة المستشرقين حول تاريخ القرآن. . .، وآخر حول ترجمة القرآن. . . وآخر حول التحقيق والفهرسة والتدوين. . . وآخر حول الدراسات الموضوعية في القرآن الكريم. . . ثُمَّ قوم الجهود الاستشراقية في فصل آخر وختم دراسته بمعجم للدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم؛ مرتبة على الحروف الهجائية من الألف إلى النون؛ انظر: المرجع نفسه: ص 105 - 122. (¬3) نقلًا عن إبراهيم اللبان: المستشرقون والإسلام (ملحق مجلة الأزهر، عدد صفر =

وقد أصبحت فرية تأليف محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- للقرآن الكريم من المسلمات لدى غالبية المستشرقين حتى العصر الراهن، وإذا كان بعضهم يورد ذلك بطريقة غير مباشرة، وبأسلوب أقل حِدَّة فإنَّهم -بالجملة- يحرصون على أن يبدو هذا الأمر في سياق ما يطلقون عليه الاستنتاجات العلمية (¬1). ولَمَّا كان القرآن الكريم قد اشتمل على كثير من القصص والتاريخ والعلوم والمعارف والنظم والمغيبات، وغير ذلك مِمَّا تميز به من معالم الرؤية الشاملة الدقيقة للإنسان والكون والحياة، وهذه الأمور لا يتصور معرفتها والإحاطة من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا من قومه، فقد زعم أكثر المستشرقين -على أساس من إنكارهم المصدر الرباني، ودعواهم أن القرآن من تأليف محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- قد اعتمد في تأليفه للقران الكريم على مصادر عِدَّة من أهمها: 1 - الكتاب المقدس، وفي ذلك يقول (ريتشارد بل) في كتابه: مقدمة القرآن: (إن الجانب الأكبر من المادة التي استعملها محمد ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمده من مصادر يهودية ونصرانية) (¬2). ¬

_ = 1390 هـ) ص 44 (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق ص 83، (مرجع سابق)، وانظر: أحمد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق ص 34 - 36، (مرجع سابق)، وانظر: إبراهيم خليل إبراهيم: المستشرقون والمبشرون في العالم العربي ص 58. (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . . ص 83، وانظر: ثابت عيد: ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية بين سموم المستشرقين وجهود المسلمين: ص 17، من جريدة الحياة 2 شعبان 1416 هـ، العدد [11994]، وهو مقال نشر في أربع حلقات على التوالي كان هذا الحلقة الأخيرة، وفيه دلَّلَ الباحث بأنَّ تراجم المستشرقين لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية في القديم والحديث ترتكز على ركيزة واحدة مهما تغيَّر الأسلوب، وهي أن مصدر القرآن الكريم بشريٌّ وليس ربانيًّا. (¬2) اللبان: المستشرقون. .: ص 42 (المرجع السابق نفسه)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. . . ص 84، (المرجع السابق نفسه).

وقال آخر: (إن النصارى العرب سائرون في معتقداتهم في الاتجاه غير الصحيح؛ ولهذا كان هناك مجال لظهور الآراء البدعيَّة المنحرفة، ولولا ذلك لما كان محمد على علم بأمثال تلك الآراء التي تنكر صلب المسيح) (¬1)، والذي يعنيه هذا المستشرق أن مصدر القرآن الكريم ليس ربانيًّا، وإنَّما جاء به محمد من لدنه متأثرًا بنصارى العرب؛ لأنهم ينكرون صلب المسيح ووافقهم القرآن الكريم في ذلك، وهذا يؤكد -من وجهة نظر ذلك المستشرق- أنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- هو مؤلف القرآن الكريم (¬2). 2 - الاعتماد على اليهود، وهذا مبنى من وجهة النظر الاستشراقية على أمور عِدَّة، منها: أ- التشابه بين القرآن الكريم مع كتب اليهود في القصص كقصة ابني آدم وقصة هاروت وماروت وقصة موسى -عليه السلام-، ونحو ذلك (¬3). ب- التشابه بين القرآن والتوراة في بعض القضايا العقدية والتشريعية. ج- التأثر والاقتباس في فواتح السور، وكذلك تقسيمه إلى سور وآيات (¬4). وعن ذلك قال (لوت): (إنَّ محمدًا مدين بفكرة فواتح السور من مثل: الم، حم. . . إلخ لتأثير أجنبي) (¬5)، ويرجح أنه تأثير يهودي (¬6). 3 - الاعتماد على الراهب (بحيرى)، وهذه المقولة تشكل لدى كثير ¬

_ (¬1) انظر: زقزوف: الاستشراق. . . ص 85، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 85. (¬3) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية. . . 2/ 322، (مرجع سابق). (¬4) انظر: أحمد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق. . . ص 134، (مرجع سابق). (¬5) نقلًا عن زقزوف: الاستشراق. . . ص 85، (المرجع السابق نفسه). (¬6) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 85.

من المستشرقين مصدر إلهام لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ويزعمون (أنَّ محمَّدًا قد تمثل في نفسه ما سمعه من الراهب (بحيرى) في رحلته التجارية إلى الشام، وخرج على الناس يعلن دينه الجديد الذي لفقه من الدينين الكبيرين) (¬1). 4 - الاعتماد على الوسط الوثني الذي عاش فيه، واستدلوا على ذلك بالآتي: أ- التشابه بين بعض آيات القرآن وبعض أشعار الجاهليين من أمثال (امرؤ القيس) في قوله: دنت الساعة وانشق القمر ... عن غزال صاد قلبي ونفر (¬2) إلى قوله: بسهام من لحاظِ فاتك ... تركتني كهشيم المحتضر (¬3) و (أُميَّة بن أبي الصلت): الذي وصف طوفان نوح -عليه السلام- وغرق فرعون، وذكر الساعة وأهوالها، من مثل قوله -على حد زعمهم-: ويومٌ موعدهم أن يحشروا زمرًا ... يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر مستوثقين مع الداعي ... كأنهم رجل الجرادرمته الريح فانتشر وأبرزوا بصعيد. . جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر يقول خزانها ما كان عندكم ... ألم يكن جاءكم من ربكم نذر ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 85. (¬2) أوردها (توسدال)؛ نقلأ عن: التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: مناهج المستشرقين. . 1/ 4، (مرجع سابق)، وقد بحثتُ عن هذه الأبيات في سائر دواوينه ولم أجدها، ولعلّها من المنحولات في الشعر الجاهلي التي لاقت رواجًا لدى المستشرقين. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 34.

قالوا بلى فتبعنا فتية. . . بطروا ... وغرَّنا طول هذا العيش والعمر (¬1) ب- التشابه بين عقائد الإسلام وشعائره وبين عادات الجاهليَّة وتقاليدها، وعلى هذا فالقرآن الكريم امتداد للحركة الدينية التي كانت سائدة في الوسط الوثني مثل: مناسك الحج، وتقديس الكعبة، ونحو ذلك) (¬2). 5 - ذات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنَّه مصدر القرآن الكريم مع تأثره بالمؤثرات السابقة مجتمعة أو متفرقة، ولكنَّه المصدر الأساس في القرآن الكريم، ثُمَّ يتفرع عن هذه المقولة اتجاهان: الأول: يرى أن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مصابًا بالصرع والهلوسة أو الجنون، ومنهم من زعم أنَّه ساحر وأنَّ ما جاء به السحر (¬3). الثاني: ينفي عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كل هذه الاتهامات، ويصفه بالصدق والإخلاص، ولكنه مع ذلك يتفق وبقية المستشرقين في كون القرآن الكريم صدر عن محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنه في مصدره وليس من عند اللَّه، كما ينفي الوحي ونبوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمَّا تفسيره للقران الكريم وما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وما حققه من قيام أُمَّة وتأسيس دولة وإنشاء حضارة؛ فإنه يعزو ذلك إلى (الخيال الخلَّاق). يقول (مونتغمري وات): (من وجهة نظري هناك خيال خلَّاق متدفق ¬

_ (¬1) التهامي نقرة: المرجع السابق نفسه: ص 33، 34، وهذه الأبيات أيضًا مِمَّا وضع على لسان أُميَّة، كما أشار إلى ذلك جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 6/ 495، (مرجع سابق). (¬2) انظر: مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون. . . (مرجع سابق): ص 46. وانظر: كليرتسدال: مصادر الإسلام: ص 6، نقلًا عن عمر رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره. . . 1/ 240، (مرجع سابق). (¬3) انظر: عمر رضوان: المرجع السابق نفسه: 1/ 371، 381 - 405.

لدى محمد، وإنَّ معظم الأفكار الناجمة عن هذا الخيال صحيحة وعادلة، ولكن ليست كل الأفكار القرآنية صحيحة وعادلة، بل توجد على الأقل نقطة واحدة غير صحيحة، ألا وهي أن الوحي أو الخيال الخلَّاق أسمى من تصرفات الإنسان العادية باعتبارها مصدرًا لوقائع تاريخيَّة مجملة) (¬1). هذه بعض النماذج من مزاعم المستشرقين حول مصدر القرآن الكريم، والحقيقة أنَّ (أكثرهم يكادون يتفقون على أنَّه ليس من عند اللَّه، وعلى أن محمدًا استقى مادته من الأحبار والرهبان. . . وكان يتلقى عنهم المعلومات الدينيَّة من كتب العهدين) (¬2)، وحتى أولئك المستشرقين الذين أثنوا على محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- ووصفوه بالعظمة والعبقرية والخيال الخلَّاق يلتقون مع غيرهم من المستشرقين الذين زعموا بأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- اعتمد في تأليفه القرآن الكريم على الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، فالكلُّ ينفي ربانية المصدر بصفتها خصيصة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، ولا يُسْتَثْنَى منهم إلَّا أفراد قلائل انفكوا عن المنهج الاستشراقي الموجَّه، واعترفوا بنبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسالته وبأن الإسلام صادر عن اللَّه عز وجل وبأن ربانية المصدر من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وسيتضح ذلك من خلال الردود على مزاعم المستشرقين. وقبل الرد على تلك المزاعم ألمح إلى أبرز ما ترتَّب على نفي ربانيَّة مصدر الإسلام، وكون محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الذي لفق القرآن الكريم، إذ كرس المستشرقون مجهوداتهم حهول تأليف محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن الكريم ليترسخ ¬

_ (¬1) انظر: مونتغمري وات: WAAT(M.) Monamet,op.cit,P.210 نقلًا عن ساسي سالم الحاج، الظاهرة الاستشراقية 2/ 355 (مرجع سابق). (¬2) انظر: التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: مناهج المستشرقين: 1/ 26، (مرجع سابق).

الاعتقاد من خلال الدراسات الاستشراقية بأنَّ الإسلام دين بشري وضعه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وبالتالي جاء وصف المسلمين (بالمحمدية) أو (المحمديون) إزاء وصف النصرانية بـ (المسيحية)، ومِمَّا يترتب على ذلك أنَّه ما دام الإسلام دين محمد ومحمد بشر؛ فإنَّ الإسلام لا يستحق الانتشار ولا السيادة، ويلزم أنْ لا ينتشر لأنه وضعي ومصدره بشري، أمَّا المسيحية فهي على حد زعمهم منسوبة إلى المسيح، وهو جزء من الإله في عقيدتهم وعلى ذلك فالنصرانية دين سماوي لا بُدَّ أن يعلو وينتشر (¬2). إنَّ مثل هذه المحاور التي تدور عليها دراسات المستشرقين تدلنا بما فيه الكفاية على أن تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة أحد أهدافها البارزة، ومن يدري فلعل تلك الحروب الصليبية الطاحنة التي تحاول استئصال المسلمين في بقاع شتى من العالم بكل قسوة وتعسف تنطلق من هذه العقيدة التي رسختها الدراسات الاستشراقية في أذهان صانعي القرار في الغرب، ولا سيما بعد عودة العالم عامة إلى العقيدة الدينيَّة، وارتكاز النظام العالمي الجديد عليها فيما يظهر، واللَّه أعلم. أمَّا الردود على تلك المزاعم حول مصدر القرآن الكريم فيأتي أبرزها في النقاط الآتية: 1 - يردُّ على المستشرقين بالردود القرآنية على المشركين؛ لأنَّ المستشرقين حذوا في موقفهم المعادي للقرآن حذو مشركي مكة، فقد زعموا بأنَّ الذي يعلم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدٌ رومي (¬3)، كان يصنع السيوف في ¬

_ (¬1) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية. . 2/ 312، (مرجع سابق). (¬2) انظر: هستون سميت: ديانات الإنسان. . نقلًا عن عباس محمود العقاد: الإسلام دعوة عالمية ومقالات أخرى: ص 119، من منشورات المكتبة العصرية - بيروت (بدون تاريخ). (¬3) سبق ذكر هذا الشخص وما ذكره المفسرون حوله وأنه كان قينًا نصرانيًّا قيل اسمه (بلعام) وقيل: (يعيش)، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: ص 270 - 271. وانظر: =

مكة فردَّ عليهم المولى -عز وجل- زعمهم بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. وفي سورة (الفرقان) إجمال لادعاءاتهم ودحضها، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 4 - 11]. وفي سورة (الحاقة) نفي لدعواهم، وذكرٌ لما يلزم منها لو كانت صحيحة، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 41 - 51]. وفي سورة (الشعراء) وصف لطريق نزوله ومصدره والمراد منه، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195] إلى قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ ¬

_ = الجواب الصحيح. . لابن تيمية 1/ 405، وانظر: تفسير الطبري 14/ 119 وما بعدها و 18/ 137 وما بعدها، (مراجع سابقة).

عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 198 - 201]. وبعد بضع آيات ينفي -جَلَّ وعلا- أن تتنزل به الشياطين أو تسمعه قبل نزوله على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]. كذلك بيَّن اللَّه -جَلَّ وعلا- أنَّ ما حدث لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من هذه التهم سنَّة جرت عليها الكفارُ مع أنبيائهم، قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 2 - 43] (¬1). 2 - وفيما يتعلق بالقصص القرآني؛ سواءً قصص العرب، أو اليهود، أو النصارى، وما حدث في تاريخ الجميع من انحراف وفساد وضلال وتحريف وتعطيل في مجال العقيدة أو الشريعة أو المنهج والسلوك، فكل ما ورد في القرآن الكريم لم يكن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا قومه على علم بحقيقته ولا يدري به، قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]. وإذا كان بعض ما ورد في القرآن الكريم من قصص أهل الكتاب يتوافق مع بعض ما لديهم من بقايا الحقائق والوقائع التاريخية؛ فإنَّ القرآن الكريم قد أورد وجوهًا أخرى لذلك القصص، وعلى نحو يجهله أهل الكتاب مثل قصة مريم -عليه السلام-، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]. ¬

_ (¬1) وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. .: 1/ 161 - 162، (مرجع سابق).

وبالجملة فإنَّ القصص في القرآن الكريم قد جاء بما هو أوسع مِمَّا يعرفه اليهود والنصارى في شتَّى بقاع العالم وما يعرفه العرب وما يعرفه الراهب (بحيرى)، وجاء في سورة أكمل وأعلى مِمَّا يعرفه جميع البشر. يقول جواد علي: (. . . التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث عن العرش والكرسي وعن اللَّه وملائكته وعن القيامة والجنّة والنار والحساب والثواب والعقاب، ونحو ذلك. . . لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى) (¬1). والسؤال الذي يفرض نفسه عندئذٍ من أين أخذ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كل ذلك؟! إنها النبوَّة والوحي والرسالة، إنَّه الإعجاز الذي يُعَدُّ من دلائل نبوّة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4 - 5] إنَّه وحي اللَّه الذي اصطفى له صفوة من الخلق هم أنبياء اللَّه ورسله، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 163 - 166]. إذًا فالقرآن الكريم من الكتب السماوية التي يؤمن بها المسلمون أُنْزِلَ ¬

_ (¬1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 8/ 495، (مرجع سابق)، وانظر: أحمد محمد شاكر، في تعليقه على مادة حديث في دائرة المعارف الاسلاميَّة: 13/ 401 - 408، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الإمام الباقلاني: إعجاز القرآن. .: ص 31، 38، 39 - 56، 57 - 72، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م، عن مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.

مصدقًا لها، ومهيمنًا عليها: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، صدر عن اللَّه وحده لا شريك له، وأوحى به إلى نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أوحى إلى الأنبياء من قبله، وإذا كان المستشرقون -كما قال أحد الباحثين-: (يعترفون بالوحي والأنبياء فلماذا ينكرون على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يجيزونه لليهود والنصارى، ولماذا لا يكون الإسلام حلقة أخيرة في حلقات الأديان ولبنة متممة لذلك الصرح الشامخ. . .، أمَّا إذا كانوا ينكرون الوحي، ويجعلون الأديان على صعيد واحد مع الاتجاهات الفكرية البشرية؛ فإنَّ منهجهم هذا مرفوض وقاصر عن فهم طبيعة الأديان، وعندها تكون الأديان جميعًا مهدَّدَة بموجة إلحادية تعصف بكل القوى الروحية في العالم) (¬1). ولكن الغريب في أمر أولئك المستشرقين أنهم جعلوا ربانية المصدر للإسلام مجالًا للنقد والجدل النظري والمنهج التجريبي، ونأوا بالديانة النصرانية عن ذلك أو بعبارة أدق، (لم يحاولوا التشكيك في وحي عيسى -عليه السلام- باسم المنهج العلمي نفسه بل صانوه، وأقاموا الدعوى على أنَّه بديهي التسليم وبعيد عن مجال الجدل العقلي النظري أو العلمي التجريبي) (¬2). ويتساءل أحد المفكرين عن هذا التناقض والنظرة المتعصبة إزاء الوحي، إذ يسلمون به لعيسى -عليه السلام- وينكرونه في حق رسولنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقول: (إذا كان الوحي -كأمر غير اعتيادي- يخضع للطريقة العلميَّة الحديثة، أفلا يقضي المنهج السليم أن يكون أنواع الوحي في ذلك سواء، فلِمَ يناقش نوع واحد من الوحي (الوحي المحمدي) باسم العلم ويتشكك ¬

_ (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . ص 86، 89، 120، (مرجع سابق). (¬2) محمد البهي: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار: ص 247، (مرجع سابق)، وانظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 21، (مرجع سابق).

فيه، ويصان الآخر، ويقال فيه: إنه بديهي التسليم وبعيد عن مجال الجدل العقلي النظري، أو العلمي التجريبي. . والهجوم على الإسلام. . في فكرة (بشرية القرآن)، يقابله رفق ورقة في التعبير عن "المسيحية" أو عن الكنيسة) (¬1). 3 - ويرد على المستشرقين بردود علماء الإسلام على النصارى وغيرهم (¬2) ممن أثار شبهة بشرية القرآن الكريم (لأن المستشرقين يجترون افتراءات من سبقهم من المشركين واليهود والنصارى، وإذا كان علماء المسلمين، والذين هداهم اللَّه للإسلام من علماء أهل الكتاب بأقوالهم وكتاباتهم الصريحة قد زلزلوا تلك الشبهات من جذورها حتى غدت هشيمًا تذروه الرياح؛ فإنَّ ردودهم الشَّافية ومنهجهم العلمي ومجادلتهم الشرعيَّة من أنجع الردود على شبهات المستشرقين حول مصدر القرآن الكريم) (¬3). 4 - أمَّا قول (جورج سيل): (وهذا واضح في أنَّ مواطنيه -يعني محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك) مستدلًا بمجرد اعتراضهم على تأليف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- للقرآن الكريم -حسب زعمه- فإنَّ المنهج العلمي يلزم (سيل) باستقصاء هذا الاعتراض ليوضح لقارئيه نهاية الدعوى التي ¬

_ (¬1) انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي. .: ص 247، 248، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام. . ص 21، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المبحث الختامي ص 1157، (البحث نفسه). (¬3) انظر: محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي: بشرية المسيح ونبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في نصوص كتب العهدين (ردٌّ على شبه المنصرين والمستشرقين) وهو القسم الثاني لكتاب المناظرة الكبرى بين العلامة الشيخ رحمه اللَّه، والقسيس الدكتور فندر: ص 7، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1993 م، مطابع الفرزدق التجارية - الرياض. وانظر: جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 6/ 493، (مرجع سابق).

أشار إليها، وبنى عليها استنتاجاته الضَّالَّة بيد أنَّه، ومن سلك منهجه من المستشرقين -كما قال أحد الباحثين-: (يضعون الفكرة أولًا، ثُمَّ يبحثون عن أدلة تؤيدها مهما كانت واهية، ويلجؤون إلى الاعتماد على أسلوب المغالطات والأكاذيب واقتطاع النصوص والحوادث التاريخية وفقًا لأهوائهم ونزعاتهم، وهذا عكس المنهج العلمي في الاستدلال) (¬1). ولو التزم (سيل) بالمنهج العلمي لذكر ردّ القرآن الكريم على مشركي مكة ولكنه يعرف بعمق كيف يؤثر القرآن الكريم بقوة حجته وبيانه ويجلو الحق، فترك هذا الجانب مجافاة للمنهج العلمي الصحيح، وافْتِئاتًا على الحقيقة التاريخية في هذه الدعوى التي أثارها، وكانت نهايتها التاريخية ظهور الحق وعلو كلمة اللَّه، ودخول الناس في دين اللَّه أفواجًا، ونزول قول اللَّه تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقد نزلت هذه الآية بعد أن نصر اللَّه عبده وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وثبت للدنيا بأسرها بأنَّ القرآن الكريم كلام اللَّه أوحاه إلى نبي الرحمة والهدى. . . وبأنَّ اعتراضات مشركي مكة ودعواهم قد تهافتت، فنَّدَها القرآن الكريم، وكذبتها الوقائع التاريخية ولكن (سيل) وزمرته في غمرتهم لاهون. 5 - أمَّا مقولة (لوت) عن التأثير الأجنبي في القرآن الكريم وترجيحه أن يكون التأثير يهوديًا، وأن محمدًا -كما يزعم- مدان لهذا التأثير في فواتح السور؛ من مثل (آلم. .) ونحوها فإنَّ هذا المستشرق نسي أو تناسى أن عدد السور التي افتتحت بهذه الحروف تسع وعشرون سورة، نزل منها سبع وعشرون سورة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة المكرمة قبل مجاورته لليهود في ¬

_ (¬1) عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر الثلاثة. .: ص 147، (مرجع سابق).

المدينة، ونزلت سورتان فقط، هما (البقرة، وآل عمران) بعد هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة المنورة (¬1). ثُمَّ إنَّ هذا المستشرق نسي أو تناسى أن علاقة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- باليهود في المدينة كانت علاقة دعوة وجهاد، ولم تكن علاقة تأثرٍ وتلمذةٍ واقتباس (¬2). 6 - أمَّا تأثير الراهب (بحيرى) على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بسبب ملاقاته إيَّاه في رحلته التجارية إلى الشام (¬3)، فإنَّ ذلك مردود من الناحيتين العقليَّة والتاريخية: فمن الناحية العقليَّة كيف يُمكن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحصل قدرًا من المعارف والعلوم والمغيبات والقصص في لقاءٍ عابر لا يُمكن لعقل سليم أن يتصور مثل ذلك، ولئن كانت بعض مزاعم المستشرقين في هذا الصدد تقتصر على مجرد أنَّه بثَّ في روع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه النبي المنتظر (¬4)، فإنَّ ¬

_ (¬1) انظر: إبراهيم الأبياري: تاريخ القرآن: ص 172، 173، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 151، (مرجع سابق). (¬3) جاء في المصادر الاسلاميَّة أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سافر مرَّة مع عمه أبي طالب إلى (بُصْرَى) التي كانت موطنًا لصوامع الرهبان ومنهم (بحيرى) وأنَّ عمره آنذاك تسع سنين كما في: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 1/ 23، 2/ 278، (مرجع سابق)، والروض الأنف للسهيلي: 2/ 221، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، الطبعة الأولى، 1387 هـ - 1967 م، عن دار الكتب الحديثة، القاهرة، وعيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 52، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي. .، الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م، عن منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. وقيل: وهو ابن اثنتي عشرة سنة كما يرى ابن الجوزي في كتابه: الوفا بأحوال المصطفى 1/ 131، الطبعة الأولى 1386 هـ - 1966 م، عن دار الكتب الحديثة القاهرة، إذ يقول: (لَمَّا خرج أبو طالب إلى الشام خرج معه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة). (¬4) انظر: شوقي أبو خليل؛ كارل بروكلمان في الميزان: ص 35، (مرجع سابق)، أورد مقولات لنفرٍ من المستشرقين أمثال (سيديو) و (نورمان دنيال) و (لوبون)، زعموا فيها أنَّ (القرآن من تأليف الراهب بحيرى أعطاه محمدًا أثناء وجوده في بلاد الشام).

مجرد هذا البثّ أو الإيهام لا يكفي تفسيرًا لما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من العلم والحكمة والنبوة. ومن الناحية التاريخية؛ لم يثبت في كتب التاريخ والسيرة أنَّ أحدًا من قوم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أثار هذا الاحتجاج مع قوته لو وقع بالفعل، وإذ لم يحتج به المشركون مع شدّة عدائهم للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وحاجتهم لمثل هذه الحجة كان ذلك دليلًا على إسقاط هذه الحجّة (¬1). ومن ناحية أخرى فإنَّ حادثة ملاقاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- للراهب (بحيرى)، قد أثير حولها كثيرٌ من التساؤلات والتشكيك في سندها التاريخي (¬2)، مِمَّا دعا المستشرق (هوارت) إلى القول: (لا تسمح النصوص العربية التي عشر عليها، ونشرت وبحثت منذ ذلك الوقت بأن نرى في الدور المسند إلى هذا الراهب السوري إلَّا مجرد قصة من نسج الخيال) (¬3). ولو صحت قصة الراهب (بحيرى) كما وردت في المصادر الإسلاميَّة فإنها حجة لنبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسالته وليست ضدها كما فسرها بعض المستشرقين؛ لأن ما تفوه به الراهب (بحيرى) مجرد بشارة بنبوة الرسول ¬

_ (¬1) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية. . . 2/ 333، 334، (مرجع سابق). (¬2) لدراسة موسعة حول ما قيل عن سند الروايات التي ذكرت رحلة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الشام وخبر ملاقاته بـ (بحيرى) راجع الآتي: • الذهبي: تاريخ الإسلام. . . 1/ 55 - 60، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، عن دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م. • عماد الدين خليل: دراسة في السيرة: ص 39، 40 وص 271، 272، (مرجع سابق). • أبو الحسن الندوي: السيرة النبوية: ص 103 - 105، طبعة دار الشروق، جدة، 1977 م. • محسن عبد الحميد: تحقيق قصة بحيرى، مجلة الجامعة، عدد [4] سنة [9]: ص 69 - 73. (¬3) نقلًا عن محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 134، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص 85، (مرجع سابق).

-صلى اللَّه عليه وسلم- جرت على لسان غيره في كثير من المواقف التي ذكرت في بعض المصادر التاريخية (¬1). 7 - أمَّا دعوى المستشرقين بأنَّ (الوسط الوثني) أو البيئة التي عاش فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت مصدرًا من مصادر القرآن الكريم باعتباره تشابه مع شعر بعض الشعراء الجاهليين مثل (امرئ القيس) و (أميَّة بن أبي الصلت)، فإنَّ الرد على هذه المزاعم من وجوه كثيرة (¬2)، من أبرزها: أ- كيف يسمح المنهج العلمي للمستشرقين بقبول الأخبار والروايات التي ذكرت تلك الأشعار المشابهة لبعض آيات القرآن الكريم على لسان (امرئ القيس) و (أميَّة بن أبي الصلت)، وهم يشككون -بل يتجاوز أكثرهم ¬

_ (¬1) انظر: ابن إسحاق: سيرة ابن إسحاق: ص 53 - 57، تحقيق: محمد حميد اللَّه، (مرجع سابق)، وسيرة ابن هشام 1/ 205 - 207، (مرجع سابق)، وتاريخ الطبري 2/ 277، 278، (مرجع سابق)، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر، ج- 1، الجزء الأول، المجلد الأول: ص 270 - 271، ترتيب: عبد القادر بدران، الطبعة الثالثة: 1407 هـ - 1987 م، عن دار التراث العربي، بيروث، وانظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: 1/ 168 - 174، (مرجع سابق)، ونهاية الأرب للنويري: 16/ 90 - 92، طبعة القاهرة، 1374 هـ - 1955 م، عن وزارة الثقافة. .، المؤسسة المصرية العامة للتأليف. .، والسيرة النبوية لابن كثير 1/ 243 - 249، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت، (بدون تاريخ)، والخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 84، (مرجع سابق). وأصل قصة ملاقاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مع الراهب (بحيرى) ما ورد في بعض كتب السنة واشتهر عند أهل المغازي، ومن أصحها ما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن غزوان ولقبه قراد وكنيته أبو الفرج، وقد قال عنها الترمذي بعد أن ساق الرواية: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) الترمذي: الجامع الصحيح. . . 5/ 550 - 551، الحديث رقم [3620]، (مرجع سابق). (¬2) لمزيد من الاطلاع على دحض تلك المزاعم؛ انظر: جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 6/ 492 - 499، (مرجع سابق)

الشك إلى الجحود- فيما يتعلق بالأخبار والروايات الواردة في السيرة النبوية والسنة المطهرة مع أنَّ تلك الأخبار والروايات الواردة في أشعار (امرئ القيس) و (أميَّة بن أبي الصلت) أدنى إلى الشك، وأقل صحة وصدقًا. وقد تساءل بعض الباحثين عن هذا المنهج الزائغ ونقد ذلك الموقف الاستشراقي نقدًا لاذعًا إذ قال: (والغريب في أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله، أنَّهم يشكون في صحة (السيرة) نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرًا تاريخيًا صحيحًا، وإنَّما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعًا طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليَمْتَاز صحيحها من منحولها: هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويعلون في هذا الموقف؛ ولكنهم يقفون من أميَّة بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن، مع أن أخبار أميَّة ليست أدنى إلى الصدق، ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة. فما سرّ هذا الاطمئنان الغريب إلى نحوه من الأخبار دون النحو الآخر؟، أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرؤوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات) (¬1). ب- وهذه الأشعار التي رويت عن (امرئ القيس)، و (أميَّة بن أبي الصلت) أثبت بعض الناقدين بأنها منحولة ومتكلِّفة، ونظمت في العصر الإسلامي، يقول العقاد: (وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر العربية قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم، أنَّهم يحسبون أن العلماء المسلمين يجدون في بحث تلك الأبيات وصبًا واصبًا لينكروا نسبتها إلى ¬

_ (¬1) طه حسين: في الأدب الجاهلي: ص 143، الطبعة الثانية عشرة، 1977 م، عن دار المعارف، القاهرة، وانظر: التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: مناهج المستشرقين. .: 1/ 33، (مرجع سابق).

الجاهليَّة، ولا يلهمهم الذوق الأدبي أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية) (¬1). وانتقد أحد المستشرقين القول بأنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- تأثر بشعر (أُمَيَّة بن الصلت) وأنَّ ذلك الشعر من مصادر القرآن الكريم بقوله: (أمَّا القول بأن محمدًا قد اقتبس شيئًا من قصائد أُمَيَّة فهو زعم بعيد الاحتمال) (¬2). إلَّا أنَّه سقط هو أيضًا في الدعوى الاستشراقية الدراجة في أوساط المستشرقين، وهي الزعم بأنَّ اليهودية والنصرانية هما مصدرا القرآن الكريم، وأدرج الرسول محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- في زمرة المتأثرين بأهل الكتاب؛ إذ يقول: (ومحمد وأُمَيَّة وغيرهما من رجال الدين. . اقتبسوا جميعًا من مصادر واحدة) (¬3). وقد عُلِّق على أقواله بردودٍ من أبرزها: • إنَّ المشركين لم يعدوا شعر أميّة بن أبي الصلت من مصادر القرآن مع شدّة عدائهم للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وحاجتهم والحالة هذه لمثل هذا القادح، وإذ لم يجعلوه مصدرًا من مصادر القرآن الكريم تبين من ذلك أنَّه (¬4) (لم تكن مشابهة بين شعر أُميَّة والقرآن المجيد) (¬5). ¬

_ (¬1) الإسلاميات، المجلد السابع، الجزء الثالث: ص 258، الطبعة الأولى، 1974 م، دار الكتاب اللبناني، بيروت، وانظر: التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: مناهج المستشرقين: 1/ 34، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نقلًا عن دائرة المعارف الإسلاميَّة: 4/ 436، (مرجع سابق). (¬3) دائرة المعارف الإسلاميَّة: 4/ 463، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: محمد معرفة: تعليق على مادة (أُمَيَّة بن أبي الصلت) في دائرة المعارف الإسلاميَّة؛ المرجع السابق نفسه: 4/ 465. (¬5) محمد عرفة: المرجع السابق نفسه: 4/ 465، ولا ينفي ذلك كون الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سمع شعر أمية وأثنى عليه، كما ورد لدى مسلم: صحيح مسلم: 4/ 1767، كتاب الشعر، الحديث رقم (2255)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

• (إنَّ الأشعار المنسوبة إلى أُمَيَّة في أخبار القرون الأولى وما شابه ذلك ليست له، بل نحله الرواة إيَّاها. . فيها الصنعة. . وفيها ضعف المولدين. . وليس فيها قوة الجاهليين) (¬1). هذه أبرز الردود على مقولة المستشرقين في هذا الصدد، أمَّا ما يتعلق بمزاعمهم عن التشابه بين القرآن الكريم وبعض عادات الجاهليَّة وتقاليدها ونظمها فقد سبق الرد عليها (¬2). 8 - تناول محمد عبد اللَّه دراز جميع الافتراضات المتعلقة باحتمال وجود مصدر بشري للقرآن الكريم، وناقشها مناقشة علميَّة أظهر من خلالها زيف تلك الافتراءات وبطلانها، وقال إنَّ: (جميع سبل البحث التي وقعت تحت أيدينا وناقشناها ثبت ضعفها، وعدم قدرتها على تقديم أيِّ احتمال لطريق طبيعي أتاح له -يقصد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرصة الاتصال بالحقائق المقدسة، [وعلى الرغم من] الجهد الذهني الذي نبذ له لتضخيم معلوماته السمعية، ومعارف بيئته، فإنَّه يتعذر علينا اعتبارها تفسيرًا كافيًا لهذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة والمفصلة التي يقدمها لنا القرآن الكريم في مجال الدين والتاريخ والأخلاق والقانون والكون. . .) (¬3). 9 - اعترف بعض الغربيين بإعجاز القرآن الكريم، وأنَّ مصدره إلهي، وقال: (لو كان محمد مؤلف القرآن فكيف استطاع في القرن السابع من ¬

(¬1) المرجع السابق نفسه: 4/ 465، وانظر: تور أندريا: المرجع السابق نفسه: 4/ 464، غير أنَّه اتهم مفسري القرآن الأولين بالانتحال وخصَّ على سبيل المثال: السدي وابن عباس. انظر: المرجع السابق: 4/ 464. (¬2) انظر: مبحث العقيدة: ص 364 - 370، (البحث نفسه). (¬3) محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. . ص 165، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق ص 86، (مرجع سابق).

العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع العلوم الحديثة. . .) (¬1). ثُمَّ يستشهد بعلم الأجنَّة، وتطور الجنين، وأنَّ القرآن الكريم وصفها بصورة تطابق معطيات علم الأجنَّة الحديث (¬2). ومع التقدير لهذا الباحث وما توصل إليه إلَّا أنَّه ينبغي ألا يَنْسَاق المسلمون وراء بريق التفسير العلمي للقران الكريم؛ لأنَّه هو الحجّة. . . وهو المهيمن على غيره من الكتب والعلوم فما وافقه من معطيات العلم ونظرياته وحقائقه فهو شاهد لها، وليست هي الفيصل في ذلك، وإنَّما تؤخذ العبرة، ويلزم الخصم بمنطقة من باب الدعوة والجدل. 10 - وقد اعترض بعض المستشرقين ومنهم المستشرق السويدي (توراندريه) على تلك الطريقة التي سلكها عامَّة المستشرقين في البحث ومحاولتهم أن يثبتوا بشرية القرآن الكريم، وأعلن أن جوهر النبوة لا يُمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية، وأن الإسلام لا ينكر صلاته بالديانة اليهودية والنصرانية وعقيدة الحنيفية وتقاليد العرب، ولكن لا يعني ذلك أنَّه مجرد مجموعة من هذه العناصر (¬3). وعلى الرغم من كون (توراندريه) لم يرقَ في كلامه إلى الاعتراف التام بنبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا أنَّه يقترب من بيان عقيدة الإسلام في الكتب السماوية والرسل؛ قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ¬

_ (¬1) موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم. . ص 145، عن الفتح للإعلام العربي- مصر، (بدون تاريخ)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. . . ص 36، (مرجع سابق). (¬2) انظر: موريس بوكاي: المرجع السابق نفسه: ص 232 - 234. (¬3) نقلًا عن: التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون: مناهج المستشرقين. .: 1/ 36، (مرجع سابق).

ثانيا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية

وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وخلاصة القول: أن كل ما طرحه المستشرقون من شبهات حول مصدر القرآن الكريم لا يعدو كونه مزاعم واهية لا حظَّ لها من العلم، ولا تقوم بها أدنى حُجَّة، وليس لها سند تاريخي موثوق، وإنَّما هي تخمينات وافتراضات أساءت إلى المنهج الاستشراقي في دراسته للإسلام، وأثبتت فساده ومجانبته لحقائق الأمور ووقائع التاريخ مِمَّا جعل بعض الباحثين، يقول: (نحن نرفض -ومعنا الحق- منهج المستشرقين في دراسة الإسلام؛ لأنَّه منهج مصطنع جاء وليد اللاهوت الأوروبي؛ ولأنَّه منهج يقصر عن طبيعة الأديان السماويَّة، ويحاول أن يضعها في صعيد واحد مع الاتجاهات الفكرية الإنسانية) (¬1). لذلك فإنَّ معظم المستشرقين يحاول أن ينفي عن تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة خصيصة الربانية من خلال نفيهم الوحي والنبوة والرسالة، وزعمهم أنَّ القرآن الكريم من تأليف محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية: مِمَّا ترتب على أقوالهم في القرآن الكريم، ونسبته إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إنكار السُّنَّة النبوية، والتشكيك في السيرة، والتحامل عليهما لأسباب عدّة من أبرزها: 1 - ذلك الفارق الواضح بين أسلوب القرآن الكريم في الفصاحة والبيان والإعجاز وبين أسلوب الحديث النبوي الشريف، إذ يدلُّ دلالة واضحة على أن القرآن كلام اللَّه -عز وجل- والحديث النبوي كلام الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) زقزوق: الاستشراق. . . ص 86، 89، (مرجع سابق).

وكلاهما وحيٌ من عند اللَّه كما بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "ألا إنني أوتيتُ الكتابَ ومثله معه. . . " (¬1). أمَا وقد ساغ للمستشرقين أن ينسبوا القرآن الكريم إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا غرابة أن ينسبوا حديثه إلى غيره من المسلمين، وأن يعملوا ما وسعهم العمل في التشكيك في سنته وسيرته -صلى اللَّه عليه وسلم- لزعزعة مصادر الإسلام والطعن في تميز الأُمَّة الإسلاميَّة. 2 - إنَّ السنّة النبوية تمثل أكبر عائق (لأعداء الإسلام عن تفسير القرآن بالهوى والشهوات فهي التي تحدد تفسيره وتبينه) (¬2)، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فكانت سنته -صلى اللَّه عليه وسلم- المتمثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته للقرآن الكريم بمثابة (تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره) (¬3). والسنّة شديدة الارتباط بالقرآن الكريم، يقول الشاطبي: (فالقرآن على اختصاره جامع. . وأنت تعلم أنَّ الصلاة، والزكاة، والجهاد، وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن، إنَّما بينتها السنّة وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها) (¬4)، لذلك فإنَّ الذين يحاولون إنكار السنة يريدون إزالة عرقلة السنة بينهم وبين القرآن، وإذا فعلوا ذلك تيسر لهم تأويل القرآن حسب أهوائهم وميولهم (¬5). 3 - إنَّ السنة النبوية اشتملت على نظام شامل للحياة، وحدَّدَت الطريق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود: 4/ 199، الحديث رقم [4604]، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد لقمان السلفي: السنّة حجيتها ومكانتها في الإسلام والرد على منكريها: ص 257، (مرجع سابق). (¬3) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة 4/ 9، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه 3/ 274، 275. (¬5) انظر: محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص 97، ترجمة عمر فروخ، (مرجع سابق).

السوي للأُمَّة الإسلاميَّة، وقدمت الحلول الجذرية لمشكلات الحياة (¬1)، وقد وصف بعض المستشرقين السنّة بأنها: (إطار من الفولاذ حول ذلك البناء الاجتماعي العظيم) (¬2)، وهدم هذا الإطار الفولاذي لايتأتى إلَّا بإنكار صحة السنّة بأيِّ أسلوب كان، ليسهل عليهم جعل الإسلام موافقًا للأفكار الغربية، وخاضعًا لها (¬3). 4 - إنَّ مِمَّا حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم ضد السنة ما رأوه في الحديث النبوي (من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة وهم لا يعتقدون بنبوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن محمد الأمي بل هو من عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى) (¬4) من تاريخ الإسلام، ولكن محاولاتهم كلها ستبوءُ بالإخفاق، وسيكونون كما قال الشاعر: كناطح صخرة يومًا ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (¬5) لأنَّ السنة محفوظة بحفظ القرآن الكريم، ولأنَّها وحي اللَّه -عز وجل- أمَّا الأقوال الاستشراقية في الحديث النبوي الشريف التي تبين موقفهم ¬

_ (¬1) انظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 257، (مرجع سابق). (¬2) محمد أسد: المرجع السابق نفسه: ص 37. (¬3) انظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 257، (مرجع سابق). (¬4) انظر: محمد لقمان السلفي: السُّنَّة. .: ص 215، (المرجع السابق نفسه). (¬5) ينسب هذا البيت إلى الأعشى ميمون بن قيس. انظر: حنَّا نصر الحتي: شرح ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس): ص 286 البيت رقم [49] من قصيدة عنون لها الشارح (نحن الفوارس) وقد أورد الشارح (ليفْلِقَها) بدلًا من (ليوهنها) وذكر بأنَّ الأخيرة وردت في بعض الروايات، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م، عن دار الكتاب العربي - بيروت. وانظر: محمد محيي الدين عبد الحميد: عدة المسالك إلى تحقيق أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام: 3/ 218، الطبعة الخامسة، 1399 هـ - 1979 م، عن دار الجيل - لبنان.

المتشكك في صحة نسبته إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فتأتي دراسات (جولدزيهر) معبّرة عن ذلك باعتبار دراساته في موضوع الحديث النبوي تحتل الصدارة عند المستشرقين وأنَّه (حدّدَ تحديدًا حاسمًا اتجاه وتطور البحث في هذه الدراسات) (¬1) من وجهة نظرهم، حتى بلغ الأمر أن تعتمد دائرة المعارف الإسلاميَّة على دراساته، وتتخذ منها مصدرًا أساسًا للكتابة عن مادة (حديث) ومِمَّا وصفته به بأنَّ (العلم مدين دينًا كبيرًا لما كتبه (GoldZiher) في هذا الموضوع) (¬2)، وفيما يأتي خلاصة مركزة لأبرز مزاعمه في الحديث في النقاط الآتية: 1 - (إنَّ القسم الأعظم من الحديث كان بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والاجتماعي والتاريخي في القرن الأول والثاني من تاريخ الإسلام. 2 - وضع أصحاب المذاهب النظرية والعملية في الإسلام أحاديث لتأييد مذاهبهم، ونسبوها إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه. 3 - إنَّ الأتقياء وضعوا أحاديث تؤيد معارضتهم للحكام. 4 - قام الحكام بوضع الحديث كرد فعل على عمل العلماء الأتقياء لتأييد أفكارهم السياسية، ولإسكات الأتقياء) (¬3). من هذه المزاعم يتبين القصد من دراسات (جولدزيهر) وزمرته من المستشرقين في الحديث الشريف، وهو نفي نسبته إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لزعزعة ¬

_ (¬1) زقزوق: الاستشراق. . (مرجع سابق): ص 101، نقلًا عن يوهان فك: عن الدراسات الاستشراقية في أوروبا، المصادر عام 1955 م: ص 231، 231، Fueck,Op.Cit.P. ولم أجد هذا القول تحت مادة (حديث)، في دائرة المعارف الإسلاميَّة، (مرجع سابق). (¬2) مادة (حديث) 13/ 389 - 401، (مرجع سابق)، وانظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 218، (مرجع سابق). (¬3) انظر: جولدزيهر: دراسات إسلاميَّة من ص 43 إلى ص 48 نقلًا عن: محمد لقمان السلفي: السنة. . . ص 230 - 231 (مرجع سابق).

الدين الإسلامي فإذا كان القرآن الكريم من تأليف محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كما يزعم المستشرقون -والحديث انعكاس لتطور المسلمين، وأن نسبته إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كذب وافتراء فكيف يكون صرح الإسلام!. وهذه النوايا مكشوفة جدًّا، أمَّا ذلك المنهج فهو عار عن العلمية، ويرد على مزاعم (جولدزيهر) في الآتي: 1 - إنَّ ما زعمه من أنَّ (القسم الأعظم من الحديث ليس إلَّا بمثابة نتيجة للتطور الديني والتاريخي والاجتماعي. . .) (¬1)؛ ليس صحيحًا، وفيه خلط الحق بالباطل ومنهجه في ذلك هو المنهج المذموم الذي وصف اللَّه به أهل الكتاب بعامة واليهود بخاصة، قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، فمقولته خلطت الحق بالباطل، وكتم (جولدزيهر) الحق وهو عالمٌ به؛ فقد تحدث عن جهود علماء الحديث في جمعه وحفظه وغربلته، والتحقق من نسبته إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بخافٍ عليه ما بذله علماء الحديث في هذا المضمار (¬2) (فإنَّ علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يتلقون أحاديث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضهم عن بعض في أمانة وضبط، وكانوا يذبون عنها أكاذيب الشيعة والخوارج والزنادقة، ومن كان على شاكلتهم في الكيد للإسلام عن طريق الحديث. وما زالوا يجاهدون صادقين في سبيل السُّنَّة حتى أسلموها إلى علماء القرن الثالث كاملة غير منقوصة، وصحيحة غير مكذوبة، عن طريق ¬

_ (¬1) انظر: دراسات إسلامية: ص 43 - 48، وانظر: محمد لقمان السلفي: السنَّة: ص 230، (المرجع نفسه)، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق ص 101، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 219، (المرجع السابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص 104، (مرجع سابق)، وانظر: دائرة المعارف الإسلاميَّة، 7/ 335، (مرجع سابق).

الأسانيد التي تطمئن لها القلوب، ثُمَّ قام علماء القرن الثالث بدورهم في رواية السنة وحفظها وكتابتها وتدوينها حتى وصلت إلينا طاهرة نقية) (¬1). أمَّا الوضع مهما كان كثيرًا وهائلًا؛ فإنه كان معزولًا عن حديث المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- بفضل اللَّه ثُمَّ بسبب جهود علماء الحديث، ونحن لا ننكر أنَّ هناك الكثير من الموضوعات التي نسبت إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن ذلك خافيًا في عصر من العصور على علماء المسلمين (¬2)، فقد طبق علماء الحديث منهجًا نقديًّا شرعيًّا أفاد منه النقد التاريخي، واعترف المنصفون بأن منهج علماء الحديث في نقد الرواة، وبيان حالهم؛ يعد تاجًا على رأس الأُمَّة الإسلاميَّة (¬3). (ولعلماء الحديث باع طويل في نقد الرواة) (¬4). . قيل ليحيى بن سعيد القطان: (أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند اللَّه -عز وجل-؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إليَّ من أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خصمي، يقول لي: لِمَ لَمْ تذب الكذب عن حديثي. . .) (¬5)، وكان ابن المبارك يقول: (بيننا وبين القوم القوائم) (¬6)؛ يعني الإسناد، ويقول: ¬

_ (¬1) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون (أو عناية الأمَّة الإسلاميَّة بالسنّة النبوية): ص 301، 302، (مرجع سابق)، وانظر: محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة: عمر فروخ: ص 96، (مرجع سابق). (¬2) انظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص 102، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 102 - 103. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 103. (¬5) السيوطي: تحذير الخواص عن أكاذيب القصاص: ص 119، تحقيق: محمد الصباغ، الطبعة الثانية 1394 هـ - 1974 م، عن المكتب الإسلامي - بيروت، وانظر: محمد لقمان السلفي: اهتمام المحدثين. .: ص 66، (مرجع سابق). (¬6) رواه الإمام مسلم: في مقدمة صحيحه ص 15. . (مرجع سابق).

(الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء) (¬1). والسؤال الآن: هل يجهل (جولدزيهر) هذه الصفحات البيضاء، بل: هل بذل أتباع اليهودية أو النصرانية عشر معشار ما بذله علماء الحديث المسلمون في توثيق العهدين؛ القديم والجديد (¬2). إنَّ الجواب على ذلك يأتي من خلال مقولة (وليم باركلي) فيما شاب الكتابات النصرانية من اضطراب، بسبب الحذف والإضافة ونحو ذلك، فهو يؤكد: (أن المتشابهات التي أثارتها التعاليم والإلحاقات التي أدخلت على الكتابات المسيحية بعد عيسى -عليه السلام- والتي حولت عيسى من شخصية بشرية إلى شخصية إلهية، ظلت كتابات وإلحاقات وتعاليم قابلة للتعديل بالحذف والزيادة حتى سنة (400) ميلادية، وهو تاريخ أول طبعة رسمية للعهد الجديد بالطبعة السريانية، المعروفة باسم (البيشيتو)، وظلت قانونية العهد الجديد مجال أخذ ورد، وحذف وإضافة، ولم تستقر على حالتها الراهنة إلَّا بعد قرار مجمع (ترنت) سنة 1546 م، فجاء هؤلاء العلماء ليجدوا أمامهم تراثًا هشًّا غير متناسق، ضعيفًا في إسناده التاريخي، وقابلًا بذاته للشك والتفنيد) (¬3). 2 - أمَّا ما قيل من أنَّ أصحاب المذاهب النظرية والعملية قد وضعوا أحاديث لتأييد مذاهبهم ونسبوها إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، فالواقع أنَّه (ظهرت حركة الوضع في الحديث، وهدّدت هذا الأصل الكبير من أصول ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم: المرجع السابق نفسه: الصفحة نفسها. (¬2) انظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص 104، (مرجع سابق)، وانظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 243، 244، (مرجع سابق). (¬3) انظر: مقال حمدي عبد العال: تحقيق القول في تحويل بولس، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد [16]، شعبان 1410 هـ مارس 1990 م، عن مجلس النشر العلمي في جامعة الكويت: ص 19.

الإسلام بالتحريف) (¬1)، إذ سعت الفرق الضَّالَّة للوضع ونسبته إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وإلى أصحابه لمآرب سياسية وشخصية (ولكن العلماء بذلوا جهودًا جبارة في تمحيص الحديث ونقده، وتمييز الصحيح من الموضوع، فكما كان الوضع في الحديث لم يوجد له مثيل في عالم العلم والأدب، كذلك الجهود التي بذلت لتنقية الصحيح، وتمييزه من الموضوع والعلوم التي اخترعت للوصول إلى هذه الغاية والوسائل التي أُخذت لم يوجد لها نظير في الدنيا، ولم يحظ تاريخ قوم ولا أُمَّة بمثل هذه العناية، فالحركة التي كادت أن تهدم السنّة قد أدت إلى نتائج إيجابيّة أثرت في إشادة صرح السنة وبناء علوم الحديث) (¬2). 3 - وأمَّا مقولة (جولدزيهر) عن الأتقياء، وأنهم وضعوا أحاديث عارضوا بها سياسة الحكام، فإنها مقولة خاطئة وموهمة، فإنَّ المستشرقين وفي مقدمتهم (جولدزيهر) يطلقون على الشيعة (العلماء الأتقياء) (¬3) مع أنَّ منهم (من كانوا أداة فساد وإفساد يتظاهرون بحب آل علي -رضي اللَّه عنه- ويغالون في ذلك حتى ألهوه ووضعوا الأحاديث في تأليهه، ويضمرون في أنفسهم كيد الإسلام والمسلمين) (¬4)، في حين أنَّ العلماء الأتقياء الذين خدموا السنة وحملوها هم غير أولئك؛ إنهم الذين عملوا على حفظ الأحاديث الصحيحة ونشرها، والاحتياط لها وبيان الأحاديث التى نسبت كذبًا وزورًا إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأفتوا بعدم جواز روايتها أو نشرها من غير أن يخافوا ¬

_ (¬1) محمد لقمان السلفي: السنة. . ص 198، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 198، وانظر: أحمد محمد شاكر: حاشية رقم [1] على الصفحة 334 من دائرة المعارف الإسلاميَّة، المجلد السابق، (مرجع سابق). (¬3) انظر: جولدزيهر: دراسات إسلاميَّة (الحرجمة الإنجليزية): ص 43 - 48، نقلًا عن: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 228 - 230، (مرجع سابق). (¬4) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون. .: ص 305، (مرجع سابق).

في اللَّه لومة لائم ولا سطوة ظالم، ومنهم الأئمة (الزهري، وسعيد بن المسيب "سيد التابعين"، وعامر الشعبي، وقد [عدّه] يحيى بن سعيد القطان "أول من فتش عن الإسناد"، وإبراهيم النخعي، وهو "صيرفي الحديث" والأعمش، وشعبة بن الحجاج، وحماد، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، -رضي اللَّه عنهم- أجمعين) (¬1)، هؤلاء هم حملة الحديث الأتقياء. 4 - أمَّا وضع الحكام للحديث كرد فعل على أولئك (الأتقياء) المزعومين؛ فإنَّه اتهام لحكام بني أُميَّة يدحضه التاريخ من ناحيتين: الأولى: لم يكن بين علماء الحديث وبني أميَّة خصومة، ولا أيُّ نوع من العداء، وإذا كان هناك عداء بين الحكام وبين الشيعة والخوارج فإنَّ علماء الحديث غير هؤلاء وهؤلاء (¬2). الثانية: لم يثبت أيُّ دليل يدين حكام بني أُميَّة بوضع الحديث، ولو بُحث في دواوين السنة لما وجد من بين الأحاديث الموضوعة حديث واحد رُوي عن طريق أيِّ حاكم من حكام بني أميَّة (¬3). وخلاصة القول: إنَّ مزاعم (جولدزيهر) ومن سار على نهجه من المستشرقين تأتي مؤكدة المنهج الاستشراقي المعادي للإسلام الذي انتهج أسلوب المغالطات والتلبيس، وكتمان الحق، وتحكيم الهوى، والحسد، ودس الزيف والشبهات، وهو بذلك ينتظم في تلك الحركة الباطنية التي تضرب ¬

_ (¬1) انظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 237، (مرجع سابق)، وانظر: تراجمهم لدى: النووي: تهذيب الأسماء واللغات. . (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد لقمان السلفي: السنة. .: ص 242، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 244.

في أعماق التاريخ الإسلامي منذُ عبد اللَّه بن سبأ، وما تشعب عنه من شيعة وخوارج، ثُمَّ معتزلة وزنادقة. . . ثُمَّ تطفل على هذه المزاعم بعض أبناء المسلمين الذين قال عنهم أحد المفكرين المسلمين: (إنَّهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا بيد أنهم خطر على كياننا) (¬1)، وقال عنهم قبل ذلك: (وولدوا في بلادنا ولكن عقولهم وقلوبهم تربت في الغرب، ونمت أعوادهم مائلة إليه فهم أبدًا تبع لما جاء به) (¬2). أمَّا السيرة النبوية فقد تناولتها دراسات المستشرقين بالبحث والتقصي حول كل جزئية من جزئياتها، فقد تكلموا عن بيئة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولغته، وعن اسمه ونشأته، وتكلموا عن تحنثه في غار حراء، وخاضوا في سيرته قبل البعثة وبعدها، في الفترة المكية، ثُمَّ ازداد اهتمامهم بهجرته إلى المدينة وسيرته فيها، وعلاقاته بمن حوله من يهود ومنافقين ومشركين، ولم يتورعوا عن الخوض في أخص خصوصيات البيت النبوي، بل تناولوا أمهات المؤمنين، وعللوا زواج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بهن، وتكلموا عن أيام الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الأخيرة (¬3). وهم في ذلك كله يتذبذبون ما بين مقذع فاحش متفحش في تناوله لسيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها أو بعض جوانبها، وما بين متناقض ينصف في جانب ويتحامل في جانب آخر. ومهما يكن فإنَّ معظمهم يصدر من منطلق تجريد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من نزول ¬

_ (¬1) انظر: محمد الغزالي: ظلام في الغرب: ص 3، الطبعة الثانية، 1965 م، عن دار الكتب الحديثة، القاهرة. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 3. (¬3) انظر: نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين: ص 14 - 24، (مرجع سابق).

الوحي الإلهي عليه؛ لذلك فإنَّ الإطار الذي يدورون فيه هو الإنكار والجحود والتدليل على ذلك بألوان شتى من الأوهام والأباطيل، وقد يشيد بعضهم بعظمة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ويصفه بالعبقرية، بل يضفي عليه ملامح العبقرية وصفات العظمة ليجرده من النبوة، ويسلبه نعمة الرسالة، وليتسنى له أن ينسب الإعجاز في سيرته والتميُّز في تاريخ أمته إلى عبقريته، وليس إلى كونه نبي اللَّه ورسوله (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين. . . ص 134، 135، (المرجع السابق نفسه).

العالمية وموقف المستشرقين منها

العالمية وموقف المستشرقين منها • تمهيد. • مفهوم العالمية. • دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي. • دلائل عالمية الأمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم. • موقف المستشرقين من خصيصة العالمية.

تمهيد

تمهيد والعالميَّة خصيصة أخرى من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، إذ ليست من جنس بعينه، وإنَّما هي عامَّة جميع الناس الذين ارتضوا الإسلام دينًا، وانضموا تحت لوائه دون أن يحد هذه العالمية زمان أو مكان.

مفهوم العالمية

مفهوم العالمية 1 - مفهوم العالَمِيَّة: أ- تعريف العالميَّة لغة: نسبة إلى العَالَم، والعالم في اللغة: (الخَلْقُ كُلُّهُ، أو ما حَواهُ بَطْنُ الفَلَك) (¬1)، (وهو في الأصل: اسمٌ جامع لما يعلم به كالطابَع والخاتَم لما يُطْبَعُ به ويُخْتَمُ به، وجعل بناءه على هذه الصيغة لكونه كالآلة) (¬2) أي: أنَّه يُستَدَلُّ به على صانعه وخالقه جلَّ وعلا، يقول الراغب الأصفهاني: (والعَالَمُ آلة على الدلالة على صانعه، ولهذا أحالنا تعالى عليه في معرفة وحدانيته، فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] (¬3). وعن جمعه -حيث جاء على غير قياس، (ولا واحد للعَالَم من لفظه؛ لأنَّ عالَمًا جمع أشياء مختلفة) (¬4) - قال الراغب: (وأمَّا جمعه فلأنَّ من كل نوع من هذه قد يسمى عالَمًا، فيقال: عالَمُ الإنسان، وعالَمُ الماء، وعالَمُ النَّار. . . وقيل: إنَّما جمع هذا الجمع لأنَّه عني به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والإنس، دون غيرها. . . [وقيل] العالَمُ عالَمَان الكبير وهو الفلك بما فيه، والصغير وهو الإنسان) (¬5). وفصَّلَ الدامغاني مادة (العالمين) في القرآن الكريم على خمسة أوجه ¬

_ (¬1) الفيروزآبادي: القاموس المحيط، مادة (العَالَم)، (مرجع سابق). وانظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (عَلْمٌ)، (مرجع سابق). (¬2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن؛ مادة (عَلَم)، (مرجع سابق). وانظر: الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز. . مادة (علم)، (مرجع سابق). (¬3) مفردات ألفاظ القرآن، مادة (عَلَم)، (مرجع سابق). (¬4) ابن منظور: لسان العرب، مادة (علم)، (مرجع سابق). (¬5) مفردات ألفاظ القرآن، مادة (علم)، (مرجع سابق).

ب- تعريف العالمية في الاصطلاح

(فوجه منها: العالمين الجن والإنس. .، والثاني: العالمين عالمو الزمان. . . [كقوله تعالى]. . .: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] يعني: عالمي زمانهم. الثالث: العالمين من وُلِدَ من ولد آدم إلى قيام الساعة. . . الرابع: العالمين من كان من الخلق من بعد نوح -عليه السلام-. . . الخامس: العالمين أهل الكتاب) (¬1). وجاء في لسان العرب: (معنى العَالَمين: كل ما خلق اللَّه، كما قال: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] (¬2). وهذا المعنى يلتقي مع قول بعض المفسرين في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3)، إذ قالوا: (يراد به كل موجود سوى اللَّه تعالى، فيعم جميع المخلوقات) (¬4). ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح: يتضح مِمَّا تقدم في معنى (العالم) و (العالمين)، عموم هذين اللفظين وشمولهما لأجناس من الخلق في زمان أو مكان سواء اقتصرا على جنس بعينه، أو على زمان محدد، أو مكان معين، أو اتسع ذلك العموم والشمول لجميع أجناس المخلوقات فيدخل فيه جميع خلق اللَّه وما سوى اللَّه فهو عَالَم، واتسع لكل مكان ولكل زمان إلى قيام الساعة. لذلك فإنَّ مفهوم العالم يتأرجح حول هذه المعاني، فمن العلماء من ¬

_ (¬1) قاموس القرآن (أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم)، مادة (العالمين)، (مرجع سابق). (¬2) ابن منظور: مادة (علم)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 23، 24، (مرجع سابق). وانظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 97، (مرجع سابق). وانظر: الشوكاني: فتح القدير 1/ 21، (مرجع سابق). (¬4) أبو القاسم محمد بن أحمد الغرناطي: التسهيل لعلوم التنزيل: ص 33، (مرجع سابق).

عرَّف العالم بأنَّه: (عبارة عمن يعقل؛ وهم أربع أمم: الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين) (¬1)، ويخرج من ذلك كل العوالم التي لا تعقل كالبهائم، والطير، ونحوهما. ومن العلماء من عرَّف العالم بأنه: (الجن والإنس) (¬2) بالنظر إلى كونهم المعنيين بالرسالة والتكليف. ومن العلماء من عرَّف العالم بأنه (كل ما خلق اللَّه في الدنيا والآخرة) (¬3)، وربُّ العالمين: (إله الخلق كلِّه، السموات كلهن، ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مِمَّا يعلم ومِمَّا لا يعلم) (¬4). وأمَّا المفهوم العام للعالميَّة (¬5) باعتبارها إحدى خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة فهو: السمة العامَّة الشاملة لهذا التميُّز وملاءمته للمكلفين في كل مكان، وصلاحيته في كل زمان؛ لأنَّه ينبثق من عقيدة الإيمان باللَّه المالك لكل شيء، ورب كل شيء، والذي أحاط بعلمه كل شيء، ويقف المكلفون إزاءه على قدم المساواة، دون النظر إلى أجناسهم، أو لغاتهم، أو أوطانهم، أو أزمانهم، ولأنه ينتهج نظامًا شرعه اللَّه -عز وجل-. فعلى هذا يكون هذا التميُّز عامًّا شاملًا، وإذا كان المكلفون (الجن والإنس) هم المعنيين به في المقام الأول منذُ بعث إليهم الرسول الخاتم -صلى اللَّه عليه وسلم- وإلى أن تقوم الساعة، فإنَّ هذا التميُّز بملاءمته لأوضاع الحياة ¬

_ (¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 97، (مرجع سابق). (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 97، (المرجع السابق نفسه). (¬3) الشوكاني: فتح القدير 1/ 21، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه 1/ 21. (¬5) وزيادة الياء المشددة والتاء المربوطة في العالميَّة يسمى (مصدر صناعي) كالحريَّة والإنسانية ونحوهما؛ انظر: أحمد الحملاوي: شذا العرف في فن الصرف: ص 50، الطبعة الخامسة، 1345 هـ، عن مطبعة دار الكتب العربية.

يستوعب غيرهما من أصناف الخلق؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. قال ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (أصح القولين في هذه الآية: أنها على عمومها، وفيها على هذا التقدير وجهان: أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته، أمَّا اتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة. . .) (¬1). وبعد أن يبين تحت هذا الوجه ما ناله أعداؤه المحاربون من هذه الرحمة، وكذلك المعاهدون قال: (وأمَّا المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيرها، وأمَّا الأمم النائية عنه: فإنَّ اللَّه سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، أصاب كل العالمين النفع برسالته. الوجه الثاني: أنَّه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض) (¬2). ويتسع نطاق العالميَّة في الإسلاميَّة لتشتمل العناية بالعجماوات وقضايا البيئة (¬3)، وجميع مشمولات الكون، والدلائل على ذلك كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، ويكفي الإشارة إلى أمرين: ¬

_ (¬1) بدائع التفسير 3/ 198، (مرجع سابق). (¬2) بدائع التفسير 3/ 198، (مرجع سابق). (¬3) بدأت العناية بالبيئة تشق طريقها الرسمي الدولي منذُ عام 1962 م، تحت تأثير التلوث البيئي الذي حدث بسبب تدخل الإنسان، وإفساده لخواص البيئة الطبيعية بما أدخله من =

أولهما: أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأمر بالإحسان في التعامل مع ذوات الأرواح حتى في القتل والذبح، وينهى عن العبث بها أو أنْ تتخذ هدفًا، أو تقتل صبرًا أو تحرق، فقد ورد عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه "نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرًا" (¬1). والآخر: أنَّ من الثابت في سيرته -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يحدث من شكوى بعض العجماوات إليه، وعلى سبيل المثال: القصّة التي رواها الإمام أحمد عن (الحُمَّرَة) (¬2) التي جاءت: "ترف على رأس الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ورؤوس أصحابه" (¬3)، فسأل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه: "أيكم فجع هذه"؟ فقال رجل من القوم: أنا أصبت لها بيضًا. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اردده" (¬4). وخلاصة القول: أنَّ المراد بالعَالَمِيَّة هنا ما اتسم به تميُّز الأُمَّة ¬

_ = مواد ملوثة، وكلما ازدادت هذه لتناوله هذه القضية في وقت سابق لظهور أهميتها والأهم من ذلك طرحه التدابير الواقية من فسادها واختلال التوازن فيها؛ لمزيد من الاطلاع على هذا انظر: عبد الوهاب العشري: التلوث البيئي. . والإعجاز العلمي للقرآن الكريم، مجلة تجارة الرياض: ص 34، 35، العدد [378]، السنة [33] رمضان 1414 هـ - 1994 م. وانظر: محمد أحمد رشوان: تلوث البيئة وكيف عالجه الإسلام: ص 47 - 69، من منثورات جامعة الإمام، 1414 هـ - 1994 م. (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 3/ 1550، الحديث رقم: (1959)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وانظر: مقال مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي: رحمه اللَّه. .؛ ص 219، (مرجع سابق)، مجلة البحوث الإسلاميَّة. (¬2) (الحُمَّرَة: بضم الحاء وتشديد الميم وقد تخفف: طائر صغير كالعصفور). ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر: ص 439 مادة (حمر)، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه أحمد: المسند للإمام أحمد: 1/ 404، بتحقيق: أحمد شاكر: 5/ 320، الحديث رقم: (3835)، وقال: "حديث صحيح"، (مرجع سابق). (¬4) جزء من الحديث السابق نفسه.

الإسلاميَّة من السعة والشمول والصلاح والملاءمة لجميع خلق اللَّه، وأنَّ نظام الإسلام وهديه يحقق الانسجام مع حركة الكون والتاريخ والحياة؛ لأنَّه صراط اللَّه المستقيم، ودينه الخاتم حتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، أمَّا مصطلح العالميَّة بوصف أنَّها: (مذهب معاصر يدعو إلى البحث عن الحقيقة الواحدة التي تكمن وراء المظاهر المتعددة في الخلافات المذهبية) (¬1) فإنَّه يتعارض -على إطلاقه- مع الإسلام من حيث كون الاختلاف من سنن اللَّه في المجتمع البشري لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، فالصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والجاهلية والإسلام؛ صراع قدري واقعي بأدلته النقلية والعقلية، بيد أنَّ الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يحقق العالميَّة ليس من حيث قسر الخلق على السير في منهجه وإكراههم على الدين، ولكن من حيث ملاءَمتُه لطبيعة الخلق ووفاؤه بحاجاتهم فهو -كما سلف القول-: (هذا دواء لهذا المرض فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواءً لذلك المرض) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: معجم المناهي اللفظية: ص 370، 371، مادة (عالمية الإسلام)، الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1996 م، عن دار العاصمة - الرياض. (¬2) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 3/ 198، (مرجع سابق).

دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي توافرت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على عالميَّة الإسلام ممثلًا في رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته، (وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. . . وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن دعوة المشركين، وعُبَّاد الأوثان، وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلَّا بكلفة) (¬1)، وكذلك في السنَّة النبويَّة. أولًا: القرآن الكريم: جاءت في كتاب اللَّه -عز وجل- آيات مستفيضة بصيغ متنوعة، وأساليب عديدة؛ منها: أ- بوصف رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- والإخبار عنها بأنَّها للناس أو كافَّة للناس؛ كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، فدلت الآيتان ونحوهما على عالميَّة الرسالة المحمَّدية، وهما من النصوص الصريحة على ذلك، وفي الآية الثانية جاء لفظ (كافَّة) لزيادة الدلالة في العموم، وقد قال بعض المفسرين: (في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: وما أرسلناك إلَّا للناس كافة أي عامَّة) (¬2)، وقال آخر: (إلَّا رسالة عامَّة لهم فإنَّها إذا عمتهم كفتهم أن يخرج أحد منهم، أو إلَّا جامعًا لهم في البلاع، فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة) (¬3)، ومهما كان تقدير الكلام وإعرابه فإنَّه دالٌّ على العموم والعالمية. ¬

_ (¬1) ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 336، 337، (مرجع سابق). (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 300، (مرجع سابق). (¬3) أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 7/ 133، طبعة دار إحياء التراث. .، بيروت، (بدون تاريخ).

ووصف اللَّه الرسالة المحمديَّة بأنها رحمة للعالمين، وأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يهدي سبل السلام، وأن اللَّه أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرًا، وأخبر اللَّه -عز وجل- بأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- نذير للبشر، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى يخاطب أهل الكتاب، ويخبرهم بأنَّهم مقصودون بدعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وملزمون بالإيمان برسالته: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال -أيضًا-: {نَذِيرًا لِلْبَشَر} [المدثر: 36]. ب- وجاءت آيات مستفيضة فيها أمر اللَّه تعالى لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يبلغ الناس رسالة ربه، وأنَّه أرسل إليهم جميعًا، وأن عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه، كقولى تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقبل هذه الآية أثنى اللَّه على الذين يؤمنون بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وينصرونه ويعزرونه ويتبعون النور الذي أنزل معه وأنهم هم المفلحون؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. . .} [الأعراف: 157] الآية. ج- وجاء الخطاب في آيات كثيرة موجهًا إلى أهل الكتاب -بخاصة- كالآية السابقة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ} [الأعراف: 157]، وكقوله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41 - 42]. وفي آيات عديدة بين اللَّه لأهل الكتاب أنهم مشمولون بدعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبلغهم بمبعثه، وأنه جاءهم على فترة من الرسل يبشرهم وينذرهم، وتأتي دعوتهم للإيمان به في بعض الأحوال مقترنة بالوعيد الشديد إن لم يقبلوها، كما بين لهم جلَّ وعلا أنها مصدقة لما معهم من الكتاب، وأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- مأمور بأن يظهر ما أخفوه من الكتاب؛ من ذلك قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]، وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]. د- وممَّا جاء في القرآن الكريم وهو يدل على عالميَّة رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ بصفة تضرب في أعماق تاريخ البشريَّة، وتستمر عبر تاريخها المقبل إلى قيام السَّاعة في الآخرة؛ أخذ الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى أتباعهم أن يؤمنوا بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأن ينصروه وأن يأمر بعضهم بعضًا بذلك، وبين اللَّه أنه أخذ عليهم هذا الميثاق وأقروا به، وأشهدهم عليه، وأكد شهادتهم بشهادته جلَّ وعلا، والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81].

قال ابن كثير في تفسيرها: (يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم -عليه السلام- إلى عيسى -عليه السلام- لمهما آتى اللَّه أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثُمَّ جاء رسول اللَّه من بعده ليؤمنن به ولينصرنه. . . قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: ما بعث اللَّه نبيًّا من الأنبياء إلَّا أخذ عليه الميثاق لئن بعث اللَّه محمدًا وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعثَ محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) (¬1). وحيث إن نبي اللَّه ورسوله عيسى -عليه السلام- كان آخر الأنبياء والمرسلين قبل محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنَّه قد بشَّرَ به، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] (¬2). ومن يتدبر الآيات التي جاءت بعد الآية التي ذُكِرَ فيها الميثاق يتبين له من منطوقها ومفهومها، ومِمَّا تدل عليه صراحة وضمنًا: أنَّ (الوفاء بهذا العهد هو الدين، فمن ابتغى سواه من الأديان والملل والنحل والمذاهب فقد ابتغى غير دين اللَّه، وهذا ما يفيده الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 1/ 378، (مرجع سابق). (¬2) ووردت أحاديث كثيرة أخبر فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّ نبي اللَّه عيسى -عليه السلام- سيرجع في آخر الزمان ويحكم بالإسلام أربعين سنة بعد أن يقضي على فتنة المسيح الدخال، وأنَّه يأتم في صلاته بإمام من أئمة المسلمين في الصلاة، وفي هذا دلالة عظيمة على عالميَّة الإسلام وأمته، حيث إن عيسى -عليه السلام- سيحكم بالإسلام على الأمتين (اليهودية والنصرانية) في وقت كادت الشادة على العالم أن تكون بأيديهم وتحت شعار العولمة والعالميَّة. (¬3) مناع القطان: الشريعة الإسلاميَّة (شمولها، عالميتها، ووجوب تطبيقها): ص 25، الطبعة الثانية 1404 هـ - 1984 م، الدار السعودية للنشر. . . - الرياض.

وقبل هذه الآية: (حكم اللَّه تعالى على المتولين الذين يعرضون عن الرسالة بالفسق) (¬1)، إذ قال تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82]، ثُمَّ بين اللَّه تعالى في تلك الآيات أنه لا يقبل من أحد غير دين الإسلام فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، (وهذه الصيغة عامَّة، فإنَّ صيغة "مَنْ" الشرطية من أبلغ صيغ العموم، فيدخل فيها أهل الكتاب وغيرهم، وسياق الكلام مع أهل الكتاب، وهذا يدل على أنَّه تعالى أراد أهل الكتاب بهذه الآية كما أراد غيرهم، بل معظم صدر سورة آل عمران: في مخاطبة أهل الكتاب ومناظرة النصارى. . وذكر اللَّه تعالى في أول السورة أن الدين عنده هو الإسلام، وأنَّ أهل الكتاب أمروا بالإسلام كما أمر به الأميون الذي لا كتاب لهم) (¬2). وملحظ آخر؛ وهو أنَّ ميثاق دينهم الذي واثقتهم عليه رسل اللَّه إليهم، وواثقهم اللَّه به، وأخذ عليهم إصرهم، والإصر -كما فسَّره العلماء- هو: (العهد المؤكد الذي يُثبِّط ناقضه عن الثواب والخيرات) (¬3): يأمرهم بالإيمان بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، أي: بالدخول في دين الإسلام، وأنَّ الذين يؤمنون بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يؤمنون بجميع الرسالات ويؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، وبهذا تتحقق للمسلمين العالميَّة الحقَّة وتكون الأُمَّة الإسلاميَّة ذات تميُّز من أهم خصائصه خصيصة العالميَّة، قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84]، إنه الإسلام والإسلام -فحسب- الطريق الوحيد للعالمية، والأُمَّة الإسلاميَّة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه ص 25. (¬2) مناع القطان: الشريعة الإسلاميَّة. . ص 26، (المرجع السابق نفسه). (¬3) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (أصر)، (مرجع سابق).

ثانيا: وأما في السنة النبوية

هي الوحيدة التي تتجلَّى فيها العالميَّة؛ لأنها تؤمن بجميع الرسالات وتقر بجميع الأنبياء والمرسلين، وتؤمن بما أنزل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وما أنزل على جميع أنبياء اللَّه ورسله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84]. ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية: فقد وردت أحاديث كثيرة تبين عموم رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- وشمولها وعالميتها، منها الآتي: أ- قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد من قبلي: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجعلت في الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت في المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامَّة" (¬1). والشاهد في هذا الحديث قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامَّة" حيث أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ مِمَّا خصَّه اللَّه به دون سائر المرسلين كونه بعث برسالة عامَّة لجميع الناس؛ لذلك فإنَّ من أهم خصائص تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة العالميَّة في الخطاب إلى جميع الناس. ب- وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأُمَّة، يهودي، ولا نصراني، ثُمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلَّا كان من أصحاب النار" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 128 الحديث رقم [328] تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 370، 371، الحديث رقم (521)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 1/ 134، الحديث رفم: (153)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

والشاهد من هذا الحديث برواياته المختلفة أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة لا تقصر على قوميَّة بعينها، وإنَّما هي أُمَّة متميّزة، ومن أهم خصائص تميُّزها عالميتها، وأن هذه العالمية تمتد إلى اليهود والنصارى، ولا يسعهم الخروج عنها لكونهم أهل كتاب، وإنَّما دخلوا في عموم خطاب الإسلام، فهم ابتداءً من أمة الدعوة باعتبارهم مقصودين بدعوة الإسلام (¬1)، وفي هذا دلالة واضحة على عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة. ج- وبالنظر إلى سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يلحظ أنَّ عموم رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- وعالميتها واضح من وقت مبكر ومن الأدلة على ذلك ما تفوه به -صلى اللَّه عليه وسلم- حين الجهر بالدعوة، فقد ورد في مصادر السيرة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حينما أمر بالجهر بالدعوة، ونزل عليه قول اللَّه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] جمع قومه وقال: "الحمد للَّه أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له" ثُمَّ قال: "إنَّ الرائد لا يكذبُ أهله، واللَّه لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم ولو غررت الناس ما غررتكم، واللَّه الذي لا إله إلَّا هو إني لرسول اللَّه إليكم خاصَّة وإلى الناس كافَّة. . . " (¬2). د- وأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّه مرسل إلى الناس كافَّة بل إلى الثقلين، وهو ما تواترت به أخبار السيرة، وعن ذلك يقول ابن تيمية: (فإنَّه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن رسالة محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجميع ¬

_ (¬1) انظر: مفهوم الأُمَّة فيما سبق من البحث. (¬2) الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد. . . 2/ 322، 223، تحقيق: عادل عبد الموجود وآخرون، (مرجع سابق)، وانظر: علي برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية: 1/ 459، (مرجع سابق)، والكامل لابن الأثير: 1/ 585، تحقَيق: أبي الفداء عبد اللَّه القاضي، عن دار الكلتب العلمية، الطبعة الثانية، 1415 هـ - 1995 م، بيروت، وانظر: أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب: 1/ 147، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ).

الناس؛ عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامَّة للثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأُمَّته من الدين. . .، بل لو كان الأنبياء المتقدمون أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته) (¬1). ومِمَّا يؤيد ذلك أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعمر -رضي اللَّه عنه- وقد عرض عليه بمكتوب من التوراة: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثُمَّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم. . . " (¬2)، وفي رواية أخرى: "لو أن موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان حيًّا ما وسعه إلَّا أن يتبعني" (¬3). هـ - وأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّته، إبان حفر الخندق: بأنَّ ملكها سيبلغ ما زُوِيَ له من الأرض، وقد وردت في هذه القصَّة روايات كثيرة يذكرها المؤلفون في دلائل نبوته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، ولعل من أصح تلك الروايات ما أخرجه الإمام مسلم من حديث ثوبان -رضي اللَّه عنه- أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّه زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وأنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيتُ الكنزين الأحمر والأبيض" (¬5). ¬

_ (¬1) ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، 11/ 422، 443، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . 3/ 471، الحديث رقم: (15437)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 4/ 513، 514، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . 3/ 387، الحديث رقم: (14736)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 4/ 376، 377، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي: أعلام النبوة: ص 127، 128، تحقيق: محمد شريف سكر، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، دار إحياء العلوم - بيروت. وانظر: أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة: ص 498، 499، (مرجع سابق). (¬5) صحيح مسلم 4/ 2215 الحديث رقم [2889]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

ففي هذا الحديث ذكر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ اللَّه جمع له الأرض، وأطلعه على مشارقها ومغاربها، وبشَّرَه بأن ملك أمته سيبلغ ما رآه منها، وأنه سيورث هذه الأُمَّة الإسلاميَّة ملك كسرى وقيصر، حيث فسَّر العلماء قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأعطيت الكنزينْ الأحمر والأبيض" بأن المراد بهما الذهب والفضَّة، وفيهما رمز لملك كسرى وملك قيصر (¬1). و- وفي قصة إسلام (عدي بن حاتم) أورد ابن إسحاق أنَّ عديًّا قال: (بعث رسول اللَّه، وكنتُ أشد الناس له كراهة -أو من أشد الناس- فلحقت بأقصى أرض العرب، من قبل الروم، وكرهتُ مكاني أشد من كراهتي الأمر الأول، فقلتُ: لآتين هذا الرجل، فلئن كان صادقًا لا يخفى عليَّ، ولئن كان كاذبًا لا يخفى عليَّ -أو لا يضرني، شك محمد- فقدمت المدينة، فاستشرفني الناس، فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم"، فقلت؛ إنَّ في دينًا، فقال: "أنا أعلم بدينك منك" (¬2). ويذكر تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن قال له الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل أتيت الحيرة؟ " فقلتُ: لا، وقد علمت مكانها، قال: "توشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، ويوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز" فقلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ فقال: "كنوز كسرى بن هرمز -مرتين- ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله، فلا يجد من يقبلها" قال: فقد رأيتُ الظعينة تخرج من الحيرة ¬

_ (¬1) انظر: محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث السابق: المرجع السابق نفسه 4/ 2215 (حاشية الصفحة). (¬2) سيرة ابن إسحاق: ص 267، 268، تحقيق: محمد حميد اللَّه، (مرجع سابق).

حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وقد كنت في أول جيش أغار على المدائن، وأيمُ اللَّه لتكونن الثالثة، إنَّه لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬1). وفي رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد جاء في قوله: "واللَّه ليُتِمَّنَّ اللَّه هذا الأمر" (¬2) من حديث خَبَّاب قال: (شكونا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا اللَّه -عز وجل-؟. . . قال: "قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل بنصفين، فما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظمة من لم أو عصب فما يصده ذلك عن دينه، واللَّه ليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من المدينة إلى حضرموت لا يخاف إلَّا اللَّه -عز وجل-، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬3). ز- ومن الأحاديث الصحيحة -في ذلك أيضًا- حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن فتح القسطنطينية، وأنَّه دعا بصندوق له حلق، وأخرج منه كتابًا ثُمَّ قال: (بينما نحن حول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نكتب؛ إذ سئل رسول اللَّه: أيّ المدينتين تفتح أولًا؟ قسطنطينية أو روميَّة؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مدينة هرقل أولًا، يعني: قسطنطينية" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 268. (¬2) مسند الإمام أحمد 6/ 395، الحديث رقم: (26675)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي، 7/ 542، (مرجع سابق). (¬3) بقية الحديث السابق: مسند الإمام أحمد: 7/ 542، الحديث رقم: (26675)، (المرجع السابق نفسه). (¬4) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد: 2/ 176، تحقيق: أحمد شاكر: 10/ 131، 132، الحديث رقم: (6645)، (مرجع سابق). وانظر: المرجع نفسه 2/ 174، الحديث رقم [6632]، وفيه "وفتح مدينة" قالوا: يا رسول اللَّه، أي مدينة؟ قال: =

ح- ومن الأحاديث الصحيحة الدَّالة على عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة ما أخرجه الإمام مسلم أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "تغزون جزيرة العرب، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ فارس، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ تغزون الروم، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ تغزون الدَّجَّال، فيفتحه اللَّه" (¬1). والحقيقة أنَّ ما ورد من الأحاديث الشريفة، وما تحدثت عنه مصادر السِّيرة النبويَّة الشريفة عن عالميَّة الإسلام وانتشاره من الكثرة بمكان، وقد جاء الواقع التاريخي مصدقًا لما أخبر به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومؤكدًا صدق رسالته وصحة نبوته، وقد اجتهد العلماء في مؤلفاتهم في القديم والحديث لإظهار هذا الجانب وهو جانب تدعمه الآيات القرآنية الصريحة، والأحاديث النبويَّة المفسرة والشارحة والمفصلة لأمور الإسلام وشؤون أُمَّته، والوقائع التاريخية المتظافرة، ولعل فيما تقدم من إيراد الآيات والأحاديث وبعض وقائع السِّيرة ما يبرز جانب التميُّز، ولعل من المناسب -أيضًا- إيراد بعض الأحداث التاريخية الأخرى التي تؤكد هذه الخصيصة، وخلاصتها في الآتي: أ- تكونت الأُمَّة الإسلاميَّة في بداية تاريخ السيرة النبوية وظهور الإسلام في مكة المكرمة من أجناس مختلفة، فكان منها علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد وإمامهم ومعلمهم وقائدهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وهؤلاء من سادة قريش وعلية مجتمعها، وكان يقف معهم على قدم المساواة بلال الحبشي، وصهيب الرومي، ¬

_ = "القسطنطينية"، ولكن في إسناده ضعف، كما ذكر المحقق. انظر: المرجع السابق نفسه: 10/ 116. (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 2225، الحديث رقم [2900]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

وسلمان الفارسي، مِمَّا يرمز إلى رابطة أخرى غير رابطة الجنس والوطن ونحوهما من الروابط الأخرى، وإنَّما قامت الأُمَّة على رابطة التقوى والإيمان باللَّه) (¬1). ب- ومِمَّا يؤكد مفهوم عالميَّة الإسلام: (ما قام به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ من إرسال الكتب، وبعث الرسل إلى من عاصره من ملوك وحكام، غير مستند في ذلك إلى قوته الماديَّة أو منعه جيشه إذ لم يكن يملك من ذلك [إلَّا الشيء القليل]. . . ولكنه كان يبشر بدعوة الخير، منطلقًا من يقينه بضرورة أن يشع نورها في أرجاء المعمورة فيمحو ظلام النفوس. . . ويعفي على فساد الواقع. . . معتمدًا قبل كل شيء على نصر اللَّه وتأييده) (¬2)، ومبلغًا رسالة ربه (¬3). ج- ومِمَّا يؤكد عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة مجيء الوفود إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة، قال ابن إسحاق: (لما افتتح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكَّة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه) (¬4). وقال ابن هشام: (إنَّ ذلك في سنة تسع، وأنَّها كانت تسمى سنة الوفود) (¬5)، وقد علل المؤرخون في القديم والحديث أسباب توافد العرب ¬

_ (¬1) انظر: موقف المستشرقين من عالميَّة تميز الأُمَّة الإسلاميَّة: في الصفحات (707 - 730) البحث نفسه. (¬2) محمد عقلة: الإسلام دعوة عالميَّة ونظام محكامل للحياة، مجلة المنهل، العدد [452]، رجب 1407 هـ: ص 8، (مرجع سابق). (¬3) للاطلاع على كتب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسله إلى الملوك والعظماء والجبابرة في عصره؛ انظر: موقف المستشرقين من عالمية تميز الأمَّة الإسلاميَّة: ص (715 - 718)، البحث نفسه. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام: 4/ 203، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه: 4/ 203.

إلى عاصمة دولة الإسلام لإشهار إسلامهم ومبايعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، والانضواء تحت مظلَّة الأُمَّة الإسلاميَّة وراية لا إله إلَّا اللَّه محمد رسول اللَّه، عللوا ذلك بسبب (سقوط مكة زعيمة الشرك بأيدي الفاتحين، وهزيمة التحالف الوثني الأخير في حنين [فكان ذلك] آخر ضربتين حاسمتين للوجود الوثني في جزيرة العرب، انهار بعدها جدار الكفر، وانطلقت حركة الإسلام بخفّة وسرعة، حيث أزيلت العوائق، إلى كل مكان، وأدركت القبائل العربية التي ظلت على وثنيتها ألَّا مناص لها من تحديد موقفها من الإسلام ودولته المتفردة بالحكم والسلطان في الجزيرة كلها، وأن عنادها وتشبثها بمواقفها السابقة فقد مبرراته بدخول مكة في الإسلام، وانتماء هوازن، أكبر القبائل الوثنية، للدين الجديد، فراحت هذه القبائل تتسابق في إرسال وفودها إلى المدينة قاعدة الإسلام، مبايعة على الإسلام أو مصالحة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكثرة هذه الوفود التي انهالت على المدينة في العام التالي لفتح مكة ومطلع الذي يليه، سماه المؤرخون "عام الوفود" (¬1)، (¬2). وواضح أنَّ هذا يتفق مع ما ذكره ابن إسحاق مؤرخ السيرة الأول، إذ قال: (وإنَّما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام-، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، وعرفت العرب أنَّه لا طاقة لهم بحرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا عداوته، فدخلوا في دين اللَّه كما قال اللَّه -عز وجل-: {أفواجًا} يضربون إليه من كل وجه) (¬3). ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 203، (المرجع السابق نفسه). (¬2) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص 257، (مرجع سابق). (¬3) السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 203، (المرجع السابق نفسه).

وتاريخ هذه الوفود وما اشتمل عليه من معان عميقة ودلالات ذات أبعاد واسعة، فيما يتعلق بعالمية الإسلام وأمته، مِمَّا أسهب العلماء في ذكره ودراسته وتفسير أحداثه ومتعلقاتها (¬1)، بيد أنَّ مِمَّا ينطوي عليه بصفة خاصَّة التأكيد على عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة، فقد وسعت قبائل وشعوب، وبلدان على الرغم مِمَّا كان بينها من الاختلافات، والتناقضات؛ على صعيد المصالح، وعلى سعيد الاتجاهات الفكريَّة، والتشريعية، والسلوكيَّة، وعلى الرغم مِمَّا تتسم به علاقاتُها من صراع واقتتال وتناحر وتناجز لأتفه الأسباب، وما كانت عليه من انحطاط، وتخلف في الثقافة والحضارة، وفي العقيدة والتصور، فإنَّ الإسلام صهرها في أُمَّة واحدة وأخرجها لتكون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بما لم يشهد له التاريخ مثيلًا، فدلَّ ذلك على خصيصة العالمية، وأنها إحدى خصائص تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة. د- ومن بين تلك الوفود بخاصّة نصارى العرب ممن كان منهم في جنوب الجزيرة أو شمالها، فقد كان لهم مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مواقف فيها الكثير من العبر، والدلائل على عالميَّة الإسلام والاعتراف بنبوة -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنَّه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنَّه هو الذي بشرت به كتبهم، وإذا كانت قصة عدي بن حاتم تشتمل على شيء من ذلك فإنَّ هناك شواهد أخرى من أبرزها: 1 - ما حدث من وفد نجران من مجادلة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومناظرته حول المسيح -عليه السلام-، وقد ذكر بعض المفسرين أن صدرًا من سورة آل عمران نزل بهذا الشأن (¬2)، وجاءت فيه آية المباهلة، ولكنَّهم أحجموا عنها، واختاروا ¬

_ (¬1) انظر: ابن قيم الجوزيَّة: زاد المعاد 3/ 595 - 687، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 343، (مرجع سابق).

لأنفسهم دفع الجزية، وكانوا -كما ذكر العلماء- أول من دفع الجزية في الإسلام (¬1)، وقصة ذلك مذكورة في كتب السيرة والتفسير وأسباب النزول. قال ابن كثير: (سورة آل عمران. . . مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة. . . . .) (¬2)، ثُمَّ قال في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} [آل عمران: 61]: (كان سبب نزول المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية، فأنزل اللَّه صدر هذه السورة ردًّا عليهم) (¬3). وبعد أن أورد ابن كثير تفاصيل ما حدث بينهم وبين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من مناظرة وجدال قال: (فأنزل اللَّه في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة اَل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. . .) (¬4)، وذكر ما كان من أمر مشورتهم فيما سمعوا من القرآن الكريم، وما وقفوا عليه من حقيقة نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن صاحب الرأي فيهم قال: (واللَّه يا معشر النصارى لقد عرفتم أنَّ محمدًا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمت أنه ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنّه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإنْ كنتم أبيتم إلَّا ألف دينكم والإقامة ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 1/ 170، تحقيق: علي بن حسن وآخرين، (مرجع سابق)، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 370، (مرجع سابق). (¬2) تفسير القرآن العظيم 1/ 343، (مرجع سابق). (¬3) تفسير القرآن العظيم 1/ 368، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: 1/ 368.

على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم) (¬1). والشاهد من هذا اعتراف وفد النصارى بنبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن المُسَلَّم به عندئذٍ الاعتراف بأصلين آخرين يتصلان بهذا الأصل؛ وهما: أنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنَّه بعث للناس كافَّة؛ لأن الاعتراف بنبوته يلزمهم أن يعترفوا بهذين الأصلين الاخرين لكون النبي لا يكذب، وهذا مِمَّا يسلمون به فلزم أن يصدقوه فيما قال من كونه آخر الأنبياء والمرسلين، وأنَّ رسالته عامَّة وشاملة (¬2). 2 - وحدث أنَّ (فروة بن عمرو الجذامي)، وكان ملك عرب الروم، وعاملًا لهم على من يليه من العرب، بعث برسوله إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، معلنًا إسلامه، وأهدى للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بغلة بيضاء، (وكان منزله (مَعَان) بأرض الشام، فلمَّا بلغ الروم ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، فلما اجتمعت الروم لصلبه. على ماء لهم يقال له: عفراء بفلسطين قال: بلغ سراة المسلمين بأنَّني ... سلم لربِّي أعْظُمِي ومقامي ثُمَّ ضربوا عنقه، وصلبوه على ذلك الماء يرحمه اللَّه) (¬3). هـ - وتوافدت القبائل مرة أخرى في حجة الوداع لملاقاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- والأخذ عنه أمور الإسلام ومناسك الحج وشعائر الدين، وقد كان أناب ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 1/ 368، ولقصتهم وما حدث لهم في شأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أوجه أخرى وردت في المصادر الإسلاميَّة؛ انظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 630، 636، (مرجع سابق). (¬2) انظر: حسن خالد: موقف الإسلام من الوثنية واليهودية والنصرانية: ص 562 - 580 الطبعة الأولى 1986، ومعهد الإنماء العربي - بيروت. (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية 4/ 234، 235، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 646، (مرجع سابق).

عنه في حجَّة العام التاسع للهجرة أبا بكر الصديق، وألحق به علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنهما- لنزول سورة (براءة) لإعلانها للناس في يوم الحج الأكبر (¬1)، وجاءت حَجَّة الوداع وقد علت كلمة اللَّه، واكتمل الدين، فالتقت الأُمَّة الإسلاميَّة برسولها -صلى اللَّه عليه وسلم- في سورة مثاليَّة، بعد أن أصبحت مصطبغة بعقيدة التوحيد، داخلة تحت لواء الشريعة الإسلاميَّة. يقول أحد المؤرخين عن هذه الصورة الجليَّة للأُمَّة الإسلاميَّة في حجة الوداع وعن دولة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: (حَجَّ في العام العاشر حجَّته الأخيرة على النظام الإسلامي، وحجَّ معه فيها ما يزيد على مئة ألف (¬2) لم يكن من بينهم مشرك واحد، وفي الفترة التي تقع بين إعلان (البراءة من المشركين) ووفاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- طبق الرسول (أمر البراءة) بحذر شديد وكياسة سياسية بارعة، وتجنب الاصطدام بالقبائل، ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم، ويرسل معهم عند عودتهم مسلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم، والواقع أن (إعلان البراءة) بوقف الوثنيَّة نهائيًّا، أمر لا يُمكن إدراك أبعاده، إلَّا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبها الحضاري و (الاستراتيجي) كضرورتين يرتبط بعضها ببعض، وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا. فأمَّا أولاهما: فهي أنَّ الوثنية، على خلف سائر الأديان الأخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشده إلى الحجارة، ويصده عن التقدم إلى الإمام، ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الأخرى في الوجود، ولو بقي ¬

_ (¬1) انظر: ابن هشام: السيرة النبويَّة: 4/ 187 - 190، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع: 1/ 512، تحقيق محمود محمد شاكر، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941 م.

العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه هذا أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه، ثُمَّ ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء. وأمَّا ثانيتهما: فتقوم على أن الدولة (العقيدية) التي أنشئت في قلب المنطقة العربية، وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله، هذه الدولة كان عليها أن تعتمد (استراتيجية) صارمة، واضحة المعالم من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة العربية، من جيوب الوثنية العربية، ومراكز القوى الجاهليَّة، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج الوحدة العقيدية والسياسية على السواء، لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجيَّة، حاشدة له جل طاقاتها. وهكذا يجيءُ إعلان (البراءة) نصرًا حضاريًّا واستراتيجيًا لدولة الإسلام، وهي تتهيأ للخطوة التالية في (تحضير) العالم و (جهاد) قياداته (الكافرة) جميعًا من أجل منح حريَّة الاعتقاد للإنسان حيثما كان) (¬1). ورُبَّما يصدق هذا الوصف على مظهر الدولة الإسلاميَّة في عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي عهودها الأخرى، حينما يُنْظَرُ إليها من خارج الأحداث، وتفسر بطريقة فلسفية، ولكن من ينعم النظر في طبيعة التشريع الإسلامي؛ في جوانبه العقدية، والسياسيَّة، والأخلاقيَّة، وغيرها؛ يلحظ أنَّ مجرى الأحداث فيه، تختلف عن تلك التفسيرات، التي رُبَّما تستقيم من وجه، ولكنها لا تستقيم من كل وجه؛ ذلك أنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أبلغ رسالات ربه، وفعل ما أُمِر به، وبالنظر إلى قضية (البراءة من المشركين)؛ يدرك الناظر أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أمَّرَ أبا بكر الصديق على الحج في السنة ¬

_ (¬1) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص 266 - 268، (مرجع سابق).

التاسعة، وبعد أن انطلق إلى حيث أمره، نزل أول سورة (براءة)، فألحق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- به عليًّا -رضي اللَّه عنهما-، مِمَّا يدل على عدم التخطيط المسبق من قبل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّما نزل الوحي بأمر جديد، وأسرع المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- في تنفيذه، كعادته في إجابة أمر ربه القائل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يتلقى أمر ربه فيهتدي به، ويسير في ضوئه منذُ بعثه اللَّه وحتى توفاه إليه، ولعل ما فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- في مبرك ناقته حين نزوله في المدينة، وقوله: "خلوا سبيلها فإنَّها مأمورة" (¬1) من الشواهد على ذلك؛ صحيح أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخبر عن أحداث ستقع ويعلم من الغيب ما علَّمَهُ اللَّه، ولكن لا يعني ذلك أن تفسير أحداث السيرة على نحو يصبغها بالعبقرية والسياسة وأساليب الحنكة والدهاء، وحقيقة تلك الأحداث مرتبط بالنبوة ومقتضياتها. وما حدث من ردَّة بعض قبائل العرب عقب وفاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وموقف أبي بكر الصديق منها وعدم مهادنته لهم، أو النظر إليها من منطلق الموازنة بين قدرة دولة الإسلام على مواجهتهم، والتغاضي عن بعض ما أوجبه عليهم الإسلام، بل التمسك بالمبدأ، مهما آلت إليه الأوضاع، ومهما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد بهذا اللفظ في الطبقات 1/ 160، (مرجع سابق)، ووردت ألفاظ كثيرة ذكرها الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد. .: 3/ 372، 373، وعزاها لكتب السنَّة، وأمَّا مبرك الناقة وإقامة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه عليه المسجد النبوي الشريف، فقد ورد عند البخاري من حديث عروة بن الزبير ومنه: (فسار يمشي معه الناس حتى بركت به راحلته عند مسجد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء اللَّه المنزل"، ثُمَّ دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه أن يقبله منهما هبةً حتى ابتاعه منهما، ثُمَّ بناه مسجدًا) الحديث. صحيح البخاري: 3/ 1421، 1422 الحديث رقم: (3694)، تحقيق: البُغاء، (مرجع سابق).

كانت النتائج، على الرَّغم مِمَّا أشار به عمر بن الخطاب، من التدرج معهم، ومهادنتهم (¬1)، إنَّ هذا الموقف مِمَّا يعزز ما سبقت الإشارة إليه من كون طبيعة الأحداث والمواقف في تاريخ الإسلام لها خصوصيتها ومنطلقها المشدود برباط الربانيَّة، والنظر في المستجدات وبحثها وفقًا للبحث عن مراد اللَّه فيها. غير أنَّه يُمكن القول بأنَّ ما أشار إليه الباحث في قوله السابق يؤكد منطلق عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال الناحيتين اللتين ذكرهما، وهما الوحدة العقيدية والوحدة السياسيَّة باعتبارهما أساس عالميَّة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وهذا ما أكده تطور الأحداث وامتدادها. وبالنظر لتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة منذُ أنْ أخرجها اللَّه للناس لتكون خير أُمَّة تؤمن باللَّه وتعلي كلمته وتطبق شرعه وتدعو لوحدانيته وطاعته، وجعلها بذلك شاهدة على الناس، انداحت دائرة امتدادها في مشارق الأرض ومغاربها من ذلك الحين وحتى العصر الراهن وإلى ما شاء اللَّه، وفي عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تكونت الأُمَّة الإسلاميَّة من أفراد من العرب والروم والفرس والحبشة -كما سبق الإشارة إلى ذلك- ثُمَّ خرجت دعوتها إلى نطاق عالمي، إذ وصلت إلى (آذان) المسؤولين في الدولتين الكبيرتين في آسيا وأوروبا، وإلى الحبشة ومصر وإفريقية) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 6/ 311 - 313، (مرجع سابق). وانظر: محمد حميد اللَّه: مجموعة الوثائق السياسية. .: ص 215 - 244، (مرجع سابق). وانظر: شوقي أبو خليل: في التاريخ الإسلامي: ص 223 - 228، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م عن دار الفكر - دمشق، وانظر: حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام (السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) 1/ 170، الطبعة [13] 1411 هـ - 1991 م، دار الجبل - بيروت. (¬2) عطية صقر: الدعوة الإسلاميَّة دعوة عالميَّة: ص 432، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م، مؤسسة الصباح للنشر.

وفي غضون بضعة عقود أصبحت الأُمَّة الإسلاميَّة؛ هي الأُمَّة العالميَّة التي دان لها الشرق والغرب أو كاد، واستظلت البشرية بحضارتها الزاهرة ردحًا من الزمن، تحررت فيها الضمائر والعقول، وراجت العلوم والمعارف، ثُمَّ دالت دولتها بسببٍ من ذاتها، وبسبب مكائد القوى المعادية لها، وما نالت من سيادتها، حتى تراجعت إلى الوراء، وغُلِبَتْ على أمرها، وفرض عليها التخلف والحرمان، إلى درجة غير معقولة، ومع ذلك (فإنَّ الإسلام بمبادئه السامية، وتشريعاته الملائمة وجد له أعوانًا وأنصارًا وقلوبًا في كل جهات العالم، وأن البيئات التي وجدوا فيها لم تكن حائلة دون تطبيق تعاليمه، وأن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم لم تقف حائلًا دون اعتناق هذا الدين، والتفاعل مع مبادئه، كان له في بعضها تاريخًا قديمًا لازمها قرونًا عدَّة لم تزده الأيام إلَّا قوة في نفوسهم واعتزازًا به، وهذا من أكبر الأدلة على عالميَّة الإسلام وحيويته واتفاقه مع جميع الحاجات البشرية، فكل الجماعات الإنسانية التي جاء لينظمها ويسمو بها، دون النظر إلى الحواجز التي أقامها الناس فكانت سببًا في متاعبهم وآلامهم التي لن تنتهي إلَّا إذا عادوا إلى الأوضاع الصحيحة التي فطر اللَّه الإنسان عليها) (¬1). وتبقى جوانب أخرى تعد من دلائل عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة يأتي الحديث عنها في: * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 456، وانظر: حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 1/ 129 - 141، (مرجع سابق).

دلائل عالمية الأمة الإسلامية، من العقيدة والنظم

دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم تناول البحث في النقاط السابقة دلائل عالميَّة الإسلام وأمته من خلال نصوص الكتاب والسُّنَّة، وبعض أحداث السيرة النبويَّة والتاريخ الإسلامي، وهناك دلائل أخرى لها أهميتها في عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة، وتعد بمثابة الموجّهات الذَّاتيَّة لتلك العالمية باعتبارها من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، من أبرزها الآتي: أ- تلك العقيدة الميسورة التي ترتكز على فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، وكانت قدرًا مشتركًا في بني آدم بعامَّة، وما تشتمل عليه من هداية وعلم وسعادة دونما تعقيد فلسفي ولا وسائط بين العبد وربه فهي عقيدة (عامَّة وشاملة وواضحة، تراعي في الإنسان فطرته وقدراته وإمكاناته، وتسعى لتوجيهه في حياته كفرد، ولتوجيهه إلى كيفية التعامل مع بني جنسه، ومع جميع مظاهر الكون الأُخرى حتى تتحقق في النهاية سعادة الإنسانية أفرادًا وجماعات، فالعقيدة يجب أن توضح للإنسان فكرة الوجود؛ وجود الخالق ووجود المخلوق حتى تلبي حاجة الإنسان الملحة في معرفة خالقه، والتي تساءل الإنسان عنها منذ خلق، كذلك يجب أن تهتم العقيدة الموصوفة بالشموليَّة بجميع جوانب الإنسان الروحيَّة والماديَّة. . وإذا كان المراد من العقيدة هو الاهتمام بالإنسان وضبطها لسلوكه؛ فإن أهم ميزة يجب أن تنعت بها هي ألا تكون نظرية بحتة لا تتصل بالواقع ولا تتفاعل معه؛ لأن ذلك يجعلها بعيدة عن الواقع العملي وغير ميسورة التطبيق، واعتمادًا على ما تقدم يُمكن أن نقرر أن العقيدة الإسلاميَّة هي عقيدة شاملة وعامَّة، ذلك لأنها تخاطب في الإنسان فطرته التي خلق عليها، وحققت له

نظامًا دقيقًا لحياته، وأجابت عن كل تساؤلاته الروحيَّة والعقلية، واهتمت بتربية عقله وفكره ووجدانه) (¬1). بل إنَّها حررت الإنسان من الخرافات والوهم، وربطته بربه في ضوء منهج أصيل يغذي عقله وروحه ويزكيه، ويضع عنه أغلال الجهل والشر والشقاء، لذلك كانت العقيدة الإسلاميَّة المرتكزة على الفطرة والتوحيد والإيمان والإحسان عقيدة غير محصورة في جنس أو زمان أو مكان، وإنَّما هي مرتكز لوحدة عالميَّة تتسع جميع المكلفين (¬2). ب- وتلك الشريعة الربانيَّة الغراء التي جاءت نظامًا عالميًّا شاملًا عامًّا: (أتى بالمبادئ التشريعية والخلقيَّة التي تسمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال، جاء من عند اللَّه عامًّا لكل أجناس البشر جنّهم وإنسهم، لا يختص بقوم دون قوم، أو جيل دون جيل، موجه إلى الناس كافَّة باعتبار إنسانيتهم التي ميَّزهم اللَّه بها عن سائر الحيوان، يحقق مصالحهم في كل عصر ومصر، ويفي بحاجاتهم، ولا يضيق بها، ولا يتخلف عن أيِّ مستوى عال يبلغه أيُّ مجتمع من المجتمعات، ومع عموميَّة التشريع الإسلامي فإنَّه شامل كذلك لكل جوانب الحياة، ومناحي الاجتماع، لم يترك شاردة ولا واردة إلَّا ذكر فيها خبرًا أو شملها حكمًا، أو أدرجها تحت أصل أو قاعدة، فالشريعة الإسلاميَّة منذُ نشأتها الأولى كذلك رسالة للعالمين طبيعتها عالميَّة شاملة، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة، وغايتها نقل هذه ¬

_ (¬1) محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه: ص 20، 21، (مرجع سابق)، وانظر: ص 321 - 330 (البحث نفسه). (¬2) انظر: ص 321 - 330 (البحث نفسه).

البشرية كلها من عهد إلى عهد، ومن نهج إلى نهج عن طريق مصدرين أساسين هما: القرآن الكريم، وسنّة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وخلاصة القول: أنَّ من أهم خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة خصيصة العالميَّة، وهي ما درج العلماء على تسميته (بالعموم والشمول)، وهو ما أجمله ابن قيم في قوله: (وعموم رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- في كل ما يحتاج إليه العباد، في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنَّه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنَّما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة للمُرْسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بُعث إليه في أصول الدين وفروعه؛ فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلَّا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأُمَّة في علومها وأعمالها عمَّا جاء به) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) صالح بن غانم السدلان: حتمية تطبيق شرع اللَّه في الأرض، مجلة البحوث الإسلاميَّة العدد (29)، لذي القعدة وذي الحجة 1410 هـ ومحرم وصفر 1411 هـ: ص 180، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 4/ 285، 286، 287، (مرجع سابق). (¬2) أعلام الموقعين 4/ 285، (المرجع السابق نفسه).

موقف المستشرقين من خصيصة العالمية

موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة تختلف آراء المستشرقين ومواقفهم حول هذه الخصيصة من خصائص تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، فمنهم من أقرَّ بها، مثل (جولدزيهر) (¬1) و (سيرتوماس أرنولد) وغيرهما (¬2)، ومنهم من أنكرها، ومنهم من أقرَّ بها، ولكنه نفى أن يكون الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فكر فيها أو عمل لها، وإنَّما أفضت إليها حركة الأمَّة الإسلاميَّة التاريخية، ومنهم من تأرجح بشأنها، قائلًا: لا يُمكن إثباتها أو نفيها، فهناك نصوص تثبتها ودلائل تؤكدها، وهناك نصوص أخرى تدل على عكس ذلك. ويعرض هذا المطلب بعض آراء منكري هذه الخصيصة واستدلالاتهم سواء الذين أنكروها البتَّة، أو أنكروها كخصيصة تميّز بها الإسلام من حيث المبدأ وطبيعته الذَّاتيَّة، أو تأرجحوا بشأنها. أمَّا الذين اعترفوا بها فسيجري الاستشهاد بأقوالهم في سياق الردود على المنكرين، وتفصيلُ ذلك وفق الآتي: أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها: أ- زعم (فنسك): (أن دعوة الإسلام خاصة بالعرب)، وحُجَّتُه في ذلك أنَّ (الرسول عربي، وظهر في جزيرة العرب، والقرآن عربي، وأحكامه عربية، ويجري العمل به في بلاد العرب، والدعوة ظهرت في ¬

_ (¬1) اعترف (جولدزيهر) بعالمية الإسلام على الرغم من مزاعمه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة، ولكنه لا يجد حرجًا أن يكون الإسلام عالميًا وهو من وضع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس وحيًا من عند اللَّه. انظر: جميل عبد اللَّه المصري: دواعي الفتوحات الإسلاميَّة ودعاوى المستشرقين: ص 31، الطبعة الأولى، عن دار القلم - دمشق، والدار الشامية - بيروت، 1411 هـ - 1991 م. (¬2) انظر: العقاد: الإسلام دعوة عالمية: ص 129، (مرجع سابق).

بلاد العرب) (¬1)، ويخلص من هذا إلى نتيجة محدَّدة هي (أنَّ الإسلام خاصٌّ بالعرب) (¬2). واستدل (فنسك) على دعواه بعدّة آيات من القرآن الكريم زعم أنها تؤكد ما ذكر، منها قول اللَّه -جَلَّ وعَلَا-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. فهذه الآيات من وجهة نظره تؤكد خصوصية الإسلام لكون القرآن الكريم نزل باللغة العربية موجهًا إلى أم القرى ومن حولها، ويستدل بآيات أخرى يرى أنها تدل من وجهة نظره على أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عربي وبعث في أُمَّة عربية، منها قول الحق تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، وقوله جَلَّ وعلا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة: 151]، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. أمَّا الرد على هذا الزعم الذي قرره (فنسك) فمن وجوه عِدَّة من أبرزها الآتي: 1 - هناك آياتٌ أخرى وأحاديث كثيرة تدل على عالمية الإسلام، كقول اللَّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {قُل ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد أمين حسين: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 199، الطبعة الأولى 1403 هـ، عن مكتب المنار - الأردن، وانظر: محمد الراوي: عالمية الدعوة: ص 53، عن الدار العربي - بيروت. (¬2) انظر: محمد أمين حسين: المرجع السابق: ص 199.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] (¬1)، فهذه الآيات وغيرها ذكر ابن كثير أنها: (خطاب للناس جميعًا الأحمر والأسود، العربي والعجمي، وهذا من شرفه وعظمته -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه خاتم النبيين، وأنّه مبعوث إلى الناس كافة) (¬2). وقال الألوسي في ذلك: (أمر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن يصدع بما فيه تكبيت لليهود الذين حرموا أتباعه، وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسل إلى العرب خاصة. . ببيان عموم رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي عامَّة للثقلين) (¬3). ومن الأحاديث الشريفة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي" (¬4) وذكر منها: "وبعثتُ إلى الناس عامَّة"، ومنها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلَّا كان من أصحاب النار" (¬5). يقول الشوكاني في تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الآية: (بعث اللَّه محمدًا صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى الأحمر والأسود، فقال: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة) (¬6). ومن السنَّة -أيضًا- ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم قال: (بينا أنا ¬

_ (¬1) والغريب في أمر (فنسك) أنَّه اجتزأ آخر هذه الآية عن سياقه، وسياقه جاء خطابًا للناس جميعًا بأن النبي الأمي الذي يؤمن باللَّه وكلماته مرسلًا لجميع الناس وأن عليهم اتباعه. (¬2) تفسير القرآن العظيم: 2/ 255، (مرجع سابق)، وانظر: البيضاوي: أنوار التنزيل 1/ 363 (مرجع سابق). (¬3) روح المعاني 9/ 82، (مرجع سابق). (¬4) سبق تخريجه؛ ص 686، (البحث نفسه). (¬5) سبق تخريجه؛ ص 686، (البحث نفسه). (¬6) فتح القدير: 2/ 255، (مرجع سابق).

عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثُمَّ أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ " قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: "فإنْ طالت بك حياة، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ ترتحلُ من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلَّا اللَّه" -قلتُ فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيءٍ الذين قد سعروا البلاد- "ولئن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوزُ كسرى". قلتُ: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الرجلَ يخرجُ ملءَ كفه من ذهب أو فضَّة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه، ولَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أحدُكم يومَ يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولنَّ: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك، فيقول: بلى. . . " الحديث (¬1). 2 - وإلى جانب هذه النصوص من الكتاب والسنّة وغيرها هناك دلائل متنوعة منها ما يتعلق بطبيعة الإسلام من حيث عقيدته وشريعته وأخلاقه وقيمه التي تميّزت بالعالميَّة، ومنها تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة المجيد الذي كانت العالميَّة من الخصائص المميِّزة لهذه الأُمَّة فقد اشتملت على جميع الأجناس ومختلف الفئات وانتشرت في أصقاع المعمورة، واستمرت مع كر الجديدين متألقة متفردة (¬2). فكيف ساغ لـ (فنسك) وأضرابه أن ينسوا كلَّ هذه الحقائق، ويحصروا أنفسهم في دائرة الاجتزاء وإغفال هذا الواقع الذي لا يحتاج إلى دليل. وليس يصح في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النهار إلى دليل (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 3/ 1316، 1317، الحديث رقم: (3400)، ترتيب: البغا، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المطلب السابق. (¬3) لأبي الطيب المتنبي من قصيدة مطلعها: أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر ما عانيتُ قيلي =

3 - ومن ناحية أخرى فإنَّ ما استدلَّ به (فنسك) من آيات موجَّهة إلى العرب فيما بدا له من ظاهرها عالميَّة الإسلام؛ وفي هذا يقول العقاد: (وإذا كان عرب الجاهليَّة قومًا لم يأتهم نذير من قبل فالدين الذي جاء به صاحب الدعوة المحمديَّة يعم المتدينين الذين سبقت إليهم الرسل، ويقوم النبي العربي بالدعوة إليه ليظهره على الأمر كله) (¬1)، ثُمَّ يستشهد يقول اللَّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]. كذلك مهما كان القول في اللغة التي خاطب بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس فإنَّ العبرة بكونه خاطب الناس كافَّة، أم القرى ومن حولها، ولا يُمكن أن تعزل الهداية عن غير أهل أم القرى (¬2). وعن هذا قال العقاد أيضًا: (إذا كان خطاب الناس كافَّة يمنع أن يكون الخطاب مقصورًا على أمِّ القرى ومن حولها، فإنَّ خطاب أم القرى ومن حولها لا يمنع أن يعم الناس أجمعين) (¬3). 4 - وثَمَّة ناحيةٌ ثالثة قد لا يسَلِّمُ بها بعض المستشرقين ولكنها حُجَّة عقليَّة دامغة، وهي: (كيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمديَّة خاتم النبيين إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل من نذير) (¬4). 5 - وإذا كان بعض المستشرقين يعترف بأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلٌ إلى ¬

_ = انظر: ناصيف اليازجي: العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب 2/ 142، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م، عن دار بيروت، بيروت. (¬1) الإسلام دعوة عالمية: ص 130، 131، (مرجع سابق). (¬2) انظر: العقاد: المرجع السابق نفسه: ص 131. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 131. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 131.

العرب فإنَّه (يلزم من تصديقهم بذلك أن يصدقوا ما جاء به من دعوة عامَّة وشاملة للعالمين) (¬1). ب- وبلغ الأمر ببعض المستشرقين بقصد نفي عالميَّة الإسلام أن يعمَدَ إلى التحريف في الآيات القرانية التي وجَّهت الخطاب إلى الناس بعامة، وللمثال على ذلك فإنَّ (جورج سيل) ترجم قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} بقوله: (يا أهل مكة) (¬2). ولا شك أن مثل هذا العمل ينم عن مجافاة واضحة للمنهجية والموضوعية والعلميَّة لدى (جورج سيل) وأمثاله من المستشرقين، ويؤكد ما ذكر من أن المنهجيَّة الاستشراقية في دراستها للإسلام تحدد الفكرة ابتداءً ثُمَّ تبحث عن أدلة تؤيدها، فإذا لم تجد لجأت إلى التحريف والتبديل، وليس قول (جورج سيل) هذا إلَّا أحد الشواهد الدّالّة على ذلك (¬3). ج- وعَمَدَ بعض المستشرقين لتقرير دعواهم إنكار عالميَّة الإسلام إلى إنكار رسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسائله إلى الملوك والعظماء في عصره المجاورين لدولة الإسلام من الأكاسرة والأقباط والروم وغيرهم، (ولقد اتكأ بعضهم في إنكاره على ما في الروايات ونصوص الرسائل المرويَّة من ثغرات) (¬4). ولعل مِمَّا أُخِذَ على (توماس أرنولد) -الذي يعترف بعالمية الإسلام- ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 1/ 164، (مرجع سابق)، وانظر: الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد: ص 127، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م، عن دار الكتب العلمية، بيروت، وانظر: ص 696 - 697، (البحث نفسه). (¬2) انظر: محمد دياب: أضواء على الاستشراق: ص 52، (مرجع سابق). (¬3) انظر: عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر. .: ص 147، (مرجع سابق). (¬4) محمد عزّة دَرْوَزة: القرآن والمبشرون: ص 289، الطبعة الأولى 1392 هـ - 1972 م، عن المكتب الإسلامي.

أنَّه رُبَّمَا تأثر بهذه الثغرات إذ عبَّر في سياق استشهاده بتلك الرسائل على عالميَّة الإسلام بقوله: (لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل إن للعالم أجمع نصيبًا فيها. . . ولكي تكون هذه الدعوة عامة، وتحدث أثرها المنشود في جميع الناس وفي جميع الشعوب، نراها تتخذ صورة عمليَّة في الكتب التي قيل أن محمدًا بعث بها في السنة السادسة من الهجرة) (¬1)، فقد عبَّر (توماس أرنولد) بقوله: (قيل) التي تفيد التضعيف أو التشكيك، مع أنّه مقرٌّ بعالمية الإسلام وردَّ ردًّا قويًّا على منكري عالمية الإسلام بما ذكره في سياق كلامه. أمَّا غالبية المستشرقين فإنهم لتأكيد إنكارهم عالمية الإسلام أنكروا أن يكون الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بعث برسله ورسائله إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة، ومنهم (مرجليوث) الذي (ادعى أن الرسول لم يوجه أي كتاب للملوك والأمراء خارج الجزيرة) (¬2)، و (موير) فإنَّه يقول: (لم يوجه الرسول دعوته منذُ بعث إلى أن مات إلَّا للعرب دون غيرهم) (¬3). وأنكر (برنارد لويس) في كتابه: السياسة والحرب في الإسلام: (أن يكون الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أرسل الكتب والرسائل إلى الأمراء والملوك الذين عاصروه بحجة عدم العثور على ما يدل على شيء من ذلك في الوثائق التي خلفها هؤلاء) (¬4). ¬

_ (¬1) الدعوة إلى الإسلام. . . ص 48، 49، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرين، الطبعة الثالثة، 1971 م، عن مكتبة النهضة المصرية - القاهرة 1970 م، وانظر: محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام: ص 31، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: نذير حمدان: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين: ص 164، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 164. (¬4) انظر: جميل عبد اللَّه محمد المصري: دواعي الفتوحات الإسلاميَّة ودعاوى المستشرقين: ص 31، (مرجع سابق).

ويرد على هذه الأقوال من وجوه أبرزها: 1 - إن تلك الكتب أو الرسائل والرسل التي بعث بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء المجاورين لدولة الإسلام، سواء في داخل الجزيرة أو مخارجها حدث تاريخي (مدون في أقدم كتب السيرة التي وصلت إلينا ولم يكن هناك أيَّة ضرورة دينيّة أو سياسيّة تحمل أحدًا في القرن الأول والثاني على اختراع خبر هذا الحادث وروايته وتدوينه) (¬1). وقد اعترف بها بعض المستشرقين مثل (إميل درمنغم) في قوله: (ثُمَّ بعث النبي السرايا فدانت للإسلام قبائل كثيرة، ثُمَّ أرسل الكتب إلى الملوك والأمراء الأجانب) (¬2). وكتب المستشرق (د، م، دنلوب) إلى محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي بأنَّه ظفر بأصل الكتاب الذي بعثه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى (النجاشي)، وأنَّه سينشر ¬

_ (¬1) محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 289، (مرجع سابق). (¬2) حياة محمد: ص 335، (مرجع سابق)، ولمعرفة مصادر هذه الكتب والرسائل والوقوف على نصوصها؛ انظر: محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة: ص 29 - 50، ص 57 - 108، (مرجع سابق)، وقد استعرض في هذه الصفحات وصفحات أخرى حتى الصفحة ص 226 جملة من الكتب والرسائل والعهود التي كتبها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأرسلها إلى الملوك والأمراء المجاورين لدولة الإسلام وكذلك ما أرسل إليه من إجابات على رسله ورسائله تلك، وأورد مصادر تلك الوثائق وصورًا لما وجد منها، وذكر أماكن حفظها في العالم، وانظر: عبد الجبار محمود السامرائي: الرسائل التي بعث بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملوك الدول المجاورة، مجلة الفيصل العدد [55]: ص 71 - 81، (مرجع سابق)، وقد تطرق لذكر وجهات نظر بعض المستشرقين حول صحة تلك الرسائل، وصحة ما حُفِظَ منها حتى العصر الحديث، وذكر ممن زعم بأنها مزورة من المستشرقين (بيكر، وأملينو، وكرابجك، وكيتاني، وفيت، وشفالي).

صورته الشمسية في مجلة الجمعية الملكية الآسيائية (GRAS) الإنجليزية (¬1). إنَّ مثل هذه الشواهد والتحقيقات تسقط حجّة (برنارد لويس) التي تنفي العثور على ما يدل على شيء من تلك الرسائل التي بعثها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء الذين عاصروه، وتكشف دخل تلك المنهجيَّة الاستشراقية التي تنفي حقائق التاريخ ومسلماته بالآراء العارية عن الأدلة الناصعة، والتي لا تعدو كونها مجرد الاحتكام للأهواء والتعصب الأعمى. 2 - ويتصل بما سبق ما جرى من أحداث أخرى مثل توجيه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- سريَّة (زيد بن حارثة) (¬2) لقتال بني جذام لما حدث منهم (لدحية الكلبي) وهو في طريق عودته من هرقل (¬3). ومثل تجييش الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- جيش مؤتة بقيادة (زيد بن حارثة) أيضًا لما حدث من (عمرو بن شرحبيل) إذ قتل (الحارث بن عمير) رسول اللَّه رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملك (بصرى) (¬4). (ومثل قدوم (مارية القبطية) وأختها من مصر هدية من المقوقس، وقد تسرى النبي بأولاهما وأولدها ابنه إبراهيم، وهذه حقيقة يقينيَّة) (¬5). ومثل (إسلام (باذان) عامل كسرى على اليمن. . .) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: مجموعة الوثائق السياسية. . . (المرجع السابق نفسه) ص 30، 31. (¬2) انظر: محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 288، (مرجع سابق). (¬3) انظر: محمد عزة دروزة: المرجع السابق: ص 228. (¬4) انظر: محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 288. (¬5) انظر: محمد رزق اللَّه أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص 520، 521، (مرجع سابق)، وقد تقصَّى مصادر هذا الحدث وما يتصل به ويماثله في معظم كتب السنة والسيرة والتراجم، وانظر: المرجع نفسه: ص 513 - 525. (¬6) محمد عزة دروزة: المرجع السابق نفسه: ص 288، 289.

وما ورد حول هذه الأحداث التاريخية ونحوها من قصص تؤكد عالميَّة الإسلام، وكونها من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة (ومهما أحاط بها من زيادة أو نقصان في سياق الروايات وتفاصيلها وتواريخها ونصوصها وأسماء أعلامها، فإنَّ كل ذلك لا ينهض لتكذيب الحادث، بل الثابت أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عقب هدنة الحديبية مع قريش وما أعقبه من انتصارات على اليهود، ونزول بعض الآيات التي أمرت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بنشر دعوته في الناس) (¬1) كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. وعلى الرغم مِمَّا أورده المفسرون حول زمن نزول هذه الآية إلَّا أن ابن كثير رجَّحَ أنها مدنية ومن أواخر ما نزل بالمدينة، إذ قال: (والصحيح أنّ هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها، واللَّه أعلم) (¬2). فمن الثابت أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (بادر إلى إبلاغ دعوته ورسالته إلى من هم خارج بيئته الخاصة) (¬3)، والمرجح أن ذلك حدث عقب (صلح الحديبية مع قريش وما أعقبه من انتصارات على اليهود) (¬4)، وكان الوقتُ مناسبًا لإبلاغ الناس بعامّة رسالة الإسلام، ولعل في قول اللَّه تعالى في نهاية الآية السابقة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] ما يدلّ على صحة ما تقدم ذكره، وقد قال ابن كثير في تفسيرها: (وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: بلغ أنت واللَّه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 289. (¬2) تفسير القرآن العظيم 2/ 79، (مرجع سابق). (¬3) محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 289، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 289. (¬5) تفسير القرآن العظيم 2/ 79، (المرجع السابق نفسه).

ثانيا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأمة الإسلامية على الرغم من الإقرار بها تاريخيا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مما يأتي

من هذا كلّه تتضح عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة من حيث مبادئها ومن حيث تاريخها، وأنَّ خصيصة العالميَّة ملازمة لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة في جميع أطوارها. ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي: أ- ادعى (موير) بأنَّ عالميَّة الإسلام (قد جاءت فيما بعد، وأنَّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنَّه فكر فيها، فقد كانت الفكرة غامضة، فإنَّ عالمه الذي كان يفكر فيه إنَّما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيأ إلَّا لها) (¬1). ويواصل مزاعمه قائلًا: (نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك، فإنَّما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج) (¬2). أمَّا الرد على (موير) فإنَّه من وجوه كثيرة، من أبرزها النصوص والأدلة التي ذكرتُ سابقًا، ويضاف إليها الآتي: 1 - إن قول (موير) بأنَّ نواة العالمية قد غرست يناقض ما ذهب إليه من قوله بأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يفكر فيها، وهذا الزعم يناقضه أيضًا اعترافه ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد دياب: أضواء على الاستشراق. . . ص 52، 53، (مرجع سابق)، وانظر: العقاد: الإسلام دعوة عالمية: ص 128، 129، (مرجع سابق)، وانظر: سير توماس آرنولد: الدعوة إلى الإسلام: ص 50، (مرجع سابق). (¬2) محمد دياب: المرجع السابق نفسه: ص 53. وانظر: محمد أمين حسن: خصائص الدعوة الإسلامية: ص 201، (مرجع سابق).

بالآيات الكثيرة، وكذلك الأحاديث الكثيرة التي تؤيدها، فإذا كان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- المبلغ عن اللَّه هو الذي نطق بالآيات والأحاديث المؤيدة للعالميَّة فكيف يتسنّى لـ (موير) أو غيره أن ينفي عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كونه فكَّرَ في عالمية الإسلام (¬1). إنَّ مثل هذه الآراء لا تقوم بها حُجَّة ولا يقبلها العقل والمنطق. وإذا كان (موير) يقصد من قوله هذا؛ إنَّ دعوة الإسلام مرت بمراحل لم تظهر العالميَّة في بدايتها، فإنَّ ذلك أمر طبيعي تقتضيه السنن الكونية والاجتماعية، ولكنه فسَّرَ هذا بأنه (يرجع إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والبرامج) (¬2)، وهنا يلحظ البون الشاسع بين هذا المستشرق ¬

_ (¬1) أورد ابن سعد في طبقاته أقوالًا عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تبين عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة منها قوله عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا سابق العرب"، "صهيب سابق الروم"، "سلمان سابق فارس"، "بلال سابق الحبشة". في مواضع متفرقة من الطبقات؛ انظر: المرجع نفسه: 1/ 18، 3/ 169، 3/ 174، 4/ 62، بتحقيق: محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م، عن دار الكتب العلمية، بيروت، وانظر: ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق: 6/ 446، بتحقيق: عبد القادر بدران، (مرجع سابق)، وانظر: أبا نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء. .: 1/ 149، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة (بدون تاريخ)، وانظر: ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 3/ 255، الترجمة رقم: (4099)، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت (بدون تاريخ)، ولفظ الحديث لدى الحاكم: "السباق أربعة: أنا سابق العرب، وسلمان سابق الفارس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم"، المستدرك 3/ 285، الحديث رقم: (5243/ 841) بترتيب: مصطفى عبد القادر عطا: 3/ 321، (مرجع سابق)، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. (¬2) نقلًا عن: سير توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام. . . ص 50، (مرجع سابق)، وانظر: محمد أمين حسن: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 201، (مرجع سابق)، وانظر: جميل المصري: دواعي الفتوحات الإسلاميَّة. . . ص 32 - 38، (مرجع سابق).

وبين طبيعة الإسلام وخطوات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في تبليغه، إذ ينطلق -هذا المستشرق- في تفسيره للإسلام من بيئته هو وكأنه يتحدث عن رئيس حزب أو جمعيَّة أو نحو ذلك، وليس عن نبي مرسل يحكمه الوحي في كل خطوة يخطوها، ويجلّي ذلك ما في الكتاب والسنة في حجة الوداع، فقد نزل فيها قول اللَّه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وخطب فيها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قائلًا: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلَّا بالتقوى، أبلغتُ؟ قالوا: بلغ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . إلى أن قال: ليبلغ الشاهد الغائب" (¬1). إنَّ من ينظر في هذا يجد أنَّ دعوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سارت (حسب الطريق الذي رسمه له رب العزّة والجلال، في تبليغ دعوته، حيث إنَّه بدأ بدعوة أقرب الناس إليه، ثُمَّ أخذ يتدرج، فبعد أن دعا قريشًا قام بدعوة من جاورها، وذلك عندما ذهب إلى الطائف لدعوة أهلها، بعد أن أبت قريش الاستجابة له ومناصرته، وبعد عودته من الطائف أخذ (يعرض دعوته) على جميع القبائل التي تحضر الحج، وتجتمع في أسواق مكة، ثمَّ نقل دعوته إلى المدينة بعد أن هيأ اللَّه الأسباب لذلك، وفي المدينة سارت الدعوة في طريقها (إلى العالم أجمع) وراح الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يزيل العقبات التي تعترض ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 411، الحديث رقم: (22978)، 6/ 570، بترتيب دار إحياء التراث العربي، (مرجع سابق)، وأخرجه البيهقي في سننه 4/ 289، رقم الحديث [5137]، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار الكتب العلمية - لبنان. والحديث لديه عن جابر بن عبد اللَّه بلفظٍ قريب مِمَّا أخرج الامام أحمد بيد أنه قال: (وفي هذا الإسناد من يجهل).

طريقها، ثُمَّ قام بمكاتبة الملوك ودعوتهم إلى الإسلام، وهكذا تدرجت الدعوة حتى بلغت لأهل الأرض) (¬1). والسؤال هنا ألا يجد (موير) في هذا التاريخ وفي هذه السيرة معنى للخطط والبرامج قد يختلف معه المؤمنون في أصل الإيمان بأنَّ هذا كله مكتوب بما يفي بالخطط والبرامج التي يقصدها، ولكن ذلك في اللوح المحفوظ، وأجراه اللَّه في واقع التاريخ على يد سيد الخلق وصفوة الأنبياء والمرسلين وخاتمهم محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. 2 - إن هناك دلائل أخرى صاحبت سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- منذُ البعثة وحتى انتقل إلى الرفيق الأعلى تدل على عالميَّة الإسلام، وإذا كان (موير) ينفي تلك العالميَّة استنادًا إلى سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل الهجرة وبعدها إلى حين صلح الحديبيَّة أو ما أعقب ذلك من انتشار الإسلام، فإنَّ من أبرز الدلائل على عالميَّة الإسلام وقبل أن يهاجر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة المنورة القصص التاريخية الواردة في كتب السيرة (¬2) والتاريخ كقصة (ورقة بن نوفل) و (النجاشي) ملك الحبشة، والراهب (بحيرى) و (نسطورا) و (عدَّاس)، فلكل واحدٍ من هؤلاء مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أو مع خبر بعثته قصة تدل على عالمية رسالته -صلى اللَّه عليه وسلم- وكانت كلها قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة (¬3). وبعد أن هاجر حدثت له قصصٌ أخرى مثل إسلام (سلمان الفارسي) ¬

_ (¬1) محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية. . . ص 228، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية: 1/ 216، 217، 270، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (مرجع سابق)، وقد أورد ابن هشام من دلائل نبوته -صلى اللَّه عليه وسلم- الشيء الكثير، ومنها ما يدل على عالميَّة الرسالة مثل أخذ الميثاق على الرسل بالايمان به -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ انظر: ص 263 وما قبلها وما بعدها، (المرجع نفسه). (¬3) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 212، 213، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: الروض الأنف 1/ 211، 212، (مرجع سابق)، وانظر: ص 650 - 651، (البحث نفسه).

وإسلام (عبد اللَّه بن سلام) وقصة (مخيريق) ونحو ذلك مِمَّا هو مبسوط في المصادر الإسلاميَّة (¬1)، وفي هذا دلالة صريحة على أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يعلم بأنَّه مرسل إلى الناس كافَّة بل إلى الثقلين الجن والإنس، وكان عندما يعرض نفسه على القبائل يعلنها صريحة (بأنَّه مرسل إلى الناس كافَّة) (¬2)، بل ورد ذلك في خطبته الأولى في الإسلام حينما أمره اللَّه -عز وجل- بالجهر بالدعوة فقال: "واللَّه الذي لا إله إلَّا هو، إني رسول اللَّه إليكم خاصة وإلى الناس كافَّة" (¬3). ب- زعم (يوليوس فلهوزن) بأنَّ الإسلام يرتكز على رابطة قوميَّة تتسم بالعصبية والضيق ولا تتسع في غير حدود رابطة الدم. . إذ قال: (لقد كان في وسع محمد عن طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم، أن يحطم رابطة الدم هذه لأنها لم تكن بريئة من العصبية وضيقها، ولا كانت ذات صفة خارجية عارضة، هذا هو الذي جعلها لا تتسع لقبول عنصر غريب عنها ولكن محمدًا لم ير ذلك، ومن الجائز أيضًا أنَّه لم يكن يستطيع أن يتصور إمكانية رابطة دينيَّة في غير حدود رابطة الدم) (¬4). ¬

_ (¬1) من كتب السيرة والتاريخ والتراجم بل وكتب الحديث والتفسير. (¬2) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 76، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: جماعة من كبار العلماء: سيرة سيد المرسلين ص 52، الطبعة الثانية 1402 هـ - 1982 م، من منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت. (¬3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ: 1/ 585، تحقيق: أبي الفداء عبد اللَّه القاضي، (مرجع سابق)، وانظر: الحلبي: السيرة الحلبية: 1/ 459، (مرجع سابق)، وانظر: أحمد زكي صفوة: جمهرة خطب العرب: 1/ 147، (مرجع سابق)، وانظر: ص 687 - 688، (البحث نفسه). (¬4) تاريخ الدولة العربية؛ (من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية): ص 4 ترجمة: =

ويرد على هذا الزعم من ناحيتين: الأولى: طبيعة العقيدة الإسلاميَّة وما امتازت به، فهي عقيدة منفكَّة عن رابطة الدم والعنصر، وأي رابطة أخرى غير التقوى، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وفي الحديث النبوي الشريف جاء قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أيها الناس، إنَّ اللَّه قد أذهب عنكم عُبْيَة (¬1) الجاهليَّة وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على اللَّه -عز وجل-، وفاجر شقي هين على اللَّه -عز وجل-، والناس بنو آدم، وخلق اللَّه آدم من تراب (¬2)، قال اللَّه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية". وفي حديث آخر أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل أيَّ الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند اللَّه أتقاهم" (¬3). وقد أورد ابن كثير جملة من الروايات التي تبين بجلاء أنَّ رابطة الإسلام هي رابطة التقوى عند تفسيره للآية السالفة وقال: (فجميع الناس ¬

_ = محمد عبد الهادي أبو ريدة، وحسين مؤنس، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، طبعة 1958 م، القاهرة، وانظر: محمد أمين حسن: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 200، 201، (مرجع سابق). (¬1) عُبية: على هذا جاء ضبطها لدى الترمذي، وجاء لدى ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 169: (عُيبة)، وقال في معناها: (يعني الكِبْر)، وانظر: ص 486، (البحث نفسه). (¬2) رواه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 363، الحديث رقم [3270]، وقال عنه الترمذي: (حديث غريب)، (مرجع سابق)، وانظر: ص 486، (البحث نفسه). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 119، 120، كتاب الأنبياء، باب [14]، تحقيق: فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء -عليه السلام- سواء، وإنَّما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة اللَّه تعالى ومتابعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬1). وبهذا يتضح أنَّ رابطة العالميَّة في الإسلام رابطة دينيَّة لا وجود للتفاضل فيها إلَّا بالتقوى والعمل الصالح، ورُبَّمَا دعا (فلهوزن) إلى مقولته هذه بحثه فيما أسماه الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأمويَّة، ولعله استنتج من بحثه هذا قصر الإسلام على العرب، إن لم يكن حدَّدّ النتيجة سلفًا كما يظهر من عنوان مؤلفه (¬2)، ولا شك أن هذا استنتاج خاطئ؛ لأن دولة الإسلام عندما كانت بقيادة العرب لا يستلزم من ذلك كون رسالة الإسلام خاصة بهم. الثانية: إنَّ الناظر في مبادئ الإسلام وتعاليمه من ناحية، وفي الأُمَّة التي حملت تلك المبادئ والتعاليم من ناحية أخرى يجد أجناسًا عدّة، وشعوبًا شتى، قد دخلت الإسلام وحملت دعوته، وتكونت منها جميعًا أُمَّته، ولم يحدّها زمان ولا مكان، ولا اختصت بقوم دون آخر، بل كانت دعوةً عالميَّة شاملة للبشرية أجمع. وفي بداية الإسلام كانت أُمَّة الإسلام تتكون من بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، إلى جانب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد بن الوليد، يرتصون في الصلاة خلف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- صفًا واحدًا متحاذي المناكب والأقدام، يتوجهون إلى قبلة واحدة، ويعبدون إلهًا واحدًا مقتدين في ذلك بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي هذا المظهر البديع دلالة على تلك الرابطة العقديَّة التي ترتكز عليها العالمية في الإسلام، والتي تتجاوز رابطة ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم: 4/ 217، (مرجع سابق). (¬2) وقد ظهر عنوانه في ترجمة أخرى: (الدولة العربية وسقوطها) ترجمة: يوسف العش، عن مطبعة الجامعة السورية، دمشق 1956 م.

ثالثا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام

الدم والجنس واللون والقوم إلى رابطة التقوى وعقيدة التوحيد، وقد اعترف بتفرد الإسلام في هذا بعض المستشرقين قائلًا: (كان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- رسول اللَّه إلى الشعوب الأخرى، كما كان رسول اللَّه إلى العرب) (¬1)، وقبل ذلك أشاد بما أحدثه الإسلام في المجتمع العربي من تغيير جوهري، جاء على مفهوم القبيلة والأسرة المعروف آنذاك، فمحا عنه النزعة الفردية الشخصية (GENTES)، والموالاة، والجماعات المتحالفة، وأقام بدل ذلك صرحًا اجتماعيًا جديدًا، يرتكز على عقيدة الإيمان باللَّه، وينشئ روابطه كلها، ومنها رابطة القرابة والأسرة على أساس من عقيدة دين الإسلام ووفق مبادئه وقيمه (¬2). ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام: إذا كان بعض المستشرقين قد أقر بعالمية الإسلام وبعضهم الآخر أنكرها فإنَّ هناك رأيًا آخر شكك فيها، وممن عبَّر عن هذا الموقف المستشرق النيوزيلاندي (سوندرس) الذي يقول: (إن هناك أدلَّة تفيد أن محمدًا قد أراد بدينه أن ينشر على الناس، كما أن هناك أدلة أخرى تفيد أنَّه لم يفعل ذلك، فهي إذًا مسألة من مسائل الشك لا يقطع فيها بأي القولين) (¬3). وبعد أن يستشهد بآيات ظاهرها التعارض من وجهة نظره بين عالميَّة ¬

_ (¬1) دافيد دي سانتيلا: تراث الإسلام: ص 456، تاليف: جمهرة من المستشرقين بإشراف (سير توماس أرنولد)، تعريب: جرجيس فتح اللَّه المحامي، الطبعة الثانية، 1972 م، عن دار الطليعة، بيروت، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام. . . ص 107، (مرجع سابق). (¬2) انظر: دافيد دي سانتيلا: تراث الإسلام: ص 405، 406، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام. . . ص 107، (المرجع السابق نفسه). (¬3) نقلًا عن عباس محمود العقاد: الإسلام دعوة عالمية. . ص 128، (مرجع سابق).

الإسلام وخاصيَّته بالعرب، يعقب على ذلك بقوله: (إنَّ الأوروبيين المتخصصين بالإسلاميات ينقسمون انقسامًا شديدًا في هذه المسألة، فإنَّ (موير) يرى أنَّ الدعوة من البداية إلى النهاية كانت دعوة للعرب ولم يدع بها أحد غيرهم. . . ولكن (ولدكه) و (جولدزيهر) و (أرنولد) -وكلهم ثقات- يقولون: إنَّ محمدًا أراد بدينه منذُ أوائل الدعوة أن يكون عالميًّا ولم يرد به أن يكون مجرد عقيدة وطنيَّة محليَّة) (¬1). ولم تقنع هذا المستشرق بعالميَّة الإسلام دلائلها من القرآن الكريم والسنّة النبوية والسيرة المطهرة، وهي الدلائل القوية الثابتة القائمة على النصوص الموثقة التي لا يعتريها الشك، بل كان يود أن يرى مصداق ذلك في وقائع تاريخيَّة تخرجه، ومن سار على أثره من دائرة الشك في عالميَّة الإسلام إلى دائرة الاعتراف بهذه العالمية مثل كتب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسله إلى الملوك والعظماء في عصره، فيقول: (إنَّه لو كان قد ثبت أنَّه كتب إلى هرقل، وملك الفرس وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى الإسلام لانتفى الشك بالواقع، ولكن آراء الباحثين -مع الأسف- لا تميل إلى قبول هذه الأخبار، و (مونتغمري وات) يقول: (إنَّ هذه القصَّة لا يُمكن أن تقبل على حسب هذه الروايات) (¬2). أمَّا الرد على هذا وأضرابه ممن يُمكن أن يندرجوا مع المنكرين لأدلة عالميَّة الإسلام النقليَّة والعقليَّة والواقعيَّة، فيوضحه بعض من تصدَّى للرد على (سوندرس) في إنكاره أو شكه في هذه الأدلة وذلك بقوله: (بالنظر إلى القرآن الكريم وحده هناك أكثر من أربعين آية يُذكرُ فيها اللَّه سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 128، 129. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 129.

باسم رب العالمين، وهذا عدا الآيات التي ذكر فيها بالنص الواضح أنَّه -عليه السلام- قد أرسل إلى الناس كافَّة، وأن القرآن قد تنزل عليه ليقرأ على الناس) (¬1). أمَّا الأدلة العقليَّة فمنها ما أشار إليه العقاد بقوله: (بأنَّ القرآن الكريم جاء خطابًا من اللَّه على لسان المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- لعباد اللَّه، ويستحيل أن يكون أبناء الجزيرة العربية دون غيرهم من البشر في جميع البلدان هم عباد اللَّه) (¬2). ومِمَّا يذكر في الرد -أيضًا- أنَّ (سوندرس): (كان منساقًا مع إغراء المقارنة في غير موضع للمقارنة. . من حصر الدعوة الإسلاميَّة بين أبناء الجزيرة العربيَّة التماسًا لوجوه الشبه -التي لا وجود لها- بين الدعوة إلى الموسويَّة والدعوة المسيحية والدعوة إلى الإسلام، فإنَّ أتباع موسى -عليه السلام- قد دخلوا أرض الميعاد بعد وفاته، وأتباع عيسى -عليه السلام- هم الذين قاموا بتوجيه الدعوة إلى العالم بعد حصرها في بني إسرائيل، فينبغي على هذا القياس ذهابًا مع شهوة المقارنة بين الأديان في غير موضع للمقارنة أن يكون خلفاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هم الذين نشروا الإسلام بين الأمم غير العربيَّة، ولم يكن ذلك من برنامج محمد عليه الصلاة والسلام ولا من أصول رسالته إلى قومه) (¬3). ومِمَّا يكشف حقيقة مقولة (سوندرس) وأبعادها أنَّ رأيه في عالمية الإسلام جاء في سياق حديثه في مقال بعنوان: "الخليفة عمر المستعمر العربي" (¬4)، ولكي يجري المقارنة بين انتشار الإسلام وانتشار اليهودية والنصرانية عمَد إلى التشكيك في عالمية الإسلام، بل قاده هواه وغرضه إلى نفيها. ¬

_ (¬1) أحمد إبراهيم الشريف، نقلًا عن عباس محمود العقاد: الإسلام دعوة عالمية: ص 128، (المرجع السابق نفسه). (¬2) الإسلام دعوة عالمية: ص 128، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 130، 127. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 127.

وقد تنبه العقاد إلى هدف آخر يرنو إليه (سوندرس) من خلال مقولته تلك عبَّر عنه بقوله: (أمَّا إذا ساءت النية، وما أكثر الدواعي إلى سوء النية في كتابة تاريخ فلسطين. . فقد يفهم من كلام الكاتب أنَّ دخول الإسلام إلى فلسطين إنَّما كان عملًا من أعمال الاستعمار العربي، ولم يكن هداية دينية خالصة لوجه اللَّه) (¬1)، وعزَّز العقاد هذا الاستنتاج بقرينة صاحبت ذلك المقال، إذ قال: (ويرد هذا المخاطر -قسرًا- إذا اطلع القارئ في العدد نفسه على مقال مسهب عن دخول اليهود إلى فلسطين، ليتخذوها مأوى لهم وموطنًا موعودًا من عهد الخليل إبراهيم) (¬2). . هذا إضافة لما سبق ذكره من الأدلة النقلية والعقلية والواقعية التي تثبت عالميَّة الإسلام وعالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة، ولكن هذا المستشرق وأمثاله من الذين وصفهم العقاد بأنَّهُم: (يقرؤون الكتاب المبين ولا يستبينون منه أظهر معانيه، بل أظهر كلماته، التي لا تحتاج إلى مراجعة من أخبار الإسلام أو أخبار التواريخ) (¬3)، وصدق القائل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، والقائل جل وعلا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]. وخلاصة القول في آراء (سوندرس) وغيره من المستشرقين الذين شككوا في عالميَّة الإسلام وفي كونها خصيصة تميَّزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة ¬

_ (¬1) الإسلام دعوة عالمية. .: ص 127، 128، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 128. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 130، وانظر: محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه: ص 32 - 34، (مرجع سابق).

على سائر الأمم؛ أن آراءهم تلك اراء أقرب إلى الجهل والغرض والحقد على الإسلام وأمته منها إلى العلم والمنهج النزيه. والعالميَّة خصيصة من خصائص تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة ثابتة بالنص والعقل والتاريخ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لمزيد من الاطلاع على أدلة عالميَّة الإسلام، انظر: علي عبد الحليم محمود: عالميَّة الدعوة الإسلاميَّة، الباب الثاني: ص 159 - 448، عن دار الوفاء بمصر، الطبعة الأولى 1412 هـ.

الوسطية وموقف المستشرقين منها

الوسطية وموقف المستشرقين منها • تمهيد. • مفهوم الوسطية. • وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة. • وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق. • موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية.

تمهيد

تمهيد والوسطيَّة من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]؛ حيث صرحت الآية الكريمة (بوصف الأمَّة بالوسطيَّة وذكرت لها مفهومًا آخر يبرز جانبًا من جوانب التميُّز لهذه الأُمَّة إذا حرصت بالتزامها على هذا الانتماء الكريم، هذا المفهوم يتمثل في شهادة رسولها عليها في الوقت الذي يتخذ منها ربُّ العالمين شهداء على الناس) (¬1). وهناك مواضع أخرى في القرآن الكريم قدَّمت (نماذج لتطبيق الوسطية في مجتمع المسلمين. . . تدل على أن هذه الخصيصة التي عرف بها الدين الحق، وأصبحت سمة للأمَّة الملتزمة به ينبغي أن تنظر سلوكيَّة تحكم حياة المسلم، ويعتصم بها في كل ما يأتي وما يدع؛ لأنها كفيلة بتحقيق الخير له من جميع أطرافه سواء في نفسه، أم في أسرته، أم في المجتمع الذي يعيش فيه. . . .) (¬2)، وكنتيجة طبيعية لتطبيق الإسلام في حياة المسلمين، والتزامهم بعقيدته وشريعته وأخلاقه ومبادئه وقيمه تصبح الوسطيَّة صفة لهم بعد أن كانت صفةً للقيم المجردة، بل تصبح الوسطية سمةً للأُمَّة الإسلاميَّة كما هي سمة للإسلام) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) السيد رزق الطويل: الوسطية ومواقعها في القرآن الكريم: ص 21، مجلة منبر الإسلام، العدد [5]، السنة [53]، جمادى الأولى 1415 هـ - أكتوبر 1994 م، تصدر عن وزارة الأوقاف المصرية - القاهرة. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 24. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 21.

مفهوم الوسطية

مفهوم الوسطية أ- الوسطيَّة في اللغة: مشتقة من مادة (وَسَطَ)، قال ابن فارس عن أصلها: (الواو والسين والطاء بناءٌ صحيح يدلُّ على العدل والنِّصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه. . .، ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسه؛ بفتح السين، وَوَسْطَ القوم بسكونها، وهو أوسَطُهم حَسَبًا، إذا كان في واسطة قومه وأَرفَعِهم محلًّا) (¬1)، والذي يعنيه ابن فارس من قوله: (وَسَط رأسه؛ بفتح السين، وَوَسْط القوم بسكونها) (¬2)، أنَّ ما كان متصل الأجزاء أطلق على وَسَطِه: لفظ (وَسَط) بفتح السين، وما كانت أجزاؤه منفصلة أطلق على وسطه: لفظ (وَسْط) بسكون السين، وهذا ما ذكره أكثر العلماء في هذين اللفظين (¬3)، مع أنَّه قد يحدث خلف ذلك، ولكنه المرجوح (¬4). ذكر ذلك الفيروزآبادي، وذكر قياسًا آخر وهو أنَّ (كلَّ موضع صَلُحَ فيه بَيْنَ فهو وَسْط بالتسكين، وإلَّا فهو وَسَط بالتحريك، وقال ثعلب: الفرق بينهما أنَّ ما كان يبين جزءٌ من جزء، فهو مثل الحَلْقَة من الناس والسُّبْحَة والعِقْد، فهو وَسْطٌ بالتسكين، وما كان مصمتًا لا يبين جزءٌ من جزء فهو وسط بالتحريك. . . وقد تسكَّن السين من الوسط، وليس بجيد) (¬5)، هذا عن أصل الكلمة وتصريفها. ب- أمَّا عن معانيها فإنَّ لها معاني متقاربة غالبًا، منها: (العدل ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: مادة (وسط). (¬3) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (وسط)، (مرجع سابق). وانظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط، مادة (وسط) (مرجع سابق). (¬4) انظر: الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز. . . مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬5) المرجع السابق نفسه مادة (وسط).

والخيار، والشرف في الحسب والنسب) (¬1)، ومنها: (العزَّة، والقوة، والمنعة، والظهور) (¬2). ومن معاني الوسطيَّة: الموقع المتوسط بين طرفين، وقد يكون ذلك الوسط هو (القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنَّصفة) (¬3)، فهذا يلحق بالمعاني السابقة من جهة الأفضلية والخيريَّة، وفيه معنى الوسط من جهة البينيَّة، والمثال على ذلك (الجود الذي هو بين البخل والسرف) (¬4)، فهو وسط بين خلقين مذمومين أو هو (فضيلة بين رذيلتين) (¬5)، وقد يكون ذلك الوسط وسطًا بين طرفين أحدهما مذموم والآخر محمود، فيكون أقل من الأعلى، وأعلى من الأدنى، إمَّا أن يكون بين الجيد والرديء، أو بين الخير والشر، أو وسطًا حسيًّا كوسط العصا والطريق (¬6)، ومن المعاني القريبة من هذه المعاني -أيضًا- وسط الشيء بمعنى مركزه كمركز الدائرة ونحوها (¬7). وأمَّا ما نَدَّ عن تلك المعاني، واسْتُعمِلَ لصفة مذمومة فهو كقولهم: ¬

_ (¬1) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (وسط)، (مرجع سابق). وانظر: إبراهيم أنيس وآخرين: المعجم الوسيط، مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام: ص 131 - 134، (مرجع سابق). (¬3) محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف: مادة (وسط)، (مرجع سابق). وانظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬4) الراغب الأصفهاني: المرجع السابق نفسه: مادة (وسط). (¬5) جميل صليبا: المعجم الفلسفي: مادة (الوسط، والأوسط)، طبعة دار الكتاب اللبناني، 1982 م - بيروت. (¬6) انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (وسط)، (مرجع سابق)، وانظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط: مادة (وسط)، (مرجع سابق). وانظر: المعجم الوسيط: مادة (وسط)، (مرجع سابق). وانظر: لسان العرب: مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬7) انظر: يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 134، (مرجع سابق).

(فلان وسط من الرجال تنبيهًا أنَّه قد خرج من حَدِّ الخير) (¬1)، حيث استعمل لفظ (وَسَط) للكناية عن صفة مرذولة (¬2). وقد وردت هذه المعاني في لفظ (وَسَط) و (وَسْط) ومشتقاتها؛ في أشعار العرب وآدابها، وورد أكثرها في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة (¬3)، ولا يتسع المقام هنا لذكرها مفصلة، وإنَّما يمكن القول بأنَّ وسطيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة تعني من تلك المعاني المتعددة أن الأُمَّة الإسلاميَّة خيار الأمم في ذاتها، وأعدلها في حكمها، وأنصفها في شهادتها على الناس، وأقومها في السير على منهج اللَّه، وأحسنها رجعة إلى اللَّه وأنها الأظهر، والأمنع، والأقوى والأعز؛ إذا هي سارت على صراط اللَّه المستقيم، وتمسكت بالعروة الوثقى؛ لقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. كما أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة وسط بن الأمم من حيث الزمان والمكان (¬4). ¬

_ (¬1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الراغب الأصفهاني: المرجع السابق نفسه: مادة (وسط). (¬3) انظر: السيد رزق الطويل: الوسطية ومواقعها في القرآن الكريم: ص 20 - 24، (مرجع سابق). وانظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬4) انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . 1/ 164، 165، (مرجع سابق). وانظر ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون: ص 84 - 87، (مرجع سابق). وفيهما تناول ابن تيمية وابن خلدون جانبًا من وسطيَّة الأمَّة الإسلامية من حيث التوسط في الناحية الجغرافية وأثره في وسطية الأمة وتميزها دون سائر الأمم؛ ومِمَّا قاله ابن تيمية في ذلك: (فبلغ ملك أمته [يعني الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-]، طرفي العمارة شرقًا وغربًا، وانتشرت دعوته في وسط الأرض، كالإقليم الثالث والرابع والخامس؛ لأنهم أكمل عقولًا، وأخلاقًا، وأعدل أمزجة، بخلاف طرفي الجنوب والشمال، فإن هؤلاء نقصت عقولهم وأخلاقهم، وانحرفت أمزجتهم). الجواب الصحيح. . 1/ 164، وعلل ذلك بما يتفق مع ما ذكره ابن خلدون في مقدمته.=

وتبقى الإشارة إلى وسطيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة من حيث التعريف الاصطلاحي فهو: ما اتصفت به الأُمَّة الإسلاميَّة من تسنمها موقع الوسط في العقائد والشرائع والمكان والزمان، وكون ذلك الموقع هو القمَّة السامقة، وتحيط بها الأطراف من كل جانب، وهذا الموقع يحقق لها العزَّة والمنعة والظهور، وهو في ذاته الأفضل والأحسن والأنصف والأعدل، وبعبارة موجزة: (الوسط: العدل الذي نسبة الجوانب إليه كلها على السواء، فهو خيارُ الشيء، ومتى زاغ عن الوسط حصل الجور الموقع في الضَّلال عن القصد) (¬1). * * * ¬

_ = أمَّا وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة من حيث الزمان؛ فإنَّ ذلك يعني أنها جاءت خاتمة الأُمم وعلى قمة تاريخها، وكانت أُمَّة وسطًا باعتبارها شاهدة على الأمم، ولا بُدَّ لذلك من أن يكونوا عدولًا، وعلى هذا فإنَّ وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة من حيث الزمان يعني في المقام الأول العدل والإنصاف والخيريَّة. (¬1) محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف: مادة (وسط)، (مرجع سابق).

وسطية الأمة في مجال العقيدة والعبادة

وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة تتميَّز الأُمَّة الإسلاميَّة من بين سائر الأمم بالوسطيَّة في عقيدتها وفي عباداتها، وهذه الوسطيَّة لا تعني الموقف الوسط بالمنطوق الرياضي (¬1)، بل تعني الأفضليَّة المرتبطة بالوسط وهي بذلك كما وصفها أحد المفكرين: (إنَّها الحق، بين باطلين. . والعدل بين ظلمين، والاعتدال بين تطرفين، والموقف العادل الجامع لأطراف الحق والعدل والاعتدال، الرافض للغلو -إفراطًا أو تفريطًا- لأن الغلو الذي يتنكب الوسطية، هو انحياز من الغلاة إلى أحد قطبي الظاهرة، ووقوف عند إحدى كفتي الميزان، يفتقر إلى توسط الوسطية الإسلاميَّة الجامعة. . والوسطيَّة الإسلاميَّة الجامعة ليست ما يحسبه العامَّة، من المتعلمين والمثقفين: انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام المشكلات و (القضايا) المشكلة. . لأنها هي الموقف الأصعب الذي لا ينحاز الانحياز السهل إلى أحد القطبين فقط. . فهي بريئة من المعاني. . التي شاعت عن دلالات مصطلحها بين العوام، وهي كذلك ليست (الوسطية الأرسطية) (¬2) كما يحسب كثيرٌ من المثقفين ودارسي ¬

_ (¬1) انظر: السيد رزق الطويل: الوسطية ومواقعها في القرآن الكريم: ص 20، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقيَّة في الإسلام: ص 290 - 306، (مرجع سابق). درس في هذه الصفحات (الوسطية الأرسطية) وقارنها بمقولة (الفضيلة وسط بين رذيلتين) لدى بعض علماء الأمَّة الإسلامية ومفكريها، وخرج بمصطلح آخر أسماه (مبدأ التناسق)، وأبدى استغرابه من متابعة بعض علماء الأُمَّة ومفكريها لمقولة (أرسطو)، ولكن مِمَّا ظهر لي أنَّ مقولة (الوسطية في الأخلاق والفضائل الإسلاميَّة) لدى علماء الأُمَّة ومفكريها، وبخاصة غير الفلاسفة، مستقلة عن (الوسطية الأرسطية) لسبب جوهري وهو أن الوسطية في الأخلاق الإسلاميَّة خصيصة وصفة وسمة، وليست معيارًا كما هو الحال لدى (أرسطو) ثُمَّ إن معيار الأخلاق والفضائل في الإسلام ينبثق =

أولا: في الجانب العقدي

الفلسفة الغربية وطلابها. . . إنها في التصور الإسلامي: موقف ثالث، حقًّا. . . ولذلك فإنَّها كموقف ثالث. . إنَّما يتمثل تميُّزها. . . في أنَّها تجمع وتؤلف ما يُمكن جمعه وتأليفه -كنسق غير متنافر ولا ملفق- والوسطية هي العدل بين ظلمين لا يعتدل ميزانه بتجاهل كفتيه والانفراد دونهما، كما أنَّه لا يعتدل ميزانه بالانحياز إلى إحدى الكفتين، وإنَّما يعتدل بالوسطية التي تجمع الحكم العادل من حقائق ووقائع وحجج وبينات الفريقين المختصمين -ككفتي الميزان- ولهذا كان قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوسط: العدل. . جعلناكم أُمَّة وسطًا" (¬1). . والعدل هنا، وبهذا المعنى هو أبعد ما يكون عن الاعتدال، عندما يراد به الاستسلام للواقع إذا كان جائرًا، بل إن الوسط العدل في المفهوم الإسلامي. . . الاعتدال الرافض لغلو الإفراط والتفريط، فلا الرهبانية المسيحية، والنسك الأعجمي، ولا الحيوانية الشهوانية والتحلل من التكاليف) (¬2). ولاستجلاء سمات الوسطية في جانب العقيدة والعبادة بوصفها من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة يتناولها البحث في الآتي: أولًا: في الجانب العقدي: تتضح الوسطية في الجانب العقدي من تميز الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال ¬

_ = من القرآن الكريم والسنَّة النبوية، ومصدرهما الوحي في حين يصدر معيار الأخلاق لدى (أرسطو) من القانون ومصدره العقل وليس الشرع كما هو الحال في الأخلاق الإسلاميَّة، وهذا ما أشار إليه أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية. .: ص 293، (المرجع السابق نفسه). (¬1) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . 3/ 32، تحقيق: دار إحياء التراث العربي: 3/ 417، الحديث رقم: (10878)، (مرجع سابق). (¬2) محمد عمارة: معالم المنهج الإسلامي: ص 77 - 79، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1991 م، عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي - أمريكا.

مقارنته بمعتقدات الأمم الأُخرى، وهذا الجانب مبسوط في كتب الملل والنحل، بعامَّة، وفيما كتبه علماء الأُمَّة الإسلاميَّة لبيان مناقب الإسلام وفضله على غيره من الأديان، بخاصَّة؛ وللمثال على ذلك عقد أبو الحسن العامري مقارنات متنوعة بين الإسلام وغيره من الأديان الأخرى في ضوء منهج علمي يتسم بالموضوعية والإنصاف، إذ قال: (إنَّ تبيان فضيلة الشيء على الشيء بحسب المقابلات بينهما قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ، وصورة الصواب معلَّقة بشيئين: أحدهما: ألَّا يوقع المقايسة إلَّا بين الأشكال المتجانسة، أعني ألَّا يعمد إلى أشرف ما في هذا فيقيسه بأرذل ما في صاحبه، ويعمد إلى أصل من أصول هذا فيقابله بفرع من فروع ذاك. والآخر: ألَّا يعمد إلى خَلَّة موصوفة في فرقة من الفرق، غير مستفيضة في كافَّتها، فينسبها إلى جملة طبقاتها. ومتى حافظ العقل في المقابلة بين الأشياء على هذين المعنيين فقد سهل عليه المأخذ في توفية حظوظ المتقابلات، وكان ملازمًا للصواب في أمره) (¬1). وفي ضوء هذا المنهج عقد (العامري) مقارنة بين عقيدة الأُمَّة الإسلاميَّة وبين عقائد الأمم الأخرى في أركان الإيمان (الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) (¬2). وقال في سياق مقارنته وتقيده بالأسس الموضوعيَّة التي وضعها لنفسه والتزم بها في مقارنته: (علينا أن نقابل كلَّ واحد مِمَّا أسسته الملَّة الحنيفيَّة منها بنظيره من الأديان؛ ليتضح به شرف الإسلام عليها. . . وأن نبدأ أولًا ¬

_ (¬1) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 125، تحقيق ودراسة: أحمد عبد الحميد غراب، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 122.

بإثبات الصانع فنقول: إنَّا لم نجد أهل دين من الأديان عنوا بتقديم المقدمات العقليَّة، لاستخراج النتائج النظريَّة، في استخلاص توحيد اللَّه تعالى من شبهات المعاندين، ومغالطات المغالطين -ما عُنيَ به متكلمو الإسلام فإنَّهم بلغوا فيه مبلغًا شهد المعنيون بالفلسفة، والمحققون من ذوي الحكمة، على تقدم شَأْوِهم في تحصيل الحق منه، وسلامتهم عن التشبيه الذي اعتقده اليهود، والتثليث الذي اعتقده النصارى، والضد (¬1) الذي اعتقده المجوس، والشرك الذي اعتقده عبدة الأوثان، حتى جردوا القول بالتصريح فقالوا: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]، ثُمَّ أُجْروا كلمة الإخلاص في دعائهم، حتى إنك تجد العملة، والصنَّاع، والمحاربة، والحرَّاثين يتنادون بها في البر والبحر، والسهل والجبل، ليلًا ونهارًا، ومساءً وصباحًا مصدقين به لما وصفوا في الكتب المنزَّلة بأنَّهم يملؤون الأرض تهليلًا، وتسبيحًا، وتكبيرًا، وتحميدًا، وأهل سائر الأديان لا يذكرونها إلَّا بالفرط النادر، وذلك قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] (¬2). إنَّ نتيجة هذه المقارنة التي أجراها العامري في إيمان الأُمَّة الإسلاميَّة باللَّه، وإيمان الأمم الأخرى؛ يبين خيريَّة الأُمَّة الإسلاميَّة وأفضليتها دون سائر الأمم، وإلى جانب هذه الخيريَّة والأفضليَّة فهي وسط بين الأمم في ¬

_ (¬1) الضد هو الاعتقاد بإلهين أحدهما للخير والآخر للشر؛ لدى الزرادشتية، انظر في ذلك: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 283، (مرجع سابق). وانظر: ابن الجوزي تلبيس إبليس: ص 44، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 143، تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل، (مرجع سابق). (¬2) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام. . ص 127 - 129، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 2/ 135 - 154 (مرجع سابق).

هذا الإيمان، وتوسطها بين الأمم يعني (الوسط: العدل الذي نسبة الجوانب إليه كلها على السواء، فهو خيارُ الشيء، ومتى زاغ عن الوسط حصل الجور الموقع في الضلال عن القصد) (¬1). وعلى هذا المنوال يمضي (العامري) في بيان وسطيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في جميع أركان الإيمان، ويقول عن إثبات الرسل: (إنَّ أحدًا من أهل الأديان الستة لم يسلم في طرفي الغلو والتقصير في شأنهم إلَّا الإسلاميون: أمَّا الغلو فما ادعته النصارى في عيسى، وأمَّا التقصير فبجحود اليهود نبوة إبراهيم. . .) (¬2). ثُمَّ يقول: (وأهل الإسلام سَلِمُوا عن ذلك، وقالوا في الأنبياء كلهم: إنهم عباد اللَّه مصطفون وخيار معصومون، ثُمَّ رُؤوا تجمع كلمة الشهادة وصف نبيهم بالعبودية والرسالة، تحرزًا عن أبواب الزلل. . . بل جردوا القول فيهم بأن قالوا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] (¬3). وذكر توسط الأُمَّة الإسلاميَّة في اعتقادها بأن الملائكة عباد اللَّه {مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، وتوسطها في الإيمان بالكتب، وأنَّها كلَّها جليلة القدر، بيد أن القرآن ¬

_ (¬1) محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف: مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬2) كتاب الإعلام. . ص 129، 130، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 2/ 46، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: المرجع نفسه: 2/ 413 - 418. (¬3) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 130، (مرجع سابق). وانظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 2/ 144 - 154، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: ص 313 - 358، تحقيق: أحمد حجازي السقا، عن دار المطبعة السلفية، 1399 هـ - 1979 م - القاهرة.

الكريم أفضلها لما (استجمعه القرآن من الفضيلة في صورة الخطاب، ومن الفضيلة في نظم الألفاظ، ومن الفضيلة في تأليف المعاني) (¬1). ففيما يتعلق بخطابه ولفظه صدر عن اللَّه -عز وجل- بلفظه ومعناه بطريقة معجزة تدل على أنَّه صادر عن إله مقتدر يخاطب عباده بعزائم أمره ونهيه، ووعظه وزجره، ووعده ووعيده (¬2). وفيما يتعلق بمعانيه جاءت شاملة لجميع أبواب الاعتقاد والمعاملات والفضائل والأخلاق وتاريخ الكون والحياة وقصص الأمم الماضية (¬3)، وجاءت هذه المضامين في (بلاغة مُيسَّرة للذكر، ووجازة مُسَهِّلة للحفظ، ومعانٍ لو بسطت لاستغرقت الأخلاد والطوامير) (¬4). وذكر -أيضًا- عقيدة الأُمَّة الإسلاميَّة في إثبات المعاد، وأنَّه (متى أضيف إلى سائر ما يعتقده أهل الأديان، وحكَّم العقل فيه ظهر فضله) (¬5)، وقد أفرد هذا الجانب بكتاب أسماه: (الأمد على الأبد) (¬6) تناول اعتقاد الأُمَّة الإسلاميَّة في اليوم الآخر وما يتصل به من الأمور الغيبيَّة، وفيما أورده من بيان لمعتقدات الأُمَّة الإسلاميَّة ورد على (شبهات الملحدين، واعتراضات الطبيعيين، وشكوك المتكلمين، ومطاعن أعداء الدين) (¬7)، ¬

_ (¬1) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 132، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 132. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 133. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 133. (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 133. (¬6) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 133 وص 134، وقد ذكر فيهما محققه (أحمد عبد الحميد غراب) أنَّه يقوم بتحقيق الكلتاب المشار إليه (الأمد على الأبد)، وأنَّه في طور الإعداد للنشر. (¬7) المرجع السابق نفسه: ص 133، (رقم 2 في الحاشية).

ما يجلي وسطية الأُمَّة في هذا الباب ولاسيما أنّه قارنها بمعتقدات الأمم الأخرى التي تقف على أطراف منحرفة عن الحق كقوله: (فإنَّ بعضًا منهم يعتقدون القول بالتناسخ وبعضهم يعتقد أن انقلاب النفس إلى حالة الضياء والنور هو الثواب، وانقلابها إلى ضده هو العقاب، وبعضهم يعتقد أن تخلص الأرواح من الأجساد هو الثواب، وضده هو العقاب) (¬1). ثُمَّ يعقب على ذلك بقوله: (ثُمَّ الذي بني عليه الإسلام هو: أن العالم منقض بالساعة التي هي آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه تعالى يعيد الأرواح إلى أجساد الموتى، على تركيب تتحد به قُوَّتَا: الحس والعقل، فتعرف الأنفس بقوة العقل أحوالها التي مضت عليها في حال الدنيا، وما اكتسبت من حسنة وسيئة، وتدرك بقوة الحس اللذات التي تتمتع بها، والآلام التي تتعذب بها، وأن الثواب لا محالة يقع في جنس المُلِذِّ، والعقاب في جنس المؤلم، وأن كيفيتها لن تدرك إلَّا بأن يجعل لها عيارٌ مهما شهدته الحواس من أجناس المُلذّات والمؤلمات) (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 133، 134، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل 2/ 606، (مرجع سابق). وانظر: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 165 - 169، تحقيق: محمد إبراهيم نصر وآخر، طبعة دار الجيل، بيروت، (بدون تاريخ). (¬2) أبو الحسن العامري: الإعلام بمناقب الإسلام: ص 134، 135، (مرجع سابق). وانظر: أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد 1/ 345 - 350، طبعة 1411 هـ - 1990 م، عن المكتبة العصريَّة - بيروت. وانظر: محمد السفاريني الحنبلي: لوامع الأنوار البهيَّة وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرَّة المضيَّة في عقيدة الفرقة المرضية، بتعليقات: عبد الرحمن أبا بطين وسليمان بن سحمان 2/ 157 - 256، عقد السفاريني فصلًا في أمر المعاد وتحدث فيه عن البعث والنشور، وأتبعه بمباحث عن اليوم الآخر والجنَّة والنار والصراط والشفاعة ورؤية الرب جل وعلا، وما له صلة بالحساب والثواب والعقاب، ونحو ذلك من الأمور المغيبة التي وردت عن اللَّه وبلغها رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- عن طريق الوحي. وانظر: أبا بكر =

ثانيا: في جانب العبادة

وقبل ذلك بين ما عليه الآخرون من اعتقادات باطلة في الملائكة، وأنها تقع على طرفي نقيض، إذ يعتقد بعضهم أنهم بنات اللَّه، ويعتقد بعضهم الآخر أنهم آلهة (¬1)، وبهذا يتضح أن الوسطيَّة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بصفة تجمع بين الوسط بمعنى البينيَّة من تلك الأقوال، والعدل والخيريَّة والأفضلية حيث كانت تلك العقيدة عين الحقيقة وجوهر الصواب، وما عداها فهو باطل. وإذا كانت هذه وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال الاعتقاد بين الأمم، فإنَّ تلك الوسطيَّة تتركز في عمقها وجوهرها وقمة الفضل والخيريَّة في أمَّة الاتباع (أهل السنة والجماعة)، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (كما أنَّ الأُمَّة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات اللَّه سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال اللَّه بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم، وفي باب وعيد اللَّه بين المرجئة والوعيديَّة من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورَّية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهميَّة، وفي باب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الرافضة. ثانيًا: في جانب العبادة: أمَّا العبادة فقد حدَّد الإسلام لها منهجًا وسطًا لا يقلل من أهميتها أو ¬

_ = الآجرّي: الشريعة؛ تحقيق: محمد حامد الفقي: ص 343 - 349، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1992 م، مكتبة دار السلام - الرياض. (¬1) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . . 6/ 637، 638، (مرجع سابق). وانظر: ابن عطية: المحرر الوجيز. . 5/ 50، (مرجع سابق). ولمزيد الاطلاع على أدلة وجود الملائكة وحقيقتهم وصفاتهم والأعمال الموكلة إليهم فيما يخصه تعالى، وما يتعلق بعباده وملكوت السموات والأرض؛ انظر: محمد أحمد الخطيب ومحمد عوض الهزايمة: دراسات في العقيدة الإسلاميَّة: ص 96 - 109، (مرجع سابق).

يلغيها، ولا يبالغ في الانقطاع لها وترك ما سواها، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. قال ابن العربي في تفسيرها: (فيها مسألتان؛ المسألة الأولى في معنى النصيب، وفيه ثلاثة أقوال: الأول: لا تنس حظك من الدنيا للآخرة كما قال ابن عمر: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، الثاني: أمسك ما يبلغك، فذلك حظ الدنيا، وأنفق الفضل، فذلك حظ الآخرة، الثالث: لا تغفل شكر ما أنعم اللَّه عليك. المسألة الثانية: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ذُكر فيها أقوال كثيرة، جماعها: اسْتَعمِلْ نِعَمَ اللَّه في طاعته، وقال مالك: معناها تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك في رأي، قال القاضي: أرى مالكًا أراد الردَّ على من يرى من الغالين في العبادة التقشُّف، والتقصُّف، والبأساء؛ فإنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأكل الحلوى، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد) (¬1). والشاهد من هذه الأقوال ما علَّلَ به القاضي رأي مالك حيث يتضح منه وسطيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في عبادتها مع أنَّها غاية الخلق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومِمَّا يوضح هذه الوسطيَّة، ما ورد عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن الثلاثة الذين اندفعوا نحو الترهب والتزيد في العبادة فذكر أحدهم أنَّه يريد أن يقوم الليل بمعنى أنه يحييه كلَّه بالصلاة دون أن ينام، وأراد الآخر أن يواصل الصيام فيصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء فلا يتزوج، وكانوا قد تشاوروا في هذا المسلك بعد أن سألوا عن عبادة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قد غفر اللَّه ما تقدم من ذنبه وما ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي 3/ 1483، (مرجع سابق).

تأخر) (¬1)، ولَمَّا علم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقصدهم قال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني" (¬2). إنَّ مِمَّا يستفاد من هذا الحديث رسمه -صلى اللَّه عليه وسلم- منهج الوسطيَّة في العبادة، وأنَّه المنهج الذي يحقق التقوى والخشية للَّه تعالى؛ لأن هذا المنهج ليس خاصًا بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بل هو المشرع والقدوة في هذا لأمته، مِمَّا يعني أن الوسطيَّة هي الخيار، وهي الوسط، وأن ما سواها منحرفٌ عن الجادة ومنهي عنه (¬3). ¬

_ (¬1) من حديث أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 5/ 1949، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، الحديث رقم: (4776) تحقيق: البُغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم، صحيح مسلم: 2/ 1020 الحديث رقم (1401)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). (¬2) من الحديث السابق نفسه: لدى البخاري، وانظر: الشاطبي: الموافقات 2/ 93 - 128، وانظر: 3/ 240 - 251، (المرجع نفسه، مرجع سابق). وقد أورد الشاطبي شواهد عدَّة على وسطيَّة منهج الإسلام في العبادات من خلال فعل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لتأخذ به الأُمَّة، وأنَّه كان يترك بعض العبادات التي تدخل في باب المستحبات لئلا يشق على أمته؛ وفي ذلك قال الشاطبي: (ومسلك آخر وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. . .) إلى أن يقول: (إنَّ الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لَمَّا فهموا هذا الأصل من الشريعة وكانوا أئمة يُقْتَدى بهم فتركوا أشياء، وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة. . . كان أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة كان اختلفوا في التفاصيل). المرجع السابق نفسه 3/ 240، 241. (¬3) انظر: أبا الحسن العامري: الإعلام بمناقب الإسلام: ص 137 - 150، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان؛ تحقيق: محمد عفيفي 1/ 205 - 213، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م، عن دار الخاني. . .، الرياض حيث قرر بعض جوانب تميُّز الأُمَّة الأسلاميَّة في بعض الشعائر الدينيَّة. ولمزيد الاطلاع؛ انظر: مطلب العبودية، فيما يأتي من البحث ص 898 - 899.

وسطية الأمة في مجال التشريع والأخلاق

وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق أولًا: في مجال التشريع: أمَّا الوسطيَّة في مجال التشريع فإنَّ الشريعة إجمالًا كما قال الشاطبي: (جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة، وغير ذلك مِمَّا شرع ابتداءً على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل. . . فإنْ كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل) (¬1). ويستمر الشاطبي في بيان الوسطية في التشريعات الإسلاميَّة، وأنَّها تتخذ نوعًا من المرونة ومراعاة الأحوال والظروف، وما سلكته في سبيل ذلك من أساليب متنوعة صاحبت تاريخ التشريع الإسلامي، ثُمَّ يصل إلى القول: (فإذا نظرت في كليَّة شرعيَّة فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيتَ ميلًا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر، فطرف التشديد -وعامَّة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين، وطرف التخفيف -وعامَّة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه) (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 124، (مرجع سابق). (¬2) الموافقات: 2/ 128، (المرجع السابق نفسه).

وقد ألمح الشاطبي في نهاية هذه المسألة إلى أن (التوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء، كما في الإسراف والإقتار في النفقات) (¬1). ولعل ما بينه الشاطبي عن وسطية الشريعة الإسلاميَّة يتضمن وصفًا بالغ الأهمية يضفي على الوسطيَّة في الإسلام نوعًا من المرونة، ومسايرة الأحداث بما يفي بحاجة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة إلى الاستمرار والحركة الإيجابيَّة إزاء ما يجد في حياتها من قضايا ونظم (¬2)، على أنَّ الإسلام قد حدَّد مسلك الوسط في جميع تشريعاته في العبادات وفي المعاملات وفي الحلال والحرام، وأمر الحق تبارك وتعالى الأُمَّة أن تلتزم بذلك المسلك ولا تتجاوز حدوده، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقد جاءت هذه الآية بعد أن بين اللَّه -عز وجل- أحكامًا كثيرة تناولت جوانب متنوعة على صعيد الأسرة، والنفقة، وبعض القضايا السياسيَّة والاجتماعية، والشعائر الدينية، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه -عز وجل- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 2/ 128. (¬2) لمزيد الاطلاع على وسطيَّة التشريعات الإسلاميَّة وأثرها على الأمَّة. . انظر: • يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 145 - 147، (مرجع سابق). • محمد عقلة: الإسلام مقاصده وخصائصه: ص 57 - 62، (مرجع سابق). • عبد الرحمن حبنكة: الالتزام الديني منهج وسط: ص 65 - 86، من سلسلة (دعوة الحق)، السنة [4]، العدد [34] محرم 1405 هـ - أكتوبر 1984 م، عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة. • وانظر: ما تقدم في مطلب (الشريعة)، من هذا البحث نفسه: ص 410 - 422. (¬3) أخرجه الدارقطني: سنن الدارقطني 4/ 184، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني، لأبي الطيب: محمد آبادي، الطبعة الرابعة 1406 هـ - 1986 م، عن عالم الكتب - بيروت.

شرح ابن رجب -رحمه اللَّه- هذا الحديث، وبين طرقه في كتب السُّنَّة وما قيل عنه، وشواهده من طرق أخرى، وأفاض في شرحه بما تضمن إيضاح خصيصة الوسطية في التشريعات الإسلاميَّة وبيانها، وساق من الأدلة من القرآن الكريم والسنّة وفهم سلف الأُمَّة وتطبيقاتهم في عباداتهم ومعاملاتهم ما فيه جلاء هذه الخصيصة، ولعل من أجمع ما يبين ذلك قوله: (ضرب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل الإسلام بصراط مستقيم، وهو الطريق السهل الواسع الموصل سالكه إلى مطلوبه، وهو مع هذا مستقيم لا عوج فيه، فيقتضي ذلك قربه وسهولته، وعلى جنبتي الصراط؛ يمنة ويسرة سوران؛ وهما حدود اللَّه، وكما أنَّ السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراء ما حدَّ اللَّه من المأذون فيه إلَّا ما نهى عنه، ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده، وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام) (¬1). فالوسطيَّة في هذه الأحكام والتشريعات سمة بارزة تؤكدها دلائل كثيرة من أهمها: • الآيات والأحاديث التي تؤكد يسر الشريعة ورفع الحرج في تشريعاتها كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وفيما ذكره العلماء في مجمل تفسير هذه ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم: ص 305، 306، (مرجع سابق). وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري 2/ 1045، 1046، (مرجع سابق) ولديه تخريج واسع للحديث، وما قيل عن صحته وضعفه وكذلك ما قيل عن رفعه ووقفه، وشواهده.

الآيات، ما يدل على وسطيَّة التشريعات في الإسلام في جميع مجالات الحياة؛ مِمَّا كان له الأثر العميق في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة واتسامه بالوسطيَّة. وفي تفسير قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ. . .} الآية؛ قال ابن كثير: (أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام، ونحو ذلك، مِمَّا كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث. . . كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المأكل التي حرمها اللَّه تعالى) (¬1). وجاء في الحديث عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (¬2)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلَّا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا" (¬3)، حيث دلَّ هذا الحديث والذي قبله، ونحوهما على يسر التشريعات الإسلاميَّة، وبالتالي فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة بالنظر لهذه التشريعات، وبالنظر إلى ما كانت عليه الأمم من قبلها تتسم بالوسطية العادلة الخيِّرَة. • ومِمَّا يؤكد هذه الوسطيَّة ما كانت عليه الأمم من قبلها إذ إنَّها حادت عن هذه الوسطيَّة، وعلى سبيل المثال فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة كانت وسطًا (في ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 2/ 254، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 38، الحديث رقم [69]، كتاب العلم، باب: ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم، برقم [1734]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 23، الحديث رقم [39]،كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، وقد ترجم للباب بقوله: (أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة). المرجع السابق نفسه.

ثانيا: في مجال الأخلاق

التحليل والتحريم بين اليهوديَّة التي أسرفت في التحريم وكثرت فيها المحرمات، مِمَّا حرمه إسرائيل على نفسه، ومِمَّا حرمه اللَّه على اليهود، جزاء بغيهم وظلمهم كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]، وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أنَّ الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجئ لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله، ومع هذا أعلن رجال المسيحية أن كل شيء طاهر للطاهرين، فالإسلام قد أحل وحرم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق اللَّه وحده، ولم يحرم إلَّا الخبيث الضار، كما لم يحل إلَّا الطيب النافع، ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنَّه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (¬1). ثانيًا: في مجال الأخلاق: وتتجلى الوسطيَّة كخصيصة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال الأخلاق والفضائل والآداب، ولعلماء الأُمَّة الإسلاميَّة أقوال عدَّة تبين مسلك الأُمَّة الإسلاميَّة في هذا المجال، ولا غرو في ذلك فالقرآن الكريم وسنة سيد المرسلين وسيرته الطَّاهرة ومسلك السلف الصالح تؤكد هذه الوسطية وتجليها في أنصع صورة، قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ¬

_ (¬1) يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 146، (مرجع سابق).

[الفرقان: 67]، حيث دلت هذه الآيات على خصيصة الوسطية في الأقوال والأفعال. وجاءت بعض الآثار تؤكد ذلك، فقد ورد في الأثر: "خير الأمور أوسطها" (¬1) قال ابن الأثير: (كلُّ خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإنَّ السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه، وكلما ازداد منه بعدًا ازداد منه تعرِّيًا، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان) (¬2). والأخلاق الإسلاميَّة متسمة بالوسطيَّة، وكل خلق منها يُعَدُّ فضيلة بين رذيلتين، وعن ذلك قال الرازي: (إنَّ الخلق الفاضل إنَّما سُمِّيَ وسطًا لا من حيث إنَّه خلق فاضل، بل من حيث إنَّه يكون متوسطًا بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة فإنَّها خلق فاضل، وهي متوسطة بين الجبن والتهور، فيرجع حاصل الأمر إلى أنَّ لفظ التوسط حقيقة فيما يكون وسطًا بحسب العدد، ومجازًا في الخلق الحسن، والفعل الحسن، من حيث إنَّه من شأنه أن يكون متوسطًا بين الطرفين اللَّذين ذكرناهما) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، عن مطرف، برقم [35118]، وفي رواية أخرى عن أبي قلابة: "خير أموركم أوساطها" برقم [35174] ترتيب: محمد عبد السلام شاهين، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، عن دار الكتب العلمية بيروت. (¬2) النهاية في غريب الحديث، مادة (وسط)، (مرجع سابق). (¬3) التفسير الكبير 2/ 487، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م، عن دار إحياء التراث العربي - بيروت. وانظر: أبو الحسن مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراف: ص 45 - 49 الطبعة الثانية، عن دار مكتبة الحياة - بيروت (بدون تاريخ).

ويتناول أحد العلماء الوسطيَّة في الأخلاق الإسلاميَّة بإحاطة وشمول فيقول: (وكل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط، فإنَّ رؤوس الفضائل؛ الحكمة والعفَّة والشجاعة والعدالة، فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقليَّة، وهي متوسطة بين (الجربزة) (¬1) والغباوة، فتوسطه أن تنتهي القوة العقليَّة إلى حد يُمكن للعقل الوصول إليه، ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه، ولا يتعمق فيما ليس من شأنه التعمق، كالتفكير في المتشابهات والتفتيش في مسألة القضاء والقدر، والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد كما هو دأب الفلاسفة والعفَّة هي نتيجة تهذيب القوة الشهوانيَّة، وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود، والشجاعة نتيجة تهذيب القوة الغضبيَّة وهي متوسطة بين التهور والجبن، وإنَّما يحمد فيها التوسط؛ لأن النفس الحيوانية هي مركب للروح الإنسانية، فلا بد من توسطها لئلا تضعف عن السير، ولا تجمع بل تنقاد للروح، ثُمَّ التوسط في هذا المجموع أي الحكمة والعفة والشجاعة هي العدالة،. . . فلهذا فسر الوساطة بالعدالة، فالعدالة تقتضي الرسوخ على الصراط المستقيم، وتنفي الزيغ عن سواء السبيل) (¬2). وخلاصة القول: أن الوسطيَّة تعد من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة، ¬

_ (¬1) كلمة معربة تدل على الخب والخداع؛ انظر: أبا الحسن مسكويه: المرجع السابق نفسه: ص 46 "الحاشية". (¬2) سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح فىِ أصول الفقه: 2/ 48، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، وانظر: مسكويه: تهذيب الأخلاق. . ص 45 - 49، (المرجع السابق نفسه). وانظر: الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 409 - 411، 142 - 152، تحقيق: أبي اليزيد العجمي، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1987 م، عن دار الوفاء للطباعة والنشر. . المنصورة - مصر.

لازمت مسيرتها بمفهومها الشامل المرتكز على معنى الخيريَّة والعدالة، واستمدتها من منهج الإسلام ونظامه، وهو منهج الوسط والاعتدال والتوازن (¬1)، الذي اختاره اللَّه شعارًا مميزًا لهذه الأُمَّة التي هي آخر الأمم، وللرسالة التي ختمت بها الرسالات، فحملته بتوفيق اللَّه، وعن ذلك قال الشاطبي: (إنَّ الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 127 - 186، لمزيد الاطلاع على جوانب الوسطيَّة في الكون والحياة، ولمزيدٍ من معانيها ودلالاتها. (¬2) الشاطبي: الموافقات 4/ 258، (مرجع سابق). ولمزيد من الاطلاع على منهج الوسطية في الأخلاق وآراء العلماء في ذلك؛ انظر: محمد عبد اللَّه عفيفي: النظرية الخلقية عن ابن تيمية: ص 521 - 556، (مرجع سابق)، حيث اشتمل على رأي ابن تيمية: ص 521 - 545 ورأي ابن حزم: ص 546، 547، ورأي الفارابي: ص 547 - 556، وقارن فيما بين هذه الآراء فيما يتعلق بفكرة الوسطية وخرج بنتيجة تتفق مع ما توصل إليه: أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام، (مرجع سابق)، من كون مقولة الوسطية في الأخلاق الإسلاميَّة غير مطردة، وأن للأخلاق مقياسًا آخر أسماه (مبدأ التناسق) كما سبق ذكر ذلك وسبق أن علقتُ على ذلك بكون وسطية الأخلاق في الإسلام سمة وصفة ظهرت بها الأخلاق الإسلاميَّة فيما له طرفان منبوذان، وليس المقصود بها في البحث المعياريَّة.

موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية إنَّ الوسطية هي إحدى خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة كما تدل على ذلك النصوص الثابتة من الكتاب والسنة، والشواهد التاريخية، ولكن المستشرقين -المتحاملين على الإسلام- يصدرون في هذا الموضوع عن زعم باطل وحكم ظالم جائر؛ فقاموس الاستشراق حافل بمسميات وألقاب من مثل البربريَّة والهمجيَّة والرجعيَّة، وأخيرًا الأصوليَّة والتطرف. وعلى هذا فإنَّ مفهوم وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة كان أبعد من أن يدركه الغرب بعامة وينكره المستشرقون في الأعم الأغلب على الرغم من معرفتهم لأدلته وشواهده، ويتضح هذا الموقف في إنتاجهم الفكري في مجال الإسلام والدراسات العربية الإسلاميَّة، وللتدليل على ذلك أورد ملامح من الصورة التي تشكلت عن الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة في الفكر الغربي في العصور الوسطى وما تلا ذلك حتى العصر الحديث: 1 - يكاد يجمع المستشرقون وغيرهم ممن كتب عن الإسلام والغرب بأنَّ مفهوم الإسلام في العصور الوسطى قد تشكل على نحو عدائي، وأنَّ صورة الأُمَّة الإسلاميَّة قد رسخت في الفكر الغربي مشوهةً كريهة؛ يقول (مونتغمري وات): (والنقاط الأربع الرئيسية التي تختلف بصددها صورة الإسلام في العصور الوسطى عنها في الدراسات الموضوعية الحديثة، هي: أ- أنَّ الدين الإسلامي أكذوبة وتشويه متعمد للحقيقة. ب- أنَّه دين العنف والسيف. ج- أنه دين يطلق لشهوات المرء العنان. د- أنَّ محمدًا هو المسيح الدجال) (¬1). ¬

_ (¬1) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 100، ترجمة: حسين أحمد أمين، وعنوانه =

ثُمَّ يورد (مونتغمري وات) تحت هذه النقاط الأربع جملة من الأقوال لمشاهير مفكري القرون الوسطى من أمثال (توما الأكويني) الذي وصفه بأنَّه كان من بين أكثر مفكري القرن الثالث عشر اعتدالًا، ومع ذلك فإنَّه كان يتحدث عن الإسلام تحت ما أسماه بالفِرَق، وأنَّه (أي: الإسلام) كان يبيح المتع الجسديَّة التي تجذب الناس إليه، وأنَّ الأدلة والحجج التي جاء بها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ساذجة، وأنَّه خلط الحق بالباطل في القصص التي جاء بها، وليس لها سند من التاريخ، وأنَّ تعاليم الإسلام زائغة، ويفتقر إلى المعجزات التي تؤيد مزاعمه، ثُمَّ يصف الأُمَّة الإسلاميَّة بأنها تعيش في الصحراء حياة أقرب إلى حياة الحيوانات، وكانوا من الكثرة بحيث تمكنوا من إجبار الآخرين بالقوة العسكرية على اعتناق الإسلام، وأن النظرة المدققة توضح أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كما يزعم (توما الأكويني) - (حرَّف كل شواهد العهدين القديم والجديد) (¬1). ومِمَّا ذكره (مونتغمري وات) في النقطة الثانية: (أنَّه بلغ الأمر بأحد المتحمسين المدافعين عن الحروب الصليبية وهو (humbert of romans) إلى حد قوله: (إن المسلمين شديدو الحماسة لدينهم لدرجة أنَّهُم يقطعون دون رحمة رأس أي مخلوق يهاجم هذا الدين في أيِّ إقليم يسيطرون عليه) (¬2). وقد نفى (مونتغمري وات) هذا الزعم بقوله: (والواقع أن الصورة ¬

_ = الأصلي: (تأثير الإسلام في أوروبا خلال العصر الوسيط)، وهو مجموع محاضرات (مونتغمري وات) في (الكوليج دوفرانس) ألقاها عام 1970 م، وصدر عن جامعة (أدنبرة) باسكوتلندا، عام 1972 م. (¬1) انظر: فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 100، 101، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 102، وانظر: رودي بارت: الدراسات العربيَّة. .: ص 10، ترجمة: ماهر مصطفى، (مرجع سابق).

الأوروبية للإسلام هي أبعد ما تكون عن الحقيقة) (¬1)، ويقول: (إنَّ اليهود والنصارى وأتباع الديانات الأُخرى التي يعترف بها الإسلام لم يخيَّروا بين الإسلام والسيف، وأن الذين خيروا بينهما هم عبدة الأوثان وحدهم) (¬2). ويواصل قائلًا: (ولم نسمع الكثير عن حدوث هذا خارج شبه جزيرة العرب، أمَّا النشاط الحربي للمسلمين، وهو الذي يملأ خبرُه كتب التاريخ، فإنَّما أدى إلى توسع سياسي، وجاء اعتناق الإسلام نتيجة للدعوة إليه، أو نتيجة الضغط الاجتماعي) (¬3). وبعد نفيه لتلك المقولة أشار إلى الهدف منها بقوله: (وفي تلك الصور للإسلام باعتباره دين عنف ما يُراد به الإيحاء بأنَّه مخالفٌ تمامًا لصورة المسيحية باعتبارها دين سلام انتشر عن طريق الإقناع) (¬4)، ويلفت (مونتغمري وات) النظر إلى التناقض الشديد بين دعوى الصليبيين بأنهم أصحاب ديانة تدعو إلى السلم والمثالية وبين واقعهم التاريخي المخزي فيقول: (وقد أدرك بعض الكتاب أن مفهوم دين السلام مثالي لا علاقة كبيرة بينه وبين الواقع، وذهبوا إلى أنَّ عدم مراعاة المسيحيين السيئين لهذا المثل الأعلى لا يشكل اعتراضًا مقبولًا على المسيحية، ويبدو أنَّهم فسروا هذا التناقض بذكرهم أنَّ الغرض من الحروب الصليبية لم يكن إجبار العدو على اعتناق المسيحية بالقوة، وإنَّما كان -على حد تعبير (توما الأكويني) فيما بعد- منع الكفار من الوقوف حجر عثرة في سبيل العقيدة المسيحية، ورُبَّما كانوا يعنون أيضًا استرداد أراضٍ يرون أنَّها من حق المسيحيين) (¬5). ¬

_ (¬1) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 102، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 102. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 102. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 102. (¬5) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 102، 103، (المرجع السابق نفسه).

وتحت النقطة الثالثة تحدث (مونتغمري وات) عن نظرة الغرب إلى الإسلام بالادعاء أنَّه دين يطلق لشهوات المرء العنان، من خلال مزاعم عدَّة، منها: • حديثهم عن الزواج في الإسلام، وتعدد الزوجات، وأنَّه بلغ بهم الأمر أن يفسروا بعض آيات القرآن الكريم بما يبيح الزنى، إلى أن يقول: (وقيل: إن أشكالًا حيوانية وغير طبيعية للاتصال الجنسي بين الأزواج يمارسها المسلمون بكثرة، ويحثون عليها، بل ذهبوا إلى أنَّ القرآن يبيح الشذوذ الجنسي، ورأى بعضهم أن ذروة الإباحية الجنسية الإسلاميَّة في التصوير القرآني للجنة، وتحدثوا طويلًا عن الحور العين اللواتي سيكنَّ من نصيب المؤمنين فيها، ووجدوا في ذلك فضيحة أيّما فضيحة، كذلك انتقدوا بشدة حياة محمد الزوجية، وإنْ كانوا كثيرًا ما بنوا انتقاداتهم على مبالغات أو مزاعم كاذبة) (¬1). • ومنها قوله: (وزعموا أن القرآن يعلم الناس أن ينقضوا عهودهم متى كان في نقضها مصلحة لهم) (¬2). أمَّا في النقطة الرابعة وهي قولهم: (إنَّ محمدًا هو المسيح الدجال) (¬3) يقول (مونتغمري وات): (وكان جوهر التفكير المسيحي في هذا الصدد هو أنَّه حيث إنَّ محمدًا ليس بنبي، وحيث إنَّه أسس مع ذلك دينًا جديدًا فلا بُدَّ ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 103، وانظر: زاهر عواض الألمعي: مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من زينب بنت جحش (دراسة تحليلية): ص 22، 23 - 25، الطبعة الرابعة 1403 هـ - 1983 م، عن مطابع الفرزدق، الرياض. (¬2) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 104، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 100، 105.

أنَّه ساهم إيجابيًّا في مساندة قوى الشر، ولا بُدَّ أنَّه كان إمَّا أداة للشيطان أو عميلًا له، وبهذا جعلوا الإسلام والمسيحية على طرفي نقيض) (¬1). وقبل ذلك أشار إلى ما عرضه (بطرس المكرم) من أفكار علماء اللاهوت اليونانيين الذين زعموا أن الإسلام (هرطقة مسيحية، وذهبوا إلى أن الإسلام أسوأ من هذا، وأنَّه من الواجب اعتبار المسلمين كفرة، وأنَّ القرآن يحتوي الكثير من الكذب، وأنَّ محمدًا ليس بنبي) (¬2). وإلى جانب ما ذكره (مونتغمري وات) يجد الباحث الحشد الهائل من مثل تلك المزاعم التي صدرت عن: (الكتاب والشعراء والمرتزقة في الغرب في قرونهم الوسطى ليهاجموا بها الإسلام، وتضافرت جهودهم مع جهود اللاهوتيين في ترسيخ تلك الصورة المشوهة للإسلام ونبيه وحملته، وهي التي يظهر الإسلام من خلالها على أنَّه عقيدة وثنيَّة، وأنَّ المسلمين يعبدون ثلاثة آلهة أو أكثر، أوصلها بعضهم إلى ثلاثين إلهًا) (¬3)، وأظهر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على أنَّه المسيح الدجال، وأنَّه الأمارة لليوم الآخر، وأنَّ حملة الإسلام إرهابيون وحشيون، وأُمَّته مجموعة من (الوحوش وأبناء الشياطين، وأهل لواط، ومشركون يعبدون مجمعًا من الأصنام الذي يضم الآلهة: جوبيتر، آبولو، دايانا، أفلاطون، والمسيح الدجال) (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 105، وانظر: مصطفى عمر حلبي: الخلفيَّة الثقافية لاتجاهات المستشرقين في دراسة شخصية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: ص 34 - 36، مجلة المنهل (العدد السنوي المتخصص لعام 1409 هـ عن الاستشراق والمستشرقين)، (مرجع سابق). (¬2) فضل الإسلام على الحضارة الغربيَّة: ص 105، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد حسين هيكل: حياة محمد: ص 25 - 29، (مرجع سابق). (¬3) انظر: عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي: ص 28، (مرجع سابق). وانظر: نشأة الاستشراق. .: ص 257 - 261، (البحث نفسه). (¬4) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام (محاولة أولية لتفهم الأسس التاريخية =

وقد استمرت هذه الصور البشعة التي اختلقها اللاهوتيون وقتًا طويلًا تسيطر على الشعوب الأوربية ولا زالت تتأكد في العصر الراهن بجهود الصهيونية وتأثيراتها على الدراسات الاستشراقية، وهيمنتها على الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الغربية، وإذا كانت أصوات بعض المستشرقين وتلاميذهم تحاول نفي هذه الصورة عن الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة في الدراسات الاستشراقية الحديثة فإنَّ الاختلاف بين تلك الصورة المشار إليها وبين الدراسات الاستشراقية الحديثة وقع في أساليب العرض وطرق التناول فحسب، أمَّا المنطلق والغاية بين هذه وتلك فإنَّه لا يكاد يتغيَّر، ولم يحدث بصددها إلَّا تعديل طفيف لا يمس جوهر القضية (¬1). ومِمَّا لا شك فيه أنَّ هناك آراء اتسمت بالنزاهة والإنصاف وأظهرت بطريقة ضمنية أو مباشرة وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة، وقد وردت هذه الآراء في كتابات بعض المستشرقين، وسيجري بحثها لاحقًا. 2 - على الرغم مِمَّا حدث في التاريخ الغربي عقب القرون الوسطى؛ من حركات دينيَّة، وتطورات سياسيَّة، وما صاحب ذلك من التحولات الفكرية، وما كان لها من آثار على العلم والمعرفة، إلَّا أنَّ موقف الغرب بعامة والمستشرقين بخاصة -في مسار الحركة الاستشراقية العام- من وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة كان موقفًا أقرب إلى الإنكار والجحود منه إلى فهم هذه الخصيصة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. ¬

_ = لطبيعة العلاقات الفكرية بين الإسلام والغرب): ص 10، (مرجع سابق)، وانظر: ص 13، 20، 28 من المرجع نفسه. (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 5، 6، وانظر: عبد القادر طاش: الصورة النمطية. . ص 30، (مرجع سابق). وانظر: حلمي ساري: المعرفة الاستشراقية (دراسة في علم اجتماع المعرفة): ص 194، 195، مجلة العلوم الاجتماعية، خريف 1989 م، المجلد السابع عشر، العدد الثالث، مجلة فصلية أكاديمية تصدر عن جامعة الكويت.

يقول: (إدوارد روز): (إنَّ المعرفة بالمحمديَّة (يعني الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة) التي تملكها أوروبا منذ قُرون قائمة على أساس التقارير المشوهة والمغلوطة كليًّا، التي أعدها المسيحيون، وهذا هو الأمر الذي أدَّى إلى نشر الأكاذيب والافتراءات المتنوعة حول المحمديَّة فكل خير وجدوه في المحمديَّة أخفوه تمامًا، وكلَّ شيء لم يكن محمودًا في عين أوروبا كبروه وبالغوا في بيانه أو شوهوا صورته في التعبير عنه) (¬1). ويقول باحث آخر: (إنَّ الحضارة الأوروبية المعاصرة تستند في تكوينها العقلي إلى حدٍّ كبير على حركات فكريَّة تتابعت في تاريخها الحديث مثل (النهضة الأوروبية) و (الإصلاح الديني) و (حركة التنوير)، وقد زادت هذه الحركات من رسوخ ملامح الصورة المشوهة التي كونتها أوروبا عن الإسلام في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وذلك كنتيجة لترديد التهم الباطلة التي ألصقت بالإسلام ونبيه وكتابه المقدس) (¬2). ويستشهد على ذلك بعدّة أعمال أنجزها رواد الفكر والمعرفة في الغرب عن الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة، وكانت متأثرة بتلك الثقافة اللَّاهوتية المشوهة الشائنة، منها: أ- ما قام به (دانتي) الذي قال عنه: (فدانتي الشاعر الإيطالي المشهور، وأحد أعمدة حركة النهضة، صور الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أُلقِيَ في الدرك الثامن والعشرين من جهنَّم، وقد شطر إلى نصفين من رأسه إلى منتصفه، وصوره وهو ينهش بيديه في جسمه، عقابًا له على ما اقترف من فظائع وآثام، وسبب من شقاق؛ ولأنَّه في رأيه تجسيد ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق: ص 62، وقد عزا ذلك إلى (ص 177 من ترجمة القرآن لجورج سيل، طبع نيويورك 1956 م). (¬2) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 15، (مرجع سابق).

كامل للروح الشريرة، وصور الإسلام كمن سبقوه زندقة أنتجت ظلًّا مخيفًا خيَّم على العالم كلِّه) (¬1). ب- ويورد مثالًا آخر فيقول: (وأكد "بوليدور فيرجيل" -الذي يعتبر هو الآخر واحدًا من أكبر أركان النهضة- ما ذكره سابقوه من تهم وزاد عليها؛ فزعم أنَّ الإسلام نسيجٌ مشوه مستقى من مصادر مسيحية، وأن الرسول كان مصابًا بالصرع، وأن الإسلام انتشر بحد السيف، وشيوعية المرأة) (¬2). ج- كذلك قال: (أمَّا "فولتير 1694 - 1778 م" الذي يعتبر من أبرز رواد حركة التنوير فقد وصف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه مثير فتن ودجَّال، يدعي كذبًا المناجاة مع روح القدس، ويزعم أنَّه صاحب رسالة كلُّ سطر فيها ينم عن السخف الذي يناقض مبادئ العقل الأولي) (¬3). د- ويذكر هنا أيضًا ما ورد في الموسوعة الفرنسية عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (فقد وصف (ديدرد) -وهو الآخر من رجال التنوير الفرنسي، ومن كتّاب الموسوعة الفرنسية- الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّه: (قاتل رجال، وخاطف نساء، وأكبر عدو للعقل الحر) (¬4). من هذا يتبين أن الصورة المشوهة للإسلام وأُمَّته في الفكر الغربي، قد ازدادت مع مرور الزمن سعة ورسوخًا. 3 - رُبَّمَا أوحت عبارة (مونتغمري وات) المشار إليها فيما سبق بأنَّ ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام. .: ص 16، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 16. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 16، وانظر: محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص 60، 61، (مرجع سابق). (¬4) عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 16، وانظر: عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام. .: ص 53 (مرجع سابق).

تلك الصورة المشوهة للأُمَّة الإسلاميَّة لم تكن من عمل المستشرقين المحدثين، وذلك إذ يقول: (والنقاط الأربع الرئيسة التي تختلف بصددها صورة الإسلام في العصور الوسطى عنها في الدراسات الموضوعية الحديثة. . .) (¬1). لكن هذا القول وإن كان يصح على النزر اليسير من الدراسات الاستشراقية التي قام بها أفراد قلائل وفي فترات تاريخية متباعدة، فإنَّه لا ينطبق بحال على معظم المستشرقين الذين وصفهم أحد المفكرين بقوله: (إنَّ المستشرقين جميعًا فيهم قدر مشترك من هذا الخصام المتجني، والتفاوت -إنْ وجد بينهم- إنَّما هو في الدرجة فقط، فبعضهم أكثر تعصبًا ضد الإسلام، وعداوته له من البعض الآخر، ولكن يصدق عليهم جميعًا أنَّهم أعداء. وإذا كان الاستشراق قد قام على أكتاف الرهبان والمبشرين في أول الأمر، ثُمَّ اتصل من بعد ذلك بالمستعمرين- فإنَّه ما زال حتى اليوم يعتمد على هؤلاء وأولئك، ولو أنَّ أكثرهم يكرهون أن تنكشف حقيقتهم، ويؤثرون أن يختفوا وراء مختلف العناوين والأسماء) (¬2). والحقيقة أنَّ هذا ينطبق على أكثرهم حتى (مونتغمري وأت) على الرغم مِمَّا اتسمت به بعض دراساته من الموضوعية والإنصاف، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام عن خصيصة الربانية، وما أظهره (مونتغمري وات) من نفي لها في تناوله سيرة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 100، ترجمة: حسين أحمد أمين، (مرجع سابق). (¬2) محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة. . . ص 13، 14، (مرجع سابق). وانظر: محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق: ص 61، (مرجع سابق). (¬3) انظر: ص 641 (البحث نفسه).

وإذا كانت الأبحاث الاستشراقية، ودراسات المستشرقين المتنوعة قد انتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وتناولت الإسلام وتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة وادعى أصحابها أو معظمهم بأنَّها دراسات متجردة، وتتسم بالنزاهة والبحث العلمي المجرد عن التعصب الديني، وما يمليه من الهوى، والمحاباة العاطفية (¬1) (إلَّا أنَّ نظرة تحليلية في هذه الدراسات تثبت نقيض ما يدعي أصحابها، فالصورة المشوهة القاتمة للإسلام لا زالت كذلك في كلياتها، وإن طرأ تغير جزئي على بعض تفاصيلها، والدراسة التي تنتكب الموضوعية والنزاهة لا زالت هي السائدة الغالبة على هذا الحقل، وإن كان ثمة تغير فذلك مِمَّا تحتمه القاعدة المشهورة (اختلاف الأحكام باختلاف المصالح والأزمان) (¬2). إنَّ النظرة التحليلية الشاملة تدرك بأن دراسات المستشرقين لا تزال تدور في فلك تلك (الأفكار الجامحة التي كونتها أوروبا في فجر ولادتها الفكرية) (¬3)، ومن الأمثلة على ذلك؛ ما قاله عدد من المستشرقين في الإسلام والقرآن والرسول وبخاصة فيما يتعلق بالنظرة الاستشراقية إلى وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة: أ- يقول (بروكلمان) عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن القرآن الكريم: (أعلن ما ظنَّ أنَّه سمعه كوحي من عند اللَّه) (¬4). ب- ويقول (توراندريه): (إن أفكار محمد غير متجانسة، وغير ¬

_ (¬1) انظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام. . . ص 17، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 17. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 17، (مرجع سابق). (¬4) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 40، (مرجع سابق). وانظر: عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 18.

منسجمة، ومضطربة أشد الاضطراب) (¬1)، ويقول أيضًا: (يبدو محمد في القرآن بصورة حالم ضال ينشد الحقيقة، فيشكل آراءَه ومثله استنادًا إلى ما تلقاه من تعليمات تصله اتفاقًا من غير أن يقيمها على حقائق ثابتة وحيَّة) (¬2). ج- ويقول (جولدزيهر): (من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبًا عقيديًّا موحدًا متجانسًا وخاليًا من التناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرًا إلَّا آثارٌ عامّة نجد فيها إذا بحثنا في تفاصيلها أحيانًا تعاليم متناقضة) (¬3). ويقول أيضًا: (كان وحي النبي حتى في حياته معرضًا لحكم النقاد الذين كانوا يحاولون البحث عما فيه من نقص، وكان عدم الاستقرار والطابع المتناقض البادي في تعاليمه موقع ملاحظات ساخرة) (¬4). د- ولعل موقف المستشرقين من وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة يتضح بصورة جلية في قول (يوليوس فلهوزن): (يبرز في القرآن شأن القدرة الإلهيَّة تارة وشأن العدل الإلهي تارة أخرى، وذلك بحسب ما كان يحس به النبي دون مراعاة للتوازن بين الطرفين، ولا يشعر محمد بما في ذلك "من تناقض؛ لأنَّه لم يكن فيلسوفًا ولا واضعًا لمذهب نظري في العقائد" (¬5). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام. .: ص 18، (المرجع السابق نفسه). (¬2) نقلًا عن عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 19. (¬3) نقلًا عن عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 19. (¬4) مذاهب التفسير الإسلامي: ص 4، ترجمة: النجار، (مرجع سابق). (¬5) تاريخ الدولة العربيَّة؛ (من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية): ص 2، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، وحسين مؤنس، (مرجع سابق)، وانظر: ترجمة يوسف العش: ص 10، الدولة العربيَّة وسقوطها، (مرجع سابق).

وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك

ويبرز كذلك في قول (دي بوير): (قبل الرعيل الأول من المؤمنين ما في القرآن من تناقض، وهو الذي نعلله نحن بتقلب الظروف التي عاش فيها النبي وباختلاف أحواله النفسية) (¬1). ولكلٍّ من (نيكلسون) و (مكدونالد) و (سنوك هورغرونيه) و (شاخت)، وغيرهم من أعلام الاستشراق أقوالٌ مشابهة لما قاله (جولدزيهر) و (بروكلمان) و (توراندريه) و (فلهوزن) و (دي بوير)، المشار إليها فيما تقدم (¬2). وعلى ذلك فإنَّ خصيصة وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة محجوبة خلف تلك الأقوال، ولا يُمكن الباحث أن يجد في كتابات معظم المستشرقين إلَّا النزر اليسير مِمَّا يشير إلى تلك الوسطية. . . سيتطرق البحث إليه فيما بعد. 4 - وفي العصر الراهن تهز حمَّى الصهيونية أوصال الشعوب الغربية من خلال وسائل الإعلام المختلفة بهذه المزاعم والافتراءات، مضيفة إليها بريق الدعاية وفنون الخداع، وطرائق المكر السيئ بما تملك تلك الوسائل (من قدرة على الانتشار، وقوة الجذب والتأثير، من أن تجعل الصورة المشوهة عن الإسلام وأمته ضمن اهتمامات الفرد الغربي حتى أصبحت حديث المجالس والمنتديات الشعبية) (¬3)، وتجاوزت ذلك إلى أنحاء واسعة من أصقاع المعمورة في ظل تطور الإعلام الغربي وهيمنته الدوليَّة (¬4). وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك: أ- تقول (جانيس تيري): (إنَّ صورًا للمجتمع العربي والعالم ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة في الإسلام: ص 69، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، الطبعة الثالثة، 1374 هـ - 1954 م، عن دار النهضة العربيَّة للطباعة والنشر، بيروت. (¬2) انظر: عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 20، 21. (¬3) عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام. . . ص 43، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 44.

الإسلامي تبدو متشابهة تمامًا في الروايات المعاصرة، وسواء وصف العرب والمسلمون بالتخلف أو الجشع، أو الشهوانية، أو الشيطان وعدم الإنسانية، فإنَّه كبش الفداء في جميع الروايات المعاصرة التي تتناول موضوعات عن الشرق الأوسط تقريبًا) (¬1). ومِمَّا لحظته أيضًا أن هناك حشدًا هائلًا من الروايات تدور أحداثها حول فكرة أن المسلمين إرهابيون يهددون حياة البرآء من الناس، وأنَّ هذه الروايات تبرز تعاون المخابرات والحكومات الغربية مع (الأبطال الإسرائيليين) في مقاومتهم للإرهاب العربي) (¬2). وتخلص (تيري) إلى القول: (بأنَّ صورة العالم العربي في الروايات المعاصرة مشحونة بكراهية ما هو عربي وإسلامي، ويُصوّر العرب بشكل مستمر في الروايات بأحقر أنواع القذف العنصري، فهم يصورون على أنهم لا إنسانيون، جبناء، معادون للمرأة والأطفال، ويصور الإسلام في صورة سلبيَّة للغاية، ولا تجد في تلك الروايات ولو إشارة إلى الجوانب والإسهامات الإيجابية للعرب وللحضارة الإسلاميَّة) (¬3). ب- أمَّا المؤلفات العلمية فإنَّها تطفح بالتجني على الأُمَّة الإسلاميَّة وحقائق الإسلام بما يكشف البون الشاسع بين ما يكتبه عامَّة المستشرقين وبين وسطية الإسلام، وكون هذه الوسطية من خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة. ¬

_ (¬1) (j. j Terry "image of the Middle East in contemprary Fiction" inE. Ghareeb (ed),split vision: The portral of Ar abin the American Medla (Wash.d.c) The American - Arab Affaires Council,1983,P.316. نقلًا عن: عبد القادر طاش: المرجع السابق نفسه: ص 51. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: نقلًا عن: عبد القادر طاش: المرجع السابق نفسه: ص 52. (¬3) المرجع السابق نفسه: 324، نقلًا عن: عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام. .: ص 52، (المرجع السابق نفسه).

وإذا كانت المعاجم والموسوعات من أبرز مظاهر العناية بالعلم والمعرفة، وألصقها بالمنهجيَّة والعلمية والتجرد، فإنَّ معظم المعاجم والموسوعات الحديثة في أوروبا وأمريكا وروسيا درجت على تناول الإسلام من خلال وجهة النظر الصهيونية وبأيدي مستشرقين إن لم يكونوا يهودًا فهم في خدمة اليهود والصهيونيَّة العالميَّة، وبناءً على ذلك فإنَّ ما كتب عن الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة جاء في الغالب موجهًا في هذا السياق، وتحت هذا التأثير (¬1). وقد أجرى بعض الباحثين دراسة نقدية للموسوعة البريطانية، والفرنسية، والسوفيتية، واليهودية (¬2)، وخرج بنتيجة مفادها أنَّ هذه الموسوعات (تغافلت عن تتبع الجانب التاريخي المُشَكِّل للوجود والهويَّة العربية الإسلاميَّة) (¬3)، وأنَّ دائرة المعارف البريطانية في سياق تشويهها للإسلام والعرب عمدت إلى القول: (أنَّ محمدًا زعم أنَّه نبي مرسل من اللَّه وأنَّه أعظم الأنبياء وخاتمهم وأن المسلمين يعبدون محمدًا، ويعتقدون أن الكون خلق من نور محمد) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: أنور الجندي: سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلاميَّة: ص 7، 8، 16 - 20، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م، عن دار الجيل، بيروت، وانظر: زياد أو غنيمة: السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية: ص 115 - 125، تحت عنوان: (سموم الصهيونية تغزو الموسوعات العلميَّة والدراسات الاستشراقية)، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م، عن دار عمار للنشر. .، عمان. (¬2) انظر: عبد القادر طاش: المرجع السابق نفسه: ص 52، 53. (¬3) عبد القادر طاش: المرجع نفسه: ص 53، وانظر: عفيف البوني: صورة العرب في العقل الغربي من خلال الموسوعات العلمية الغربية، مقال منشور في مجلة المستقبل العربي، العدد [101]، 7/ 1987 م: ص 16 - 31، تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت. (¬4) زياد أبو غنيمة: السيطرة الصهيونية. .: ص 117، (المرجع السابق نفسه)، وانظر:=

أمَّا دائرة المعارف الفرنسية فتقول كما سبق الإشارة إلى ذلك: أنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (قاتل دجَّال، وخاطف نساء، وأكبر عدو للعقل الحر) (¬1). وزعمت دائرة المعارف السوفيتية أن الإسلام (يؤدي دورًا رجعيًّا، إذ أصبح أداة في أيدي الطبقات المستغلة لكبح الطبقة العاملة روحيًّا) (¬2)، وزعمت أن القرآن (مجموعة من المواد المذهبية والأسطورية والقانونية) (¬3). ويذهب قاموس التاريخ العالمي البريطاني إلى القول بأنَّ (عصابة المافيا الإجرامية العالمية تمتد جذورها إلى أصول عربية، ويؤكد القاموس أن طبيعة العرب الإجرامية التي لا تقف عن السطو والقتل تؤكد هذه المقولة) (¬4). ج- تؤكد الدراسات التي أجريت على المناهج الدراسيَّة في الغرب بأنَّ تلك المناهج قد صيغت على نحوٍ لم تظهر من خلاله وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة بل أظهرتها بأوصاف من أهمها؛ (أن الإسلام ولد بين بدو الجزيرة العربية الذين هم (أميون) كليًّا، والذين يتخذون من غزو القوافل تسلية يعتزون بها) (¬5)، وأن المسلمين نشروا دينهم عن طريق العنف، وتركز تلك المنهج ¬

_ = ملك غلام مرتضى: دائرة المعارف البريطانية بين الجهل والتضليل: ص 17 - 23، 67، ترجمة: محمد كمال علي السيد، (مرجع سابق). (¬1) عبد القادر طاش: المرجع السابق نفسه: ص 53. (¬2) نقلًا عن: مرعي مدكور: الإعلام الإسلامي وخطر التدفق الإعلامي الدولي: ص 52، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1988 م، عن دار الصحوة للنشر، القاهرة. (¬3) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 52. (¬4) نقلًا عن: زياد أبو غنيمة: السيطرة الصهيونية: ص 117، (المرجع السابق نفسه). (¬5) عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام. .: ص 55، (مرجع سابق)، وانظر: محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق رسالة الاستعمار (تطور الصراع الغربي مع الإسلام): ص 382 - 390، (مرجع سابق).

على مسألة الرق في الإسلام، وتعدد الزوجات، ووضع النساء في المجتمع الإسلامي وأنهنَّ في منزلة دونيَّة بالنسبة للرجال والأبناء (¬1)، وتذكر بعض كتب التاريخ التي تُدرَّس في المدارس الفرنسية بأنَّ العرب (لم يكونوا إلَّا غزاة غلاظًا متزمتين ومتعصبين، فرضوا دينهم بحد السيف، وأن الدول أو الشعوب التي قبلت باعتناق الإسلام إنَّما فعلت ذلك كي لا تدفع الجزية الباهضة التي فرضها المسلمون على الذين لا يدخلون في دينهم) (¬2). ويتناول (مارسيل بوازار) دراسة علميَّة حديثة العهد وهي رسالة ماجستير نوقشت عام 1980 م في جامعة (تولون) بفرنسا. . عن الكتب المدرسية من 1945 م إلى 1971 م، ويقول (بوازار): (إنَّ النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة بالغة الدلالة؛ فمن جهة لم تحظ الحضارة الإسلاميَّة إلَّا بنصيب ضئيل من الكتب المدرسية لا يتجاوز 4% من مضمون هذه الكتب، ومن جهة أخرى اتسم وصفها للإسلام بجمود كبير بالرغم من اكتشافات الدراسات التاريخية المعاصرة) (¬3). ومن النماذج التي عرضها (بوازار) الزعم المبثوث في هذه المناهج بأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- منذُ (أُخْرِجَ من مكة ظلَّ مشغولًا باسترجاعها، ومنذُ البداية التجأ للعنف، ومكنه فنه في قيادة الجموع من توحيد أنصاره الذين زرع فيهم روح التعصب، ووعدهم بالجنة إذا ماتوا في سبيل الحرب المقدسة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المرجعين السابقين: الصفحات نفسها. (¬2) هدى الزين: نحن في عيون تلاميذ باريس، استطلاع أعده مكتب جريدة عكاظ في باريس: ص 5، العدد: [7071]، الصادر بتاريخ، 14/ 2/ 1406 هـ، الموافق 28/ 10/ 1985 م، وانظر: عبد القادر طاش: المرجع السابق نفسه: ص 56. (¬3) نقلًا عن: عبد القادر طاش: الصورة النمطية للإسلام. .: ص 56، 57، (المرجع السابق نفسه). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 57.

يلحظ (بوازار) من خلال تلك الدراسات (¬1) جملة ملحوظات في مقدمتها ملحوظتان في غاية الأهمية: أولاهما: (أنَّ الملامح الجوهرية للدين الإسلامي ونبيه تؤكد على (الحرب المقدسة) التبشيرية لإجبار العالم على اعتناق الإسلام، وعلى هذه الصورة التي هي أثر من آثار القرون الوسطى يقدم الإسلام على أنَّه ثقافة عدوانية من خلال نصوص حكمها وقدمها فكر عدواني في أساسه، تحرص على عرض العلاقات بين الإسلام والغرب بعبارات العنف والعداء، حتى يصبح التشويه هو معالم الإسلام الأساسية) (¬2). وأخراهما: المشكلة الفلسطينيَّة إذ (إنَّ المشكلة الفلسطينية ليست درسًا من التاريخ المعاصر، وإنَّما هي خطاب سياسي ومذهبي لئيم وشرير، تعرض باللون الأبيض والأسود وبصورة تبسيطية، كأبطال رواية في العصر الحاضر) (¬3). على أنَّ هناك تطورًا بطيئًا يتخذ طريقة لتصحيح تلك المناهج في أوروبا ¬

_ (¬1) لمزيد من الاطلاع على تلك الدراسات التي أجريت على المناهج الدراسية في أوروبا وأمريكا؛ راجع: مارسيل بوازار: الإسلام اليوم: ص 22 - 30، صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة - (اليونسكو)، الطبعة العربيَّة 1984 م، باريس. وانظر: عبد القادر طاش: الصور النمطية للإسلام. . في الصفحات (52 - 57) وراجع: محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق. . في الصفحات (379 - 390)، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق. . . ص 397، 398، وأصله بحث قدمه الدكتور مارسيل بوازار في المؤتمر الثالث لجمعية الإسلام والغرب الذي عقد في إشبيلية في الفترة من 10 سبتمبر إلى 12 منه سنة 1982 م؛ انظر: حاشية ص 391 من المرجع السابق نفسه. (¬3) محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق. .: ص 398، (المرجع السابق نفسه).

وأمريكا (ولن تكون النتائج مرئية إلَّا خلال بضعة عقود؛ لأنَّ الإعلام المبتور والقوالب المضحكة حول الإسلام ما تزال هي الرائجة) (¬1). 5 - على الرغم مِمَّا اتسمت به الدراسات الاستشراقية وسار عليه معظم المستشرقين من نفي لوسطية الأُمَّة الإسلاميَّة بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فإنَّ هناك من المستشرقين من اعترف بتلك الوسطية وأظهرها بطريقة مباشرة أو ضمنية. . وتفصيل ذلك في النماذج الآتية: أ- يقول المستشرق (جورج سارطون): (وكان الإيمان في الإسلام بسيطًا، كريمًا، معتدلًا، ومع ذلك فقد كان بالإمكان أن تشيع فيه الحماسة حين البأس إلى حد بعيد فينقلب المجاهدون حيئنذٍ ذوي حميَّة إمَّا أن يبلغوا بها الظفر وأن يسقطوا دونه شهداء) (¬2). ففي قول (جورج سارطون) ما يبين وسطية الإسلام واعتداله، وأنه يتسم بالتسامح والكرم والبساطة، وقد تبلغ الحماسة فيه حين البأس إلى حد الاستشهاد أو الظفر، وقد علَّق عمر فروخ على مقولة (سارطون) هذه بمقارنة بينها وبين ما ذهب إليه (توماس أرنولد) من مبالغة في وصفه للتسامح في الإسلام إلى درجة قد تؤثر على مشروعية الجهاد وقال: (وهكذا يستطيع الإنسان فيما يتعلق بالتسامح أن يظهر المسلمين في صورة وضاءة (كما فعل أرنولد) أو في صورة حالكة شديدة (الظلمة) (¬3)، ولا شك أن الأُمَّة الإسلاميَّة وسط بين طرفين). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 381. (¬2) جورج سارطون: الإسلام كما ينظر إليه المستشرقون المنصفون، محاضرة نقلها عمر فروخ إلى العربية، وألحقها محمد إبراهيم الفيومي في كتابه: الاستشراق. .: ص 411 - 455، (المرجع السابق نفسه)، والمنقول أعلاه: ص 432، (المرجع نفسه). (¬3) الإسلام كما ينظر إليه المستشرقون المنصفون: ص 432، (المرجع السابق نفسه).

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية

ب- ما قاله أحد المستشرقين من (أنَّ القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأُخرى، وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرَّم محمدٌ قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس) (¬1)، ويشير مستشرق آخر إلى ما فعله الصليبيون حينما دخلوا القدس قائلًا: (بعد أن سقطت المدينة، وقعت المذبحة، إذ ذبح كل المسلمين رجالًا ونساءً وأطفالًا. . . وفي معبد سليمان وحوله؛ خاضت الجياد في الدم حتى الركب بل وحتى اللجام. . أمَّا بالنسبة ليهود القدس فحين اجتمعوا في معبدهم الرئيسي أضرمت فيه النيران وحرقوا جميعًا أحياء) (¬2). وإذا كانت هذه الأقوال تنصب على جانب واحد من جوانب الوسطيَّة كخصيصة من خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة، صاحبت انتشار الإسلام، واتسمت بها علاقاتها مع الأمم الأخرى، فإنَّ هناك أقوالًا أخرى بينت الوسطية كخصيصة من خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة في جانب العقائد وجانب العبادات، ولكنَّها تأتي ضمنًا في تلك الأقوال إذا أُخذَ في الاعتبار ما عليه الأمم الأخرى في تلك الجوانب. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية: أ- يقول (فرانز روزنثال): (وعندما ظهر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت اليهودية والنصرانية منتشرتين في الجزيرة، ولهما آراء متشابهة في التفسير التاريخي ¬

_ (¬1) ميشو: تاريخ الحروب الصليبية، نقلًا عن: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 86، (مرجع سابق). (¬2) كافين رايلي: الغرب والعالم (تاريخ الحضارة من خلال موضوعات): ص 197، ترجمة: عبد الوهاب محمد المسيري وآخر، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على خلفية الحروب الصليبيَّة في تاريخ الغرب واتسامه بالعنف في أعقاب ذلك؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 175 - 211.

للحياة الإنسانية، غير أن الدين الإسلامي الذي بشر به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يتميز بالوضوح والقدرة على تفهم أسس الوجود بصورة واضحة جدًّا ومن غير تعسف، والواقع أنَّ مفاهيم الإسلام أوضح وأقل جمودًا من ناحية العقيدة، من مفاهيم اليهود والنصارى الدينية) (¬1). ب- ويقول (جاك ريسلر): (أمَّا الإسلام المسكون بهاجس وحدانية اللَّه وتوحيده، فقد رفض في سياق بحثه عن المطلق عقيدة الأقانيم الثلاثة، وابتعد بذلك عن المسيحية التي كان يتهمها بنوع من الشرك في تصورها لأُلوهيةٍ ذات ثلاثة أشخاص، ولكن الإسلام كان يعترف، بوفاءٍ نادرٍ جدًّا في تاريخ الأديان بأنَّ الكتب العبرانية أو المسيحية كانت منزلة (قبل أن يمسها التحريف)، وكان يتقبل قصص التوراة اليهوديَّة - المسيحية. وكبرهان على رسالته الإلهية، يعترف النبي ويحتج حتى بالتوافق القائم بين القرآن والتوراة،. . . ويدعو اليهود بتسامح وبتعقل في آن إلى طاعة شريعتهم، ويدعو المسيحيين إلى احترام أناجيلهم، ولكن من المؤكد أنَّ عليهم التسليم بالقرآن بصفته آخر كلام اللَّه، ودينه المنزل المميَّز) (¬2). ج- ويتحدث (آرثركين) الفيلسوف الأمريكي المسلم، عن سبب إسلامه؛ قائلًا: (لقد بحثت طويلًا في سر الوجود وتعمقت في أبحاثي بحكم دراستي للفلسفة وعلم النفس، ورأيتُ أن الإسلام هو أقرب الأديان إلى السماء وإلى النفس الإنسانية، فتأكد يقيني بأنَّه الدين الكريم الذي أرتضيه وأؤمن به. . .) (¬3). ¬

_ (¬1) علم التاريخ عند المسلمين ص 39؛ ترجمة: صالح أحمد العلي، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م، عن مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) الحضارة العربية: ص 17، تعريب: خليل أحمد خليل، (مرجع سابق). (¬3) عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا، 9/ 155، 156، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م، عن دار القلم، الكويت، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام. . ص 230، (مرجع سابق).

د- وعن العبادات في الإسلام قال (أميل درمنغم): إن الإسلام (يرى كمال العبادة في نيل الجسم حقه الشرعي) (¬1)، وقال بعد ذلك: (كان الكثير من المسلمين يكثرون من التوبة والاستغفار والصلاة والصوم، فرأى محمد أن القصد أولى من الإفراط. . . وأشار بالاعتدال في التقشف، وبترك كلِّ ما يميتُ النفس) (¬2). ولعل (أميل درمنغم) يشير بقوله هذا إلى النفر الثلاثة الذين جاؤوا إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أصلي ولا أنام، وقال الثالث: وأمَّا أنا فلا أتزوج النساء. فنهاهم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، وقال: "أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (¬3). وعلى أيِّ حال فقد تحدث (أميل درمنغم) عن خصيصة الوسطية في جانب العبادات، وله -أيضًا- أقوالٌ أخرى عن وسطية المجتمع الإسلامي فيما يتعلق بمبادئ العقيدة والتشريع والنظرة إلى الدنيا والآخرة، إذ قال: (على ما تراه في دعوة النبي من المبادئ الأخروية لم يأل النبي جهدًا في تنظيم المجتمع الإسلامي تنظيمًا عمليًّا، فكان القرآن كتاب شريعة كما كان مثل كتاب التنبيه والزبور) (¬4). وله بعد ذلك أقوال في مشروعية الأذان ومقاصد العبادات في الإسلام (¬5) تأتي في مكان آخر إن شاء اللَّه. * * * ¬

_ (¬1) حياة محمد: ص 284، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 286. (¬3) سبق تخريجه: ص 748، (البحث نفسه). (¬4) حياة محمد: ص 289، 290، (المرجع السابق نفسه). (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 290.

الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها • تمهيد. • مفهوم الإيجابية الخيرة. • جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية. • موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة.

تمهيد

تمهيد الإيجابيَّة الخيِّرَة هي تلك الخصيصة الأخرى من خصائص تميز الأمَّة الإسلاميَّة، وهي السِّمَة البيِّنة التي اتصفت بها الأُمَّة الإسلاميَّة، تحقيقًا لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، فالسبق والمسارعة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وليس ذلك السبق، وتلك المسارعة لذاتهما، وإنَّما هما في الحقيقة إيجابيَّة خيِّرَة اختصت بها الأُمَّة الإسلاميَّة لتحقق من خلالها الخير والسعادة للإنسانية قاطبة، ولا تقتصر نظرتها في ذلك على العاجل فحسب في الدار الدنيا، بل تتجاوز نظرتها هذه الحياة الأولى إلى الحياة الآخرة، وتعمل للعاجلة والآجلة بهدي من قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. وتتجلى إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في جوانب كثيرة، سأتناول جانبين من أهم تلك الجوانب، ولكن قبل ذلك أبين مفهوم المسارعة والسبق. * * *

مفهوم الإيجابية الخيرة

مفهوم الإيجابية الخيرة مفهوم المسارعة والسبق: أ- المسارعة: مشتقة من الفعل الثلاثي (سَرُع) يقال: (سَرُعَ، يَسْرُعُ سرعة وسِرْعًا، فهو سَرعٌ وسريعٌ، والأُنثى: سَرْعى) (¬1) بمعنى (خَفَّ وعجل. تسرَّع بالأمر: بادر به. المتسرع: المبادر إلى الشر. المسرع: السَّريع إلى خير أو شر) (¬2). والمسارعة فيها مبالغة ومفاعلة من السُّرعة، وتختلف عن العجلة، وعن الفرق بينهما قال الرازي: (فإن قيل: أليس العجلة مذمومة. . . "العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن" (¬3) فما الفرق بين السرعة وبين العجلة؟ قلنا: السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدِّين؛ لأنَّ من رغب في الأمر آثر الفور على التراخي، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وأيضًا العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]) (¬4). ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب المحيط: مادة (سَرُع)، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: المادة نفسها. (¬3) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 4/ 322، ورقمه (2012)، ولفظه: "الأناة من اللَّه والعجلة من الشيطان"، كتاب البر والصلة، باب [66]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق)، غير أنه قال فيه: (هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس بن سهل، وضعَّفه من قِبَل حفظه) وعبد المهيمن هو راوي الحديث عن أبيه عن جده (سهل بن سعد الساعدي). (¬4) التفسير الكبير: 3/ 334، (مرجع سابق).

ب- السبق

كما أن المسارعة ليست ممدوحة على الإطلاق؛ فإن اللَّه عز وجل وصف بها الكفار والذين في قلوبهم مرض، وأنَّهم يسارعون كذلك في الكفر وفي الإثم والعدوان، مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] (¬1)، وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، وكقوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62]. والشاهد في هذه الآيات أنَّ صفة المسارعة قد تكون مذمومة كما أنَّها صفةٌ ممدوحة، والذي يحدد ذلك الغاية التي ترتبط هذه الصفة بها، فإن كانت في الخير والبر والمعروف، فهي صفة إيجابيَّة خيِّرة، وإن كانت المسارعة في الكفر والإثم والعدوان، وفيما نهى اللَّه عنه بعامَّة؛ فهي صفة ذمٍّ ونقيصة. ب- السبق: مشتقة من الفعل الثلاثي (سَبَقَ)، قال ابن فارس: (السين والباء والقاف أصل واحد صحيح يدل على التقدم، يقال: سَبَق يسبق سبقًا، فأمَّا السَّبْق فهو الخطر الذي يأخذه السَّابق) (¬2)، ولعل ابن فارس يريد بقوله: (الخطر الذي يأخذه الفارس) إمَّا القدر والمكانة وهو أحد معاني الخطر (¬3)، أو يريد بقوله هذا (ما يُجْعَلُ من المال رهنًا على المسابقة) (¬4). وفي تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ¬

_ (¬1) وانظر: [سورة آل عمران: الآية (176)]. (¬2) معجم مقاييس اللغة: مادة (سبق)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع نفسه: مادة (خطر). (¬4) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، مادة (سبق)، (مرجع سابق).

[المؤمنون: 61]، قال بعض المفسرين: (ينافسون فيها، وقيل: يسابقون. . . {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. . .: هم سابقون الناس لأجلها) (¬1). ويُمكن القول أنَّ مفهوم المسارعة والسبق في ضوء هذه المعاني يشكل المضمون الحقيقي لخصيصة الإيجابيَّة الخيِّرة بصفتها إحدى خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 488، 489، (مرجع سابق).

جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية هذه الخصيصة لها جوانب كثيرة لا يتسع المجال لاستقصائها والإلمام بجميعها، ويتناول هنا جانبان منها؛ أحدهما يبين تلك الخصيصة على مستوى الأفراد من خلال نماذج اتسمت بالمسارعة في الخير وأعمال البر وحققت السبق في ذلك، والآخر يبين تلك الخصيصة على مستوى الأُمَّة، وبعض مظاهر تلك الإيجابيَّة في نطاق العرب والشرق، والعالم بعامَّة. فأمَّا الجانب الأول فإنَّ له شواهد عدَّة تمثلت فيما أقدم عليه أفراد من الصحابة من البذل والعطاء والجود بالأنفس والمال والأولاد في سبيل اللَّه بعد أن تمكن الإيمان في قلوبهم، وامتلأت نفوسهم بمحبَّة اللَّه ومحبة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصَغُرت الدنيا في أعينهم بما فيها من لذَّات ومطامع ومكاسب وزخارف، واشتاقوا للقاء اللَّه وما عنده من الثواب، فكان منهم من يقذف بالتمرات مسرعًا إلى الاستشهاد في سبيل اللَّه والسبق إلى الشهادة، ويرى أن الوقت الذي يمضيه في أكل تلك التمرات يؤخره عن لقاء ربه، وكان منهم من قدّم ماله في سبيل اللَّه ولم يترك منه شيئًا، وكان منهم من أخرج نفسه من أعز ما يملك لينال البر ويتقرب بذلك إلى اللَّه عز وجل؛ وقصة هذه النماذج في الآتي: أ- ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في غزوة بدر: "قوموا إلى جنَّة عرضها السموات والأرض" (¬1)، فقال عمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول اللَّه! جنَّة عرضها السموات والأرض. قال: "نعم" قال: بخ بخ، فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك: بخ بخ" قال: لا، واللَّه يا رسول اللَّه إلَّا رجاءه أن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3/ 1510، كتاب الإمارة، الباب [41]، الحديث رقم [1901]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

أكون من أهلها. قال: "فإنَّك من أهلها" فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهنَّ ثُمَّ قال: لئن حييت حتى آكل هذه إنَّها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر. ثمَّ قاتلهم (أي: مشركي قريش) حتى قتل) (¬1). ب- وأخرج الترمذي: أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: (أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نتصدق فوافق ذلك مالًا، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر، إنْ سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيتُ لهم اللَّه ورسوله، قلت: واللَّه لا أسبقه إلى شيء أبدًا) (¬2). ج- وحينما نزل قول الحق تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، جاء أبو طلحة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول له: (يا رسول اللَّه، إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنَّها صدقة للَّه، أرجو برَّها وذخرها عند اللَّه، فضعها يا رسول اللَّه، حيثُ أراك اللَّه) (¬3) قال راوي الحديث أنس بن مالك ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه، (بقية الحديث). (¬2) الجامع الصحيح 5/ 574، كتاب المناقب، الباب [16]، الحديث رقم [3675]، وقال عنه: (حديث حسن صحيح)، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 1/ 241، 242، بتحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م، عن دار ابن عفان، الخبر. وانظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 106، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 530، 531، كتاب الزكاة، الباب [43]، رقم الحديث [1392]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). وأخرجه مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث [998]، كتاب الزكاة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وانظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 221، 222، (المرجع السابق)، وانظر: ابن العربي: أحكام القرآن 1/ 281، (مرجع سابق).

-رضي اللَّه عنه-: (فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَخْ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللَّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) (¬1). تبين هذه النماذج الثلاثة -وهي غيض من فيض مِمَّا كان عليه السلف الصالح (¬2) - أنَّ المسارعة في أعمال البر والإحسان والسبق إليها من أهم خصائص تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّ هذه الخصيصة تأتي منسجمة مع خصائص أخرى امتدح اللَّه -عز وجل- الأُمَّة الإسلاميَّة بها، وميَّزها بها عن غيرها، قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]، فقد بينت الآيات الكريمة جوانب كثيرة لهذه الإيجابيَّة الخيّرَة للأُمَّة الإسلاميَّة، إذ هي إيجابيَّة نحو ربها جلَّ وعلا: تتمثل في خشيته تعالى، والشفقة منه تعالى والإيمان بآياته، وعدم الإشراك به، ومن الإيمان بآياته الإيمان برسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وما جاء به من الآيات والذكر الحكيم، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، وما يتبع ذلك من وجوب طاعته ومحبته ومناصرته والرضى بحكمه، وهذه إيجابيَّة نحو رسول الأُمَّة محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإيجابيَّة نحو الناس تتمثل في الصدقة والنفقة والإحسان، ونحو ذلك من وجوه البر. ثُمَّ إنَّ هذه الإيجابيَّة لا تبعث على الركون إلى العمل والاغترار به، بل يمارس المؤمن تلك الإيجابيَّة الخيِّرَة وهو متواضع للَّه، يرجو رحمته ويخاف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: المرجع السابق نفسه (بقية الحديث). (¬2) لمزيد الاطلاع من النماذج الدَّالَّة على خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة؛ انظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 111 - 113، وقبلها: ص 96 - 101، ص 103 - 109، الطبعة الرابعة عشرة 1412 هـ - 1992 م، عن دار القلم - الكويت.

عقابه، وقلبه (يستشعر يد اللَّه عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة. . . ومن ثمَّ يستصغر كل عباداته وشمتقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء اللَّه ونعمائه. . . ومن ثَمَّ يشعر بالهيبة ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى اللَّه وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة، ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرًا) (¬1). وفي الحديث أن أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنه-: (سألت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: هُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أنْ لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات" (¬2). وأمَّا الجانب الآخر من إيجابيَّة الأُمَّة الاسلاميَّة، على مستوى العالم من حولها بدءًا بالعرب ثُمَّ بمن جاورهم من الأمم الأخرى ثُمَّ العالم أجمع، فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة انطلقت وهي تحمل عقيدة التوحيد وشريعة اللَّه، وما انبثق عنهما من قيم وأخلاق ومبادئ ومثل، في حركة إيجابيَّة خيِّرَة نال من خيرها العرب في الجزيرة العربيَّة، واتسع نطاقها شرقًا وغربًا حتى بلغت المحيط الأطلسي غربًا، إلى بلاد الهند والصين شرقًا، وفي خلال هذا الانتشار والفتح أسهمت الأُمَّة الإسلاميَّة: (في بناء حضارة جديدة ضخمة، قدر لها أن تصبح أعظم حضارة عرفها العالم أجمع طوال العصور الوسطى، وهي الحضارة الإسلاميَّة العربية، وكما يتضح من الاسم المركب لهذه الحضارة، فإنَّها استمدت عظمتها من مبادئ الإسلام ومثله وروحه، ومن المهد الذي ولدت فيه، وحسب العرب في عهدهم الجديد، ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن 4/ 2472، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 306، 307، كتاب تفسير القرآن، الباب [24]، رقم الحديث [3175]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق).

أنَّهم أحسوا بكونهم بناة الدولة وحماتها، ودعاة الإسلام وحاملو رسالته، والمبشرون بعقيدته في مختلف أرجاء الأرض) (¬1)، ولكي تُعْرَفَ خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة في محيط العرب بخاصة، ثُمَّ في محيط الأمم الأخرى بعامَّة، ينبغي أن يُنْظَرَ في حال هؤلاء وأولئك قبل الإسلام، ثُمَّ في حالهم بعد ظهوره وانتشاره. أ- فأمَّا العرب فقد كانوا قبل الإسلام: (في جاهليَّة جهلاء، وفي ضلالة عمياء، يسفكون الدماء، ويخيفون الطرق، وينتهبون الأموال، ويتعاطون كبائر الآثام، ليس لهم مَلِكٌ يَنْظم بَدْوَهم، ولا سائسٌ يقيم أَوَدَهم، فرزقوا رسولًا من اللَّه تعالى، مبعوثًا بالحق والهدى؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويأمرهم بالعدل والإحسان، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر، ويدعوهم إلى ترك العصبيَّة، وحميَّة الجاهليَّة. فآواهم وأيدهم بنصره، ومكَّنهم من الممالك، بعد أن كانوا قنعوا من أربابها بالسلامة من سطوتهم، فضلًا عن الاستيلاء على خططهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، فأصبحوا بمكان هذه الدعوة أصنافًا ثلاثة: صنف منهم ملوك أَعزَّة، وولاة المنابر والأسرة، قد نفذ حكمهم على الأقربين والأبعدين؛ لتحصيلهم الرياسة في الدين، وتوسعهم في معرفة أحكامه، والتفقه في حلاله وحرامه، فسعدوا بأشرف خطوة، وأجل أُكْرُومة. وصنف منهم توجهوا إلى الآفاق في المغازي، فسهَّل اللَّه لهم فتح البلاد، وذلَّل لهم رقاب العباد، فتقابلوا في النواحي التي فتحت لهم، وحازوا فيها نعمًا جسيمة، وأملاكًا عريضة، بعد أن كانوا مَمْنُوِّين في جاهليتهم بضيق الحال، وضنك العيش. ¬

_ (¬1) سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص 110، (مرجع سابق).

وصنف منهم -وهم الجمهور من أفناء العرب، المقيمون في ديارهم- قد اقتنوا بالنسبة التي جمعت بينهم وبين صاحب الدعوة شرفًا لا يجهل أن يقال لهذا الدين في رفعته وجلاله: "دين العرب" (¬1): ويقال لهذا الملك في اتساع رقعته، وعلو مكانه: "ملك العرب" (¬2)، فهذه مجامع ما سَعِدَ به جيل العرب في أيام هذا الدين) (¬3). ب- وأمَّا الأمم المجاورة للجزيرة العربيَّة فإنَّها نالت من إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرة ما حرَّرَها من العقائد الفاسدة والمظالم المستحكمة، وأخذ بها في مدارج الرفعة والشرف، وللمثال على ذلك فإن الفرس وهم إحدى الأمم المجاورة للعرب والسابقة لهم في الميدان الحضاري، كانت على حالٍ قبل الإسلام ثُمَّ تحولت بدخولها الإسلام إلى حال آخر؛ ولمعرفة ما كانت عليه قبل الإسلام وما صارت إليه بعده، أنقل ما ذكره أبو الحسن العامري في قوله: (وأمَّا العجم فإنَّهم -مع ما كانوا رزقوا في أيام الأكاسرة من الأَبْنِيَات الحميدة، والآداب المنقولة، والعناية الصادقة بحفظ رسوم العمارة. . . ابتلوا بمحنتين عظيمتين، لا يدانيهما شيءٌ من المحن الدنيويَّة في الفظاعة والنُّكر: إحداهما: عَوْقُ المَوَابَذَة - (جمع موبذان وهو مثل (البابا) عند النصارى) (¬4) - لدهمائهم -بالقهر- عن اقتناء الحكمة الإلهية، التي بها ¬

_ (¬1) باعتباره حكمًا عربيًا لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37]. (¬2) ولهذا القول شاهد من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنَّ أُمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي"؛ سبق تخريجه: ص 689، (البحث نفسه)، وانظر: أبا نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة 2/ 538، الحديث رقم [464]، (مرجع سابق). (¬3) أبو الحسن العامري: كتاب الإعلام بمناقب الاسلام: ص 173، 174، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: رقم [3]، في حاشية الصفحة [174]، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 284، (مرجع سابق).

يُتَوَصَّلُ إلى كمال الإنسانيَّة، وباقتنائها تستحق الرتبة الروحانيَّة، وكان سببه أن (زرادشت) المتنبئ لَمَّا أسَّسَ لهم في الأبواب الاعتقاديَّة تلك الأصول الدَّالة على نزارة حظه من الحكمة النظريَّة: نحو كون العالم من قديمين، وحصول جبلَّته من امتزاج الضدين، وأنواع هذيانه في العفاريت والشياطين، وخطئه الفاحش في شكل الأرض، وتخطيط الأفلاك -صيرهم بالمأخذ التقليدي مزجورين عن الحكمة الإلهية، تحرزًا من أن يتنبه الناظر فيها، والمتحقق لبراهينها، على سخافة دعاوية، فابْتُلِيَ أَلِبَّاءُ العجم لمكان الدعوة المجوسيَّة -مع أفهامها الزكيَّة، وعقولها السريَّة- بالمنع القادح عن أشرف أبواب الحكمة، بل ثكلوا روح اليقين بالحقائق البرهانية. والأخرى: أن طبقاتهم بأسرهم كانوا مضطهدين بسياسة الاستعباد، وإيالة الاستخوال؛ إذ كان ملوكهم وسَمُوا أنفسهم بسمة (الخُذَايكانية) (¬1)، ووسموا كافَّة من سواهم بسمة (الدهكانية) (¬2). وليس يُشكُّ أن تسخير العاقل الحر بالقهر والغلبة على المنزلة الواحدة، وزجره عن اكتساب المحامد بالهمَّة العليَّة، والتمني باجتهاد سعيه إلى ما يتمناه من الجاه والمَعْلُوَة -في الغاية في الاتِّضَاع والخسَّة- وهي النهاية في الاستسلام للغضاضة. وإذْ وجدت المحنتان مطبقتين على العجم: إحداهما من جهة ملوكهم، والأخرى من جهة مَوَابِذَتِهم -فمن الواجب أن نعلم أنَّ مجيء الإسلام قد أفادهم بشرفه واستعلاء مكانه عوائد ثلاث: ¬

_ (¬1) مصطلح فارسي يعني طبقة السادة والعظماء والملوك. (¬2) مصطلح فارسي آخر يعني طبقة الفلاحين والمزارعين والقرويين، ولمزيد الاطلاع على هذه المسميات والتفرقة العنصرية، انظر: المسعودي: التنبيه والإشراف: 97، 103، 420، طبعة ليدن بمطبعة برلين 1893 م، وانظر: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 175، 176 (الحاشية) تعليقات المحقق، (مرجع سابق).

إحداها: إفادة السلامة عن التسخير للعبوديَّة، وإزالة الحجر عنهم في التطلب للرفعة، إذ قيل لهم: "إن الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب" (¬1) و {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، و"المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم" (¬2). الثانية: الهداية للحكمة الإلهية، وتحقيق مبادئها بالأدلة، ليقتنوا باقتباسها والتوسع في معالمها فضيلة روحانية، وغبطة نفسانيَّة، فتجلَّ بها مراتبهم عند الخلق، ويبقى لهم الذكرُ في العواقب. الثالثة: فتح الطريق لهم إلى التفيُّؤ بظل هذه الدولة الميمونة، وقصد الأمم المصاقبة لهم باستخلاصها على شرائط الجهاد، ليعمروا بلادهم بما يفيدونه من الفيء، وينقلوا ذراريهم إلى أكناف ديارهم، فيأخذونهم بالآداب الحسنة، ويروضونهم على الأخلاق الحميدة، حتى إذا استحكمت دربتهم فيها، واستولت مِرَّاتهم عليها، منَّوا عليهم بالإعتاق، وأكرموهم بالإفضال، فيصيرون بذلك قائلين على الدوام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، فهذه هي عوائد جيل العجم في أيام هذا الدين) (¬3). ج- وأمَّا إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرَة على العالم، فإنَّها من المسلمات التاريخيّة لدى كثير من الباحثين المحققين، والمفكرين المنصفين، وقد تمثلت في مظاهر عدَّة من أبرزها: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه: ص 485 - 486، (البحث نفسه). (¬2) سبق تخريجه: ص 530، (البحث نفسه). (¬3) كتاب الإعلام بمناقب الإِسلام: ص 174 - 177، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 87 - 90، وقبلها: ص 53 - 57، 58 - 63، (المرجع السابق).

أولًا: الإقبال على العلم والمعرفة، فتعلم المسلمون (القراءة والكتابة، لينشروا دينهم ولغتهم، وتعلموا لغات أعدائهم، ليأمنوا مكرهم وشرهم، وبحثوا عن أيِّ علم يفيدهم وينفعهم؛ لأنَّهم يعلمون أن هذا جهاد في سبيل البشرية كالجهاد بالسيف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، (حيث يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء يوم القيامة) (¬1)، ومن هنا انطلق المسلمون يبحثون عن تراث الأقدمين، وعن علمهم في الأمم اللاهيَّة، التي لم تستطع الاستفادة أو الإفادة منه، ويجب أن يعلم أن العلوم التي اتصل بها المسلمون واستفادوا منها، كانت بعيدة عن العقائد والعبادات وعلوم الشريعة؛ لأنَّ هذه كانت لها مصادرها الموثوقة عند المسلمين، التي لا تقبل الإضافة أو التبديل أو التغيير، وإنَّما هي العلوم التي تدخل تحت قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (¬2)، وانطلق المسلمون يأخذون كل مفيد، ويتعلمون كل نافع، فترجموا كتب الأقدمين في الطب، والهندسة، والكيمياء، والفلك، والحكمة، والجغرافيا، والحيوان، والنباتات، وكانت معرفتهم معرفة تمحيص وليست معرفة تبعيَّة أو تقليد) (¬3)، وسلكوا في أخذها والعلم بها منهجًا علميًّا يعتمد على الانتقاء والتجربة والتمحيص، وإعمال العقل والفكر، متأثرين في ذلك المنهج بما جاء به الإسلام من رؤية للكون والحياة والإنسان، ¬

_ (¬1) ورد في ذلك حديث عن أبي الدرداء؛ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوزن يوم القيامة مِدَاد العلماء ودم الشهداء" وبقيته: "فيرجح مداد العلماء على دم الشهداه"، والبقية من حديث أنس وغيره، ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 150، 151، ورقمه [153]، بتحقيق: أبي الأشبال الزهيري، (مرجع سابق). وفي تخريجه للحديث قال: (ضعيف جدًّا)، ونقل عن بعض علماء الحديث قوله أنَّه موضوع. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1836، الحديث رقم [2363]، كتاب الفضائل، باب [38]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). (¬3) توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 383، (مرجع سابق).

فكانت حركتهم العلميَّة في هذا المضمار حركة إيجابيَّة أفادت منها البشريَّة، ولعل المنهج التجريبي الذي شقَّ طريقه إلى الغرب، وأسهم في قيام الحضارة الحديثة، والنهضة الأوروبيَّة، يعد من فضائل الأُمَّة الإسلاميَّة على العالم، وهذا ما يعترف به المنصفون من مؤرخي الغرب ومفكريه. يقول (جوليفة كستلو) (jolivet castelot) في كتابه (قانون التاريخ) (Lal oli de l'Histoire) (كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيمًا، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعدًّا لانتشار الإسلام، فنشأت المدنيَّة الإسلاميَّة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب، ظهر أثره في الفنون والآداب، والشعر والعلوم، وقبض العرب بأيديهم خلال عِدَّة قرون، مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشريَّة التي لها مساس بالفلسفة، والفلك، والكيمياء، والطب، والعلوم الروحيَّة، فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين، لا بالمعنى المعروف، بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقَّادة للغاية) (¬1). ويواصل قوله عن فضل الأُمَّة الإسلاميَّة على أوروبا في مجال العلم والمعرفة فيقول: (وإنَّ أوروبا لمدينة للحضارة العربية بما كتب لها من ارتقاء من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وعنها أخذت. . .، وأوروبا تدين بالهواء النافع الذي تمتعت به في تلك العصور للأفكار العربية، وقد انقضت أربعة قرون ولا حضارة فيها غير الحضارة العربية وعلماؤها هم حملة لوائها الخفاق) (¬2). ويصحح (غوستاف لوبون) الخطأ الذي ارتكب في التاريخ الحضاري ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية 2/ 543، 544، الطبعة الثانية، 1950 م، عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، وانظر: أبا الحسن الندوي: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 103، 104، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه، وانظر: أبا الحسن: المرجع السابق نفسه: ص 104.

عندما ينسب المنهج التجريبي إلى (باكون (Baconfrancis)) فيقول: (ينسب الناس إلى "باكون" قاعدة التجربة والملاحظة والمنطق الاستقرائي، وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يُعْتَرف اليوم أنَّ هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب) (¬1). ومِمَّا ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أن الأُمَّة الإسلاميَّة كانت ملتزمة في تلك المعارف والعلوم إلى حدَّ كبير بمبادئ الإسلام وقيمه وضوابطه الأخلاقيَّة، أمَّا مفكرو الغرب فقد انطلقوا بالعلوم والمعارف التي اقتبسوها من الأُمَّة الإسلاميَّة، وتتلمذوا في بداية الأمر على علماء الأُمَّة الإسلاميَّة؛ انطلقوا بتلك المعارف والعلوم نحو (نظريات غير ملتزمة بالأخلاق الإنسانية في بعض جوانبها، ومتعارضة معها في بعضها الآخر) (¬2)، مِمَّا كان له الأثر البالغ على الإنسانية، فبقدر ما نالت من معطيات العلم ومكتشفاته، شقيت بتلك النظريات غير الملتزمة بالمبادئ الدينيَّة والأخلاقية، وما حملت من الشرور والمخاوف، التي لم تكن لتحدث لو أنَّ التطور العلمي سار وفقًا للمنهج الإسلامي الملتزم بالأخلاق والمبادئ والقيم. ثانيًا: ومن مظاهر إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرَة على العالم، ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية: 2/ 202، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 104، 105، (المرجع السابق). وانظر: محمد الرابع الحسني الندوي: الثقافة الإسلاميَّة والواقع المعاصر: ص 44 - 46، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار الصحوة - القاهرة، ولمزيد الاطلاع على أثر الإسلام وعلومه وحضارته في نشوء الحضارة الغربية وارتقائها؛ انظر: محمد شريف: الفكر الإسلامي، منابعه وآثاره: ص 67 - 88، 99 - 136، ترجمة: أحمد شلبي، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد الرابع الحسني الندوي: المرجع السابق نفسه: ص 46.

ما اضطلعت به من إنقاذ الناس من فساد المعتقدات، وظلم بعضهم لبعضهم الآخر، ورد المسار البشري العام إلى صراط اللَّه المستقيم، والإسهام في إصلاح أوضاع البشريَّة وإرشادها، والنهوض بها في مجال الأخلاق والاجتماع وفي المجال الحضاري بعامَّة، وقد ظهرت آثار تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وإيجابياته الخيِّرَة في جميع هذه المجالات. كتب أبو الحسن الندوي؛ تحت عنوان (عشر معطيات هامَّة ومنح أساسيَّة) (¬1): (إذا كان لا بُدَّ من تحديد جوانب ومجالات في حياة الأمم والشعوب والحضارة، ظهرت فيها التأثيرات الإسلاميَّة في أجلى أشكالها، نحددها -على سبيل الاختصار والاختيار- في عشرة من المعطيات الهامَّة والمنح الأساسية الغالية، التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره، والتي خلَّفت عالمًا مشرقًا جديدًا لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء، وهي كما يلي: 1 - عقيدة التوحيد النقية الواضحة. 2 - مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية. 3 - إعلان كرامة الإنسان وسموه. 4 - رد الاعتبار إلى المرأة ومنحها حقوقها وحظوظها. 5 - محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء، والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان. 6 - الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة. ¬

_ (¬1) انظر: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 16 - 120، (مرجع سابق). وانظر: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي: ص 174 - 533، عن دار مصر للطباعة (بدون تاريخ).

7 - إيجاد الرباط المقدس الدائم بين الدين والعلم، وربط مصير أحدهما بالآخر، وتفخيم شأن العلم، والحث عليه، وتوجيهه إلى علم هادف نافع موصل إلى اللَّه. 8 - استخدام العقل والانتفاع به حتى في القضايا الدينيَّة، والحث على النظر في الأنفس والآفاق. 9 - حمل الأُمَّة الإسلاميَّة على قبول مسؤولية الوصاية على العالم، والحسبة على الأخلاق، والاتجاهات، وسلوك الأفراد والأمم، وتحمل مسؤوليَّة القيام بالقسط والشهادة للَّه. 10 - الوحدة العقائدية الحضارية العالميَّة) (¬1). ثُمَّ شرع المؤلف في شرح هذه المعطيات، في مقارنة لطيفة بين ما جاء به الإسلام وما كانت عليه الأمم من شرك ووثنيَّة، وتأثير الأُمَّة الإسلاميَّة على تلك الأمم في مجال التوحيد (¬2)، والأُخُوَّة الإسلاميَّة والإنسانية، وإقرار مبدأ المساواة البشرية، وأثره العالمي، كذلك إعلان كرامة الإنسان وسموه، وشرف الإنسانية وعلو قدرها، ورد الاعتبار للمرأة وإعطاؤها حقوقها وحظوظها والنظرة العادلة إليها من غير إفراط ولا تفريط، مع بيان ما كانت تعانيه في ظل العقائد والشرائع الأخرى من امتهان وحرمان، وبيَّن ما أحاق بالإنسان في ظل العقائد الفاسدة مثل العقائد القديمة في الهند التي دانت بعقيدة التناسخ وفلسفتها، والنصرانية ¬

_ (¬1) الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 16 - 17، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن العامري: كتاب الأعلام بمناقب الإسلام: ص 163 - 169، (مرجع سابق). وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 265 - 327، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 18 - 32، 33، 41، 47، 55، 71 - 73، (مرجع سابق).

وعقيدة الخطيئة والصلب والفداء والتثليث، ونحو ذلك من العقائد المنحرفة، حيث أصيب الإنسان تحت وطأتها باليأس من رحمة اللَّه وبسوء الظن بفطرته الإنسانية السليمة، فجاء الإسلام ليعيد للإنسان ثقته بفطرته السليمة، ومواهبه الطبيعية، إذْ (أعلن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكل قوة وصراحة أن فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويُمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأن الإنسان يستهل حياته بنفسه، ويستحق الثواب والعقاب والجنَّة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره، فقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة أن الإنسان مسؤول عن عمله فحسب، وأنه مثاب ومشكور على سعيه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 38 - 41] (¬1). وتحدث عن إيجابيَّة أخرى اضطلعت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على غير مثال سابق؛ إذ يقول: (إنَّ مِمَّا شهد به التاريخ الإنساني الطويل وعلم النفس والأخلاق، أن الغايات والتعاليم الفاضلة والنماذج العملية الرفيعة، لا تقوم -وإذا قامت لا تدوم- إلَّا إذا كانت وراءها جماعة من البشر -وبالأصح أُمَّة من الناس- تحمل دعوتها، وترفع رايتها، وتجاهد في سبيلها وتمثلها عمليًّا) (¬2). وبعد أن يستعرض ما آلت إليه تعاليم بعض الرسل صلوات اللَّه عليهم، وأنها لم تعش طويلًا لعدم وجود الأُمَّة التي تحمل تلك التعاليم وتمثلها في حياتها (¬3)، يؤكد خصيصة الأُمَّة الإسلاميَّة وإيجابية تميُّزها الخيِّرَة في هذا ¬

_ (¬1) الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 71 - 72، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 106. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 106.

المضمار؛ حيث أخرج اللَّه الأُمَّة الإسلاميَّة وربطها ببعثة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنَّه آخر الأنبياء والمرسلين ورسالته الرسالة الخاتمة، (فكانت البعثة المحمَّديَّة بعثة مقرونة؛ بعثة نبي مرتبطة ببعثة أُمَّة، فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يصف أمته بصفات لا تنطبق إلَّا على مبعوث -من غير نبوة- مأمور من اللَّه فيقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،. . . وجاء في الحديث: "إنَّما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (¬1). . . وقد نيطت بهذه الأُمَّة مسؤولية الوصاية على العالم، والحسبة والأخلاق، والاتجاهات، وسلوك الأفراد والأمم، ومسؤولية القيام بالقسط والشهادة للَّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار نفسها أُمَّة تسأل يوم القيامة عن مدى قيامها بهذا الواجب) (¬2). ثالثًا: ومِمَّا اكتسبه العالم من الأُمَّة الإسلاميَّة خلق الرفق والرحمة والتسامح، بعد أن حرَّرَ أممه من القهر والظلم والطغيان، وقد تبين في نقطة سابقة ما ناله الشرق وبخاصَّة الفرس من الخير والعدل والإحسان إبَّان حكم الأُمَّة الإسلاميَّة لهم وانتشار الإسلام فيهم، والآن تحسن الإشارة إلى بعض ما نالته الشعوب المحرَّرة من ربقة الاستعباد الرومي والبيزنطي من إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخَيِّرَة، في مجال التسامح الديني، على سبيل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري، ولفظه: "فإنَّما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" 1/ 89، كتاب الوضوء، الباب [57] رقم الحديث [217]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). (¬2) الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 107، 110، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن العامري: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 151 - 161، (مرجع سابق).

المثال فحسب، فمن المعروف: أنَّ تلك الشعوب كانت -كما قال أحد الباحثين- في حالة من (الذعر والقهر والعسف، والاضطهادات التي تعرضت لها. . . على أيدي الرومان، وطبقة رجال (الإكليروس). . . في الشرق وفي أوروبا) (¬1). وذكر أنَّ هذا الاضطهاد اصطبغ بقداسة دينيَّة، واستشهد على ذلك بمقولة (بولس): (باركوا على الذين يضطهدونكم باركوا ولا تلعنوا) (¬2)، وبلغ الأمر بهذه التعاليم ونحوها أن اعتنقها رجال الكنيسة ومن بعدهم رجال (الإكليروس)، وتمسك بها الملوك والإقطاعيون (¬3)، (وتعاونت طبقة رجال الدين مع الملوك والأمراء على إخضاع الجماهير وإذلالها، واستغلالها أبشع استغلال) (¬4). وعندما سادت الأُمَّة الإسلاميَّة وسطع نورها على آفاق الدنيا بما فيها أوروبا (انتهت موجة الذعر والقهر والعسف والاضطهادات. . . وحلَّ محلها عصر جديد. . . من التسامح. . .، تلك الروح التي كانت هاديًا ومنارًا في عصور كثيرة للشعوب الأوروبية، والتي انبثقت منها روح التسامح في صورتها الحديثة، فالعرب كانوا في الحقيقة أول غزاة طبعوا حضارتهم بروح من العدل والتسامح -النسبي- أثارت إعجاب الشعوب التي اختلطوا بها) (¬5). وقد شهد كثيرٌ من مؤرخي الغرب بعدل المسلمين وتسامحهم مع ¬

_ (¬1) جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 221، 227، (مرجع سابق). (¬2) رسالة (بولس) إلى أهل رومية 12/ 14؛ نقلًا عن جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 227، (مرجع سابق). (¬3) انظر: جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 227، (المرجع السابق نفسه). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 227. (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 221، 223.

أصحاب الديانات الأخرى وفق ضوابط شرعيَّة من شأنها إعلاء كلمة اللَّه، وإرساء قواعد العدل والخير والإحسان، وممن تحدث عن هذا الجانب المؤرخ (ول ديورانت) إذ قال: (كان أهل الذِّمَّة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأمويَّة بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم. . . وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم) (¬1). ويقول -أيضًا-: (وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطَّة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع الزردشتيين والوثنيين إلَّا عددًا قليلًا جدًا منهم، وكثيرون من اليهود. . . . وحيث عجزت (الهلينية) عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت فيها العقائد والعبادات الإسلاميَّة، وآمن السكان بالدين الجديد، وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله؛ إخلاصًا واستمساكًا أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدَّة من الصين وإلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالًا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعها، وأوحى إليهم العزَّة والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزون به ¬

_ (¬1) قصة الحضارة 13/ 130، 131، ترجمة: محمد بدران، الطبعة الثالثة، 1974 م، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 286 (مرجع سابق).

في هذه الأيام (نحو ثلاثمئة وخمسين مليونًا) من الأنفس، يوحد هذا الدين بينهم، ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسيَّة) (¬1). يتضح من هذا وما سبق الحديث عنه فيما قبله أن خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة إحدى خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة نال من خيرها ونفعها العرب في المقام الأول، ثُمَّ جاورهم من الشعوب والأمم التي وصلها الفتح الإسلامي وانتشر فيها الإسلام، بل ونال من خيرها ونفعها العالم أجمع، وهي في ذلك كله موصولة باللَّه -عز وجل- لأن هذه الإيجابيَّة الخيِّرَة جاءت ضمنًا؛ من خلال سير الأُمَّة الإسلاميَّة إلى ربها، إجابة لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. * * * ¬

_ (¬1) قصة الحضارة 13/ 133، (المرجع السابق نفسه). وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 286، 287، (المرجع السابق نفسه).

موقف المستشرقين من خصيصة إيجابية الأمة الإسلامية

موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة إذا كانت الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال تميّزها قد شيدت صروح المجد والحضارة، وأسهمت في رقي البشرية، والنهوض بعزيمة الشعوب والأفراد، وبالعمل الصالح، والإصلاح الشامل، وما تنطوي عليه رسالة الإسلام من قيم إيجابيَّة خيِّرَة استظلت الإنسانية بها ردحًا من الزمن، وتدرجت بها في معارج العلم والمعرفة والنور، ودفعت بعجلة التنمية الشاملة أشواطًا كبرى لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، رعاية لحقوق الإنسان، وحفاظًا على مكانته، وإسعادًا له أنَّى كان، فإنَّ معظم المستشرقين -من خلال دراساتهم وأبحاثهم التي يروج لها بأنَّها علمية وتوصف بالنزاهة والمنهجية- قد درجوا على القول بأن الأمَّة الإسلاميَّة أُمَّة خاملة تفرض عليها قيمها الدينية -من خلال ما زعموا من الجبر في عقيدتها- واقعًا متخلفًا تهبط معه الهمم، وتستسلم بسببه لأيِّ مصير، ولا تحسن إلَّا الجمود والكسل والخمول والتهالك على الملذات الجسديَّة والدنيويَّة التي يفترون على الإسلام بأنَّه دعا إليها. (فهذا "رينان" المستشرق الفرنسي يصور عقيدة التوحيد في الإسلام بأنَّها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، على حين أنَّ عقيدة التوحيد مزيَّة الإسلام، وآية على أنَّه الرسالة الكاملة الواضحة لخالق الكون في كونه، كما أنَّها الطريق السليم والوحيد إلى رفع شأن الإنسان وتكريمه؛ لأن صاحب هذه العقيدة لا يخضع في حياته لغير اللَّه، ولا يتوجه في طلب العون إلى غير اللَّه سبحانه وتعالى) (¬1). ¬

_ (¬1) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص 53، (مرجع سابق).

يقول (رينان) عن عقيدة القدر والاختيار: (المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر، والمغفرة، والحساب، وهي كلمات ثلاث مصبوغة بصبغة دينيَّة تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة المسالك في تفهمها. . . وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمئة عام من انقضائه ديانتان: إحداهما ربانية، والثانية بشرية، تمثلان ذينك المذهبين المتناقضين، ولكن بتلطيف في التناقض. . . أمَّا الأولى (الديانة الربانية) -ويقصد بها النصرانية- ومن خصائص هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية البشرية: وهي الإسلام المشوبة بتأثير مذهب الساميَّة، تنحط بالإنسان إلى أسفل درك، وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له) (¬1). ويقول عن العقل الباطن في ظل الإسلام، وعن عقلية الأُمَّة المسلمة: (إنَّ الدين الإسلامي أخر العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق الأشياء بنفوذ زاد مفعول تأثيره عن الأديان الأُخرى، حتى جعل بعض البلاد التي انتشر فيها كميدان لا يعبر البحث عن حقائق الأشياء الذي به يتسع العقل، وزد على ذلك أن عقول أهل هذه البلاد قاصرة من نفسها، وما يتميز به المسلم هو بغضه للعلوم،، واعتقاده أن البحث كفر وقلة عقل لا فائدة فيه) (¬2). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد البهي: المرجع السابق نفسه: ص 53، 54، 55، وانظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 16، 17، 21، (مرجع سابق)، وقد ذكر أن سبب تحامل (رينان) على الإسلام والمسلمين خصومة وقعت بينه وبين أهل جزيرة (أرواد) حين زارها فهجا أهل الجزيرة بأسرهم بل الشاميين بأجمعهم بل المسلمين عامَّة، انظر: المرجع نفسه: 1/ 15، 16. (¬2) نقلًا عن: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 158، (مرجع سابق)، وانظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 17، (المرجع السابق نفسه).

وقبل هذا قال عن عقول المسلمين: (كل من ذهب معنا إلى المشرق أو إلى إفريقية رأى أنَّ عقولهم بلغت من الحمق غايته، حتى كأنَّ دينهم صار كنانًا على قلوبهم فحجبها عن أن تعي شيئًا من العلوم والأفكار الجديدة، فلا ترى إلَّا القليل من أولادهم من تشاهد فيه النباهة، لكن إذا بلغ العشر أو الاثنتي عشرة سنة وتعلم العقائد صار متعصبًا في الدين، وأخذ يختال حمقًا على غيره ظانًّا أنَّ هذا هو الحق فيعد نفسه سعيدًا بما اختصه مِمَّا هو في الحقيقة سببًا لانحطاطه) (¬1). ولهذا المستشرق (رينان) أقوال كثيرة تحامل فيها على الإسلام وعلى الأمَّة الإسلاميَّة، وحاول أن يحجب بأقواله هذه إيجابيتها الخيِّرة التي شهد بها المنصفون من أبناء جنسه، وكتبوا فيها كتابات مشهورة، وقد يصعب الرد التفصيلي على ما ورد في أقواله من أفكار واتهامات التي إن صدقت على بعض البيئات الإسلاميَّة أو على بعض الفئات أو بعض المراحل التاريخيَّة في حياة الأُمَّة الإسلاميَّة فإنَّها لا تصدق على الإسلام بحال من حيث العقيدة والتشريع والأخلاق والنظام، وهي تتنافى مع تميز الأُمَّة الإسلاميَّة وما اختصَّ به من إيجابية خيِّرة أثبتها التاريخ، وسطَّرتها الأقلام المنصفة، وسيرد بعد قليل ما يوضح ذلك، ويُمكن أن يشار هنا بيانًا لموقف (رينان) وأمثاله إلى ما ذكره (غوستاف لبون) في مؤلفه (حضارة العرب) عن غالبيَّة المستشرقين حينما يكتبون عن الإسلام وتاريخ أُمَّته فكان مِمَّا قال: (نجد المقابلة مدهشة بين الإسلام وسائر المعتقدات التي تزعم مع هذا أنها أسمى منه. .، ورُبَّما تساءل القارئ: لماذا غمط اليوم حق ¬

_ (¬1) نقلًا عن عفاف صبرة: المرجع السابق نفسه: ص 157، وانظر: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: افتراءات المستشرقين على الإسلام (عرض. . . ونقد): ص 39 - 43 وص 95 - 98، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م، مكتبة وهبة - مصر.

العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينيَّة، وهذا السؤال قد سألته نفسي، وأرى أن الجواب عليه غير ما أنا كاتب ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مِمَّا هو حقيقي؛ ونحن لسنا أحرارًا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات، وهذا لأن فينا أحد رجلين: الرجل الحديث الذي صاغته دروس التهذيب، وعملت البيئة الأدبية والمعنويَّة في تنشئته، والرجل القديم المجبول على الزمن بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماضٍ طويل؛ وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدًّا عظيمًا من الحريَّة في الظاهر فتحترم) (¬1). ويواصل قوله: (لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم الساميَّة الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننج من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءًا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فيها، كالبغض الدوي المستتر أبدًا في أعماق قلوب النصارى لليهود، وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضًا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من ¬

_ (¬1) حضارة العرب: D.Le Bon: La Divilisation dee Arabes نقلًا عن: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 8،، (مرجع سابق).

اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله) (¬1). ويؤكد (لوبون) (أنَّه كان للمدنية الإسلاميَّة تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلميَّة والأدبيَّة والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدّنينا وأساتذتنا مدّة ستمئة سنة) (¬2). وكان ثمة رد آخر خص به (غوستاف لوبون) المستشرقون (إرنست رينان) مفندًا زعمه أن الإسلام كان يقيم عائقًا حيال تقدم العلوم! ففي محاضرة ألقاها (رينان) في (السوربون) في 29 آذار (مارس) 1883 م، وضمنها فيما بعد كتابه: (الإسلام والعلم)، المطبوع في باريس سنة 1883 م، أراد إثبات مناقضة الإسلام للعلوم، ولكنه لم يستطع أن ينكر ما اتفق للعلوم من ازدهار في البلدان الإسلاميَّة في قرون كثيرة، وبما كان لمفكري الإسلام من نفوذ دائم مارسوه في أوروبا في القرون الوسطى، ولكنه عزا ذلك التقدم والنفوذ إلى تقصير البيزنطيين في حفظ التراث العلمي، وإهمالهم له بباعث من تدينهم القائم على الجهل، فحالوا بذلك دون نفوذ الحضارة القديمة التي كانوا مؤتمنين عليها فى الغرب مباشرة. ولو كانوا حفظةً على هذه الحضارة علمًا بها وفهمًا لها وحرصًا على الاستفادة منها؛ لما كان هنالك اضطرار إلى تلك (الدورة العربيَّة) التي ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 1/ 9. (¬2) المرجع السابق نفسه: 1/ 9.

وصل العلم اليوناني بها إلينا في القرن الثاني عشر مارًا من سورية وبغداد وقرطبة وطليطلة. وكان مِمَّا رد به (غوستاف لوبون) على رينان قوله: (أراد مسيو رينان أن يثبت -في محاضرته- عجز العرب، ولكن ترهاته كانت تنقض بما يجيء في الصفحة التي تليها. فبعد أن قال مثلًا: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم مدة ستمئة سنة؛ عاد فزعم أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة، وقضى على الروح في البلاد التي دانت له،. . .) (¬1). ويرى بعض المستشرقين بأنَّ الأمَّة الإسلاميَّة بحكم سلبيتها ورجعيتها لا تصلح إلَّا أن تقاد، وقد كان الاستشراق وراء نشر هذا المبدأ الاستعماري، وفرض التبعيَّة للحضارة الغربية عليها يقول (جيب): (إنَّ العالم الإسلامي له حق الاختيار في تحديد طبيعته في الحياة، ولكن بعد أن يتابع الفكر الغربي، ويخضع لقوانينه الوضعية) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: حيدر بامَّات، مجالي الإسلام، ترجمة: عادل زعيتر: ص 75 - 77، نشر دار إحياء الكتب العربيَّة، القاهرة 1956 م. (¬2) نقلًا عن عابد السفياني: أهميَّة أصول المعرفة في الإسلام، حاشية الصفحة [35] من مجلة (البيان) العدد [17] شعبان 1409 هـ. وانظر: حلمي ساري: المعرفة الاستشراقية: ص 194 - 195، (مرجع سابق)، أورد فيها كثير من آراء المستشرقين التي تدور حول تبرير استعمار العالم الإسلامي حيث يدعو أحدهم بريطانيا إلى القيام بمهمتها الحضارية الضرورية الرامية إلى تثقيف ذلك العالم المتوحش. انظر: ص 194، وفي ص 195، وصف الكاتب مبررات (كرومر) إزاء مطالب المصريين بالاستقلال (بأن الشرقيين لا يعرفون مصالحهم الحقيقية التي يعرفها الغربيون نيابة عنهم وبطريقة أفضل)، وعلى نحوٍ من هذا الادعاء مجَّد نفرٌ من المستشرقين الاستعمار، ورأى فيه هدفًا جليلًا شريفًا، إذ كان غرضه تنمية الإمكانات الاقتصادية، =

النموذج الأول

وحيث إن من المستشرقين من تصدى للكتابة عن إيجابية الأُمَّة الإسلاميَّة، وأبرز جوانب الريادة والسيادة فيها، وأنصف تاريخها في الإسهام الحضاري ونشر العلم والمعرفة وتنمية الحياة البشرية على خير وجه، فقد جاءت مثل هذه الكتابات ردًا مفحمًا -باستخدام المناهج الاستشراقية نفسها- على المتحاملين على الإسلام وأمجاده وتاريخ الأمَّة الإسلاميَّة وحضارتها ويذكر هنا نموذجان (¬1) -فقط- من المؤلفات التي عالجت هذا الجانب: النموذج الأول: كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) (¬2) لمؤلفته (زيغريد هونكة)، وقد حاز هذا الكتاب شهرة واسعة ما بين مادح له وقادح فيه؛ حيث انبرى عددٌ من النقاد الأوروبيين لمهاجمة المؤلفة وكتابها واتهامها بالتعصب ¬

_ = واستغلال الموارد الطبيعية في البلدان الإسلاميَّة (وأن المسلمين غير مؤهلين لأن يستغلوا خيرات بلدانهم، وأن الوصاية عليهم وحدها كفيلة بالنهوض بهم). انظر: عبد الوهاب أبو حديبة: الحياة الاجتماعية في الإسلام كما صورها بعض المستشرقين (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميَّة): 2/ 157، 158، (مرجع سابق). (¬1) لمزيد من الاطلاع على إيجابية الأُمَّة الإسلاميَّة وتفسيرها ونقد آراء المستشرقين التي تعمل على نفي هذه الخصيصة، انظر: • عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: افتراءات المستشرقين على الإسلام (عرض ونقد): ص 39 - 43، (مرجع سابق). • مصطفى الشكعة: مواقف المستشرقين من الحضارة الإسلاميَّة في الأندلس (كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية): 2/ 273 - 343، (مرجع سابق). (¬2) شمس العرب تسطع على الغرب (أثر الحضارة العربية في أوروبة) ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، الطبعة الثامنة؛ 1413 هـ - 1993 م، عن دار الجيل، ودار الآفاق الجديدة - بيروت.

للعرب والتحيز لهم، وفي مقابل ذلك انبرى آخرون للدفاع عنها، وتأييد ما توصلت إليه من نتائج، وقررته من ثناء على الحضارة العربية. بينت المؤلفة في مقدمة كتابها: أنها تود: إنصاف الحضارة العربية بعد أن تعرضت لظلم الدارسين الغربيين، وأن أقصى ما اعترفوا به: (أنَّ العرب نقلوا كنوز القدامى إلى بلاد الغرب) (¬1)، ورأت أنَّ هذه المقولة لا تعدو أن تجعل للعرب في الواقع دور (ساعي البريد فقط)، وأنها تقلل من قدر دورهم الحضاري، وتطمس الكثير من حقائق تاريخهم. والحقيقة كما تقول المؤلفة: (أنَّ هذا الشعب رائدٌ لغيره من الشعوب في أنحاء الدنيا في غضون سبعمئة وخمسين عامًا، وحاملٌ مشعل الثقافة ردحًا جاوز عصر الإغريق الذهبي بضعفيه أكثر من أي شعب آخر، كما بينت (فضل الحضارة العربية على الإنسانية، وتميزها عن الحضارات السابقة بعدد من الصفات النبيلة) (¬2)، وأوضحت: (مدى تأثُّر الحضارة الغربية بالحضارة العربية، ودورها في حفظ التراث الحضاري للإنسانية جمعاء، وإبداع العلماء في ظل هذه الحضارة في تصحيح عددٍ كبير من المفاهيم الثقافية والحضارية، وما أضافوا من إنجازات مهمَّة في خدمة الإنسانية، ظلت تُدَرَّس في أوروبا إلى عهد قريب. . .) (¬3). ومِمَّا عنت به كذلك دراسة المراكز العلمية للاتصال بين الحضارتين مثل الأندلس وصقلية والبندقية وجنوب فرنسا وإيطاليا، وكذا الأحداث التاريخية التي سببت الاحتكاك الحضاري وبخاصة الحروب الصليبية (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 62. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 11 - 14. (¬3) انظر: شمس العرب تسطع على الغرب: ص 17 - 55، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 54، 55، وص 485.

كما استشهدت بعدد من الدارسين الغربيين على يد العرب. . كما فصَّلت القول في أثر الحضارة العربية في تقدم كثير من المعارف والعلوم، وعرضت لأسماء بارزة من العلماء المسلمين، وما ابتكروه في شتى العلوم والمعارف. وخصت الأندلس بقسم مستقل قارنت فيه بين ما كانت عليه الأندلس في ظلِّ الحضارة العربية من نهضة علميَّة وأدبية وفنيَّة وبين ما كانت عليه أوروبا من جهالة مطبقة (¬1)، وأوضحت أن العرب: (حولوا الأندلس في مئتي عام حكموها من بلد جدب فقير مستعبد إلى بلد عظيم مثقف مهذب يقدس العلم والفنّ والأدب، قدَّم لأوروبا سبل الحضارة وقادها في طريق النور) (¬2). وفي تصوير مظاهر الحضارة العربية الإسلاميَّة في الأندلس، وتأثيرها الكبير على الحضارة الغربية، أشارت إلى: 1 - نقل بعض أنماط الحضارة الغربية عن العرب؛ (كالزخرفة المحبَّبة إلى النفوس، التي ألقت أضواء باهرة جميلة على ذلك العالم الرتيب الذي كان يومًا من الأيام قاتِمًا كالحًا باهتًا) (¬3). 2 - نقل كثير من الكلمات العربيَّة إلى بعض اللغات الأوروبية (¬4)، وكذا نقل الأرقام العربية التي تعلمتها كل الأمم المتحضرة من العرب، (ولولا تلك الأرقام لما وُجِدَ هذا الصرح الشامخ من علوم الرياضة والطبيعة والفلك، بل لما وجدت الطائرات التي تسبق الصوت، أو صواريخ الفضاء. لقد كرمنا هذا الشعب الذي منَّ علينا بذلك الفضل الذي لا يقدر، حين أطلقنا على أرقام الأعداد عندنا اسم الأرقام العربية) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 465 - 524. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 541. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 20. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: 17 - 19. (¬5) انظر: شمس العرب تسطع على الغرب: ص 68، (المرجع السابق نفسه).

النموذج الثاني

3 - هدية هارون الرشيد لشارلمان ذلك الرمز الحضاري الذي يدل على مهارات العرب في اختراع الساعات، وقد وصف مؤرخ القيصر (شارلمان) تلك الساعة بقوله: (نحن ما زلنا حتى يومنا هذا نقف فاغري الأفواه دهشةً وإعجابًا كلَّما رأينا ساعة كبيرة في مبنى البلدية، وما يرافق دقاتها من ظهور شخوص صغيرة متحركة، تذكرنا بما فعله العرب، في الماضي البعيد، حبًّا بالألعاب الميكانيكية وولعًا بها) (¬1). وفي الكلام عن تأثير الأُمَّة الإسلاميَّة في المسار الحضاري، وما أسهمت به من ثقافة وعلم ومعرفة تأكيد على خصيصة من خصائص تميزها هي خصيصة الإيجابية الخيِّرة. النموذج الثاني: كتاب (فضل الإسلام على الحضارة الغربية) الذي نقله إلى العربية حسين أحمد أمين، وهو -أصلًا- بعنوان (تأثير الإسلام في أوروبا خلال العصر الوسيط) من تأليف المستشرق مونتغمري وات (¬2). انطلق مؤلف هذا الكتاب من الرغبة في إنصاف الإسلام والاعتراف للأُمَّة الإسلاميَّة بتأثيرها في شتى مجالات المعرفة وميادين الحياة، وما أسهمت به في تاريخ البشريَّة العام، وأفادت منه الحضارة الغربية. يقول المؤلف في هذا الصدد: (إنَّه من أهم واجباتنا معشر الأوروبيين الغربيين، والعالم في سبيله أن يصبح عالمًا واحدًا، أنْ نصحح هذه ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 142. (¬2) صدر عن مطبعة جامعة (أدنبرة) بإسكوتلندا، عام 1972 م، وهو مجموع محاضرات ألقاها (مونتغمري وات) في الكوليج دولفرانس عام 1970 م، وصدرت طبعته الأولى بالعربية عام 1403 هـ - 1983 م، عن مكتبة مدبولي - القاهرة، وتوجد له ترجمة أخرى قام بها: جابر أبو جابر، وجعلها بعنوان: أثر الحضارة العربية الإسلاميَّة على أوروبا، من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي بسورية - دمشق، 1981 م.

المفاهيم الخاطئة. . وأن نعترف اعترافًا كاملًا بالدين الذي ندين به للعالم العربي والإسلامي) (¬1). وفي منحى المؤلف من حيث إبراز جوانب التأثير للثقافة العربية الإسلاميَّة على الحضارة الغربية ما يدل دلالة واضحة على خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة؛ وتتمثل هذه الدلالة في الإسهام الحضاري الذي نالت من خيره البشرية واستظلت بظل الحضارة الإسلاميَّة ردحًا من الزمن. ويتكون هذا الكتاب من ستة فصول، تحدث فيها المؤلف عن المسلمين في أوروبا، ومواجهة الغرب لهم، وذيله بقائمة تشتمل على كلمات إنجليزية اشتُقّت من أصل عربي. . .، وفيما ورد في بحث المؤلف من أفكار تتصل بإيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة ما يدفع بعض الشبهات المناقضة لذلك؛ كما أثارها كثيرٌ من المستشرقين الغربيين في مجمل إنتاجهم الفكري، ومن أبرز ما تناوله المؤلف في كتابه بعنوان: (المسلمون في أوروبا) وساق حديثه في نقاط عدَّة، منها: 1 - كلامه عن كثرة المؤلفات الاستشراقية التي تناولت الأوجه المختلفة لتأثير العالم الإسلامي في أوروبا خلال العصر الوسيط، ويرى أنها تفقد النظرة الشاملة إلى ذلك التأثير، ويبين أنَّه لم يعثر فيها على محاولة واحدة تتسم بالشمول، وتقوم أهمية الإسهام الإسلامي في الحضارة الأوروبية (¬2). ثُمَّ أوضح أنَّه لا ينظر (إلى المسلمين باعتبارهم دخلاء على القارة الأوروبية -كما قد يفعل بعض مؤرخي أوروبا- وإنَّما باعتبارهم ممثلين ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 114. (¬2) انظر: فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 7، (المرجع السابق نفسه).

لحضارة ذات إنجازات عظيمة تدين لها بالفضل رقعة كبيرة من سطح الأرض، ثُمَّ فاضت ثمار هذه الإنجازات على رقعة أرض مجاورة) (¬1). 2 - في نظرته لاحتكاك المسلمين بالغرب في إسبانيا عسكريًّا يشير إلى مراحل قوة الدولة الإسلاميَّة في إسبانيا ومراحل ضعفها، وما صاحب ذلك من تأثيرات إيجابية في الحضارة الغربية. ويذكر أنَّ: (مملكة غرناطة الصغيرة التي كانت تحكمها أسرة النصريين قد حققت إنجازات رائعة في ميدان الأدب العربي، وخلفت في ميدان المعمار أثرًا من أعظم ما شهدته إسبانيا الإسلاميَّة ألا وهو قصر الحمراء) (¬2). 3 - تحدث عن الجانب العسكري إبَّان وجود المسلمين في صقلية وإيطاليا، وأنَّه على الرغم من وضع حد دائم لاحتلال المسلمين إيطاليا، وأنهم أخرجوا منها، ثُمَّ خرجوا أيضًا من صقلية فإنَّ الطابع الإسلامي في مظاهر حياة بعض حكام الجزيرة التالين كان أقوى من الطابع المسيحي (¬3). 4 - تحت عنوان: الدوافع وراء التوسع العربي؛ يتحدث (مونتغمري وات) عن الجهاد فيرد على فرية انتشار الإسلام بالسيف، ويحاول إنصاف المسلمين في هذه القضية إلَّا أنَّه يدس بشكل خفي في كلامه عن هدف الجهاد عند المسلمين، إذ يقول: (رُبَّما كان القصد من الآيات القرآنية التي تحث على القتال في سبيل اللَّه أو الجهاد في سبيل اللَّه هو حض الآخرين على الانضمام إلى هذه الغزوات) (¬4). ويقول أيضًا: (إنَّه إذ نَمت قوة النبي، وعظمت سلطته، وتطلعت قبائل ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 7. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 11. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 13. (¬4) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 14، (المرجع السابق نفسه).

كثيرة وجماعات أصغر إلى التحالف معه، اشترط على هؤلاء اعتناق الإسلام والشهادة أنَّه نبي مرسل) (¬1). ولا شك أنَّ أهداف الجهاد في الإسلام أجل وأسمى مِمَّا ذكره (مونتغمري وات) (¬2)، كذلك الإيمان بنبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنَّه مرسل إلى الثقلين من أسس الدخول في الإسلام، ولكن (مونتغمري وات) لا يؤمن برسالة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا بنبوته (¬3). وعلى الرغم مِمَّا في كلامه من دس مردود فإنَّه يؤكد (أنَّ تأثير العالم الإسلامي في أوروبا الغربية جاء بصورة أساسية من خلال إسبانيا، ثمَّ بدرجة أقل من خلال صقليَّة) (¬4). 5 - يفرق في كلامه عن الفتوحات الإسلاميَّة والغزوات الهمجيَّة التي كان يقوم بها الألمان والسلافيون والمجريون والإسكندنافيون، موضحًا ما بينهما من فروق، ومقررًا أنَّ الواجب يقضي برفض أيّ ميل إلى تشبيه العرب بأولئك الآخرين (¬5)؛ لأن العرب أصحاب (أعظم حضارة وثقافة في تلك المنطقة الشاسعة ما بين المحيط الأطلسي وأفغانستان، وإننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو يخلب اللب حين (نرى) كيف تحولت الحضارات القديمة إلى حضارة إسلامية) (¬6). وفي مقارنة لطيفة بين الحضارة اليونانية والحضارة الإسلاميَّة، حيث أوقعت الأولى (فاتحها القوي في أسرها) (¬7) على حين أنَّ العرب نشروا ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 14. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 14، 15. (¬3) انظر: ص 641 (البحث نفسه). (¬4) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 18، (المرجع السابق نفسه). (¬5) انظر المرجع السابق نفسه: ص 19. (¬6) المرجع السابق نفسه: ص 19. (¬7) المرجع السابق نفسه: ص 20.

لغتهم وبعض مناحي تفكيرهم على معظم الشعوب التي دانت لهم على الرغم من أنَّهم (كانوا على مستوى حضاري وثقافي أعلى من مستوى الفاتحين) (¬1) وخرج من هذه المقارنة معترفًا بذلك التميُّز للأمَّة الإسلاميَّة، وأنَّ هذا التميُّز هو السر في إيجابيتها الحضارية. وعلى الرغم مِمَّا يرد في بحثه من أخطاء فقد أشاد بالثقافة الإسلاميَّة، وتحدث عن أصالتها وعن إسهام (العلماء والكتاب في إسبانيا الإسلاميَّة مساهمة جليلة في إثراء الأدب والعلم العربيين، وتلك إذًا هي الثقافة التي قدر لإسبانيا أن تعرفها وتنهل منها بعد فتح العرب والبربر لها) (¬2). 6 - تناول في موضوع آثار وجود المسلمين في أوروبا ما تحقق للأوروبيين من فنون الحياة الرغيدة في مختلف نواحي الحياة في إسبانيا في ظل الحضارة الإسلاميَّة، سواء في الملبوسات أو المأكولات أو أساليب الأناقة والتجميل والنحت وتجليد الكتب ونحت العاج وأساليب البناء والزخرفة، والآنية وصناعة الخزف، ونحو ذلك (¬3). وما أدت إليه تلك الحضارة من قيام مدن لها مسميات ويحكمها النظام والإدارة والقانون، وأنَّ (ميادين الإدارة المحلية في إسبانيا الإسلاميَّة قائمة على أساس من الأفكار المستقاة من الشرق الأوسط، حيث ورث العرب تراث آلاف من سني الخبرة في مجال حياة الحضر) (¬4)، كما تحدث عن امتزاج الثقافات في إسبانيا في العصر الإسلامي مؤكدًا على أنها كانت تستلهم الإسلام بصفة أساسية واستشهد بشكوى (ألفارو) -وهو مسيحي من ¬

_ (¬1) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 20، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 23. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 26 - 41. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 41.

قرطبة برتبة (أسقف) (من أن شباب الطائفة المسيحية يجذبهم الشعر العربي لدرجة أنهم أغفلوا دراسة اللغة اللاتينية، وأقبلوا على دراسة العربية) (¬1). وعالج (مونتغمري وات) (إنجازات العرب في ميادين العلم والفلسفة) (¬2) متسائلًا (إلى أيِّ حدٍّ كان العرب مجرد نقلة لما اكتشفه اليونانيون؟، وإلى أيِّ حدٍّ بلغت إنجازاتهم المبتكرة؟) (¬3)، مشيرًا إلى تحيّز كثير من المستشرقين في دراستهم، مؤكدًا أنَّ ذلك التحيز كان مرتبطًا بالصورة المشوهة عن الإسلام. ويؤكد أن العرب ليسوا مجرد نقلة للفكر اليوناني، وإنَّما كانوا حملة للشعلة، مبدعين، حافظوا على العلوم التي درسوها، ثُمَّ وسعوا آفاقها، ثُمَّ بيَّن بأن الأوروبيين حينما شرعوا حوالي عام (1100 م) في الاهتمام الجدي بعلوم أعدائهم العرب وفلسفتهم كانت هذه العلوم والفلسفة في أوجها، وكان على الأوروبيين أن يتعلموا كل ما بوسعهم تعلمه من العرب قبل أن يتمكنوا هم أنفسهم من إحراز المزيد من التقدم في هذه المجالات (¬4). وفي الفصل الأخير من كتابه تحدث (مونتغمري وات) عن الإسلام والوعي الأوروبي، وركَّزَ في هذا الفصل على أربع نقاط، وهي: الأولى: الفكرة الشائعة عن الإسلام، وقد سبق الحديث عنها (¬5). الثانية: الصورة المناقضة لأوروبا، ومحورها أنَّ الصورة التي ألصقها ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 42، وانظر: برنارد لويس: العرب في التاريخ: ص 175، تعريب نبيه أمين فارس، وآخر، (مرجع سابق)، وانظر: 1008 - 1009، (البحث نفسه). (¬2) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 46، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 46. (¬4) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 62، (المرجع السابق نفسه). (¬5) انظر: ص 759 - 767، (البحث نفسه).

الأوروبيون بالإسلام هي في حقيقة الأمر صورة أوروبا الغربية، وإلى جانب ذلك ذكر المؤلف: بأنَّه ترسخ في العقليَّة الغربية التنكر الشديد للأثر الإيجابي الذي قامت به الحضارة الإسلاميَّة، واستشهد على ذلك بأقوال للمشاهير من علماء الغرب (¬1). الثالثة: الوضع المخالف في العالم الإسلامي، وفيها بين ما حدث للعالم الإسلامي من ضعف نتيجة الفرقة في صفوف المسلمين، وأنَّ ذلك مكن للغرب من التفوق والقيادة الحضارية فيما بعد (¬2). الرابعة: مغزى الاحتكاك بالإسلام بالنسبة لأوروبا، وقد وضح في هذا أنَّ إحساس الأوروبيين بالنقص أمام الحضارة الإسلاميَّة كان سببًا لتشويه صورة الإسلام رغبة في تعويض هذا النقص (¬3) من جهة، ومن جهة أخرى (كان لصورة الإسلام التي خلقها الباحثون المسيحيون في ذلك الوقت في إقناع المسيحيين الآخرين بأنَّهم في حربهم ضد المسلمين إنَّما يحاربون من أجل نصرة النور على قوى الظلام، وأنَّه حتى وإن كان المسلمون أقوياء، فإن دينهم خير من الإسلام) (¬4). ويرد على ذلك ردودًا قويَّة يرتكز بعضها على نظريات علميَّة كقوله: (وبفضل ما أسهم به (فرويد) من أفكار، نعلم جيدًا أن الظلمة التي ينسبها المرء إلى أعدائه ما هي إلَّا إسقاط للظلمة الكامنة فيه هو، والتي لا يريد الاعتراف بها. ¬

_ (¬1) انظر: فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 105 - 109، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 109 - 111. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 112. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 113.

وعلى ذلك فإنَّه ينبغي علينا أن ننظر إلى الصورة الشائهة للإسلام باعتبارها إسقاطًا لما اكتنف عقول الأوروبيين من الجهالة. . .) (¬1)، وقوله -أيضًا-: (إنَّ الصورة الأوروبية للإسلام ترمز للشرور القائمة في أوروبا ذاتها) (¬2). ويخلص (مونتغمري وات) في نهاية كتابه إلى القول: (لم يقتصر دور الإسلام على تعريف أوروبا الغربية بالكثير من منتجاته الماديَّة، واكتشافاته (التكنولوجية)، ولا على إثارة اهتمام الأوروبيين بالعلوم والفلسفة، بل دفع أوروبا أيضًا إلى تكوين صورة جديدة لذاتها، وقد أدَّت مواجهة الأوروبيين العدائية للإسلام إلى تهوينهم من شأن المسلمين في حضارتهم، ومبالغتهم في بيان أفضال التراث اليوناني والروماني عليها) (¬3). وفي ختام هذا المطلب فإنَّ من المناسب الربط بين ما سطرته الأُمَّة الإسلاميَّة من إيجابية خيرة عادت بالنفع والخير على الإنسانية قاطبة، وسجّلها التاريخ البشري بإعزاز وإكبار، وبين إيجابية الإسلام ذاته، وأنَّ هذا الإسهام الحضاري الخيِّر كان منبثقًا عن حيويَّة الإسلام في عقيدته وشريعته ورؤيته للكون والحياة والإنسان، وفي ذلك تقول المستشرقة الإيطالية (لورا فيشيا فاغليري) في كتابها دفاع عن الإسلام: (بفضل الإسلام هزمت الوثنية في مختلف أشكالها. لقد حرَّرَ مفهوم الكون وشعائر الدين، وأعراف الحياة الاجتماعية من جميع الهولات أو المسوخ التي كانت تحط من قدرها، (وحرر) العقول الإنسانية من الهوى. لقد أدرك الإنسان آخر الأمر مكانته الرفيعة. . لقد (حرر) الروح من الهوى، (وأطلق) ¬

_ (¬1) فضل الإسلام على الحضارة الغربية: ص 113، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 113. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 114.

إرادة الإنسان من القيود التي طالما أبقته موثوقًا إلى إرادة أُناس آخرين، أو إلى إرادة قوى أخرى يدعونها خفية. لقد هوى الكهان، وحفظة الألغاز المقدسة الزائفون، وسماسرة الخلاص، وجميع أولئك الذين تظاهروا بأنَّهم وسطاء بين اللَّه والإنسان والذين اعتقدوا بالتالي أن سلطتهم فوق إرادات الآخرين، لقد هوى هؤلاء كلهم عن عروشهم. إنَّ الإنسان أمسى خادم اللَّه وحده، ولم تعد تشده إلى الآخرين من الناس غير التزامات الإنسان الحر نحو الإنسان الحر، وبينا قاسى الناس في ما مضى مظالم الفروق الاجتماعية أعلن الإسلام المساواة بين البشر، لقد جُعِلَ التفاضل بين المسلمين، لا على أساس من المحتد أو أي عامل آخر غير شخصية المرء، ولكن على أساس من خوفه اللَّه وأعماله الصالحات، وصفاته الخلقية والفكرية ليس غير. . .) (¬1). ولعله من المسلمات والبدهيات أن يقال: إنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة كلما التزمت الإسلام، واستلهمت قيمه وتعاليمه حققت بذلك إحدى الخصائص الملازمة لتميُّزها، وهي خصيصة الإيجابية الخيِّرَة، وكلما نكصت عن تلك القيم والتعاليم ارتكست في دركات التخلف والانحطاط، وخسر العالم بانحطاطها خسائر فادحة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ص 24 - 25، نقلًا عن عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 206، (مرجع سابق). وقد وردت عبارة (حرر، وأطلق) مؤنثة ولكن السياق يدل على التذكير، وهو ما أثبته في المنقول، وأحطتها بالقوس المركنة [. . .]. (¬2) تساءل أبو الحسن الندوي عن خسارة العالم بانحطاط المسلمين، وألف كتابًا تحت هذا العنوان رصد فيه ما نال العالم من خسائر فادحة بسبب انحطاط المسلمين، (مرجع سابق).

الكتاب الرابع: أهداف تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ تأليف: د. إِسْحَاق بن عبد اللَّه السَّعْدِيّ الكتاب الرابع 4/ 5 أهداف تميز الأمَّة الإسلاميِّة وموقف المستشرقين منها • خارطة ذهنية توضيحية. • تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها. • تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها.

[مخطط]

تحقيق العبودية لله وموقف المستشرقين منها

تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها • تمهيد • مفهوم العبادة، ومقتضياتها. • أنواع العبادة وصورها. • روح العبادة وأسرارها. • آثار العبادة في الفرد وفي الأمَّة. • موقف المستشرقين من العبودية للَّه.

تمهيد

تمهيد تعدُّ العبادة من أهم أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، فالتميُّز بمقوماته الأساس من عقيدة وشريعة وأخُوَّة وما تقتضي من وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة، وبخصائصه التي تجليها: الربانيَّة والعالمية والوسطيَّة والإيجابيَّة الخيِّرة، إنَّما يهدف في المقام الأول إلى تحقيق العبوديَّة للَّه -عز وجل-؛ إذ العبادة هي الغاية من خلق الثقلين، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالعبادة للَّه: هي الهدف من خلق الخليقة، وجعلها خالصة للَّه وفقًا لما شرع، واقتداءً برسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهي بذلك في قمة أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، الأُمَّة التي تعبد اللَّه وحده ولا تشرك به شيئًا، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. ولابُدَّ هنا من توضيح مفهوم العبادة في الإسلام، وأثرها في حياة الأُمَّة في أقوالها وأفعالها، وسائر جوانب حياتها، وبيان كيف تتميَّزُ الأُمَّة الإسلاميَّة بالعبودية للَّه، ويقتضي ذلك مناقشة قضية الاتباع والابتداع والرهبانيَّة، والإشراك، ونحو ذلك من المسائل المتصلة بتميُّز الأمَّة الإسلاميَّة.

مفهوم العبادة، ومقتضياتها

مفهوم العبادة، ومقتضياتها أ- العبادة في اللغة: أصلها من الفعل (عَبَد)؛ قال ابن فارس: (عَبَدَ: العين والباء والدَّال أصلان صحيحان، كأنَّهما متضادان؛ الأول. . . يدل على لين وذل، والآخر على شدَّة وغِلَظ) (¬1). ويقول في بيان الأصل الأول من هذين الأصلين: (فالأوَّل: العَبْدُ: وهو المملوك، والجماعة العبيد، وهم العباد، إلَّا أن العامَّة اجتمعوا على تفرقة ما بين عباد اللَّه، والعبيد المملوكين، يقال: هذا عبدٌ بين العُبُودَة، ولم نسمعهم يشتقو؛ منه فعلًا، ولو اشتق لقيل: (عَبُدَ)؛ أي: صار عبدًا وأقَرَّ بالعُبُودية، ولكنه أُمِيتَ الفِعْلُ فلم يستعمل، وأمَّا عَبدَ يَعْبُدُ عبادةً، فلا يقال إلَّا، لمن يعبد اللَّه تعالى) (¬2). وجاء في اللسان: (العبوديَّة: الخضوع والتذلل، العابد: الموحد. . . عبد اللَّه يَعْبُدُه عبادة ومعبدًا ومعبدة: تأله له، التعبُّد: التنسك. العِبَادة: الطاعة، طريق معبد: مذلل. . .، المُعَبدُ: المُكَرَّم المَعَظَّمُ) (¬3). وقال الراغب الأصفهاني: (العبوديَّة: إظهار التذلَّل، والعبادة ضربان: عبادة بالتسخير، وعبادة بالاختيار، والعبد يقال على أربعة أضرب: الأول: عبد بحكم الشرع، وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه، الثاني: عبد بالإيجاد، وذلك ليس إلَّا للَّه، الثالث: عبدٌ بالعبادة والخدمة، والناس ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة: مادة (عَبَدَ)، (مرجع سابق). (¬2) معجم مقاييس اللغة: مادة (عَبَدَ)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) ابن منظور: لسان العرب: مادة (عَبَدَ)، (مرجع سابق).

ب- العبادة في الاصطلاح

في هذا ضربان: عبد للَّه مخلص، وعبدٌ للدنيا وأغراضها، وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها) (¬1). ب- العبادة في الاصطلاح: للعبادة في الاصطلاح تعريفات كثيرة، بعضها عام، وبعضها الآخر خاص، والعام قد يراد به خضوع المخلوقات للَّه من حيث كونها خاضعة له سبحانه كونًا وقدرًا؛ لذلك تطلق العبادة ويُراد بها: (الخضوع الشامل، والطاعة الكاملة بصفة قسريَّة من جميع المخلوقات، ويشمل ذلك الكون كلَّه بأملاكه ومشمولاته، من جمادٍ وحيوان ونبات وإنسان، فالكل خاضع للَّه، ولا يخرج عن طاعته قيد شعرة) (¬2). والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (¬3). وقد تُعَرَّفُ العبادة تعريفًا عامًّا، ولكنَّه فيما يخص المكلفين، وقد عرَّفها بعض الباحثين بأنَّهَا: (عمل العبد الإرادي الموافق (لمراد) المعبود) (¬4)، وعلى هذا تكون العبادة شاملة لجميع ما يقوم به المكلف من ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (عَبَد)، (مرجع سابق). وانظر: محمد عبد الرّؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف. مادة (العَبْد)، (مرجع سابق). (¬2) محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات وأثره في حياة المسلمين: ص 187 (مرجع سابق). (¬3) وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 155، (مرجع سابق). (¬4) محمد أبو الفتح البيانوني: العبادات؛ خصائصها وآثارها في الفرد والمجتمع: ص 3، محاضرة ألقاها ضمن البرنامج العام لعام 1400 هـ - 1401 هـ، قسم الثقافة الإسلاميَّة، كلية الشريعة - الرياض.

عمل، فإذا وافق عمله مراد المعبود كان طاعةً وقربة، وإذا خالف مراده كان معصية. وقد جاء تعريف العبادة بصفة شاملة وواضحة في قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) (¬1)، ثُمَّ شرح هذا الشمول وذلك العموم وما يتناوله من أنواع العبادات؛ فقال: (فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة) (¬2). وإذا كانت هذه الأنواع تشتمل على الأفعال والأقوال الظاهرة؛ فإنَّه يضيف إليها أنواعًا أُخرى من الأعمال الباطنة، ويقول: (وكذلك حب اللَّه ورسوله وخشية اللَّه، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة) (¬3). أما تعريف العبادة بصفة خاصَّة فهي: (الأعمال الخاصَّة المحدَّدة (من اللَّه) التي كُلِّف العبدُ بالقيام بها كتمرين عملي له على الخضوع الكامل) (¬4)، ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 149، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه 10/ 149. (¬3) المرجع السابق نفسه 10/ 149. (¬4) محمد أبو الفتح البيانوني: العبادات وخصائصها وآثارها ص 4، (المرجع السابق نفسه) وانظر: أبو الأعلى المودودي: المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم: ص 95 - 115، الطبعة الثامنة، 1401/ 1981 م، عن دار القلم، الكويت.

ج- مقتضيات العبادة في الإسلام

ويدخل في ذلك أركان الإسلام الخمسة، والشعائر الدينيَّة التعبّديَّة مثل الأذان والجهاد، ونحو ذلك من العبادات. ج- مقتضيات العبادة في الإسلام: وبالنظر إلى معنى العبادة في اللغة، ومعناها في الاصطلاح في إطاره العام والخاص، فإنَّ للعبادة في الإسلام مقتضيات عدَّة من أهمها الآتي: أولًا: الالتزام بما شرع اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم؛ لأن ذلك كلَّه من مقتضى الخضوع للَّه والطاعة له ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]. ثانيًا: وتتضمن العبادة للَّه إلى جانب الخضوع له والذل لعظمته الحب له ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعن هذا المعنى أوضح ابن تيمية أنّ العبادة (تتضمن غاية الذل للَّه بغاية المحبَّة له) (¬1)، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال الرسول: -صلى اللَّه عليه وسلم- "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين" (¬2) وفي حديث آخر أنَّ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 153، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 67، الحديث رقم 69 كتاب الإيمان، باب [16]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وأخرجه البخاري بلفظ: "فوالذي نفسي بيده لا يومن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده"، وبلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى كون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" صحيح البخاري 1/ 14، كتاب الإيمان، باب [7]، حب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الإيمان، رقم الحديث [14، 15]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق).

قال للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا رسول اللَّه، واللَّه لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء إلَّا من نفسي" فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنَّه الآن، واللَّه، لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الآن يا عمر" (¬1). وتستلزم هذه المحبَّة موافقة اللَّه -عز وجل- والرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما أحباه، وفيما أبغضاه، ولا تتحقق العبوديَّة إلَّا بذلك لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. ثالثًا: أنَّ العبادة ترجع فائدتها للعابد من المكلفين؛ لأنّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا يضره إعراض المعرضين، وقد جاءت العبادات معلّلة بذلك مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. وفي قوله تعالى على لسان سليمان -عليه السلام-: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]. وفي الحديث القدسي قال اللَّه تعالى: "يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" (¬2)، أمَّا فائدة العبادة للعابد فسيأتي الحديث عنها في مكان آخر إن شاء اللَّه تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 6/ 2445، 2446، كتاب الأيمان والنذور، باب [2] الحديث رقم [6257]، تحقيق: مصطفى ديب الغا، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1994، 1995، كتاب البر والصلة والآداب، باب [15]، الحديث رقم [2577]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

رابعًا: أن تكون العبادة للَّه عن إرادة وقصد، أمَّا الجانب القدري الكوني فإنَّ ذلك يدخل تحت التسخير، (ولما كان الخضوع الإرادي للَّه عز وجل عنوان العبادة الحقيقية من هذا الإنسان كان كافيًا أن يرافق هذا الخضوع أيَّ تصرف من تصرفات الإنسان الاختياريَّة أو الاضطرارية ليصبح هذا التصرف عبادة للَّه عز وجل؛ لأنَّه ابتغى به وجهه، وجاء وفق رضائه، ومن هنا كان بإمكان المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة حتى عاداته وغرائزه من طعام وشراب ولباس وسكن ومتعة في هذه الحياة فهو يماثل غيره في صور هذه التصرفات، ويتميز عن غيره في حقيقتها واعتبارها. . . ففي الحديث الشريف: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول اللَّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ" (¬1). كما يكفي أن يفارق هذا الخضوع الإرادي أيَّ تصرف من تصرفات الإنسان ليفقد هذا التصرف وصف العبادة، حتى ولو كان هذا التصرف صلاة أو صيامًا، أو زكاةً وحجًّا، أو غير ذلك من شعائر العبادات: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى" (¬2)، كأن يقوم بمثل هذه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 2/ 697، كتاب الزكاة، باب [16]، الحديث رقم [1006]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). وكلمة "أجر" ضبطها المحقق بالنصب على أنها تمييز، وبالرفع باعتبارها اسم كان وخبرها الجار والمجرور "له". (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 3، كتاب بدء الوحي، باب [1] الحديث رقم [1]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم 3/ 1515، 1516، كتاب الإمارة، باب [45]، رقم [1907]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). والحديث متفق عليه، ويبدأ به في طلب العلم عادة للتنبيه على أهمية النية فيه وفي كل أمرٍ ذي بال.

العبادات ولا يقصد منها العبادة، أو أن تكون من فاقد العقل) (¬1) أو يداخلها الرياء، والشرك، والبدعة. خامسًا: أن تكون غاية باعتبارها طاعة للَّه وانكسارًا بين يديه، وخضوعًا له، وذُلًا لعظمته وجلاله، وتكون وسيلة باعتبارها تدريبًا للخضوع للَّه ورمزًا لطاعته (¬2) وطريقًا إلى العبادة بمعناها الشامل. سادسًا: أن تكون حياة المسلم، بل حياة الأُمَّة الإسلاميَّة قاطبة منضبطة بضوابط الشرع، إذْ إنَّ (الشعائر التعبديَّة الممثلة في الصلاة والصيام والصدقة والنسك جزءٌ من العبادة، وليست هي كل العبادة، والعبادة الحقَّة هي الحياة وفق النظم الإلهيَّة التي تحدد علاقة الإنسان بالإنسان في المجتمع علاوة على توجيه النيَّة للَّه وحده في الشعائر التعبديَّة) (¬3)؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] حيث بينت الآية الكريمة الغاية من خلق الإنس والجن وهي العبادة. وقد استنبط أحد الباحثين من صيغة الحصر في الآية أنَّها (تحصر نشاطات البشر، والهدف من وجودهم، وتقصره على العبادة، ولمَّا كان الواقع يدل على استحالة أن يقوم الإنسان بالصلاة والصيام والحج دون أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يتزوج أو يتاجر، أو يزرع أو يصنع، وغير ذلك سائر الأعمال، وأنواع النشاط اليومي في الحياة البشرية، لما كان الأمر كذلك فإنَّه قد وجب القول بأنّ كل هذه النشاطات ضروريَّة للعبادة بمعنى الشعائر والنسك بل هي مؤديَّة لها، ومن ثُمَّ فهي عبادة من هذا الوجه ومن ¬

_ (¬1) محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات. . . ص 188، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد أبو الفتح البيانوني: العبادات خصائصها وآثارها. . ص 4، (مرجع سابق). (¬3) فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع المسلم: ص 111، (مرجع سابق).

جهة أخرى هي عبادة أيضًا في ذاتها بشرط أن يقوم بها الإنسان من خلال البناء الاجتماعي الإسلامي، ومبتغيًا بها وجه اللَّه تعالى. . . خاضعًا للَّه وسائرًا حسب نهجه وتعليماته ووصاياه وتشريعه في كل أمر. ومن ثمَّ يصبح الأكل والشرب والنوم واليقظة والذهاب والإياب والتعلم والإنتاج بأشكاله، وكل أنواع السعي على الرزق، وغير ذلك من تفصيلات الحياة اليوميَّة، عبادة يثاب عليها المرء، وذلك واضح من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] وذلك هو المفهوم الحقيقي للعبادة، والذي به يتحقق تمام الخضوع، ويصبح الإنسان كفرد، وكمجتمع موحدًا للَّه إلهًا وربًّا لا إله غيره ولا ربَّ سواه) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) فاروق الدسوقي: مقومات المجتمع المسلم: ص 111، 112، 113، (مرجع سابق).

أنواع العبادة وصورها

أنواع العبادة وصورها يتضح من خلال التعريف العام للعبادة، وأنَّها (اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنية) (¬1)، ومن خلال ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من علماء الأُمَّة الإسلاميَّة، من أنواع العبادة وصورها في الإسلام، أنَّ للعبادة أنواعًا كثيرة يُمكن تقسيمها وفقًا للآتي: أولًا: عبادات اعتقادية. ثانيًا: عبادات قلبيَّة. ثالثًا: عبادات لفظية. رابعًا: عبادات بدنيَّة. خامسًا: عبادات ماليَّة (¬2). وقد تجمع العبادة الواحدة أكثر من نوع كما هو الحال في الصلاة، فهي تجمع بين العبادة الاعتقادية ممثلة في الإقرار للَّه بالربوبيَّة والألوهية، والأسماء والصفات، وتجتمع هذه العبادات في قراءة سورة الفاتحة، ففيها الإقرار بالربوبيَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] والألوهية في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وكذلك الأسماء والصفات، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3 - 4]. ¬

_ (¬1) ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 149، (مرجع سابق). (¬2) انظر: عثمان جمعة ضميريّة: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 292 - 296، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو الفتح البيانوني: العبادة (دراسة منهجية شاملة في ضوء الكتاب والسنة): ص 47 - 51، عن دار السلام، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م بيروت والقاهرة، وأساسها المحاضرة المشار إليها سابقًا.

ومن العبادات الاعتقادية

وتشتمل أيضًا على العبادة القلبيَّة، ممثلة في القصد والنيَّة عندما يقف العبد بين يدي اللَّه ليؤدي الصلاة بما فيها من خضوع وذل وخوف ورجاء، ودعاء وإنابة، واستغفار، وذكر، ونحو ذلك من العبادات القلبيَّة. وتشتمل -أيضًا- على العبادات اللفظية، وهي القراءة والذكر والدعاء وقراءة القرآن، وأمَّا البدنيَّة فتتمثل في أعمال التكبير والركوع والقيام والسجود، وغير ذلك من أركان الصلاة وواجباتها وشروطها (¬1). ومن العبادات الاعتقاديَّة: الإيمان باللَّه وأنَّه المتفرد بالخلق والأمر، وأنَّه الذي يملك الضرر والنفع والموت والحياة والنشور وأنَّه المستحق للعبادة دون سواه، ويدخل فيها أنواع التوحيد الأخرى وأركان الإيمان الستة وهي الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مبينة لهذه العبادات، وجعلتها أساسًا لشعائر الدين الأخرى، كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. ومن العبادات القلبيَّة: المحبَّة، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والخوف، والنيَّة، والتوبة، ونحو ذلك من المشاعر المرتبطة باللَّه كحب ما يحب وبغض ما يبغض، وما يتصل بهذه المشاعر من الولاء والبراء في طيات النفس وأعماق الشعور، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) لمزيد من الاطلاع على دراسة تطبيقية على عبادة الصلاة وما اشتملت عليه من خصائص ووظائف؛ انظر: محمد أبو الفتح البيانوني: العبادات خصائصها وآثارها: ص 18 - 32 (المرجع السابق نفسه).

أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]، قال بعض المفسرين في تفسيرها: ({وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بقلوبكم {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بجوارحكم) (¬1)، ثُمَّ قال: (إذا أفردت الإنابة، دخلت فيها أعمال الجوارح، وإذا جمع بينهما كما في هذا الموضع، كان المعنى ما ذكرنا) (¬2). وقال في معنى الآية: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}: (دليل على الإخلاص، وأنَّه من دون إخلاص، لا تفيد الأعمال الظاهرة والباطنة شيئًا) (¬3). وأمَّا التوكل فدليله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، كذلك الخوف عبادة قلبيَّة لا تصرف إلَّا للَّه تعالى؛ لأنَّه المستحق أن يخاف منه العبد؛ قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] ولأنَّه تعالى هو كاشف الضر، وهو صاحب الفضل ومالك الخير ومسديه إلى عباده، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]. وفي الحديث الشريف قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيما رواه عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "أنَّه ركب خلف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا غلام، إني معلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أنَّ الأُمَّة لو اجتمعوا ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . . 6/ 484، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه 6/ 484. (¬3) المرجع السابق نفسه 6/ 485.

ومن العبادات اللفظية

على أن ينفعوك لم ينفعوك إلَّا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلَّا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" (¬1). ومن العبادات اللفظيَّة: التلفظ بالشهادتين، والذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والكلمة الطيِّبَة ونحو ذلك من الألفاظ التي يقصدُ بها وجه اللَّه، فتكون عبادة وفقًا لما سبق شرحه وبيانه من أنَّ كل قول يحبه اللَّه فهو عبادة، مثل إفشاء السلام ورد التحيَّة بأحسن منها أو بمثلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطاره الشرعي وبضوابطه المعيَّنة. أمَّا التلفظ بالشهادتين فدليله قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا اللَّه، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلَّا بحقها وحسابهم على اللَّه" (¬2)، ومن هنا قال العلماء بأنَّ من نطق بكلمة التوحيد ولم يعتقدها بقلبه، وقام بأعمال الإسلام الظاهرة من صلاة ونحوها؛ عصم ماله ودمه وحسابه على اللَّه (¬3). ومن العبادات البدنيَّة: الصلاة والصيام والحج ومناسكه، وكذلك ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/ 293، ورقم الحديث [2669]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، (مرجع سابق)، وانظر: تخريج الحديث واستقصاء طرقه، وما فيه 4/ 410، 411 (المرجع السابق نفسه)، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 153، كتاب الصلاة، باب [10] رقم الحديث [385]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق). (¬3) انظر: الشاطبي: الموافقات 3/ 31، تحقيق: أبي عبيدة، (مرجع سابق) وانظر: ابن قدامة: المغني 12/ 288، 289، 290، 291، 292، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، وعبد الفتاح محمد الحلو، (مرجع سابق)، وانظر: المرجع السابق نفسه: 13/ 180، 32، 181، 208، 209.

الجهاد في سبيل اللَّه، وقد سبق أن الصلاة تشتمل على أنواعٍ عدَّة من العبادات الاعتقادية والقلبيَّة واللفظيَّة، وكذلك البدنية، لما فيها من القيام والركوع والسجود، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 77 - 78]. قال ابن قيم الجوزيَّة: (أخبر تعالى أنَّه اجتباهم، والاجتباء كالاصطفاء، وهو افتعال من اجتبى الشيء يجتبيه إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه، فهم المجتبون الذين اجتباهم اللَّه إليه، وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حقَّ جهاده فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبَّة والعبوديَّة، ويختاروه وحده إلهًا معبودًا محبوبًا على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهنم، وجوارحهم، وقلوبهم، ومحبتهم، وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءَه، وآثرهم بذلك على من سواهم) (¬1). وقد أظهر ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه- في تفسيره لهذه الآية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وربط هذا التميُّز بهدف من أهدافه وهو تحقيق العبوديَّة للَّه، وأظهر -أيضًا- مدلول العبوديَّة في الإسلام، وأنَّه يشتمل على عمل القلب واللسان والجوارح (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع التفسير: 3/ 223، (مرجع سابق). (¬2) انظر: مدارج السالكين 1/ 123 - 137، (مرجع سابق).

أما العبادات المالية

أمَّا العبادات الماليَّة: فتتمثل في فريضة الزكاة، وهي قرينة الصلاة، ويأتي بعدها الوفاء بالنذر إذا كان المنذور به مالًا، لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، ومنها النفقة في سبيل اللَّه ونحوها (¬1). وقد قام ابن قيم الجوزيَّة بدراسة مستفيضة حصر من خلالها أنواع العبادات وصورها، وقسَّمَها على القلب واللسان والجوارح من المكلَّف، وأجرى عليها الأحكام الفقهيَّة الخمسة ما بين واجب ومستحب ومباح، ومحرم ومكروه؛ وبدأ هذه الدراسة بقوله: (ورحى العبوديَّة، وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب واللسان، وعلى كل منها عبوديَّة تخصه، والأحكام التي للعبوديَّة خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح) (¬2). ثُمَّ شرع في بيان الأعمال القلبيَّة الواجبة والمستحبَّة مع ذكر أنواعها وصورها من إخلاص ونية وصدق وتوكل ومحبَّة وإنابة وصبر ورجاء وخوف وتحدث عن تفصيلاتها واختلاف العلماء فيما هو واجب منها ومستحب، وما اتفقوا عليه من ذلك (¬3). ثُمَّ قال: (والقصد أن هذه الأعمال -واجبها ومستحبها- هي عبوديَّة القلب، فمن عطلها فقد عطل عبوديَّة الملك، وإن قام بعبوديَّة رعيته من الجوارح، والمقصود أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائمًا بعبوديَّته للَّه سبحانه هو ورعيته) (¬4). ثُم تطرَّق لما هو محرم على القلب لكي تتحقق عبوديته للَّه، فقال: ¬

_ (¬1) انظر: عثمان جمعة ضميريَّة: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 296، (مرجع سابق). (¬2) مدارج السالكين 1/ 123، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 124 - 127. (¬4) مدارج السالكين 1/ 127، (المرجع السابق نفسه).

(أمَّا المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر، ومعصية، فالكفر: كالشك، والنفاق، والشرك وتوابعها، والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر، فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة اللَّه، واليأس من روح اللَّه، والأمن من مكر اللَّه، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم اللَّه من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنى، وشرب الخمر، وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلَّا باجتنابها، والتوبة منها وإلَّا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن) (¬1). وتناول أمورًا أخرى تعرض للقلب بعضها يصل إلى درجة الكفر كشهوة الكفر والشرك، وبعضها يكون فسقًا كشهوة البدعة، وبعضها الآخر يكون معصية (¬2). ثُمَّ تحدث عن أنواع العبادات اللفظية التي يقوم بها اللسان فذكر ما هو واجب وهو النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزم المكلف من القرآن، والتلفظ بالأذكار الواجبة في الصلاة ونحو ذلك من رد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على نحو ما سبق ذكره، وأضاف إلى ذلك إرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث، وتعليم الجاهل، وذكر ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه 1/ 127 - 128، وانظر: عثمان جمعة ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 311 - 354، (مرجع سابق). (¬2) انظر: مدارج السالكين 1/ 128، المرجع السابق نفسه، وانظر: إبراهيم بن محمد البريكان: المدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة على مذهب أهل السنة والجماعة: ص 124 - 190، (مرجع سابق).

من الأقوال المستحبة: تلاوة القرآن الكريم ودوام ذكر اللَّه ومذاكرة العلم النافع (¬1). ثُمَّ ذكر ما يحرم على اللسان النطق به بتعبير جامع، إذ قال: (وأمَّا المحرمة: فهو النطق بكل ما يبغضه اللَّه ورسوله، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث اللَّه به رسوله، والدعاء إليها، وتحسينها، وتقويتها، وكالقذف، وسب المسلم، وأذاه بكل قول، وشهادة الزور، والقول على اللَّه بلا علم، وهو أشدها تحريمًا) (¬2). ويدخل في ذلك التلفظ بألفاظ الشرك، والاستهزاء باللَّه ورسوله وآياته لقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وفي الحديث الشريف: قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لرجل قال له: (ما شاء اللَّه وشئت) (¬3) فقال له الرسول: "أجعلتني واللَّه عدلًا؟! بل ما شاء اللَّه وحده" (¬4). وأمَّا الاستهزاء باللَّه وآياته ورسوله فقد نزل قول اللَّه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]. قال ابن العربي في تفسيرها: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا ¬

_ (¬1) مدارج السالكين 1/ 128، 129، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه 1/ 129. (¬3) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/ 214، ورقم الحديث [1839]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، (مرجع سابق). (¬4) بقية الحديث: المرجع السابق نفسه. وانظر: تخريج الحديث وما قيل فيه: المرجع السابق نفسه: 3/ 339، 340، وحاشية الحديث رقم [1839]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، (مرجع سابق).

أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر؛ فإنَّ الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأُمَّة، فإنَّ التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل) (¬1). وتناول ما يكره من الأقوال وما يباح منها واختلاف العلماء في ذلك، وأنَّ كل ما يلفظ به الإنسان مكتوب إمَّا له وإمَّا عليه لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "كل كلام ابن آدم عليه، لا له، إلَّا ما كان من ذكر اللَّه وما والاه" (¬2). ويصل إلى عبادات الجوارح فيرتبها على هذا النحو: (وأمَّا العبوديات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة -أيضًا- إذ الحواس خمسة، وعلى كل حاسة خمس عبوديات، فعلى السمع وجوب الإنصات، ¬

_ (¬1) أحكام القرآن 2/ 976، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن عبد الوهاب وبعض أبنائه وأحفاده وغيرهم من العلماء: مجموعة التوحيد؛ (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة): ص 282 - 299 - 332، عن شركة العبيكان للطباعة والنشر - الرياض، (بدون تاريخ). (¬2) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 4/ 526، كتاب الزهد - باب [62] رقم الحديث [2412]، تحقيق: كمال يوسف الحوت (مرجع سابق). وانظر: تخريج الحديث، وما قيل فيه وطرقه: مسند أبي يعلى الموصلي 13/ 56، 57، (وحاشية الحديث رقم [7132] رقم [11] في مسند أم حبيبة)، تحقيق: حسين سليم أسد، وقال: إسناده حسن على شرط ابن حبان وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، في سنده أم صالح ليس فيها جرح ولم ترد منكرًا فهي على شرط ابن حبان، وباقي رجاله ثقات. وفي معناه: ما ذكره ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في تفسير قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال: (يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قوله: أكلتُ، وشربتُ، وجئتُ، ورأيتُ (حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقرَّ منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن العظيم: ص 462، (مرجع سابق). وانظر: مدارج السالكين 1/ 129، (المرجع السابق نفسه).

والاستماع لما أوجبه اللَّه ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام، واستماع الخطبة في الجمعة في أصح قولي العلماء، ويحرم عليه استماع الكفر والبدع، إلَّا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة: من رده، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنّة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك) (¬1). ويستمر في شرح هذه المراتب الخمس والعشرين في مختلف صورها وأحكامها ما بين واجب ومستحب ومكروه ومحرم وواجب إلى أن يقول (¬2): (وهذه المراتب -أيضًا- مرتَّبَة على البطش باليد والمشي بالرجل، وأمثلتها لا تخفى؛ فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله: واجب، وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف، والصحيح وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة، وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر، والأقوى في الدليل: وجوبه لدخوله في الاستطاعة، وتمكنه بذلك من أداء المناسك، والمشهور عدم وجوبه، ومن البطش الواجب: إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم. والحرام: كقتل النفس التي حرم اللَّه قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك) (¬3). وقد تناول تفصيلات كثيرة، ألَمَّت بصور عدَّة (¬4)، وقال في نهايتها: (فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، واليد، والرجل، والفرج، والاستواء على ظهر الدَّابَّة) (¬5). ¬

_ (¬1) مدارج السالكين 1/ 131، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 131 - 135. (¬3) مدارج السالكين 1/ 136، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 136، 137. (¬5) المرجع السابق نفسه 1/ 137.

والحقيقة أنَّ ما قام به ابن قيم الجوزية من تصنيف للعبادة، وحصر لمراتبها، وما ألحق بذلك من منازل لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] (¬1)، وبالنظر للعبادة نفسها ووقتها وما يتعلق بها، كلُّ ذلك يعطي الدلالة الواضحة على شمول العبوديَّة في الإسلام، لكل ما يأتي المكلف ويذر من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأنَّه مسؤول عن جميع تصرفاته: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وبهذا المفهوم الشامل للعبادة (عَرَفَ المسلمون الأولون معنى العبادة فكانوا عبادًا للَّه حقًّا، وكان وصف العبوديَّة جليًّا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات. . . إذ كانوا لا يتحركون تحركًا ولا يسكنون سكونًا إلَّا ويستشعرون رضاء اللَّه عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة، ولمَّا ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيًّا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات، وكان هذا التحول والبعد متنوعًا فيهم، ومتفاوتًا بينهم، فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه وغيره. . . وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع اللَّه، فخرجوا بذلك عن الجادة) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وانظر: المرجع السابق نفسه 1/ 138 وما بعدها. (¬2) محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات. . . ص 189، (مرجع سابق). وانظر: سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي: ص 131 - 135، الطبعة الرابعة، 1398 هـ - 1978 م، عن دار الشروق، بيروت، وانظر: الشاطبي: الاعتصام 2/ 443، تحقيق: أحمد عبد الشافي (مرجع سابق).

روح العبادة وأسرارها

روح العبادة وأسرارها سبق التعريف بالعبادة والعبوديَّة، وما تقتضيه من خضوع للَّه ومحبة له ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّ تلك المحبَّة تفضي إلى متابعته -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نيَّة وقصد، والتزام بما كان عليه من عبادة. ثُمَّ إنَّ فائدة العبادة تعود للمكلف نفسه في المقام الأول، وكذلك تنعكس آثارها على حياته وحياة الأُمَّة من حوله، وسيأتي الحديث عن هذا الجانب في نقطة أخرى، أمَّا البحث هنا فيتركز على روح العبادة وأسرارها، وإن كان من المسلمات لدى المسلمين (أن العبودية للَّه شعارها الإيمان بالغيب ولو لم تره، والطاعة لأمره ولو لم تحط بسره، وحسب المؤمن أن يعلم بالإجماع أن اللَّه غنيٌّ عن العالمين، وإذا تعبد سبحانه عباده بشيء فإنَّما يتعبدهم بما يصلح أنفسهم، ويعود عليهم بالخير في حياتهم الروحيَّة والماديَّة، الفردية والاجتماعية، الدنيويَّة والأخرويَّة، بيد أن الإنسان المحدود قد تخفى عليه حكمة اللَّه جل علاه، وكم للَّه من أسرار خافية حتى عن أفهام الأذكياء من الناس، وكما أخفى سبحانه كثيرًا من أسرار هذا الكون عن الإنسان، أخفى عليه بعض أسرار ما شرع ليظل الإنسان في هذا وذاك متطلعًا بأشواقه وراء المجهول آملًا في الوصول، معترفًا بالقصور، وليظل دائمًا في دائرة العبوديَّة المؤمنة التي شعارها دائمًا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]) (¬1). ¬

_ (¬1) محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها كما جاء بها القرآن الكريم، مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب، أبها، العدد [3] 1403 هـ - 1404 هـ: ص 112، 113، عن جامعة الإمام، الرياض. وانظر: الشاطبي: الاعتصام 2/ 479، 480، تحقيق: أحمد عبد الشافي، (مرجع سابق). أورد في هذا المعنى كلامًا لطيفًا، ممَّا جاء فيه: (إنَّ كل =

ولذلك فإنَّ جوهر العبادة وروحها الحقيقية هي كما قال ابن تيمية: (غاية الذل للَّه بغاية المحبَّة له) (¬1)، وإنَّما شرعت العبادات المفروضة من صلاة وزكاة وحج وصوم ونطق بالشهادتين ونحوها من العبادات المعيَّنة بأوصافها وأوقاتها لتدريب الإنسان على تحقيق العبوديَّة الشاملة للَّه، ولتذكيره بعظمة اللَّه وسلطانه عليه (¬2). وأمَّا أسرار العبادة فإنَّها من الكثرة بمكان، ومنها ما هو ظاهر جلي، ومنها ما هو خفي حتى يصل إلى ما لا يحيط بعلمه إلَّا اللَّه -عز وجل- وفيما يأتي ذكر بعض هذه الأسرار: أولًا: أن العبادة حق للَّه -عز وجل- على أن تكون خالصة له دون سواه، فهو المستحق للعبادة لأنَّه الخالق الرازق، الذي له الأمر كله، وإليه المصير، ومن حقيقة كونه الخالق المالك المتصرف، وما سواه عبيد له فإنَّه يستحق أن يعبد ولا يعصى، وأنْ يشكر ولا يُكفَر، وقد أمر بعبادته وجعلها الغاية من خلق الثقلين -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- (والأصل في العبادات أن تؤدى امتثالًا لأمر اللَّه، وأداء لحقوقه على العباد، وشكرًا لنعمائه التي لا تنكر. . .، والأصل فيها (كذلك) أنَّها ابتلاء لعبوديَّة الإنسان لربه) (¬3). ¬

_ = ما ورد عليهم (يقصد المكلفين) في شرع اللَّه مِمَّا يصادم الرأي فإنَّه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي، وأنَّه كان شبهة عرضت، وإشكالًا ينبغي أن لا يلتفت إليه، بل يتهم أولًا، ويعتمد على ما جاء في الشرع، فإنَّه إن لم يتبين اليوم يتبين غدًا، ولو فُرضَ أنَّه لا يتبين أبدًا فلا حرج فإنَّه متمسك بالعروة الوثقى) أي: من تمسك بشرع اللَّه ولو لم تظهر له حكمة التشريع أو صادمت رأيه في أمر من الأمور. وانظر: أبو العز علي بن علي: شرح العقيدة الطحاوية 1/ 341، 342، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، (مرجع سابق). (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 153، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها ص 113، (المرجع السابق نفسه). (¬3) محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها: ص 112، (المرجع السابق نفسه)، وانظر:=

قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1 - 2]. فدلت هذه الآيات على أن العبادة حق للَّه فرضه على عباده، وفي الحديث الشريف: أنّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل رضي اللَّه عنه: "هل تدري ما حقُّ اللَّه على عباده؟ " (¬1)، فقال معاذ: اللَّه ورسوله أعلم (¬2). فقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حق اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على اللَّه -عزَّ وجلَّ- أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" (¬3). ثانيًا: ومن أسرار العبادة أنَّها تحقق الانسجام مع حقيقة الوجود وحقيقة المكلف، فكل الوجود قانت للَّه وعابد له بالتسخير، والمكلف من الإنس والجن عابد للَّه بالاختيار، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]، ومن رحمة اللَّه بخلقه أن جعل الفطرة تميل إلى الحق وتريده وتطلبه. ¬

_ = الشاطبي: الموافقات 2/ 29، 30، 116، 128، 129، 142، 145، 146، 147، 162، 163، 164 - 169، تحقيق: عبد اللَّه دراز، ومحمد عبد اللَّه دراز، (مرجع سابق). (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 5/ 2224، كتاب اللباس، باب [99]، رقم الحديث [5622]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 58، كتاب الإيمان، باب [10] رقم الحديث [48]، [49]، [50]، 51]، بألفاظ متقاربة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). (¬2) جزء من الحديث السابق، المرجع السابق نفسه. (¬3) جزء من الحديث السابق: لدى البخاري ومسلم، (المرجع السابق نفسه)، واللفظ (هنا) لمسلم: صحيح مسلم 1/ 58، 59، (المرجع السابق نفسه).

يقول ابن تيمية عن هذا: (والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنَّه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]) (¬1). وقبل ذلك بيَّن أنَّ من سر العبوديَّة للَّه إصلاح القلب من الفساد، وأنَّ ذلك لا يتحقق إلَّا بتعبئة القلب بحب اللَّه والخضوع له، ويقول: (ومن أعظم أسباب البلاء إعراض القلب عن اللَّه، فإنَّ القلب إذا ذاق طعم عبادة اللَّه والإخلاص له لم يكن عنده شيءٌ قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبًا إلَّا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنَّما يصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف (عليه السلام): {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فاللَّه يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للَّه، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبوديَّة للَّه والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، فإنَّ الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر اللَّه، وهذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإنَّ ذكر اللَّه عبادة للَّه، وعبادة القلب للَّه مقصودة لذاتها) (¬2). ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 188، (مرجع سابق). (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 187، 188، (مرجع سابق).

وقال -أيضًا- في مكان آخر: (إنَّ ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك) (¬1). ثُمَّ إنَّ انسجام المكلف مع حقائق الوجود، وشعوره بوجوده هو لا يتحقق إلَّا بعبوديته للَّه (وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حبًّا للَّه ازداد له عبوديَّة، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًّا وحريّة عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى اللَّه من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلَّة الغائيّة، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلّة الفاعليَّة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسعد، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلَّا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذَّة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلَّا بإعانة اللَّه له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلَّا اللَّه، فهو دائم مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10/ 189، (المرجع السابق نفسه). (¬2) ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 194، 193، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين 1/ 463 - 465، (مرجع سابق).

آثار العبادة في الفرد وفي الأمة

آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة تبين -فيما سبق- الإطار العام للعبادة، وما يعنيه تحقيق العبوديَّة للَّه من قيام الحياة برمتها وفقًا لشرع اللَّه، وأنَّ العبادة تشمل جميع جوانب حياة المسلم إذا أراد بها وجه اللَّه، واستقام فيها على صراط اللَّه المستقيم. وتبين -أيضًا- أنَّ من أسرار العبادة شكر المنعم والاعتراف له بالجميل والثناء عليه والخضوع له والاستسلام لعظمته، ومن أسرارها -أيضًا- انسجام العبد مع فطرته ومع حقائق الوجود، فالكل قانت للَّه بالتسخير، ويتميَّز الإنسان بأنَّه مخيَّر في الإقبال على طاعة اللَّه وله الأجر والثواب، أو الإعراض وعليه تبعات ذلك من الوعيد والعذاب. ولعل -فيما سبق- كذلك ما يوضح بعض آثار العبادة على الفرد والمجتمع، ولا يتسع المجال لبيان ذلك بالتفصيل، ولذا فيقتصر هنا على أبرز آثار العبادة في معناها الخاص، وبخاصة العبادات الأربع؛ الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، على النحو الآتي: أولًا: الصلاة: وهي في اللغة: (الدعاء، والتَّبريك والتمجيد) (¬1)، ولها معانٍ أخرى كثيرة منها: الاستغفار، والرحمة، والتزكية، واللزوم (¬2)، والصلاة في الشرع: (أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم) (¬3). ¬

_ (¬1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (صلَّى)، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه، وانظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (صلا)، مرجع سابق). (¬3) شرف الدين أبو النجا الحجاوي: الروض المربع شرح زاد المستنقع، مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد 1/ 38، بشرح: منصور بن يوسف البهوتي، الطبعة السادسة، (بدون تاريخ).

قال الراغب الأصفهاني: (والصلاة التي هي العبادة المخصوصة، أصلها الدعاء، وسميت هذه العبادة بها كتسمية الشيء باسم بعض ما يتضمنه) (¬1). وقال -أيضًا-: والصلاة من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع) (¬2). وقد أكَّد الإسلام على ضرورة إقام الصلاة، وجعلها عمود الإسلام، وجاءت الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة تأمر بالصلاة وتحث عليها بصيغ متنوعة، وأساليب كثيرة. منها: الأمر الصريح بإقامتها وحسن أدائها. ومنها: أمر الأهل بها. ومنها: أمر الأنبياء والمرسلين بإقامتها والصبر عليها والوصية بذلك. ومنها: مدح المقيمين لها المداومين عليها. ومنها: ذم المتساهلين بها الساهين عنها. ومنها: بيان فضلها وأهميتها والأمر بها أو الحث عليها مقترنة بالفضائل والصفات الحميدة (¬3). ومن الصلاة في الإسلام ما هو فرض كالصلوات الخمس، ومنها ما هو مندوب أو سنَّة مؤكدة كالسنن الرواتب، ومنها ما هو نافلة، وقد يدخل في بعض صورها التحريم أو الكراهة (¬4)، كما أنَّها عبادة توقيفيَّة لا يصح أن يزاد عليها، ولا أن ينقص منها، بل تؤدى وفقًا لما فرضه الشارع وندب إليه وأباحه، وما خرج عن ذلك فهو بدعة (¬5). وللصلاة شروط وأركان وواجبات وسنن وآداب، ويشترط لها كذلك ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (صلَّى)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه. (¬3) انظر: محمد أبو الفتح البيانوني: العبادة ص 100 - 103، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 114. (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 114.

الطهارة، والوضوء، وللطهارة والوضوء سنن وواجبات ومقتضيات كثيرة ومتنوعة، وكل ذلك مبسوط في كتب السنَّة والفقه وغيرها من كتب التفسير والأحكام. وعندما تؤدي الصلاة في ضوء الكتاب والسنَّة ووفقًا لما أداه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، فإنَّها عندئذٍ تحقق منافع جمَّة تعود بالخير على الفرد والمجتمع، ومن أهم آثار ذلك على الفرد الآتي: أ- دوام صلة العبد بربه وتجديدها، وتتمثل هذه الصلة في الأعمال والأقوال، وكذلك النيَّة والقصد؛ لأن الصلاة -كما سبق ذكر ذلك- تجمع أنواع العبادات (الاعتقادية، والقلبيَّة، واللفظية، والبدنية)، وعندما يؤدي العبد صلاته فإنَّه يغذي نفسه بذكر اللَّه وعبادته وطاعته، ويطهر نفسه من أدران الذنوب والخطايا، ويقيها من الغفلة عن اللَّه، وقد شبَّه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاة في عملها هذا بنهر، يغتسل فيه العبد خمس مرات كلَّ يوم. فعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كلل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ. قال: "فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو اللَّه بهن الخطايا" (¬2). ب- وفي اتجاه المسلم إلى القبلة في صلاته رمز لتوحيد اللَّه وإفراده بالعبادة، ورمز لوحدة المسلمين العالميَّة، حيث تتكون الأُمَّة من مجموعة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 1/ 226، باب الأذان للمسافر، الحديث رقم (605)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 462، 463، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، وباب [51] الحديث رقم [667]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق).

الأفراد، فإذا التزم كلُّ فرد بهذا القصد وتلك الغاية نتج عن ذلك وحدة الأُمَّة في عقيدتها وعبادتها، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ويبلغ التسليم والذل والخضوع بالمسلم غايته للَّه تعالى في حالة السجود. يقول أحد الباحثين: (إنّ العبد وهو يقف أمام مولاه تبارك وتعالى في سجوده إنّما يبلغ الغاية في الخضوع والتذلل، وينصب أشرف أعضائه على أذلِّ شيء في الوجود. . . الأرض. . .، ويهتف بأعظم كلمة يعلن بها عظمة اللَّه وعلوه، فيقول: "سبحان ربي الأعلى"، وهنا تتفق روعة الهيئة والمكان (¬1)، مع روعة البيان والإعلان. وإذا سجد فك سلاسل التقليد، السلاسل التي فرضها عليه المجتمع والأعراف والعادات والآداب، فخرَّ ¬

_ (¬1) الأصل في الأرض: الطهارة، وقد جُعلت الأرض للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولأمته مسجدًا وطهورًا، وهذا مِمَّا خصّ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (تقدم ذكر ذلك)، ولا يستثنى من ذلك إلَّا ما ورد النهي عن السجود فيه مثل أماكن النجاسة أو المقابر؛ انظر: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي: شرح منتهى الإرادات: ص 156، (حيث ذكر سبعة مواضع لا تصح الصلاة فيها، وفي ذلك تفصيل وخلاف)، نشر إدارة البحوث العلمية والإفتاء. . . - الرياض، (بدون تاريخ). والشاهد من ذلك أنَّ مواضع السجود تشرف بالعبادة مع كونه مظهرًا من مظاهر الذل والخضوع؛ لأن ذلك الذل والخضوع مصروف لمستحقه وهو اللَّه -عزَّ وجلَّ-. ومن هنا جاءت العناية بالمساجد من حيث التشريف والتعظيم، والمحافظة على نظافتها وطهارتها، وعمارتها بالصلاة والذكر والدعاء، إلى جانب عمارتها الحسيَّة بالتشييد، والبناء، ولكل ذلك أحكامه وآدابه وهديه من القرآن والسنة وإجماع الأُمَّة وسار عليه المسلمون في تاريخهم القديم والحديث. لمزيد الاطلاع؛ انظر: مجلة البحوث الإسلاميَّة، المجلد الأول، العدد الثاني: ص 433 - 601، الصادرة عن الرئاسة العامَّة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. . .، الرياض.

ساجدًا للَّه تعالى، يمرغ وجهه، ويعفر جبينه، وأعطى القلب زمامه، وأرسل النفس على سجيتها، فلا حجر على الخشوع، ولا ملامة على الدموع) (¬1). ج- ومن آثار الصلاة على المسلم أنها من أسباب استقامته، وصلاح أخلاقه، وسلامة قلبه وروحه وعقله، وقد جاء الأمر بها في القرآن الكريم مقرونًا بالبر، وبالمسلك الحسن، وبالإخلاص وبالشكر وبالأمن والرخاء، والفضل والرزق والطهارة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى في حق نساء الرسول: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38]. ولا غرو أن تبعث الصلاة على الاستقامة الشاملة، وهي تربط الإنسان بربه فيستشعر عظمته ومراقبته له واطلاعه عليه، وإحاطته بسره وجهره، ثُمَّ هو في موقف اختبار دائم من خلال هذه الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه، فلابُدَّ أن يحرص العبد على سلامتها وحسنها، وذلك يقتضي أن ¬

_ (¬1) رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام الخمسة (أحكامها وأثرها في بناء الفرد والمجتمع): ص 63، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م، عن دار السلام. . . . بيروت، والأصل في قول: "سبحان ربي الأعلى" حديث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا سجد أحدكم فليقل: سبحان ربي الأعلى" رواه أبو داود في سننه 1/ 230، (مرجع سابق).

تأخذ أثرها في شأنه كله قلبًا وقالبًا، وبالتالي فإنَّ الصلاة تضفي على المسلم (من تهذيب للأخلاق، وتقويم للسلوك. . . وانقياد لإرادة اللَّه وخشيته ومحبته سبحانه) (¬1) ما يصلح حياته في علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمن حوله من الأهل والأقارب والمجتمع بعامَّة. أمَّا آثار الصلاة على المجتمع فهي أكثر من أن تحصى، ويُمكن أن يذكر منها الآتي: أ- بث روح الجماعة بين المسلمين وما تقتضيه من تعاون على البر والتقوى، والتراحم، والتناصر، والتواصل، ولذلك شرعت صلاة الجماعة لقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. قال ابن كثير: (استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة) (¬2). واستدلوا أيضًا بكون الصلاة في جماعة مأمور بها حتى في ساحة المعركة ومع الخوف لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 122]، فدلَّ ذلك على أن الجماعة في حال الأمن آكد، واستدل العلماء كذلك بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]. واستدلوا بأحاديث كثيرة؛ منها: ما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَدَ ناسًا في بعض الصلوات فقال: "لقد هممتُ أن آمر رجلًا يصلي ¬

_ (¬1) فهد بن عبد الرحمن الرومي: الصلاة في القرآن الكريم (مفهومها وفقهها): ص 38، الطبعة الثالثة 1409 هـ (لم يذكر الناشر). وانظر: ابن قيم الجوزية: الوابل الصيب: ص 21، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، الطبعة الثانية، عن مكتبة البيان، دمشق، (بدون تاريخ). (¬2) تفسير القرآن العظيم 1/ 86، (مرجع سابق). وانظر: فهد الرومي: الصلاة: ص 96، (المرجع السابق نفسه).

بالناس، ثُمَّ أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيُحَرَّقوا عليهم بحزم الحطب، بيوتهم" (¬1)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬2). والأدلة في ذلك كثيرة ناقشها الفقهاء في مظانها من كتبهم (¬3)، وليس القصد -هنا- بحث ذلك، وإنَّما الإشارة إلى أهميَّة أن تؤدى الصلاة في جماعة وفي المساجد والجوامع، سواء الصلوات الخمس المفروضة أو الجمعة أو صلاة العيد أو الاستسقاء أو الكسوف والخسوف، وفي ذلك كله بَثٌّ لروح الأُخُوَّة الإسلاميَّة، وما توجبه من التواصل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر تحقيقًا لقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. ب- إظهار شعائر الإسلام وتعظيمها، وإشهار ذلك بصفة عامَّة وحيث إن الصلاة (أعظم العبادات وأشملها وأتمها فإنَّه من الواجب أن تشيع بين المسلمين، وأن يجتمعوا لها، وإذا كان في (الأُمَّة) العلماء الذين يقتدى بهم، وضعفاء يتهاونون في الصلاة لو لم يؤدوها في جماعات على رؤوس الأشهاد. فلا أنفع ولا أوفق بالمصلحة في حق هؤلاء جميعًا أن يكلفوا أن يطيعوا اللَّه على أعين الناس؛ ليتميز فاعلها من تاركها، وراغبها من الزاهد فيها، ويقتدى بعالمها، ويعلم جاهلها، وتكون طاعة اللَّه فيهم كسبيكة تعرض على طائف الناس، ينكر منها المنكر، ويعرف منها المعروف، ويرى غشَّها وخالصها، وأيضًا فلاجتماع المسلمين؛ راجين راهبين. . . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 451، كتاب المساجد ومواقع الصلاة، باب [42]، الحديث رقم [651]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 450، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب [42]، رقم الحديث [650]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) انظر: منصور البهوتي: شرح منتهى الإرادات: ص 244 - 253، (مرجع سابق).

مُسَلِّمين، ووجوهم للَّه خاصية عجيبة في نزول البركات، وتدلي الرحمة. . . فمراد اللَّه من نصب هذه الأُمَّة أن تكون كلمة اللَّه هي العليا، وألا يكون في الأرض دينٌ أعلى من الإسلام، ولا يتصور ذلك إلَّا بأن تكون سنتهم أن يجتمع خاصتهم وعامتهم، وحاضرتهم وباديتهم، وصغيرهم وكبيرهم لما هو أعظم شعائره، وأشهر طاعاته، فلهذه المعاني انصرفت العناية التشريعية إلى شرع الجمع والجماعات، والترغيب فيها، وتغليظ النهي عن تركها) (¬1). قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. ومن شعائر الإسلام التي تميَّزت بها الأمَّة الإسلاميَّة الأذان، وهو الإعلان عن دخول وقت الصلاة والدعوة إلى أدائها، قال عنه أحد العلماء: (الأذان مقصوده الإعلام بأوقات الصلاة تنبيهًا على أن الدين قد ظهر، وانتشر علم لوائه في الخافقين، واشتهر، وسار في الآفاق على الرؤوس فبهر، وأذل الجبابرة وقهر) (¬2). وقال أيضًا: (واعلم أن الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان مشتملة على نوعيَّة من العقليات، والسمعيات، فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال، والتنزيه عن الأضداد، وذلك بقوله: (اللَّه أكبر)، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالَّة على ما ذكر، ثُمَّ صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ¬

_ (¬1) رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام ص 81، (مرجع سابق). (¬2) إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي: الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان: ص 53، تحقيق مجدي فتحي السيد، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، عن مكتبة الرشد، الرياض، وانظر: إميل درمنغم: حياة محمد: ص 290، ترجمة: عادل زعيتر، (مرجع سابق).

ثانيا: الزكاة

ضدها من الشرك. . . في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على وظائف الدين، ثُمَّ صرح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية. . . ثُمَّ دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات التي هي حكمة الدنيا فدعاهم إلى الصلاة) (¬1). وبهذا يتضح تأثير الصلاة في الفرد والأُمَّة، وأنها (بمنزلة القلب من الجسد، فبصلاحها يصلح وبفسادها يفسد. . . ومن هنا كانت أول ركن عملي شرع من أركان الإسلام، وكانت أول عمل ينظر فيه من عمل المرء، فان قبلت منه نُظرَ فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل لم ينظر في شيء من عمله) (¬2). ثانيًا: الزكاة: وهي في اللغة: من الفعل (زكى) ويدل على معانٍ عدَّة منها النماء والزيادة والطهر. قال ابن فارس: (والأصل في ذلك كلّه راجع إلى هذين المعنيين، وهما النماء والطهارة) (¬3). وعرّفت الزكاة في الاصطلاح بتعريفات كثيرة؛ منها: (اسم لإخراج شيء مخصوص، من مال مخصوص على وجه مخصوص) (¬4). ومنها: (مال مخصوص يخرج من مال أو بدن مخصوص على وجه مخصوص) (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 60. (¬2) محمد أبو الفتح البيانوني: العبادة ص 131، (مرجع سابق). (¬3) معجم مقاييس اللغة: مادة (زكى)، (مرجع سابق). (¬4) شمس الدين الزركشي: شرح الزركشي: 2/ 372، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد الرحمن الجبرين، (مرجع سا بق). (¬5) محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 344، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م، عن دار الفرقان - الأردن.

ومنها: (هي حق واجب في مالٍ مخصوص، لطائفة مخصوصة، وفي وقت مخصوص) (¬1). ومهما كانت هذه التعريفات تلم بالزكاة من حيث أحكامها ومشمولاتها ومن تجب عليه ومن تجب له ومقدارها، والأنواع التي تجري فيها إلَّا أنَّ التركيز هنا على الزكاة باعتبارها (العبادة المالية الاجتماعية المهمة، وهي الفريضة الثانية في الإسلام، قرنها القرآن بالصلاة في عشرات المواضع، وذكرها تارة بلفظ الزكاة، وطورًا بلفظ الصدقة، وأحيانًا بلفظ الإنفاق) (¬2). وبلغ أمر الاهتمام بشأنها وهي قرينة الإيمان والصلاة والعمل الصالح، أن قاتل أبو بكر الصديق وهو خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليها من منع أداءها، وأقرته الأُمَّة على ذلك، وحكمت على من لم يؤدها لبيت مال المسلمين بالردَّة عن الدين، وقد رُويَ أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- قال: "واللَّه لأقاتلنّ من فرَّقَ بين الصلاة والزكاة" (¬3). كما أنَّ الزكاة من العبادات المعروفة في الأديان السابقة للإسلام التي تبرز (جانب البر بالفقراء والإحسان إلى المساكين) (¬4) في الأديان السماويَّة، بيد أنها في الإسلام بلغت ذروة التمام والكمال شأنها في ذلك شأن سائر أركانه وشعائره وهديه، (إنَّها ركن من أركان الإسلام، ودعامة من دعائم الإيمان، وإيتاؤها -مع إقامة الصلاة والشهادة للَّه بالوحدانية ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 344. (¬2) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 235، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 507، كتاب الزكاة، باب [1] الحديث رقم [1335]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان. (¬4) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 237، (مرجع سابق).

ولمحمد بالرسالة- عنوان الدخول في الإسلام، واستحقاق أُخُوَّة المسلمين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، والزكاة في الإسلام ليست (تبرعًا) يتفضل به غني على فقير، أو يحسن به واجد إلى معدم، إنَّها أبعد من ذلك غورًا، وأوسع أفقًا، إنَّها جزءٌ مهم من نظام الإسلام الاقتصادي. . . الفريد، الذي عالج مشكلة الفقر، أو مشكلة المال على وجه عام، قبل أن تعرف الدنيا نظامًا عني بعلاج هذا الجانب الخطير من حياة الإنسان) (¬1). وإنَّ للزكاة في جميع أنواعها آثارًا حميدة تعود بالخير على الفرد والأمَّة، منها على سبيل الإيجاز الآتي: أ- تهذيب النفوس البشريَّة وتطهيرها من عوامل الأثرة والشح والبخل، وسيطرة المال بمختلف صوره على نفوس الأغنياء من جهة، وتطييب لنفوس الفقراء والمساكين والمستحقين للزكاة من الفئات الأخرى، والإسهام في إغنائهم ودفع غائلة الحاجة عنهم وما تسببه من مفاسد وانحرافات، قد تضر بسلامة الأُمَّة وأمنها، وتسبب الفوضى في المعتقدات والسلوك، وهذا واقع المجتمعات الأُخرى، أمَّا مجتمعات الأُمَّة الإسلاميَّة فإنها وبقدر ما تلتزم بشرع اللَّه، ومنه أداء الزكاة المفروضة تسهم في قيام نظام اجتماعي متوازن يتحقق فيه التضامن والتكافل والتراحم والتعاطف والإلفة والمحبَّة؛ يعطي الغني فيه الفقير من ماله الذي هو في تصوره ¬

_ (¬1) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 238، (مرجع سابق). وانظر: رفعت فوزي: أركان الإسلام. . . ص 102 - 104 (مرجع سابق). وانظر: أثر تطبيق النظام الاقتصادي في المجتمع (من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بالرياض 1396 هـ)، ونشرته 1404 هـ - 1984 م: ص 7، 8، 281، 307، 380، 386، 394، 434، 436، 510، 511، 576.

واعتقاده مال اللَّه، وهو مستخلف فيه مسؤول عنه، وأن عليه فيه حقوقًا متنوعة {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25]، ابتغاء مرضاة اللَّه والفوز بثوابه، فيخرجه أداءً للواجب وبراءة للذمَّة من غير استعلاء ولا منَّة، بل عبادةً للَّه وشكرًا واستشعارًا للبركة التي يرجو أن يطرحها اللَّه في ماله، ويأخذه الفقير والمستحق بصفة مشروعة، والمنَّة في ذلك والشكر للَّه، مع الشعور بالأخوة الإسلاميَّة التي أوجبت له في مال أخيه ما يسهم في سد حاجته. يقول الماوردي عن الزكاة هي: (مواساة للفقراء، ومعونة لذوي الحاجات تكفهم عن البغضاء، وتمنعهم من التقاطع، وتبعثهم على التواصل) (¬1). وفي هذا السياق فإنَّ الإسلام تفرد في نظام الزكاة ونحوها من النفقة والصدقة والكرم والإيثار بآداب سامية، حيث نهى الباذل أن يلحق ما بذله شيئًا من الأذى والمنَّة ونحوهما، وذهب بعض العلماء إلى أن المنّ من كبائر الذنوب (¬2). ومن الآداب التي أرشد الإسلام الفقير إليها أن يشكر اللَّه أولًا ثُمَّ يشكر من أعطاه، ويدعو له، ويثني عليه، ولا يستصغر المبذول له أو يذمه، كما أنَّ عليه ألا يأخذ إلَّا بقدر حاجته ولا يستكثر بما يعطى، وأن يعتمد على اللَّه ثُمَّ على نفسه فيجدّ ويجتهد للكسب من عمله، وهذا ما حثَّ عليه الإسلام، أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين: ص 73، طبعة دار الصحابة القاهرة، (بدون تاريخ)، وانظر: أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلفية في الإسلام: ص 203، 204، (مرجع سابق). (¬2) انظر: أحمد عبد الرحمن إبراهيم: المرجع السابق نفسه: ص 207 - 208، وانظر: شمس الدين المقدسي: الآداب الشرعية 1/ 336، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخر، الطبعة الثانية: 1417 هـ - 1996 م، عن مؤسسة الرسالة، بيروت، حيث قال: "ويحرم المنُّ بما أعطى، بل هو كبيرة على نص أحمد -رضي اللَّه عنه-)، واستشهد على ذلك بحديث أخرجه الإمام أحمد، وآخر أخرجه مسلم. انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 336.

"لأنْ يأخذ أحدكم حبله ثُمَّ يغدو -أحسبه قال- إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس" (¬1). ب- الزيادة والنماء في المال المزكى، وإن كانت الزكاة في ظاهرها، تنقص المال باعتبارها أخذت بعضه، إلَّا أن الزكاة -بموعود اللَّه- سببٌ لزيادة المال ونموه ومضاعفته، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: "ما نقصت صدقة من مال" (¬2) وأخرج الإمام أحمد عن أبي كبشة الأنماري قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ثلاث أقسم عليهن. . . ما نقص مالَ عبدٍ صدقة، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر إلَّا زاده اللَّه -عز وجل-، ولا يفتح عبدٌ بابَ مسألة إلَّا فتح اللَّه له باب فقر" (¬3). ج- ومن آثار الزكاة أنها تعمل على كسر حدَّة الفوارق بين فئات المجتمع المسلم، ومع أنَّ نظام الإسلام الاقتصادي يقدر (التفاوت الفطري في الأرزاق بين الناس، وأنَّه ناشئٌ لا عن تفاوت فطري آخر في المواهب، والملكات، والقدر، والطاقات، لكن هذا التفاوت الفطري في الرزق ليس معناه أن يدع الغني يزداد غنًى، والفقير يزداد فقرًا، فتتسع الشقة بين الفريقين، ويصبح الأغنياء طبقة تعيش في أبراج من العاج، ويصبح الفقراء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 538، 539، كتاب الزكاة، باب [52] الحديث رقم [1410]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق). وقبل هذا الحديث وردت عدّة أحاديث تنهى عن المسألة وتحث على العمل والعفّة والقناعة، وبعضها يجيز قبول ما جاء في المال من غير استشراف إليه ولا سؤاله. (¬2) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 4/ 2001، كتاب البر والصلة والآداب، باب [19]، الحديث رقم [2588]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) مسند الإمام أحمد بن حنبل 4/ 231، ورقم الحديث [17570]، ترتيب: دار إحياء التراث العربي، (5/ 273)، (مرجع سابق).

ثالثا: الصوم

طبقة تموت في أكواخ من البؤس والحرمان، بل تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية، ووصاياه الروحيَّة والخلقيَّة لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء) (¬1). وتأتي الزكاة في مقدمة ما شرعه الإسلام لتحقيق هذا الهدف النبيل، وأحاطها بالترغيب والترهيب، وقرنها بالصلاة والإيمان والطهر والتزكية والفضل والنماء، وغير ذلك من المبادئ والقيم والفضائل لتؤدي وظيفتها على أكمل وجه، ويكفي كنموذج على الترغيب في أداء الزكاة وفي الإنفاق بعامة قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وأمَّا في الترهيب من التهاون فيها فقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]. ثالثًا: الصوم: وهو في اللغة: من الفعل صام يصوم صومًا (¬2)، قال ابن فارس بأنَّه: (أصل يدل على إمساك وركود في مكان، من ذلك صوم الصائم هو: إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما مُنِعَه، ويكون الإمساك عن الكلام صومًا. . . وأمَّا الركود فيقال للقائم صائم، والصوم ركود الريح، والصوم: استواء الشمس انتصاف النهار كأنها ركدت عند تدويمها، وكذلك يقال صام النهار) (¬3). ¬

_ (¬1) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 262، (مرجع سابق). وانظر: رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام: ص 145، 151، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (صام)، (مرجع سابق). (¬3) معجم مقاييس اللغة: مادة (صام)، (مرجع سابق).

وعرّف الصيام أو الصوم في الشرع بتعريفات عدَّة، منها: (إمساك مخصوص، في وقت مخصوص، على وجه مخصوص) (¬1). ومنها: (إمساك عن أشياء مخصوصة، بنيَّة في زمن معين من شخص مخصوص) (¬2). ومنها: (الإمساك عن جميع المفطرات من أكل وشرب ونكاح بنيَّة، وذلك طيلة النهار، أي: من الفجر وحتى غروب الشمس) (¬3). وكما سبق القول بأنَّ مثل هذه التعريفات يهدف لبيان مشمولات المعرَّف من ناحية الأحكام الفقهية، وما يندرج تحتها من صور للعبادة، وتفاصيل تلك الأحكام، أمَّا المراد هنا فهو أهمية الصيام بصفته عبادة تعدُّ من أركان الإسلام ممثَّلَة في شهر رمضان المبارك، وما يلحق به من أنواع أخرى من قضاء ونذر وكفَّارة وصيام التطوع، وعلى أيِّ حال من تلك الأحوال فإنَّ الصيام وفقًا لضوابطه الشرعية وسننه وآدابه؛ ذو آثارٍ عميقة (في مجالات الحياة: كالصحة، والشعور بحاجة الآخرين، والتعود على الصبر، والتربية، وغير ذلك. . . وهو عبادة قديمة كانت موجودة في الأديان السابقة على الإسلام، يقول سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، التوراة فرضت الصيام أيامًا ¬

_ (¬1) شمس الدين الزركشي: شرح الزركشي 2/ 549، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد الرحمن الجبرين، (مرجع سابق). (¬2) شرف الدين المقدسي: الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/ 302، تصحيح وتعليق: عبد اللطيف السبكي، عن المطبعة المصرية في الأزهر 1351 هـ - القاهرة. وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع ص 357، (مرجع سابق). (¬3) محمد حسن أبو يحيى: المرجع السابق نفسه: ص 357.

معدودات، وكذا الإنجيل، وصام عيسى عليه السلام والحواريون، وكان الوثنيون يصومون. . . ولا يزال الوثنيون في الهند يصومون إلى الآن) (¬1). ولمَّا جاء الإسلام أوجب صيام شهر رمضان (على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم برؤيته أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا) (¬2)، ورتَّب على ذلك المغفرة ومضاعفة الأجر والرضى من اللَّه عز وجل، يقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" (¬3) "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬4) و"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬5). وإلى جانب صيام رمضان الذي هو الركن الرابع (من أركان الإسلام المعلومة من دين اللَّه بالضرورة، وقد شهد لذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلَّا اللَّه وأنَّ محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" (¬6) ¬

_ (¬1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 27، عن دار الرسالة للطباعة - بغداد، 1979 م. (¬2) عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيَّد: أصول المنهج الإسلامي: ص 62، 63، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1984 م، مطابع الفرزدق - الرياض. (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 22، كتاب الإيمان، باب [27] حديث رقم [38]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 22، كتاب الإيمان، باب [26] حديث رقم [37]، المرجع السابق نفسه. (¬5) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 672، كتاب الصوم، باب [6] رقم الحديث [1802]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (المرجع السابق نفسه). (¬6) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 12، كتاب الإيمان، باب [2] الحديث رقم [8]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وأخرج مسلم نحوه بألفاظ متقاربة، =

إلى غير ذلك من الأحاديث) (¬1). إلى جانب صيام هذه الفريضة ندب الإسلام إلى الصيام الذي قد يبلغ صيام يوم وترك يوم، عدا أيَّام العيد والتشريق، والشاهد من ذلك أنَّ الإسلام حثَّ على الصيام لما ينطوي عليه من حكم وأسرار (نعرف منها ما نعرف، ونجهل ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف) (¬2)، وقبل الكلام في آثاره على الفرد والأُمَّة ينبغي ذكر مراتب الصوم في الإسلام، وقد جعلها بعض الباحثين على ثلاث مراتب هي: المرتبة الأولى: الإمساك عن الطعام والشراب والشهوات. المرتبة الثانية: صوم الجوارح عن ارتكاب الآثام والإجرام؛ فصوم اليد: إمساكها عن الأذى، والاعتداء بها على حقوق الآخرين، وصوم الرجل: إمساكها عن المشي إلى الفساد، والذهاب بها إلى عمل الشر، وصوم اللسان: إمساكه عن كل قول يؤذي قلوب الآخرين، وصوم الأذن: إمساكها عن كل ما هو شر للفرد والمجتمع. المرتبة الثالثة: صوم القلوب وتطهيرها عن كل ما لا يناسب الإيمان، ولا يلائم الإخلاص، تطهير النفس عن التفكير في إلحاق الأذى بالآخرين، والامتناع عن تصميم أعمال الشرور والجرائم، وتطهير النفس ¬

_ = كتاب الإيمان الباب [5]، وعنوانه: (باب بيان أركان الإسلام، ودعائمه العظام): 1/ 45، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬1) شمس الدين الزركشي: شرح الزركشي: 2/ 549، (مرجع سابق)، وقد أورد الحديث بلفظ: (وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا) وبترتيب الصلاة ثُمَّ الزكاة ثمَّ الصوم ثُمَّ الحج، ولم أجد الزيادة "من استطاع إليه سبيلًا" عند البخاري ومسلم. (¬2) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 272، (مرجع سابق).

من الحقد والحسد، والأنانيَّة، والكبر، واللؤم، وروح العداء، والتفرقة، وسوء المعاشرة مع الآخرين) (¬1). أمَّا آثار الصيام على الفرد والمجتمع فإنَّها بقدر ما تكتسب من هذه القيم والفضائل التي شملت القلب والعقل واللسان واليد والقدم -فيما ذكر أعلاه- بقدر ما ينعكس أثر ذلك على حياة الفرد فيعيش في أمن وسعادة وطمأنينة، وعلى الأُمَّة، فتحقق عبوديتها للَّه -عزَّ وجَلَّ- وتلتزم صراطه المستقيم الذي يوصلها بالتقوى والسيادة والعلو، وتحقيق الخيريَّة المنوطة بها، وإلى ذلك فإنَّ من آثار الصوم في حياة الفرد والمجتمع الآتي: أ- تَرْبِيةُ الفَرْد تربية قوية تتجلى فيها العبوديَّة للَّه في نواح عدَّة، منها: (تعويده على الصبر، وهو قمة الأخلاق وروح الفضائل الإنسانية، وعلى أن يراقب الإنسان نفسه بنفسه، وأن يحاسب نفسه بنفسه قبل أن يحاسبه غيره، وفي الصوم تعويد على أن يكون ظاهر الإنسان موافقًا لباطنه، وسره مطابقًا لعلنه؛ لأن الصيام عبادة بين العبد وبين اللَّه، يمتنع الصائم سرًّا عن كل ما هو محرم عليه، كما يمتنع علنًا، ومن هذه الناحية لا تشبه عبادة أخرى في مطابقة الظاهر للباطن وموافقه السر للعلن، وفي الصوم تعود المؤمن على أن لا يعرف الذلة والاستكانة، ولا الخضوع المطلق إلَّا للَّه. وهنا نقطة جوهريَّة يجب أن ينتبه إليها المسؤولون في كل بلاد العالم؛ وهي: أنّ الوازع الديني يفعل في النفوس ما لا يفعله وازع القوة والسلطان، فإذا تعود الإنسان عن طريق الدين على أن يستمع إلى صوت ضميره، وأن يراقب نفسه بنفسه، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، ¬

_ (¬1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 28، (مرجع سابق)، وانظر: الغزالي إحياء علوم الدين (إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمحمد بن محمد الزبيدي) 4/ 405، (مرجع سابق).

فقد أمن المجتمع من بوائقه، واستراح الناس من شروره، أمَّا إذا كان الاعتماد على القوة والخوف والسجن والفصل والطرد والنفي، فإنّ الإنسان تزداد رُدودُ فعله، ويزداد غليان حقده على كل شيء، حتى على نفسه، وبذلك يتبع ألف حيلة وحيلة للتخلص من سلطان القانون، وتنفيذ ما تسول له نفسه سرًّا) (¬1). ب- وللصيام آثارٌ تعود بالخير والنفع على المجتمع، من أهمها: (المساواة بين الأغنياء والفقراء، فالمسلمون حين يفطرون في وقتٍ واحد، لا يتقدم أحدٌ على الآخر، يمتنعون جميعًا عن المأكل والمشرب في وقت واحد، فما ذاك إلَّا مظهر اجتماعي عظيم من مظاهر الوحدة والمساواة، ومظهر المساواة ميزة وخاصيَّة امتازت بها الأُمَّة الإسلاميَّة، وتفردت به على جميع الأمم، فليس هناك دستور ولا قانون أمر بالمساواة، ودعا إليها، وطبقها الأفراد مثل ما فعل الدين الإسلامي الحنيف، وهذا يتجلى في كثير من العبادات التي أحدها الصيام) (¬2). ومن آثار الصيام على المجتمع أنَّه يشعر الأُمَّة بوحدتها حيث فرض على جميع المسلمين صيام (شهر واحد بعينه ليصوموا جميعًا لا متفرقين، وفي ذلك أيضًا الكثير من المنافع حيثُ يكون فيهم الشعور العام بأنَّهم جميعًا جماعة واحدة، تلك وسيلة ناجحة لتنشأ فيهم عاطفة التحاب والإخاء والمساواة والتعاون والوحدة) (¬3). ¬

_ (¬1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 28، 29، (مرجع سابق). (¬2) محمد سالم محيسن: أركان الإسلام في ضوء الكتاب والسنة وأثرها في تربية المسلم: ص 222، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م عن دار الكتاب العربي - بيروت. وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 277، 278، (مرجع سابق). (¬3) محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 123، مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب، (مرجع سابق).

ج- وللصيام آثارٌ صحيَّة ونفسية واقتصادية تعود فائدتها على الفرد وعلى المجتمع، وتحدثت عنها بعض الدراسات المتخصصة، وأثبتت أن الصيام علاوة على كونه شرع (تزكية لنفس الإنسان، وتهذيبًا لسلوكه) (¬1)، فإنَّه كذلك شرع (وقاية وعلاجًا ممَّا قد يصيبه من علل وآفات، في نفسه وجسده من جراء كثرة الأكل ودوامه) (¬2)، ولذلك قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رُويَ عنه: "صوموا تصحُّوا" (¬3)، وقال أيضًا: "الصوم جُنَّة" (¬4). يقول أحد الباحثين عن أثر الصوم في الناحية الاقتصادية: (ليعلم الجميع أن الصيام مدرسة عملية للاقتصاد، وتعويد النفس الصبر، والجلد وقوة التحمل عند الأزمات والملمات، وضبط النوازع والرغبات، وكل هذا لا يريده أعداء المسلمين، فنناشد الجميع أن يفطنوا لذلك، ويحرصوا على جني ثمار صومهم بتزكية أنفسهم، وصحة أبدانهم، وتوفير وجبة طعام واحدة يقدمها المستغني عنها لإخوانه، الذين يعانون من وطأة الفقر، والتنصير في بعض بلاد المسلمين) (¬5). ¬

_ (¬1) عبد الجواد الصاوي: الصيام معجزة علميَّة (دراسة عن الحقائق العلميَّة في الصيام): ص 208، الطبعة الأولى 1413 هـ / 1993 م عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة - رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة، منشورات: دار القبلة للثقافة الإسلاميَّة. جدة. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 208. (¬3) ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 420، رقم الحديث [253]، مشكلة الفقر [35]، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1993 م، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، وأخرجه أبو نعيم في الطب [ق 24/ 1 و 2] عن أبي هريرة، وله شاهد عند الطبراني في الأوسط: "اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا" [2/ 225/ 1/ 8477]. (¬4) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 670، كتاب (الصوم) باب [2] الحديث رقم [1795]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، ومعنى (جنة): وقاية وسترة. وأخرجه مسلم: كتاب الصيام (باب فضل الصيام)، (مرجع سابق). (¬5) عبد الجواد الصاوي: الصيام معجزة علميَّة: ص 208 - 210، (المرجع السابق نفسه، =

رابعا: الحج

ومِمَّا يزيد الناحية الاقتصادية وضوحًا في عبادة الصيام النظر إليها من وجوهٍ عدّة منها: اقتران الصيام بالحث على الصدقة وزيادة النفقة والترغيب في إفطار الصائم، ففي الحديث الشريف: (كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان. . . كان أجود من الريح المرسلة) (¬1)، وورد أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من فطَّرَ صائمًا كان له مثل أجره غيرَ أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا" (¬2)، ولا يخفى أثر هذه الأعمال في الاقتصاد بصفة أو أُخرى. رابعًا: الحج: والحُجُّ في اللغة: القصد (¬3). ¬

_ = وقد تناول في دراسته عن الحقائق العلمية في الصيام- أبحاث تجريبيَّة ودراسات على الصيام في الصحة والمرض شملت معظم وظائف الأعضاء في جسم الذكر والأنثى، وأظهرت منافع الصوم بما يُعَدُّ -حقيقة- معجزةٌ علميَّة تؤكد قول الحق تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. ومما ينبغي الإشارة إليه أن المؤلف ربط تلك المعطيات بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وشروح العلماء وأقوال المفسرين؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 141 - 206، ص 29 - 51. (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 672، 673، كتاب (الصوم) باب [7] الحديث رقم [1803]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 3/ 171، كتاب الصوم، باب [82] الحديث رقم [807]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الصوم، باب [45] حديث رقم [1746] بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬3) انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، مادة (حجَّ)، (مرجع سابق). وانظر: أبو البقاء الكفوي: الكليات. . . مادة (حَجَّ)، (مرجع سابق). وانظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة: مادة (حجَّ)، (مرجع سابق).

وفي الشرع: (اسم لأفعال مخصوصة) (¬1)، وعُرِّفَ -كذلك- بأنَّه: (قصد بيت اللَّه تعالى إقامةً للنسك) (¬2)، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، والركن الخامس منها. (والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وأمَّا السنة؛ فقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس" (¬3) وذكر فيها الحج. . . وأجمعت الأُمَّة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرةً واحدة) (¬4). ويشتمل الحج على (مجموعة عظيمة من الأعمال البدنية، والروحية التي إذا أديت على وجهها الصحيح انتهت بالمسلم إلى الدخول في جنّة عرضها السموات والأرض أعدَّها اللَّه لعباده المتقين) (¬5). كما تتمثل في الحج وشعائره جملة العبادات التي سبق بيان أنواعها؛ من عبادات اعتقادية وقلبيَّة ولفظية وبدنية وماليَّة فهو (تربية للجسم والروح معًا، وترويض لهما على طاعة اللَّه تعالى، وفي الحج إظهار العبودية. . . لأن الحاج حال إحرامه يظهر الشعث، ويتخلى عن أسباب التزين، والتمتع، وفي حال وقوفه بعرفة يبدو كعبد عصى مولاه فوقف بين يديه ¬

_ (¬1) ابن قدامة: المغني 5/ 5، تحقيق: التركي والحلو. . .، (مرجع سابق). (¬2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (حجَّ)، (المرجع السابق نفسه). (¬3) سبق تخريجه: ص 883، (البحث نفسه). (¬4) ابن قدامة: المغني: 5/ 5، 6، (المرجع السابق نفسه). (¬5) محمد سالم محيسن: أركان الإسلام. . . ص 225، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 370 - 378، (مرجع سابق). وانظر: رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام. . . ص 196، 197، (مرجع سابق).

متضرعًا حامدًا له مثنيًا عليه مستغرقًا مستقبلًا لعثراته، ولذا روي عن أم المؤمنين (عائشة) -رضي اللَّه عنها-، أنَّها قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من يوم أكثر من أن يعتق اللَّه فيه عبدًا من النَّار من يوم عرفة" (¬1)، وبالطواف حول البيت يكون الحاج بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بحماه، وفي هذا ترويض للنفس، وتعويد لها على أنه ينبغي للإنسان ألا يلجأ إلَّا للَّه تعالى لا لأحد سواه مهما كان) (¬2). وللحج منافع وآثار تخص الفرد وتعم الأُمَّة، ومن أبرزها الآتي: أ- منافع وآثار ينتفع بها الفرد وتؤثر في حياته بعمق وإيجابيَّة فالحج بمثابة (شحنة روحيَّة كبيرة يتزود بها المسلم، فتملأ جوانحه خشية وتقى اللَّه، وعزمًا على طاعته، وندمًا على معصيته، وتغذي فيه عاطفة الحب للَّه ولرسول اللَّه، ولمن عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتوقظ فيه مشاعر الأُخوَّة لأبناء دينه في كل مكان، وتوقد في صدره شعلة الحماسة لدينه والغيرة على حرماته) (¬3). ويؤثر الحج على أخلاق الفرد وسلوكه بعد أداء هذه الفريضة فينتقل من (حالة إلى حالة (ويظهر) بنعمة الأخلاق الفاضلة، الطاهرة الخالصة، من كل الشوائب؛ لأنّ الحاج إذا قصد الحج يتوب إلى اللَّه ويعزم على ألا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 2/ 983، كتاب الحج، باب [79] الحديث رقم [1348]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) محمد سالم محيسن: أركان الإسلام ص 226، (مرجع سابق). (¬3) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 287، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 370، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 125، مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب (المرجع السابق نفسه)، ولم يشر لمرجعه فيما نقل عن القرضاوي قد تكرر منه ذلك في مواضع كثيرة من مقاله المشار إليه دون أن يعزو ما أخذه من القرضاوي إليه.

يعود إلى ارتكاب الذنوب، وفي هذا تكفير له عن ذنوبه إذا صدقت نيته في التوبة) (¬1)، روى أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من حجَّ للَّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمُّه" (¬2). إضافة لما تترك رحلة الحج في أعماق المسلم من ذكريات لمناسكه وشعائره ودلالاته ومقاصده، وهي كما عبَّرَ عنها بعض الباحثين: (رحلة السلام إلى أرض السلام في زمن السلام) (¬3)، ويضيف إلى ذلك قوله: (إنَّ الأرض المقدسة وما لها من ذكريات، وشعائر الحج وما لها من أثر في النفس. . . كل هذا يترك أثره واضحًا في أعماق المسلم، فيعود من رحلته أصفى قلبًا، وأطهر مسلكًا، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودًا أمام مغريات الشر، وكلما كان حجه مبرورا خالصًا للَّه كان أثره في حياته المستقبلية يقينًا لا ريب فيه) (¬4). ولعل مجيء فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام يعني -فيما يعنيه- بلوغ المسلم به قمَّة الاستقامة والتهذيب، وتمام العبوديَّة والتدريب كي يواجه المسلم متطلبات الدنيا والآخرة بهمَّة وعزم وإبداع مستكملًا مقومات ذلك من خلال برنامج محكم: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. ب- أمَّا منافع الحج وآثاره على الأُمَّة فمنها: ذلك المظهر المعجز ¬

_ (¬1) محمد سالم محيسن: أركان الإسلام. . . ص 228، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 553، كتاب الحج، باب [4] الحديث رقم [1449]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا (مرجع سابق). (¬3) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 292، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 124، (المرجع السابق نفسه). (¬4) يوسف القرضاوي: المرجع السابق نفسه: ص 287، وانظر: محمد أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 124 (المرجع السابق نفسه).

لوحدة الأمَّة وعظمتها وقيمها ومثلها العليا، ويتجلَّى ذلك (عندما يقف الحجاج على صعيد واحد لابسين نوعًا واحدًا من الملابس متوجهين إلى مكان واحد، خاضعين لنظام واحد، خاشعين لرب واحد، طالبين هدفًا واحدًا، ففي هذه الحالة يشعرون بأن كلهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى وتحقيق مصالح البشرية) (¬1). ويأتي الحج من حيث اجتماع الأمَّة فيه ممثلًا لاجتماعها الأكبر في كل عام حيث (يتدرج الاجتماع بين المسلمين من اجتماع الحيِّ (الواحد) لأداء الصلوات الخمس، إلى اجتماع البلدة في الجمعة وعيد الفطر، ثُمَّ يكون الاجتماع الأكبر في عرفة حيث يجتمع الحجيج من شتّى بقاع الأرض مُلبِّين نداء أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام) (¬2). وهذا الاجتماع يحقق للأُمَّة منافع شاملة، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، (فجمع بين الدين والدنيا في ركن عظيم من أركان الإسلام، وهو فرصة لاجتماع المسلمين وولاة الأمر من الحكام في مؤتمر موسع يتشاورون فيه، ويتبادلون الرأي حول قضاياهم العامَّة والخاصَّة) (¬3)، ومهما كان ضعف الأُمَّة الإسلاميَّة وجور الأمم الأُخرى عليها فإنَّ الحجَّ يبرهن على قوة الأُمَّة في مواجهة كل ¬

_ (¬1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 31، (مرجع سابق). وانظر: محمد عوض الهزايمة: التيسير في فقه العبادات: ص 137، 138، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار عمان - الأردن، وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 373، 374، (مرجع سابق). (¬2) عبد الرحمن بن عبد الكريم العُبيِّد: أصول المنهج الإسلامي: ص 65، (مرجع سابق). (¬3) عبد الرحمن بن عبد الكريم العُبيِّد: المرجع السابق نفسه: ص 65.

التحديات بما يعنيه من خضوع وذلَّة للَّه، وأنَّ الأُمَّة منساقة إلى العبوديَّة للَّه بدواعي الفطرة ومقتضيات السنن الإلهية في النفوس البشريَّة (¬1). ويأتي تبعًا لهذه العبودية التي هي المقصد الأول للحج ما تظهر به الأُمَّة في خلال الحج وشعائره من كونها (قوة سياسيَّة ضخمة) (¬2)، ويتمثل ذلك كما عبَّرَ عن الحج أحد الباحثين قائلًا: (بوصفه مؤتمرًا سياسيًّا دوريًّا يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلاميَّة، ورجال الرأي وعلماؤها في كافة أنواع المعرفة، كتابها، وملوك الصناعة فيها، وتجارها وشبابها وشيوخها، ليضعوا خطوطًا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معًا عامًا بعد عام) (¬3). فهو: (مؤتمر عالمي في عالم الإسلام لتوحيد أهداف المسلمين، وتوجيههم إلى مصادر الحياة الصحيحة بما يقتبسه بعضهم من بعض الثقافات، ويمد قسم منهم قسمًا آخر بالفكر الثاقب، لبلوغ السيادة في كل مجالات الحياة كي لا يركن كلٌّ نحو السراب، ولا يخضع لنزوات وشهوات نفر تنقصهم تجربة الحياة، ويفوتهم الحرص على مستقبل الأُمَّة) (¬4). وممَّا ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق أنَّ بعض التفسيرات للحج تأتي من خارج واقع العبادة، فتحمل معها بعض المحظورات، كالتعبير عن الحج بأنَّه برلمان إسلامي، أو مؤتمر، كالمؤتمرات المعهودة في التصورات السياسيَّة الحديثة، أو انتهاز فرصة لرفع شعارات ذات بريق خادع أو مذاهب ضالَّة أو عقائد منحرفة تمزق وحدة الأُمَّة، وتؤثر على ¬

_ (¬1) انظر: مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 30، 31، (مرجع سابق). (¬2) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 30، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 30. وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 292 - 295، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 376 - 378، (مرجع سابق). (¬4) مصطفى إبراهيم الزلمي: المرجع السابق نفسه: ص 30.

سلامة عباداتها وشعائرها، وتحدث من البلبلة والتشويش ما يتعارض مع غايات الحج ومقاصده التي أمر اللَّه بتعظيمها، وجعل ذلك من تقوى القلوب {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. أن الحج -شأنه شأن العبادات الإسلاميَّة- محدد الغاية محدد الوسيلة، ولا يصح بحال: أن تدخل في العبادات الإسلاميَّة أي بدعة؛ لأنَّ ذلك يخرج بها من منهجها الربَّاني التوقيفي، أمَّا ما يظهر من مقاصد سياسيَّة لهذه العبادة العظيمة فإنَّ ذلك يأتي ضمنًا لما تميَّزت به العبادات الإسلاميَّة من شمول لأمور الدنيا والآخرة، بيد أنّ الحج بخاصَّة ينبغي أن يتم تطبيقه وفقًا لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. جاء في تفسيرها لدى بعض المفسرين: (والجدال. . . هو: المماراة والمنازعة، والمخاصمة، لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج: الذل والانكسار للَّه، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنَّه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنَّه يتغلظ المنع عنها في الحج) (¬1). ج- والحج منافع يفيد منها الأفراد وتفيد منها المجتمعات الإسلاميَّة قاطبة، ويتمثل ذلك في تبادل (المنافع الماديَّة بين المسلمين جميعًا على مختلف أجناسهم وألوانهم، فالمنافع الماديَّة ليست كل مقاصد الحج بل بعض مقاصده، وهي لا تخص أهل الحجاز بل تعم جميع المسلمين. . . . روى ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 1/ 244، (مرجع سابق).

البخاري عن ابن عباس قال: "كانت عكاظ ومجنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فتأثموا أن يتَّجرُوا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، في مواسم الحج" (¬1)، وممَّا قبل في معنى قوله تعالى: {مِنْ رَبِّكُمْ} يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من اللَّه تعالى نوع من أنواع العبادة) (¬2). وتحسن الإشارة في ختام هذا إلى أن العبادة في الإسلام توقيفيَّة -كما سبق بيان ذلك-، وحق التشريع فيها مقصور على اللَّه وحده؛ (لأنَّه المتعبَّدُ، الذي خلق العباد لعبادته، وهو أعلم بما يتعبدهم به، وأخبر بما يصلح لهم من عبادات، وما يرضيه من أعمال. . . {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع العبادات، لخبطوا فيها خبط عشواء، وهذا مظهر من مظاهر نعمة اللَّه في إكمال دينه، وإتمام نعمته، وحكمة إرسال رسله، وإنزال كتبه. . . وهذه الخصيصة التوقيفيَّة، متفق عليها بين العلماء جميعًا. . . وذلك عائد إلى توافر الأدلة عليها، وتضافرها على الأمر بالاتباع وذم الابتداع، من ذلك قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (¬4). . . . وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 4/ 1643، كتاب التفسير، باب [36]، الحديث رقم [4247]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق). (¬2) محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 375، (مرجع سابق)، وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 288، 289، (مرجع سابق). (¬3) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 959، كتاب الصلح، باب [5]، الحديث رقم [2550]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث: [1718]، (مرجع سابق). (¬4) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 3/ 1344، كتاب الأقضية، باب [8]، الحديث رقم [1718]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، وقوله -أيضًا- في شأن الحج: "لتأخذوا مناسككم" (¬2). ومن هنا قال الإمام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: (وجماع الدين أصلان: أحدهما: ألا يعبد إلَّا اللَّه. والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من البدع) (¬3). فتبين من ذلك أنَّ منهج العبادة في الإسلام محدد في منطلقه وغايته ووسيلته وأسلوبه، وأنَّ من أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة تحقيق العبوديَّة للَّه خالصة من شوائب الشرك والرياء والنفاق. يقول أحد المفكرين: (من مزايا العبادة في الإسلام أنَّها خالصة للَّه وحده، وقد أكَّدَ القرآن على حصر العبادة في اللَّه وحده فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، فكل أنواع العبادة من ذكر ودعاءٍ وصلاة وذَبيحة، إنَّما تكون للَّه، ولا تجوز لغيره، فلا يصلي إلَّا له، ولا يدعو إلَّا اللَّه، ولا يذبح إلَّا باسم اللَّه، وكل ما فيه معنى العبادة والتقديس المطلق فلا يكون إلَّا للَّه) (¬4). ويستمر في بيان الألفاظ التي خصها اللَّه بذاته ولم يجعلها لغيره، وما استعمله في حق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن يقول: (ومن أجل المحافظة على هذا الأساس منع الإسلام كل ما يؤدي إلى عبادة البشر، أو يفسح المجال ¬

_ (¬1) سبق تخريجه: ص 868، (البحث نفسه). (¬2) سبق تخريجه: ص 196، (البحث نفسه). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10/ 172، 173 (مرجع سابق). (¬4) محمد المبارك: نظام الإسلام (العقيدة والعبادة): ص 183، (مرجع سابق).

لالتباس عبادة اللَّه بعبادة البشر؛ كتحريم الركوع والسجود لغير اللَّه، وتحريم الذبيحة التي ذكر عليها اسم غير اللَّه، أو جعلت لغير اللَّه، وتحريم الذبيحة التي ذكر عليها اسم غير اللَّه، أو جعلت لغير اللَّه، وكتحريم إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وتحريم تشييد القبور ورفعها، وكتحريم التماثيل والصور للأنبياء والصالحين والعظماء، وتحريم الحلف بغير اللَّه، والنذر لغير اللَّه) (¬1). كما أن العبادة في الإسلام تتسم باليسر والسهولة، والموازنة بين مطالب الروح والجسد، والدنيا والآخرة، وحررها الإسلام (من قيود الوساطة والمكان وكل مظاهر العبوديَّة (للكهنوت)، فالأرض كلها محراب كبير للمسلم، فحيثما توجه يستطيع أن يتجه بعبادته إلى اللَّه، وقد كانت هذه الخصيصة للعبادة الإسلاميَّة موضع الإعجاب العظيم، والتأثير البالغ من كثيرين من غير المسلمين، حتى من رجال الأديان (الأخرى) أنفسهم، وقد حرر الإسلام العبادة من القيود المكانية المتزمتة، ولم يشترط المكان الخالص في عبادة من عباداته إلَّا في الحج؛ لما فيه من فوائد تفوق فائدة التحرر من المكان، من التجمع العالمي للمسلمين حول أول بيت وضع للناس، وفي أرض الذكريات الإبراهيمية، والذكريات المحمديَّة، ومع اشتراط المكان لعبادة الحج، فليس فيه أي شائبة لتأثير (الكهنوت)، وليس فيه أيُّ ثغرة لتدخل الوسطاء والكهان بين المسلمين وبين اللَّه، شأنه في ذلك شأنه في سائر عبادات الإسلام) (¬2). ¬

_ (¬1) نظام الإسلام (العقيدة والعبادة): ص 184، (المرجع السابق نفسه). (¬2) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 151، (مرجع سابق). وانظر: عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 98 - 102، طبعة 1989 م، عن نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، وانظر: القرطبي: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، وإظهار محاسن دين الإسلام، وإثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام: ص =

وسلمت العبادات في الإسلام -لما فيها من الموازنة بين مطالب الدنيا والآخرة، والروح والجسد- مِمَّا آلت إليه العبادات لدى الأمم الأخرى من الغلو في أمور الدنيا لدى اليهود، وبلغ الأمر بالنصارى أن فرضوا على أنفسهم الرهبانيَّة، وتركوا أمور الدنيا، وبالغوا في ذلك إلى أن أفسدوا دينهم. . .؛ فأمَّا اليهود فقد جنحوا إلى الماديَّة، (ولا نكاد نجد (في اليهودية) للروحانية أثرًا، ولا نكاد نرى للآخرة مكانًا، حتى الوعد والوعيد في التوراة للمطيعين والعصاة، إنَّما يتعلقان بأمور دنيويَّة، وتكاد تستأثر بها النزعة الماديَّة الخالصة، فالخِصب والصحة والثراء وطور العمر، والنصر على الأعداء ونحوها من المكاسب الدنيويَّة الحسيَّة العاجلة، هي المثوبات التي تبشر بها التوراة، وأضداد هذه الأمور من الجدب والمرض والموت والوباء والفقر والهزيمة ونحوها للذين يعرضون عن الشريعة) (¬1). وأمَّا الرهبانيَّة فعلى الرغم من كونها بدأت بصفتها ردَّا على تلك النزعة الماديَّة التي اتسمت بها اليهوديَّة بعد تحريفها، وانتهجتها الرومانيَّة في حكمها وتشريعها وحضارتها، فإنَّها (تطورت فيما بعد مع الزمن، وأصبحت خاضعة إلى أنظمة متبعة وأسس معتمدة يخضع لها الراغب فيها، ¬

_ = 115 - 126، 396 - 437، تحقيق: أحمد حجازي السَّقَّا، عن دار التراث العربي، القاهرة، 1980 م، وانظر: عبد العال سالم مكرم: أثر العقيدة في بناء الفرد والمجتمع: ص 59 - 67، (مرجع سابق). (¬1) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 175، (مرجع سابق). وانظر: المرجع نفسه: ص 176 - 200، وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 156 - 195، (مرجع سابق). تحدث في الفصل الأول من الباب الرابع عن (أوروبا الماديَّة، وكيف نشأت الرهبانية ردًا عليها ثُمَّ كيف أخفقت في مواجهة تلك الماديَّة وما ترتب على الرهبانيَّة من مفاسد في جميع مجالات الحضارة الغربية).

وأصبح الرهبان يعيشون في شبه قلاع وحصون عيشًا جماعيًّا فقد الكثير من المعاني والأهداف التي وجدت الرهبانيَّة من أجلها) (¬1). يقول أبو الحسن العامري: (إنَّ أحق الأديان بطول البقاء، ما وجدت أحواله متوسطة بين الشدَّة واللين، ليجد كلٌّ من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح به حاله في معاده ومعاشه، ويستجمع له منه خير دنياه وآخرته، وكلُّ دينٍ لم يوجد على هذه الصِّفَة، بل أسس على مثال يعود بهلاك الحرث والنسل، فمن المحال أن يسمَّى هيِّنًا فاضلًا، وذلك مثل ما تمسك به رهابين النصارى من هجران المناكح، والانفراد في الصوامع، وترك طيبات الرزق) (¬2). أمَّا شيخ الإسلام ابن تيميَّة فإنَّه تحدث عن توسط المسلمين بين تقصير اليهود، وغلو النصارى في مجال العقيدة والعبادة وسائر الشعائر الدينيَّة، وربط ذلك بانحرافهم عن التميُّز الذي هو صراط اللَّه المستقيم، وهو الدين الذي شرعه اللَّه، والذي من أبرز أهدافه تحقيق العبوديَّة للَّه؛ قال -رحمه اللَّه-: ¬

_ (¬1) حسن خالد: موقف الإسلام من الوثنيَّة واليهوديَّة والنصرانية: ص 613، (مرجع سابق)، ولنبذة تاريخية عن الرهبانيَّة ومفهومها وتطبيقاتها المختلفة عند النصارى؛ انظر: المرجع نفسه: ص 612 - 614، وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم. . . ص 167، 168، 169، 170، 171، 172، 178، (مرجع سابق). (¬2) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 137، (مرجع سابق). وقد عقد فصلًا بعنوان (القول في فضيلة الإسلام بحسب الأركان العبادية)، قارن بين العبادة في الإسلام والعبادة عند اليهود والنصارى، والمانوية، ونسَّاك الهند، وبين مزايا العبادة في الإسلام ومناقبها وعظمة شعائرها، وما اتسمت به من اليسر والوضوح والتوازن، وأنها عبادات تشمل النفس والبدن والمال، وقال في نهاية الفصل المذكور: (وإذ قد أتينا على المقابلة بين الإسلام وسائر الأديان في الأركان الاعتقادية، والأركان العباديَّة، وأوضحنا السبل في كيفية المقابلة بينه وبينها، ثُمَّ كان الطريق فيها رأي في دين الإسلام) أسهل، والمأخذ في أبوابها أقرب).

(أمَّا تعظيم المسيح وأمه فهو حق، وكذلك مدح من كان على دينه الذي لم يبدل قبل أن يبعث -صلى اللَّه عليه وسلم- أو بقي على ذلك إلى أن بعث محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فآمن به، فإنَّ هؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون، كذلك من كان على دين موسى الذي لم يبدل إلى أن بعث المسيح فآمن به، فهؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون، وقد قدمنا أن المسلمين هم عدل متوسطون لا ينحرفون إلى غلو، ولا إلى تقصير، وأمَّا اليهود والنصارى: فهم على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة، وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها -كما ذكرنا تقابلهم في النسخ-، وكذلك تقابلهم في التحريم والتحليل، والطهارة والنجاسة، فإنَّ اليهود حرمت عليهم الطيبات، وهم يبالغون في اجتناب النجاسات، وأمَّا النصارى: في مقابلتهم تجد عامتهم لا يرون شيئًا حرامًا، ولا نجسًا إلَّا ما كرهه الإنسان بطبعه، ويصلون مع الجنابة والحدث، وحمل النجاسات، ويأكلون الخبائث، والمسلمون وسط، أي: عدلًا خيارًا) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الجواب الصحيح 2/ 135 - 136، (مرجع سابق)، وانظر: المرجع نفسه 2/ 135 - 154.

موقف المستشرقين من قضية العبودية لله

موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه إذا كانت العبوديَّة من أهم أهداف التميُّز، وهي الغاية من خلق الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وإذا كانت العبادة متميزة في المنهج الإسلامي، وتختلف في ظاهرها وجوهرها عن الرهبانية المبتدعة لدى النصارى، ولها نظام ينأى بها عن الابتداع ويحقق تميز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ فإنَّ المستشرقين درجوا على الطعن بتميُّز الأُمَّة في مجال العبادة، واتهامه بأنَّه مجموعة من الطقوس والشكليات المستمدة -في زعمهم- مِمَّا في اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل والنحل، ويستغلون ما وقعت فيه بعض الفرق والجماعات -التي انحرفت عن سنة الإسلام- من بدع في العبادة، فيعممون ذلك على الإسلام. ويعالج هذا في نقطتين بارزتين: الأولى: ذكر نماذج من أقوال المستشرقين وآرائهم حول العبادة في الإسلام وصلتها باليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل والنحل. الثانية: الرد على تلك الأقوال والآراء. فمن أقوال المستشرقين وآرائهم: 1 - زعم (كارل بروكلمان) أن شعائر الإسلام مقتبسة مِمَّا لدى اليهود، وأنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حينما هاجر إلى المدينة كيَّف شعائر العبادة في الإسلام على نحو مِمَّا لدى اليهود ليكسب ودَّهم، وعن ذلك يقول: (وهكذا حاول أن يكسبهم من طريق تكييف شعائر الإسلام بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي) (¬1). ¬

_ (¬1) كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 46، (مرجع سابق).

ويبدأ في تفصيل تلك الشعائر قائلًا: (فشرع صوم العاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم على غرار الصوم اليهودي) (¬1)، ويشاركه في هذا الزعم (مونتغمري وات) إذ يقول: (ويحوم شكٌّ حول صيام عاشوراء الذي يقع في يوم عيد الكفَّارة اليهودي، وحينما حل العاشر من تشرين اليهودي أمر محمد المسلمين بصيام هذا اليوم، وإنْ كُنَّا لا نعرف على التأكيد في أيِّ شهر هجري يقع هذا الصيام) (¬2). ويزعم (كارل بروكلمان) -أيضًا- أن صلاة الظهر شرعت في المدينة تقليدًا لليهود فيقول: (وبينما كان المؤمنون في مكة لا يصلون إلَّا مرتين في اليوم، أدخل في المدينة على غرار اليهود صلاة ثالثة عند الظهر) (¬3). ويرى -أيضًا- أن صلاة الجمعة جاءت تقليدًا للسبت عند اليهود فيقول عنها: (كذلك جعل يوم الجمعة يوم صلاة عامَّة على غرار السبت اليهودي) (¬4). وتحدث في موضع آخر عن الصلاة بشكل تفصيلي فقال: (بينما كان محمد وأصحابه يصلون مرتين في اليوم في مكة وثلاث مرات في المدينة كاليهود، جعلت الطقوس المتأخرة، المتأثرة بالفرس، عدد الصلوات المفروضة في اليوم الواحد خمسًا) (¬5) 2 - ويرى (ترتون) بأنَّ (الصوم أول ما شُرع كان تقليدًا لما عند اليهود، ثُمَّ بدّل وغير وصار أشبه بصوم النصارى مع شيء من التغاير) (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع نفسه: ص 47. (¬2) نقلًا عن مصطفى عمر حلبي: الخلفية الثقافية لاتجاهات المستشرقين، مجلة المنهل؛ العدد المتخصص لعام 1409 هـ: ص 39، (مرجع سابق). (¬3) انظر: كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 47، (المرجع السابق نفسه). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 47. (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 74. (¬6) نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 25 (مرجع سابق).

ويرى -أيضًا- (أن فكرة صلاة الجمعة اقتبسها الرسول من الزرادشتية) (¬1). 3 - وذهب (جيب) في كتابه: المذهب المحمدي، وذهب -أيضًا- (تسدال) في كتابه: مصادر الإسلام إلى القول بأن (شرائع الإسلام تأسست من شرائع الأديان المعاصرة له والمنتشرة وقتئذٍ في الشرق ألا وهي اليهودية والمسيحية والهنديَّة والصابئة والفارسية والجاهلية) (¬2). 4 - ومنهم من زعم (بأنَّ الإسلام أخذ من الجاهليَّة صلاة الجمعة وصوم عاشوراء والتكبير، والأشهر الحرام، والحج والعمرة، والوضوء، والاغتسال، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، والختان. . . وأنَّه أخذ من الصابئة الصلوات الخمس، والصلاة على الميت، وصيام شهر رمضان، والقبلة، وتعظيم مكة، وتحريم الميتة، ولحم الخنزير) (¬3). 5 - ويقول (كلود كاهين): (أمَّا الحج إلى مكة فقد أسبغ طابعًا إسلاميًّا على الحج الوثني القديم) (¬4). 6 - ويجمل (جولدزيهر) هذه المفتريات في قوله: (تبشير النبي العربي ليس إلَّا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينيَّة عرفها واستقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهوديَّة والمسيحية وغيرها، والتي تأثر بها تاثرًا عميقًا) (¬5). 7 - وانتهج (ماسنيون) منهجًا آخر يُمكن الباحث أن يستنتج منه نتائج كثيرة، من أبرزها: محاولة تأكيد الجانب الصوفي في العبادات الإسلاميَّة ¬

_ (¬1) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 25. (¬2) نقلًا عن: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 65، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 66، (مرجع سابق). (¬4) نقلًا عن: زيد بن أحمد زيد العبلان: الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلاميَّة: ص 433، (مرجع سابق). (¬5) نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: 25، 26، (مرجع سابق).

بما يبدو وكأنَّه تأثرٌ مباشر بالرهبانية التي ابتدعها النصارى؛ ذلك أنَّه جعل نفسه وقفًا على شخصية (الحلَّاج) فتمثلها في سلوكه وكتب عنها، ولم يقتصر على ذلك بل نافح وكافح لإبراز الجانب الصوفي في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة (¬1)، وجعل طريقة (الحلَّاج) هي الطريقة المثاليَّة في فهم الإسلام، وأسماه (شهيد التصوف في الإسلام) (¬2). ولا شك أنَّ لهذا المسلك الدلالة الكافية في إعطاء الانطباع والتصور الكافيين على أنَّ العبادة في الإسلام تقليد بين للرهبانية في النصرانية (¬3). 8 - انتزع بعض المستشرقين من بعض الكلمات التي وردت في القرآن الكريم أو على لسان المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- من مثل (حنيف) و (التزكي) و (المؤمنون) وصفًا للإسلام والمسلمين بأنَّها تقلبات في أمور العبادة خضعت لظروف علاقة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) وبخاصة اليهود، وأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (جاهد لكي يجذبهم إلى جانبه مستعينًا في ذلك بالوحي القرآني الموائم لما في ضمائرهم، لكن جهوده ذهبت سدى) (¬4). ويقول (مونتغمري وات): (لم يكن اسم دين الإسلام دائمًا. . ويبدو ¬

_ (¬1) انظر: عمر فروخ: الاستشراق في نطاق السياسة، (بحث مدرج في كتاب الإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء المسلمين: ص 135، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: ص 364، (مرجع سابق). (¬2) جزءٌ من عنوان رسالته الثانية للدكتوراه، وعنوانها: (عذاب الحلاج شهيد التصوف في الإسلام)، وقد نوقشت بتاريخ 24 مايو 1922 م، ويذكر أن اختيار هذا التاريخ عن قصد لمناسبة مرور ألف عام على صلب الحلاج: انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: ص 367، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر ما قاله (ماسنيون) عن المؤثرات في الصوفية، وبخاصة (الرهبانية)؛ في الصفحات: (332 - 336)، من دائرة المعارف الإسلاميَّة، الجزء التاسع، (مرجع سابق). (¬4) موريس غودا فروا: النظم الإسلامية. . ص 21؛ نقلًا عن: زيد العبلان: الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلامية: ص 415، (مرجع سابق).

أنَّ الاسم الذي أطلق عليه في الفترة المدنية كان (التزكي) ولا يذكر اسم الدين وأتباعه إلَّا قليلًا في النصوص، ونجد بعد الهجرة عدّة إشارات إلى (المؤمنين) ويشمل في بعض الأحيان هذا اللفظ اليهود، حتى إذا ما قطع محمد علاقاته بهم صرح بأنَّه يتبع دين إبراهيم (الحنيف) وسُمِّي دين محمد، فترة من الزمن بالحنيفية، ومن الصعب القول متى حلتا (مسلم) و (الإسلام) محل (حنيف) و (حنيفية) ولا شك أنَّ لفظ (الإسلام) هو أفضل تسمية، ولهذه الكلمة معنى ديني أعمق يعني الاستسلام والخضوع لإرادة اللَّه) (¬1). 9 - وكان لبعض المستشرقين وقفة كذلك عند القبلة وما حدث للأُمَّة الإسلاميَّة، حينما استقبل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بيت المقدس في بداية الهجرة، ثمَّ تحول عنه إلى بيت اللَّه الحرام في مكة المكرمة، فسَّرَ بعض المستشرقين ذلك بقوله: (إنَّ محمدًا كان في أول الأمر يؤمل الاعتماد على اليهود، ورتَّب خططه على أساس الحصول على مساعدتهم وتأييدهم له، ولذلك جعل قبلة المسلمين في الصلاة نحو القدس في تلك المرحلة التي لم يفرق فيها بين اليهود والمسيحيين واعتبرهم شيئًا واحدًا، ولكن عندما خاب ظنه فيهم بسبب رفضهم الاعتراف به كنبي، دخل في عداء صريح معهم، وأمر بتحويل قبلة المسلمين في الصلاة نحو مكة) (¬2). 10 - زعم (شاخت) أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ مفهوم الزكاة عن اليهودية، إذ قال: (وعلماء الإسلام يفسرون كلمة (زكاة) في العربية بأنها تعني ¬

_ (¬1) مونتغمري وات: محمد في المدينة ص 463، 464، نقلًا عن: المرجع السابق ص 416. (¬2) نقلًا عن: سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص 28، (مرجع سابق) وانظر: جميل عبد اللَّه المصري: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري: ص 83، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م، المدينة المنورة عن مكتبة الدار.

أما الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية

الطهارة والنماء، والحقيقة أن محمدًا استعارها بمعنًى أوسع من ذلك بكثير، أخذًا عن استعمالها عند اليهود (في العبرية - الأرميَّة: زكوات) (¬1). هذه نماذج من أقوال المستشرقين وآرائهم حول العبوديَّة في الإسلام، وإنْ كانت العبادة -كما سبق شرحها- أشمل من ذلك، ولكن الموضوع هنا هو استجلاء موقف عامَّة المستشرقين من قضية العبوديَّة باعتبارها من أهم أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. ولعل في هذه النماذج الواردة في الصفحات السابقة ما يؤكد موقف المستشرقين في مسارهم العام من تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّهم يصرون إصرارًا يجافي مناهج البحث العلمي ويقدح -بصفة واضحة- في مصداقيتهم؛ بل ويؤكد بما لا يدع مجالًا لحسن الظن بهم أنَّهم يتحاملون على الإسلام كمبدأ، وعلى الأمَّة الإسلاميَّة في هويتها وشخصيتها المميَّزة، فهم حريصون غاية الحرص على نسبة كلِّ جانب من جوانب تميُّزها إلى أُمَّة أخرى، وإظهار الإسلام بمظهر ملفق من الوثنية الجاهليَّة واليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الملل والنحل. أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية: 1 - إن التشابه بين بعض الشرائع والشعائر في الإسلام وبين ما سبقها من الديانة اليهوديَّة أو النصرانية أو غيرهما من الملل والنحل لا يصح بأيِّ حال من الأحوال أنْ يكون دليلًا قاطعًا، وحُجَّة مقنعة بأنَّ الإسلام مقتبس من غيره، أو ملفق مِمَّا سبقه. يقول أحد المفكرين: (إنَّ الأفكار التي تبدو متشابهة في دوائر ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت. . . (بحث مدرج في مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميَّة) 2/ 207، (مرجع سابق)، وانظر: عبد العظيم الطعني: افتراءات المستشرقين: ص 136 - 139، (مرجع سابق).

الحضارات الإنسانية المختلفة لا تدل بالضرورة على الاقتباس، ومع ذلك ورغم التشابه الضئيل القائم بين تعاليم الإسلام واليهودية والمسيحية، فإنَّ هناك اختلافات جوهرية - (سواء كان) في الصورة والشكل (أم) في المحتوى والغاية- بين العبادات في الدين الإسلامي وبينها في المسيحية واليهودية) (¬1). والمستشرقون الذين يتوافرون على ذكر تلك المتشابهات للنيل من تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وأمته عن الأديان والأمم السابقة يهملون بطريقة تبدو متعمدة الحديث عن الاختلافات الجوهرية بين الإسلام وأمته وغيرها من الأديان والأمم الأخرى، ولا يذكرون من جهة أُخرى الأسباب الحقيقية في ما يبرزونه من التشابه، مع أنّ (هذا التشابه النسبي يفسر -وهو المعقول من وجهة النظر الدينية- بوحدة المصدر الإلهي الذي نبعت منه هذه التعاليم السماوية) (¬2). تروي كتب التاريخ أنَّ النجاشي لما سمع آيات القرآن الكريم يتلوها على مسمعه جعفر بن أبي طالب هتف قائلًا: (إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. . . واللَّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلت) (¬3)، وكان القسس والرهبان كلما سمعت آية يتلوها جعفر (انحدرت دموعهم مِمَّا عرفوا من الحق، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى) (¬4). ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق). (¬2) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق). وانظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 53، (مرجع سابق). (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 362، 363، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (مرجع سابق). (¬4) الواحدي: أسباب النزول: ص 151، 152 (مرجع سابق)، وانظر: ابن هشام: المرجع السابق نفسه: 1/ 362، وانظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق).

إذًا فالتشابه إذا وجد فسببه أنَّ الكتب السماويَّة كلها مصدرها واحد وهو اللَّه عز وجل، والإسلام جاء ليكمل بناء الأديان من قبله وليس مناقضًا لما فيها، أو ما بقي لدى الجاهليين من بقايا الحق سواء في مجال العقيدة أو العبادة أو السلوك والأخلاق (¬1)، وقد ثبت -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "بعثتُ لأتمم حسن الأخلاق" (¬2). 2 - إنَّه بالأدلة العقليَّة والبراهين المنطقية تسقط آراء المستشرقين وأقوالهم التي زعموا فيها أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لفق العبادات في الإسلام ممَّا عرفه من اليهود والنصارى، ومِمَّا عرفه هو ثُمَّ المسلمون من بعده من بقايا الوثنية الجاهليَّة وبعض الملل والنحل الأخرى، وذلك بالنظر إلى موقف الإسلام من تلك المصادر المتنوعة (ذلك أنَّ طبيعة المسألة تقضي -عادة- أن يضفي المقلد الآخذ أسباب الكمال ومعاني الأصالة وسمات الحق على المصدر الذي استقى منه أصول فكره وعلمه، وأن ينزل صاحبه منزلة العدل في الحكم، والنزاهة في الرأي، والسداد في الفكرة والعقيدة. أمَّا إذا وجدنا الأمر معكوسًا فإنَّ المنطق يحتم خلاف ذلك، إذ كيف يجوز لعاقل أن يتصور النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تلميذًا لأحبار اليهود ورهبان النصارى، يشكل قرآنه (نعوذ باللَّه) ويلفق عقيدته من توراتهم وإنجيلهم وسائر مصادرهم، وهو يرى القرآن الكريم يصدر في انتقاده لهذه المصادر عن ¬

_ (¬1) انظر: سعيد عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص 27، 28، (مرجع سابق). (¬2) أخرجه الإمام مالك: الموطأ، 2/ 690، كتاب حسن الخلق، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وفي رواية الإمام أحمد في مسنده: "إنما بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق": 2/ 381، ورقم الحديث [8952]، بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، (مرجع سابق)، ولمعرفة طرق الحديث والحكم عليه ووروده بلفظ "مكارم الأخلاق" راجع: حاشية الحديث لدى الأرنؤوط (14/ 513)، المرجع السابق نفسه.

موقف قوي صريح هو موقف الحاكم المتمكن من الأمر المتهم لأرباب تلك المصادر، المنتقد لما (أحدثوا فيها من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان)، وهكذا فإنَّ القرآن الكريم إذ يستعرض آراء اليهود ومعتقدات النصارى لا يصدر عن موقف ضعيف متخاذل، وهو ما يتصف به المقلد للغير، بل يتبين الحق في هذه العقائد من باطلها، ويحمل وزر الباطل على أهله) (¬1). لقد وصف اليهود (تارة بالتحريف والتبديل {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وباللبس والكتمان {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وبالافتراء وزور القول {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]، والقرآن إذ يستعرض عقيدة المسيح عليه السلام باللَّه تعالى يبعده عن لوثة التثليث، ويعتبر ذلك مسخًا لحقيقة ما بشر به، وتلفيقًا من الرأي نسب إليه {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]. وإذا كان هذا شأن القرآن الكريم من تلك المصادر. . . فليس لعاقل سديد الرأي أن يورد هذا الزعم الباطل) (¬2). 3 - أمَّا دعوى أنَّ الإسلام اقتبس بعض الأحكام التعبديَّة ممَّا كان عليه الجاهليون؛ فلا يُمكن أن يستنتج (من الإبقاء عليها تأثر الرسول بها باعتبارها أمورًا استمدها من بيئته ولم يوح بها اللَّه إليه في محكم كتابه، ولو كان الأمر خلاف ذلك لأبقى على سائر القوانين والأعراف الجاهليَّة ولما حرَّم بعضًا منها وأباح بعضها الآخر، ولكن التشريع يراعي دومًا ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 27، (المرجع السابق نفسه). (¬2) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 27، (مرجع سابق).

مصالح الناس والعباد التي شرعت الأحكام لمصلحتهم، فتبقى الأحكام الصالحة، وتبطل الأحكام الفاسدة. . . إنَّ الإسلام احتفظ بالعديد من أعراف الجاهليين وتشريعاتهم؛ لأنها صالحة للتطبيق؛ ولأنها تحقق مصالح من شرعت هذه الأحكام لهم؛ ولأنَّه عندما ألغى الفاسد منها، فإنَّه قد راعى هذه التعاليم الإلهيَّة التي جاءت بالرسالة المحمدية) (¬1). ولا يتسع المجال هنا للتعرض لشعائر الجاهليين وعباداتهم، ومقارنتها بالعبادات الإسلاميَّة وشعائرها لمعرفة مدى التوافق بينهما والاختلاف، ولكن تُعْرَضُ بعض العبادات والشعائر التي كان العرب في جاهليتهم يمارسونها، ثُمَّ ما حدث من تعديل أو إبطال أو إقرار لبعضها وترك لبعضهما الآخر. فمن شعائر الجاهليين التي أقرها الإسلام (الاختتان والاغتسال من الجنابة، وتغسيل الموتى وتكفينهم) (¬2). وكان الجاهليون يؤدون الحج والعمرة ولهما شعائر عدَّة، وعندما جاء الإسلام أبقى على بعض تلك الشعائر وأبطل بعضها الآخر (¬3). . . (فالطواف كان معروفًا في الجاهليَّة، وهو عندهم ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه، وعدده عندهم سبعة أشواط، وكان الطائفون على صنفين: صنف يطوف عريانًا، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عريان (بالحلَّة)، أمَّا الذين يطوفون بثيابهم، فيعرفون (بالحمْس)، وعندما جاء الإسلام أقر الطواف حول الكعبة بسبعة أشواط، ومنع طواف العري، وحتم على الجميع لبس الإحرام) (¬4). ¬

_ (¬1) ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 327، (مرجع سابق). (¬2) ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 324، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 324. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 324.

ومِمَّا أبقى الإسلام من أعمال الحج التي كانت معروفة ومعمولًا بها في الجاهليَّة: السعي بين الصفا والمروة، والتلبية، والوقوف بعرفة اليوم التاسع من ذي الحجة، والإفاضة منها إلى مزدلفة والمبيت بمنى، ورمي الجمرات (¬1). ولكن الإسلام أذهب ما علق بها من أمور الجاهليَّة سواء الشركيات في الاعتقاد أو المبتدعات في أشكال العبادة، ذكر اليعقوبي (أنَّ العرب إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، فصلوا عنده، ثُمَّ لبوا حتى يقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة) (¬2)، فقد نقَّى الإسلام التلبية من أوضار الشرك، وجعلها خالصة للَّه، ولم يبطلها من حيث أصل المشروعيَّة. (وكان الجاهليون يطوفون بين الصفا والمروة، ومنصوب عليها صنمان هما (أساف)، و (نائلة) وكانوا يطوفون بهما سبعة أشواط، ووصف الإسلام مشي الحاج بين الصفا والمروة بـ (السعي) وأبقى هذه الشعيرة) (¬3) بعد أن أزاح الأصنام، وشرع أدعية التوحيد وإخلاص العبادة للَّه. ولا شك أنَّ ما أبقاه الإسلام من العبادات والشعائر التي كانت معروفة في الجاهليَّة هو الحق الذي شرعه اللَّه، وبلَّغَه الرسول الخاتم -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمته، ومنه ما كان من بقايا الحنيفيَّة السمحة، ومنه ما أوجبه اللَّه على عباده على لسان المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- أو أُمِرَ بفعله، وأمر هو -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَه أن تفعل كفعله، كما في الحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 324، 325. (¬2) أديان العرب 1/ 225، وانظر: المرجع السابق نفسه: ص 324. (¬3) ساسي سالم الحاج: المرجع السابق نفسه: ص 325. (¬4) سبق تخريجه: ص 868، (البحث نفسه).

وكما أمر المسلمين في حجة الوداع وقال: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" (¬1). 4 - أمَّا قول (بروكلمان) و (مونتغمري وات) عن صوم يوم عاشوراء فهو مردود من وجوه عدَّة، من أهمِّها: أ- ما ذكره بعض الإخباريين (من أنَّ قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، وأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصومه أيضًا، وعندما هاجر إلى المدينة استمر في صيامه له، وأمر أصحابه بذلك أيضًا حتى أول السنة الثانية للهجرة، وبعد أن فرض الصيام أصبح صوم يوم عاشوراء اختيارًا) (¬2)، فإذا صح هذا القول فإنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- صام عاشوراء قبل أن تكون هناك مظنَّة تأثر باليهود، كما أن بعض المستشرقين ادّعى أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان متأثرًا في صوم يوم عاشوراء بما كان عليه قومه (¬3) وليس اليهود، وقد سبق الرد على هذا القول ضمنًا فيما ذكر من قبل. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 2/ 943، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا وبيان قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لتأخذوا عني مناسككم" من كتاب الحج، (مرجع سابق)، وأخرجه أبو داود في سننه: 2/ 207، كتاب المناسك، باب: رمي الجمار باللفظ نفسه، (مرجع سابق)، وأخرجه النسائي في سننه بلفظ: "يا أيها الناس: خذوا عني مناسككم"، الحديث رقم (3062)، (مرجع سابق)، انظر: البحث نفسه: ص 90، 526. (¬2) انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 324، وفيما أخرجه البخاري؛ قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من شاء أن يصمه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه"، صحيح البخاري: 2/ 578، كتاب الحج، باب (47)، الحديث رقم (1515)، تحقيق: البُغا، (مرجع سابق). والحديث مرويٌّ عن أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-، وممَّا قالت:"كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يومًا تُستر فيه الكعبة، فلما فرض اللَّه رمضان قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (وذكرت الحديث)، فدلَّ ذلك على صحة ما ذكره الإخباريون عن كون صوم يوم عاشوراء عادة جرت عليها قريش من قبل. (¬3) انظر: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 66، (مرجع سابق). =

ب- أنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حينما قدم المدينة المنورة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، سأل عن سبب صومهم له، فذكروا أنَّه يوم أنجى اللَّه فيه موسى عليه السلام وقومه وأغرق فرعون وجنده (¬1) فأمر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بصيامه ولم يقتصر على ذلك وإنَّما قال -فيما رواه ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا أو بعده يومًا" (¬2)، ففي هذا نفيٌ تام لما زعمه (بروكلمان) وتأكيد جازم على تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة من بداية احتكاكها باليهود في المدينة المنورة، وتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة هو الاستنتاج الأولي من هذه الحادثة وما يشبهها، ولكن (بروكلمان) يصدف عن هذا الاستنتاج الذي يفضي إليه العقل والمنطق، ويصر على محاولة النيل من نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والقدح في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. 5 - وأمَّا ما ذهب إليه (بروكلمان) بشأن مشروعية الصلاة وصلاة الجمعة؛ فإنَّ ذلك كله كما قال أحد المفكرين يسجل على (بروكلمان) (تعصبًا مقيتًا ضد الإسلام) (¬3)؛ لأن المسلمين كانوا يصلون خمس صلوات في اليوم والليلة قبل الهجرة، وقد فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء وورد في ذلك عدّة أحاديث، منها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ففرض اللَّه على أُمَّتي خمسين ¬

_ = ولمزيد من الاطلاع على ما جرت به العادة. صيام الأنبياء ليوم عاشوراء، وصوم قريش له، وأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- صامه قبل الهجرة وأمر بصيامه بعدها إلى أن شرع صيام رمضان وأحواله مع هذا الصيام؛ راجع: الإمام الحافظ ابن رجب: لطائف المعارف: ص 102 - 113، تحقيق: ياسين محمد السَّواس، (مرجع سابق). (¬1) انظر: الحافظ ابن رجب: المرجع السابق نفسه: ص 103، 104. (¬2) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل: مسنده: 1/ 241، بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين: 4/ 52، ورقم الحديث [2154]، (مرجع سابق)، وانظر: الحافظ ابن رجب: لطائف المعارف: ص 108، (المرجع السابق نفسه). (¬3) عبد الكريم علي باز: افتراءات فليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي: ص 107، (مرجع سابق).

صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض اللَّه لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك فإنَّ أمتك لا تطيق ذلك" (¬1) إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فراجعته، فقال: هي خمس وهي خمسون" (¬2). ومن الثابت تاريخيًا أن الإسراء حدث قبل الهجرة (¬3). وممَّا ذكر المفسرون في أسباب نزول قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] أنَّها تعني الصلوات الخمس، وهذا التفسير عزاه القرطبي لابن عباس أنَّه قال: (الصلوات الخمس في القرآن، قيل له: أين؟ فقال: فسبحان اللَّه حين تمسون: صلاة المغرب والعشاء، وحين تصبحون: صلاة الفجر، وعشيًّا: العصر، وحين تظهرون: الظهر) (¬4)، ومن الثابت أن سورة الروم نزلت بمكة قبل الهجرة ببضع سنين (¬5). ويتساءل أحمد حماني عن هذا الموقف لى (بروكلمان) قائلًا: (ما الذي يحمل (بروكلمان) على تزوير التاريخ وتشويه الحقائق؟!)، ثُمَّ يؤكد بأنَّه (يهاجم الإيمان في صدور أبنائنا ليزعزع العقيدة ويتركهم مذبذبين) (¬6). وأمَّا قول (بروكلمان) أن المسلمين تأثروا بالفرس في جعل فروض ¬

_ (¬1) رواه البخاري: صحيح البخاري: 1/ 92، كتاب الصلاة، باب [1] كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟ (¬2) المرجع السابق نفسه 1/ 93. (¬3) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية: 1/ 277 - 279، (مرجع سابق). (¬4) الجامع لأحكام القرآن 14/ 11، (مرجع سابق). (¬5) انظر: الواحدي: أسباب النزول. . . ص 259، (مرجع سابق)، وا بن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/ 422 - 426، (مرجع سابق). (¬6) مجلة جوهرة الإسلام: ص 48، نقلًا عن عبد الكريم علي باز: ص 107، (مرجع سابق).

الصلاة خمسة فروض في اليوم والليلة بعد زعمه أنهم تأثروا قبل ذلك باليهود، فإنَّ زعمه هذا كمزاعمه التي سبقت مناقشتها والرد عليها، وكلها تؤكد ما ذكره أحد الباحثين عن فئة من المستشرقين نذرت نفسها لإبراز الإسلام وأمته كذيل لليهود وأمتداد لتاريخهم (¬1). وأمَّا زعمه بأن المسلمين فيما بعد تأثروا بالفرس فأوصلوا فروض الصلاة إلى خمسة فروض فليس في الأديان التي اعتنقها الفرس عبادة كصلاة المسلمين إلَّا أن المجوس كان منهم من يسجد للنجوم ومنهم من يسجد للنار (¬2)، وإذا حدث من بعض الفرق المنشقة عن الأمَّة الإسلاميَّة تأثرٌ بهم فإنَّ ذلك حدث في عصور متاخرة بعد أن استقرت شرائع الإسلام (¬3)، بل من الثابت تاريخيًا أن الإسلام أثَّرَ في الفرس، ودخل سوادهم تحت مظلته (¬4). وأمَّا صلاة الجمعة فإنها شعيرة تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة، وخصَّها اللَّه بها بعد أن ضلّ عنها اليهود والنصارى، وفضلت بها عليهما كما سبق بيان ذلك. 6 - ومِمَّا ينبغي ذكره في الرد على سائر المزاعم الاستشراقية التي تحاول جاهدة أن تعود بأصول العبادات في الإسلام إلى ملل ونحل لدى أمم شتّى بغية إذابة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، والقول بأنها ملفقة من هنا وهناك: ¬

_ (¬1) انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت. . . مناهج المستشرقين: 2/ 213، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 274 - 302، (مرجع سابق). (¬3) انظر: شكيب أرسلان: إسلام الفرس ومبدأ التشيع: 1/ 161 - 193 من كتاب حاضر العالم الإسلامي، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 180، 184، 187، 191، وانظر: الصفحة السابقة لهذه الصفحات: 1/ 156، (المرجع السابق نفسه).

(إنَّ العبادات الإسلاميَّة المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، عبادات قديمة، عرفتها الأديان قبل الإسلام على صورة من الصور، فاللَّه يقول عن بعض الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، وفي الصيام يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وفي الحج يقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26 - 27]. ولكن هذه العبادات الأربع كانت في تلك الديانات مناسبة لعصرها وبيئتها، فلمَّا جاء محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرسالة الخاتمة الملائمة للبشرية في طور نضوجها، فرض اللَّه عليه هذه العبادات في أكمل صورة لها، ورقَّى كل نوع منها إلى غايته ومنتهاه، ونقَّاها من كل ما شابها خلال العصور وكر الدهور. فالصلاة لم تعد مجرد ابتهال ودعاء فحسب، ولكنها ذكر ودعاء وتلاوة، وهي أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن، واشترط الإسلام لها النظافة والطهارة، وأخذ الزينة، والاتجاه إلى قبلة واحدة، ووزعها على أوقات النهار والليل بمواقيت معينة، وحدد لكلِّ صلاة منها ركعات معدودة، ورتب كيفيتها على نسق فريد، وكملها بما شرع فيها من جماعة وجمعة، وزان ذلك كله بما شرع لها من أذان وإقامة، فالصلاة في الإسلام بهذه الصورة، وتلك الشروط، عبادة فذَّة لم تعرف هكذا في دين من الأديان. والزكاة في الإسلام عبادة فذَّة -كذلك-، إنَّها ليست مجرد إحسان يتبرع بها متطوع، ولكنّها حق معلوم وفريضة مقدرة على كل من يملك نصابًا محددًا ناميًا من المال حال عليه الحول، فاضلًا عن الحاجات

الأصلية لمالكه، إنها حق اللَّه فيما أنعم به من مال أو تجارة أو زرع، حق يدفع الإيمان إلى أدائه، وتقوم الدولة على جبايته {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103]، فمن أدَّاها طيبة بها نفسه، فقد كسب رضا اللَّه، وفاز بخيري الآخرة والأولى، ومن أبى قسرته الأُمَّة على أدائها قسرًا، فإن كانت له شوكة قوتل وجندت له الجنود حتى يؤديها، وهذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- مع مانعي الزكاة، فالزكاة بهذا الوضع وبمصارفها التي بينها القرآن عبادة جديدة لم تعرف بهذا الكمال في دين من الأديان. وكذلك الصيام والحج والذكر والدعاء عبادات قديمة مشتركة في أديان كثيرة، ولكن الإسلام نقَّى هذه العبادات جميعًا من كل شائبة، ورقَّى كل نوع منها إلى غايته، وركز فيها من الأسرار، وربط بها من الآثار، وجعل لها من التأثير في الحياة ما يليق بدين عام خالد، مهمته إصلاح الفرد والأُمَّة وهداية العالمين) (¬1). 7 - يبدو أنَّ ما انتهجه (ماسنيون) من عشق وهيام بشخصية (الحلَّاج) وطريقته في الفلسفة الصوفية، ليس مجرد قناعة ذاتية أو اختيارًا لرأي شخصي، بل الأمر أعمق من ذلك، إذ يظهر من نهجه ذاك -واللَّه أعلم- إبراز التأثر والاقتباس بالنصرانية في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة في جانبي العقيدة والعبادة، ففيما يخص العقيدة إبراز عقيدة الحلول وفلسفتها التي تتفق مع عقيدة الصلب والتثليث في الديانة النصرانية المحرَّفة. . . وهذا جانب لا يتسع المجال هنا للخوض فيه والرد عليه، وقد سبق أن أفردت العقيدة وموقف المستشرقين منها بمبحث مستقل (¬2)، وموضع الرد هنا على جانب العبادة. ¬

_ (¬1) انظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 205، 206، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ص 347 - 371 (البحث نفسه).

ولعل مما يدل على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي

ففيما يخص هذا الجانب يظهر أن (ماسنيون) يريد بطريقة غير مباشرة محاولة أن يثبت من خلال بحثه في شخصية (الحلَّاج) التطابق الذي يكاد يكون تامًّا بين فلسفة العبادة في الإسلام والنصرانية، وبما أن النصرانية هي السابقة فإنَّ الإسلام وأمته تكون في وضع المحاكي المقلد. ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي: أ- ما ذكره عمر فروخ عن (ماسنيون) من أنَّه (جعل همَّه دراسة (التصوف المتطرف) وفيما يتعلق (بالحلَّاج خاصة) (¬1)، على الرغم من أنَّ (الحلَّاج) (كان أشد الناس عداوة للإسلام وأشد عداء للمسلمين من الكفَّار: ادَّعى الألوهيَّة فقتله العباسيون بذلك، ولكن أتباعه قالوا: إنَّه لم يمت ولكن (شبهه) ألقي على غيره، فقتل العباسيون شبهه هذا ولم يقتلوه هو (تشبيهًا بالمسيح) (¬2). ويقول أيضًا: (ولَمَّا أصدرت كتابي (التصوف في الإسلام) في طبعته الأولى (1366 هـ - 1874 م) ثُمَّ زار (ماسنيون) بيروت عاتبني على ما كتبته عامَّة وخاصة، فلم أبدل رأيي في الضرر الذي أصاب المسلمين من حركة التصوف المتطرف والتصوف المعتدل أيضًا) (¬3)، مِمَّا يدل على الاهتمام البالغ من لدن (ماسنيون) بهذا الجانب ومحاولته إبرازه وترسيخه في واقع المسلمين، وقد التفت عمر فروخ إلى أمرين تجدر الإشارة إليهما: الأول: أن (ماسنيون) كان مستشارًا في قسم المستعمرات بوزارة الخارجية الفرنسية (¬4). ¬

_ (¬1) الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة: ص 135، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: 135. (¬3) الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة: ص 135، (المرجع السابق نفسه). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 135.

الثاني: أنَّ من طلاب (ماسنيون) من تابعه في الكتابة عن (الحلَّاج) (¬1). وفي هذا وذاك ما يؤكد أن هناك رغبة في إبراز هذا الجانب الفلسفي وما يترتب عليه من تقليد ومتابعة للجانب الروحي في الديانة النصرانية التي تأتي (الرهبانية) في تضاعيفه وطياته (¬2). ب- كتب بعض المستشرقين ما يوضح دخول التيارات النصرانية في الطرق الصوفية، وعدوا ذلك تأثرًا بالروحانية في الديانة النصرانية وتأثيرًا في دين الإسلام؛ يقول (آدم متز): (إنَّ الحركة التي غيرت صورة الإسلام في أثناء القرنين الثالث والرابع ليست في مجموعها سوى نتيجة لدخول التيارات الفكرية النصرانية في دين محمد) (¬3). ويقول (آسين بلاثيوس): (إنَّ المنهج الصوفي بكل جوانبه الروحيَّة مستمد من النصرانية) (¬4). ج - وذكر أنَّ أول من تأثر بهذا النهج وتلك الفلسفة هو (الحلَّاج)، وأنَّه سُمِّيَ (مسيح المسلمين) (¬5). وعلى هذا فإنَّ الاهتمام بشخصية (الحلَّاج) من قبل (ماسنيون) ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 135. (¬2) انظر: آدم متز: الحضارة الإسلاميَّة في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، الصفحات: 25، 27، 29، 31، 32، 34، 37، 38، 45، 43، 44، 82، 83، 95، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق: ص 19. (¬4) نقلًا عن: سارة بنت عبد المحسن بن عبد اللَّه بن جلوي آل سعود: نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام: ص 326، الطبعة الأولى 1411 هـ/ 1991 م، عن دار المنار - جدة. (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 330، 331.

و (جولدزيهر) (¬1) وغيرهما من المستشرقين تعني الانحراف بتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال عقيدتها وعبادتها إلى الطرائق الفلسفية التي أفسدت العقائد النصرانية والعبادات فيها، وحولتها إلى مفاهيم خاطئة وممارسات شاذَّة، وإذا كان لقول (آدم متز) مصداقية في واقع تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة حيث انحرفت بعض الفرق الإسلاميَّة عن جادة الإسلام إلى الرهبانية النصرانية، فإنَّ ذلك ليس تغييرًا في الإسلام ذاته، وإنَّما في واقع تلك الفرق، أمَّا الإسلام فقد حفظه اللَّه من التبديل والتغيير، ممثلًا في الأُمَّة الإسلاميَّة؛ (أُمَّة الاتباع) وفقًا لما أخبر به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن افتراق الأُمَّة، والتزام أُمَّة الاتباع بما كان عليه هو وصحابته الكرام (¬2). 8 - أمَّا ما ذهب إليه (مونتغمري وات) حول تنوع المسميات التي تطلق على المسلم وعلى الأُمَّة الإسلاميَّة مثل (حنيف) و (حنيفية) و (مؤمن) و (مؤمنين) و (مسلم) و (مسلمين) وكذلك ما قاله عن (التزكي) فإنَّ ذلك مردود من وجوه عدَّة، منها: أ- لا تعارض بين هذه المسميات بل هي -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- أسماء متعددة لدين واحد: (يسمى إيمانًا وبرًّا وتقوى وخيرًا ودينًا وعملًا صالحًا مستقيمًا، ونحو ذلك. . . وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ والباقي. . تابعًا لها لازمًا لها، ثُمَّ صارت دالَّة عليه بالتضمن) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: ص 367، (مرجع سابق). وانظر: محسن عبد الحميد: تجديد الفكر الإسلامي ص 51، (مرجع سابق)، حيث ذكر أنَّ (جولدزيهر) و (نيكلسون) ذهبا إلى القول بتأثير الرهبانية النصرانية على الأمَّة الإسلامية ممثلًا في مظاهر الصوفية لدى المسلمين. (¬2) انظر: ص 98 - 102 (البحث نفسه). (¬3) كتاب الإيمان: 7/ 155، من (مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، (مرجع سابق).

وهذا من البدهيات العقليَّة التي يتفق عليها جمهرة الناس ولا تقوم لمعترض عليها أدنى حُجَّة، يقول أحد الباحثين في سياق الرد على هذه المقولة: (إنَّ هؤلاء المستشرقين يعرفون ويعرف غيرهم أنّ الشيء قد يسمى بعدة أسماء، ويوصف بعدة أوصاف من غير تعارض، ولا يلزم من وجود أحدهما انتفاء الآخر، فمثلًا (جولدزيهر) يهودي ومجري وإنسان ورجل، ولا يلزم من وجود هذه الأوصاف جميعًا أن يكون أحدها معارضًا للآخر. . . وكذلك ما جاء به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يسمى بالإسلام، ويسمى بالإيمان والحنيفية، وغير ذلك، وليس في ذلك تعارض) (¬1). ب- وإذا كان المستشرقون ينتزعون من تنوع هذه المسميات ما يستدلون به على محاكاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأهل الكتاب في عباداتهم ومداهنته لهم وبخاصة اليهود بعد هجرته إلى المدينة، وأنَّه استخدم في سبيل ذلك مسمى (المؤمنين) ليدخلوا فيه بعد أن اقتبس كثيرًا من شعائرهم في العبادة وطقوسها، ثُمَّ استخدم مسمى (التزكي)، وبعد يأسه من دخول اليهود والنصارى دينه ومصادمة اليهود لدعوته استخدم مصطلح (حنيف) و (حنيفية) ثُمَّ حلَّ مصطلح (مسلم) و (مسلمين) محلَّه فيما بعد؛ فإنَّ هذا الاستدلال متهافت وساقط من الناحية التاريخية، ومن الناحية العقليَّة، ذلك أنَّ منطق التاريخ ينسفه من أصله؛ حيث إنَّ هذه المسميات والمصطلحات قد أطلقت على دين الإسلام وأمته قبل الهجرة. وعلى سبيل المثال فإنَّ مسمى (التزكي) وإن لم يكن علمًا على دين الإسلام (كحنيف) و (حنيفية) قد جاء في بعض الآيات التي نزلت في مكة قبل الهجرة كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14]، كذلك مصطلح ¬

_ (¬1) زيد العبلان: الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلاميَّة: ص 425، 426، (مرجع سابق).

الإسلام ورد في آيات عدَّة قبل الهجرة كقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، وورد في روايات إسلام كثير من الصحابة كرواية إسلام أبي ذر وإسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، بل ورد في دعوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك أبي جهل أو بعمر بن الخطاب" (¬1). وجاء مصطلح (حنيف) و (حنيفيهَ) في آيات عدَّة -كذلك- نزلت قبل الهجرة منها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحة" (¬2). وجاء الإسلام مقترنًا بالحنيفية في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]. وأمَّا من الناحية العقليَّة؛ فإنَّ هذه المسميات والمصطلحات تدل -فيما تدل عليه- على تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في منطلقاتها وغاياتها وأهدافها ووسائلها في عقيدتها وعبادتها، وأنها ليست على منهج المشركين ولا على منهج اليهود ولا منهج النصارى، وإنَّما كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 576، ورقم الحديث [3681]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق)، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 369 - 376، إسلام عمر بن الخطاب، (مرجع سابق)، وقد ورد في هذه القصة وتفاصيلها مسمى (الإسلام) ومشتقاته أكثر من ست مرات. (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده 5/ 266، بتحقيق: دار التراث العربي: 6/ 357، ورقم الحديث [21788]، (مرجع سابق).

وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. إذًا فالأمَّة الإسلاميَّة ذات منهج متميِّز وصف بالتزكي في العبادات عن الشركيات والبدع، ووصف بالإيمان، ووصف بالإحسان، ووصف بالحنيفية، ولكل مسمى من هذه المسميات مفهومه ومعناه، وحينما تدبر الباحث في هذه المعاني، ويعمل عقله يفضي به منطق العقل وسياق الفكر إلى تأكيد معنى تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّ من أهم أهداف هذا التميُّز ما تدل عليه هذه المسميات من معان عميقة واسعة، منها على سبيل المثال: • ما يدل عليه الإسلام من الاستسلام للَّه والانقياد له بالطاعة والخضوع له بعبادته وحده دون سواه (¬1). • ما تدل عليه الحنيفية من ميل عن الشرك في العبادة والعقيدة إلى الإسلام والثبات عليه (¬2)، وقد وصفت أيضًا بأنها سمحة كما في قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة" (¬3)، وهي ملَّة إبراهيم عليه السلام وهو ¬

_ (¬1) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (سلم)، (مرجع سابق)، وأبو البقاء: الكليات: ص 217، (مرجع سابق)، وابن تيمية: كتاب الإيمان (الجزء السابع من الفتاوى): ص 263، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 1/ 451، مادة (حنف)، وزاد أبو البقاء في كلياته، مادة (الحنيف) ص 359 قوله: (مخالفًا لليهود والنصارى، منصرفًا عنهما). (¬3) ترجم البخاري في كتاب الإيمان أحد الأبواب بهذا الحديث: صحيح البخاري: 1/ 15، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، ووصله البخاري في الأدب المفرد من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس (قيل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيُّ الأديان أحب؟ قال: "الحنيفية السمحة")؛ ص 87، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من طريق أبي أمامة (جزء من حديث): 5/ 266، 6/ 33، (مرجع سابق) ومن طريق أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- بلفظ: "أرسلت بحنيفية سمحة". قال السخاوي في =

الذي سمَّى أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلمين، قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]. • ما يدل عليه الإيمان والإحسان من تدرج في مراتب الإسلام التي أدناها الإسلام ثمَّ الإيمان ثمَّ الإحسان، فهي مراتب ثلاث يترقى فيها المسلم بإخلاص العبادة للَّه والانقياد لسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى يعبد اللَّه كأنه يراه (¬1)، ومن المعهود أن الإسلام والإيمان إذا ذُكِرَا مجتمعين دلَّ الإسلام على العبادات الظاهرة من النطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج لمن استطاع إليه سبيلًا، ودل الإيمان على العبادات القلبية كما وردت في الحديث: "أن تؤمن باللَّه وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث" (¬2)، وإذا ذكر أحدهما دون الآخر دل عليه، ففي الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها لا إله إلَّا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬3)، فدخل الإسلامُ في مسمى (الإيمان) ودخلت كذلك الأعمال الصالحة (¬4). ¬

_ = المقاصد الحسنة: إنَّ إسناده حسن: ص 159، وكذا في كشف الخفا: 1/ 251، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على طرقه ورواياته والحكم عليها،، انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل؛ بتحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين: 4/ 17، ورقمه [2107]، (مرجع سابق). (¬1) انظر: البخاري: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 18، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬2) حديث جبريل: صحيح البخاري، كتاب الإيمان: 1/ 18، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: ابن تيمية: كتاب الإيمان: ص 9، (مرجع سابق)، وأصل الحديث عند مسلم ولفظه: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة" الحديث؛ صحيح مسلم: 1/ 63، باب: عدد شعب الإيمان، الباب (12)، ورقم الحديث [581]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 7.

ولئن كان الحديث يطول في هذه الفروق والدلالات عند افتراق مسمى الإسلام والإيمان والإحسان واقترانها؛ فإنَّ ما يتصل بهذا الرد في هذه النقطة هو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (جعل الدين ثلاث درجات أعلاها (الإحسان) وأوسطها (الإيمان) ويليه (الإسلام) فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنًا، ولا كل مسلم مؤمنًا) (¬1). وعلى هذا فإنَّ تعدد المسميات والمصطلحات التي توقف عندها (مونتغمري وات) تدلُّ على تحقيق العبودية للَّه وحده لا شريك له، وأدائها في أنصع صورة وأكملها، وهذا من أهم أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. 9 - وحادثة تحويل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام بمكة جاء استجابة لأمر اللَّه جل وعلا من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن أمته؛ لأن استقبال بيت المقدس كان أمرًا من اللَّه -على الأرجح من أقوال العلماء (¬2) - وكان صرف القبلة عنه إلى الكعبة أمرًا من اللَّه بالوحي والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد ذكر العلماء أن أول نسخ في القرآن كان نسخ القبلة، وقالوا: إن استقبال الكعبة في بيت اللَّه الحرام بمكة المكرمة قطعي الدلالة، قطعي الثبوت (¬3). وقد استفاضت كتب السنة والسيرة وغيرها من المصادر الإسلاميَّة بذكر هذه الحادثة الكبيرة في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، ولا يُمكن هنا ذكر تفصيلاتها وما يستفاد منها من عبر وعظات ومقاصد عدّة بشكل مفصل، ولكن يكفي القول بأن هذه ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 7. (¬2) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 189، (مرجع سابق). (¬3) انظر: جميل المصري: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية. . . ص 83، (مرجع سابق).

الحادثة في مجمل دلائلها، وخلاصة ما يستنتج منها تنسجم مع شخصية الأُمَّة الإسلاميَّة المتميِّزة، ولا سيما إذا أخذ بعين الاعتبار ما صاحبها من تمحيص وابتلاء وامتحان مايز بين المسلمين واليهود والنصارى ومايز كذلك بين المهتدين والناكصين (¬1) من الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]. قال ابن كثير في تفسيرها: (يقول تعالى: إنَّما شرعنا لك يا محمد التوجه أولًا إلى بيت المقدس، ثمَّ صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه مرتدًّا عن دينه، وإن كانت لكبيرة، أي: هذه الفعلة -وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة-، أي: وإن كان هذا لأمرًا عظيمًا في النفوس إلَّا على الذين هدى اللَّه قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأنَّ كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأنَّ اللَّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء) (¬2). وقال قبل ذلك: (ولَمَّا وقع هذا -يعني تحول القبلة- حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (¬3). إلى أن قال: (الشأن كله في امتثال أوامر اللَّه، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، ¬

_ (¬1) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 159 الحاشية رقم [10]، (مرجع سابق). (¬2) تفسير القرآن العظيم 1/ 191، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: 1/ 190.

فنحن عبيده وفي تصرفه وخدّامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات اللَّه وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] (¬1). جاء كلامه هذا في سياق تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]. وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] قال: (إنَّما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل. . . ولما جعل اللَّه هذه الأُمَّة وسطًا خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب) (¬2). وأورد في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] حديث أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا اللَّه لها فضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا اللَّه لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" (¬3)، والمقصود بالضمير في "يحسدوننا" يعني: أهل الكتاب. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (المرجع السابق نفسه). (¬2) تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (مرجع سابق). (¬3) رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 135، ورقم الحديث [24508] ترتيب: دار إحياء التراث: 7/ 194، (مرجع سابق). وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (المرجع السابق نفسه).

وقد تحدث ابن قيم الجوزية عن حادثة تحويل القبلة في كثير من المواضع من كتبه وما صاحب هذه الحادثة من إرهاصات، وما اشتملت عليه من حكم ودلائل، منها: أ- إنَّ مشروعية الصلاة إلى بيت المقدس إنَّما كانت أولًا بسبب كونها قبلة الأنبياء وبعث محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بما بعثوا به (وبما يعرفه أهل الكتاب، وكان استقبال بيت المقدس مقررًا لنبوته، وأنه بعث به الأنبياء قبله، وأنَّ دعوته هي دعوة الرسل بعينها، وليس بدعًا ولا مخالفًا لهم، بل مصدقًا لهم مؤمنا بهم، فلمَّا استقرت أعلام نبوته في القلوب، وقامت شواهد صدقه من كل جهة، وشهدت القلوب له بأنَّه رسول اللَّه حقًّا وإنْ أنكروا رسالته عنادًا وحسدًا وبغيًا، وعلم سبحانه أن المصلحة له ولأمته أن يستقبلوا الكعبة البيت الحرام أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى اللَّه، وأعظم البيوت وأشرفها وأقدمها قرر قبله أمورًا كالمقدمات بين يديه لعظم شأنه فذكر النسخ أولًا) (¬1). ويقول أحد المؤلفين في هذا الصدد: (إنَّ صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس ثُمَّ تحوله إلى الكعبة في مكة ليوحي بأنَّه هو النبي الذي يجب أن يدين له أهل القبلتين، ويؤمن برسالته كل العالمين، حيث لم تكن دعوته دعوة محلية ولا رسالة إقليمية، وإلَّا لما احتاج إلى هذه السياحة التي جمعت له أطراف الأرض) (¬2). والمؤلف يقصد بهذه السياحة قصة الإسراء وما حدث فيها من استقبال الأنبياء لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقديمه عليهم إمامًا حيث صلى بهم في المسجد الأقصى، وقد انتزع المؤلف المذكور من هذه الحادثة: إقرار الأنبياء بنبوة ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 360، (مرجع سابق). (¬2) محمد السيد الوكيل: تأملات في سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: ص 81، (مرجع سابق).

محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وتفوقه عليهم في المكانة وعلو القدر، وأنّ إقرار كلِّ نبي ملزم لأمته وموجب عليها أن تقر برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن تقديمه في الصلاة بهم يوضح عالمية رسالته واعترافهم -صلوات اللَّه عليهم أجمعين (¬1) - (بحقه في التقدم عليهم، ودعوة صريحة لأممهم بطاعته والائتمام به) (¬2). كما ذكر بعض المفسرين أنَّ توجه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصلاة إلى بيت المقدس ثُمَّ تحوله إلى الكعبة من دلائل نبوته التي أَخبَرت بها الكتب السابقة (¬3). ب- أن حادثة تحويل القبلة جاءت مؤكدة على التمايز بين المسلمين وأهل الكتاب، وأنَّ لكل أُمَّة منهم قبلة توليها، وأنَّ بعضهم لن يتبع بعض، وأنَّه لا مصلحة ترجى في موافقته بعدما ظهر منهم من الكبر والحسد والسخرية بالمسلمين، وأنَّهُم لن يرضوا عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يتبع ملّتهم (¬4). قال اللَّه تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. ج- (إنَّه كما جعلهم أُمَّة وسطًا خيارًا اختار لهم أوسط وجهات الاستقبال وخيرها، كما اختار لهم خير الأنبياء، وشرع لهم خير الأديان، وأنزل عليهم خير الكتب، وجعلهم شهداء على الناس كلهم، لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم، وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 81. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 81. (¬3) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 161، (مرجع سابق). (¬4) انظر: ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 361، (مرجع سابق).

وأشرفها؛ لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة والرسول والكتاب والشريعة) (¬1). 10 - أمَّا ما زعمه (شاخت) في مفهوم الزكاة، وأنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- استعارها من الاستعمال اليهودي لها بمعنًى أوسع ممَّا تعنيه في معناها العربي قبل الإسلام، فإنَّ زعمه هذا يأتي في سياق دراسته للزكاة في الإسلام، وقد أكد الباحثون بأنَّ دراسته تلك غير دقيقة، وأنها اتسمت بالآتي: أ- انتهج فيها (إطلاق تعميمات تحتاج إلى تقييد، أو إغفال تفصيلات مهمة تتعلق بمبدأ عام، أو استعمال عبارات مجملة بينما يقتضي المقام التعبير عن معنى واحد لا غير، وعدم الدقة في العبارة والفكرة) (¬2). ب- استحوذ على فكره ومنطلقه في تلك الدراسة الربط بين مفهوم الزكاة في الإسلام ومفهومها في اليهودية ليدلل بذلك على أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذه من اليهود، وأنَّه في سبيل ذلك حجَّرَ واسعًا، وجعل نفسه حبيسًا في أغلال المباحث اللفظية، ولم يتعدها إلى مقارنة المعاني والأحكام (¬3). ج- خضع في منهجه هذا لذلك المنهج الشائع بين علماء اليهود وهو (الإصرار على نسبة كل الكلمات المشتركة بين اللغات السامية إلى اللغة العبريَّة) (¬4). وإذا كانت دراسة (شاخت) للزكاة قد اتسمت بعدم الدّقّة، وانتقدت ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 362، (المرجع السابق نفسه). (¬2) محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميَّة 2/ 211، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه 2/ 218. (¬4) المرجع السابق نفسه 2/ 213.

من حيث المنهج ومن حيث المضمون، وتصدَّى لذلك أهل الاختصاص من علماء الأُمَّة الإسلاميَّة (¬1)، فإنَّ ما يهم هنا هو الرد على زعمه الخاص بأنَّ مفهوم الزكاة في الإسلام مقتبس ومنقول عن اليهود، والرد على ذلك من وجوه أبرزها الآتي: أ- إنَّ اللغة العبريَّة والآراميَّة والعربية وغيرها تعود إلى اللغة الساميَّة، فإذا وجدت جذور مشتركة لبعض الكلمات في هذه اللغات فلا يعني ذلك أن إحدى اللغات المذكورة نقلت من الأخرى، ولا يُمكن الجزم بذلك فقد يكون سبب ذلك الاشتراك عودتها جميعًا إلى أصل واحد (¬2). ب- لو فرض أن لفظ (زكاة) مقتبس من العبرية فإنَّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس هو الذي نقله من العبريَّة إلى العربية، إذ أنَّ هذا اللفظ موجود في اللغة العربية قبل الإسلام، ولئن كان من معانيه في العربية ما يوافق بعض معانيه في العبرية مثل الطهر فإنَّ له معاني أخرى استقل بها في العربية، منها: (النماء والزيادة والبركة والصلاح والزكا والمدح) (¬3). ويشترك من ناحية ثانية مع كلمات عدّة، مِمَّا يدل على عمق دلالته في ¬

_ (¬1) انظر: ما علَّق به محمد يوسف موسى على مادة (زكاة) التي حرَّرها يوسف شاخت: دائرة المعارف الإسلاميَّة؛ مادة (زكاة)، (مرجع سابق)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج): ص 95 - 175، الطبعة الثالثة 1394 هـ - 1974 م، عن دار القلم، الكويت، وانظر: يوسف القرضاوي: فقه الزكاة: 1/ 181 - 183 و 191 و 2/ 921، الطبعة الرابعة والعشرون، 1418 هـ / 1997 م، عن مؤسسة الرسالة، بيروت، وانظر: محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: ص 205 - 221. (¬2) انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: 2/ 213، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (زكى)، وانظر: ابن فارس: معجم مقايس اللغة: مادة (زكى).

اللغة العربية وأصالته، بينما الكلمات المقترضة من لغة أخرى تكون جامدة، ومقطوعة الصلة بغيرها من الكلمات الأخرى في تلك اللغة التي نقلت إليها (¬1). ج- جعل الإسلام للزكاة مفهومًا شرعيًّا متميِّزًا وهو زكاة الأموال وعروض التجارة بصفة محدَّدة ومقررة شرعًا، ويؤكد الباحثون بأنّ الإسلام استخدم هذا المعنى أو المفهوم الشرعي قبل الهجرة وبعدها. د- مِمَّا سبق الرد به على شبهات المستشرقين التي تدور حول دعوى التشابه تبين أنَّ التشابه حدث بسبب وحدة المصدر، وحيث إنَّ الزكاة قد فرضت في الأديان والشرائع السابقة للإسلام؛ فإنَّ ذلك مدعاة للتشابه فيما بين أحكام تلك الأديان والشرائع وبين أحكام الإسلام، وفي سياق قصص الأنبياء والرسل الذين ذكرهم اللَّه جل وعلا لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورد ما يبين مشروعية الزكاة في شرائعهم، كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء: 73]، وقوله عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]. وإذا كانت هذه الأوجه كفيلة بدحض مزاعم (شاخت) وإسقاط الاحتجاج بها؛ فإنَّ هناك أوجهًا أخرى كثيرة تبين بجلاء استقلال تشريع الزكاة في الإسلام عما هو معهود في الشرائع السابقة للإسلام وعن النظم المعاصرة في المجتمعات الغربية، وهو ما يعرف بالضمان الاجتماعي، وأنَّه كما قال أحد الباحثين يُعَدُّ معجزة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الاقتصادية (¬2). وهذا التميُّز الذي اتسم به تشريع الزكاة في الإسلام ليس محصورًا في ¬

_ (¬1) انظر: محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 213، 214. (¬2) انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: ص 221، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة: ص 95 - 175، (مرجع سابق).

ناحية دون أخرى بل في كل ناحية (سواء في صفته الإلزامية، أو في تحديده التفصيلي أو خصائصه الاقتصادية، أو في استخدامه للسلطة الاجتماعية في إعادة التوزيع من الأغنياء إلى الفقراء، أو في عزله الصارم لموارد الزكاة عن مالية الدولة العامَّة) (¬1). ويُمكن الاقتصار في الرد على مزاعم (شاخت) بإيراد مثالين -فقط- يبين أحدهما أهمَّ الفروق بين تشريع الزكاة في الإسلام وبين الواجبات الدينية في الديانات الأخرى، ويبين الآخرُ الفارقَ بين تشريع الزكاة في الإسلام -أيضًا- وبين التشريعات المعاصرة للضمان الاجتماعي في الدول الصناعية (¬2). أمَّا الأول: فإنَّ (الواجبات الدينية في الديانات الأُخرى هي أساس لتمويل وظيفة الوساطة الدينية، ولإعاشة رجال الدين وتشغيل وإنشاء المعابد) (¬3)، على حين تكون الزكاة في الإسلام مقصورة بالدرجة الأولى (على الفقراء، وقد حرمت الزكاة والصدقة عمومًا على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله، وعلى العلماء بالشريعة إلَّا أن يكونوا فقراء فيتقاضونها بصفة الفقر لا بصفة العلم والدين، بل اتفقت المذاهب الأربعة على أنَّه لا يجوز صرف الزكاة حتى لبناء المساجد، بل ينبغي بناؤها من غير أموال الزكاة) (¬4). ¬

_ (¬1) محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 221. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: 2/ 219 - 222. (¬3) محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 219، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة: ص 128 - 129، (مرجع سابق). (¬4) محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 219، وانظر يوسف القرضاوي: فقه الزكاة: ص 644 (مرجع سابق)، وانظر: ابن قدامة: المغني 2/ 497، (مرجع سابق).

وأمَّا الثاني: فإنَّ (التشريعات المعاصرة للضمان الاجتماعي في الدول الصناعية (تولدت) نتيجة تعاظم القوة السياسية للفئات الاجتماعية المستفيدة منه، وتهديدها الصريح أو الضمني للمجتمع إن لم يستجب لمطالبها) (¬1)، على حين كان تشريع الزكاة في الإسلام أحد أركان الإسلام الخمسة، وجاء (جزءًا من نظام حياة متكامل أوحي إلى نبي أمّي) (¬2). وقد لفت نظر بعض الباحثين ذلك الموقف الحازم الحاسم الذي وقفه أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- من مانعي الزكاة، وقال: (واللَّه لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة) (¬3)، إذ كان ذلك الموقف (حدثًا فريدًا في تاريخ الإنسانية، وهو أن يخاطر مجتمع بوجوده فيدخل حربًا لمصلحة فقراء وضعفاء لم يكن لهم فيه وزن سياسي متميز، وما كانوا ليفكروا أو ليقدروا على التشويش أو إحداث القلاقل والاضطراب تأكيدًا لمصالحهم) (¬4). * * * ¬

_ (¬1) محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: 2/ 221، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: 2/ 221. (¬3) سبق تخريجه: ص 846، (البحث نفسه). (¬4) محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 220.

تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها • تمهيد • مفهوم الاستخلاف وأهميته. • مقومات الاستخلاف بعامة. • مقومات استخلاف الأمَّة الإسلاميَّة بخاصة. • موقف المستشرقين من تحقيق الاستخلاف.

تمهيد

تمهيد يتحقق الاستخلاف بإقامة دين اللَّه في الأرض، وذلك من أبرز أهداف تميز الأمّة الإسلاميَّة لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فبإقامة دين اللَّه في الأرض بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان باللَّه يتحقق الاستخلاف في الأرض، وتضطلع الأُمَّة بحمل الأمانة.

مفهوم الاستخلاف وأهميته

مفهوم الاستخلاف وأهميته أ- معنى الاستخلاف في اللغة: أصل الاستخلاف في اللغة من (خَلَفَ)، وله -كما قال ابن فارس-: (أصول ثلاثة، أحدها: أنْ يجيء شيءٌ بعد شيء يقوم مقامه، والثاني: خلاف قُدَّام، والثالث: التغيُّر؛ فالأول: الخَلَف، والخَلَف: ما جاء بعد، ويقولون: هو خَلَفُ صِدقٍ من أبيه، وخَلَفَ سوء من أبيه؛ فإذا لم يذكروا صدقًا ولا سوءًا، قالوا للجيِّد: "خَلَفٌ"، وللرديِّ: "خَلْفٌ") (¬1). وقال الفيروزآبادي: (الخَالِفَة: الأُمَّة الباقية بعد الأُمَّة السالفة والخليفة: السلطان الأعظم. . . كالخليف (وجمعه) خلائف وخلفاء، وخَلَفَه خلافَةً: كان خليفته، وبقيَ بعده) (¬2). وقال الراغب الأصفهاني: (الخلافة: النيابة عن الغير إمَّا لغيبة المَنُوبِ عنه، وإمَّا لموته، وإمَّا لعجزه، وإمَّا لتشريف المُسْتَخْلَف، وعلى هذا الوجه الأخير: استخلف اللَّه أولياءه في الأرض، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 39] {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57]، وقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57] (¬3). ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57]: ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، مادة (خَلَفَ)، (مرجع سابق). (¬2) القاموس المحيط، مادة (خَلَفَ)، (مرجع سابق). (¬3) مفردات ألفاظ القرآن: مادة (خلَفَ)، (مرجع سابق).

(أي: يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه) (¬1). وفي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، قال بعض المفسرين: (هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلام أبي البشر، وفضله، وأنّ اللَّه -حين أراد خلقه- أخبر الملائكة بذلك، وأنّ اللَّه مستخلفه في الأرض) (¬2)، وقد أشار بعض المفسرين إلى أن المراد بالخليفة في الآية المذكورة هو آدم وبنوه (¬3). وللعلماء في خلفة وخلائف وخلفاء آراء كثيرة، منها: (الخلافة عن اللَّه، ومنها: أن خليفة بمعنى خلفاء يعقب بعضهم بعضًا ولا بقاء لهم، ومنها: أنهم يخلفون من كان قبلهم من الجن بعد أن أهلكهم اللَّه بسبب فسادهم) (¬4). وقد اعترض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- على القول بأن الإنسان خليفة اللَّه في الأرض احترازًا مِمَّا يحمله هذا القول من تأثير فلسفي مؤداه (قولهم: الإنسان هو العالم الصغير وضموا إليه أن اللَّه هو العالم الكبير، بناءً على أصلهم الكفري في وحدة الوجود، وأنّ اللَّه هو عين وجود المخلوقات، فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات، ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوى الربوبيَّة والألوهية المخرجة لهم إلى الفرعونية والقرامطة والباطنية) (¬5)، بيدَ أنَّ بعض ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 9/ 37، (مرجع سابق). وانظر: الرازي: التفسير الكبير 6/ 365، (مرجع سابق)، وانظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن 3/ 433، (مرجع سابق). (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 1/ 70 - 73، (مرجع سابق). (¬3) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 70 - 73، (مرجع سابق). (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 1/ 71، وانظر: الفخر الرازي: التفسير الكبير 1/ 388، 389، (مرجع سابق). وانظر: الشوكاني: فتح القدير 1/ 62، (مرجع سابق). (¬5) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة 35/ 44، (مرجع سابق).

المفكرين ناقش المقصود من الخلافة مستندًا إلى ما ورد في معناها من كونها النيابة عن الغير لتشريف المستخلف (كما ذكر ذلك الأصفهاني)؛ ولأنّ ما ذهب إليه شيخ الإسلام لا يتأتى في هذا المعنى المشار إليه (¬1)، وقد عزَّز ذلك أحد المفكرين بقوله: (إنَّ القول بخلافة الإنسان للَّه -عز وجل- في الأرض جائز، ولا يلزم من ذلك خلو الأرض من سلطان اللَّه -عز وجل-، فكما أن المؤمنين يرثون الأرض ويتبوؤن من الجَنَّة حيث يشاؤون في الآخرة، واللَّه -عز وجل- هو الذي يورثهم إياها، دون أن يلزم من هذا المعنى والمفهوم موت الموروث جل جلاله ولا غياب هيمنته أو خلو الجنّة من سلطانه، كذلك يجوز القول بأن اللَّه تعالى حين استخلف الإنسان في الأرض أصبح الإنسان المؤمن خليفة له -عز وجل- دون أن يلزم من هذا خلو سلطانه من الأرض، أو غياب هيمنته عليها) (¬2). ثُمَّ إنّ الخلافة إمَّا أن تكون ممثلة في (آدم ومن قام مقامه في طاعة اللَّه والحكم بالعدل بين خلقه) (¬3)، وإمَّا أن تكون لجميع البشر يخلف بعضهم بعضًا، ومنهم من يخرج عن طاعة ربه ويكفر بما جاءه من الهدى (¬4)، ولذلك فرَّق بعض الباحثين بين مسمَّى (خلائف) ومسمّى (خلفاء)، وجعل (صيغة "خلائف" في الوراثة الزمنيَّة للأمم الكافرة التي أهلكها اللَّه، والتي يجب أن تكون الأمم الخالفة فيها مخالفة للأمم المخلوفة في نهجها وسلوكها) (¬5)، وجعل (صيغة "خلفاء" في الوراثة الدينيَّة الصالحة؛ لأنَّها ¬

_ (¬1) أحمد حسن فرحات: الخلافة في الأرض ص 15، الطبعة الأولى 1456 هـ - 1986 م، عن دار الأرقم - الكويت. (¬2) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض ص 70، الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م، عن مكتبة فرقد الخانجي، الرياض. (¬3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 70، (المرجع السابق نفسه). (¬4) انظر: أحمد حسن فرحات: الخلافة في الأرض: ص 23، (المرجع السابق نفسه). (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 27.

جاءت بعد انقضاء أجل الأُمَّة الصالحة، وهذا يعني أنّ على الأمة الخالفة أن تقتدي بالأمَّة المخلوفة، وأن تسير على نهجها وسلوكها) (¬1). ومهما بلغت الفوارق بين صيغ (خليفة) و (خلائف) و (خلفاء) و (مستخلفين) ونحو ذلك مِمّا ورد في قضية الاستخلاف فإنَّ العبرة بما قصَّهُ اللَّه من تفضيله لآدم عليه السلام وذريته على سائر المخلوقات، وما فطره عليه من التوحيد والعلم، وكذلك ما حدث منه وزوجه من معصية كانت سببًا لإخراجهما من الجنَّة، ثُمَّ ما حدث منهما من ندم وتوبة، وما تفضل به أرحم الراحمين (¬2) من قبول لتوبتهما، ومن ثُمَّ بدأ تاريخ الاستخلاف، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38 - 39]، وببداية الاستخلاف بدأ الصراع بين الخير والشر، فقد أهبط آدم وزوجه ومعهما إبليس إلى الأرض لتبدأ ملحمة العداء بين آدم هو وذريته في جانب مع إبليس وذريته في الجانب الآخر (¬3). قال بعض المفسرين: (ومن المعلوم أن العدو يجد ويجتهد في ضرر عدوه، وإيصال الشر إليه بكل طريق؛ وحرمانه الخير بكل طريق، ففي هذا (أي: قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]) تحذير بني آدم من الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 27. (¬2) اشتملت الآيات (30 - 39) من سورة البقرة على مجمل القصة، وما تشتمل عليه من دلائل ومضامين تتعلق بوجود الجنس البشري ومهمته في الحياة وعاقبته فيها إزاء موقفه ممَّا جاءه عن اللَّه من الهدى. (¬3) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 74، 78، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 304 - 312، (مرجع سابق).

لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] ثُمَّ ذكر الإهباط فقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] أي: مسكن وقرار، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36] انقضاء آجالكم، ثُمَّ تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أنّ مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة، ليست مسكنًا حقيقيًا، وإنَّما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار. . . {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أي: أي وقت وزمان جاءكم مني، يا معشر الثقلين، هدًى أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم مني، ويدنيكم من رضائي، فمن تبع هداي منكم، بأن آمن برسلي وكتبي، واهتدى بهم، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وفي الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]؛ فرتَّب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف، والحزن، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية، والهدى، وانتفى عنه كل مكروه، من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء، فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه) (¬1). يتبين من هذا ونحوه: أنَّ الاستخلاف ينطوي على شيء من الابتلاء والامتحان، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: 39] (¬2). ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 75، 76، 77، (المرجع السابق نفسه). (¬2) وانظر أقوال المفسرين في تفسير هذه الآيات لاستجلاء ما ينطوي عليه الاستخلاف من =

ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح

واقتضت حكمة اللَّه أن يتحقق الاستخلاف بظهور الحق، وانتصار الصالحين، وتمكينهم في كل دورة من دورات الصراع بين الحق والباطل، وأن تكون العاقبة للمتقين، وأن يؤول الاستخلاف إليهم؛ قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57]، وفي آية أخرى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، قال ابن كثير في تفسيرها: (أي: ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره) (¬1). وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح: أمَّا تعريف الاستخلاف في الاصطلاح فهو: (عبادة طوعيَّة للَّه بالتزام هديه وشرائعه ينشأ عنها ضبط للسلوك الإنساني في علاقته مع اللَّه وعلاقته بالكون والمخلوقات؛ بحيث تسير الحياة الإنسانية ضمن إطار الصلاح) (¬2). ¬

_ = الابتلاء والامتحان، وعلى سبيل المثال انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 409، (مرجع سابق)، فقد أشار لشيء من ذلك، واستشهد ببعض الأحاديث وبعض المواقف التاريخية، وذلك عند تفسيره الآية 14 من سورة يونس. (¬1) تفسير القرآن العظيم 4/ 182، (مرجع سابق). (¬2) أحمد حسن فرحات: الخلافة في الأرض: ص 21 (مرجع سابق). وانظر: فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض: ص 6، 7، (مرجع سابق)، وانظر: محمد الصادق عرجون: الأُمَّة الإسلاميَّة كما يريدها القرآن العظيم: ص 96، (مرجع سابق). وانظر: عبد الحميد النجار: خلافة الإنسان بين الوعي والعقل (بحث في جدلية النص والعقل والواقع): ص 47، 48، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م، عن دار الغرب الإسلامي - بيروت.

د- أهمية الاستخلاف

د- أهمية الاستخلاف: يشتمل استخلاف الإنسان في الأرض -كما ذكر بعض الباحثين- على علاقتين هما وجهان لحقيقة واحدة، وهي الخلافة أو الاستخلاف: أمَّا العلاقة الأولى فهي (بين الإنسان وربه. . . تتمثل في الخضوع والطاعة والاستجابة واستسلام الخليفة لمن استخلفه، أو هكذا يجب أن تكون، وبكلمة واحدة نعبر بها عن هذه العلاقة نقول: إنها عبودية، أمَّا العلاقة الثانية من علاقتي الخلافة، فإنَّها تتمثل في سيطرة الإنسان الخليفة وهيمنته واستغلاله وحاكميته وتسخيره لكل ما استخلفه اللَّه عليه، أي: لكل ما في الأرض وما عليها، وما في باطنها من أشياء وأحياء، وبكلمة واحدة نقول: إنّ الإنسان سيد عليها، أي: أنّ هذه العلاقة تسمى سيادة، فالخلافة: عبوديَّة وسيادة) (¬1). كما أنَّ هذه السيادة لا تتأتى للإنسان في وضعها الصحيح إلَّا بتحقيق العبوديَّة للَّه (فماذا لم يحقق الإنسان عبوديته للَّه فإنَّه يضيع سيادته في الأرض؛ لأنَّه إذا لم يحقق الإنسان عبوديته للَّه وحده، فإنه سيسقط بالضرورة في عبوديته لغير اللَّه ومن ثُمَّ يفقد سيادته على هذا الغير، وإذا لم يحقق الإنسان سيادته في الأرض، فإنَّه بالتالي يصعب عليه أن يكون عبدًا للَّه -عزَّ وجَلَّ- وحده، والمثل الواضح على هذا هو الوثني الذي يتوسل إلى اللَّه بأحياء أو أشياء مادية، فإنَّ هذا التوسل أو التزلف بها إلى اللَّه هو المانع الأول والحقيقي لسيادة الإنسان عليها ما دام يعتقد أنها أفضل منه وأقرب إلى اللَّه -عز وجل- فكيف يُمكن أن يسخرها لنفسه؟ وهذا التوسل شرك ¬

_ (¬1) فاروق دسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض ص 18، 19، (مرجع سابق). وانظر: عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان: ص 31، 34، 35، 49، 51، 52، 72، 99، 125، (مرجع سابق).

باللَّه -عز وجل-، ومن ثمَّ فالشرك أو الكفر فقد للسيادة، وفقد للعبوديَّة، والتوحيد تحقيق للسيادة، وتحقيق للعبوديَّة؛ لأنّ معنى إفراد اللَّه بالعبادة استعلاء الموحد على كل ما سوى الإنسان في الأرض، وهذا معنى السيادة) (¬1). وبهذا تتضح أهميَّة الاستخلاف، وأنّه هدف مهم من أهداف تميز الأمّة الإسلاميَّة يقترن بهدف تحقيق العبوديَّة، وأن [استخلاف الإنسان في الأرض من أهم الأصول الاعتقادية للحضارة الإسلاميَّة، فإذا كان التوحيد الإسلامي هو إفراد اللَّه بالألوهية والربوبيَّة، فإنَّ (الاستخلاف) هو التطبيق العملي للتوحيد الإسلامي على جميع المستويات المختلفة للفعل الإنساني: الفردية والاجتماعية والتاريخية، بل وعلى مستوى الإنسان كنوع من أنواع الخلق. . . لذلك، فالاستخلاف هو الجانب الإنساني للتوحيد الإسلامي، ومن ثمَّ اختلفت -بالضرورة- الحضارة الإسلاميَّة -بمقتضى هذا الأصل- عن سائر الحضارات المخالفة لها، وبخاصة الحضارة الغربية المعاصرة التي تقف عقيديًا وتشريعيًا على النقيض من الحضارة الإسلاميَّة، التي تعتبر بحق هي الحضارة الإنسانية الصحيحة الحقَّة اللائقة بالإنسان (بوصفه إنسانًا)] (¬2). * * * ¬

_ (¬1) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض: ص 19 (مرجع سابق). وانظر: محمد خليل هراس: دعوة التوحيد (حقيقتها، الأدوار التي مرت بها، مشاهير دعاتها): ص 88 - 105، (مرجع سابق). (¬2) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض: ص 6، 7، (مرجع سابق) وانظر: محمد الصادق عرجون: الأمة الإسلامية. . . ص 7، 8، (مرجع سابق).

مقومات الاستخلاف بعامة

مقومات الاستخلاف بعامّة من خلال مفهوم الاستخلاف وأهميته يتضح أنّه على نوعين اثنين، أحدهما: استخلاف عام لجميع البشر، والآخر: استخلاف خاص بالمؤمنين، و (نستطيع أن نُمَيِّز بين نوعين من أنواع الخلافة: خلافة كونيَّة يشترك فيها الناس جميعًا، وخلافة شرعيَّة خاصة بالمؤمنين وحدهم) (¬1)، فالخلافة الشرعية (هي التي ينبغي أن تمسك بزمام الخلافة الكونيَّة لتضبط حركتها، ولتوجهها إلى طريق الخير) (¬2). ينبغي إجمال مقومات استخلاف الأُمَّة بعامَّة، ثُمَّ يعقبه مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة بخاصة، أمَّا مقومات الاستخلاف بعامَّة فيمكن بيانها فيما يأتي: أولًا: العلم: أساسه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، قال ابن قيم الجوزية -في صدد حديثه عن قصَّة استخلاف آدم عليه السلام في الأرض وسؤال الملائكة ربهم بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]: (إنّه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خصَّه به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة، وأمرهم بالسجود له تكريمًا له وتعظيمًا له، وإظهارًا لفضله، ثُمَّ إنّه سبحانه لما علم آدم ما علَّمه، ثُمَّ امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه فأنبأهم به آدم، وكان في طي ذلك جوابًا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض فإنَّه يفسد فيها، ¬

_ (¬1) أحمد حسن فرحات: الخلافة في الأرض: ص 38، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 38.

ويسفك الدماء، فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان ظنهم) (¬1). وبهذا تتضح أهميَّة العلم في الاستخلاف، وأنَّه من مقومات الاستخلاف الرئيسية، وفي ذلك يقول أحد الباحثين: (أمَّا تحقيق السيادة فيقوم على ركيزتين، الأولى: وهبها اللَّه للإنسان فهي ركيزة ذاتية وتتمثل في الفاعلية الإنسانية، التي تعمل بترشيد من العلوم التجريبيَّة التي تمكن الإنسان من توسيع دائرة عمله، وتأكيد وترسيخ وتقوية فاعليته، فعلم الأسماء يدخل مقومًا أساسيًا في هذه الركيزة؛ لأنّ العلم التجريبي ليس سوى معرفة خصائص الأشياء، والقوانين التي تحكم العلاقات والتأثير بينها، فإذ عرف الإنسان طبيعة الشيء، أو الحي وخصائصه، وتأثيره وتأثره بغيره استطاع تسخيره له والانتفاع به، وتحقيق سيادته عليه، فالعلم التجريبي هو المؤهل الذاتي المحقق لسيادة الإنسان في الأرض) (¬2). ومِمَّا يلحظ في قضية الاستخلاف من حيث المبدأ والتاريخ، أنَّ هذا النوع من العلم قد ينفك عن الخلافة الشرعيَّة، ويتأتى للأمم الكافرة، وتستطيع عن طريقه أن تحقق شيئًا من السيادة والعلو في الأرض، وبمعنى آخر أن تقيم حضارة بالمفهوم الوضعي، وقد وصف اللَّه بعض الناس بأنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، قال ابن عباس في تفسيرها: (يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جُهَّال) (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد 4/ 138، 139، عن دار الفكر (بدون تاريخ)، وانظر: بدائع التفسير 1/ 303، 304، (مرجع سابق). (¬2) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض ص 23، 24، (مرجع سابق) وانظر: صبحي الصالح: الإسلام ومستقبل الحضارة: ص 26 - 30، الطبعة الثانية، 1995 م، عن دار قتيبة - بيروت. (¬3) صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم: ص 399، (مرجع سابق). وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/ 427، (مرجع سابق).

وقال بعض المفسرين: (إنَّما يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا فينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر، الذي في رأيهم، انعقدت أسباب وجوده، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئًا، فهم واقفون مع الأسباب، غير ناظرين إلى مسببها، المتصرف فيها، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، قد توجهت قلوبهم، وأهواؤهم، وإراداتهم إلى الدنيا، وشهواتها، وحكامها، فعملت لها، وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الآخرة، ومن العجيب أن هذا القسم من الناس، قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا، إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب، وأظهروا من العجائب الذريَّة، والكهربائية، والمراكب البرية والبحرية والهوائية، ما فاقوا به وبرزوا، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزًا عما أقدرهم اللَّه عليه) (¬1). ويندرج تحت هذا النوع من العلم ما توصَّل إليه الإنسان في هذا العصر من (أنواع المعارف الإنسانية، سواء كان مصدرها العقل كالرياضيات، أم الحس والتجربة بالإضافة إلى العقل كالطب) (¬2). ولكنها مهدَّدة بصور عدّة من العقاب الإلهي إذا لم ترتبط بالإيمان باللَّه، والسير في طريقه المستقيم، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، وقال تعالى: {فَكُلًّا ¬

_ (¬1) السعدي: تيسر الكريم الرحمن 6/ 111، 112، (مرجع سابق). (¬2) عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي (دراسة نقدية في ضوء الإسلام): ص 48، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م، عن المعهد العالمي للفكر الاسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ومكتبة المؤيد - الرياض، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 33، 34، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، (مرجع سابق).

أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 42 - 45] فهذه الآيات تبين -بجلاء ووضوح - أنّ اللَّه عز وجل علم الإنسان، وبهذا العلم مكَّنه من استعمار الأرض وعمرانها وسيادته عليها وعلى كثير من المخلوقات الموجودة فيها حتى من بني جنسه، وأنّ هذا التمكين يُمثّل البلاء والامتحان، فإنْ أحسن وحقق عبوديته للَّه واستقام على الطريق المستقيم فاز في الدنيا والآخرة، وإن تنكب الطريق وظلم وطغى وبغى فإنَّه يصبح عرضة للعقاب التدريجي الذي يمثل الإنذار والدعوة لتصحيح المسار والعودة إلى صراط اللَّه المستقيم فإن حدث هذا تاب اللَّه عليه ومتعه إلى حين، وهذا ما حدث لقوم يونس عليه السلام، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 96 - 98]، وإن استمر الإنسان في انحرافه ولم يتعظ تتابعت عليه الآيات، وكانت كل آية أكبر من أختها (¬1)، حتى يتم (الاستئصال التام كما حدث لقوم لوط وفرعون وغيرهم) (¬2). ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48]. (¬2) عبد السلام بن نصر اللَّه الشريف: سنة اللَّه في عقاب الأمم في القرآن الكريم: ص 49، 50 الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م عن دار المعراج الدولية للنشر - الرياض.

ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 9 - 10]. وقد يسلب اللَّه الأمَّة التي أخفقت في حمل الرسالة سلطانها ويصيبها بهيمنة أمة أخرى عليها (¬1)، كما حدث لبني إسرائيل، ولمشركي مكة، والفرس والروم، فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى استخلف الأُمَّة الإسلاميَّة فسادت وهيمنت بشرع اللَّه عليهم جميعًا، وإذا كانت الحضارة الغربيَّة وما يلتف حولها من أمم في العصر الراهن تتطلع للسيادة والهيمنة وذريعتها في ذلك العلم ومناهجه التجريبيَّة والتطبيقيَّة ونحوها، فإنَّها ستواجه المصير الذي آلت إليه الأمم من قبل؛ لأنَّها حصرت -في مسارها العام- (العلم فيما جاء عن طريق التجربة والخبرة الحسيَّة وحدها) (¬2)، وفصلت بين عالم الغيب وعالم الشهادة. وعن ذلك يقول أحد المفكرين: (وعليه فإنَّ العلم باصطلاحهم محصور -مصدرًا- في التجربة، -وميدانًا- في المجال الرياضي ¬

_ (¬1) انظر: عبد السلام بن نصر اللَّه الشريف: سنة اللَّه في عقاب الأمم: ص 50 و 29 - 61 (المرجع السابق نفسه)، وقد تحدث المؤلف في تلك الصفحات عن سنة العقاب؛ (مفهومها وأدلتها) وعن ضوابطها، وعن أشكال العقاب وأنّ منها العام ومنها العقاب المعنوي ومنها العقاب الحسي، وما وقع للأمم المكذبة من هذه الأشكال. (¬2) انظر: عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: مصادر المعرفة ص 48، (مرجع سابق).

والطبيعي، وما يقبل موضوعه الخضوع للتجربة والاستقراء والمقاييس الكميَّة، وهذا التحديد لمفهوم العلم متولد من المذهب التجريبي في الفلسفة المعاصرة، الذي يتمثل في اتجاهات فلسفية، أبرزها الاتجاهان: الوضعي والماركسي، وقد أدى هذا المفهوم. . . إلى إنكار العلم فيما يتجاوز ميدان التجربة، وهو: عالم الطبيعة، وإنكار عالم ما وراء الطبيعة وكل ما كان مصدره الوحي الإلهي أو الشعور الأخلاقي من العلوم) (¬1)، وبذلك شقيت أمم الغرب ومن دار في فلكها بهذا العلم، وصرَّح نخبة من المفكرين الغربيين بإفلاس الحضارة الغربيَّة، وما أسموه بالانتحار العلمي (¬2). يقول رجاء الجارودي: (إن حضارتنا تقوم على أسس خاطئة، فنحن في المرحلة الأخيرة من الحضارة التي لا تكاد تبدأ، ما زلنا لا نعرف أن نحدد لأنفسنا غايات حقيقيَّة، ولا نسيطر على وسائلنا، إن حضارتنا تقوم على هذه الموضوعات الثلاث: • تحيل الإنسان إلى العمل والاستهلاك. • تحيل الفكر إلى ذكاء. • تحيل اللانهائي إلى الكم) (¬3). ثُمَّ يقرر: (إنَّها حضارة مؤهلة للانتحار، انتحار لفقدان الهدف، يشهد على ذلك ضروب الفرار إلى المخدرات، وانتحار المراهقين بأعداد أكبر في الأصقاع الأغنى، انتحار لإفراط الوسائل، يبرهن على ذلك مثلًا المنظور الجائز لنضوب المصادر الطبيعية والتلوث، وذلك نتيجة لازمة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 47، 48. (¬2) انظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 766 - 797، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 767، ولعل الأصح من قوله: (تحيل) أن يقول: (تحول).

ثانيا: التسخير

لتصور لا يرى في الطبيعة شيئًا آخر، سوى أنها مستودع ومعمل) (¬1)، أمّا الإسلام فإنَّه ينظر إلى العلم باعتباره يشتمل على (جميع أنواع المعارف الإنسانية، سواء كان مصدرها العقل -كالرياضيات- أم الحسّ والتجربة، بالإضافة إلى العقل -كالطب- أو النقل والسماع -كاللغة- أو الوحي والنقل -كعلوم الدين-) (¬2). وعلى هذا فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي الوارث الشرعي للخلافة، وهي الأحق بالاستخلاف، وما من شيء يحول دون ذلك إذا هي جدَّدت صلتها بدينها، وتلتزم صراط اللَّه المستقيم تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. ثانيًا: التسخير: وهو من المقومات العامَّة للاستخلاف في الأرض، ويعني ذلك أن اللَّه سخر ما في الكون من مخلوقات على نحو يتمشَّى مع استخلاف الإنسان في الأرض، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]، وفي سورة النحل وردت ¬

_ (¬1) نقلًا عن: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلامية: ص 767، (المرجع السابق نفسه)، وانظرت فاروف الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض: ص 131 - 149، (مرجع سابق) وقد ركَّز على رؤية (تويني) في سقوط الحضارة الغربية. (¬2) عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: مصادر المعرفة ص 48، (مرجع سابق).

ئلاث عشرة آية على التوالي تعرض (صورة جامعة للكون في شيء من التفصيل بذكر أقسامه الكبرى "عالم الأفلاك، عالم النبات، عالم الحيوان، إلخ" أوضحت ما سخره اللَّه للإنسان من منافع الطبيعة) (¬1)؛ (فللإنسان في الأنعام دفء ومنافع، وفي الخيل والبغال والحمير وسائل للركوب، وفي الشمس والقمر فوائد، والبحر يأكل من حيتانه، وتسير فيه السفن ليبتغي من فضل اللَّه، إنّ وصف الطبيعة بهذه الأوصاف، وعرض هذا الجانب النافع منها تحريضًا على استغلالها والانتفاع بها وتسليطًا للإنسان عليها بعد أن كان الإنسان يخاف من الطبيعة، بل يعبد بعض أجزائها) (¬2). وإضافة لهذا التسخير فإنَّ موجودات الكون تشتمل على عنصر الجمال الذي هو من عناصر الحضارة ممَّا يؤكد قضية الاستخلاف، وأنَّ التسخير مقومٌ من مقوماته العامَّة، ثُمَّ إنّ اللَّه -عز وجل- (أودع في الأرض من المنافع، والمعادن، والأنهار، والعيون، والثمرات، والحبوب، والأقوات، وأصناف الحيوانات، وأمتعتها، والجبال، والجنان، والرياض، والمراكب البهيَّة، والصور البهيجة) (¬3) (وأخبر عن منافعها، وأنه جعلها مهادًا وفراشًا وبساطًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات) (¬4)، ما يتسق مع خلافة الإنسان وما يحتاج إليه ليحقق ذلك الاستخلاف، ويستوي في التمتع بهذا التسخير البر والفاجر، والتقي والشقي، ولكن النهاية للتقوى والمتقين والوراثة النهائية لعباد اللَّه الصالحين، وفي ذلك وردت آيات كثيرة منها -إضافة لما سبق- قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا ¬

_ (¬1) محمد المبارك: دراسات أدبية لنصوص من القرآن: ص 58، 59، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 63. (¬3) ابن قيم الجوزية: بدائع الفوائد 1/ 141، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه 1/ 140.

عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام وهو يخاطب قومه في وقت كان فرعون يهددهم فيه بقتل الأبناء واستحياء النساء: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. هذان المقومان: العلم والتسخير، هما أبرز مقومات الاستخلاف بعامَّة مع ما يقتضيانه من العقل والأجل وعوامل القوة المختلفة والوسائل والأساليب، كذلك الإرادة والعزم، وكل ذلك ونحوه هيأه اللَّه للإنسان وزوده به، في إطار الفرد وعلى صعيد الأُمَّة، والآيات الدّالة على ذلك من الكثرة بمكان، وكذلك الأحاديث والآثار، والوقائع التاريخية مِمَّا لا يتسمع هذا المجال لذكره (¬1)، ولكن تكفي الإشارة إلى أن العلم والتسخير هما الأساس في كل ذلك، وأنهما مرتبطان بالاستخلاف الكوني القدري الذي قد يرتفع الإنسان به إلى أحسن تقويم، أو يرتد به إلى أسفل سافلين. وعن هذا قال أحد الباحثين: (بيَّن سبحانه أنَّ آثار الإنسان في الأرض تشتد، وأن قوته تزيد على الأشياء والأحياء، ويتمكن منها بالعلم، وأن الناس في المجتمعات التي تكون على درجة متقدمة في مجال السيادة بسبب زيادة حصيلتهم من العلم عادة أو غالبًا ما يفتنون وينحدرون في جانب الأخلاق، ويتسفلون في الجانب الإنساني، أي: جانب العبودية، ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك لدى: • فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض ص 17 - 75، (مرجع سابق). • عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل. . . ص 47 - 72، (مرجع سابق). • علي محمد نصر: استخلاف آدم عليه السلام: ص 8 - 63، 90 - 96، العدد [76]، من سلسلة دعوة الحق، السنة [7]، رجب 1408 هـ، فبراير 1988 م، رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة.

ومن ثمَّ تجري عليهم سنة فناء الحضارات بهذا السبب، ولا يغني تقدمهم في الجانب المادي عن ارتدادهم إلى أسفل سافلين في جانب العبودية، قال تعالى -مبينًا ذلك كله-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 82 - 85]. ويتضح لنا من قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} أن التقدم المدني والتقني والعمراني يحدث في جانب السيادة بسبب زيادة حصيلتهم في العلوم والخبرات، وقد فتنهم هذا كله فلم يستجيبوا لدعوة الرسل للسمو في جانب العبودية والارتفاع إلى أحسن تقويم، فحقَّت عليهم سنة اللَّه في فناء الحضارات) (¬1)، وما يقال عن العلم كمقوم للاستخلاف في مفهومه العام يقال عن المقوم الآخر، وهو التسخير. * * * ¬

_ (¬1) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض. . . ص 57، 58، (مرجع سابق).

مقومات استخلاف الأمة الإسلامية بخاصة

مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة يعد استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة هو الخلافة الشرعيَّة، كما تبين ذلك حين الحديث عن معاني الاستخلاف وأهميته، وبالنظر إلى مقومات الاستخلاف العامَّة وأبرزها العلم والتسخير، وبهذا يتضح أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي الوارث الشرعي لهما، وبيان ذلك في الآتي: أولًا: العلم: إن الأُمَّة الإسلاميَّة -في ضوء القرآن الكريم والسنّة النبوية، وما جاءا به (من إعلاءٍ لشأن العلم، وبيان قضاياه، وتحديد مساربه، وإبراز عطاياه، وضبط لقواعده ورؤاه) (¬1) - تفاعلت مع هذه الهبة الربانية والرحمة المهداة (¬2)، فقد تلقاه (الصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار، فكانوا مثالًا يحتذى، وأسوة لكل من اقتدى، وجاء جيل خيّرٌ فاضل، فجمع الآيات الكريمات، والأحاديث النبويَّة الهاديات، ومسالك التابعين وأقوالهم النيرات؛ ممَّا يتعلق بالعلم والمعرفة؛ لتكون منهاجًا وطريقًا للأجيال، وكذلك كان، [ففتَّحت] هذه الأحاديث والآيات بهداها ورؤاها عقولًا كبيرة، حتى غدت هذه العقول في عداد الكرامات، فأقاموا حضارة وأيُّ حضارة لمن تدبَّر واعتبر) (¬3). ولم يكن العلم في منظور الأُمَّة الإسلاميَّة، وفي واقعها التاريخي، وفاعليتها الحضاريَّة، مفصولًا عن الإيمان، بل ارتبط بإيمانها باللَّه تحقيقًا ¬

_ (¬1) فاروق حمادة: أسس العلم وضوابطه في السنة النبوية: ص 6، الطبعة الأولى 417 هـ، عن دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 11، 12. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 6.

لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، ولذلك (أجمع العلماء (كما حكاه ابن عبد البر) على أنَّ من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصَّة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع. واختلفوا في تلخيص ذلك، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأنَّ اللَّه وحده لا شريك له، ولا شبه له، ولا مثل له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، خالق كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، المحيي المميت، الحي الذي لا يموت، عالم الغيب والشهادة، هما عنده سواء، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن. والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنَّه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى، والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه حق، وأنّ البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنَّة، ولأهل الشقاوة والكفر والجحود في السعير حق، وأنَّ القرآن كلام اللَّه، وما فيه حق من عند اللَّه يلزم الإيمان بجميعه، واستعمال محكمه، وأن الصلوات الخمس فريضة، ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلَّا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض، ويلزمه علم ما يفسد صومه، وما لا يتم إلَّا به، وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضًا، وأن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب، ولزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع السبيل إليه، إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها، نحو: تحريم الزنى، وتحريم الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، والأنجاس كلها، والسرقة، والربا،

والغصب، والرشوة في الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل، وبغير طيب من أنفسهم، إلَّا إذا كان شيئًا لا يتشاح فيه، ولا يرغب في مثله، وتحريم الظلم كله، وهو كل ما منع اللَّه -عز وجل- منه رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتحريم نكاح الأمهات والبنات، والأخوات، ومن ذكر معهن، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وما كان مثل هذا كله ممَّا قد نطق به الكتاب، وأجمعت الأُمَّة عليه، ثمَّ سائر العلم وطلبه والتفقه فيه، وتعليم الناس إيَّاه وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم، والحكم به بينهم فرض على الكفاية، يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين بموضعه، لا خلاف بين العلماء في ذلك، وحجتهم فيه قول اللَّه عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فألزَم النفير في ذلك البعض دون الكل) (¬1). وقد فصل ابن عبد البر ما يتعلق بفرضية العلم على الفرد، وما يكون فريضة على الأُمَّة فيما يتعلق بالعلم النافع المتصل بالدين ومعرفة العبد ما أوجبه اللَّه عليه من فرائض وواجبات، وأن منها ما لا يعذر أحدٌ من أفراد الأُمَّة الإسلاميَّة بجهله، وهذا جانب تميزت به الأمة الإسلامية، بل إنّ الاستخلاف -والعلم من مقوماته الأساس- كان هدفًا من أهداف ذلك التميُّز تفرضه عقيدة الأُمَّة وشريعتها ومبادئها وقيمها الكبرى، ولم يشهد التاريخ أُمَّة من الأمم نظرت إلى العلم بهذا الشمول، وارتكز العلم في حياتها على الإيمان باللَّه، وكان مرتبطًا بتحقيق العبودية في حياتها كما كان عليه حال الأُمَّة الإسلاميَّة، فقد (حضَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه أن يصنعوا بالجيل، بل الأجيال من بعدهم كذلك، وكانت وصيته بذلك إلى جميع الأجيال في الأُمَّة الإسلاميَّة إلى قيام الساعة. ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله 1/ 57 - 59، (مرجع سابق).

ولمَّا تفرق أصحابه بعده في الأمصار جعلوها مراكز علميَّة وحلقات واسعة من الدرس والتلقي، فأبو الدرداء وعبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وآخرون في الشام، وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري في الكوفة، وأنس بن مالك وأبو موسى -من قبل- في البصرة، مع جلة من الصحابة الأبرار، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وآخرون في مصر، وابن عباس ونفر آخرون في مكة المكرمة، وعبد اللَّه بن عمر وأبو هريرة والسيدة عائشة وآخرون كثيرون في المدينة، ولم تبق حاضرة من الحواضر الإسلاميَّة إلَّا وجعلها أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم قاعدة للمعرفة، ومنارة للعلم، وتواريخ المدن الإسلاميَّة -ولجميعها تاريخ - شاهد على ذلك، وقد اضطر علماء الإسلام إلى كتابة تواريخ هذه المدن وسبقها العلمي، ولم يكن هذا التاريخ ليدور إلَّا على العلم والعلماء، وما أبدعوه وصنعوه، فتأريخ دمشق، وبغداد، وأصبهان، وجرجان، ونيسابور، والموصل، والجزيرة، وحمص، والقاهرة. . . وغيرها هي بين أيدي الباحثين والدارسين، وقد أثر الصحابة والتابعون عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التأكيد والتحضيض على تلقي طلاب العلم من الآفاق بالترحيب والسرور والرعاية، فقد أوصى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صحابته الكرام بقوله: "إنَّ الناس لكم تبع، وإنَّ رجالًا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا" (¬1)، وعملوا بهذه الوصية، فكانوا إذا جاءهم طلاب العلم قالوا لهم: "مرحبًا بوصية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-") (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 35، كتاب العلم، باب [4]، الحديث رقم [2650]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق). (¬2) جزء من كلام راوي الحديث السابق: المرجع السابق نفسه، الحديث نفسه، وانظر: البغوي: شرح السنة 1/ 229، 230، تحقيق: علي محمد عوض وعادل أحمد =

وإذا كان العلم -وهو على هذا النحو- يرتكز على جانب الأمور الدينيَّة؛ فإنَّ العلوم المتصلة بالحياة والمنافع الدنيويَّة ليست -في الإسلام- مفصولة عن العلوم الدينيَّة، بل تدخل تحت القاعدة الأصولية التي تقول: (ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب) (¬1)، ومن هنا كانت عناية العلماء المسلمين بأنواع كثيرة من العلوم التي تتصل بحياة الأُمّة الإسلاميَّة وسيادتها، وأداء رسالتها في الاستخلاف، وقبل ذلك بسبب مفهوم العلم كما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبويَّة، فقد جاء العلم بمفهوم (مطلق كل الإطلاق، شامل كل الشمول، ولا يقيده قيد، ولا يحده حد، وأنّه قابل باستمرار للتقدم والزيادة والتغيير والتطوير، وأنَّ هذا ليس مرده إلى الفهم الشخصي، الذي قد يخطئ وقد يصيب، بل إلى الخطاب القرآني الصريح، في مثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فمن الواضح كما قال أهل البيان: أن التنوين في لفظ (علمًا) يوحي بالاستغراق والشمول) (¬2). وبهذا المفهوم والمفهوم الذي قبله أسهمت الأُمَّة الإسلاميَّة في تطور الحضارة الإنسانية (وانطلق المسلمون بهذه الأفكار الفطريَّة السليمة المتقدمة إلى الحياة، (فكشفوا عن) كنوزها، واكتشفوا مجاهيلها، بحيويَّة وتفتح. . . وانطلقوا يبحثون في كل مكان. . . فالتهموا تراث اليونان، وبحثوه بعقل مفتوح، وبصيرة ناقدة، وعرفوا الطيب منه والخبيث، ولم يتوقفوا عنده، بل ساروا إلى الاختراع والبحث والتنقيب، حتى صححوا ¬

_ = عبد الموجود، (مرجع سابق)، وانظر: فاروق حمادة: أسس العلم وضوابطه ص 29، 30 (مرجع سابق). (¬1) من القواعد الأصولية وقد سبق ذكرها. وانظر: نجم الدين الطوفي: شرح مختصر الروضة 1/ 335 - 337، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، (مرجع سابق). (¬2) صبحي الصالح: الإسلام ومستقبل الحضارة: ص 49، (مرجع سابق).

ثانيا: التسخير

العلم، ووجهوه إلى النفع، وإلى الإفادة، وكان منهجهم التجريبي خير مثل على ذلك) (¬1). ثانيًا: التسخير: وكان مفهوم الأُمَّة الإسلاميَّة للتسخير ذا أثر عميق في انطلاقتها العلميَّة، وإفادتها من موجودات الحياة والكون من حولها، ذلك أنّ الإسلام، ومن خلال آيات القرآن الكريم (أزال ما بين الإنسان والكون من حواجز، ودفعه إلى اكتشاف آفاقه، إنَّه أول كتاب (أي: القرآن الكريم) وضع الإنسان وجهًا لوجه أمام مشاهد الطبيعة، كما تبدو للحس وفي الواقع، مستعرضًا أجزاءها الكبيرة والصغيرة وأنواعها وأجناسها وحركتها وسكونها ومراحل نمو مخلوقاتها، من إنسان وحيوان ونبات، إنَّه يعرضها مجردة من أساطير اليونان، وخرافات الهنود، فلا تحرك أمواج بحارها آلهة البحر، ولا تهيج رياحها الشياطين (بل يعرضها) متصلة الأجزاء، متتابعة الحوادث، منتظمة السير، مطردة السنن) (¬2)، وفي خلال هذا العرض يحفز العقل على النظر والتفكير وإعمال العقل للإفادة من هذه المخلوقات والعلم بما يحكمها من سنن، ولا سيما أنّها مسخرة للإنسان ليحقق استخلافه في الأرض. يقول أحد المفكرين: (وهل العلم إلَّا ملاحظة الحوادث واستقراؤها وجمعها وتصنيفها وضبط كمياتها ومقاديرها، وربط أجزائها بعضها في بعض في قانون عام مطرد، وذلك عن طريق الحواس من سمع وبصر، وعن طريق الفكر والعقل) (¬3). ويقول في مكان آخر: (وكان لهذه الفكرة ¬

_ (¬1) توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة. . . ص 300، (مرجع سابق). وانظر: موقف المستشرقين من إيجابيَّة الأمَّة الخيرة: ص 809 - 827، (البحث نفسه). (¬2) محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 34، (مرجع سابق). وانظر له: دراسات أدبية: ص 64، (مرجع سابق). (¬3) محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 35، (المرجع السابق نفسه).

نتائج عظيمة جدًّا من الناحيتين الفكريَّة والعلمية في الإطار العربي والإنساني، وكانت نقطة الانطلاق للتفكير العلمي المبني على التجربة واستخراج سنن الطبيعة، وكان لها أثر عميق في توجيه الحضارة الإنسانية وجهة جديدة كما كانت دافعًا لاستثمار الطبيعة والانطلاق في آفاقها الواسعة) (¬1)، وقبل ذلك قال: (لقد نقلت هذه الفكرة العرب من نوع من التفكير المجزأة المشوب بالوثنيَّة والخرافة إلى نوع آخر من التفكير الشامل المتحرر من الخضوع للطبيعة) (¬2). والحقيقة أن الأُمَّة الإسلاميَّة تميَّزت إلى جانب ذلك بتحقيق التوازن بين مفهوم العلم الشامل ومفهوم الاستخلاف الراشد. وتعد الحضارة الإسلاميَّة (في عصور الخلافة الراشدة، والدولة الأمويَّة، والعباسية هي الحضارة الإنسانية الكاملة الفذَّة في تاريخ الإنسانية، فقد عاشت البشرية -مؤمنها وكافرها- خلال عصور هذه الحضارة في ظل شريعة اللَّه ونظمه وحكمه، وكان العالم الإسلامي على أعلى درجة من التقدم العلمي والتقني في هذه العصور، فاكتمل للمسلمين أساسا، أو مقوما الحضارة، وما نعلم حضارة سواها اكتمل لها هذان الأساسان، ومن ثُمَّ نمت الحضارة الإسلاميَّة، وارتقت بجانبها الروحي والمادي بتوازن دقيق، فكانت وليدًا صحيحًا متناسقًا في ذاته، ومحققًا للأهداف الإنسانية العليا التي قامت من أجلها، وهي خلافة الإنسان. . في الأرض، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة كانت أقل دائمًا من عصر الخلافة الراشدة) (¬3). كما أنّ ما آلت إليه الأُمَّة الإسلاميَّة من تراجع في ميادين العلم ¬

_ (¬1) محمد المبارك: دراسات أدبية ص 64، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 64. (¬3) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض. . . ص 124، 125، (مرجع سابق).

والسيادة يعود في مجمله إلى الاختلال في مفهوم العلم، ومفهوم الاستخلاف وتطبيقاتهما في حياتها، وعن هذا الجانب قال أحد المفكرين: (إنّ الأُمَّة الإسلاميَّة في بدء أمرها سادت بالعلم والتمسك بهذا المفهوم وإعلاء شأنه، وفي انحدارها انتكست بتنحيته، والإعراض عنه، وها هي اليوم تدفع ثمن المعرفة والعلم غاليًا، فهي مستهلكة لسلعة غيرها بأبهظ الأثمان، ليس من حيث القيمة الحقيقية، بل جراء ثمن المعرفة التي أنتجت السلعة، وهناك معارف يحاول الآخرون حجزها عنها، والحيلولة دون وصول الأمَّة الإسلاميَّة إليها، وتعاني من جراء ذلك ما تعاني، ولهذا لابُدَّ من إعادة مفهوم السيادة العلميَّة والمعرفيَّة. . . بتخطيط محكم، وتنظيم دقيق ينبثق من روح الأُمَّة وفكرها، ورغبتها في بلوغ المعالي، وإنّ من أوجب الواجبات على أهل العلم فيها شعورهم بأنهم حملة رسالة يستشعرون ثقل الأمانة التي شرفوا بالانتساب إليها منطلقين وملتزمين بمبادئ القرآن والسنة، متواضعين خاشعين، فهم منارات هداية للأُمَّة لتكون مسلمة حقًّا، مؤدية لما أراد اللَّه منها صدقًا. . . {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]) (¬1). ويُمكن القول أنَّ مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة بخاصة إضافة لما ذكر من العلم والتسخير، وما يتبعهما من مقتضيات، جاء ذلك مجملًا في قول اللَّه عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا ¬

_ (¬1) فاروق حمادة: أسس العلم وضوابطه ص 16، (مرجع سابق).

اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وعلى هذا النحو جاءت الكثرة الكاثرة من الآيات المحكمات، وجاءت الأحاديث النبويّة الشريفة تبين مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، وتعدها بالنصر والرفعة والسيادة على الأرض والشهادة على الناس إذا هي حققت تلك المقومات: وأولها: الإيمان (فالإيمان بخصائصه هو منبع الاعتزاز باللَّه تعالى، والاعتزاز باللَّه هو مصدر الدوافع القياديَّة في الأمَّة الإسلاميَّة، وبهذا كان منصب الخلافة في أرض اللَّه بوضع إلهي، وتكليف سماوي، لا اختيار لها في فرضه عليها وتكليفها القيام بعبئه، وقد أوتيت هذه الأُمَّة من الوصايا الإلهية، والأوامر التكليفية، ومنحت من العوامل النفسية، والفضائل الخلقيّة، والحوافز التربويَّة ما مكن لها -يوم أن كان الإيمان والاعتزاز باللَّه يقودانها- من إعداد أقوى الدعائم الماديَّة للدفاع عن دعوة الحق، فكان يكفي أن تبلغ مسامع أحد خلفائها صيحة امرأة مسلمة من أبواب أسوار الأسر قائلة: "وامعتصماه" فيهب في تعبئة لكتائب الحق لا تعود إلى قلاعها حتى تريح الحق إلى ساحته، فهي أمَّة قد اختارها اللَّه لتكون خاتمة الأمم صاحبة الشرائع الإلهية، واختار نبيها -صلى اللَّه عليه وسلم- ليكون أكمل رسول بأكمل رسالة ختمت الرسالات السماويَّة، فكان لابُدَّ أن تكون رسالة جامعة لكل خير جاءت به رسالة سابقة عليها، إلى جانب ما يقتضيه تطور الإنسانية الفكري والاجتماعي من حقائق لم تكن تتطلبها، ولا تطيقها الأمم في طورها الفكري والاجتماعي) (¬1). (وقد جاءت النبوة الخاتمة نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- تحدد المنهاج النهائي ¬

_ (¬1) محمد الصادق عرجون: الأمَّة الإسلاميَّة ص 47، 48 (مرجع سابق).

للخلافة، وتتوج الوحي المرشد الذي بصَّر الإنسان منذ خلقته بمسالكها، وهذا المنهاج النهائي سيظل الموجّه الأبدي للإنسان فيما ينبغي أن يعتقد من حقيقة الوجود، وفيما ينبغي أن يسلك في تصريف الحياة، ويتصف هذا المنهاج النهائي للخلافة بشمول البيان لكل مناحي التصرف الإنساني في فكرة وسلوكه، ومصدره الأوحد هو اللَّه تعالى الذي أنزله بطريق الوحي إلى نبي مختار، وكلَّفه أن يبلغه للناس، وأسفر هذا الوحي عن أصلين نصيين هما: القرآن والحديث، واشتملا على كل ما في منهاج الخلافة من مضمون، وجعلا المرجع الأبدي لهذا المنهاج، يرجع إليهما الإنسان ليصوغ حياته على قدر ما فيهما من التحديد والإرشاد) (¬1). وثانيهما: تحقيق العبودية للَّه، وقد ذكرت الآية الأولى (محل الشاهد) الصلاة والزكاة، وهما العمل الصالح في الآية الأخرى (¬2)، والاقتصار على الصلاة والزكاة؛ لأنّ الصلاة عمود الإسلام، وتشتمل على مجمل العبادات وتأتي الزكاة لتؤكد الانتماء للإسلام بنوعٍ آخر من العبادة يعتمد على البذل والعطاء، وتعبيد المال للَّه، وقد سبق بيان ذلك. والثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا من المبادئ الإسلاميَّة ذات الخطر في قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، لأنها بهذا ¬

_ (¬1) عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل ص 52، 53، (مرجع سابق). (¬2) انظر: ابن تيمية: دقائق التفسير 4/ 393، (مرجع سابق). والعمل الصالح، وكذلك المعروف ونحوهما من مثل الخير والبر والإحسان، كل ذلك يرد في سياق الاستخلاف بصفة كل مفهوم من هذه المفاهيم (اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري، ويرتقي بسلوكهم والعلاقات المتبادلة بينهم) ماجد غرسان الكيلاني: إخراج الأمَّة المسلمة ص 59، (مرجع سابق) ولمزيد التفاصيل عن هدف الاستخلاف باعتباره من أهداف تميُّز الأُمَّة الأسلاميَّة. انظر: المرجع السابق نفسه: ص 58 - 62، 65 - 78.

المبدأ أو المقوم من مقومات استخلافها تضطلع بحمل المسؤولية (¬1) (لترفع راية الحق، ولتضع على الأرض موازين القسط بين الناس، إذا استقام أمرها على طريق اللَّه الذي رسمه منزلًا في كتابه، وذلك بقيام قادتها وولاة أمرها، وعلمائها العاملين، بما أوجبه اللَّه عليهم من العمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله، وتنفيذ حدوده وزواجره، والصدع بقول الحق، وأطر الظالمين على الحق أطرًا، قيامًا بحق النصح للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والوقوف في وجه أعداء اللَّه وأعداء دينه، وأمته بعزائم صارمة أداءً لحق تمكين اللَّه لهم في الأرض بما وضع في أيدي الحاكمين من قوة السلطان، ورهبة الكلمة، وصولة الراح للخارجين على الحق المنحرفين عن طريق الاستقامة، وبما وضع في قلوب العلماء من نور شريعته وهدايته، وبما أخذه عليهم من الميثاق ليقولون كلمة الحق ولا يكتمونه، وأن يكونوا في سلوكهم أسوة للناس يدعونهم بأعمالهم وأخلاقهم إلى آفاق العزّة والكرامة وإخلاص الدين للَّه) (¬2). وفي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشريف للأُمَّة الإسلاميَّة، إذ (لم يقف التوجيه الإسلامي بالأُمَّة عند هذا، ولكنه ناط بها أمانة القيام بأعباء الحق الذي تدعو إليه، فأشركها في أقوى دعائم الدفع القيادي على أسس الإخاء والمحبة تعززًا باللَّه تعالى وعزته، وقوته وقهره باعتبارها النموذج الأفضل لقوة الرقابة على تنفيذ معاقد الحق تنفيذًا يستند إلى القيم الخلقيَّة، والفضائل الإنسانية) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: ابن تيمية: الحسبة في الإسلام: ص 69 - 117، تحقيق: سيد محمد بن محمد بن أبي سعدة، الطبعة الأولى 1453 هـ - 1983 م عن الرئاسة العامَّة لإدارات البحوث العلمية - الرياض. (¬2) محمد الصادق عرجون: الأُمَّة الإسلاميَّة ص 42، 43، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 46.

وقد اجتهد علماء الأُمَّة في تطبيق هذا المبدأ ليحقق المراد منه وفقًا لضوابط الشريعة في جلب المنافعٍ، ودفع المفاسد، وحققوا تميُّزًا فريدًا في مراعاة أحوال المكلفين ودقة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتعاملوا مع الأحوال بما تقتضيه من حكمة ولطف ورحمة. وعن هذا المعنى قال أحد الباحثين: (ومثال ذلك في تنزيل الحكم الشرعي في التكليف بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن ينظر في الوضع المعين الذي يكون فيه المكلف المأمور بالقيام بهذا الواجب، فرُبَّما أسفر ذلك النظر على أن هذا المكلف يتصف في نفسه بالقدرة على هذا الواجب، والتحمل لتبعاته نفسيًّا وبدنيًّا، وأن المخاطبين بالأمر والنهي يحدثون في أنفسهم، وفي المجتمع الضرر البالغ بما يأتون من المنكر وما يصدون عن المعروف، وأنهم يغلب على الظن أنهم يستجيبون عندما يُدعون، ورُبَّما أسفر ذلك النظر على عكس ذلك كليًّا أو جزئيًّا؛ من اتصاف المكلف بالضعف الذي لا يتحمّل معه تبعات هذا الواجب، واتصاف المخاطبين بحسب ما يغلب على الظن بالعناد الذي لا تجدي معه دعوة، أو بالشراسة التي يقابلون فيها الدعوة بالاعتداء الغليظ، أو بالحمق الذي ينهيهم إلى ترك ما نهوا عنه لفعل ما هو أبلغ ضررًا، وأشد مفسدة، وبحسب ما يحصل في العقل من هذه المعطيات يترجح أن ينزَّل على المكلف الحكم بوجوب القيام بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الحكم بإسقاط هذا الواجب عليه) (¬1). وما ذكر هنا سبق أن تطرق إليه العلماء، وفصلوا القول فيه وفي ¬

_ (¬1) عبد المجيد النجار: خلافة الانسان بين الوحي والعقل ص 118، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 3/ 70 - 76 تحقيق: عبد اللَّه دراز ومحمد عبد اللَّه دراز، (مرجع سابق) حين فصَّل القول عن الاجتهاد في النظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفيَّة، وتحقيق: مناط الاجتهاد في ذلك.

شروطه، وعلى سبيل المثال فإن ابن تيمية يقول: (ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود، ولابُدَّ في ذلك من الرفق. . . ولابُدَّ أيضًا من أن يكون حليمًا صبورًا على الأذى، فإنَّه لابُدَّ أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مِمَّا يصلح) (¬1). ثُمَّ يخلص إلى القول: (فلابد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأمر والنهي والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال) (¬2). وفي موضع آخر قال: (ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات، لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل، ونزلت الكتب، واللَّه لا يحب الفساد بل كل ما أمر اللَّه به فهو صلاح، وقد أثنى اللَّه على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مِمَّا أمر اللَّه به، وإن كان في ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي اللَّه في عباده، وليس عليه هداهم) (¬3). بيد أنَّ شيخ الإسلام أشار إلى جانب له أهميته في التوسط في هذا المبدأ والتجرد في النظرة إلى إنفاذه تحقيقًا لأمر اللَّه، وطاعة له عز وجل، ولئلا يتخاذل المسلمون في القيام بهذا المقوم من مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، قال: (وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف ¬

_ (¬1) الحسبة في الإسلام: ص 83، تحقيق: سيد بن محمد بن أبي سعدة (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 84. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 73، 74.

والنهي عن المنكر مِمَّا يوجب صعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه، وذلك مِمَّا يضره أكثر مِمَّا يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل، فإنَّ ترك الأمر الواجب معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها "كالمستجير من الرمضاء بالنار" (¬1). ومن الضوابط التي حدّدها العلماء -في ضوء قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد- أنَّهم جعلوا ما يتعلق بإزالة المنكر باليد: راجعًا إلى ولي أمر المسلمين، وليس إلى الرعيَّة، ونصوا على أن يتم التغيير باليد وليس بالسيف والسلاح، إلَّا ما كان من باب التعزير العائد لرأي السلطان، وذكروا -كذلك- أنَّ الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنَّما يقوم به السلطان. . . وينصب له من يرى فيه الصلاح والأمانة؛ وللعلماء في هذا نصوص كثيرة منها ما ذكره الإمام الجويني في قوله: (الشرع كله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والدعاء إلى ذلك يثبت لكافة المسلمين إذا أقدموا على بصيرة، وليس للرعية إلَّا الوعظ والترغيب) (¬2)، وقال البيهقي: (ينصب الإمام في كل بلدٍ رجلًا ¬

_ (¬1) الحسبة في الإسلام: ص 84، 85، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: فضل إلهي: شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ص 25 وما قبلها وبعده، حيث تعرض المؤلف لعدة شبهات مؤداها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردَّ عليها من وجوه كثيرة، ولكن يبقى الجانب الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-، مناطًا للاجتهاد في ضوء ما ذكره الإمام الشاطبي، وأشار إليها عبد المجيد النجار -فيما سبق ذكره-، وعن الحسبة وتطبيقاتها في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين؛ انظر: فضل إلهي: (الحسبة تعريفها، مشروعيتها، وحكمها) الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن مكتبة المعارف. الرياض. وانظر: له -أيضًا-: الحسبة في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين؛ -رضي اللَّه عنه-، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن مكتبة المعارف - الرياض. (¬2) أبو بكر الخلَّال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا: ص 94، الطبعة الأولى: 1395 هـ - 1975 م، عن دار الاعتصام، جدة.

قويًّا، وأمينًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم الحدود) (¬1) وذكر نحو هذا القرطبي (¬2)، وأمَّا تغيير المنكر باليد وليس بالسيف والسلاح؛ فهو مرويٌّ عن الإمام أحمد بن حنبل -رضي اللَّه عنه-. ويستنتج من هذه النقول نتائج كثيرة من أهمها: • أن تغيير المنكر باليد من حق الإمام وليس من حق الرعيَّة، وفي هذا ترسيخ الأمن واستتبابه، والقضاء على الفوضى، وما يؤدي إليها من الاجتهادات القاصرة ونحوها. • أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالبصيرة، ولا تتأتى إلَّا بالعلم الشرعي والوعي الشامل لأوضاع المجتمع، مِمَّا يدل على أنه من مسؤولية العلماء، فلا يجوز لغيرهم القيام بذلك، ولضمان كفاءة من يقوم بهذه المهمة ينبغي أن تتم من خلال جهات رسميَّة بالكيفيَّة الملائمة للزمان والمكان في ضوء ما يراه ولاة أمر المسلمين، فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتكليف من الإمام. وخلاصة القول: إنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي المعنيَّة بما ورد في الآيتين (محل الاستشهاد)، وهذا ما عليه أكثر المفسرين، وفي تفسير الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية. قال ابن كثير: (هذا وعد من اللَّه تعالى لرسوله صلوات اللَّه وسلامه عليه بأنَّه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع العباد، وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنًا وحكمًا فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى، وله الحمد والمنَّة فإنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمت حتى فتح اللَّه ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 94. (¬2) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2/ 31 (مرجع سابق). وانظر: البحث نفسه: ص 27 - 28.

عليه مكة، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة -الذي تملك بعد أصحمة- رحمه اللَّه- وأكرمه، ثُمَّ لمَّا مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختار اللَّه له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعد خليفته أبي بكر الصديق، فلَمَّ شعث ما وهى بعد موته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- ففتحوا طرفًا منها، وجيشًا آخر صحبة أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه- ومن تبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- إلى بلاد مصر؛ ففتح اللَّه للجيش الشامي أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه اللَّه عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق؛ فقام بالأمر قيامًا تامًّا) (¬1). ويستمر ابن كثير في ذكر الفتوحات الإسلاميَّة، وتمكين الأُمَّة الإسلاميَّة في عهد عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ في عهد عثمان -رضي اللَّه عنه-، وأن الدولة الإسلاميَّة بلغت في عهده أقصى بلاد الصين شرقًا، وأقصى بلاد المغرب والأندلس وقبرص، وأنَّه تحقق للأمَّة الإسلاميَّة ما وعدها به ربها عز وجل في الآية الكريمة، وما بشرها به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قال: "إنَّ اللَّه زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها" (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 3/ 300، (مرجع سابق)، والدعاء بالرحمة يعود الضمير فيه إلى النجاشي، وليس إلى أصحمة. (¬2) سبق تخريجه: ص 688، (البحث نفسه). (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 300 (المرجع السابق نفسه).

وتطرق في شرحه لما كانت على الخلافة الراشدة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي اللَّه عنهم- أجمعين، وأورد أحاديث تتعلق بمستقبل الخلافة الإسلاميَّة من بعدهم (¬1)، وختم ذلك بقوله: (فالصحابة -رضي اللَّه عنهم- أجمعين، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأوامر اللَّه -عز وجل- وأطوعهم للَّه، كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة اللَّه في المشارق والمغارب، وأيَّدَهُم تأييدًا عظيمًا، وحكموا في سائر العباد والبلاد، ولمَّا قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى يوم القيامة" (¬2)، وفي رواية: "حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك" (¬3)، وفي رواية: "حتى يقاتلون الدجال" (¬4)، وفي رواية: "حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون" (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه 3/ 301. (¬2) سبق تخريجه بلفظ مقارب، وله ألفاظ كثيرة عند البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والطبراني والحاكم، وغيرهم، ولفظه عند مسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم كذلك". صحيح مسلم 3/ 1523، كتاب الإمارة، باب: [53]، حديث رقم [1920]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وبلفظ آخر لدى مسلم أيضًا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"، صحيح مسلم 3/ 1524، كتاب الإمارة، باب [53]، حديث رقم [1923]، (المرجع السابق نفسه). (¬3) سبق تخريجه: مقدمة البحث نفسه: ص 21. (¬4) أخرجه الحاكم في مستدركه 4/ 450، (مرجع سابق) ووافقه الذهبي، ولفظه: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال". (¬5) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 137، كتاب الإيمان، باب [71]، الحديث رقم [156]، ولفظه:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول أميرهم: تعال؛ صلِّ بنا، فيقول: لا. إنَّ بعضكم على بعض أمراءُ تكرمة اللَّه هذه الأمّة". (مرجع سابق). وانظر: أبا يعلى =

وكل هذه الروايات صحيحة، ولا تعارض بينها) (¬1). على أنّ بعض الباحثين ركَّزَ مفهوم الخلافة والاستخلاف في جانبها السياسي، وأفضى به البحث إلى وجوب قيام الخلافة الإسلاميَّة، فهو يقول: (إنَّا نجد خلافة "الخلفاء" يتردد أمرها بين مدٍّ وجزر بحسب اقترابها أو ابتعادها من تعاليم الدين وقيمه، كما نلاحظ ذلك في تاريخ خلافة هذه الأُمَّة، وما انتهى إليه أمرها يوم أن تحطمت دولة الخلافة بعد أن فقدت مقوماتها الحقيقية، وانحرفت عن منهج اللَّه، فوقعت فريسة للقوى المتآمرة عليها المتربصة بها، وبذلك طويت صفحة من صفحات القوة في تاريخ هذه الأمَّة) (¬2). ثُمَّ يخلص إلى القول: (إن عصر الدول المعتمدة على نفسها، المكتفية بقوتها ومواردها، والتي لا ترى حاجة للتعاون مع غيرها قد ولَّى. . . لقد أصبح العالم بفعل التطور العلمي السريع كأنَّه بلد واحد، لقد قضت الاتصالات السريعة، والوسائل العلميَّة الحديثة، والمكتشفات على ما كان من عزلة بين الدول، فطويت المسافات البعيدة، وتداخلت مصالح الأمم والشعوب، فنشأت التكتلات العقائدية والفكرية، والتحالفات السياسية، ولم يعد مكان للدول المنعزلة، والدويلات الصغيرة في عالم الكبار. إنَّ هذا التطور جاء ليؤكد ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا حين أقام دولته على أساس العقيدة، وجعل أمته تضم شعوبًا وقبائل متعددة، ¬

_ = الموصلي: مسند أبي يعلى الموصلي 4/ 59، 60، الحديث رقم [2078]، ورقمه في مسند جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-[313]، ولفظه: "لا تزال أمتي ظاهرين على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم، فيقول إمامهم: تقدَّم فيقول: أنتم أحق بعضكم أمراء بعض، أمر أكرم اللَّه به هذه الأمة"، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م، عن دار الثقافة العربيّة - بيروت. (¬1) تفسير القرآن العظيم 3/ 302، (المرجع السابق نفسه). (¬2) الخلافة في الأرض: ص 54، (مرجع سابق).

تجمعها الأخُوَّة الإسلاميَّة، فكانت الخلافة الإسلاميَّة خلال التاريخ المظلَّة التي استظل بها المسلمون، والقوة التي حمتهم من بطش الغزاة) (¬1). وينهي بحثه قائلًا: (إنَّ ما نراه في واقعنا المعاصر يؤكد لنا أن للخلافة الإسلاميَّة مكانًا في عالمنا، فلابُدَّ لنا أن نسعى من جديد ليكون للمسلمين ما ينظم شملهم، ويحقق مصالحهم، ويحفظ وجودهم ولن نجد مثل الخلافة) (¬2). أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية فإنَّه تناول مسألة الخلافة والملك بشيء من التفصيل، وقال في خلاصتها: (قولان متوسطان: أن يقال: الخلافة واجبة، وإنَّما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يقال: يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره؛ إذ ما يبعد المقصود بدونه لابُدَّ من إجازته) (¬3). وذكر في ضمن تفصيلاته في هذا الجانب أنّ من أنظمة الملك ما يكون متقيدًا بما كان عليه الخلفاء الراشدين، وفي ذلك فسحة واسعة للأُمَّة الإسلاميَّة؛ لأنّ العبرة ليست في قوانين وأنظمة لا تتغير ولا تتبدل تحت مسمى (الخلافة) بل العبرة بالمنهج الذي يلتزم بالقرآن والسنّة وما كان عليه سلف الأُمَّة حتى ولو لم يُسَمَّ (خلافة)، وإنَّما سُمِّي مُلكًا لظرف أو آخر، ولعل هذا واضح في قول ابن تيمية: (وتحقيق الأمر: أن يقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إمَّا أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك قولًا وعملًا؛ فإن كان مع العجز علمًا أو عملًا كان ذو الملك معذورًا في ذلك) (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 55، 56. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 56. (¬3) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 24، (مرجع سابق). (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 35/ 25، (المرجع السابق نفسه).

موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأمة الإسلامية

موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة إنَّ قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة في الأرض بعد الأمتين اليهودية والنصرانية، ورسالتها في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيادة الناس كافَّة تحت راية لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وفي منهج اللَّه القويم وصراطه المستقيم، ومكافحتها للشر والباطل والفتنة، واضطلاعها بالنهي عن المنكر، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وما يترتب على ذلك من سيادة الأُمَّة الإسلاميَّة واستخلافها، يتعارض ذلك كله مع ما يطمح الكفار إليه من السعي للسيطرة على العالم وقيادته والتحكم في مصيره. وقد درج المستشرقون -في مسارهم العام- على الطعن في رسالة الأمَّة الإسلاميَّة، وتفسير هذا الهدف من أهداف تميُّزها بتفسيرات مختلفة كدعواهم أن هذا الهدف مضاد للحريات على صعيد الأفراد والجماعات، أو أنَّه يقضي على الإبداع والابتكار، ويعيق التطور والتقدم، وينطلقون في هذه القضية من منطلقات العداء للإسلام، والحسد لأمَّته، والتعصب المقيت للعقائد اليهودية والنصرانية. وقد اصطبغت دراساتهم -في الأعم الأغلب- بدوافعها الدينيَّة، والاستعماريَّة، والسياسيَّة، وغيرها، ويتضح ذلك في النقاط الآتية: الأولى: الصبغة الدينيَّة. الثانية: الصبغة الاستعمارية. الثالثة: الصبغة السياسيَّة. أمَّا الصبغة الدينيَّة، فقد ذهب نفرٌ من المستشرقين منهم (تنمان،

وفكتور كوزان، والكونت جوبينو، وكرستيان لاش، وكوتيه) (¬1)، إلى القول: بأنَّ الإسلام وكتابه المقدس (كانا بطبيعتهما سجنًا لحريَّة العقل وعقبة كأداء في سبيل نهوض فكر مبدع مبتكر وخلاق، إضافة لموقف حزب أهل السنة المحافظ الذي منع اتباعه عن البحث العقلي المجرد، وحال دون ظهور الآراء الحرَّة والمذاهب الفلسفية المستقلة) (¬2). ويأتي قول (كوزان) عن النصرانية على نحو آخر، إذ يقول: (المسيحيَّة هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان، وهي أيضًا أكملها، والمسيحية تمام كل دين سابق، وغاية الثمرات التي تمخضت عنها الحركات الدينيَّة في العالم، وبها (خُتِمَ) الدين، الدين المسيحي ناسخ لجميع الأديان كذلك كان الدين المسيحي إنسانيًّا واجتماعيًّا إلى أقصى الغايات، ومن أراد دليلًا فلينظر ماذا أخرجت المسيحية وجماعة المسيحيين للناس: أخرجت الحريَّة الحديثة والحكومات النيابيَّة، ثُمَّ ينظر من دون المسيحيَّة منذُ عشرين قرنًا سائر الأديان. ماذا أنتج الدين البرهمي والدين الإسلامي، وسائر الأديان التي لا تزال قائمة فوق الأرض؟ أنتج بعضها انحلالًا موغلًا، وبعضها أثمر استبدادًا ليس له مدى) (¬3). ويقول (كودتيه): (الدين الإسلامي دين سامي بحت، مفرق وموحد بأضيق المعاني غير عقلي، لا يتفق والتفكير الحر. . . وقليل الميل إلى التصوف. . ومن المحال أن نتصور دينًا أكثر منه تعارضًا مع الفلسفة ¬

_ (¬1) انظر: عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 38، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 39. (¬3) عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 39، (المرجع السابق نفسه).

الإغريقيَّة الآريَّة بأعمق المعاني، وبناءً على هذا فالعقل العربي عاجز عن استخلاص القوانين والقضايا، ووضع الفروض والنظريات، ومن ثُمَّ فإنَّه يمتنع على العقليَّة الإسلاميَّة أن تنتج آراء علميَّة ومذاهب فلسفية) (¬1). وممَّا استخلصه المفكر الإسلامي محمد البهي من دراسات المستشرقين أنَّ (الذي يسير عليه علماء الاستشراق في تقييم المبادئ الإسلاميَّة. . . إذا خالف الإسلام مثلًا في عرض مبادئه في القرآن ما تتضمنه النصرانية واليهوديَّة من مبادئ فاختلافه مع أيٍّ منهما دليل على أنَّه غير صحيح في نسبته إلى اللَّه) (¬2). ويذكر أيضًا (أنَّ الفيصل في هذا وذاك (في نظرهم مبادئ اليهودية والنصرانية)، وما يقوم عليه منهج الاستشراق على هذا النحو هو على العكس تمامًا مِمَّا جاء في القرآن الكريم من جعل القرآن نفسه هو الفيصل، والحُجَّة في أنَّ ما طابقه هو دين اللَّه بينما ما خالفه ليس من دين اللَّه بل هو دخيل عليه) (¬3)، ولعله يشير بهذا إلى قول اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا} [المائدة: 48]. وبالرجوع إلى جذور الاستشراق وتطوراته التاريخيَّة يتضح أن الدافع الديني والأهداف المرتبطة به ولَّدت حركة فكريَّة مضادة للإسلام، جاءت استجابة لنداءات أمثال (روجر بيكون) و (ريموند لل) اللذين طالبا بنقل المعركة والمواجهة مع الإسلام والأُمَّة الإسلاميَّة والغرب النصراني من ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: المرجع السابق: ص 39. (¬2) محمد البهي: الشباب والإسلام في مجتمعنا المعاصر، مجلة الأُمَّة، عدد صفر 1403 هـ: ص 20، الصادرة عن مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - قطر. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 20.

ساحة الحرب إلى ميدان الغزو الثقافي المضاد (¬1)، وهو ما أطلق عليه (رينان): (محاولات (لل) الراميَّة إلى استبدال الصليبية العسكريَّة بالصليبية الثقافيَّة) (¬2)، وقال عنه: (من المعلوم أن هدم الإسلام كان حلم جميع حياته، وقد قدم سنة (1311 م)؛ وذلك في مجمع (فيينا) الديني، ثلاث عرائض إلى كليمانس الخامس (بابا روما) حول إيجاد منظمة حربية جديدة لهدم الإسلام، وإنشاء كليات لدراسة العربية) (¬3). (أمَّا روجر بيكون فقد شدد على وجوب نقل الصراع ضد الإسلام إلى دائرة المواجهة العقائدية السلميَّة، حيث إن الصراع العسكري المسلح قد أثبت فشله) (¬4)، ويرى (أنّ الحكمة في العمل تقتضي استبدال الحرب بالدعوة السلميَّة التي حالت دون القيام بها على الوجه الأكمل والأمثل عدّة اعتبارات، منها: الجهل باللغة العربية، لغة الإسلام وأهله، ومنها: أن العقائد الإسلاميَّة لم تدرس بدقة ومن وجهة نظر نقديَّة تحليليَّة وتاريخيَّة حتى يسهل أمر تفنيدها، والاحتجاج على بطلانها) (¬5). ويعلل (وليم روبروك) الرأي الذي يدعو إلى الاحتجاج الفكري المضاد للإسلام بقوله: (لأن الإسلام دين يقوم أصالة على عقيدة الفتح والجهاد، ومن ثمَّ فإنَّ عملية النقض العقدي للإسلام وأصوله تستوجب ¬

_ (¬1) انظر: عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 118، 119، (المرجع السابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 119. (¬3) نقلًا عن: قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية: ص 16، (مرجع سابق). وانظر: عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 119. (¬4) عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 119. (¬5) المرجع السابق نفسه: ص 120.

ابتداء معرفة اللغة العربية، وضرورة إقامة المراكز العلميَّة المتخصصة للاهتمام بها وتعليمها) (¬1). ويكشف في ختام قوله هذا؛ الذي جاء في تقرير شارك به في المؤتمر الدولي للأديان الذي عقد في 30 مارس 1254 م في (قره قروم) (¬2)؛ عن توظيف الاستشراق لغرض عرقلة المد الإسلامي، وإعاقة استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة في الأرض، يقول (وليم روبروك): (إذا أمكن الوفاق والمصالحة مع النساطرة المنشقين البسطاء في مداركهم، وأعيدوا إلى حظيرة الكنيسة العالميَّة، وبذل الجهود من أجل هداية التتار إلى نور المسيحيَّة، أو حيل بينهم وبين اعتناق الإسلام، فإنَّ من الممكن إيقاف المد الإسلامي واحتجازه ومنع خطره عن الغرب) (¬3). يقول عرفان عبد الحميد: (ومع تصاعد هذه الدعوة إلى نقل الصراع من دائرة الحرب والاستغراق في حملات الافتراء والتضليل إلى ميدان الدعوة السلميَّة، والاحتجاج العقدي على بطلان الإسلام؛ فإنَّ سيل الدراسات العاطفية التي تنم عن مزيج من الخوف والحقد على أهل العربية وعقيدة الإسلام بقي موصولًا ومستمرًّا، لا يعرف المهادنة والتعقل) (¬4). وبعد أن يورد نماذج عديدة لمفترياتهم على الإسلام ونبيه وأمته؛ يقول: (هذه بعض مفردات الصورة التي تولَّدت في التصور الغربي عن الإسلام كدين، وعن العرب كفاتحين، وعن القرآن الكريم. . وهي الصورة التي لم تزدها القرون والدراسات إلَّا رسوخًا وتأكيدًا في مجالات ثلاثة لها ¬

_ (¬1) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص 119 (الحاشية). (¬2) نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 119 (الحاشية) وأوضح أن (قره قروم) هو (منغوليا) حاليًا. (¬3) عن المرجع السابق: ص 119 (الحاشية). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 120.

خطورتها في مجمل الحياة الفكريَّة العامَّة للغرب أعني: دائرة المباحث الخاصة بتاريخ العهدين القديم والجديد. . وحقل التصورات والقصص والمسرحيات الأسطوريَّة، ثُمَّ الموروثات المتراكمة في الخيال الشعبي. ومع تغير المواقف الغربية الممجوجة هذه تحت تأثير التطورات الداخلية للفكر الغربي، طرأت تغييرات هامشية عرضية على هذه الصورة المخزية المعراة عن الحقيقة (¬1)، أمَّا جوهر هذا الموقف ودلالاته التاريخية فقد بقيت موصولة ومستمرة لا تكاد تعرف التحول عن المنطلقات الأولى التي بدأت حركتها منها) (¬2). إن الدوافع الدينيَّة للدراسات الاستشراقية فيما يتعلق بالأُمَّة الإسلاميَّة جاءت لتحقق ما يتلخص في الآتي (¬3): 1 - بث الدعوة الدينيَّة النصرانية في الشعوب الإسلاميَّة وغيرها من أمم الأرض الأخرى، وخدمة أهداف التنصير بصفة عامَّة. 2 - الحد من انتشار الإسلام في العالم بعامَّة، وتحصين الشعوب التابعة للكنيسة ونفوذها بخاصَّة. 3 - تشكيك المسلمين في صحة الإسلام، وصدق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزعزعة ثقتهم في قيم الإسلام الحضارية والثقافية عن طريق إشاعة الشكوك والشبهات والمزاعم والآراء المتضاربة حول الإسلام من حيث عقيدته وشريعته وآدابه، وحول تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة وما سطرت من أمجاد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: موقف المستشرقين من وسطية الأمَّة الإسلامية: ص 759 - 781 (البحث نفسه). (¬2) دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 121، 122، (المرجع السابق نفسه). (¬3) لمزيد الاطلاع: انظر: الدافع الديني للدراسات الاستشراقية وأهدافه: ص 288 - 289 (البحث نفسه). (¬4) انظر: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 191، 192، (مرجع سابق).

وكل ذلك عن طريق دراسات توصف بالعلميَّة والمنهجية والموضوعيَّة، وتدخل عالم الفكر والتاريخ تحت مسمى البحث العلمي، وبالتالي تتشكل خلفيَّة فكريَّة صارمة تحكم على الإسلام وعلى الأُمَّة الإسلاميَّة بما لا يتفق مع جوهر الإسلام وحقيقة الأُمَّة الإسلاميَّة. وعلى ذلك فإنَّ هذه الدراسات في مختلف أطوارها التاريخيَّة وأهدافها المتنوعة تمت لتعويق الأُمّة الإسلاميَّة عن تحقيق هذا الهدف العميق من أهداف تميُّزها، أعني قضية استخلافها في الأرض. أمَّا النقطة الثانية وهي: الصبغة الاستعماريَّة: فإنَّ دراسات فئة من المستشرقين خضعت للباعث أو الدافع الاستعماري، وفيما يأتي أورد نماذج تبين ذلك، ثمَّ أعقب على ذلك بالرابط بين تلك الدراسات وقضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة باعتبارها هاجس الخوف من الأُمَّة الإسلاميَّة، وسبب الحقد عليها من قبل أولئك المستشرقين والقوى المعادية للإسلام من ورائهم. (كتب كاتب اسمه (أشعيا بومان) في مجلة (العالم الإسلامي) مقالًا عنوانه: الجغرافية السياسية للعالم الإسلامي؛ ذكر فيه أن شيئًا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي، لهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عدديًّا، بل هو دائمًا في ازدياد واتساع، ثُمَّ إن الإسلام ليس دينًا فحسب، بل إن من أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعبًا دخل في الإسلام ثُمَّ عاد نصرانيًّا. . وكذلك يرى هذا الكاتب أن الصحراء كانت للمسلمين حصنًا منيعًا، ذلك لأن (البدو) نسبة مئوية كبيرة في المسلمين، وأنَّه ما من دولة حاولت التغلب على المسلمين، واتفق أن ظفرت إلَّا خسرت أضعاف ما خسر المسلمون في ذلك الكفاح. . . من أجل ذلك يقترح هذا الكاتب أن تتفق بريطانيا

وفرنسا، ما دامتا أكثر الدول سيطرة على العالم الإسلامي على سياسة السيطرة على الشواطئ) (¬1). فهذا الكاتب يطرح فكرته -في ذلك الحين- في خدمة الاستعمار، ويؤكد الواقع بأنَّ هذه الفكرة قد وجدت طريقها للتنفيذ بشكل أو آخر على أيدي الدول المستعمرة (¬2). ويرى أحد الباحثين أن المستشرقين فيما قبل حملة نابليون على مصر كانوا لا يعتمدون على تخطيط دقيق وكافٍ (¬3)، أمَّا حمله نابليون فإنَّها (كانت منذُ البداية -وقبل أن تتحرك الحملة فعلًا- تهدف إلى احتواء مصر تمامًا، وقد وضعت الخطَّة على هذا الأساس، وهي خطَّة كان لها جانبها العسكري والاستعماري، ولكن كان لها جانبها العلمي والثقافي، وكانت مصر تعتبر الحلقة الأولى فقط ضمن سلسلة طويلة لاحتواء الشرق، ولقد تمخضت الحملة من الناحية العلميَّة، وبخاصة من ناحية الاستشراق عن إنشاء (المعهد المصري) بكل ما فيه من علماء ومفكرين في مختلف فروع التخصص، وهم الذين توفروا على دراسة مصر من مختلف الجوانب) (¬4). ومِمَّا ذكر (إدوارد سعيد) أن كتاب (وصف مصر) الذي أنجزه هؤلاء المستشرقون تحت أنظار (نابليون) كان فيه متأثرًا بكتاب (كونستانتان دو فولني): (رحلة في مصر وسوريا) الذي ظهر في مجلدين عام 1787 م. ¬

_ (¬1) مصطفى الخالدي وعمر فروخ: التبثير والاستعمار: ص 131، (مرجع سابق). (¬2) انظر: مصطفى الخالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار: ص 131، (المرجع السابق نفسه). (¬3) انظر: أحمد أبو زيد: الاسشراق والمستشرقون، مجلة عالم الفكر، المجلد [10]، العدد الثاني: ص 551. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 552.

ومِمَّا يجدر ذكره أن (كونستانتان) وصف الإسلام بأنَّه نسق من النظم السياسية التي كانت تتسم بالعدوان والتحامل (¬1). وفي هذا من الدلالات ما يؤكد أثر الاستشراق في التمكين للاستعمار، وأنَّه خدم الاستعمار -كما سبق بيان ذلك- قبل دخوله العالم الإسلامي، وأثناء سيطرته عليه وبعد خروجه منه (¬2)، وقد تمثل ذلك في توفير المعلومات عن الأُمَّة الإسلاميَّة وعالمها أرضًا وسكانًا، وما يتعلق بذلك من جغرافية وعادات وتقاليد، ثُمَّ دعم الاستعمار بالمعلومات التي يستخدمها لإحكام سيطرته على الشعوب الإسلاميَّة (ولقد ازداد الدور الذي لعبه المستشرقون في القرنين التاسع عشر والعشرين نتيجة لازدياد قوة العلاقة بين أوروبا والشرق؛ إذ أصبح الشرق مجالًا للتنافس السياسي والاقتصادي الغربي، حيث كان الغربيون يبحثون عن أسواق جديدة، ومستعمرات جديدة، وموارد اقتصادية جديدة. . . وكان المستشرقون أثناء هذا كله يؤمنون بأنَّ (الشرق شرق) وأنَّه لا يتغير، وهذا أساس قوي لظهور النزعة العنصرية لدى عدد كبير منهم، وإن لم يكونوا جميعًا قد عبروا عن ذلك (بالصراحة نفسها) التي نجدها عند (رينان) الذي ينسب كثيرًا جدًّا من الأوصاف والنعوت غير الكريمة للساميين وغيرهم من الشرقيين المنحطين -حسب تعبيره- وقد شاعت هذه الآراء بسرعة في الثقافة الأوروبية) (¬3). وخلاصة القول: إن المستشرقين أو فئة منهم قد اصطبغت في دراساتهم عن الأُمَّة الإسلاميَّة بالصبغة الاستعمارية، وعن ذلك قال أحد الباحثين: ¬

_ (¬1) انظر: الاستشراق: ص 107 (مرجع سابق). (¬2) انظر: علاقة الاستشراق بالاستعمار: ص 302، 304؛ (البحث نفسه). (¬3) أحمد أبو زيد: الاستشراق والمستشرقون، مجلة الفكر: ص 552، (المرجع السابق نفسه).

(لعب هؤلاء المستشرقون دور (العميل) لحكوماتهم، وحاولوا (وصف) الشرق (وبيان ما فيه) لتلك الحكومات بطريقة تشبع (رغباتها وتتفق مع أغراضها) وكان لابُدَّ لهذا التحول في الموقف من أن ينعكس على شخصية المستشرق ذاته، وبنظرته إلى نفسه، فلم يعد المستشرق في الأغلب يعتبر نفسه عالمًا ينتمي إلى طائفة أو فئة من العلماء لهم قيمهم وطقوسهم العلميَّة وتقاليدهم وأخلاقياتهم ومبادئهم التي تتحكم في عملهم، وتوجه هذا العمل، كما ترسم لهم سلوكهم داخل نطاق هذه الطائفة، وإنَّما أصبح يعتبر نفسه ممثلًا لثقافته الغربية ضد ثقافة الشرق) (¬1). وهذه الصبغة الاستعمارية التي اصطبغت بها الدراسات الاستشراقية تعدُّ من وجهة نظر كثير من الباحثين: (عمليَّة تسليم الشرق للغرب) (¬2) أو كما وصفها (إدوارد سعيد) بأنَّها (المعرفة الاستعمارية) (¬3). لذلك فإنَّ هذه الدراسات قد أظهرت (الشرق عامَّة والعالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص في صورة العالم (العاجز فطريًّا) عن التقدم المادي والثقافي، وأنَّ خيره يكمن في إلغاء وجوده الحضاري المستقل، وهويته الثقافية المميزة له؛ والارتباط بالغرب: لغة وثقافة باعتباره (عالم التفوق والسيادة)، وكان هذا الشعور الأوروبي بالتفوق يزداد رسوخًا كلما تقدم الزمن بأوروبا في العصور الحديثة. وكان على الاستشراق الضالع مع الاستعمار، والقائم على خدمة أهدافه ومقاصده وغاياته أن يُهَيِّئ الأسباب النفسية والثقافية التي من شأنها أن تولد عند ¬

_ (¬1) أحمد أبو زيد: المرجع السابق نفسه: ص 557. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 558. (¬3) الاستشراق: ص 6، 42، 46، 47، 49، (مرجع سابق)، وانظر: أحمد أبو زيد: المرجع السابق نفسه: ص 558.

الشرقيين عامة ميلًا للخضوع والخنوع، والاستسلام للغرب، وتفوقه الحضاري وسموّه المادي) (¬1). وعلى هذا فإنَّ قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة تغيب في هذا الزخم الاستعماري المضاد الذي عاد بالحروب الصليبية متذرعة بالفكر وسلاح العلم والمعرفة الموجهة ضد تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وما يهدف إليه هذا التميُّز من سيادة وريادة وقيادة. أمَّا النقطة الثالثة وهي: الصبغة السياسية: فإنه إذا كان الاستعمار قد رحل عن معظم بلدان الشرق وعن العالم العربي والإسلامي لظروف تاريخيَّة وسياسية وتطورات فكريَّة لا يتسع المجال لذكرها، فإنَّ الصراع الفكري والغزو الثقافي استمر في صور جديدة يموج بها العالم الإسلامي للنيل من عقيدة الأُمَّة الإسلاميَّة، والقضاء على شخصيتها المتميِّزة (لقد تطورت الوسائل، وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديث، ويكفي أنَّ مراكز البحوث والدراسات، سواء كانت مستقلة أو أقسامًا للدراسات الشرقية، في الجامعات العلميَّة في الغرب وما يوضع تحت تصرفها من الإمكانات الماديَّة، والمبتكرات العلمية والاختصاصات الدراسية، تمثل الصورة الحديثة التي تطور إليها الاستشراق، حيث تمكن أصحاب القرار السياسي من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يوميًّا) (¬2). وقد ذكرت بعض الإحصائيات ما قيل قبل عقد من الزمان بأن (في القارة ¬

_ (¬1) عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 123، (مرجع سابق)، وانظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، فإنَّ كتابه يعالج هذا الجانب بصفة خاصَّة، وبخاصة الصفحات، 71، 72، 73 - 79. (¬2) عمر عبيد حسنة: مقدمته لكتاب الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: لمحمود حمدي زقزوق: ص 8، (مرجع سابق).

الأمريكية وحدها، حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات، منها حوالي خمسين مركزًا متخصصًا بالعالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ثُمَّ دراسته وتحليله، مقارنًا مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية، ثُمَّ مناقشة ذلك مع صانعي القرار السياسي، لتبنى على أساس ذلك الخطط، (والاستراتيجيات)، وتحدد وسائل التنفيذ) (¬1). وعلى الرغم مِمَّا اتسمت به بعض الدراسات الاستشراقية الحديثة من اتزان وموضوعية؛ إلَّا إنَّ تلك الدراسات المرتبطة بدوائر العداء للإسلام والصراع الحضاري مع الأُمَّة الإسلاميَّة بخاصة والشرق بعامَّة تحاول -بصفة مباشرة وغير مباشرة- (إلغاء النسق الفكري الإسلامي، وتحاول تشكيل العقل المسلم، وفق النسق الغربي) (¬2)، وقد انتهجت في ذلك الوسائل والأساليب الآتية: 1 - إنجاز دراسات تظهر تفوق الغرب وخطره و (أنَّ أوروبا مركز الكون كله، وأن الثقافات والحضارات والآداب العالمية ليس لها قيمة إلَّا إذا اتفقت تمامًا مع الثقافات والحضارات والآداب الأوروبية) (¬3). 2 - التحذير من الإسلام، وقد وصل الأمر ببعض المستشرقين إلى أن يقول: (إنَّ الإسلام حكاية متقلبة وخطرة، وحركة سياسيَّة تتدخل في شؤون الغرب وتقلق راحته، وتحرض على العصيان والتعصب في كل أرجاء ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 8. (¬2) عمر عبيد حسنة: مراجعات في الفكر والدعوة والحركة: ص 25، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي (7)، الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1413 هـ / 1992 م، الرياض. (¬3) استيفان فيلد: الثقافة العربية في غاية الأهمية بالنسبة للثقافة الأوروبية (حوار أُجري معه على صفحات مجلة الحرس الوطني، عدد رجب 1409 هـ): ص 124، (مرجع سابق).

العالم) (¬1)، ويذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المستشرقين كانوا (يعتبرون الإسلام أكبر عائق في سبيل التقدم والرقي) (¬2). 3 - أسهمت الدراسات الاستشراقية المغرضة في تحفيز الدول الغربية على العمل ضد الإسلام، وقد تمثل ذلك في أساليب عدَّة منها (¬3): أ- العمل على إضعاف صلة المسلمين بالإسلام. ب- نشر الإلحاد العلمي في الأوساط الإسلاميَّة. ج- الحد من اليقظة الإسلاميَّة. 4 - ومن الأساليب التي انتهجها بعض المستشرقين، وكانت ذات صبغة سياسيَّة مرحليَّة الدعوة إلى (فكرة أن الإسلام نفسه يتجدد، ويخضع لعامل الزمن في تطوره، ومن ثَمَّ فلا داعي للتقيد بتعاليم الماضي جملة في تكييف الحاضر) (¬4). ولعل من أبرز المستشرقين في هذا المضمار المستشرق الإنجليزي (جيب)، وتتجلَّى فكرته هذه في الكتاب: (إلى أين يتجه الإسلام whither ¬

_ (¬1) إدوارد سعيد: إعادة النظر في الاستشراق، مقال منشور في جريدة الحياة في ثلاث حلقات، الحلقة الثانية، العدد (11964) الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 1995 م؛ ص 21، تصدر عن شركة الحياة الدوليَّة للنشر، لندن. . (¬2) أحمد أنس: الإسلام ما يراه المستشرقون، مجلة البعث، عدد شعبان 1391 هـ: ص 26، تصدر عن ندوة العلماء لكناؤ، الهند. . (¬3) انظر: محمد البهي: الشباب والإسلام في مجتمعنا المعاصر، مجلة الأمَّة، عدد صفر 1403 هـ: ص 20، (المرجع السابق). (¬4) جابر قميحة: آثار التبشير والاستشراق على الشباب المسلم: ص 27، العدد (116) من سلسلة دعوة الحق، عام 1412 هـ - 1991 م، عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة.

Islam) الذي كتب مقدمته، وتولى إعداده مجموعة من الباحثين، فظهر عبارة عن مجلة للدراسات الإسلاميَّة كان هو أكثر المسهمين فيها عطاءً، وكان يعمل مستشارًا لوزارة الخارجية البريطانية (¬1). ولعل هذا الكتاب وما تضمن من أفكار جديدة نحو الأُمَّة الإسلاميَّة كان أساسًا للتقرير الذي يذكر أنَّ بريطانيا أعدَّته بعد الحرب العالميَّة الثانية (¬2)، ويدعى (Scarbrough Repcrt) (¬3) ، ويقول أحد الباحثين: (إنَّ هذا التقرير يستحق أن يعتبر ميثاق الاستشراق الجديد " charrter of Modern orientalism" (¬4) ، وذلك لما تضمنه من إشارات إلى الاتجاهات الحديثة في احتواء الأُمَّة الإسلاميَّة، وإعاقتها عن أداء رسالتها، وذلك عن طريق تطوير الإسلام نفسه، وتطبيعها على الحياة الغربية وأنماطها في الفكر والسلوك، وبالتالي فإنَّه لن يتحقق لها الاستخلاف في الأرض، وإنَّما تفرض عليها التبعيَّة بعد إذابة تميُّزها. والذي يظهر من أطروحات (جيب) هو إدراكه العميق لذلك الهدف الملازم لتميّز الأمَّة الإسلاميَّة، وقد عبَّرَ عنه بقوله: التعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أيِّ تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي، فالإسلام ليس مجرد ¬

_ (¬1) انظر: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 193، 194، (مرجع سابق)، وانظر: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني: ص 15، طبعة 1966 م، عن دار مكتبة الحياة، بيروت. (¬2) انظر: خليق أحمد النظامي: عهود متعددة لأفكار المستشرقين ونظرياتهم (بحث مدرج في كتاب الإسلام والمستشرقون) تأليف: نخبة من العلماء: ص 110، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 110. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 110.

مجموعة من القوانين الدينيَّة، ولكنه حضارة كاملة) (¬1)؛ لذلك يرى (جيب) أنَّه يُمكن زحزحة المسلمين تدريجيًّا عن مواقفهم ومواقعهم التي يوجبها عليهم الإسلام من خلال الإسلام ذاته، وذلك بمحاولة تطوير الإسلام عن طريق تطويع المسلمين وتطبيعهم شيئًا فشيئًا على مفاهيم الغرب، وليكن ذلك عن طريق التجديد في الأمور الشكلية والمظاهر الخارجيَّة من خلال التأثر بالأساليب الغربية في وسائل الحضارة وأنماط الثقافة والفكر والمعرفة والعلوم الحديثة، ومن ثمَّ تتمكن الموازين المسيحيَّة من الهيمنة على ذاتية المسلمين حتى تبلغ بهم حالة الذوبان الكامل، ويأخذون بصورتها وملامحها (¬2). وعن هذه الفكرة قال (جيب): (قد يبدو للنظرة الأولى أن الجمهرة العظمى من المسلمين لم تتأثر بمؤثرات دينيَّة أوروبية، وأنّ التفكير الديني الإسلامى قد ظلَّ وثيق الصلة بأصوله الدينيَّة التقليديَّة، ولكن ذلك ليس هو الحقيقة كلها، فالواقع أن التعاليم الدينيَّة ومظاهرها عند أشد المسلمين محافظة على الدين وتمسكًا به قد أخذت في التحول ببطء خلال القرن الماضي) (¬3). وتأتي فكرة تطوير الإسلام ليواكب الحضارة الغربيَّة وقيمها ومبادئها ومفاهيمها كأفضل بديل يطرحه المستشرقون -المرتبطون بدوائر الصراع الفكري- لإعاقة الأُمَّة الإسلاميَّة عن تميُّزها الكفيل بإعادة دورها في ¬

_ (¬1) نقلًا عن عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 194 (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 194، 195. (¬3) نقلًا عن: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميِّة: ص 194، (المرجع السابق نفسه).

التاريخ حتى تسترد مكانتها في القيادة والسيادة، وهي متمسكة بمقومات ذلك التميُّز وخصائصه وأهدافه. إنَّ ما يهدف إليه هذا المشروع الاستشراقي الحديث في حقيقته، وفي نهاية تحليله هو إذابة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة عن طريق تطوير الإسلام ذاته، وإيجاد صيغ جديدة لهذا التطوير انطلاقًا من ضغط ظروفها الداخلية، وبما يتلاءم مع معطيات الثقافة الغربية ومفاهيم الغرب وقيمه (¬1)، وليس ارتقاءً بحاضر الأُمَّة، وإنَّما هو كما قال أحد الباحثين: (قتل الشعور بالذات. . . في صورة فكر تلفيقي انتخابي مشوه ليس فيه ما يعكس عبقرية أهله. وليس فيه من التدفق الذاتي الذي يعين على انبعاث حضاري ويقظة فكرية، وإذا سلمنا بحقيقة: أن وجود الأُمَّة واستمرارها التاريخي مرهون بشعورها القوي والمتجدد بذاتها الممتدَّة في الزمان، أدركنا خبث هذه الدعوة من حيث إنَّها أرادت خلق حالة من الغربة والانفصام بيننا وبين تاريخنا الفكري والحضاري، لننتهي إلى خواء روحي وعقلي مدمر، وينتهي الأمر بنا إلى الانتحار الحضاري) (¬2). ويبدو أن هذا المشروع الاستشراقي هو الخيار الأخير للأُمَّة الإسلاميَّة -من وجهة النظر الاستشراقية- فها هو المستشرق (ك. كراج) رئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي يعبر عن ذلك فيقول: (إن على الإسلام إمَّا أن يعتمد تغييرًا جذريًّا فيه، أو يتخلى عن مسايرة الحياة الحديثة) (¬3). وخلاصة القول: إنَّ الدراسات الاستشراقية -في جملتها- قد ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 192، وتتركز كتابات (جيب) حول هذه الغاية في كتابه: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، (مرجع سابق). (¬2) عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 40، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين تجاه الإسلام: ص 29، (مرجع سابق).

اصطبغت بالصبغة السياسيَّة إلى جانب الصبغة الدينيَّة والاستعمارية مستجيبة في ذلك للتطورات الفكرية والتاريخية في الغرب وفي العالم الإسلامي على السواء؛ للحيلولة دون قيام الأُمَّة الإسلاميَّة بما أوجبه اللَّه عليها من الشهادة على الناس وقيادتهم في صراط اللَّه المستقيم، وكان يسهام الاستشراق في ذلك كما قال إدوارد سعيد: (النظر إلى الأُمَّة الإسلامية كمشكلة تتطلب الحل أو الحصر ضمن حدود، أو الاحتلال. . .) (¬1). وإذا كان الاستشراق المعادي للإسلام يقدم هذه النظرة من خلال دراساته إلى القوى المعادية للأُمة الإسلامية؛ فإنَّ ما تضمنته هذه الدراسات لا يعدو أن يكون: (شن غزو فكري عام على الإسلام وعقيدته وشريعته وحضارته، واتهامه بالقصور عن مسايرة الحياة الحديثة ومحاولة تغييره بما ينسجم مع الحياة الغربية الحديثة) (¬2)، بهدف إعاقة رسالة الأُمة الإسلامية، ومحاولة صد الناس عن الاستجابة لها وتفاعلهم معها، فهذه المحاولة التي تبنَّاها المستشرقون؛ تنطلق من مبدأ أن لا يسمح للشرق أبدًا بأن يتجه وجهته الخاصة أو ينفلت من السيطرة، إذ أن وجهة النظر في ذلك كله هي (أن الشرقيين لا يمتلكون تراثًا من الحريَّة) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: الاستشراق ص 215، (مرجع سابق). (¬2) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين (المرجع السابق): ص 38، 39. (¬3) إدوارد سعيد: الاستشراق. . . ص 247، (المرجع السابق نفسه).

الكتاب الخامس: وسائل تحقيق تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منها

دراسات فِي تميز الْأمة الإسلامية وموقف المستشرقين مِنْهُ تأليف: د. إِسْحَاق بن عبد اللَّه السَّعْدِيّ الكتاب الخامس 5/ 5 وسائل تحقيق تميُّز الأُمة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها • خارطة ذهنية توضيحية. • وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها. • وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه. • مبحث ختامي. • الخاتمة.

[مخطط]

وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها • مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام. • موقف المستشرقين من اللغة العربية.

مكانة اللغة العربية وارتباطها بالإسلام

مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام جاء الإسلام واللغة العربية على درجة رفيعة من الفصاحة والبيان في الشعر والنثر، بيد أنَّها في حدود قبليَّة ضيقة، ثُمَّ اجتباها اللَّه لتكون لغة الإسلام ولسان القرآن الكريم، كما قال اللَّه -عز وجل-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، وبلَّغَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رسالة ربه بهذه اللغة المختارة، وأعطي جوامع الكلم (¬1)، ليكون رحمة للعالمين، ومرسلًا للناس كافَّة. وذلك تجاوزت اللغة العربيَّة حدود القبيلة والقوم، وارتبطت بالإسلام، فكانت لغة عقيدته وشريعته وخطابه إلى جميع البشر، وسارت (في ركاب الدعوة أينما ذهبت؛ لأنَّ القرآن الكريم كان في أيدي جند هذه الدعوة، وكان المسلمون كلما غلبوا على إقليم تركوا فيه القراء والمحدثين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلمون الناس أمر دينهم، ويدعون أهل البلاد للدخول في حوزة الإسلام) (¬2). وعلى الرغم من عدم فرض اللغة العربية على الشعوب الإسلاميَّة ذات ¬

_ (¬1) جزء من حديث سبق تخريجه: ص 136 - 137، (البحث نفسه). (¬2) تمام حسَّان: اللغة العربية والشعوب الإسلاميَّة؛ بحث مدرج في: من قضايا اللغة العربية المعاصرة، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة تونىس 1990 م، عن مطبعة المنظمة: ص 74، وانظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالميَّة اللغة العربية: المرجع السابق نفسه: ص 258، 259.

اللغات الأُخرى؛ إلّا أنَّها انتشرت بانتشار الإسلام في بلاد الشام والعراق وما وراء النهر فارس والهند والسند وأنحاء واسعة من القارة الآسيوية حتى وصلت إلى أرخبيل الملايو (¬1)، وانتشرت في مصر وشمال إفريقية وغربها ووسطها وجهات السودان وعلى السواحل وفي الجنوب، وكذلك تأثرت اللغات الأوروبية بها منذُ بداية الصراع البيزنطي الإسلامي في الشرق، ثم الصراع القوطي (الإسباني) مع الإسلام في إسبانيا، وما أسهمت به الحروب الصليبيَّة على مدى قرون من الزمان، وعبر الاتصال الحضاري بين الحضارة الإسلاميَّة والغرب في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وبلدان البلقان. وقد أثبت التاريخ أن الغرب النصراني نهل من معين اللغة العربية وتزود من ثقافتها، وأن إتقان العربيَّة كان شرطًا أوليًّا لمن أراد أن يدرس الحضارة ويتثقف بالعلم والمعرفة، وقد لمعت أسماءً عدّة لعلماء غربيين برعوا في اللغة العربية من أمثال (روجر بيكون)، ومن الطرفة بمكان أن طلابه في الجامعات الأوروبية لا يقلون إتقانًا للعربية منه؛ حتى قيل عنه إنَّ تلاميذه كانوا يتهكمونه أحيانًا إذا أخطأ في ترجمة بعض النصوص العربية إلى اللاتينية (¬2). ¬

_ (¬1) وصلت الفتوحات الإسلامية إلى تخوم الصين والهند وعلى مشارف (سنكياج الصين) وبلاد الزنط في الهند؛ انظر: حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام: ص 228، خارطة رقم [64]، عن دار الزهراء للإعلام العربي - مصر، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م، ولكن انتشار الإسلام ومعه اللغة العربية وأبجديتها وصل عن طريق الصلات التجارية والدعويَّة وغيرهما من الوسائل السلميَّة إلى أقصى الجزر الواقعة جنوب شرق آسيا، ومنها الجزر المعروفة باسم أرخبيل الملايو، ويطلق عليها الآن الفلبين، انظر: المرجع السابق نفسه: ص 381، 382. (¬2) انظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالميَّة اللغة العربيَّة: ص 259، 260، 265، (المرجع السابق نفسه).

وذُكِرَ أن (ألفارو) وهو أحد أساقفة قرطبة (¬1) كتب رسالة صديق له عام (854 م) جاء فيها قوله: (من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا. . على دراسة الكتاب المقدس أو يرجع إلى كتاب أيِّ عالم من علمائنا، ممن كتبوا باللَّاتينية؟ من منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبًّا باللغة العربية يبحثون عن كتبها ويقتنونها، ويدرسونها في شغف، ويعلقون عليها ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في رقة وأناقة، يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم نفسها. . .) (¬2). وإذا كان النصارى قد نجحوا في إخراج المسلمين من (الأندلس) ومن غيرها، وأفلت شمس الحضارة الإسلاميَّة في الغرب، فقد استمر (الموريسكيون) يستخدمون الحروف العربيَّة، ويكتبون بها أدبهم، وهو ما عرف في أوساط المستشرقين باسم (al-hamiado) حتى التزمت بعد ذلك الحروف اللَّاتينيَّة (¬3). ¬

(¬1) سبق ذكره؛ انظر: ص 823، (البحث نفسه). (¬2) نقلًا عن: أبي عبد اللَّه محمد بن سعيد بن رسلان: فضل العربية ووجوب تعلمها على المسلمين: ص 34، طبعة جمادى الآخرة 1409 هـ، يناير 1989 م، عن دار العلوم الإسلاميَّة - القاهرة، ودار البخاري - المدينة المنورة، وانظر: محمد سويس: اللغة العربية في مواكبة الفكر العلمي، (من قضايا اللغة العربية). . . ص 142، وانظر: برنارد لويس: العرب في التاريخ (مرجع سابق)، وانظر: جمال الدين الشيال: التاريخ الإسلامي. .: ص 19 - 25، طبعة دار الثقافة، بيروت، (بدون تاريخ). (¬3) انظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالميَّة اللغة العربية: ص 226، (المرجع السابق) ومسمى (الموريسكو) أُطلق على المسلمين الذين لم يهاجروا من الأندلس بعد سقوط غرناطة، وعرف أدبهم باسم (الجمياد)، وهو محرف عن لفظ (أعجمي) الذي يسمَّى به غير العربي في العربية، انظر: صبحي الصالح: دراسات في فقه اللغة: ص 357، 358، الطبعة الحادية عشرة 1986 م، عن دار العلم للملايين - بيروت.

أمَّا بلاد البلقان فبقيت الثقافة الإسلاميَّة والأبجديَّة العربية حتى منتصف القرن العشرين تقاوم صنوفًا من ألون المصادرة والحرب على كل ما له صلة بالعربية والإسلام (¬1). وقد كتب كثير من الباحثين المحدثين من المستشرقين وغيرهم عن أثر اللغة العربية في اللغات التي دخلت معها في صراع لغوي، وأنجزوا إحصائيات علميَّة مقارنة للمفردات العربية المبثوثة خلال تلك اللغات، وأظهروا نسبة تأثيرها. وعلى سبيل المثال قال أحد الباحثين: (درستُ أثر العربية في اللغات الشرقية، وأحصيتُ نسبتها، وهي: في الفارسية (60.67 %)، وفي التركية (65.30 %)، وفي الأردية (41.95 %)، وفي التاجيكية (46.39 %)، وفي الأفغانية (56.99 %)) (¬2). وذكر آخر أنه أحصى (ستًا وعشرين لغة أسيويَّة تستخدم الأبجديَّة العربية بعضها ما يزال مستمسكًا بها حتى اليوم، وبعضها الآخر استبدلت بها الحروف اللَّاتينية أو المحليَّة) (¬3). وعلى هذا المنوال لاحظ الباحثون في اللغات المقارنة تأثير اللغة العربية العميق في سائر اللغات المنتشرة في العالم الاسلامي، ولاحظوا كذلك دخول كثير من مفرداتها في اللغات الأوروبية (¬4) أيضًا، ومِمَّا لفت ¬

_ (¬1) انظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربيَّة: ص 265، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 260. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 260. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 265 - 269، ومِمَّا ذكر عن اللغة الإنجليزية أنها استعارت من اللغة العربية ما قدره بعض الباحثين بألف كلمة مِمَّا دعا المستشرق (تيلور) أن يكتب بحثًا عنوانه (arabic words in English). انظر: ص 267، المرجع السابق نفسه.

نظرهم أنَّه (لأول مرَّة في تاريخ اللغات تحدث ظاهرة عجيبة، وهي أن لغة من فصيلة معينة تؤثر في لغة من فصيلة أخرى تأثيرًا بعيد المدى) (¬1). وعللوا ذلك بتعليلات كثيرة ومتنوعة يأتي في مقدمتها الدين (¬2)؛ ومهما كانت التعليلات فإنَّ اللغة العربية حققت هذا الإعجاز؛ لأنَّها في المقام الأول حملت آيات القرآن الكريم: (المعجز إلى آفاق المعمورة، وصادفت الحفاوة والترحيب أينما ذهبت، فغلبت على اللغات المحليَّة في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والسودان. . .، وأزاحت لغات محليَّة أخرى عن الدواوين في الأقاليم الإسلاميَّة، وأصبحت لغة العلم والثقافة في كافة بلاد الإسلام، واستوعبت تراث الأمم السابقة ذوات الحضارات القديمة، وقاومت في العصر الحديث كل محاولات غزوها في ديارها، أو تغليب اللهجات الدارجة عليها، حتى غدت آخر الأمر لغة من لغات المنظمات الدوليَّة على الرغم من غفلة الأجيال العربية الحاضرة، وفتور (حماستها) للحفاظ على مقومات وجودها) (¬3). ¬

_ (¬1) علي الشابي: اللغة العربية لغة القرآن ورسالة الإسلام (المرجع السابق نفسه): ص 62، ولمزيد الاطلاع على قائمة بالكلمات العربية في الإنجليزية؛ انظر: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي: ص 469 - 486، عن مكتبة الخانجي - القاهرة بدون تاريخ؛ وانظر: مونتغمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة: حسين أحمد أمين: ص 115 - 125، (مرجع سابق). وانظر: زيغريد هونكة: شمس العرب تسطع على الغرب: ص 552 - 559، فقد أوردت جدولًا لبعض الكلمات المنقولة عن العربية والفارسية إلى الألمانية. (¬2) علي الشابي: اللغة العربية لغة القرآن ورسالة الإسلام: ص 62، (المرجع السابق نفسه). (¬3) تمام حسَّان: اللغة العربيَّة والشعوب الإسلامية: ص 72، (مرجع سابق)، وانظر: ما يذكر فيما يأتي عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بصدد عالمية اللغة العربية: ص 612.

إنَّ الإحاطة بمنزلة اللغة العربية ومميزاتها الأساسية التي عملت على قوتها وانتشارها من الصعوبة بمكان، ولكن يقتصر هنا -بإيجاز- على الآتي: 1 - كون اللغة العربية ارتبطت بشعائر الإسلام وعباداته، وغدت جزءًا أساسيًا من لغة المسلم اليوميَّة وفي حياة الأمَّة الإسلاميَّة؛ لأنَّها ملازمة للفرائض الإسلاميَّة؛ [فقد أوجب الإسلام أن تكون إقامة الصلاة، وتلاوة القرآن وترتيله، والأذان، ومناسك الحج والدعاء، وسائر الشعائر الدينيَّة، ونحو ذلك باللغة العربية، كما فرض على المسلمين في مختلف الأقطار والأمصار تعلم آي القرآن الكريم وحفظه وفهمه، والإكثار من تلاوته، ويتحتم على الإمام والواعظ إتقان العربية، لكي يفهم أحكام القرآن والسنَّة، ويحسن شرحها وتفسيرها، ومعروف أن أحكام القرآن وتعاليمه لا يصح أن تؤخذ إلَّا من نصه العربي، ولا تعد ترجمته إلى أيِّ لغة إلَّا تفسيرًا لمعانيه، فلا تستنبط أحكامه منها. لكل هذا ارتفعت منزلة اللغة العربية عند المسلمين، وتفقه المختصون في دراسة علوم العربية ووضع قواعدها في النحو والصرف، والبيان، والمعاني، وموازين الشعر، ورسم الحروف، والخط وغيرها، وألفوا فيها عددًا ضخمًا من نفائس الكتب، ومنهم العرب وغيرهم، ونشطت لذلك بوجه خاص في زمن باكر، مدرستا البصرة والكوفة، فظهر في الأولى مثلًا أول معجم لغوي، وأول كتاب في أوزان الشعر، وأشهر كتاب في نحو العربية، منذ أكثر من اثني عشر قرنًا، وهو معجم العين وكتاب العروض للعالم الفذ (الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري) والكتاب (لسيبويه)] (¬1). ¬

_ (¬1) جميل عيسى الملائكة: اللغة العربية ومكانتها في الثقافة العربية الإسلامية (المرجع السابق): ص 124، 125، أمر وجوب اللغة العربية في ضعائر الإسلام وفرضيتها في تعلم القرآن الكريم وتعليمه ليس على إطلاقه وإنَّما لفقهاء الإسلام في ذلك تفصيلات =

وسبق ذلك وصحبه نشأة سائر علوم الثقافة الإسلاميَّة بدءًا بعلوم القرآن وتفسيره، وعلوم السنة المختلفة، وعلم الفقه وأصوله وغير ذلك (¬1). 2 - حركة التعريب التي بدأت في (خلافة عبد الملك بن مروان 65 - 86 هـ) الذي بدأ يسك عملة عربيَّة، وكانت الدواوين والأعمال الرسميَّة تكتب باللغة الإفريقية أو الفارسيَّة أو القبطيَّة حسبما تقتضيه الظروف المحليَّة (فغيَّرَ ذلك كله إلى اللغة العربية)، وحين أصبحت العربيَّة أداة رسميَّة في الشؤون العامة كان ذلك سببًا في تعميم استعمالها لدى الناس) (¬2)، إذ أصبح (لها طابعها العالمي لكونها لغة العلم والبحث والمراسلات الدوليَّة والعلاقات السياسيَّة والاقتصادية، كما كانت لغة الآداب والفنون في مختلف الثقافات التي اعتنق أهلوها الإسلام) (¬3). ومِمَّا ساعد على ترسيخ اللغة العربية ونشرها حركة الترجمة التي بلغت أوجهًا في عهد (المأمون) وحققت للغة العربية في بعض جوانبها كما قال أحد المفكرين: (حضارة واحدة عالميَّة المنزع، إنسانية الرؤية وذلك لأول مرة في التاريخ، وفي ظل القرآن الكريم أصبحت العربية لغة عالميَّة، واللغة الأم لبلاد كثيرة، قد عمت المنطقة التي عرفت في ماضيها التأثير السامي فعوضت بيسر اللغات الساميَّة التي كانت شائعة فيها، عوضت ¬

_ = وأقوال متفاوتة لا يتسع مجال البحث هنا لذكرها، وإنَّما الاكتفاء بالقول أن الإسلام قد حثَّ على أن تكون اللغة العربية هي لغة العبادة والدعاء والشعائر الدينية في الإسلام ما بين واجب كقراءة الفاتحة في الصلاة وهو ما عليه جمهور الفقهاء، ثُمَّ يتدرج الحكم بعد ذلك إلى الندب والاستحباب، انظر: الشافعي: الرسالة، ص 48، 49، تحقيق: أحمد شاكر، (مرجع سابق). (¬1) انظر: تمام حسَّان: اللغة العربية والشعوب الإسلاميَّة: ص 73، (مرجع سابق). (¬2) تمام حسَّان: المرجع السابق نفسه: ص 74. (¬3) محمد بن مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربية: ص 258، (مرجع سابق).

الأراميَّة والآشوريَّة في العراق والشام، وبقايا البونيقية في إفريقية، ووجدت في سامية البربر حسب رأي بعض المؤرخين جسرًا واصلًا، ومهادًا مكن لها في بلاد المغرب بأكملها، وسادت مصر بسبب الهجرات السابقة القديمة وقرب لغتها الحامية من اللغات السامية، أمَّا بلاد فارس فقد بقيت فيها العربية طيلة قرنين لغة الثقافة والإدارة (حتى) احتدت الشعوبية) (¬1). 3 - مميِّزَات اللغة العربية الذاتية، فقد (كسبت الصراع اللغوي (الذي خاضته وهي تلازم انتشار الإسلام) بسبب عامل جوهري هو أنها لم تكن لغة مستعمر غاصب، ولا سلطان مستغل، وإنَّما كانت لغة الفطرة، لغة القلب والعقل، لغة الغيب والشهادة، لغة العدل والرحمة والمساواة والحق، ولو لم يلمس الناس حقيقة هذه المعاني وغيرها مِمَّا جاء به الإسلام، وقارنوا بينها وبين ما كانوا عليه من ظلمات وظلم ومفاسد لما أذعنوا وتشربوا الإيمان، وتوارثوه جيلًا بعد جيل) (¬2). ¬

_ (¬1) علي الشابي: اللغة العربية لغة القرآن ورسالة الإسلام: ص 61، (مرجع سابق)، وانظر: إبراهيم مراد: مكانة اللغة العربية. .، المرجع السابق نفسه: ص 216، ويفسر بعض الباحثين ما حدث للغة العربية في فارس والأندلس من تقلص وانحسار بعدم قدرة اللغة العربية على اللغتين الفارسية واللاتينية، انظر: محمد أحمد أبو الفرج: مقدّمة لدراسة فقه اللغة: ص 120، 121، وإن كان أشار إلى حاجة هذا الجانب لمزيد البحث بيد أنّ الظاهر في هذه القضية هو وجود حركة مضادة لرسوخ اللغة العربية وتمكينها، وهذه الحركة نالت من اللغة العربية حتى في معاقلها، أمَّا إذا تركت لها قوتها الذاتية فإنها تنتشر وتترسخ في الأفئدة والعقول شأنها في ذلك شأن الإسلام ذاته، (المرجع السابق صادر عن دار النهضة - بيروت الطبعة الأولى 1966 م، وانظر: إبراهيم عبد اللَّه رفيدة: اللغة العربية لغة القرآن والعلم والمسلمين، (من قضايا اللغة العربية المعاصرة): ص 117، 118، (مرجع سابق). (¬2) محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربية: ص 258، (مرجع سابق).

وإلى جانب ذلك فإنَّها امتازت بخصائص فريدة كتب عنها كثيرٌ من الباحثين في اللغات، وكان من أبرز ما استنتجوه الآتي: أ- أنها اللغة (التامَّة الحروف، الكاملة الألفاظ، لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه، ولم يزد فيها شيءٌ فيعيبها زيادته، وإن كان لا لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية، وسائر اللغات فيها حروف مُوَلَّدة، وينقصُ عنها حروف أصلية) (¬1). وقد تحدث العقاد عن هذه الخاصيَّة بقوله: (فإذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة، فليس في اللغات أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها) (¬2). ثُمَّ يعلل ذلك بقوله: (ويحق لنا أن نعتبر أنها أوفى اللغات جميعًا بمقياس بسيط واضح لا خلاف عليه، وهو مقياس جهاز النطق في الإنسان، فإنَّ اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز الإنساني على أتمه وأحسنه، ولا تهمل وظيفة واحدة من وظائفه، كما يحدث ذلك في أكثر الأبجديات اللغوية. . .) (¬3). واعترف بعض المستشرقين بهذه الخصيصة، إذ يقول (رينان): (من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة. . . وتصل إلى درجة الكمال وسط ¬

_ (¬1) القلقشندي: صبح الأعشى 1/ 149، طبعة، 1383 هـ - 1963 م، عن المؤسسة المصرية العامة. .، القاهرة، وانظر: نايف معروف: خصائص العربية وطرائق تدريسها: ص 38، 39 الطبعة الثانية 1407 هـ - 1987 م، عن دار النفائس - بيروت. (¬2) أشتات مجتمعات في اللغة والأدب: ص 11، عن دار المعارف - مصر، الطبعة السادسة، (بدون تاريخ)، وانظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالميَّة اللغة العربية: ص 270، (مرجع سابق). (¬3) أشتات مجتمعات في اللغة والأدب: ص 11، 12، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد مصطفى الحاج: عالمية اللغة العربية: ص 270، (المرجع السابق نفسه).

الصحارى عند أمَّة من الرُّحَّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها، ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها) (¬1). ويستمر في وصف خصيصة عميقة تفردت بها لغة القرآن، فيقول: (ولم يعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلَّا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيهًا بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة) (¬2). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: الحاج: المرجع السابق نفسه: ص 274، وانظر: نايف معروف: خصائص العربية وطرائق تدريسها: ص 40، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: الحاج: المرجع السابق نفسه: ص 274، وانظر: نايف معروف: المرجع السابق نفسه: ص 40. ويعد هذا سرٌ اختصت به اللغة العربية مِمَّا جعل الباحثين يجتهدون في أصل نشاة اللغة العربية، وذهب بعضهم إلى أنها لغة توفيقية، واستدلوا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31]، وقال بعضهم الآخر: إنها اصطلاحية. . . لزيادة الاطلاع على هذه القضية؛ انظر: ابن فارس: الصاحبي: ص 6 - 31، (مرجع سابق)، وابن جني: الخصائص 1/ 44 - 47، تحقيق: محمد علي النجار، (بدون تاريخ ولم يذكر الناشر)، وانظر: السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 1/ 8 - 55، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وآخرين، طبعة دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه)، بدون تاريخ، وانظر: ابن حزم: الأحكام في أصول الأحكام: 1/ 29 - 35، (مرجع سابق)، وانظر: محمد الخضر حسين: دراسات في العربية وتاريخها: ص 10، الطبعة الثانية 1380 هـ - 1960 م، عن المكتب الإسلامي، دمشق، وعددًا آخر من المراجع الحديثة، ونوقشت هذه القضية حتى عند اللغويين في الغرب وأكثروا القول فيها، وطال الجدل حولها؛ مِمَّا دعا الجمعية اللغوية الفرنسية إلى اتخاذ قرار بمنع البحث في هذه المسالة في قاعات الجمعية لعدم جدوى البحث فيه، ولعقم النظريات المطروحة بصدده حسب زعمهم؛ انظر: نايف معروف: المرجع السابق نفسه: ص 23.

ب- لا تقتصر اللغة العربية على كونها وسيلة تعبير كما تذهب إليه البحوث النظرية في الغرب التي لا تفرق بين لغة وأخرى؛ لأنها كلها وسائل تعبير وتواصل وتفاهم وإنَّما تتميَّز اللغة العربية بأنها ذات مضامين (¬1) علميَّة ومنهجيَّة وموضوعيَّة وحضارية، وتميَّزت في ذلك كله بالبيان والسهولة والوضوح على الرغم مِمَّا قد يبدو من صعوبة تعلمها في بادئ الأمر (¬2). ويذكر الباحثون المختصون إنَّ واقعها (منحها نوعًا من التميُّز والتفرد إذ أكسبتها تجربتها الحضارية على مدى قرون ثروة هائلة من البنى، واحتبست تعابيرها في أرحامها قدرات خفيَّة على العطاء وعلى الإيحاء وعلى تنويع التعبير. . كما أكسبها انتشارها الواسع في بقاع فسيحة من الأرض وتفاعلها مع جماعات لغويَّة كثيرة ألوانًا من الغنى، تأثرًا وتأثيرًا، فهي إذًا ليست. . . اللغة الأوليَّة البدائية التي تحاول أن تصبو إلى مقاربة الحضارة أو ملاحقتها أو الاندماج فيها. . . وإنَّما هي اللغة ذات التجربة السابقة وما كان لظاهرة ما اجتماعية أو إنسانية أن تقوى على التخلي عن تجاربها السابقة، فهذه التجارب جزءٌ منها) (¬3). ومن أعظم تجاربها أنَّها خالطت لغات كثر (فلم تفسد في ألفاظها ولا في اشتقاقاتها، ولا في تراكيبها وأساليبها، أو في بيانها الدقيق المشرق، ¬

_ (¬1) انظر: ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة. . ص 77 - 81، (مرجع سابق)، وانظر: شكري فيصل: قضايا اللغة العربية المعاصرة. .، بحث مدرج في: من قضايا اللغة العربية المعاصرة، المرجع السابق نفسه: ص 32. (¬2) انظر: جميل عيسى الملائكة: اللغة العربيَّة ومكانتها في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة: ص 129، (مرجع سابق)، وانظر: محمد سعيد بن رسلان: فضل العربية: ص 40 - 44، (مرجع سابق). (¬3) شكري فيصل: قضايا اللغة العربيَّة المعاصرة: ص 32، (المرجع السابق نفسه).

ولم يتعد تأثيرها بها عددًا محدودًا من الألفاظ التي تعربت استجابة لمتطلبات تطور أنماط الحياة وتنظيمها، وازدهار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والعسكرية والعمرانية في ربوع بلاد المسلمين) (¬1). وإذا كان من سنن اللَّه في خلقه أن تتأثر اللغة سلبًا وإيجابًا بواقع الأُمَّة فتعز بعزها وتذل بذلها؛ فإنَّ اللغة العربية خضعت لهذه السنة ردحًا من الزمن ولكن جذوتها لم تنطفئ، والسر في ذلك ارتباطها بالقرآن الكريم فحفظت بحفظه (¬2) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وخلاصة القول: إنَّ (اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميَّزُون) (¬3)، واللغة العربيَّة شعار الأُمَّة الإسلاميَّة، وهي من أهم وسائل تميُّزها وهو ما أدركته الأُمَّة وسار تاريخها في ضوئه وبهدي منه. وعن هذا الجانب قال ابن تيمية: (إنَّ اللَّه أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغًا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلَّا بضيط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين اللَّه، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم، واللسان تقارنه أمور أخرى: من العلوم، والأخلاق، فإنَّ العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه اللَّه، وفيما يكرهه، فلهذا جاءت الشريعة ¬

_ (¬1) محمد مصطفى الحاج: عالمية اللغة العربيَّة: ص 258، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: الحاج: المرجع السابق: ص 258. (¬3) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. .: ص 203، تحقيق: محمد حامد فقي، (مرجع سابق).

بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة) (¬1). وقال في مكان آخر: (اعلم أنّ اعتياد اللغة: يؤثر في العقل والخلق والدين، تاثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق) (¬2). لقد سبق شيخ الإسلام برؤيته هذه علماء اللغات الذين خلصوا إلى القول بأنّ اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي جزء منه، ووسيلة للتميُّز والحفاظ على الذاتية والهويَّة المستقلة عن غيرها (¬3). * * * ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم. .: ص 162، (المرجع السابق نفسه). (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 207. (¬3) انظر: مازن المبارك: اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي (محاضرات تتناول التعريب في الوطن العربي تدريسًا وتاليفًا ومصطلحًا): ص 63، الطبعة الثانية 1401 هـ - مؤسسة الرسالة.

موقف المستشرقين من اللغة العربية

موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة وإذا كانت اللغة العربية تحتل تلك المكانة في تميز الأُمَّة الإسلاميَّة (التي تناولها البحث في المطلب السابق) فقد أدرك المستشرقون أهميتها، ووقفوا على أثرها في وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة من جانب آخر، نقل عن (بوستل) قوله عن اللغة العربية: (. . . إنَّها تفيد بوصفها لغة عالميَّة في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والأتراك والتتار والهنود، وتحتوي على أدب ثري، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس، وأن ينقصهم بمعتقدات التي يعتقدونها، وعن طريق معرفة لغة واحدة (العربية) يستطيع المرء أن يتعامل مع العالم كله) (¬1)، ويتباهى (بوستل) أنَّه يقطع العالم الإسلامي من أقصى غربه إلى تخوم الصين دون حاجة إلى مترجم (¬2)، وما ذلك إلَّا لأنه حذق العربية لغة العالم حينذاك. ويعترف أغلب المستشرقين بأنَّ القرآن الكريم هو سبب عالميَّة اللغة العربية، وللمثال على ذلك ما قاله (كارل بروكلمان): (بلغت العربيَّة بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أيُّ لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا مؤمنون بأن العربية وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلاتهم) (¬3). ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية. . .: ص 30، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن: إدوارد سعيد: الاستشراق. . . ص 81، (مرجع سابق). (¬3) نقلًا عن: محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربية: ص 274 (مرجع سابق).

ويقول (برنارد لويس): (وقد وجد الطلبة الإنكليز في الهند لدى دراستهم لغات مسلمي الهند ومدنيتهم، أن أبحاثهم وتنقيباتهم تحتم عليهم دراسة العربية التي هي أساس الثقافة الإسلاميَّة في أيِّ لغة من اللغات) (¬1). وانطلاقًا من هذه الحقيقة توافر فئام من المستشرقين على تعلم العربية ودراستها ودراسة علاقتها بالإسلام و (كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، فبحثوا في فقهها، وأصواتها، ولهجاتها، ونحوها، وصرفها، وأصولها، ومعاجمها، وأطوارها، وغزارتها، ومادتها، وفلسفتها، وعلاقاتها باللغات الأخرى، وخاصة اللغات الساميَّة، ومميزاتها وعناصرها، وتاريخها، ونقوشها، وكل ما أنتجته هذه اللغة) (¬2). وفيما يأتي ذكر بعض المتهمين بالدراسات اللغويَّة العربية، وذكر بعض مؤلفاتهم فيها كنماذج ترد على سبيل المثال: • (ويهان فاك: العربية (دراسات في اللغة واللهجات والأساليب). . . اهتم المؤلف في هذا الكتاب بدراسة العلاقة بين الإسلام واللغة العربية، ودرس خصائصها وارتباطها بالقرآن الكريم، وتطورها بعد وفاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحياتها في العهد الأموي، وأطوارها في العهد العباسي. . . وسيطرتها على العالم الأدبي والعلمي والفكري، ولهجاتها وفصاحتها، وظهور اللغات الدارجة، والعلاقات اللغويَّة في المحيط الإسلامي. . .، وبداية مرحلتها الحديثة بحملة نابليون، ومشكلة اللحن وأطوارها، وغيرها من المسائل) (¬3). • (إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية. . . بحث في اللغة ¬

_ (¬1) نقلًا عن: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون ونظرتهم في نشأة الدراسات اللغويَّة: ص 20، (مرجع سابق). (¬2) أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. .: ص 184، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 184.

العربية ومنزلتها بين اللغات السامية الأخرى، ثُمَّ في اللهجات العربية البائدة واللهجات العربية الباقية، مشيرًا إلى المنهج العلمي لعلماء الاستشراق في دراستهم للغة العربية وما يتعلق بها) (¬1). • (هنري فليش: العربيَّة الفصحى. . . درس اللغة العربية بإسهاب. . . من جوانبها الصوتيَّة والصرفيَّة والاشتقاقيَّة) (¬2). • (يوسف جبرا: تاريخ دراسة اللغة العربيَّة بأوروبا، بحث في تاريخ دراسة العربية بأوروبا قديمًا وحديثًا، واهتمام علماء الاستشراق بها ومتعلقاتها) (¬3). ومن المستشرقين من توافر على (المعجم العربي كشفًا وتحقيقًا ونشرًا، ودراسة) (¬4)، ومنهم الآتية أسماؤهم: • (ماثيو لمسدن: نشر القاموس المحيط لمجد الدين الفيروزآبادي). • (إدوارد وليام لين: له مد القاموس، وهو معجم عربي إنجليزي. . . وقد ضمن مقدمته وصفًا لعدد غير قليل من المعاجم العربية القديمة جاء في الإيجاز والإفادة) (¬5). • (وليان رايت: له جرزة الحاطب وتحفة الطالب، وهو اسم مجموعة تحتوي على: صفة السرج واللجام لابن دريد، وصفة السحاب والغيث لابن دريد أيضًا، وتلقيب القوافي لابن كيسان) (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 184. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 184. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 184. (¬4) أحمد شرقاوي: معجم المعاجم (تعريف بنحو ألف ونصف ألف من المعاجم العربية التراثية): ص أ، الطبعة الثانية 1993 م، عن دار الغرب الإسلامي - بيروت. (¬5) أحمد شرقاوي: معجم المعاجم. .: ص ب، (المرجع السابق نفسه). (¬6) المرجع السابق نفسه: ص ب.

• (فريتس كرانكو: له بواكير المعاجم العربية حتى عصر الجوهري. . . ونشر: المأثور فيما اتفق لفظه واختلف معناه) (¬1). • أرثر ج. أربري: نشر تمام الفصيح لابن فارس) (¬2). وكل هؤلاء المستشرقين من الإنجليز وغيرهم كثير من مختلف الجنسيات الأوروبية والأمريكية والروسية بذلوا جهودًا كبيرة في خدمة المعجم العربي في مجال التحقيق، والترجمة، والنشر (¬3). ومن المستشرقين من شارك في المجمعات اللغوية العربية في كل من مصر ودمشق وبغداد وغيرها، وأسهم بجهوده في خدمة تلك المجامع (¬4)، وتسلَّلَ بعض المستشرقين في هذه المجمعات لنفث سمومه وقوادحه في اللغة العربية وفقًا لقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . ... (وداوني بالتي كانت هي الداءُ) (¬5) ومهما يكن من جدية هذه الدراسات والبحوث والأعمال التي تصدّى لها أعداد كبيرة من المستشرقين، ومهما يكن لها من إيجابيات فإنَّه قد شاع من بينها شبهات أحاقت باللغة العربية، وكادت أن تقتلها بتضافر تلك ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص ب. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص ب. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص ب، ج. د. وقد أورد أكثر من ثلاثين مستشرقًا من مختلف البلدان الغربية ومؤلفاتهم في المعاجم اللغوية العربية. (¬4) انظر: نذير حمدان: اللغة العربية. .: ص 98 - 134، (مرجع سابق)، وانظر: له اْيضًا: مستشرقون (سياسيون، جامعيون، مجمعيون): ص 137 - 231، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن مكتبة الصديق - الطائف. (¬5) من بيت شعر لأبي نواس في إحدى قصائده المعروفة بالخمريات؛ انظر: ديوانه ص 7، طبعة دار صادر، بيروت، (بدون تاريخ) قال فيه: دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ

الدراسات الاستشراقية مع الخطط الاستعمارية والتنصيريَّة والتغريبيَّة (¬1) التي جندت أفرادًا من المستشرقين لإشاعة تلك الشبهات على أنَّها مِمَّا يعوق تطور اللغة العربية، وبالتالي فإنَّها عوائق في مسيرة العرب الحضاريَّة. وللمثال على ذلك ما قاله (دوفرين) في تقرير وضعه عام (1882 م): (إنَّ أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامَّة تتعلم الفصحى العربية) (¬2)، ولتحقيق تلك السياسات الرامية (لزعزعة مكانة اللغة العربية ومكانة موروثها الذي يحتفظ بمقومات المجد الأصيل، ويدخر للأجيال صورًا مشرقة من تاريخهم التي يطمع الغربيون في طمسها، وكان من المستحيل التفكير في إحلال أي لغة أجنبيَّة أو تشجيعها، ولكنه من المعقول في رأيهم التفكير في اللغات العاميَّة العربية وإعطائها فرصة للظهور على مسرح الحياة الثقافية والفكرية، ومن هذا الأمل في نفوسهم بدأت انطلاقة العاميَّة الأولى) (¬3)؛ لذلك فُتحَتْ المدارس المتخصصة ¬

_ (¬1) انظر: لمجموعة باحثين: من قضايا اللغة العربية المعاصرة: ص 29، 21، 217، 238، 240، 261، 264، (مرجع سابق)، ففيها ما أكد الرباط الوثيق بين أعمال المستشرقين في مسار حركتهم العامَّة تجاه اللغة العربية والإسلام وبين التنصير والاستعمار والتغريب، وانظر: نذير حمدان: مستشرقون. . . (المرجع السابق نفسه): ص 255، 256. (¬2) نقلًا عن: محمود محمد شاكر: أباطيل وأسمار. .: ص 147، الطبعة الثانية، 1972 م، عن مطبعة المدني، القاهرة، ولمزيد من معرفة عدد من المستشرقين الذين جندوا لإشاعة تلك الشبهات، انظر: كارم السيد غنيم: اللغة العربية والصحوة الحديثة: ص 25، (مرجع سابق). * نفوسة زكريا سعيد: تاريخ الدعوة إلى العاميَّة: ص 55، 77، الطبعة الأولى، 1964 م، عن دار المعارف، القاهرة. (¬3) مرزوق بن صنيتان بن تنباك: الفصحى ونظرية الفكري العامي: ص 30، عن مطابع الفرزدق 1407 هـ - 1986 م - الرياض.

المتشعبة عن الدراسات الاستشراقية في أكثر من بلد غربي لدراسة العاميات الدارجة في شعوب العالم الإسلامي بعامة والبلاد العربية بخاصة (¬1)، (وركزوا برامج تلك المدارس على التفقه في العاميات خاصة، واستمروا على هذا الحال حتَّى أصلوا دراستها في نفوس عدد كبير من العرب الذين أخذوا مبدأ الاهتمام بالعاميات على أنَّه ثقافات إقليمية، وبدؤوا بنشرها في بلادهم على الطريقة والمنهج الذي سارت عليه مدارس الاستشراق سواء بسواء) (¬2). وفيما يأتي إيراد لأهم الشبهات ثُمَّ الرد عليها: 1 - قصور اللغة العربية عن التطور الحضاري وعجزها العلمي. 2 - صعوبة نطقها وصعوبة كتابتها. 3 - ارتفاع مستواها عن فهم الناس. 4 - التفاوت فيها بين طريقة النطق وطريقة الكتابة (¬3). وحرص المستشرقون القائلون بهذه الشبهات على أن تكون شبهاتهم ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 30. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 31. (¬3) انظر: رمضان عبد التواب: بحوث ومقالات في اللغة: ص 166 - 187، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م، عن مكتبة الخانجي - القاهرة. وانظر: أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب (مخططات التبشير والاستشراق): ص 355 دار الاعتصام، القاهرة، (بدون تاريخ). وانظر: نذير حمدان: اللغة العربية (بحوث في الغزو الفكري، المجالات والمواقف): ص 39 - 55، (مرجع سابق). وانظر: جميل عيسى الملائكة: اللغة العربية ومكانتها في الثقافة العربية الإسلاميَّة (من قضايا اللغة العربية. . .): ص 129، (مرجع سابق). وانظر: محمد خليفة الدناع: العربية الفصحى رباط قومي (من قضايا اللغة العربية): ص 168، (مرجع سابق).

الرد على الشبهة الأولى

هذه من المسلمات، ولذلك انتقلوا من مناقشتها في أساسها والبحث العلمي فيها إلى طرح أساليب ووسائل أخرى للخروج بالعربية من تلك الأزمات التي اختلقوها، ومجمل تلك الوسائل والأساليب فيما يأتي: 1 - كتابة اللغة العربية أو العاميَّة بالحرف اللَّاتيني. 2 - الدعوة إلى العاميَّة، وتقعيدها. 3 - إهمال الإعراب. 4 - الدعوة إلى تطوير اللغة والتصرف فيها (¬1). الرد على الشبهة الأولى: إن رمي اللغة العربية بالقصور وعدم الكفاية العلميَّة تهمة لا تتفق مع حقيقة اللغة العربية؛ لأنَّها لغة حيَّة عمليَّة لها طاقة هائلة على استيعاب المعاني الغزيرة في الكلمات القليلة (¬2)، يقول الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه عن هذا الجانب في اللغة العربية: (ولسان العرب أوسع الأسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبيٍّ) (¬3). وقد أقرت هيئة الأمم المتحدة عالمية اللغة العربية، وأدرجتها في اللغات المعتمدة (كلغة سادسة لشعوب الأرض كافة، يتكلمها ما يزيد على (180) مليون من العرب، ويقدسها المسلمون؛ لأنَّهَا لغة القرآن الكريم ولغة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: من قضايا اللغة العربية المعاصرة: ص 130، 168، 185، 282، (مرجع سابق)، انظر: نذير حمدان: اللغة العربيَّة. .: ص 74 - 97، (مرجع سابق)، وانظر: السيد رزق الطويل: اللسان العربي والإسلام معًا في معركة المواجهة: ص 47، من سلسلة (دعوة الحق)، السنة السادسة، العدد [60]، ربيع الأول 1407 هـ، عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة. (¬2) انظر: نايف معروف: خصائص العربية. . .: ص 74، (مرجع سابق). (¬3) الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر: ص 42، (مرجع سابق). (¬4) انظر: أحمد محمد جمال: تآمر الأعداء على لغة القرآن، (مجلة رابطة العالم =

ومِمَّا جاء في قرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة الذي اتخذته بالإجماع في دورتها الثامنة والعشرين لسنة (1973 م): (إنَّ اللغة العربية أدت دورًا مهمًّا في الحفاظ على حضارة الإنسان وتراثه الثقافي، وفي العمل على نشرهما) (¬1). ولئن خرجت اللغة العربية من صراعها مع الاستشراق والاستعمار أو كادت أن تخرج بهذه النتيجة؛ فإنها في حقيقة الأمر اللغة الأولى، ويكفيها شرفًا أنَّ اللَّه اختارها لكلامه المجيد، وما أصدق ما قاله (حافظ إبراهيم) في رده على شبهات المستشرقين وتلاميذهم على لسان اللغة العربية: وسعت كتاب اللَّه لفظًا وغايةً ... وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ فكيف أضيقُ عن وصف آلةٍ ... وتنسيق أسْمَاء لمخترعاتِ أنا البحرُ في أحشائه الدر كامنٌ ... فهل سألوا الغُوَّاصَ عن صدفاتي؟ (¬2) أما الاعتراف للغة العربيَّة بأنها حافظت على تراث الإنسان، وعملت على نشره، فإنَّ ذلك جزءٌ من الحقيقة، وجزؤها الآخر هو ما أسهمت به اللغة العربيَّة من صنع الحضارة الحديثة في مختلف مجالاتها، وما أضافت من ابتكارات علميَّة ومنهجيّة إضافة لتلك الوحدة السلميَّة الفذَّة بين شعوب المعمورة التي عبَّرَت عنه المستشرقة (زيغريد هونكة) بقولها: (إنَّ كل ¬

_ = الإسلامي، محاضرات موسم 93/ 1394 هـ): ص 98، تصدر عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، وانظر: إسماعيل العرفي: اللغة العربية أم اللغات ولغة البشرية: ص 21، الطبعة الأولى 1456 هـ - 1985 م، عن دار الفكر - دمشق. (¬1) نقلًا عن: أحمد محمد جمال: المرجع السابق نفسه: ص 98. (¬2) ديوان حافظ إبراهيم (ضبط وتصحيح وشرح وترتيب): أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري، 1/ 253، 254، عن دار الجيل - بيروت، (بدون تاريخ).

الشعوب التي حكمها العرب اتحدت بفضل اللغة العربيَّة والدين الإسلامي، بتأثير قوة الشخصية العربيَّة من ناحية، وتأثير الروح الإسلاميَّة الفذَّة من ناحية أخرى، في وحدة ثقافية ذات تماسك عظيم) (¬1). وأمَّا تخلف الأُمَّة الإسلاميَّة عن ركب الأمم الأخرى في ميادين الصناعة والعلوم، فليس مرجعه إلى قصور في اللغة العربيَّة وعدم كفايتها العلميَّة كما يدعي خصومها من المستشرقين وغيرهم؛ بل يرجع ذلك لعوامل كثيرة. . . منها: أولًا: وهن الأمَّة. . . كما لحظ ذلك ابن حزم بقوله: (إنَّ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنَّما يفيد لغة الأُمَّة وعلومها وأخبارها قوة دولتهم ونشاط أهلها وفراغهم، وأمَّا من تلفت دولتهم وغلب عليها عدوها، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمونٌ منهم موت الخواطر، ورُبَّمَا كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم، وهذا موجود بالمشاهدة معروف بالعقل ضرورة) (¬2). وقال أحد المفكرين المعاصرين في هذا المعنى: (الأُمَّة العزيزة تعتزُّ بلغتها، وتحرص على استقلالها كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي سواء، وتحترم قوانينها اللغويَّة وتتمسك بها) (¬3). ثانيًا: ما قام به الاستعمار في سبيل الحيلولة دون ممارسة اللغة العربيَّة وتغليب لغة المحتل عليها وتشجيع اللهجات العاميَّة، حيث رسم دهاقنة ¬

_ (¬1) شمس العرب تسطع على الغرب، تعريب: إبراهيم بيضون وخر: ص 13، 14، (مرجع سابق). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 32، (مرجع سابق). (¬3) محمد بن سعيد رسلان: فضل العربيَّة ووجوب تعلمها على المسلمين: ص 28، (مرجع سابق).

الاستعمار من أمثال (دنلوب) (¬1) سياسة التعليم على أساس الحيلولة بين اللغة العربيَّة وبين أن تصبح الأداة الثقافية لأبناء الأُمَّة الإسلاميَّة ولغة العلوم والتقنية؛ (فحلت مصطلحات أجنبية عن دينها ولغتها في جوانب: الحكم، والقضاء، والتعليم، ولغة الحياة العامَّة والسلوك، وغيرها متابعة بذلك سنّة الإبعاد عن كتب الشريعة وفقهها بتحنيط لغتها، وبذلك يستحكم الانفصام بين المسلم وتراثه ليكون رسمًا لا معنى له، وصورة لا حقيقة له) (¬2). ولعل من الشواهد المعاصرة على صلاحيَّة اللغة العربيَّة لتدريس كافة العلوم؛ ما يحدث في الجامعات والمعاهد التي اتخذتها أداةً للعلم والمعرفة وأفادت منها، فعلى سبيل المثال مضى على تأسيس كلية الطب في دمشق ما يزيد على سبعين عامًا وأساتذتها يدرسون الطب باللغة العربيَّة (¬3)، وقد (أغنوا خزانة الكتب العربيَّة بما لا يقل عن ثمانين مجلدًا في فروع الطب المختلفة) (¬4). ¬

_ (¬1) لمزيد من الاطلاع على هندسة (دنلوب) الماكرة وآثارها على اللغة العربيَّة والدين الإسلامي، راجع: محمود محمد شاكر: أباطيل وأسمار: 166، 171، 227، 257، 258، 259، 442، 443، 444، 558، 559، 560، (مرجع سابق)، وانظر: محمد قطب: واقعنا المعاصر: ص 217 - 222، (مرجع سابق). وانظر: نايف بن ثنيان بن محمد آل سعود: المستشرقون وتوجيه السياسة التعليمية في العالم العربي، مع دراسة تطبيقية على دول الخليج العربي (دول مجلس التعاون)، الطبعة الأولى 1414 هـ، وأساسها رسالة ماجستير في الثقافة الإسلاميَّة نوقشت عام 1411 هـ ـ في كلية الشريعة بالرياض: ص 186 - 197. (¬2) بكر أبو زيد: فقه النوازل: ص 102، 103، (من رسالة بعنوان: المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأوضح اللغى؛ دراسة ونقد)، (مرجع سابق). (¬3) انظر: مازن المبارك: اللغة العربيَّة في التعليم العالي والبحث العلمي: ص 43، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 43، 44.

كما أن كثيرًا من الأساتذة الذين جربوا التدريس بالعربيَّة لا في دمشق وحدها، وإنَّما في القاهرة والرياض وبغداد لم يجدوا عائقًا يذكر من اللغة ذاتها، وإذا كانوا قد اصطدموا بصعوبات فهي خارج الإطار اللغوي (¬1)، بل (استطاع عدد من المخلصين في هذا العصر أن يثبتوا قدرة اللغة العربيَّة على استيعاب العلوم، فوضعوا عددًا من الكتب العلميَّة تناولت شتى الموضوعات، وقدمت أمثلة لقدرة اللغة العربيَّة على التعبير عن دقائق العلوم) (¬2). وعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا المضمار فإنَّه ينبغي أن تتسم حركة التعريب بالصفة الشموليَّة فلا تقتصر على تعريب الحرف وتنسى مرتكز التعريب، وهي العقيدة الإسلاميَّة وليست القوميَّة العربيَّة (¬3) حيث إنَّ العقيدة الإسلاميَّة هي السر في انتشار اللغة العربيَّة وسيادتها، ومن جهة ¬

_ (¬1) انظر: أحمد مطلوب: دعوة إلى تعريب العلوم في الجامعات: ص 25 - 53، عن دار البحوث العلمية، الكويت 1395 هـ - 1975 م، وانظر: نايف معروف: خصائص العربية. .: ص 80، 81، (مرجع سابق). (¬2) مازن المبارك: المرجع السابق نفسه: ص 47، وانظر: شحادة الخوري: دراسات في الترجمة والمصطلح والتعريب: ص 185 - 193 الطبعة الأولى 1989 م، عن دار طلاس، دمشق، فقد أورد في الصفحات المشار إليها آنفًا ثلاث تجارب تاريخية أثبتت قدرة اللغة العربية على استيعاب مسيرة الإنسانية الحضارية؛ وكانت التجربة الأولى في القرن الثاني للهجرة. . .، أمَّا التجربتان الأخريان فكانتا في العصر الحديث إحداهما في مصر وبيروت، إذ بدأ التعليم الطبي فيهما باللغة العربية، والثانية بدأت في دمشق، وهي المشار إليها أعلاه. (¬3) مِمَّا يؤكد العلاقة الفكرية بين اللغة العربية والإسلام ذلك التلازم بينها وبين خطاب الإسلام وانتشارها بانتشاره وضعفها بضعف أمته، ويؤكد هذه الحقيقة من جهة أخرى ما وُجِّه من نقد حاد للقومية العربيَّة عندما (أغفل الدَّاعون إلى إحياء القومية العربيَّة جانب اللغة)، محمد خليفة الدناع: العربيَّة الفصحى رباط قومي (من قضايا اللغة العربيَّة): ص 165، (مرجع سابق).

الرد على الشبهة الثانية

أخرى فإنَّه ينبغي أيضًا الاهتمام بالتعريب كأسلوب حياة، ووسيلة تميُّز يحفظ للأُمَّة شخصيتها وهويتها الذَّاتيَّة في كافَّة ميادين الحياة. الرد على الشبهة الثانية: إنَّ صعوبة النطق وصعوبة الكتابة في اللغة العربيَّة شبهة فيها كثيرٌ من التعسف؛ لأن قواعد النحو والصرف وطريقة كتابة الحرف العربي وضبطه بالشكل والإعجام من ناحية (¬1)، وتحقيقه في مجال الأداء الصوتي (¬2) من ناحية أخرى، خُدِمَ ذلك كله بعبقرية وبراعة أظهرت تميُّز اللغة العربيَّة على سائر اللغات، وحدَّدَت دلالة الألفاظ على المعاني بغاية الدقّة، (فقد عكف علماء الأُمَّة على اللغة العربيَّة وعلومها، واستنبطوا قواعدها، ووضعوا أصول نحوها وصرفها حتى تمت الضوابط والمقاييس في غاية الوضوح والبيان مِمَّا جعلها لغةً علميَّة مكتسبة يسهل حذقها وتعلمها على أبناء اللغة العربيَّة الناشئين) (¬3)، (وعلى أبناء غير العربيَّة الذين دخلوا دين الإسلام أفواجًا، فانتشرت اللغة بينهم كما لم تنتشر لغة من قبل سرعة ويسرًا، ولم يكن أبو الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والمبرد، وأبو علي بن فارس، والثعالبي، وابن سيده، والزبيدي. . . وغيرهم كثير علماء في اللغة يتشدقون في المجتمعات بعلمهم، أو سعيًا لرزق صغير أو طلب لمنصب. . . بل كان كل منهم يهب حياته في خدمة ¬

_ (¬1) انظر: نذير حمدان: اللغة العربيَّة: ص 44، 45، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربيَّة، (من قضايا اللغة العربيَّة). .: ص 217 (مرجع سابق). (¬3) انظر صلاح عبد المقصود وحسن علي ربات لغة القرآن بين مكر الأعداء. . . وحرص الأبناء؛ تحقيق: نشر في مجلة الأُمَّة (مرجع سابق)، العدد [43]، رجب 1404 هـ: ص 59 تحت عنوان: (مجمع اللغة العربيَّة لماذا؟).

الرد على الشبهة الثالثة

علم من علوم العربيَّة يتقرب به إلى اللَّه عز وجل، وهذه غايتهم الأولى! فدانت لهم العربيَّة وذلل لهم علمها) (¬1). وبالنظر إلى علماء التجويد فإنَّهُم كما قال أحد الباحثين: (حققوا في مجال الأداء الصوتي القرآني ظاهرة نادرة الحدوث في أيِّ لغة من لغات العالم، وإليهم يرجع الفضل في حفظ النطق العربي الفصيح سالمًا -إلى حد بعيد- من تأثيرات التطور اللغوي) (¬2). أمَّا صعوبة التعلم وتدريب اللسان حتى يلين لقواعد اللغة وتصاريفها فإنَّ الصعوبة محدودة وليست عائقًا لمن أراد التعلم؛ ثُمَّ إنَّ الصعوبة أمرٌ نسبي يختلف من شخص لآخر، وتحكمه ظروف عدّة، منها ما يعود إلى المتعلم ذاته، ومنها ما يعود لغيره من معلم أو منهج تعليم (¬3). الرد على الشبهة الثالثة: أمَّا ارتفاع اللغة العربيَّة عن مستوى فهم الناس فهذه شبهة مردودة من عدّة أوجه، أهمهما الآتية: ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 59. (¬2) محمد مصطفى بن الحاج: عالمية اللغة العربيَّة: ص 271، (مرجع سابق). (¬3) انظر: رمضان عبد التواب: بحوث ومقالات في اللغة: ص 167 - 170، (مرجع سابق)، ذكر المؤلف أوجه الصعوبة في تعليم اللغة العربيَّة، وأكد بأنّ الصعوبة تعود لعرض النحويين لقواعد اللغة وما وقع في ذلك من خلط بين الواقع اللغوي والمنطق العقلي وما ترتب على ذلك من محاكاة لفظية وجدال وخلافات امتلأت بها كتب قواعد اللغة العربيَّة، والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة العربيَّة ميسورة وسهلة، وهذا ما شهد به المستشرق (مارس) في مجلة التعليم الفرنسية 1930 - 1931 م، إذ قال: (من السهل تعلم أصول اللغة العربيَّة فقواعدها التي تظهر معقدة لأول نظرة هي قياسية ومضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يصدق، فذو الذهن المتوسط يستطيع تحصيلها بأشهر قليلة وبجهد معتدل)، نقلًا عن: نايف معروف: خصائص العربيَّة: ص 40، 41، (مرجع سابق).

أ- اتصال العربيَّة بالطبيعة: فقد توصَّلَ علماء اللغة العربيَّة إلى القول: (بأنَّ أصولها الثنائية تحاكي في الغالب -كما هو الحال في بعض اللغات الأُخرى- أصوات الطبيعة بما فيها من جماد وحيوان وإنسان بدائي، ومن هنا كانت بعض كلمات أمثال: خرير الماء، وهبوب الرياح، وهدير العاصفة، ومواءُ الهر، وصهيل الجواد، ونباح الكلب، ورغاءُ الجمل) (¬1)، وأمثالها انعكاسًا للطبيعة، ومنبثقة عنها. ب- اتصالها المحكم بالمجتمع: (ذلك أن العرب عاشوا أسرًا محكمة الأواصر، تجتمع في أفخاذ وبطون وعشائر وقبائل، تغوص عمقًا في النسب الصريح، وتنداح اتساعًا بالتزاوج والتوالد، وهي في كل حال متماسكة يشد بعضها بعضًا. . . وعلى صورة هذا المجتمع ومثاله كان كلامهم وجرى لسانهم: الألفاظ تتوالد وبينها آصرة القربى، فالأصل هو المصدر مثل: (عِلْم)، ومنه الماضي المجرد: عَلِمَ، ومنه اسم الفاعل: عالم، واسم المفعول: معلوم، والصفة المشبهة: عليم، ووزن المبالغة: علَّامة، واسم التفضيل: أعلم، ومن فعل (جمع) يؤخذ اسما الزمان والمكان: مَجْمعَ، ومن فعل (فتح) يؤخذ اسم الآلة: مفتاح. . . وجميع هذه المشتقات متفقة في حروفها الأصلية وترتيبها ومعناها الأصلي. . .) (¬2). إذًا فاللغة العربيَّة مطبوعة، وتعبر عن الفطرة، وتتفق وحقائق الأشياء، ولها جرسها الشاعري الجميل، وهي سهلة التعلم والتعليم، تامَّة في ¬

_ (¬1) شحادة الخوري: دراسات في الترجمة والمصطلح والتعريب: ص 14، (مرجع سابق)، وانظر: المعجم العربي الأساسي الصادر عن المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم (1989 م) توزيع (لاروس): ص 14. (¬2) شحادة الخوري: المرجع السابق نفسه: ص 144، وانظر: المعجم العربي الأساسي: ص 14، (المرجع السابق نفسه).

الرد على الشبهة الرابعة

ألفاظها، كاملة في حروفها، وكما قال ابن خلدون فهي: (أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد) (¬1). الرد على الشبهة الرابعة: أمَّا التفاوت بين النطق وطريقة الكتابة فإنَّه موجود في سائر اللغات الأخرى وواسع فيها، واللغة الإنجليزيَّة وهي تتسنم المركز الأول في سلم اللغات العالميَّة في العصر الراهن فيها ما يزيد على (200) أصل لغوي شاذ (¬2)، في حين أنَّ التفاوت بين النطق والكتابة في اللغة العربيَّة محدود في كلمات تعد على أصابع اليد الواحدة مثل (هذا، لكن، داود، عمرو، اللام الشمسية) (¬3)، ولا يعد هذا التفاوت عيبًا، ولا سيما أنَّه مسموع عن العرب يحفظ ولا يقاس عليه (¬4). وينبغي أن يذكر أنَّ ما يؤخذ على اللغة العربيَّة -في هذا الصدد وغيره- هو في واقع الأمر من مزاياها، فمثلًا مثنى الكلمة العربيَّة يختزل في كلمة واحدة مثل رجل مثناها: رجلان، في حين يكتب في اللغات الأخرى كلمتين (¬5). خلاصة القول: إنَّ هذه الشبهات التي أظهرها بعض المستشرقين، ونظَّروا لها في دراساتهم اللغويَّة بدعم من الدوائر المعادية للإسلام، وبخاصة الاستعمار والصهيونية وقبلهما التنصير، لا ترتكز على أساس ولا يوجد لها مبرر من حيث منطلق الشبهة في أساسها، ولذلك فإنَّ ما رتبوا ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص 546، (مرجع سابق)، وانظر: نايف معروف: خصائص العربيَّة: ص 38، (مرجع سابق). (¬2) انظر: نذير حمدان: اللغة العربيَّة: ص 42، (مرجع سابق)، وانظر: رمضان عبد التواب: بحوث ومقالات في اللغة: ص 167، (مرجع سابق). (¬3) انظر: نذير حمدان: المرجع السابق نفسه: ص 41. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 42. (¬5) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 43.

عليها من حلول تمثلت في الدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني والعاميَّة. . . وغيرهما مِمَّا سبق ذكره كل ذلك يسقط بسقوط شبهاتهم، ويكفي هنا الإلماح لأبرز الأهداف من تلك الحلول فيما يأتي: 1 - إهمال القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف لغة وأصلًا وتشريعًا (¬1). 2 - هجر لتراث المسلمين، واجتثاث لوجودهم الفكري والثقافي (¬2). ذلك أنَّ المستشرقين العاملين في خدمة الدوائر المعاديَّة للأُمَّة الإسلاميَّة أدركوا (قوة ارتباطها بالدين والثقافة الإسلاميَّة. . .) (¬3)، وأنها من أقوى أسباب الوحدة الإسلاميَّة، وهو ما عبَّرَ عنه المستشرق الإنجليزي (جيب) بقوله: (إنَّ من أهم مظاهرها الحروف العربيَّة التي تستعمل في سائر العالم الإسلامي واللغة العربيَّة التي هي لغته الثقافية الوحيدة، والاشتراك في الكلمات والاصطلاحات العربيَّة الأصل) (¬4)، وعملوا من أجل ذلك على إثارة الشبهات في حياض اللغة العربيَّة، ودعوا إلى الكتابة بالحرف اللاتيني حينًا وإلى العاميَّة حينًا آخر، أو الجمع بينهما أو تطوير اللغة سواء بإهمال الإعراب، أو التصرف فيها وتطويرها على نحو مِمَّا حدث للغة اللَّاتينيَّة، وذلك كله يهدف لما سبق ذكره. ¬

_ (¬1) انظر: نفوسة زكريا سعيد: تاريخ الدعوة إلى العامّية وآثارها في مصر: ص 203، (مرجع سابق)، إذ تقول: (يريد أن يباعد بيننا وبين القرآن ويحرمنا من تلك النعمة التي خصنا اللَّه بها، وهي معرفتنا للغته والقواعد التي عليها) في سياق كلامها عن دعوة المستشرقين للعاميَّة في مصر وترك الفصحى متذرعين بصعوبتها. (¬2) انظر: نذير حمدان: اللغة العربيَّة. .: ص 78، 79، (مرجع سابق). (¬3) انظر: مرزوق بن صنيتان بن تنباك: الفصحى ونظرية الفكر العامي: ص 29، (مرجع سابق). (¬4) أين يتجه الإسلام: ص 20، نقلًا عن: السيد الطويل: اللسان العربي والإسلام. .: ص 102، (مرجع سابق).

وقد نبه الرافعي إلى حملة الاستعمار على اللغة العربيَّة بقوله: (لا جرم كانت لغة الأُمَّة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلَّا من لغته، إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضية، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده، فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على الأخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء) (¬1). ومِمَّا يؤكد اضطلاع الاستشراق بالأهداف الاستعمارية في إطار اللغة العربيَّة، وإسهام المستشرقين فيما فرضه الاستعمار من دعوات مضللة هدمت اللغة العربيَّة، وعملت على انحسارها من أرجاء العالم، واستبدلتها بالحروف اللاتينية أو اللغات واللهجات المحليَّة ما أبداه المستشرق الألماني (كامغماير) من سرور حينما رأى غياب السمت الإسلامي، وذهاب اللغة العربيَّة والحرف العربي من تركيا، فقال في شماتة واضحة (¬2): (إنَّ قراءة القرآن العربي، وكتب الشريعة الإسلاميَّة قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينيَّة بالحروف العربيَّة) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) وحي القلم 3/ 33، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، (بدون تاريخ). (¬2) انظر: السيد رزق الطويل: اللسان العربي والإسلام. .: ص 103، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 103.

وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه • تمهيد. • الالتزام بالإسلام والاعتزاز به. • الوعي الثقافي الشامل. • التعاون والتكامل. • الدعوة والجهاد. • موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته.

تمهيد

تمهيد منذُ شرع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في بناء الأُمَّة الإسلاميَّة، وتكوين حقيقتها المثلى، ونموذجها الفريد على أساس من عقيدة التوحيد وشريعة اللَّه، والمنهج الإلهي للحياة بما يتسم به من مفاهيم متميِّزة، وقيم عالية، منذُ بدء انبثاق هذا النور في بطحاء مكة مهبط الوحي نشأ للإسلام والمسلمين تاريخ مميز بالغ التفرد يختلف عمَّا ظهر في حياة البشر من تواريخ في النشوء والتطور، وولدت في تلك الفترة كذلك حضارة جاءت على غير مثال سابق؛ من حيث أصالة الأُسس، وقوة الجذور، وروح الحياة المتجددة ذات التأثير الفاعل في حياة البشرية وحركتها وآمالها وأهدافها، لقد بدأ هذا التاريخ، ونشأت هذه الحضارة في دنيا الواقع، وبصورة فعليَّة ملموسة، وبوقائع ذات أبعاد ضخمة في حاضر الإسلام ومستقبله منذُ قدم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، وبدأت الجهود تبذل بقوة ومثابرة وصبر على تكوين هذه الأُمَّة الإسلاميَّة ذات التميُّز الفريد في مسارها التاريخي، وبنائها الحضاري، وكل ما يؤكد ذاتيتها وشخصيتها وهويتها من تفرد واستقلال عن سواها من الأمم الأُخرى.

الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

الالتزام بالإسلام والاعتزاز به يعد الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من أهم وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ فإنَّ ذلك من أظهر ما يدعو لتميزها، فالقدوة الصالحة تحقق هذا التميُّز من خلال الالتزام بالإسلام والاعتزاز به، انطلاقًا من جعل مفاهيم الأُمَّة ومناهجها ومواقفها أساسًا لهذا الاعتزاز، وعناية به، وحرصًا عليه، وهذا ما طبقه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسار عليه أصحابه والتابعون لهم بإحسان؛ فقد كان الرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحرص على أن تكون الأُمَّة الإسلاميَّة ذات تميُّز في التزامها، بما يؤكد ذاتيتها، كما تدل على ذلك نماذج كثيرة في حياة المسلمين؛ تتضح في الآتي: أ- في المفاهيم. ب- في المناهج. ج- في المواقف. أ- أمَّا في المفاهيم فإنَّ النماذج على ذلك في حياة الأُمَّة كثيرة جدًّا، منها تلك الحقبة التي كان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بين ظهراني الأمة أو الحقب التي تلت ذلك، فقد جاء الإسلام و (العرب على إرث في جاهليتها من إرث آبائهم في لغاتهم ونسائهم وقرابينهم، فلما جاء اللَّه جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت. . . فكان مِمَّا جاء في الإسلام: ذكر المؤمن والمسلم والكافر، وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثمَّ زادت الشريعة شرائط وأوصافًا، بها سُمّي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا،

وكذلك الإسلام والمسلم، إنَّما عرفت منه إسلام الشيء، ثُمَّ جاء في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلَّا الغطاء والستر. فأمَّا المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع، ولم يعرفوا في الفسق إلَّا قولهم (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأنَّ الفسق: الإفحاش في الخروج عن طاعة اللَّه جلَّ ثناؤُه. ومِمَّا جاء في الشرع: الصلاة، وأصله في لغتهم الدعاء، وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيئة (كما بينه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وطبقه وأمر أمته أن تفعل فيه كفعله). . . والذي عرفوه منه. . . (طأطأ وانحنى)، وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد، والمواقيت، والتحريم للصلاة، والتحليل منها. وكذلك الصيام: وأصله عندهم الإمساك. . . ثُمَّ زادت الشريعة النيَّة، وحظرت الأكل والمباشرة، وغير ذلك من شرائع الصوم. وكذلك الحج لم يكن عندهم غير القصد، وسبر الجراح. . .، ثُمَّ زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزكاة، لم تكن العرب تعرفها إلَّا من ناحية النماء، وزاد الشرع ما زاده. . .، وعلى هذا سائر (أمور) العمرة والجهاد، وسائر أبواب الفقه) (¬1). ¬

_ (¬1) أبو الحسين أحمد بن فارس: الصاحبي (في فقه اللغة العربيَّة ومسائلها وسنن العرب في كلامها): ص 79، 80، 81، تحقيق: عمر فاروق الطبّاع، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م، عن مكتبة المعارف - بيروت، وانظر: السيوطي: المزهر: 1/ 294، 303، (مرجع سابق)، وانظر: أبو عبد اللَّه الخوارزمي: مفاتيح العلوم حول أهميته =

يتضح من هذا أنّ الإسلام رسَّخ مفاهيم، وحدَّد مصطلحات في مجال العقيدة والعبادة والشعائر الأخرى، وما يتصل بذلك من مفاهيم ومصطلحات في مجال المعاملات وسائر العلاقات والسلوك والأخلاق، وكل ذلك يرتكز على عقيدة التوحيد، ويهدف إلى إخلاص العبادة للَّه، وهو مع ذلك من وسائل تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة (¬1). ولشيخ الإسلام ابن تيمية رؤية شاملة فيما يتعلق بمفاهيم الإسلام سواء في مجال العقيدة أو العبادة أو غيرهما مِمَّا يتصل بحياة الأُمَّة، وما كان منها قد حدده الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما ترك أمره للأُمَّة؛ فقام الصحابة الكرام بتحديد بعضه، وتُركَ بعضُه الآخر للأُمَّة الإسلاميَّة عبر تاريخها. وعن ذلك قال: (الأسماء التي علق اللَّه بها الأحكام في الكتاب والسنّة منها: ما عرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه اللَّه ورسوله: كاسم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والإيمان، والكفر، والنفاق، ومنه ما يعرف حده باللغة: كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر، ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس، وعرفهم فيتنوع بحسب عاداتهم، كاسم البيع، والنكاح، والقبض، والدرهم، والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس؛ فما كان من النوع الأول فقد بينه اللَّه ورسوله، وما كان من الثاني والثالث فالصحابة والتابعون، المخاطبون بالكتاب والسنة، قد عرفوا المراد به، لمعرفتهم ¬

_ = المصطلح: ص 13 - 15، الطبعة الثانية 1459 هـ - 1989 م، عن دار الكتاب العربي، تحقيق: إبراهيم الأبياري، وانظر: مطلب مدلول الأُمَّة في القرآن الكريم: ص 77، (البحث نفسه). (¬1) انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: فقه النوازل: ص 161 - 196، (مرجع سابق).

بمسماه المحدود في اللغة أو المطلق في عرف الناس وعاداتهم من غير حدٍّ شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة. . .) (¬1). إنَّ هذه الرؤية لشيخ الإسلام إزاء مفاهيم الأُمَّة الإسلامية تؤكد أصالة تلك المفاهيم وارتكازها على الحق، وأثرها في تحقيق تميُّز الأُمَّة، وهذا واضح في قوله: (فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول. . . وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس الكُفَّار؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، أخبر سبحانه أنَّ الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلَّا جاءه اللَّه بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم) (¬2). أمَّا عن أثر المفاهيم في تميُّز الأُمَّة فيشير إليها بقوله: (ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين -في تحصنهم وتسلحهم- على صفة غير الصفة التي كان عليها فارس والروم: كان جهادهم بحسب ما توجهه الشريعة، التي مبناها على تحري ما هو للَّه أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة) (¬3). وإذا كانت مفاهيم الأُمَّة الإسلاميَّة تنبثق من عقيدة التوحيد، وتلتزم بشريعة الإسلام وبسنة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- وفهم الصحابة والتابعين ومن سار ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 235، 236، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بن عمر بن سالم بازمول: الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية: ص 13 - 32، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م، عن دار الهجرة. . . الرياض. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 106، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: 12/ 107.

على نهجهم من سلف الأُمَّة الصالح، وهي بذلك وسيلة من وسائل تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في تاريخها كلِّه، فإنَّ الإسلام أكد على أهميَّة سلامة هذه المفاهيم من اللبس والاختلاط في معناها بما قد يحمل معنى فاسدًا أو يكون وسيلة إلى محرم (¬1)، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]، حيث نهى -عز وجل- عن استخدام لفظ (راعنا)، التي يقصد بها في الأصل ما تعنيه كلمة ("راعيت الأمر": نظرت إلام يصير، ورعيت النجوم: رقبتها) (¬2)، وكان سبب النهي عن استخدامها اختلاط معناها بما يدل عليه لفظ "رعن" من (هوج واضطراب) (¬3)؛ ولأنَّها (كلمة كانت اليهود تنساب بها وهو من الأرعن؛ قرأها "راعنًا" منونة فتأويلها: لا تقولوا حمقًا من القول؛ لأنه يكون كلامًا أرعن: أي مضطربًا أهوج) (¬4). يقول ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقصدون بها السب، يقصدون فعلًا من الرعونة، فنُهيَ المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تشبهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما قصده المسلمون) (¬5). إنَّ هذا الحدث التاريخي يكشف عن أهميَّة المفاهيم كوسائل ينبغي ¬

_ (¬1) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن 1/ 120، (مرجع سابق). (¬2) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، مادة (رعى)، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: مادة (رعن)، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: مادة (رعن). (¬5) بدائع التفسير 1/ 333، (مرجع سابق).

على الأُمَّة الإسلاميَّة أن تدرك خطورتها من ناحيتين؛ أولهما: باعتبارها وسيلة يستخدمها أعداء الأُمَّة في الكيد لها، ويربطونها بمقاصدهم الشريرة ولو على الصعيد النفسي على أقل تقدير، وأخراهما: باعتبارها وسيلة من وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، ويتضح هذا الأمر بجلاء إذا أُنْعِمَ النظرُ فيما جاء قبل تلك الآية وما جاء بعدها، فالآيات السابقة كانت تضع (المسلمين وجهًا لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. . . إنَّه تحويل المسلمين عن دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يتبع ملتهم، وإلَّا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية، وهذه هي حقيقة المعركة التي تكمن وراء الأباطيل والأضاليل، وتتخفَّى خلف الحجج والأسباب المقنعة) (¬1). وتأتي الآيات بعدها فتبين ما خصَّ اللَّه به الأُمَّة الإسلاميَّة من الفضل والرحمة، وترسخ اليقين في اللَّه في نفوس المسلمين، وأنَّ له ملك السموات والأرض، وهو وليهم ونصيرهم، وذلك تعليلًا -واللَّه أعلم- لما حدث من نسخ سواء في الآيات القرآنية أو الأحكام والشعائر الدينيَّة، وبخاصة حادثة تحويل القبلة التي اهتبل اليهود فرصتها للتشكيك في عقيدة المسلمين، وتابعهم المشركون وسائر أهل الكتاب، وجاءت الآيات -المشار إليها- لتحذر المسلمين مِمَّا وقع فيه اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام من مُساءلة أدت بهم إلى الجحود والانحراف عن حقيقة التميُّز الذي ألزمهم اللَّه به، وأنَّهم إذ لم يحققوه وسلبهم اللَّه إياه وسلب غيرهم من أهل الكتاب والمشركين، واختار له المسلمين {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، طفحت نفوس كثير من أهل الكتاب بالحسد الذي تحول إلى إرادة وعمل لصرف المسلمين عن دينهم إلى الكفر، كما جاء ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 100، (مرجع سابق).

ذلك في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، ومِمَّا يلحظ في كثير من آيات الذكر الحكيم أنَّها: تجمع (بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر. . . وكلاهما كافر بالرسالة الأخير فهما على قدم سواء من هذه الناحية، وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير، وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين، هو أن يختارهم اللَّه لهذا الخير، وينزل عليهم هذا القرآن، ويحبونهم بهذه النعمة، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود. . . وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة، وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه، وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل، وفي التقرير الذي سبقه عمّا يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد، وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها -ويقودها- اليهود، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين. . .) (¬1). ومِمَّا ينبغي ذكره في سياق الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في نطاق المفاهيم، أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة تعي ما كان منها موروثًا بشريًّا عامًّا تأخذ به أيُّ أُمَّة من الأمم، فهي بقدر حرصها على تأصيل مفاهيمها وتميُّزها فيما يتصل بعقيدتها وشريعتها وشعائرها وما يتصل بسلوك أفرادها ومجتمعاتها وآدابهم، فإنَّها لا ترد المفاهيم المتأصلة بمجهود الأمم الأُخرى في نطاق العلم التجريبي ونحوه، وقد تصدى لبيان ذلك بعض علماء الأُمَّة. وعلى سبيل المثال ما بيَّنه ابن تيمية في قوله: (. . فإنَّ ذكر ما لا يتعلق بالدين مثل مسائل "الطب" و"الحساب" المحض التي يذكرون فيها ذلك، ¬

_ (¬1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 101، 102، (مرجع سابق).

ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهم من الزنادقة الأطباء ما غايته انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز، كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي يهود خيبر، وكما استأجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، هو وأبو بكر لما خرجا من مكة مهاجرين (ابن أريقط) -رجلًا من بني الدِّيل- هاديًا خريتًا، والخريت الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكلُّ هذا في الصحيحين (¬1)، وكان أبو طالب ينصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويذب عنه مع شركه، وهذا كثير) (¬2). ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج (¬3)، وهذا جانب آخر رصده التاريخ للأُمَّة الإسلاميَّة، وانطلقت من خلاله حضارتها، وكان الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في مناهج الأُمَّة من أهم وسائل تميُّزها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 974 - 985، كتاب الشروط، باب [15]، من حديث طويل رقمه [2581، 2582]، وفيه أن خزاعة (كانوا عيبة نصح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وأمَّا الرجل الذي استأجره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه في حديث الهجرة وهو حديث طويل جاء فيه: (واستأجر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدِّيل، وهو من بني عبد عدي، هاديًا خريتًا، والخريت: الماهر بالهداية) صحيح البخاري 3/ 1419 كتاب فضائل الصحابة، باب 741، رقم الحديث [3692، 3694]، (المرجع السابق نفسه). (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 114، (مرجع سابق). (¬3) انظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 247 - 279، المزيد من الاطلاع على تعريف المنهج في اللغة العربيَّة وغيرها)، (مرجع سابق).

و (المناهج الإسلاميَّة المختلفة ترتكز على قاعدة إيمانية، تمد جذورها إلى أعماق الحياة الإنسانية جميعها، تتغلغل في العقيدة، وتسري في الأخلاق، وتختلط بالمادة، وتظهر في شؤون الحياة، ولا ريب أن المجتمع السلم له غاية في الحياة، كما له مثل وقيم وأخلاق ومقاييس في المجتمع، وأهداف خاصَّة، ومزاج نفسي منبعث من عقائده وموروثاته، كما أنَّه ينظر إلى كل شيء بمنظار معين، ينظر إلى الإنسان برؤية وينظر إلى الحيوان برؤية أخرى، وإلى الجماد بغير ذلك، ثمَّ يركز على الإنسان، في حياته وسلوكه وفي غايته، وفي هدفه، فيحرر طاقاته كلها فطريَّة وعمليَّة، من الظنون والأوهام والخرافات والأهواء، كما يخلصه من الجهل والعبوديَّة لغير اللَّه، ومن سلطان الاستبداد والطغيان والشهوات، ثُمَّ وجه الإسلام الفكر البشري إلى ما ينفعه، وصرفه عما يهلكه ويبدد طاقاته بغير نفع أو فائدة، أبعده عن البحث وراء الطبيعة (عالم الغيب) وقدَّم له منهجًا كاملًا يرضي أشواقه النفسية، وحاجاته الروحية، وذلك حتى يفرغ لمهمته في بناء الحياة، وتعمير الكون، وتحقيق العدل والإخاء الإنساني) (¬1). وقد اصطبغت مناهج الأُمَّة الإسلاميَّة في سائر تاريخها، ومجمل حضارتها بهذه السمات، وكانت ثمارًا يانعة لمقومات تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من عقيدة صافية نقية ترتكز على التوحيد الخالص والإيمان العميق باللَّه وأسمائه وصفاته وفقًا لما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ربه، ومن شريعة غراء منبثقة عن تلك العقيدة ومماثلة لها في إخلاص التوحيد والعبادة للَّه، وما اتصف به تميُّز الأُمَّة من خصائص كثيرة من أبرزها ربانية المصدر، وعالميَّة الرسالة، ووسطية المنهج، إلى جانب فاعليتها الحضاريَّة الخيِّرَة، وما يتصل بذلك من أهداف يأتي في مقدمتها تحقيق العبودية للَّه، وتحقيق ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 250، 251.

الاستخلاف في الأرض بإقامة دين اللَّه، وحيث إنَّ استقصاء مناهج الأُمَّة الإسلاميَّة في جوانب حياتها المختلفة لا يتأتى في مساحة ضيقة كما هو حال هذه المفردة، فإنني أتناول منها -على سبيل المثال- الآتي: أولًا: المناهج النقلية وعمادها الوحي، بقسميه القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد اعتنت الأُمَّة الإسلاميَّة عناية لم يسبق لها مثيل في المحافظة على نص القرآن الكريم ونص السنة النبويّة، واعتمدت لتحقيق ذلك مناهج بارعة، جرى الحديث عنها فيما سبق (¬1). ثانيًا: المناهج العقليَّة، وهي منبثقة من المناهج النقليَّة، حيث أسس القرآن الكريم قواعدها، وضبط منطلقاتها، وربطها بأخلاقه ومثله ومبادئه وقيمه، وسار علماء الأُمَّة الإسلاميَّة في تاريخها وحضارتها في ضوء الكتاب والسنّة فكان الاجتهاد، وكان القياس، وكان الإجماع، والاستحسان والاستصحاب، والعرف والعادة، وسد الذرائع، والاستقراء، وكل ذلك ونحوه حقق للأُمَّة الإسلاميَّة بخاصَّة والبشرية بعامّة الكثير من المصالح سواء ما كان منها في إطار الضرورة، أو الحاجيّة، أو التحسينيَّة، ودفع عنها الكثير من المفاسد والأضرار، وذلك بقدر ما تلتزم الأُمَّة بالإسلام وتعتز به، وتسلك مناهجه وتتقيد بمفاهيمه. وبالجملة -فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة قد سلكت في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف، وفي الفقه وأصوله، وفي علوم اللغة والتاريخ ¬

_ (¬1) انظر: مطلب الربانيَّة ص 592 - 633، (البحث نفسه). وانظر: عماد الدين خليل: حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي: ص 118 - 121، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م، عن دار الثقافة، الدوحة، تحدث عن أهميَّة منهج المحدثين في علمي (الجرح والتعديل) و (مصطلح الحديث) اللذين تميَّزت بهما الأمَّة الإسلاميَّة على سائر الأمم، ودعا للإفادة منه في كتابة التاريخ ودراسته.

والحضارة، مناهج لم تسبق لمثلها، (ولقد جهد السلف الصالح بدءًا من الصحابة رضوان اللَّه عليهم، ومن تبعهم، كل جهدهم لينالوا المراتب السنية، فضربوا أكباد الإبل في فجاج الأرض، شرقًا وغربًا بهمم عالية، ونفوس سخيَّة راضية، بحثًا عن العلم، وتحصيلًا للمعرفة، فأثمر صنيعهم هذا أطيب الثمار، وترك في المجتمع الإسلامي كلِّه أبلغ الآثار من توحيد لصفوف الأُمَّة، وترسيخ لمبادئها، وصون لأطرافها، ونشر لمراكز العلم في أقطارها، قاصيها ودانيها، وتنافس بين هذه الأقطار في مراقي الخير هذه، وانتشار لصحيح الأفكار، وجليل المؤلفات، خلال زمن يسير في جميع البلاد، وغير ذلك من مظاهر القوة العلمية ما يستحق أن يوضع تحت الدرس والتأمل للعبرة والاستلهام) (¬1). أمَّا ما يخص مناهج المسلمين في مختلف العلوم، وسبقهم إلى المنهج العلمي الحديث فمرده إلى حقيقة تاريخية تبين أنَّ علماء الأُمَّة الإسلاميَّة كانوا الرواد في وضع هذه المناهج وتطويرها، فلقد (ترجم سلفنا الصالح هذه المعاني في عصور ازدهار الحضارة الإسلاميَّة إلى حقائق ومناهج علمية سديدة لا زالت آثارها قائمة بيننا، نغترف من مناهلها الصافية، لا ينقصها التخطيط السليم، والأصالة الفكريَّة، والأسلوب السلس الواضح في مختلف ميادين الفكر والمعرفة. ويعجب المرء وهو يعالج موضوع كتابة البحوث العلمية ومناهجها الحديثة أن يجد في مصادر تراثنا المبكر دروسًا علميَّة قائمة؛ لكل قواعد ومناهج كتابة البحث العلمي على الأصول الحديثة، حتى بالنسبة للعلوم التي (تحتاج إلى دقة وتحديد في المضمون والصياغة) كالفقه وأصول الفقه، فكلاهما له طابعه وملامحه وصعوباته النابعة من طبيعة الموضوعات ¬

_ (¬1) فاروق حمادة: أسس العلم وضوابطه. . . ص 19، (مرجع سابق).

التي يعالجها، والكتابة فيهما تختلف تمامًا عن الكتابة حتى في المواد الشرعية الأُخرى، فضلًا عن البحث في علوم العربيَّة والموضوعات الأدبية، ولكن على الرغم من كل هذا فقد طوعها العلماء المسلمون -في عصور الإسلام المبكرة- للمنهج العلمي السليم شكلًا وموضوعًا وأسلوبًا) (¬1). ويدلل على صحة هذا مثالان من تأليف الشافعي رحمه اللَّه في كتاب (الرسالة) وفي كتاب (الأم)، فقد كان رحمه اللَّه (يعالج أصعب الموضوعات وأصعب العلوم بطريقة علميَّة موضوعيَّة، ويضع منهج البحث، والخطَّة التي سيسير عليها بحيث تحقق التصور الكامل لجوانب الموضوع في مقدمة الكتاب، وجعل للكتاب محورًا هو مدار كل البحوث التي يعرضها في أسلوب الأديب، وبيان الحكيم) (¬2). وكانت هذه الطريقة هي المتبعة من علماء الأُمَّة في (جملة المصادر الإسلاميَّة في كل العلوم دون استثناء في عصور ازدهار الفكر الإسلامي، وقد كانت الناحيَّة المنهجية والموضوعيَّة أمرًا ضروري الاعتبار، فالمؤلف يلتزم منهجًا معينًا يشرحه في مقدمة الكتاب، ويذكر السبل التي سلكها لإثبات فكرته، كما يلتزم أن يكون البحث في إطار الموضوع دون استطراد، وفي كل هذا لا يغفل ذكر المصادر التي اعتمدها في تكوين كتابه) (¬3). وهكذا فقد (كان العلماء المسلمون في هذا أحرص من أيِّ أُمَّة ¬

_ (¬1) انظر: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان: كتابة البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلاميَّة: ص 24، 25، الطبعة الثانية، 1453 هـ - 1983 م، عن دار الشروق - جدة. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 24، 25، وانظر: عصام الصفدي: تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأُمَّة الإسلامية: ص 44، 142، 143، (مرجع سابق). (¬3) عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان: المرجع السابق نفسه: ص 25.

أخرى، فكانوا يعتمدون السند قبل تدوين العلوم، وأصبح للكتب سندٌ حتى بعد التدوين، بالإضافة إلى تعيين المصادر. . .) (¬1). ويؤكد بعض المستشرقين فكرة أصالة مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ومن أمثلة ذلك ما أكده (فرانتز روزنثال) في مواضع كثيرة من كتابه (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي) (¬2)، وإن كان يحاول في مواطن أخرى، أنْ يركز على سبق المسلمين في مجال البحث العلمي، وتفوق منهجهم في بعض العلوم، ومثال ذلك قوله: (أمَّا علماء الحديث والفقه فقد كانا يستندان في الدرجة الأولى على الدِّقَّة والأمانة في ذكر المصدر المأخوذ عنه؛ لأنّ الأسانيد هي جزءٌ من مادة البحث، وكل علم آخر له علاقة مباشرة بهذين العلمين -الحديث والفقه- تأثر إلى حدٍّ بعيد بالأسلوب المتبع في درسهما ومعالجتها، مثال ذلك كتب التراجم التي نشأت بدافع تدعيم علمي الحديث والفقه، أو لتكون في عون المحدث والفقه. . .) (¬3)، وعلى أي حال فإنَّ في قوله ما يؤكد اتسام مناهج المسلمين العلميَّة بالموضوعية والمنهجية والأمانة والدِّقَّة، وأن ذلك كان خدمة لعلوم الشريعة، ولم يغفل ذكر امتداد هذه المنهجيَّة إلى علوم أخرى وبخاصة علم التاريخ، وفي ذلك يقول: (أمَّ أصحاب الكتب التاريخية فإنهم كانوا شديدي الحرص على ذكر المصادر التي يأخذون عنها) (¬4)، ويستشهد على ذلك بالسبكي والسيوطي، وأنهما شددا على هذه الناحية، ¬

_ (¬1) المرجع السبق نفسه: ص 25. (¬2) ترجمة: أنيس فريحة، ومراجعة: وليد عرفات، الطبعة الرابعة، 1403 هـ - 1983 م، عن دار الثقافة، بيروت. (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 115. (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 116، 117.

ولكنه حين يعرض تطبيقات العلماء في هذه الناحيَّة المنهجيّة يجانبه أسلوب الباحث الموضوعي الرصين (¬1). أمَّا المنهج التجريبي فإنَّ قصب السبق فيه راجع للمسلمين كعمود الصبح (¬2)، ومن الحق أَنْ يقال: (إنَّ أعظم ما يُمكن أن يفخر به العلم الإسلامي في عصر ازدهاره، هو أنّه أضاف بالتدريج إلى مفهوم العلم معنى جديدًا، لم يكن يلقى اهتمامًا عند اليونانيين، وهو استخدام العلم في كشف أسرار العالم الطبيعي (وما يردده كثير من الباحثين من التعبير الغربي)؛ "قهر الإنسان للمادة، والسيطرة عليها"، واستخدام المسلمون الرياضة في حل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان، وبرعوا في علوم المادة، واخترعوا علومًا مساعدة لذلك، فمثلًا برعوا في استخدام الأرقام، ووضع أسس علم الحساب، الذي يُمكن تطبيقه في حياة الناس اليوميَّة، وكان اختراعهم للجبر، وتفوقهم في الهندسة التحليلية، وابتكارهم لحساب المثلثات، إيذانًا بعصر جديد، تستخدم فيه الرياضة للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي، وعلى هذا فقد وضحت على يد العلماء الإسلاميين أصول المنهج التجريبي، بما يقتضيه من ملاحظات دقيقة دائبة، ومن تسجيل منظم لهذه الملاحظات، ثُمَّ وضع الفروض لتفسيرها، وإجراء التجارب للتحقق من صحة هذه الفروض) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 117، ولعل (فرانتز روزنثال) قد تأثر في هذا المنحى بما يشيعه بعض المستشرقين أمثال (جولدزيهر): من كون علماء المسلمين يهتمون بالسند ولا ينقدون المتن. (¬2) انظر: أكرم ضياء العمري: التراث والمعاصرة: ص 64 - 71، من سلسلة كتاب الأُمَّة، العدد [10]، تصدرها: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، الطبعة الأولى شعبان 1405 هـ، وانظر: أحمد عصام الصفدي: تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة: ص 96 - 99، (مرجع سابق). (¬3) توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 294، 295،=

1 - السببية

وكان هذا المنهج نتيجة طبيعيَّة لمنطلقات الإسلام وقيمه حيث إنّ الإسلام فتح المجال للعقل والفكر، وحثَّ على النظر في الكون والحياة وما يحكم ذلك من سنن وأسباب ومسببات. ومِمَّا ينبغي التركيز عليه في هذا المجال أن: (النقلة المنهجيَّة التي أتيح للعقل المسلم أن يتحقق بها، وأن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها، امتدت باتجاهات ثلاثة: 1 - السببيَّة: فمن خلال التمعن في نسيج كتاب اللَّه نجد كيف منحت آياته البينات العقل المسلم رؤية تركيبيَّة للكون والحياة والإنسان والوجود، تربط بين الأسباب والمسببات. 2 - القانونية التاريخيَّة: ولأول مرَّة في تاريخ الفكر يكشف الغطاء أمام العقل البشري عن حقيقة منهجيَّة على درجة كبيرة من الخطورة: إنَّ التاريخ البشري لا يتحول فوضى، وعلى غير هدف، وإنَّما تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء سواء بسواء، وإن الوقائع التاريخية لا تتعلق بالصدفة، وإنَّما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك، وتوجهها صوب هذا المصير أو ذاك. 3 - منهج البحث الحسي (التجريبي): يُمكن القول هنا بأنه لا الكشف عن السببية، ولا القانونية التاريخية يعدل الكسب المعرف القيم الذي أحرزه العقل المسلم خصوصًا، والعقل البشري عمومًا، والذي تمثل بمنهج البحث الحسي (التجريبي) الذي كشف النقاب عنه، ونظَّمه، وأكَّده، ¬

_ = مرجع سابق)، وانظر: ستانوودكب: المسلمون في تأريخ الحضارة، ترجمة: محمد فتحي عثمان: ص 98 - 109، تحت عنوان (جهود المسلمين الحضارية)، عرض -بصورة مجملة- جهود المسلمين في مجال العلوم والمناهج التجريبية، وأكد أنهم لم يسبقوا في هذا المجال الحضاري، ووصف إسهام المسلمين بأنَّه معجزة تكاد تكون غير قابلة للتصديق، وعاد ليؤكد ذلك للمسلمين دون غيرهم في الصفحات 111 - 118، (المرجع السابق نفسه).

جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

ودعا إليه كتاب اللَّه. . لقد دعا القرآن الناس إلى التبصر بحقيقة وجودهم، وارتباطاتهم الكونية عن طريق (النظر الحسي) إلى ما حولهم، ابتداءً من مواقع أقدامهم وانتهاءً بآفاق النفس والكون) (¬1). جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف، وهذا جانب آخر له أهميته في تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، ولا سيما أن التاريخ أصبح في العصر الراهن من أهم الوسائل التي تستخدم التوجيه الشعوب وتربيتها كما استعان به أصحاب المذاهب الفكريَّة في فلسفة مذاهبهم وتأييدها وإيجاد سند تاريخي لها، بل إنَّ الأوروبيين ينظرون له نظرة تقديس وإجلال، ويطلبون منه تفسير الوجود وتعليل النشأة الإنسانية. . . ودراسة التاريخ الإسلامي وبالأخص السيرة النبويَّة، وتاريخ الخلفاء الراشدين، والفتوحات الإسلاميَّة، وسير العلماء والمجاهدين، والقادة من سلفنا الصالح) (¬2)، تسهم في تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، لأنها بمثابة النماذج للقدوة الصالحة في حياة الأُمَّة من خلال مواقفهم الملتزمة بالإسلام والمنبثقة من الاعتزاز به. وتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة ينطوي على صفحات ناصعة لتلك المواقف، وهي من الكثرة بمكان، ولا يُمكن الإحاطة بها، ويقتصر هنا على ذكر موقفين -فقط- بصفتها من النماذج التي توضح بجلاء الالتزام بالإسلام ¬

_ (¬1) انظر: عماد الدين خليل: تحليل للتاريخ الإسلامي (إطار عام): ص 205 - 207، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار الثقافة - قطر، وانظر: المرجع نفسه: ص 202 - 209، وانظر: عبد الرحمن بن عبد اللَّه التركي: لمحات في التفسير الإسلامي للتاريخ: ص 42 - 59، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م، عن مؤسسة الرسالة - بيروت. (¬2) محمد بن صامل العلياني السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي: ص 56، 57، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م، عن دار طيبة - الرياض، انظر: عمر فروخ: كلمة في تعليل التاريخ: ص 6 - 33، طبعة دار العلم للملايين 1454 هـ - 1984 م، بيروت.

والاعتزاز به في أيّ موقف تاريخي حاسم. . .، وأول هذه المواقف ذلك الموقف الحازم الذي وقفه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من مساومات قريش التي طالبوه من خلالها بالتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام على أن يغدقوا عليه من الأموال ما يغنيه، وإذا كانت له رغبة في الرئاسة نصبوه لرئاستهم، وإذا كان ما يحس به مسًا من الجنون طلبوا له العلاج، فكان موقف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- زهدًا وترفعًا في كل ما عرضوا، سواء بما كان في مقالهم من جدٍّ أو سخرية، وكذا ما حمل الإغراء بالثراء والجاه، أو التلميح بالمجابهة والقسر (¬1)، وكان التزامه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإسلام مرتكزًا على أنَّه رسالة ودين {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. وقد سجلت مصادر السيرة هذا الموقف؛ حيث اتفقت قريش على أن يفاوض عتبة بن ربيعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على أمور لعله يقبل بعضها فيعطونه ويكف عن دعوتهم إلى الإسلام: (فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا بن أخي، إنَّك منَّا حيث قد علمت من السِّطة (الشرف) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به ما مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تعبل منها بعضها. . .، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قل يا أبا الوليد، أسمع"، قال: يا بن أخي، إن كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا (ما يظهر للناس من الجن) تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك ¬

_ (¬1) انظر: عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص 108، (مرجع سابق).

الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنَّه رُبَّمَا غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه؛ أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستمع منه؛ قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد فاستمع مني"، قال: أفعل؛ فقال: بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ. . .} [فصلت: 1 - 5]، ثمَّ مضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها يقرؤها عليه، فلمَّا سمعها منه عتبة: أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثُمَّ انتهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السجدة منها (¬1)، فسجد ثُمَّ قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فانت وذاك" (¬2). والشاهد من هذا الموقف أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ارتفع فوق مساومات قريش ملتزمًا بما جاءه من الحق الذي كان مصدر اعتزازه أنَّه مبينًا لا يملك لنفسه ولا لقريش أو غيرهم نفعًا ولا ضرًّا، وإنَّما يتبع ما يوحى إليه، ويمضي فيما أمره ربه حتى تعلو كلمة الحق، وفي موقف آخر قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمه أبي طالب حين أتعبته قريش وهي تنهاه عن مناصرة ابن أخيه، فجاء إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يطلب منه الإبقاء عليه وعلى نفسه وألَّا يحمله ما لا يطيق (¬3) (كما جاء في الخبر)، فقال له الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا عمِّ، واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه، أو أهلك فيه ما تركته" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة فصلت الآية 38. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 322، 323، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (مرجع سابق)، انظر: سيرة ابن إسحاق، تحقيق: محمد حميد اللَّه ص 187، 188، (مرجع سابق). (¬3) انظر: سيرة ابن إسحاق: ص 135، بتحقيق: محمد حميد اللَّه، (مرجع سابق). (¬4) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 299، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: سيرة ابن إسحاق: ص 135، (المرجع السابق نفسه).

بهذا رسم المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- منهج الالتزام بالإسلام والاعتزاز به، وكان موقفه ذلك أحسن أسوة لأمته إلى أن يأتي أمر اللَّه، قد سار الصحابة الكرام على هذا، ففي موقف آخر لجعفر بن أبي طالب (¬1) بين يدي النجاشي، ما يؤكد هذا التوجه الحاسم الواضح الذي ينبثق من الاعتزاز بالإسلام الذي هو دين اللَّه الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد. وخلاصة هذا الموقف؛ أن جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين في الحبشة في جوار النجاشي، تعرضوا لكيد قريش؛ إذ أرسلت اثنين من دهاتها لاسترجاعهم ورسموا لذلك خطّة ماكرة على أن يسلمهم النجاشي من عنده من المهاجرين دون أن يكلمهم لئلا يتأثر بما عندهم من الحق، ولكن النجاشي أبي إلَّا أن يسمع جواب المهاجرين عنده على دعوى قريش فأرسل إليهم (فلمَّا جاءهم رسوله اجتمعوا، ثُمَّ قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قال: نقول واللَّه ما علمنا، وما أمرنا به نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- كائنًا في ذلك ما كان، فلمَّا جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم؛ فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟. . فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث اللَّه ¬

_ (¬1) انظر: محمود شيت خطاب: جعفر بن أبي طالب، مقال مدرج في مجلة البحوث الإسلاميَّة الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلميَّة والإفتاء. . .، الرياض، العدد [27] (مرجع سابق)، في الصفحات 191 - 221، لمزيد من الاطلاع على ترجمته ومواقفه وسبقه للإسلام، وما سجل له التاريخ من فضائل.

إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والصيام. . . (وعدَّدَ عليه أمور الإسلام، ثُمَّ قال:) فصدقناه وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده، لا نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه تعالى، وأن نستحلّ من الخبائث، فلمَّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيُّها الملك. . . فقال له النجاشي: هل معك مِمَّا جاءبه عن اللَّه من شيء؟. . . فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ؛. . . فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص}. . . فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثُمَّ قال النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى. ليخرج من مشكاة واحدة؛ انطلقا [والضمير يعود للاثنين اللذين أرسلتهما قريش]، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون) (¬1). وإذا كان هذا الموقف في حد ذاته كافيًا في الدلالة على التزام بالإسلام والاعتزاز به في موقف حرج، وفي ظل خطة ماكرة صنعتها قريش وأحكمت خطواتها، إلَّا أن الخبر لا ينتهي هنا والموقف له بقية تؤكد صرامة المسلم ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 361، 362، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (مرجع سابق)، وانظر: سيرة ابن إسحاق، بتحقيق: محمد حميد اللَّه ص 194 - 196، (مرجع سابق).

وشدة اعتزازه بإسلامه والتزامه به، وهو موقف يعكس تميز الأُمَّة الإسلاميَّة ممثلًا في جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين إلى الحبشة. أمَّا بقية الخبر ومن ثَمَّ تمام الموقف فإنَّ عمرو بن العاص -وهو أحد رسولي قريش- لم يفقد الأمل، ولَمْ يخشع قلبه في هذا المقام لما سمع من الحق بل قال: (واللَّه لآتينَّه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. . . ثُمَّ غدا عليه من الغد، فقال: أيُّها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عمَّا يقولون فيه، فأرسل إليهم ليسألهم عنه. . .، فاجتمع القوم [المهاجرون من المسلمين في الحبشة]، ثُمَّ قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول واللَّه ما قاله اللَّه، وما جاءنا به كائنًا في ذلك ما هو كائن. . .، فلمَّا دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟. . . قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. . . فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثُمَّ قال: واللَّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العود) (¬1). وتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة مملوء بمثل هذه المواقف، وقد سبق ذكر موقف أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- في مواجهة حركة الردَّة، بقتال المرتدين وكيف أنَّه التزم الإسلام، واعتز به في أحلك المواقف، وعلى الرغم من الأخطار المحدقة بالأُمَّة، فقد سار السلف الصالح ومن تبعهم من الأُمَّة ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 363، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: سيرة ابن إسحاق: ص 196، (المرجع السابق نفسه). وانظر: ابن كثير: البداية 3/ 69 - 76، (مرجع سابق)، أورد روايات القصة من وجوه كثيرة، وانظر: تاريخ الطبري 4/ 16، (مرجع سابق).

الإسلاميَّة على هذا المنهج (¬1)، وكانت مواقفهم التاريخيَّة وما أنتجته من حضارة رائدة، من أعظم وسائل تميّز الأمَّة الإسلامية، وفي هذا ما يؤكد على أن هذا (الدين والاستمساك به وإقامة دعائمه، أساس ومصدر لكل قوة، وهو السياج لحفظ كل حق من مال وأرض وحريّة وكرامة، ومن أجل هذا كان واجب الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله أن يجندوا كلّ إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه، وأن يجعلوا من الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها وجب بذله؛ ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه، لم يغنِ ما وراءه من الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أيضًا، أمَّا إذا قوي شأن الدين، وقامت في المجتمع دعائمه، ورسخت في الأفئدة عقيدته، فإنَّ كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود أقوى من ذي قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة. . . ولقد جرت سنة اللَّه في الكون على مر التاريخ أن تكون القوى المعنويَّة هي الحافظة للمكاسب والقوى المادَّية، فكلما كانت الأُمَّة غنيَّة في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة؛ فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تمسكًا، وأرسخ بقاءً، وأمنع جانبًا) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: موقف ربعي بن عامر مع قائد الفرس (رستم) لدى الطبري في تاريخه 3/ 33، (مرجع سابق)، وانظر: محمد يوسف الكاندهلوي: حياة الصحابة: 4/ 515 - 518، الطبعة الرابعة، 1416 هـ - 1996 م، عن دار الكتاب العربي، بيروت، وانظر: أحمد عصام الصفدي: تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة: ص 149، 150، (مرجع سابق). (¬2) انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة. . . . ص 100، (مرجع سابق).

الوعي الثقافي الشامل

الوعي الثقافي الشامل يعد الوعي الثقافي الشامل من أهم وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ الوعي أولًا بالثقافة الإسلاميَّة من حيث شمولها وكمالها وأصالتها، والتميُّز في مصادرها، وتطبيقاتها، ومدلولاتها وظلالها الواسعة المتكاملة التي تتناول جميع جوانب الحياة، والوعي من جهة أخرى بالثقافات الأخرى والتي تختلف في مصادرها، ومقوماتها، وأهدافها عن الثقافة الإسلاميَّة، وقيمها ونظرتها للكون والإنسان والحياة، وتختلف كذلك عنها في المنابع الأولى، والغايات والمقاصد. فأمَّا الوعي بالثقافة الإسلاميَّة فإنَّه من أهم وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ لأنَّه يعني معرفة شخصية الأُمَّة، ويحدد ملامح هويتها، ويبرز ذاتيتها الخاصَّة، وعلى الرغم مِمَّا يثار حول معنى (الثقافة) واستخداماته في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة ومصادر علومها ومعارفها، وأنَّه لم يعرف على النحو الذي يعرف به في العصر الحديث بصفته مصطلحًا أصيلًا، أو أنَّه قد نقل عن مصطلح أجنبي. . .، فإنَّ المصادر الإسلاميَّة تشتمل على (الثقافة) في مصادر اللغة العربيَّة، وفي مصادر العلوم الشرعيَّة. وعلى سبيل المثال ما أورده أبو نعيم الأصفهاني في مقدمة كتابه (دلائل النبوة) إذ قال: (ثُمَّ إنَّ هذه النبوة. . . لا تتم إلَّا بخصائص أربعة يهبها اللَّه -عز وجل- لهم، كما أنَّ إزالة علل العقول لا تتم إلَّا بالسلامة من آفات أربعة، يعصم منها) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: أبا نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة: ص 34، بتحقيق: محمد روَّاس قعله جي وعبد البر عباس، (مرجع سابق).

وبعد أن يرتب كمال الخصائص الأربعة بانتفاء الآفات الأربعة، يذكر تلك الخصائص قائلًا: (فالمواهب الأربعة؛ أولها: الفضيلة النوعيَّة، وثانيها: الفضيلة الإكرامية، وثالثها: الإمداد بالهداية، ورابعها: التثقيف عند الزَّلة) (¬1)، فدلَّ رابعها على مكانة الثقافة في تحصين شخصية الأُمَّة، وكمال المحافظة على ذاتيتها وهويتها. وهذا ما قرَّره أبو نعيم الأصفهاني؛ فهو بعد أن يذكر الآفات الأربع التي يعصم اللَّه منها الأولياء. . يشرع في شرح المواهب الأربعة إلى أن يقول في معنى التثقيف عند الزَّلة: (يثقفه بها صيانة لمحله، وحفاظًا لحراسته، واستقامته، علمًا منه بأنَّ من ينته عن فلتاته أوشك أن يألفه ويعتاده، فاللَّه لطيف بعباده، الوافي لأوليائه بالنصر، والتأييد، ولا يعدم وافده وصفيه المرشّح لحمل النبوة؛ التنبيه والتثقيف، وإليه يرجع قوله تعالى لنوح عليه السلام: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، وقوله -عز وجل- لداود عليه السلام: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} [ص: 22]، وقوله -عز وجل- لسليمان عليه السلام: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]. وقوله -عز وجل- لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، وقوله -عز وجل-: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]، وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35]، فهذه الخصائص الأربعة لا تنال بالاكتساب والاجتهاد؛ لأنَّها موهبة إلهية، وأثرة علويَّة، حكمها معلقة بتدبير من له الخلق والأمر، ولا يظهرها إلَّا في أخص الأزمنة، وأحق الأمكنة، إحساس الحاجة الكليَّة، وإطباق الدهماء على الضلال من البريَّة، وكلها أعلى من أن تفوز به العقول الجزئية، أو تحصلها المساعي المكتسبة، وإليه يرجع قوله -عز وجل-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 34.

الناحية الأولى

يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، وقوله: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقوله: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] (¬1). إنَّ هذا التأصيل لعلم الثقافة الإسلاميَّة ينصب على جانب مصدرها، وأنها جزءٌ من علم النبوة له حقله ومجاله، وقد وجد من الأُمَّة الإسلاميَّة العناية التامَّة عبر تاريخها، وعلى الرغم من ذلك ذهب بعض الباحثين إلى القول بأنَّ (الثقافة مفقودة في أغلب المعاجم الكبرى، وهي تفيد العمل بالسيف، وِحذْقُ الشيء، والفطنة) (¬2)، ويواصل قوله عن تعريف المعاجم لها بأنها (العلوم والمعارف والفنون والآداب التي يطلب الحذق بها) (¬3). ثُمَّ يستخلص من ذلك أنَّ (التعريفات القديمة تفيد بصفات أخلاقيَّة، والتعريفات الحديثة تفيد باكتساب المعارف العامَّة، مِمَّا لا يحيط بمفهوم الثقافة المجازي الحديث، وما له من صلة بمفاهيم أخرى أساسيَّة) (¬4). ولتجلية هذا الأمر يتناول البحث هنا ناحيتين: الناحية الأولى: مفهوم الثقافة؛ هل هي (مصطلح عربي في أصله ومعناه ومبناه؟ أم هو ترجمة لمفهوم أجنبي) (¬5)، وقد تصدى للإجابة على ذلك كثير من علماء الأُمَّة ومفكريها، وأثبتوا بأنَّ (الثقافة): (كلمة عربيَّة ¬

_ (¬1) دلائل النبوة: المقدمة: ص 36، (المرجع السابق نفسه). (¬2) محمد رشاد الحمزاوي: النظريات المعجميَّة العربيَّة وسبلها في الإحاطة بالفكر العربي (مقال) مدرج في كتاب: (من قضايا اللغة العربيَّة المعاصرة): ص 295، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 295، وانظر: المعجم الوسيط: مادة (ثقف)، (مرجع سابق). (¬4) محمد رشاد الحمزاوي: النظريات المعجمية العربيَّة. . .: ص 295، (المرجع السابق نفسه). (¬5) كمال محمد بشر: الثقافة (حديث إذاعي سجل لاذاعة الرياض في 7/ 4/ 1415 هـ ورقم الشريط 29828)، أفرغه الباحث في أوراق أدرجت في مكتبته: ص 1.

أصيلة، ولها وجود مستمر في اللغة العربيَّة، وإن كانت دلالاتها تتراوح بين المعاني الحسيَّة المادية والمعنويَّة من جهة، وبين الحقيقة والمجاز والتخصيص من جهة أخرى، وفقًا لظروف الزمن، وملابسات الاستعمال، ووجهات النظر في التفسير والتحديد) (¬1). فهي في أصلها اللغوي ترجع إلى الفعل (ثَقُفَ) على وزن (كَرُم) و (ثَقِفَ)، على وزن (فَرِحَ)، ولها في الحالتين دلالتان: إحداهما حسيَّة ماديَّة، وثانيتهما معنويَّة (¬2). وواضح مِمَّا تقدم أنَّ الفعل بصورتيه المذكورتين (ثَقُفَ) بضم القاف، و (ثَقِفَ) بكسرها فعل لازم، وقد يأتي هذا الفعل متعدّيًا ولكن على وزن واحد فقط هو (ثَقِفَ) بكسر القاف (يَثْقَفُ) بفتحها؛ (كسَمِعَ، يَسْمَعُ)، وهو في هذه الحالة ذو دلالات عدَّة لكنها جميعًا دلالات معنويَّة لا ماديَّة، فمن معانيه: إدراك أوصاف الشيء أو الظفر به، وعلى هذا المعنى الأخير جاء قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، ومن معانيه في هذه الحالة -أيضًا- (وهو المراد في سياق المفهوم) حذق الأمور والبراعة فيها يقال مثلًا: ثَقِفَ الرجل العلم والصناعة ثقافة، أي: حذقهما وبرع فيهما، وللفعل من هذه المادة ذاتها صورة أُخرى هي صورة التضعيف (ثقَّف)؛ فيقال: ثَقَّفَ الشيء، أو الرمح تثقيفًا؛ بمعنى: أقام المعوج منه وسوّاه، وهو في الأصل ذو معنًى مادي، ثُمَّ توسِّع فيه بالتوليد الدلالي لينتظم المعنى والمعاني (غير) المادية -أيضًا -كما في: ثقَّف الغلام: أي أدَّبه وهذّبه ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 1. (¬2) انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط: مادة (ثقِفَ)، (مرجع سابق)، وانظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (ثقِفَ)، وانظر: المعجم الوسيط: مادة (ثقِفَ)، وانظر: كمال بشر: المرجع السابق نفسه: ص 1.

وعلمه (¬1)، وهكذا فإذا كان لكلمة الثقافة بهذا البناء بصورتها تلك دلالتان عامتان في أصل الاستعمال، إحداهما: مادية، والأخرى: معنويَّة؛ فإن بين الدلالتين صلة ونسبًا من نوع ما، إنهما تشتركان في مطلق المعنى وجوهره (¬2). وهذا التأصيل لمعنى (الثقافة) في اللغة العربيَّة، يؤكد (بأنَّ كلمة (ثقافة) بوصفها مصطلحًا فنيًّا ذا مفهوم خاص لما يُعْرف اليوم ليس ترجمة لكلمة، أو مصطلح أجنبي، أو تعريبًا لمفهوم أجنبي كما يدعي بعض الدارسين غير العارفين بأصول العربيَّة) (¬3)، فقد استخدمت في تراث المفكرين القدماء من العرب والمسلمين بمفهومها العام، ثُمَّ أصاب ذلك المفهوم بمرور الزمن التخصيص وتضييق المجال، ومع ذلك فإنَّه لا زال محافظًا على دلالته الجوهريَّة في جوانبها الماديَّة والمعنويَّة، المنقول منها والمنقول إليها، وأنَّ هناك قدرًا مشتركًا في المعنى الأساس على إطلاقه، الذي يعني الصقل والتهذيب، وجعل الإنسان أو الشيء سويًّا لا اعوجاج في عمله أو سلوكه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (ثقِفَ)، (مرجع سابق)، وانظر: إبراهيم أنيس وآخرين: المعجم الوسيط، مادة (ثَقِفَ)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهام التعاريف، مادة (الثَّقف)، (مرجع سابق)، وانظر: المعجم العربي الأساسي، تأليف وإعداد جماعة من اللغويين العرب، عن المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم: مادة (ثَقُفَ) و (ثقِفَ) ومشتقاتهما، (مرجع سابق)، وانظر: كمال محمد بشر: الثقافة: ص 22، 30، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: كمال محمد بشر: الثقافة، ص 2، 3، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 22 - 30، (مرجع سابق)، وانظر: محمد المبارك: بين الثقافتين الغربية والإسلامية: ص 55، طبعة 1400 هـ - 1980 م، عن دار الفكر - دمشق، وانظر: مالك بن نبي: مشكلة الثقافة: ص 19 - 26، (مرجع سابق). (¬3) كمال محمد بشر: المرجع السابق نفسه: 4، 5. (¬4) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 4.

الناحية الثانية

الناحية الثانية: الثقافة الإسلاميَّة بصفتها من أنجع الوسائل في تحقيق تميز الأُمَّة الإسلاميَّة في تاريخها وحضارتها، ذلك أن الثقافة الإسلاميَّة ذات أصالة، (ودعامة الأصالة الثقافية للأمَّة الإسلامية هي "الفهم الصحيح لكتاب اللَّه -عز وجل- وسنّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتفقه في الدين، واستيعاب التاريخ الإسلامي، وحل المشكلات المعاصرة للمجتمع الإسلامي من خلال تحكيم شرع اللَّه تبارك وتعالى تحكيمًا كاملًا من غير تأويل تمليه الأهواء، أو تحمل عليه نزعة الانهزام الفكري والنفسي أمام التيارات المعادية الطاغية. . . . ولا تتحقق هذه الأصالة إلَّا بالإحاطة الشاملة بالإسلام عقيدة وعبادة وتشريعًا وخلقًا) (¬1). وأمَّا الوعي بالثقافات الأُخرى، فإنَّ الثقافة الإسلاميَّة في بعض جوانبها (تتعرض لكافة أشكال التفاعل والتأثير المتبادل، فالثقافة تشكل هويَّة زمنيَّة لحياة الأُمَّة. . وتحمي الأُمَّة من عوامل التذوب والتشكيك والاختراق (¬2) وهي ثقافة ذات إيجابيَّة ونزعة إنسانية فريدة طالما افْتُقِدَت في غيرها من الثقافات الأُخرى. يقول أحد المفكرين: (إنَّ المعنى الإنساني للثقافة الإسلاميَّة واضح في كل جوانبها؛ لأنَّها ثقافة منبثقة عن المفاهيم والمثل الإنسانية العليا، في أوسع آفاقها، وأسمى أهدافها) (¬3)، ويؤكد في صدد حديثه عن رعاية الثقافة الإسلاميَّة للوحدة الأنسانية والمثل العليا أنَّ المعنيين بدراسة الثقافات البشريَّة افتقدوا هذا المعنى في تلك الثقافات مستشهدًا ببعض ¬

_ (¬1) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 111، 112، (مرجع سابق). (¬2) مجلة الأزهر، عدد محرم 1455 هـ - يونية 1994 م: ص 105، كلية بعنوان (دور الثقافة الإسلامية) كتبها للمجلة يحيى السيد النجار. (¬3) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلامية: ص 94، (مرجع سابق).

أقوال الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر العام لليونسكو، ونشرت في كتاب (أصالة الثقافات)، وما دعا إليه بعضهم من (إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب. . . مشيرًا إلى أن على هذا النظام أن يعدل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها، مستندًا في ذلك إلى المكتسبات العقليَّة والخلقية، ومبتكرات الأفراد -في الإطار العالمي طبعًا- في ميدان الفكر والعمل والتعبير) (¬1)، وأنَّ البيان المشترك لمجموعة الخبراء المجتمعين صدر بدعوة من اليونسكو لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم الراهن (¬2)، وقد جاء فيه (إنَّ جامعة عالميَّة في المثل العليا والتطلعات تنبجس ببطء، ويُمكن أن تكون أساسًا للمنظمات السياسية، والمبادلات الاقتصادية الدولية، فإذا توصلت الأمم إلى أن تتفاهم، حل الثقة محل الخوف والتوترات، وأصبح من الممكن -في إطار قيم مفهومة ودوافع معروفة- أن يتوصل التعاون الاقتصادي، والاتفاق السياسي إلى نهاية موفقة حقيقية، أمَّا إذا أغفل هذا الإطار الثقافي، أو حطمته سرعة التبدلات التي تهدد التطور، وتكييف القيم، فإنَّ التقدم المادي والمصالح الخاصّة تكون معرضةً هي الأخرى للخطر) (¬3). وينتهي البيان بالتأكيد على النزعة الإنسانية لذلك الإطار الثقافي فيقول: (إنَّ مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات، فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد، قوامه التفاهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 94، 95. (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 96. (¬3) أصالة الثقافات ودورها في التفاهم الدولي (مجموعة مقالات لكتاب عالميين): ص 425، ترجمة حافظ الجمالي، ويوسف مراد، عن دار الفكر العربي، 1963 م، وهو من مطبوعات اليونسكو، وانظر: عمر عودة الخطيب: المرجع السابق نفسه: ص 96.

والاحترام المتبادل، وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة، يتحقق فيه الشمول بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات) (¬1). وبالنظر لتاريخ الإسلام وحضارته يتبين أن الثقافة الإسلاميَّة سابقة إلى الدعوة لهذه النزعة الإنسانية التي تدعو إلى احترام الإنسان من حيث هو إنسان، واحترام كل ما يتصل به من الأشياء والأحياء، ولا أدل على ذلك من قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في حلف الفضول (¬2)، فقد رُوي أنَّه قال: "لقد شهدت في دار (عبد اللَّه بن جدعان) حِلْفًا، ما أحبُّ أنّ لي به حمر النعم، ولو أُدْعَى به في الإسلام لأجبت" (¬3)، وما رُوي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حادثة وضع الحجر ¬

_ (¬1) أصالة الثقافات: ص 426، المرجع السابق نفسه، وانظر: عمر عودة الخطيب: المرجع السابق نفسه: ص 96، وقد أنهى المؤتمرون ذلك المؤتمر ببيان مشترك بعنوان: (إنسانية الغد وتنوع الثقافات)، انظر: ص 423 - 426، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 153، 154، (مرجع سابق)، وانظر: جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 86 - 90، 100، (مرجع سابق). (¬3) أورد هذه الرواية ابن إسحاق في سيرته عن طلحة بن عوف الزهري، وهي عند أهل الحديث مرسلة؛ لأن طلحة بن عوف (المذكور) تابعي، توفي سنة 97 وهو ابن 72 سنة، وكان يروي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون أن يذكر اسم الصحابي، ورواه الحميدي عن سفيان عن عبد اللَّه عن محمد وعبد الرحمن بن أبي بكر مرفوعًا، وأخرجه الحارث في مسنده، انظر: الروض الأنف 1/ 155 - 156، (مرجع سابق)، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 155 وقبلها 153، 154، (مرجع سابق)، وانظر: ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 291، (مرجع سابق). وأخرجه البيهقي: سنن البيهقي 6/ 167، (مرجع سابق)، وانظر: الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد. . . 2/ 154، 155، (مرجع سابق). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 193، الحديث رقم [1676]، بلفظ: "شهدتُ غلامًا مع عمومتي حِلْفَ المطيّبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني أنكُشُهُ"، وقال المحقق: (إسناده صحيح)، الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/ 210،=

في مكانه من بناء الكعبة حيث (إنَّ القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثُمَّ بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا؛ وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثُمَّ تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعَقَة الدّم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا، ثُمَّ إنَّهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية: أنَّ أبا أميَّة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذٍ أسنّ قريش كلها، قال: يا معشر قريش: اجعلوا بينكم -فيما تختلفون فيه- أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا؛ فكان أول داخل عليهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلمَّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثمَّ قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثُمَّ ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثُمَّ بنى عليه) (¬1). إن الثقافة الإسلاميَّة بصفتها سمة ذاتيَّة وموهبة ربانية من جهة، وبصفتها سمات مكتسبة من جهة أخرى، تصدر في هذا وذاك عن ذلك ¬

_ = عن مؤسسة الرسالة بإشراف عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، (مرجع سابق). ولمزيد الاطلاع على تخريج الحديث وتوثيقه انظر: المرجع السابق نفسه 3/ 210 الحاشية رقم [1] فقد خرجه المحقق من سائر كتب السنة، وصححه الألباني في الصحيحة: (1900)، وصحيح الأدب المفرد للإمام البخاري: ص 212، 213، رقم الحديث [441/ 567]، (مرجع سابق). (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 223، 224، (مرجع سابق)، وانظر: علي بن برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبيَّة في سيرة الأمين المأمون إنسان العيون: 1/ 235، 236، طبعة دار المعرفة. . (بدون تاريخ).

الحذق والذكاء والتوفيق الذي اتسم به موقف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يتصدَّى لحل مشكلة وضع الحجر الأسود في مكانه من بناء الكعبة، وقد كان حلًا موفقًا يصدر عن عبقرية وموهبة ربانيَّة عصم اللَّه بها الدماء والحرمات، تصدر الثقافة الإسلاميَّة -أيضًا- عن ذلك القول النزيه الطاهر من المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- في حلف الفضول ما يرمز إليه من دعوة الثقافة الإسلاميَّة إلى السلام الشامل العام المرتكز على الحق والخير والفضيلة ذلك أن قريشًا عندما اجتمعت (تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلَّا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول) (¬1)، وقد جاء في بعض الأحاديث تفسير هذا الاسم بأنَّه انبثق من كونهم (تحالفوا أن تردّ الفضول على أهلها، وألا يَعُزَّ ظالمٌ مظلومًا) (¬2) لذلك سمّي (حلف الفضول). وستبقى الثقافة الإسلاميَّة الرائدة في هذه القيم السامقة، ولن يتأتى لغيرها من الثقافات الأُخرى ما يتأتى لها في هذا المضار، وما ذلك إلَّا لأنها في وحدتها (المترابطة المتناسقة ترتكز من وجهة نظر الإسلام على أساس منطقي قوي وهو: أن الحقائق لا يُمكن أن تكون متناقضة، ولَمَّا كان الإسلام قد قدَّم للبشرية الحقائق كاملة، وحسم بذلك كل المنازعات ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 154، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: تفصيلات هذا الحلف وغيره من أحلاف قريش لدى: جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 86 - 100، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: حسين مؤنس: تاريخ قريش: 165 - 169، (مرجع سابق). (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 153، (المرجع السابق نفسه)، واللفظ في مسند الحارث بن عبد اللَّه بن أبي أسامة التميمي برواية الحميدي (سبق تخريجه)، ص 1073 - 1074، (البحث نفسه).

والخلافات التي ثارت حول كثير من قضايا الإنسان والكون والحياة، فإنَّه قد أرسى دعامة الوحدة الفكرية والروحيَّة على قاعدة المنهج الرباني الذي هدم الخرافات والأوهام والتناقضات، برد الأمر في هذه القضايا إلى اللَّه -عز وجل-، ومن هنا لم يستطع أعداء الإسلام أن ينفذوا إلى كيانه الاعتقادي والفكري والروحي والتشريعي، المرتكز على الوحدة الدينية الأصليَّة، التي تستجيب لها القلوب، وتنشرح لها الصدور، وتتفاعل العقول، ليهدموه جملة، بل لجؤوا إلى أسلوب التفريق والتمزيق. . . تفريق المسلمين إلى شيع وطوائف وأحزاب، وتمزيق وحدة عقيدتهم ونظامهم بإثارة الشبهات، ونشر الافتراءات، وتشويه حقيقة الإسلام) (¬1). أمَّا الثقافات الأخرى فإنها في مسارها العام وفي مجملها ثقافات مرتكزة (على النظرات البشريَّة والفلسفات المحدودة، المرتبطة بقيود الزمان والمكان، والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعيَّة، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان. . . إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنَّما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه، فهي بعيدة كل البعد عن أيّ نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه اللَّه بها، ولا تملك إلَّا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلب بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه بها كرامته، أو بهما معًا، كما هو حال كثير من الأمم والشعوب في ظل هذه الفلسفات الماديَّة المنحرفة التي استطاعت أن تتخذ من السلطة منطلقًا لممارسة نزعة القوة والخديعة في آن واحد) (¬2). ¬

_ (¬1) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 76، (مرجع سابق). (¬2) عمر عودة الخطيب: لمحات في الثقافة الإسلاميَّة: ص 64، 65، (مرجع سابق).

وخلاصة القول: إنَّ الوعي الثقافي الشامل بشقيه الوعي بالثقافة الإسلاميَّة ومنهجها الرباني ونزعتها الإنسانية ورسالتها العالميَّة، وما تتسم به من الدعوة إلى الخير والسلام والفضيلة، ومكافحة الشر والفتنة والرذيلة، والوعي بالثقافات الأُخرى مقارنة بالثقافة الإسلاميَّة وما يُمكن أن يرفض منها، وما يقبل، وما يُمكن اعتباره جسورًا للتواصل بين المسلمين وغيرهم في جوانب المعطيات المكتسبة من الثقافة. إنَّ الوعي الشامل بذلك كله يعد من أنجع الوسائل لتحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة. * * *

التعاون والتكامل

التعاون والتكامل التعاون والتكامل؛ بوصفه وسيلة من وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلامية وقيام حضارتها، وقد سبق تناول التعاون، وأنَّه من مقتضيات الأُخُوَّة الإسلامية ووحدة الأُمَّة، وتبين أنّ التعاون إنَّما يكون على البر والتقوى، وليس على الإثم والعدوان، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وبهذا تحقق الأُمَّة الإسلاميَّة تميزها بأنَّها أُمَّة تنطلق من الخير وتعمل من أجله، وتلتزم في أقوالها وأفعالها بتقوى اللَّه، وكلما التزمت بهذا المبدأ كانت آثارها في التاريخ والحضارة غايةً في الإبداع والتنمية الراشدة. فبالتعاون على البر والتقوى تنهض الأُمَّة الإسلاميَّة بحمل رسالتها وأداء أمانتها في الحياة، وقد أثبت الواقع التاريخي والحضارة الإسلاميَّة (أنَّ المسلمين كانوا في حياتهم الاجتماعية مثالًا حيًا. . . حينما كان الإسلام قوة حيَّة فاعلة في قلوبهم وعقولهم، يستلهمونه في صياغة حياتهم، وفي إقامة العلاقات بينهم، وكان هذا من أعظم أسباب قوتهم القاهرة التي تفوقوا بها على غيرهم، على الرغم مِمَّا كان يملك من آلة الحرب الضخمة، والثروة الوفيرة، والخبرة العريقة التي كان المسلمون يفتقدونها، لقد كانوا كما وصفهم اللَّه تعالى بنيانًا مرصوصًا متلاحمًا ليس فيه ثغرات، بينما كان عدوهم بناءً منهارًا تتخلله الثغرات الناجمة عن فساد تركيبه الاجتماعي، الناشئ عن امتهان كرامة الإنسان فيه، نتيجة اعتبار تلك الكرامة رهينة أمور غير إنسانية، هكذا كانوا، ولكنهم حين تخلوا عن هدى اللَّه، ولم يعد الإسلام هو الذي يقرب بينهم تخلت عنهم قوتهم، وغلبهم

على أرضهم وأنفسهم غيرهم؛ لأنَّ سبب القوة فارقهم. إنَّ القوة شيءٌ ينبع من داخل النفس الإنسانية، وما الأموال، والأسلحة، والمؤسسات إلَّا وسائل تستخدم لتحويل تلك القوة إلى إنجازات عسكرية أو حضاريَّة، أمَّا الوسائل نفسها فلا تعطي الإنسان قوة يفقدها في داخل نفسه، إنَّ القفزات الحضارية. . العظمى في تاريخ كل أُمَّة ليست ناشئة من وجود قوة مادَّية طارئة كانت تفتقدها تلك الأُمَّة، وإنَّما هي ناشئة من روح أتدب، في أعماق الكثرة العظمى من أبناء تلك الأمَّة، فتحولها من مجرد كميَّة بشريَّة هائلة إلى قوة فاعلة في التاريخ، وكان الإسلام هو الروح التي غيرت العرب وغيرهم تغييرًا نوعيًا، فجعلت منهم -بعد أن كانوا كميَّة مهملة في تاريخ منطقتهم والعالم- قوة عالميَّة فريدة في تاريخ البشرية كله؛ بانية، هادية، مشعة، مصلحة) (¬1). وعن هذا التحول الذي تحقق للأُمَّة الإسلاميَّة -بفضل اللَّه الذي رضي لها الإسلام دينًا وأكمله وأتمَّ به نعمته عليها- يقول جواد علي: (وعندي أنَّ الإسلام، هو الذي صيَّر قريشًا المذكورة في الكتب، وهو الذي سودها على العرب وجعل لها المكانة الأولى. . .، ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفضل نشاطها، وتقرب رجالها إلى سادات القبائل، وحكام العراق، وبلاد الشام، واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة لحج البيت، والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله. . .) (¬2). ومن هنا يُمكن القول: إنَّ تعاون الأُمَّة الإسلاميَّة وتكاملها لا مناص ¬

_ (¬1) محمد مهدي شمس الدين: بين الجاهلية والإسلام ص 176، 177، (مرجع سابق)، وانظر: جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 126، 127، (مرجع سابق). (¬2) تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 126، (مرجع سابق).

له من أن ينبع من (إحساس المسلمين العميق بوحدتهم السياسيَّة الجامعة رغم انقسامهم عمليًّا إلى دول وممالك، ورغم عمليات التقسيم والتجزئة التي فرضت عليهم، لقد كان المسلمون عشية اصطدامهم مع الغرب الاستعماري الحديث موزعين بين خمس دول رئيسة هي: الإمبراطوية المغوليَّة في الهند، والدولة الصفويَّة في فارس، والدولة المملوكيَّة في مصر والحجاز والشام، والدولة العثمانية في تركيا وآسيا الصغرى، والدولة السعدية في المغرب، وعلى الرغم من ذلك فقد كان إحساس المسلمين بوحدتهم الجامعة أقوى من أن تحده هذه التقسيمات السياسيَّة التي تقوم على أساس الصراع على السلطة بين الحكام، ذلك الصراع الذي كان من أعظم أسباب شقاء هذه الأُمَّة وضعفها، لكن هذا الصراع بكل آثاره السيئة لم يقضِ على إحساس المسلمين بوحدتهم، وأكبر دليل على ذلك أنَّه ما أن يتهدد العالم الإسلامي خطر خارجي داهم حتى تراهم جميعًا يتنادون للتوحيد أمام هذا الخطر، متجاوزين ما بينهم من خلافات) (¬1). وستبقى مجالات التعاون ومقتضيات التكامل مفتوحة الأبواب بين شعوب الأُمَّة الإسلاميَّة ودولها على تباعد أقطارها، وتنوع دولها، وستجد الأُمَّة من الوسائل والأساليب الحضاريَّة المعاصرة ما يعزز ذلك التعاون والتكامل كلَّما التزمت بهدي الإسلام وشرعه شريطة أن يكون تعاونها منبثقًا من مفهوم البر والتقوى، وسيكون ذلك من أعظم ما يحقق للأُمَّة تميُّزها، ويتيح لها الفاعليَّة الخيِّرَة في التاريخ والحضارة، ولعل من النماذج الحيَّة في العصر الراهن ما تشهده الأُمَّة الإسلاميَّة من دعوات إلى التضامن الإسلامي، وغيرها من الأعمال والروابط التي يتحقق من خلالها التعاون ¬

_ (¬1) محمد رشاد خليل: المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره: ص 159، 160، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م، عن دار المنار - القاهرة.

والتكامل بأساليب عصريَّة، ووسائل متحضرة، مثل عقد مؤتمرات الفقه الإسلامي وما تقدمه من حلول لمشكلات الأُمَّة الإسلاميَّة المعاصرة، بل ومشكلات الإنسانية بعامَّة، ومثل رابطة العالم الإسلامي، ونحو ذلك من الأعمال التي تؤكد فاعليَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في التاريخ والحضارة، وتثبت قدرتها على العطاء للإنسان قاطبة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: عبد الواحد محمد الفار: الثقافة الإسلاميَّة (دراسة تأصيلية): ص 290 - 353، (مرجع سابق)، استعرض فيه ظاهرة التضامن بين الدول وموقف الإسلام منها، وأهمية التضامن الإسلامي وأهدافه وخصائصه وأشكاله، ومظاهر التضامن العربي الإسلامي في العصر الحديث، كما تطرق للحديث عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي باعتبارهما من مظاهر التضامن الإسلامي، وفي ذلك كله ما يؤكد وجود صيغ سياسيَّة وفكريَّة ودعويَّة وثقافية وإعلامية، يتحقق بها التعاون والتكامل بين دول الأُمَّة الإسلاميَّة وشعوبها.

الدعوة والجهاد

الدعوة والجهاد الدعوة والجهاد؛ باعتبارهما من أنجع الوسائل في تحقيق تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وهما جناحا انتشار الإسلام، ونشوء تاريخه وحضارته، فالأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة دعوة وجهاد، ولها منهجها المتميِّز في تطبيق هذين المبدأين اللذين أعطيا تاريخ الإسلام وحضارته طابعه الفريد، وبهما تحقق تميُّز الأُمَّة، فالدعوة إعلام بذاتية الأُمَّة، والجهاد تأكيد لها ودفاع عن وجودها من عدوان غيرها أو جعلها بالقهر والاستبداد تحت نير سيادة أمم أخرى. أمَّا الدعوة فإنها تنبثق من قول الحق -عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬1)، (فهو إعلان تشمل مساحته الزمنية جميع الأجيال، ومساحته المكانية تسع العالم كلَّه. . .، ومسلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه من بعده، وإجماع المسلمين في كل مكان يدل على عالميَّة هذه الدعوة. . ويترتب على ذلك. . مواصلة نشر الدعوة وإبلاغها للناس. . .، ولما كانت الدعوة الإسلاميَّة دعوة عالميَّة في الزمان والمكان جاءت أنظمتها شاملة لجميع شؤون الحياة، ومتطلبات المجتمعات في كل زمان ومكان، فهي تشمل أمور العقيدة، والعبادة وما يتفرغ عنهما من أنظمة للحياة) (¬2). ولأنَّ الإسلام هو دين اللَّه المختار لجميع المكلفين، وهو الدين ¬

_ (¬1) انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: حكم انتماء. . . ص 157 - 168، (مرجع سابق)، بيَّن المؤلف في الصفحات المشار إليها (أن الدعوة إلى اللَّه توقيفية في حقيقتها ووسائلها، وبين منهاجها في ضوء الكتاب والسنة وتطبيق السلف الصالح لها). (¬2) محمد أمين حسين: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 338، 339، (مرجع سابق).

الخاتم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، ولا يقبل اللَّه من مكلف دينًا سواه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ولأنَّ دَعوة الإسلام ترتكز على عقيدة التوحيد الخالص للَّه وتحقيق العبوديَّة له، بما يتوافق مع الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها؛ فقد (دعا اللَّه -تبارك وتعالى- الناس جميعًا -في غير إكراه- إلى اتباعها؛ لأنها دعت إلى عقيدة التوحيد التي دعا إليها الرسل، وفاصلوا أقوامهم عليها، فوضح للناس جميعًا منذُ خلق آدم أبي البشر أن جميع ما أنزله، هو في حقيقته كتاب واحد ورسالة واحدة، تلخصت كلها في القرآن الكريم، فلا مدعاة للاختلاف بينهم إذا صدقوا العزم، وأخلصوا القصد، ونبذوا البغي والعصبيَّة، في هذا يقول جلَّ شأنه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]. . .، إنَّ الحق تبارك وتعالى لم يترك عباده هملًا دون أن يبين لهم ما يتقون، فما دام قد بين لعباده أنَّه قد ضمن لهم الرزق في حياتهم الدنيا، فلا بدّ أن يتضمن كتابه له ما يضرهم، وما ينفعهم في مسار حياتهم المتعددة الجوانب، في شتّى صورها بدءًا من واجب الفرد إلى نظام الأُسرة مرورًا بشرائع الأمَّة. .، ثُمَّ بعد ذلك لا يقف جهد النظام الإسلامي عند هذا الهدف وإنَّما يبني أحكامه على وحدة شاملة لجميع أهل الأرض أعلنها اللَّه تعالى في كتابه. .، فشمول الرسالة المحمديَّة للنظام يحكم الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، فضلًا عما يدعو اللَّه إليه من وحدة أهل الأرض جميعًا تحت راية الإسلام، لا يستهدف علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وإنَّما يستهدف تمكين سلطان الدين في الأرض. .، ثُمَّ يظل نداء اللَّه للمؤمنين والمؤمنات يعلو بخصوصية ما ميَّزهم

اللَّه به على طوائف البشر جميعًا، وبما حققه المؤمنون أنفسهم من إدراك عملي لجوهر رسالة التوحيد في الأرض) (¬1). والدعوة إلى هذا الحق وإلى صراط اللَّه المستقيم جوهر رسالة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقد حمل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عبءَ الرسالة فبلغ عن ربه، واستفرغ في ذلك جهده، والدّارس لسيرته الشريفة يقف على حقيقة أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن في (جميع الأماكن والأزمان والأحوال، ودعا جميع أصناف الناس، كما استخدم جميع الأساليب والوسائل المشروعة المتاحة له. . .، ويدعو فوق الجبل، وفي المسجد، والطريق، والسوق، وفي منازل الناس في المواسم، وحتى في المقبرة، كما يقوم بالدعوة في الحضر والسفر، وفي الأمن والقتال، وفي صحته ومرضه، وحينما كان يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه، ومن أبغضوه، وآذوه، ومن استمعوا إلى دعوته، ومن أعرضوا عنها، وبعث -عليه السلام-: الرسائل والرسل إلى الملوك والرؤساء ممن لم يتمكن من الذهاب إليهم بنفسه، واستمر -عليه الصلاة والسلام- في أداء هذه المهمَّة الجليلة مشمرًا عن ساعديه، باذلًا كل ما في وسعه، حتى لحق بالرفيق الأعلى. . وما أكثر المواقف في سيرته المطهرة التي يتجلّى فيها حرصه الشديد على إخراج البشرية من الظلمات إلى النور، وإبعادهم عن ¬

_ (¬1) صلاح شادي: الحريَّة مدخل إلى الدعوة الإسلامية، (من أبحاث اللقاء الخامس للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في نيروبي بكينيا بتاريخ 26 من جمادى الآخرة إلى أول رجب 1402 هـ (الموافق 20 - 24 إبريل 1982 م)، مدرج في كتاب الدعوة الإسلاميَّة: (الوسائل، الخطط، المداخل): ص 126، 127، 132، الطبعة الأولى 1405 هـ، عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي - الرياض.

كل ما يعرضهم لغضب الرب وعذابه) (¬1)، وسلك الصحابة الكرام وسلف الأُمَّة الصالح هذا المسلك متأسين برسولهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد (حفظ تاريخ الدعوة الإِسلاميَّة المشرق مواقف السلف من هذه الأُمَّة من الصحابة ومن بعدهم -رضي اللَّه عنهم-، وهي تدل على تحمسهم البالغ للدعوة الإِسلاميَّة، وحرصهم الشديد على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعليمهم الكتاب والحكمة. . كانوا يبدؤون بدعوة الأعداء إلى الإِسلام قبل القتال معهم، كما كانوا يحثونهم على قبوله، ويفرحون عند استجابتهم لذلك، ويتأسفون ويحزنون لإعراضهم عنه. . بل كان الدعاة والمعلمون يُبْعَثُون إلى البلاد المفتوحة لنشر الإِسلام، وتفقيه الناس أمور دينهم) (¬2). والدعوة على هذا النحو تسهم في تحقيق تميُّز الأُمَّة الإِسلاميَّة وهو ما اتسم به تاريخ الإِسلام وحضارته، وقد شهد بذلك بعض المنصفين من الغربيين مثل (سير توماس أرنولد) الذي ألف كتابًا وأسماه (الدعوة إلى الإِسلام)، وقال فيه: (إنَّ الذي دفع المسلمين إلى أن يحملوا رسالة الإِسلام معهم إلى شعوب البلاد التي دخلوها، وجعلهم ينشدون لدينهم بحق مكانًا بين ما نسميه أديان الرسالة لهي حماسة من ذلك النوع، من أجل صدق عقيدتهم، وليس موضوع هذا الكتاب، إلَّا صورة من تاريخ ظهور هذه الحماسة في تبليغ الدعوة، ودواعي وألوان نشاطها) (¬3). ¬

_ (¬1) فضل إلهي؛ الحرص على هداية الناس: ص 18، 19، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م، عن مكتبة المعارف - الرياض، وانظر: المرجع نفسه: ص 20 - 40، نماذج من أحوال دعوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأساليبها ووسائلها، ومَنْ توجَّه إليهم بالدعوة ومراحلها. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 41، وانظر: تطبيقات السلف في الصفحات: 42 - 83، المرجع السابق نفسه. (¬3) الدعوة إلى الإِسلام: ص 25، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، (مرجع سابق)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإِسلام: ص 265، (مرجع سابق).

وقال -أيضًا-: (يرجع انتشار هذا الدين في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض إلى أسباب شتى: اجتماعية وسياسيَّة ودينيّة، على أن هناك عاملًا من أقوى العوامل الفعَّالة التي أدت إلى هذه النتيجة العظيمة، تلك هي الأعمال المطردة التي قام بها دعاة المسلمين، ووقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام متخذين من هدي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلًا أعلى، وقدوة صالحة) (¬1). ويلفت (توماس أرنولد) النظر إلى جهود التجار المسلمين والحجاج العائدين من مكة المكرمة، وطلبة العلم في نشر الدعوة إلى الإسلام، قائلًا: (وحيثما شق الإسلام طريقه نجد هناك الداعي المسلم حاملًا الدليل لعقائد هذا الدين؛ فالتاجر سواء أكان من العرب أم (الفلبي) أم (المندنجو) يجمع بين نشر الدعوة وبيع سلعته، وإن مهنته وحدها لتصله صلة وثيقة مباشرة بأولئك الذين يريد أن يحولهم إلى الإسلام، والحاج الذي عاد من مكة مليئًا بالحماسة من أجل نشر العقيدة الإِسلاميَّة التي وقف عليها كل جهوده متنقلًا من مكان إلى آخر، وطالب العلم الذي يلقى تكريمًا باعتباره رجل علم تفقه في الدين والشريعة الإِسلاميَّة) (¬2). ويربط باحث آخر من الغربيين وهو (لوثروب ستودارد) بين نهضة الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث وبين بداية انتشارها فيقول: (لا شيءَ أدلَّ على هذه النهضة الإِسلاميَّة الحديثة "الكبرى" من هذه اليقظة الروحانية الدينيَّة التبشيرية، الناشئة والمنتشرة خلال مئة السنة الأخيرة، ولا غرابة في ذلك، فقد كان الإسلام على الدوام دين هداية الناس، وإخراجهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 94، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 26، (المرجع السابق نفسه). (¬2) الدعوة إلى الإسلام: ص 391، 392 (المرجع السابق نفسه)، وانظر: فضل إلهي: الحرص على هداية الناس: ص 61، (مرجع سابق).

من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، هذا التاريخ شاهد حق على ما قام به المبشرون المسلمون في أول عهد الإسلام من الأعمال الجليلة التي لم يقم بمثلها غيرهم من المبشرين، ولا ننسى أن روح التبشير ونشر الدعوة في سبيل الرسالة لم تبرح حيّة على الدوام، على انحطاط الممالك الإسلاميَّة وتدنيها، فلذلك ما انفك الإسلام طيلة القرون الوسطى ينتشر في الهند والصين، وبينما كانت الرسالة المحمديَّة تنتشر في نائي تلك الأصقاع، كان الترك ينشرونها، ويرفعون أعلامها في شبه جزيرة البلقان، وبين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، كان المبشرون المسلمون يفتحون بلاد غربي إفريقية، وجزائر الهند الهولندية، وجزائر الفليبين فتحًا دينيًا مبينًا) (¬1). وبعد أن يذكر ما حدث للدعوة الإسلاميَّة من خمود في أعقاب ذلك، ثُمَّ ما حدث لها في العصر الحديث من يقظة أشار إلى حقيقة لازمت الدعوة إلى الإسلام، فيقول: (وعند اعتبار شأن انتشار الإسلام هذا الانتشار، يجب أن تعلم العلم اليقين أنّ كل مسلم هو بغريزته وفطرته مبشر بدينه، ناشر له بين الشعوب غير المسلمة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وعلى ذلك إن نشر الرسالة المحمديَّة لم يقم به رجال التبشير وحدهم. . بل شاركهم فيه جماعات عديدة من السياح والتجار والحجاج على اختلاف أجناسهم، ولا يؤخذن من هذا أن لم يقم في المسلمين مبشرون (دعاة) ارتشفوا كؤوس الحمام في سبيل الدعوة الإسلاميَّة، فعديد المبشرين الذين هم على هذا الطراز كثير. .، وقد اعترف عدد كبير الغربيين بهذا الأمر، فقد قال أحد الإنكليز -في هذا الصدد- منذ عشرين سنة: "والإسلام يفوز في أواسط إفريقية فوزًا عظيمًا حيث الوثنيَّة تختفي من أمامه اختفاء الظلام ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإِسلامي 1/ 300، 301، (مرجع سابق)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 292، (مرجع سابق).

من فلول الصباح، وحيث الدعوة النصرانية باتت كأنها خرافة من الخرافات"، وقال مبشر بروستنتي فرنسي: "ما برح الإسلام (يتقدم) منذ نشوئه حتى اليوم فلم يعثر في سبيله إلَّا القليل، وما زال يسير في جهات الأرض حتى بلغ قلب إفريقية مذلّلًا أشق المصاعب، ومجتازًا أشد الصعاب، غير واهن العزم، فالإِسلام حقًّا لا يرهب في سبيله شيئًا، وهو لا ينظر إلى النصرانية، منازعته الشديدة، نظرة المقت والازدراء، فلهذا هو حقيق بالظفر والنصر، إذ بينما كان النصارى يحلمون بفتح إفريقية في نومهم، فتح المسلمون جميع بقاع القارة في يقظتهم") (¬1). أمَّا الجهاد فله مفهوم واسع، يقول الراغب الأصفهاني: (الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] , وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72]. . . والمجاهدة تكون باليد واللسان) (¬2). وبهذا يتبين أنَّ الجهاد يبدأ من داخل المؤمن كي ينتصر على أهوائه وشهواته ويجاهد نزغات الشيطان ووسوسته، ليستقيم على صراط اللَّه المستقيم، وبذلك يكون فردًا صالحًا في مجموع الأُمَّة، ثُمَّ يرقى إلى إدراك مهمته في الحياة، وواجبه في نشر الدعوة والدفاع عنها، وبذلك يندرج في الأُمَّة الإسلاميَّة، ثُمَّ إنّ هذه الأُمَّة مضطرة إلى الجهاد للمحافظة على ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإِسلامي: 1/ 301، 302، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 293، (مرجع سابق). (¬2) مفردات ألفاظ القرآن، مادة (جَهَد)، (مرجع سابق).

ذاتيتها والدفاع عن وجودها والاضطلاع برسالة ربها في نشر دينه وإعلاء كلمته، وللجهاد في الإسلام معنى حضاري فريد؛ (فالجهاد يعكس مفهوم الأمن الإِسلامي الذي يركز على إيصال الرسالة وتبليغها إلى الآخرين بغية توفير الأمن الفكري والمادي والنفسي لبقاء النوع البشري ورقيه، ذلك أن مصدر الخطر على بقاء النوع البشري ورقيه -حسب التصور الإِسلامي- يكمن في (القيم) التي تَكْفُرُ -أي: تَحْجُبُ وتُخْفِي- قوانين الخلق في النشأة والمصير، وتقتصر على نوازع التمتع بالحياة وشهواتها، ومن هذا -الكفر- تتشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور والممارسات في ميادين السلوك والاجتماع والعلاقات، حتى إذا ظهر أهل الكفر في الأرض أشاعوا الفتن، والمظالم السياسيَّة، والمفاسد الاجتماعية، وردوا شبكة العلاقات الاجتماعية إلى عهود الغاب والهمجيَّة والتخلف، ولذلك كان طلب بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه، وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلاميَّة وإقامة مؤسساتها والإنفاق على العاملين والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلاميَّة فيشيع السلام ويكون الدين كله للَّه، وهذا المفهوم الإِسلامي للأمن والسلام يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الأمن القومي الذي ترفع لواءه المجتمعات المعاصرة، وتتخذ ذريعة لممارسة مختلف أشكال العدوان ضد بعضها. .) (¬1). ويختلف مفهوم الجهاد في الإسلام -كذلك- تمام الاختلاف عن المفاهيم القديمة والحديثة، فهو مختلف عن مفهوم الغزو لدى العرب قبل الإسلام، ويختلف عن مفهوم الحرب المقدسة لدى الغرب (¬2)، وإنَّما هو ¬

_ (¬1) مساجد عرسان الكيلاني: الأُمَّة المسلمة (مفهومها، إخراجها، مقوماتها): ص 71، 72، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 72.

(بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب وأكبر وطر للمسلم طاعة اللَّه ورضوانه، والخضوع لحكمه، والاستسلام لأوامره، وذلك يحتاج إلى جهاد طويل وشاق ضد كل ما يزاحم ذلك من عقيدة، وتربية، وأخلاق، وأغراض، وهوى، وكل ما ينافس في حكم اللَّه وعبادته من آلهة في الأنفس والآفاق، فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن يجاهد لتنفيذ حكم اللَّه، وأوامره في العالم من حوله، وعلي بني جنسه، فريضة من اللَّه، وشفقة على خلق اللَّه؛ ولأنَّ الطاعة الانفراديَّة قد تصعب وتمتنع أحيانًا بغير ذلك، وذلك ما يسميه القرآن (الفتنة)، ومعلوم أنَّ العالم كله بما فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، خاضع لمشيئة اللَّه وأحكامه التكوينيَّة، وقوانينه الطبيعية {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] , {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] فيتعين أن جهاد المسلم إنَّما هو لتنفيذ شريعته التي جاء بها الأنبياء، وإعلاء كلمته ونفاذ أحكامه، فلا حكم إلَّا للَّه، ولا أمر إلَّا له، وهذا الجهاد مستمر ماضٍ إلى يوم القيامة، وله أنواع وأشكال لا يأتي عليها الحصر، منها القتال، وقد يكون أشرف أنواعه، وغايته أن لا تبقى في الدنيا قوتان متساويتان متنافستان، تتجاذبان الأهواء والأنفس {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. ومن مقتضيات هذا الجهاد أن يكون الإنسان عارفًا بالإِسلام الذي يجاهد لأجله، وبالكفر والجاهلية التي يجاهد ضدها، يعرف الإسلام معرفة صحيحة ويعرف الكفر والجاهلية معرفة دقيقة، فلا تخدعه المظاهر، ولا تغره الألوان، ولا يجب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والجاهلية، ومظاهرهما، وأشكالهما وألوانهما, ولكن على من (يتولى زمام الدعوة إلى الإسلام)، أو يتولى قيادة الجيش الإِسلامي ضد الكفر

1 - الجهاد التربوي

والجاهلية، أن تكون معرفته بالكفر والجاهلية فوق معرفة عامة المسلمين وأوساطهم، كذلك يجب أن يكون استعدادهم كاملًا وقوتهم تامَّة، يقارعون الحديد بالحديد، بل بأقوى من الحديد، ويقابلون الريح بالإعصار، ويواجهون الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه. . .، وبكل ما اكتشفه الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر، من سلاح وجهاز، واستعداد حربي لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬1). ومن خلال القيام بدراسة الدعوة والجهاد باعتبارهما من وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة يظهر الترابط بينهما، ويتجلَّى مفهوم الجهاد، وتحديد مظاهره، وفي ضوء هذا فإنَّه: (لا يكون الجهاد أصيلًا شاملًا ما لم تتابع التربية وظيفتها في تأصيل معناه وتبيان مظاهره، وتفصيلها حسب متطلبات الزمان والمكان، والذي يقرر عمل التربية في هذا المجال ثلاثة عوامل؛ الأول: درجة تطور البشرية، والثاني: نوع التحديات القائمة في الداخل والخارج، والثالث: نسخ المظهر الجهادي، أو رفع النسخ عنه، وانطلاقًا من هذه العوامل الثلاثة ينقسم ظاهر الجهاد إلى ثلاثة مظاهر رئيسية يندرج تحت كل منهما تطبيقات عملية لا حصر لها ولا نهاية؛ وهذه المظاهر الرئيسية هي: 1 - الجهاد التربوي: يستهدف الجهاد التربوي تزكية الإنسان المسلم من منزلة -الخضوع للغرائز والدوافع- الآنية المؤقتة التي تبقيه حبيس الشهوات والانفعالات الفردية التلقائية والارتقاء به إلى منزلة -تحقيق الذَّات- التي يحقق الإنسان عندها إنسانيته، فيسترشد بتفكيره وعقله وخبراته المنظمة عن الخالق والكون والإنسان والحياة. ¬

_ (¬1) انظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 130، 131، الطبعة الرابعة عشرة، 1412 هـ - 1992 م، عن دار القلم، الكويت.

2 - الجهاد التنظيمي

2 - الجهاد التنظيمي: وغاية هذا الجهاد تنظيم (وسع) الأُمَّة -حسب التعبير القرآني- أي: طاقاتها وقدراتها المعنوية والماديَّة والبشرية، والتنسيق بينها بما يكفل حشدها وتكاملها -دون هدر أو نقص- لتحقيق أهداف الرسالة. 3 الجهاد العسكري: وغاية هذا الجهاد هو إزالة العوائق التي تحول دون الحفاظ على بقاء النوع البشري ورقيه، حين لا تنجح أشكال الجهاد التربوي والتنظيمي في تحقيق هذه الغاية وحدها، ويتجلى اقتران هذا النوع من الجهاد بالرسالة الإسلاميَّة من خلال الضوابط العقيديَّة والأخلاقية التي تحكمه وتوجهه بحيث لا يخرج لحظة واحدة عن غايات الرسالة وأهدافها، وحين تتحقق أهداف الرسالة دون قتال يتوقف الجهاد القتالي ويصير ممنوعًا) (¬1). وبالنظر لمنطلقات الجهاد وغاياته ومظاهره، وضوابطه الشرعيَّة ومجالاته ووسائله، يتبين أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة مجاهدة لتحقيق مراد اللَّه في نفسها أولًا وقبل كل شيء، ثُمَّ لنشر دعوة الإسلام إلى الخلق كافَّة، ثُمَّ يأتي الدفاع عن وجود الأُمَّة، ونشر الدعوة، والاضطلاع يحمل الرسالة لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى؛ ولأنَّ حكمة اللَّه اقتضت أن لا يستجيب جميع الناس لصوت الحق، ولا يلتزم أكثرهم بالإِسلام، بل ينبري لدعوة الإسلام في كل زمان أعداء ألداء، وخصومٌ جائرون، فإنَّ مجاهدة هؤلاء تكون من المبادئ الإسلاميَّة والمجاهدة تكون ¬

_ (¬1) ماجد عرسان الكيلاني: الأُمَّة المسلمة. . ص 72 - 74، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عبد العال سالم مكرم: أثر العقيدة في بناء الفرد والمجتمع: ص 159 - 164، (مرجع سابق)، وانظر: محيي الدين حسن القضماني: مصطلحات إسلامية: ص 83 - 91، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن المكتب الإسلامي - بيروت.

في صور كثيرة، منها: الصبر على آذاهم وتقوى اللَّه في ذلك لقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] , ومنها المجادلة بالتي هي أحسن وبخاصة مع أهل الكتاب لقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، وقد تنتهي المجادلة معهم بالمباهلة لقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. ومن صور الجهاد المصابرة والمرابطة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. قال ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (والمصابرة: مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنَّها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة. . . والمرابطة: وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة. . فالمرابطة كما أنَّها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان. .، وسمّي المرابط مرابطًا: لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع، ثُمَّ قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابط. . .) (¬1). وقال في موضع آخر: (وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى اللَّه تعالى، فلا ينتفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلَّا بالتقوى) (¬2). وقد تصل مجاهدة الأُمَّة الإسلاميَّة لغيرها من الأمم إلى درجة القتال وعندها فإنَّ للإسلام منهجًا متميزًا لم يشهد له التاريخ مثيلًا، من حيث ¬

_ (¬1) بدائع التفسير 1/ 540، 451، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: 1/ 543.

الضوابط الشرعيَّة لإعلان الحرب والقتال، وما شرعه الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب -ومن ألحقه علماء الأُمَّة الإسلاميَّة بهم- إذا لم يستجيبوا لدعوة الإسلام، فإنهم يخيرون بين دفع الجزية أو القتال، فإذا اختاروا الجزية فإنها تؤخذ منهم لاعتبارات عدّة، وإلى جانب ذلك فإنَّ لأسلوب أخذها في الإسلام أخلاقًا ساميَّة (سبق ذكر مجملها)، وإذا أبوا إلَّا القتال فإنَّ للقتال والحرب في الإسلام منهجًا فريدًا يُمكن تلخيص مرتكزاته في الآتي: 1 - أن يكون لإعلاء كلمة اللَّه، يقول أبو الحسن العامري: (لسنا نشك أنَّ الوقائع الحربيَّة بين أصناف الخليقة لن تقع إلَّا على جهات ثلاث، هي: الجهاد، والفتنة، والتصعلك، فأمَّا الجهاد: فهو الذي يتولاه عمَّار البلاد، وساسة العباد، من الدفاع عن الدين، وصيانة للمراتب، وأما الفتنة: فهو ما يقع بين طبقات الأمم من الهَيَجِ والقتال: لتعصب بلدي، أو تعصب نسبي، وأمَّا التصعلك: فهو ما يقصد به من انتهاب المال، واستلاب الأملاك، فالنوع الأول نتيجة القوة التمييزية، وهو محمود عند ذوي الألباب، وأمَّا النوعان الآخران فأحدهما نتيجة القوة الغضبيَّة، والآخر نتيجة القوة الشهويَّة، وكلاهما مذمومان عند ذوي الألباب) (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 156، (مرجع سابق)، ومن الضوابط للقتال في الإسلام، أو للدخول في الحرب أن تكون في سبيل اللَّه، وأن تكون معلنة من قبل ولاة أمر الأُمَّة الإِسلامية وألا يدخلها الفرد إلَّا بإذن من ولي أمر المسلمين، وإذا كانت راية الجهاد مرفوعة في بلدٍ من بلدان الأمة الإِسلامية فإنَّه لا يجوز لأيِّ فردٍ من قطر آخر أن يدخل الجهاد إلا بإذن ولي الأمر في قطره، وكذلك يشترط لمن كان أبواه حيين إذنهما ليذهب إلى الجهاد، (انظر في هذا كتب الفقه). وعلى سبيل المثال: المغني لابن قدامة 13/ 8 - 10، 16، 17، 25، 26، 28، 33 - 35، 37 - 41، ففي الصفحات (8 - 10)، ذكر شروط الجهاد وهي: (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة)، وفي الصفحة 16 =

ويصف أبو الحسن العامري الجهاد القتالي في الإسلام ممثلًا في الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقول: (ونحن متى تتبعنا حال محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في حروبه ووقائعه وجدناه جاعلًا لقصارى غرضه من الثبات القوي في مصافِّ القتال كلمة يبذلها خصمه قريبة من الإقرار بوحدانية من له الخلق والأمر، والتصديق بما أرسل إليه من عنده -جل جلاله- حتى إذا وجدها منه أغمد سيفه، وأوجب على نفسه حمايته) (¬1). ب- أن لا يكون اعتداءً ولا تجاوزًا، وكون القتال في سبيل اللَّه لإعلاء كلمة اللَّه، وإظهار الحق، وإزهاق الباطل، فإنَّ أيَّ مظنَّة للظلم أو التجاوز أو التعسف في استعمال الحق، ونحو ذلك مِمَّا لا يتفق مع غاية القتال وأخلاق الإسلام فيه، كل ذلك لا يجيزه الإسلام ولا يرضاه، بل نهى عنه وحرَّمه. وقد استنتج بعض الباحثين من ذلك أمرين؛ أحدهما: أنَّ القتال في الإسلام (ليس للإجبار على اعتناق الإسلام. . .) (¬2). والآخر: أنَّه (ليس عقابًا على الكفر. . . الذي ولد عليه صاحبه ونشأ عليه. . وصاحبه لم يسبق له الدخول في الإسلام (أمَّا) الكفر الطارئ على ¬

_ = قال: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه)، وقال في الصفحة 25: (وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعًا إلَّا بإذنهما). وناقش في الصفحات التي قبلها وبعدها كثيرة بيَّن فيها أحوال الجهاد ومتى يكون فرض كفاية ومتى يكون فرض عين، والجهاد في هذا المقام بمعنى الخروج لقتال العدو. . وفي هذه المسائل ما يبين عمق الأخلاق الإسلاميَّة وسماحة الإسلام، وما ينطوي عليه من الحكمة والنظرة الدقيقة الفاحصة لأمن الأمَّة الإِسلامية وسلامتها، والبعد بها عن مواطن الفتن والتهور بقدر ما يحافظ على عزتها وكرامتها وسيادتها. (¬1) كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 157، (المرجع السابق نفسه). (¬2) عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: سماحة الإسلام. . . ص 149، (مرجع سابق).

صاحبه بعد الدخول في الإسلام. . . فيه حدّ الردَّة كما ورد في السنة وعمل الخلفاء الراشدين مع إجماعهم عليه. . .) (¬1). وفي هذا ما يؤكد سماحة الإسلام في أمر الجهاد، ومن أبرز ذلك هذان الأمران: الأول: إنَّه لَمْ يكن من مشروعية القتال في الإسلام حمل الناس بالقوة المسلحة على اعتناق الدين؛ لأن في القرآن العظيم نصًا واضحًا وصريحًا ومحكمًا يمنع من هذا الهدف، وهو قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. الثاني: أن لا يكون عقابًا على الكفر الأصلي الذي ولد عليه صاحبه ونشأ، فالكفر أعظم الذنوب، ومع ذلك فالأمر فيه موكول إلى اللَّه سبحانه يعاقب عليه في الآخرة بالخلود في النَّار، أمَّا في الدنيا فليس لأحد أن يعاقب صاحب الكفر الأصلي بالقتال عليه أو القتل، ودم الكافر كفرًا أصليًّا مصون كماله وعرضه، إلَّا إذا حارب المسلمين أو انضم لمن يحاربهم، فيكون هو الذي أهدر دم نفسه) (¬2). ج- للقتال في الإسلام ضوابط وأخلاق تكفل السلام للبشرية قاطبة، بل تجعل السلام هو السائد، وهو المأمور بالجنوح إليه لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] فالسلام في الإسلام يحقق (احترام النوع الإنساني لإنسانيته، وذلك عام لكل الناس: أفرادًا، وأسرة، وجماعات، ومجتمعات إنسانية عالميَّة في إطار الكرامة، والمساواة والعزَّة، وإرادة الخير والحق. . وشامل لكل أحوال الإنسان، فهو لا يعني مجرد الكف عن الحرب بأيِّ ثمن، ولو كانت هناك حرب نفسية داخل ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 149، 150. (¬2) انظر: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: سماحة الإسلام ص 151، (المرجع السابق).

الإنسان، أو جحيم لا يطاق داخل الأسرة، أو مهما يقع في الأرض من ظلم وفساد، ومهما يلحق العباد من لأواء وشدة وضنك، وإنَّما يمتد ليشمل هذه المراحل كلها، وتلك الأحوال كلها، في خطوات متدرجة تدرجًا منطقيًا متوازنًا) (¬1). ومن هنا يتضح (أنَّ الإسلام يبدأ محاولة السلام أولًا في ضمير الفرد، ثُمَّ في محيط الأسرة، ثُمَّ في وسط الجماعة، وأخيرًا يحاول في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب. . . وإنَّه ليسير في تحقيق هذه الغاية الأخيرة في طريق طويل يعبر فيه عن سلام الضمير إلى سلام البيت إلى سلام المجتمع إلى سلام العالم في نهاية المطاف) (¬2). ولعل تحية الإسلام وهي (السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته)؛ التي يتبادر بها المسلمون عند لقائهم، وعند وداعهم، مِمَّا يدل على نزعة السلام على الأُمَّة الإسلاميَّة، حتى لقد بلغ الأمر بالآداب الإسلاميَّة أن لو فرقت بين اثنين شجرة أو شاخص أو نحوهما، وهما في طريق ما أن يبادر أحدهما الآخر بالسلام حال لقائهما في ذلك الطريق، وقبل ذلك وبعده مسمَّى (الإسلام) ذاته فهو يتضمن السلام والمسالمة. أمَّا حالة القتال والحرب فهي حالة طارئة ومقيدة بشروط دقيقة، ولها ضوابط وأخلاق تكفل الرحمة بالخلق من إنسان وحيوان وما يحيط بهما من موجودات البيئة الفطريَّة (¬3)، ومن هذه الضوابط ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: عثمان جمعة ضميرية: منهج الإسلام في الحرب والسلام: ص 36، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م، عن مكتبة دار الأرقم - الكويت. (¬2) سيد قطب: السلام العالمي والإسلام: ص 28، طبعة 1386 هـ - 1967 م. (¬3) انظر: مطلب العقيدة الإسلاميَّة: ص 331 - 335، (البحث نفسه)، وانظر: عبد الكريم الخطيب: الحرب والسلام في الإسلام: ص 13 - 32، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م، عن دار الفكر - دمشق.

أولًا: (ضوابط قبل بدء القتال، ومنها: أن لا يقاتل العدو إلَّا إذا سُدَّت كل الطرق أمام التوصل إلى عقد اتفاق سلمي. . .، ومنها: ألا نبدأهم بالقتال حتى يبدؤونا هم به مع أخذ الحذر الدقيق منهم. . . ومنها: أنه إذا كان بيننا وبين العدو عهد بعدم الاعتداء، وبدرت (منه) بوادر قويَّة على خيانة العهد وجب علينا أن نعلمه بنقض العهد من جانبنا قبل أن نقاتله. . . الثاني: ضوابط أثناء القتال، أن يكون مقصورًا على من قاتلنا فعلًا، أو عزم على قتالنا يقينًا، أو ظنًا قويًّا تؤيده قرائن الأحوال الواردة من العدو. . وأن لا يكون اعتداءً وتجاوزًا من جانبنا كقتل الشيوخ والنساء والذرية، والضعفاء، والرهبان المعتزلين في خلواتهم أو بيوتهم. . . وحظر ضرب الأهداف المدنية -كما هو معروف في الفقه الدولي الحديث- أي: أنَّ الجيش المسلم حين يخوض حربًا واجبة شرعًا، فعليه أن يقتصر حربه على قتال من حمل السلاح من العدو وجابهنا به، أو شارك فيه بأي لون من ألوان المشاركة كالتخطيط، ونقل المؤن والعتاد والجنود إلى ميدان القتال، أو المؤسسات الحربية، ومركز القيادات وإصدار الأوامر وتدبير شؤون القتال، أمَّا النساء والأطفال وكبار السنن ورجال الدين والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في أديرتهم ومعابدهم، ولم تكن لهم صلة بأمور الحرب الدائرة، وكذلك الزروع والماشية والمؤسسات المدنية كمخازن المياه والتموين الغذائي للمدنيين، والطرق غير الحربية ومراكز الطاقة الحيويَّة المتصلة بحياة العامَّة اليوميَّة، والمدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات المدنية، فهذه كلها لا يتعرض لها بسوء أخذًا بسنة صاحب الرسالة -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، والاعتداء عليها داخل في الاعتداء المنهي عنه في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] هذا ما يرجحه كثير من الفقهاء، ولكنه مشروط بشرط عادل ومنهم وهو: أن لا يعتدي علينا العدو بضرب هذه

الأهداف لدينا، فإذا اعتدى العدو علينا بضرب مثل هذه الأهداف جاز لنا ضرب ما تصل إليه أيدينا من منشآته كذلك؛ أخذًا بمبدأ المعاملة بالمثل لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (¬1). ومن الضوابط الأخلاقية أثناء القتال (عدم المثلة بقتلى الأعداء. . . لأنها عمل حقير، ولا تليق بكرامة الإنسان مسلمًا كان أو غير مسلم. . والاستجابة إلى كف القتال إذا طلب العدو ذلك شريطة ألا يكون مخادعًا. . .) (¬2). أمَّا الضوابط التي تكون بعد القتال فتتعلق بالأسرى وكيفية التعامل معهم على نحو ما ذكر الفقهاء في ذلك (¬3)، وما يجب على المسلمين بعد القتال مع إحراز النصر من (الالتزام الكامل بمنهج اللَّه من التواضع، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصر اللَّه واتباع هديه في كل شؤون الحياة الخاصة والعامة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. . . إن النصر والتمكين في الأرض من أجلّ النعم على المسلمين بعد الإيمان باللَّه، وشكر هذه النعم يكون بطاعة اللَّه ورسوله، لا بالسعي في الأرض فسادًا، والطغيان على عباد اللَّه. . . وفي هذا الإطار المحكم من التوجيه الإسلامي الخلقي جرت معارك المسلمين مع أعدائهم) (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: سماحة الإسلام ص 154، 155، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 156. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 157، وانظر: عثمان جمعة ضميريَّة: منهج الإسلام في الحرب والسلام: ص 216 - 219، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الكريم الخطيب: الحرب والسلام: ص 32 - 38، (مرجع سابق). (¬4) عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: سماحة الإسلام: ص 157، (المرجع السابق نفسه).

موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته تَمَيَّز تاريخ الإسلام وحضارته بالتوازن بين الروح والمادَّة، والربط بين عالم الغيب والشهادة، ولذلك فإنَّ تفسير هذا التاريخ وحضارته لا يتأتى بتلك المناهج التي درج عليها بعض المستشرقين في تفسير التاريخ بعامة، وتاريخ الإسلام وحضارته بخاصَّة، فقد تجنَّى أولئك المستشرقون -في عامة دراساتهم- على ثوابت التاريخ الإسلامي، وفسروه تفسيرًا ماديًّا، أو قوميًّا، وكأنهم إزاء تاريخ الغرب وحضارته الماديَّة، بل درج بعضهم على تطبيق المنهج المعكوس في حق تاريخ الإسلام وحضارته (¬1)، فإذا كان يدرس تاريخ الديانة النصرانية في جوانبها الروحيَّة في طور تاريخي يركز على جانب الروح، طبَّق في حق تاريخ الإسلام وحضارته عكس هذا المنهج بما يظهر أنّ الإسلام ذو نزعة مادَّة شهوانية، وإذا حدث في طور آخر التركيز على الجانب المادي في بناء الحضارة، ودراسة مقوماتها، أبرز الإسلام وكأنَّه ذو نزعة روحية -فحسب- ولا يحفل بالجانب المادي في بناء الحضارة وتفسير التاريخ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: محمد بن عبود: منهجيَّة الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي؛ مقال مدرج في مناهج المستشرقين في الدراسات العربيَّة الإسلاميَّة 1/ 362، إصدار مكتب التربية العربي لدول الخليج، (مرجع سابق). (¬2) انظر: عبد العظيم محمود الديب: المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي: ص 103 - 114، 120 - 125، (مرجع سابق)، وانظر: عبد العلم عبد الرحمن خضر: المسلمون وكتابة التاريخ (دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ): ص 288، الطبعة الثانية، 1415 هـ - 1995 م، عن الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض.

أولا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي

وقد نتج عن هذه المناهج القاصرة عن تفسير تاريخ الإسلام وحضارته تفسيرًا يتفق مع حقائقه، وما يصدر عنه من مبادئ وقيم، وأخلاق ومثل؛ نتج عن هذه المناهج مصادرة بطولات المسلمين، واستلاب حضارتهم، وتزييف تاريخ الإسلام وحضارته في معظم ما أنجزه المستشرقون من دراسات وصفيَّة أو نقدية لهذا التاريخ وحضارته (¬1). وفي ضوء ما سلف بيانه -من دوافع الاستشراق ومظاهر نشاطه، وعلاقاته بدوائر العداء للإسلام- يتضح أن منهج المستشرقين في دراساتهم لتاريخ الإسلام وحضارته قد تأثر بالظروف التاريخية التي عاشها المستشرقون في مختلف مراحل حركتهم الاستشراقية وأطوارها. ويتأكد أنَّ ذلك المنهج كان خاضعًا في مساره العام للكنيسة والتنصير ثمّ للاستعمار، ووقع في وقت مبكر في براثن الحركة الصهيونية، وانطلق كذلك من منطلقات عقدية وسياسية واقتصادية كان لها تأثير في مسار ذلك المنهج، وكانت سببًا في تجريمه ليس من قبل المفكرين المسلمين فحسب بل ومن المنصفين في الغرب ذاته وإن كان بعضهم يفرق بين الاستشراق اللاهوتي والاستشراق العلمي، ولكن مهما اختلف المنحى وتغير الأسلوب فإنَّ المنهج الاستشراقي لم يسلم أبدًا من كونه مجافيًا لما يقتضيه المنهج العلمي الصحيح من موضوعية وإنصاف وبعد عن التعصب ونوازع الأهواء. ولمزيد الإيضاح والاستدلال يجري الحديث عن المنهج الاستشراقي في دراسة تاريخ الإسلام وحضارته في النقاط الآتية: أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي: درج المستشرقين في الأعم الأغلب على نقد من سبقهم من ¬

_ (¬1) انظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق ومنهجه في كتابة التاريخ الإسلامي: ص 136 - 141، (مرجع سابق).

المستشرقين بعامة ومستشرقي العصور الوسطى بخاصة، ومما يتناوله هذا النقد منهج أولئك المستشرقين في كثير مما تركوا من دراسات تتسم بالقصور في البحث أو عدم الاستيعاب أو مجانبته الصواب. . ومن ذلك ما يتصل بتاريخ الإسلام وحضارته، ويطلقون على ذلك مسمى الاستشراق اللّاهوتي، ومن النماذج التي تذكر في هذا الموضوع من آراء المستشرقين الناقدين ما يأتي: أ- يقول أحد المستشرقين: (حقيقة إن العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق كبير، ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي نوعًا ما، كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي للمسيحية لا يُمكن أن يكون فيه خير، وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلَّا لتلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بنهم كل الأخبار التي تلوح مسيئة إلى النبي العربي أو دين الإسلام) (¬1). ب- ويقول مستشرق آخر: (. . . توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين، وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة) (¬2). ¬

_ (¬1) رودي بارت: الدراسات الإِسلامية والعربية في الجامعات الألمانية، ص 9، 10، ترجمة مصطفى ماهر، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. . . ص 2، 26، (مرجع سابق). (¬2) زقزوق: الاستشراق. . . ص 44، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الإسلام في الفكر الغربي (عرض ومناقشة)، ص 601 الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م، عن دار القلم - الكويت.

ج- ويقول (ساذرن) عن المنهج الاستشراقي في العصور الوسطى ويطلق عليها اسم عصر الجهالة: (إن الشيء الوحيد الذي يجب أن لا نتوقع وجوده في تلك العصور هو الروح المتحررة الأكاديمية، أو البحث الإنساني الذي يتميز به الكثير من البحوث التي تناولت الإسلام في المئة سنة الأخيرة) (¬1). د- ويقول (مونتجمري وات): (منذُ القرن الثامن عشر جد الباحثون من أجل تقديم الصورة المشوهة التي تولدت في أوروبا للإسلام، ولكن رغم الجهد العلمي المبذول فإنَّ آثار الموقف المجافي للحقيقة والتي ولدتها كتابات القرون الوسطى في أوروبا لا زالت قائمة، فالبحوث والدراسات الموضوعية لم تقدر بعد على اجتثاثها كليّا) (¬2). هـ - ويقول مستشرق آخر: (على الرغم من المحاولات الجدية المخلصة التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرر من المواقف التقليدية للكتاب المسيحيين من الإسلام؛ فإنهم لم يتمكنوا أن يتجردوا كليًّا عنها كما يتوهمون) (¬3). و- وعن رسوخ النزعة المعادية للإسلام في صفوف المستشرقين وعبر طبقاتهم يقول أحد المستشرقين: (ولقد قامت في صفوفهم في السنوات الأخيرة محاولة إيجابية تحاول النفاذ بصدق وإخلاص إلى أعماق الفكر الديني للمسلمين، بدل السطحية الفاضحة التي صبغت دراساتهم السابقة، ولكن (على الرغم) من ذلك فإنّ التأثر بالأحكام التي صدرت مسبقًا على ¬

_ (¬1) سازرن: نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى، ترجمة علي فهمي خشيم وغيره نقلًا عن زقزوق: الاستشراق. . ص 23، (مرجع سابق). (¬2) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 4، 5، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 5.

ثانيا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي

الإسلام والتي اتخذت (صورة تقليد منهجي) في الغرب لا زال قويًّا في بحوثهم ولا يُمكن (إغفالها) في أيّة دراسة لهم عن الإسلام) (¬1). ز- ويقول مستشرق آخر: (لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين، ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية) (¬2). هذه نماذج للنقد الذي وجهه بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي في دراسته للإسلام، وهي تبين في جلاء إخفاق ذلك المنهج ومجافاته للمنهج العلمي الرصين، ولعل سائلًا يسأل، ألم يصحح هذا المنهج على أيدي هؤلاء الناقدين من المستشرقين؟. ولعل الجواب على هذا السؤال ما قاله أحد الباحثين: (إنَّ الدارس المتصف بشيء من العلمية الحيادية ليدهش إذا دفع بأنفه في خضم الدراسات الاستشراقية المعاصرة في الإسلام وما يتصل به عندهم. . وهكذا يبدو أن ازدياد المعرفة لم يقطع سوى خطوات محدودة لتبديد ما تراكم عبر القرون من موروثات متراكمة في نفسية المستشرق. . إنهم لم يحاولوا بالرغم من معرفتهم هذه أن يتخطوا الحواجز النفسية المتراكمة حتى يطلعوا بجديد لم يقله أجدادهم. . فإن الباحث يردد الآراء المعروفة والصور المألوفة بمشاعر المغير على ما لا يملك، والفخور بالاكتشاف الجديد، وهو بعد ذلك يلبس القديم ثوبًا جديدًا يشف عن طويته) (¬3). ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي: توافر عدد من المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين على نقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 5. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 5. (¬3) قاسم السامرائي: استشراق. . ص 69، (مرجع سابق).

الاستشراق ودراسة تاريخه في جذوره البعيدة، وحاضره المشاهد، وعلائقه وصلاته، ووصل بعضهم إلى نتائج حاسمة في الحكم على منهجه (وبيان أخطائه وخياناته العلميّة، والكشف عن مقدماته ونتائجه الفاسدة، إلّا أن هذه الدراسات وإن لم ترتفع بعد إلى المستوى الذي يستطيع إلحاق الهزيمة النهائية بعالم الاستشراق؛ فقد كان له أثر لا ينكر في توجيه الأنظار بصورة عامَّة إلى منهجه الفاسد في دراسة الإسلام وحضارته وتاريخه وفضح نوازعه السيئة والكشف عن أهدافه، وتعد هذه الدراسات النقدية بداية طيبة لعمل كبير في هذا المضمار؛ لأن دراسات المستشرقين -كما سبق- من الكثرة والتنوع والذكاء في المعالجة بحيث تحتاج إلى جهود) (¬1) كبيرة جدًّا. من أولئك الباحثين: مصطفى السباعي، وعمر فروخ، وعبد اللطيف الطيباوي، ومالك بن نبي، وإدوار سعيد، ومحمود حمدي زقزوق، ومحسن عبد الحميد، وعماد الدين خليل، ومحمد البهي، وقاسم السامرائي، ومحمد عبد اللَّه مليباري، وعلي النملة، وآخرون. وفيما يأتي نماذج من تلك النتائج التي خلص إليها هؤلاء الباحثون: أ- لعل من أبرز تلك الدراسات في نقد المنهج الاستشراقي الدراسة التي أنجزها (إدوارد سعيد) وقال عنها محسن عبد الحميد: (من بين عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي قرأتها حول الاستشراق. . الدراسة النفسية التي كتبها الدكتور إدوارد سعيد حول الاستشراق بمنهج علمي حيادي صارم) (¬2). فتعد دراسة (إدوارد سعيد) عن الاستشراق كما ذكر محسن عبد ¬

_ (¬1) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين تجاه الإسلام ص 131، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1984 م، عن دار الصحوة. . مصر. (¬2) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين: ص 34، (المرجع السابق نفسه).

الحميد ذات (منهج علمي حيادي وثائقي صارم) في تعرية المنهج الاستشراقي، وكشف زيفه، وربطه بالعنصرية الغربية (¬1) ضد الشرق بعامة، والإسلام والمسلمين والعرب بصفة خاصة. ومما ذكره في ذلك أن المستشرقين انتهجوا في دراستهم للإسلام منهجًا يستجيب للمراحل التاريخية التي مرَّ بها الغرب في علاقته بالشرق والإسلام (¬2)، وأنهم عمدوا إلى تطبيق المقاييس النصرانية على الدين الإسلامي (¬3). وبعبارة مجملة فإنَّ كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق (الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء) (¬4) كان بمثابة الإعلان عن هزيمة المنهج الاستشراقي هزيمة علميَّة منهجية (¬5)، فقد دلَّل مؤلفه بطرق شتى على أن مهمة الاستشراق في تاريخه الطويل هي إنتاج العالم الإسلامي إنتاجًا آخر من شأنه تحقيق تبعيته للغرب ودوام انقياده لفكره وحضارته وثقافته (¬6). . . ويتضح ذلك في كثير مما أورده في هذا الجانب مثل ما يأتي: - (لقد استجاب الاستشراق للثقافة التي أنتجته -الثقافة الغربية- أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق. . ص 87، 100، وص 42، وص 93، (مرجع سابق). (¬2) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 55 وص 41. (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 90. (¬4) انظر: عنوان الكتاب، الطبعة الثانية 1984 م، نقله إلى العربيَّة: كمال أبو ديب، (مرجع سابق). (¬5) انظر: مقدمة المترجم للمرجع السابق نفسه: ص 1، 4، 5، 7. (¬6) انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق. .: ص 39، (المرجع السابق نفسه). (¬7) المرجع السابق نفسه: ص 55.

- (إذا كان جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية، فإنَّ علينا أن نكون على استعداد لنلاحظ كيف أن الاستشراق في تناميه وفي تاريخه اللاحق قد عمَّق هذا التميُّز، بل أعطاه أيضًا صلابة وثباتًا) (¬1). - يعد كتاب (بارتلمي ديربيلو: المكتبة الشرقية، الذي طبع عام 1697 م، بعد وفاته مع مقدمة لأنطوان غالان، المرجع الرئيسي السائد في أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر. . . وقد قسم هذا الكتاب التاريخ إلى نوعين: مقدس، ومدنس) (¬2)، وكان اليهود والمسيحيون في (النوع الأول، والمسلمون في النوع الثاني) (¬3)، ويعدُّ هذا الكتاب -كما ذكر بعض المؤرخين- (الأب الأول لدائرة المعارف الإسلاميَّة الحديثة) (¬4). - (لقد كان أحد الضوابط المقيدة التي أثرت على المفكرين المسيحيين الذين حاولوا فهم الإسلام ينبع من عملية قياسية، ما دام المسيح هو أساس العقيدة المسيحية، فقد افترض -بطريقة خاطئة تمامًا- أن محمدًا كان للإسلام ما كان المسيح للمسيحية، ومن ثمّ إطلاق التسمية "المحمدية" على الإسلام) (¬5)، وإنّ مما يترتب على هذا الخطأ العلمي والمنهجي الذي وضحَّه (إدوارد سعيد) هو نسبة النصرانية إلى الإله، وعلى هذا تكون ديانة سماوية؛ لأن المسيح جزءٌ -في معتقداتهم- من الإله، فالنصرانية بناءً على هذا تعد ديانة إلهية سماوية، أمَّا عندما ينسب الإسلام إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فليس ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 73. (¬2) انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق ص 93، 94، (المرجع السابق نفسه). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 93. (¬4) جمال الدين الشيال: التاريخ الإسلامي. .: ص 95، (مرجع سابق). (¬5) إدوارد سعيد: المرجع السابق نفسه: ص 90، 94.

يعني ذلك في مفهومهم إلَّا أن الإسلام دين بشري من صنع محمد وليس من عند اللَّه. ومن أبرز ما ترمي إليه هذه المغالطة أن الدين الجدير بالنشر والعلو والسيادة هو الدين السماوي، وهو -في تصورهم- النصرانية (المسيحية) وليس الإسلام، وقد أصبح هذا التلبيس والخلط الذي يعمد إليه المنهج الاستشراقي، ويستثمره الغرب بمثابة منهج تربوي مؤثر في الأجيال الغربية، يقول (مورشى بوكاي): (لا أنكر تأثير التعاليم التي تلقيتها في شبابي، حيث لم تكن الأغلبية تتحدث عن الإسلام وإنّما عن المحمديين، لتأكيد الإشارة إلى أن (هذا) الدين أسسه رجل، وبالتالي فهو ليس بدين سماوي فلا قيمة له عند اللَّه، وكان أن أظل محتفظًا كالكثيرين بتلك الأفكار الخاطئة عن الإسلام، وهي شديدة الانتشار) (¬1). - يقول إدوارد سعيد -أيضًا-: (والمستشرق إلى حد بعيد يزود مجتمعه بتمثيلات للشرق: 1 - تحمل طابعه المميز الخاص. 2 - توضح تصوره لما يُمكن للشرق أو ينبغي له أن يكون. 3 - تتحدى تحديًا واعيًا وجهة نظر إنسان آخر إلى الشرق. 4 - تزود الإنشاء الاستشراقي بما يبدو، في تلك اللحظة، بأمسّ الحاجة إليه. 5 - تستجيب لمتطلبات معينة ثقافية، ومهنية، وقومية، وسياسية، واقتصادية تفرضها الحقبة التاريخية) (¬2). ¬

_ (¬1) موريس بوكاتي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم: ص 144، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق ومنهجه في كتابة التاريخ الإسلامي: ص 139، (مرجع سابق). (¬2) إدوارد سعيد: الاستشراق: ص 275، (المرجع السابق نفسه).

ب- وفي دراسة محمود حمدي زقزوق للاستشراق في كتابه: (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) بيان لما في المنهج الاستشراقي من الانحرافات عندما يدرس تاريخ الإسلام وحضارته بصفة خاصة، (في حين أنهم عندما يكتبون عن ديانات وضعية مثل البوذية والهندوكية وغيرهما يكونون موضوعيين في عرضهم لهذه الأديان، فالإِسلام فقط من بين كل الديانات التي ظهرت في الشرق والغرب هو الذي يهاجم، والمسلمون فقط من بين الشرقيين جميعًا هم الذين يوصمون بشتى الأوصاف الدنيئة) (¬1). وتحت عنوان: منهج المستشرقين ناقش مقولة (رودي بارت) في المنهج الاستشراقي، ومما جاء فيها: (. . . ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر، بل نقيم وزنًا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخي. . . أو يبدو وكأنه يثبت أمامه، ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات العربيَّة التي نشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن) (¬2)، وعقبت الدراسة على هذه المقولة بما ذكره أحد المفكرين في مناقشته المنهج الاستشراقي وعمل المستشرقين إذ قال: (فالقوم يدرسون العلوم الإسلاميَّة العربيَّة، ويضعون نظريات ويكونون آراء في أثناء ما يقومون به من دراسات، ويهتمون بتقديم أدلة وأسانيد لهذه الآراء والنظريات، يستمدونها من المراجع الإسلاميَّة نفسها، وهذا العمل ¬

_ (¬1) زقزوق: الاستشراق. . ص 117، (مرجع سابق)، وانظر: محمود حمدي زقزوق: الإسلام في تصورات الغرب ص 14، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م، عن مكتبة وهبة - مصر. (¬2) رودي بارت: الدراسات الإسلاميَّة والعربية. .: ص 10، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص 77، (مرجع سابق).

في ظاهره عمل سليم، ولكن الفحص الدقيق أثبت أن كثيرًا منه مصنوع، وكثيرًا ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح، وتوهين العقيدة الدينية والشريعة الإسلاميَّة) (¬1). وأورد في مناقشته مثالًا يبين تحامل المنهج الاستشراقي على الإسلام وتاريخه بما يخالف المنهج العلمي في المنطلق والغاية والمثال هو منهج (جاستون فييت) في كتابه (مجد الإسلام) وفيه يعرض تاريخ الإسلام من خلال (صفحات مختارة من أقوال المؤرخين والكتاب المعاصرين لكل فترة من فترات هذا التاريخ) (¬2). والكتاب ينضح بالحقد والطعن في تاريخ الإسلام وحضارته؛ (لأن (جاستون فييت) اختار-فقط- النصوص التي تتفق مع الاتجاه الذي اختاره هو سلفًا، وهو اتجاه يتسم بالعداء والكراهية للإسلام والمسلمين) (¬3). وتؤكد دراسة محمود حمدي زقزوق عدم صلة هذا المنهج بالمنهج العلمي النزيه، فالواقع أنه (ليس من العلم في شيء، وإنَّما هو انحراف عن المنهج العلمي السليم. . وهذا الانحراف طابع الكثير من الدراسات الاستشراقية حول الإسلام) (¬4). ¬

_ (¬1) إبراهيم اللبان: المستشرقون والإسلام، ص 32، نقلًا عن زقزوق: الاستشراق. .: ص 77، 78، (المرجع السابق نفسه). (¬2) حسين مؤنس: كتاب (مجد الإسلام) لجاستون فييت، دراسة للأستاذ حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة (حينذاك) نشرت بالملحق الأدبي لجريدة الأهرام. . . وألحقها محمد البهي في كتابه: الفكر الإسلامي الحديث. . . ص 458 - 471، المنقول أعلاه في ص 460، وانظر: زقزوق: الاستشراق. . ص 78، (المرجع السابق نفسه). (¬3) زقزوق: الاستشراق: ص 78، (المرجع السابق نفسه). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 78، 79.

إنَّ المتأمل في مقولة (بارت) وما كتبه (جاستون فييت) في كتابه (مجد الإسلام) لا يسعه إلَّا أن يسجل على المنهج الاستشراقي مأخذين في غاية الأهمية: أحدهما: إنّ المنهج النقدي الذي يذكر (بارت) بأن المستشرقين يطبقونه على تاريخ الغرب وعلومه لا يصلح أن يطبق على الإسلام وتاريخه؛ لاختلاف المنطلقات والغايات، ومصادر المعرفة، وتباين البيئات. والآخر: إنّ ما عمد إليه (جاستون فييت) في كتابه (مجد الإسلام) يعد منهجًا اختياريًّا انتقائيًّا تحكمه الأهواء والأغراض والمصالح، وهذا لا يمت إلى المنهج العلمي بصلة، وقد درج على مثل هذا المنهج الزائغ كثيرٌ من المستشرقين، كما أشار إلى ذلك (رودنسون) في قوله: (ولم ير المستشرقون في الشرق إلَّا ما كانوا يريدون رؤيته، فاهتموا كثيرًا بالأشياء الصغيرة والغريبة) (¬1)، وقال أيضًا: (حين كان الغربيون يذهبون إلى الشرق كانت تلك (أي: صورة المشوهة للشرق) هي الصورة التي يبحثون عنها، فينتقون ما يرونه بعناية، ويتجاهلون كل ما لا تنسجم مع الصورة التي كونوها سابقًا) (¬2). ويصل الباحث في نهاية دراسته لما يتصف به المنهج الاستشراقي إلى القول: (إنَّ الإسلام الذي يعوضه هؤلاء المستشرقون -المتحاملون على الإسلام- في كتبهم هو إسلام من اختراعهم، وهو بالطبع ليس الإسلام الذي ندين به، كما أن محمدًا الذي يصورونه في مؤلفاتهم ليس هو محمد الذي نؤمن برسالته، وإنَّما هو شخص آخر من نسج خيالهم، وهكذا يُمكن القول بأن الاستشراق -في دراسته للإسلام- ليس علمًا بأي مقياس ¬

_ (¬1) نقلًا عن محمود حمدي زقزوق: الاستشراق. ص 116، (مرجع سابق). (¬2) نقلًا عن المرجع السابق نفسه: ص 116.

علمي، وإنَّما هو عبارة عن إيديولوجية خاصة يراد من خلالها ترويج تصورات معينة عن الإسلام، بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق، أو مرتكزة على أوهام وافتراءات) (¬1). وفي موضع آخر يقول: (نحن نرفض -ومعنا الحق- منهج المستشرقين في دراسة الإسلام؛ لأنه منهج مصطنع جاء وليد اللاهوت الأوروبي؛ ولأنّه منهج يقصر عن فهم طبيعة الأديان السماوية، ويحاول أن يضعها في سعيد واحد مع الاتجاهات الفكرية الإنسانية) (¬2). ج- وإذا كانت دراسة إدوارد سعيد قد تناولت الاستشراق بشكل شمولي، وكشفت أن (الاستشراق كان -جوهريًا- مذهبًا سياسيًّا مورس إراديًّا على الشرق. .) (¬3) فإن دراسة محمود حمدي زقزوق في تناولها منهج المستشرقين وتاريخهم خلصت إلى هذه النتيجة نفسها، وهي أن الاستشراق في حقيقته لم ينفصل عن مبادئ السياسة الغربية وأهدافها على اختلاف نزعاتها ومذاهبها، وتؤكد هذه الحقيقة جُلُّ الدراسات التي تناولت منهج المستشرقين في كتابة التاريخ الإسلامي أو كتابة السنة النبوية أو سيرة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 119، 120، وانظر: جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام: ص 95 (مرجع سابق)، فقد انتقد أحد المستشرقين بقوله: (إنَّ المستشرق (كيتاني) وهو من المستشرقين الكبار الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كان يعتمد منهجًا معكوسًا في البحث يذكرنا بكثير من التلامذة الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنهم يبيتون فكرة مسبقة ثُمَّ يجيئون إلى واقع التاريخ لكي يستلوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك" إلى أن قال: "لأنَّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأي طريقة كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث. . . ". (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 89. (¬3) إدوارد سعيد: الاستشراق. . . ص 21.

المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحو ذلك من الدراسات في كل ما يتعلق بالإِسلام والمسلمين، ويكشف ذلك كثير من الدراسات التي ركزت على نقد منهجية مستشرق بعينه أو صنف من المستشرقين حسب جنسياتهم، أو فتراتهم التاريخية، أو انتماءاتهم العقيدية والسياسية، فهذه الدراسات على اختلاف موضوعاتها ودارسيها من المستشرقين تبين قدرًا مشتركًا من منهجهم حينما يكتبون عن الإسلام وعلومه وتاريخ أمته يتفق مع ما توصل إليه الناقدون من العرب والمسلمين. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عماد الدين خليل في نقده لمنهج المستشرق البريطاني المعاصر (مونتكمري وات) في دراسة السيرة النبوية، فهو يقول: (نعم. . ثمة فرق بين مستشرق وآخر. . . ونحن إذا قارنا (وات) بـ (لامانس) مثلًا أو حتى بـ (فلهوزن)، وجدنا هوة واسعة تفصل بين الرجلين. . يقترب أولهما حتى ليبدو أشد إخلاصًا لمقولات السيرة من أبناء المسلمين أنفسهم. . ويبَعد ثانيهما حتى ليبدو شتامًا لعانًا وليس باحثًا جادًّا يستحق الاحترام، ومع ذلك فهو فرق في الدرجة وليس في النوع) (¬1). ويبدو أن الناقد اختار (مونتغمري وات) في بحثه؛ لأنه -كما يرى- أكثر المستشرقين حيادية (¬2)، فقد خلص مع ذلك إلى النتيجة الآتية: (فإذا بنا نقف على بعض جوانب الخلل في منهج العمل. . نزعة نقدية مبالغ فيها تصل إلى حد النفي الكيفي، وإثارة الشك حتى في بعض المسلمات، تقابلها نزعة افتراضية تثبت بصيغة الجزم والتأكيد ما هو مشكوك بوقوعه ¬

_ (¬1) عماد الدين خليل: المستشرقون والسيرة النبوية، بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر (مونتغمري وات)، مناهج المستشرقين في الدراسات العربيَّة والإِسلامية 1/ 193، (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: 1/ 193.

ثالثا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته

أساسًا. . . وإسقاط للتأثيرات البيئية المعاصرة، وإعمال للمنطق الوضعي في واقعة تكاد تستعصي على مقولات البيئة وتعليلات العقل الخالص) (¬1). ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته: تناول البحث في النقطتين السابقتين الإطار العام لمناهج المستشرقين في دراسة تاريخ الإسلام وحضارته، ويتناول البحث هنا بعض ما ركز عليه المستشرقون -المعادون للإسلام- في دراستهم للتاريخ من نماذج لما شوهوه وزيفوه وعرضوه بطريقة لا تتفق وتَميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ إدراكًا منهم أنّ (للتاريخ أهميَّة عظمى في بناء الأمم، والمحافظة على هويتها وشخصيتها، بل على قوتها، وقدرتها على الشموخ، والاستطالة، والاستمرار، فهو جذور الأُمَّة التي تضرب بها في الأعماق، فلا تعصف بها الأنواء ولا تزلزلها الأعاصير، ولا يفتنها الأعداء. . وهو ذاكرة الأُمَّة. . بها تعي الأُمَّة ماضيها، وتفسر حاضرها، وتستشرف مستقبلها) (¬2). ومن أهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين في هذا الإطار الآتي: 1 - الدعوة والجهاد. 2 - العادات والتقاليد. 3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة. 1 - الدعوة والجهاد: فأمَّا الدعوة والجهاد، فتتأرجح دراسات المستشرقين في هذا المجال ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: 1/ 193. (¬2) عبد العظيم محمود الديب: المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي: ص 54، 55، (مرجع سابق).

من مجالات تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بين مسلكين متعارضين، يصدران معًا عن نوايا سيئة، ومقاصد ماكرة؛ فمن نماذج أحد المسلكين أنَّ معظم كتابات المستشرقين تركز على انتشار الإسلام بالسيف، وتروج دوائر العداء للإسلام لهذه المقولة خشية أن يجتاح الإسلام العالم -كما يظنون-، ولتبرير ما ينادون به، ويحرصون عليه من القضاء على المسلمين بالقوة وجعلهم ضعفاء عاجزين لا يقدرون على مواجهة أي قوة تعاديهم، أو تتربص بهم. ومِمَّا يدل على المسلك الثاني؛ المخالف للمسلك الأول: محاولتهم مداهنة المسلمين، وتحذيرهم بإظهار الكتابات أن الإسلام انتشر بالدعوة والقدوة الحسنة وقوة الأخلاق الإسلاميَّة، وهذه الكتابات -أيضًا- كانت تخدم دوائر العداء للإسلام، بشكل آخر، وقد ثبت أنَّ الاستعمار كان يؤيد مثل هذه الدراسات من أجل كبح جماح المسلمين من مجاهدته، وليستسلموا للواقع المفروض، ولئلا يعودوا لروح الجهاد التي تُعَدّ وسيلة لتحقيق تميُّز الأُمة بأنَّها ذات رسالة، وأنها شاهدة على الناس، وأنَّ مهمتها أن يكون الدين كله للَّه، وعن طريق الجهاد يُمكنها تبليغ دعوة ربها، وبه تستطيع إزالة العوائق وتحطيم الحواجز، وهي في هذا وذاك مرتبطة بقيم الحق والعدل والرحمة والإحسان. أمّا دعوى انتشار الإسلام بالسيف فهي دعوى قديمة (¬1) جدّدها المستشرقون المعادون للإسلام، و (جاءت الكتب والمؤلفات والبحوث الحديثة التي صدرت في الغرب عن الإسلام -باستثناء قلّة مِمَّا كتبه ¬

_ (¬1) انظر: توفيق علي وهبة: الإسلام في مواجهة أعدائه: ص 85، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م، عن دار اللواء - الرياض، وانظر: ما قاله العامري في الرد على هذه الدعوى منذُ القرن الرابع الهجري؛ أبو الحسن العامري: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 188 - 191، (مرجع سابق).

المنصفون- لا تختلف في روحها ومادتها ونظرتها إلى الإسلام، عمَّا كتبه السابقون. . يقول (بيكر) في موسوعة تاريخ (كمبردج) عن العصور الوسطى ما نصه: (نظرت العصور الوسطى إلى القطيعة بين أوروبا المسيحية والشرق الإسلامي من زاوية واحدة، تعبر عن وجهة نظر كنسية؛ استهدفت حجب الحقيقة التاريخية، وإسدال ستار مظلم عليها، وأوضح ما يعبر عن وجهة النظر هذه -التي ما زالت سائدة بين المثقفين اليوم- تلك المعلومة التي ما زالت حيَّة قائمة على الوجه الآتي: خرجت جموع العرب تحت تأثير الحماسة التي بعثها فيهم نبيهم، لينقضوا على الشعوب المسيحيَّة، ويفرضوا عليها الدخول في الإسلام بحد السيف، وهكذا انفرط عقد الحضارة القديمة، وتمزقت أوروبا، وحلت حضارة جديدة تعهدها العرب محل الحضارة المسيحية السابقة، وبذلك وقفت البلاد الشرقية والغربية على طرفي نقيض وجهًا لوجهه). . . .) (¬1). والحقيقة أنَّ الفتوحات الإسلاميَّة وانتشار الإسلام بالصورة التي حدثت في تاريخ البشرية، وكانت على غير مثال سابق بهرت الغرب في تاريخه القديم والحديث، وكانوا مشدودين إلى ذلك بدوافع وأهداف مختلفة (سبق ذكرها)، وفي هذا السياق توافر عدد كبير من المستشرقين ¬

_ (¬1) سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلامي وحضارته: ص 19، 20، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على أقوال المستشرقين ونصوصهم في دعوى انتشار الإسلام بالسيف: انظر: شوقي أبو خليل: الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين: ص 147 - 161، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، عن دار الفكر المعاصر - بيروت. وانظر: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 80 - 90، (مرجع سابق). وانظر: محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه: ص 127 - 142، (مرجع سابق).

لدراسة هذه الظاهرة التاريخيَّة وتحليلها، وصنفوا [مؤلفات عديدة عن تاريخ سكان البلدان التي فتحها المسلمون، فدرسوا أحوالها السياسية والإدارية والاجتماعية، لتفسير بعض شؤون الفتح، كما درسوا ثقافاتها لتبيان الصلات بينها وبين ما أخذه الفاتحون عنها، وقد تناولوا الفتح جملة وتفصيلًا من الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية حتى الشرق الأقصى، وإفريقية، والأندلس، وفرنسا، وإيطاليا، وصقليَّة، وقد درسوا أثر ذلك الفتح في الحملات الصليبيَّة، والإمبراطوريَّة المغولية، والسلطنة العثمانية، وطرق التجارة؛ ومن الذين كتبوا في هذا الموضوع (بيكر): "تاريخ العصر الوسيط)، و (كيتاني): (حوليات الإسلام)، وقد أنفق على ثلاث بعثات إلى مواقع الفتح لرسمها جغرافيًّا (وطبوغرافيًّا)، وجمع المصادر من اللاتينية، والسريانية، والعربيَّة، ومنهم (دغوية): (فتح سورية) و (ميادنيكوف): (فلسطين منذ الفتح العربي حتى الحروب الصليبية)، و (بتلر) في: (فتح العرب لمصر)، كما كتب (فلهوزن) عن: (الفتوح في إيران)، و (لوران) عن: (الفتوح في أرمينيَّة)، و (بارتولد)، عن: (الفتوح في آسيا الوسطى)، و (جاتو)، عن (الفتوح في إفريقية والأندلس)، و (جون جلوب): (الفتوحات العربيَّة الكبرى)، وكتب (فايل)، "تاريخ الشعوب الإسلاميَّة من النبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى سليم الأول (العثماني)، و (بروكلمان): (تاريخ الشعوب الإسلاميَّة)، تناول فيه تاريخ المسلمين منذ أقدم العصور إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. . .، كما كتب (برنارد لويس): (العرب في التاريخ)، و (لو لفريد كانتويل سميث): (الإسلام في التاريخ الحديث)، و (هاملتون حبيب، وآخرون): (الشرق الأدنى الإسلامي)] (¬1). ¬

_ (¬1) محمد عبد الفتاح عليان: أضواء: ص 55، 56، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي 1/ 362 - 386، (مرجع =

ومِمَّا لا ريب فيه أنَّ المناهج التي سلكها هؤلاء المستشرقون في كتاباتهم عن تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة وحضارتها متنوعة من حيث أساليب المعالجة والتناول، ومن حيث المنطلقات والغايات، ومهما يكن الأمر في ذلك فإنَّ القدر المشترك بين تلك الدراسات كما أظهره الباحثون يُمكن أن يلخص في جانبين، هما: أ- تبدأ الدراسات التاريخية لدى هؤلاء المستشرقين (في كثير من الأحيان بالافتراض التقليدي أن الإسلام يتكون من ألوان مختلفة من التأثيرات الأجنبية التي لو دققت فسوف تفسر. . . ذلك السر الغامض الذي ينسبه الغربيون إلى الإسلام) (¬1). وهذا ينفي تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من حيث مقومات تميزها وخصائصه، ويفسر الفتوحات الإسلاميَّة وانتشار الإسلام، (تفسيرًا ماديًّا يُبْنَى على الدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية، ويتجاهل الدافع الديني على الرغم كان أهميته وخصوصيته في التاريخ الإسلامي، ولم يسلم من ذلك المعتدلون منهم. . . والقول في الإسلام بما هو (منه) براء، مثل ادعاء بعضهم أن الإسلام، انتشر بعد السيف، وعدم تسامح المسلمين) (¬2). ب- يحاول هؤلاء المستشرقون ردّ الفتوحات الإسلاميَّة وانتشار الإسلام إضافة إلى ما يزعمونه من (روح الاعتداء التي كانت سمة من ¬

_ = سابق)، وانظر: جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام: ص 22 - 35، 38 - 43، (مرجع سابق). (¬1) محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي 1/ 353، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: مجلة المنهل، العدد السنوي المتخصص لعام 1409 هـ - 1989 م: ص 228، 229، (مرجع سابق). (¬2) محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق ومنهجه في كتابة التاريخ الإسلامي: ص 140، (مرجع سابق).

سمات البدو من الأعراب -على حد تعبيرهم- إلى الانحلال الاجتماعي الذي كانت تعاني منه المجتمعات التي قبلت الإسلام وما كان يسود الجيوش الإسلاميَّة من حالة نفسية، أو العوامل التاريخية التي استمرت تعمل منذ وقت طويل؛ مثل: عواقب الصراع بين الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية، أو عدم الاستقرار الداخلي لمملكة القوط في إسبانية) (¬1). أمَّا إبراز جانب الدعوة في الإسلام فقد جاء بوضوح شديد في كتاب (الدعوة إلى الإسلام: لسير توماس آرنولد)، وقد أنصف الإسلام في كثير من القضايا التي ناقشها، وأثبت أنَّ الإسلام انتشر بالدعوة، وأن عقيدته (تلتزم التسامح وحريَّة الحياة الدينيَّة لجميع أتباع الديانات الأخرى، أولئك الذين يؤدون الجزية كفاء حمايتهم، وعلى الرغم من أن صفحات التاريخ الإسلامي قد تلوثت بدماء كثير من الاضطهادات القاسية!!، (فقد) ظل الكفار، على وجه الإجمال، ينعمون في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح لم نكن نجد لها مثيلًا في أوروبا حتى عصور حديثة جدًّا، وإن التحويل إلى الإسلام (عن) طريق الإكراه محرم، طبقًا لتعاليم القرآن: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] , {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 99، 100] وإن مجرد وجود كثير جدًّا من الفرق والجماعات المسيحية في الأقطار التي ظلت قرونًا في ظل الحكم الإسلامي، لدليل ثابت على ذلك التسامح، الذي نعم به هؤلاء المسيحيون، كما يدل على أنَّ الاضطهادات التي كانوا يَدَّعُون معاناتها ¬

_ (¬1) محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي 1/ 354، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: جميل عبد اللَّه محمد المصري: دواعي الفتوحات الإِسلامية ودعاوى المستشرقين: ص 74 - 77، (مرجع سابق).

بأيدي الطغاة والمتعصبين، إنَّما كانت ناتجة من بعض ظروف خاصَّة وإقليمية، أكثر من أن تكون منبعثة عن مبدأ مقرر من التعصب) (¬1). وعلى الرغم من ذلك فإنَّ المناخ الفكري الذي ظهر فيه كتاب (الدعوة إلى الإسلام لسير توماس أرنولد)، يؤكد أنَّ إظهار جانب الدعوة في انتشار الإسلام، وإضعاف جانب الجهاد، كان يحقق للمستعمرين أهدافًا ضد الأُمَّة الإسلاميَّة، وينال من سيادتها وهويتها المتميِّزة، فقد ظهر هذا الكتاب (في سنة 1896 م،. . . . وقبل ذلك بثماني سنوات، كان قد ترك (كمبردج) ليشغل منصبًا في الكلية الإِنجليزية الإسلاميَّة في عليكرة. . . وكانت قد تأسست حديثًا. . . وهنا وضع خطّة هذا الكتاب. . . وقد أوتي (أرنولد) موهبة لا تنكر، وكان مِمَّا جرى عليه في معظم أيام حياته، جمعه بين التوافر على الأعمال الإدارية والغيرة على البحث) (¬2)، وبغض النظر عن نيَّة (أرنولد) إن كانت حسنة أو غير حسنة فإنَّ المناخ الفكري لظهور كتابه صاحب (مظهرًا فكريًّا تبناه الإِنجليز لمصلحة الاستعمار الغربي) (¬3). وقد تحدث المفكرون والباحثون عن علاقة الاستشراق بالاستعمار وعلاقتهما بالقاديانية والأحمدية، وأنهما (غرس غرسته الحكومة الإِنجليزية) (¬4) -كما نقل عن القادياني-؛ وأنَّه (كتب ذلك في التماسه الذي قدمه إلى حاكم مقاطعة البنجاب الإِنجليزي في 14 فبراير سنة 1898 م، وجاء نصه في كتاب: (تبليغ رسالته) من المجلد السابع لمير قاسم علي ¬

_ (¬1) سير توماس آرنولد: الدعوة إلى الإسلام: ص 461، 462، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، (مرجع سابق). (¬2) انظر: نيكلسون: مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب أرنولد: الدعوة إلى الإسلام: ص 15، 16 (المرجع السابق نفسه)، كتبها سنة 1935 م، كامبردج. (¬3) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغرب: ص 51، (مرجع سابق). (¬4) المرجع السابق نفسه: ص 48.

القادياني، وقد ذكر في مؤلفاته بكل صراحة ما يدين به للحكومة الإِنجليزية من الولاء والوفاء، وما قدم لها من خدمة مشكورة، وترجمته: "لقد قضيتُ معظم عمري في تأييد الحكومة الإِنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإِنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربيَّة، ومصر، والشام، وكابل". . . . وبقيت طائفة القاديانية في عهد مؤسسها وبعده معتزلة جميع الحركات الوطنيَّة، وحركة التحرير والجلاء في شبه القارة الهندية، واتخذت موقف الصمت إزاء كل ما أصاب العالم الإسلامي من رزايا ونكبات على يد المستعمرين الأوروبيين وعلى رأسهم الإِنجليز، واشتغلت وشغلت الناس بإثارة المجادلات حول موت السيد المسيح وحياته ونزوله، ونبوة ميرزا غلام أحمد ونحو ذلك، مِمَّا لا اتصال له بالحياة العامَّة، وقضايا الأُمَّة الإسلاميَّة) (¬1). ومِمَّا يؤكد هذا الاتجاه الاستشراقي الذي أظهر جانب الدعوة والتسامح، ومبدأ طاعة ولاة الأمر في الإسلام، في وقت ترزح فيه كثير من أوطان المسلمين تحت نير الاستعمار الغربي، وما يهدف إليه ويعمل عليه من السيطرة على الأُمَّة الإسلاميَّة، والنيل من سيادتها، وتَمَيُّز شخصيتها، ما أورده بعض الكتاب عن رحلة مستشرق فرنسي أعلن إسلامه، ودخل مكة في هيئة معتمر، إبَّان الاستعمار الفرنسي للجزائر، وكان من مقاصده -كما ذكر-: (. . . أن يتحقق من صحة فتوى إطاعة الجزائريين للسلطات الفرنسية) (¬2)، وقد نسب نقل هذه الفتوى إلى المفتي المالكي محمد عابد ¬

_ (¬1) انظرة المرجع السابق نفسه: ص 48، 49، وانظر: ص 568 - 573، (البحث نفسه). (¬2) جيل جيرفيه - كورتلمان: رحلتي إلى مكة، نقلًا عن: كمال سنو: رحلة إلى مكة عمرها مئة عام، مقال منشور بمجلة (أهلًا وسهلًا): ص 8، تصدر عن إدارة العلاقات =

2 - العادات والتقاليد

ابن الشيخ حسين مفتي المالكية بمكة المكرمة، وادعى المستشرق الفرنسي (جيل جيرفيه - كورتلمان) أنَّ هدفه من رحلته التحقق من هذه الفتوى (¬1)، وأشار الباحث الذي روى خبر تلك الرحلة أن (كورتلمان)؛ (في لقائه مع كبار رجال الدين إنَّما كان يؤدي مهمة رسمية، إذ أنه عند عودته إلى فرنسا بعد أداء فريضة العمرة والتجول في أرض الحجاز منح وسام (جوقة الشرق)، وجاء في الأسباب الموجبة منحه الوسام، أنه كلف بمهمة رسمية في شبه الجزيرة العربيَّة، تمكن من تأديتها برغم الظروف الصعبة بفضل شجاعته وفطنته، وأنَّه عاد من رحلته إلى مكة بوثائق ومعلومات هامَّة، فما هي هذه المعلومات والوثائق؟ هنا تكشف الوثائق في المحفوظات الرسمية الفرنسية أن الحاكم الفرنسي العام في الجزائر تلقى من الكاتب تقريرًا يؤكد أن الفتوى التي حملها الحاج (عقلي) في العام 1893 م، هي فتوى حقيقية غير مزيفة) (¬2). 2 - العادات والتقاليد: إذا كان من وسائل تحقيق تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ النهي عن تقليد ¬

_ = العامَّة - الخطوط الجويَّة السعودية، عدد [10] , السنة [17] , جمادى الأولى 1414 هـ - أكتوبر 1993 م - جدة. (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 10. (¬2) المرجع السابق نفسه: ص 12، ومن الملحوظ: أن هذا الخبر الذي أورده الكاتب، ونشرته المجلة ينقصه التوثيق العلمي، وعزوه إلى مراجع يعول عليها، فقد يكون كل ما جاء في الخبر من أمر هذه الفتوى، ونقلها إلى الجزائر، ودعوى نسبتها إلى مفتي المالكية في مكة المكرمة، وقدوم المستشرق الفرنسي للتحقق منها وزعمه موافقة (رجال الدين)!! -وفق تعبيره-، وقوله في تقريره للحاكم الفرنسي العام في الجزائر بأن الفتوى حقيقية غير مزيفة!! قد يكون كل ذلك مكذوبًا لا صحة له، ولعل ذلك هو الأرجح، أمَّا الرحلة فلا تعدو أن تكون -إن صح وقوعها- بهدف الترويج للفتوى المزعومة، وإشاعة أنّها صحيحة مضمونًا ونسبة، وموافقة مِمَّا سمَّاه رجال الدين، وهو هدف استعماري مكشوف لا يخفى على ناقد بصير.

غيرهم في العادات والتقاليد، بدءًا بالآداب العامَّة والأعياد، والشعائر الظاهرة، وانتهاءً بالملابس، والمظاهر العامَّة على صعيد الأفراد والمجتمع، فإنَّ ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث، وأقوال العلماء، وما درج عليه سلف الأُمَّة الصالح، مستفيض جدًّا، (سبق تناول طرف منه) (¬1)، ولكن المستشرقين دخلوا في هذه الجوانب بأساليب شتى حتى لا تكاد أي جزئية من جزئيات مظاهر حياة المسلمين الاجتماعية، وتقاليدها وعاداتها، وأنماط سلوك المسلمين في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة وسائر أحوالهم تخلو من تدخل المستشرقين فيها بالطعن والتشويه والذم والافتراء، وكل ما يتسم في عمومه بالحقد والعداء، وهم لا يفتؤون دائمًا من محاولة توجيه ذلك كله بما يضعف من شأن هذه الأُمَّة، والاستهانة بها، ويذهب تَمَيُّزَها، ومِمَّا لا يخفى أن الاستشراق في مساره العام وفي قمَّة ازدهاره الذي امتد إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين (كان يترجم المؤلفات الإسلاميَّة ليقدمها إلى مفكريه الماديين، و (الإكليروسيين) ممهدًا لهم بها طريق مناقشة تلك المترجمات على ضوء الوقائع الفكرية والدينية والتاريخية التي يعيشونها، (بهدف) النيل منها بمناقشات تبدو في مظهر موضوعي، وكان هذا الاستشراق يكتب في كل المجالات الإسلاميَّة ابتداءً من التوحيد باللَّه، وانتهاء بالملابس والأزياء في الشعوب الإسلاميَّة، ولكنه يحاول في كل ما يكتب أن يدس ويشكك ويشوه، فالثوب العربي، والعباءة العربيَّة هي في نظره من معوقات الحضارة التي لا تساعد على العمل الجاد المضني، والصناعي، والتجاري) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: ص 197 - 205، (البحث نفسه). (¬2) انظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإِسلامية: ص 49، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي 1/ 347 - 355، (مرجع سابق).

ثُمَّ إنَّهم من ناحية أخرى يتخذون أسلوب (الاستطالة على التراث الإسلامي، وقيمه الدينية، والعلمية، والأدبية، وذلك بدعوى إعادتها إلى جذور تتصل بتراثهم هم!. .، وبهذه الاستطالة المتجنية على الحقائق، مزق الغرب خوفه من تأثير الفكر الإسلامي عليه، ونال من المقومات الحضارية والدينية والإِسلامية. . . ومن خلال هذه الاستطالة المتجنية التي أضعفت التأثير الإسلامي على القوى الزمنية بدؤوا تأثيرهم على الفكر القومي في الشعوب الإسلاميَّة، ساعدهم على ذلك النمو الظافر الذي حققته الحضارة الحاليَّة في كل المجالات، بعيدًا عن الإطار الروحي والديني وتأثيرهما. .) (¬1). وكان من نتائج هذه الاستطالة على التراث الإسلامي ما يأتي: أ- تغير العادات الإسلاميَّة في كثير من الشعوب الإسلاميَّة (وانزواء الحكم بالأحكام الشرعية واستبدالها بأحكام القانون الوضعي، واختفاء الزي الإسلامي الذي كان سائدًا، حتى في بعض الشعوب العربيَّة،. . . ففي شمال إفريقية العربيَّة كادت اللغة العربيَّة أن تندثر لولا اليقظة العربيَّة الأخيرة، كما أن التقاليد الإسلاميَّة على المستوى العام والخاص انحسرت تمامًا في كثير من الأصقاع العربيَّة في الشرق، ففي مصر والشام تفشى السفور كل تفش، والأحكام الشرعية لا تطبق كما يجب في كثير من القضايا، كما أن كثيرًا من المنكرات تمارس علنًا، ويحميها القانون، المهم أن الفكر القومي في الشعوب الإسلاميَّة كان له نصيب من النجاح، ولم يتحقق هذا النجاح إلَّا بعد تلك الاستطالة المتجنية على التراث الإسلامي، التي كان للاستشراق والمستشرقين دور فعال فيها) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المرجع السابق نفسه: ص 50. (¬2) انظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإِسلامية: ص 49 - 51، (المرجع السابق نفسه).

ب - الادعاء بأن الإسلام لا يحدث تميُّزًا في العادات والتقاليد تنبع من أصالته وجدّته، وإنَّما يتلون هو نفسه بعادات الشعوب وتقاليدها، وهو ادعاء تشتمل عليه بعض دراسات (هاملتون حبيب) في تاريخ الإسلام وحضارته وهي دراسات يُمكن القول فيها إنها: (تخفي وراءها الكثير من الآفات الفكرية، فنراه مثلًا في الفصل الأول من كتابه (دراسات في حضارة الإسلام) يقول: "فقد ظهرت للإسلام ملامح مختلفة في مختلف الأزمنة والأمكنة بتأثير المحليَّة الجغرافية، والاجتماعية، والسياسية فيه، وبقوة استجابته لها, ولنمثل على ذلك بما تَمَّ في الغرب، أعني في شمال غربي إفريقية، وفي إسبانيا أثناء العصور الوسطى؛ ففي تلك المناطق اتخذ الإسلام لنفسه خصائص فارقة على الرغم من الصلة الوثيقة بين تلك المناطق وقلب العالم الإسلامي في غريب آسيا، وعلى الرغم من أنَّ الثقافة فيها كانت فرعًا من الثقافة السائدة في قلب العالم الإسلامي، وكان لبعض تلك الخصائص الفارقة أثرها في الإسلام نفسه في غربي آسيا" (¬1). بهذا النوع من التعبير يتناول في تفسيره التاريخ الإسلامي، الكثير من الإساءات إلى الإسلام نفسه. . فهو حينما يجعل الاستجابة للعوامل المحليَّة الجغرافية والاجتماعية والسياسية، من خصائص الإسلام، يسلب الإسلام، عوامل التأثير الكامنة فيه التي يواجه بها التحديات الاجتماعية والسياسية والعوامل المحليَّة الأخرى) (¬2). ومِمَّا لا شك فيه أنَّ العوامل التي ذكرها (حبيب) تتفاعل مع معطيات الإسلام، ولكنها هي التي تستجيب لما يحدثه الإسلام فيها من تغيير ومن تهذيب وصقل حتى تصطبغ بصبغة الدين، وتسير في صراط اللَّه المستقيم، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 67. (¬2) نقلًا عن: محمد عبد اللَّه مليباري: المرجع السابق نفسه: ص 67.

والفرق بين تفسير (حبيب) لتاريخ الإسلام وحضارته، وبخاصَّة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد وبين ما حدث فعلًا، كبيرٌ جدًا حيثُ يتحقق في الآخر تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة على سعيد العادات والتقاليد لاحتكامها إلى شريعة الإسلام وهديه، ولا يتحقق ذلك فيما ذهب إليه (حبيب) من تفسير بل يتحقق به العكس تمامًا (¬1). ج- وحاول بعض المستشرقين في كلامهم عن حجاب المرأة المسلمة إبرازه بمظهر لا يتفق مع حقيقته، وما يرمز إليه من الطهر والعفاف، والبعد عن مواطن الفتنة والريبة والزلل؛ فهذا (المستشرق الهولندي (سنوك هورغرونية). . . يدعي: (أن الرابطة الزوجيَّة عند المسلمين غير متينة، وإلَّا لما وضعت على النساء القيود وفرض الحجاب والعزلة عليهن، وأن المرأة غير المتزوجة سواء كانت عزباء أم بكرًا تعتبر عبئًا ثقيلًا على أهلها وأقاربها ما لم يكونوا أثرياء. . . ولذلك فإنَّ امرأة مثل هذه تتشبث بأن تكون شريكة مؤقتة لرجل من الرجال في حياته، وبذلك تحصل على معيشة مجانيَّة لنفسها، عدا نوع من المهر الذي يتفق عليه إذا كانت أحوال الرجل المالية تساعد على ذلك. .، وحتى بعض النساء الثريات يتمنين لو يحصلن على مثل هذا الزوج بالمقاولة ليتخلصن من استغلال أقاربهن لهن) (¬2)، ويقول في مكان آخر: (إنَّ الغربي بينما يجد صعوبة في الافتراق عن خليلته، فإنَّ علاقة الزواج المستديم، والحب الصادق بين الأزواج بعيدة كل البعد عن تفكير الرجل المسلم) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإِسلامية: ص 67، 68 (المرجع السابق نفسه). (¬2) موسوعة العتبات المقدسة: ص 311، نقلًا عن: محمد عبد اللَّه مليباري؛ المرجع السابق نفسه: ص 80. (¬3) موسوعة العتبات المقدسة: ص 311، نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 81.

ويلاحظ أنّه دليل على عدم متانة الرابطة الزوجيَّة عند المسلمين بقيود الحجاب والعزلة. . .، وفاته أن يدرك مدى الآفات الاجتماعية التي تنشأ من الاختلاط، والسفور، ومدى ما في هذا الاختلاط من تجريح لرجولة الرجل، وابتذال لعاطفة المرأة. .، إنَّ المآسي التي يعيشها الكثير من المجتمعات التي أباحت اختلاط الجنسين بمقارنتها بمآسي المجتمعات التي تفرض الحجاب، تعطي دليلًا مزودًا بأرقام إحصائية على فعالية الحجاب، وحدِّه لكثير من المآسي. . . إنَّ الإسلام يوم نادى بالحجاب أوثق به الرابطة الزوجيَّة، بإبعادها عن مواطن الشك والريبة، ومهاوي الزلل، ثُمَّ أعطى النفس المؤمنة بواعث الاطمئنان، والاستقرار، ودلل بالحجاب إحاطته بكوامن النفس البشريَّة، ومدى ضعفها في المواقف الزاخرة بالعواطف المثيرة. . وما يقال عن الحجاب يقال عن الطلاق (¬1) في الإسلام، فإنَّه دعامة من الدعائم التي تزيد المجتمع الإسلامي تماسكًا، فالزواج المستديم الذي لا طلاق فيه كان بذرة من بذرات الانهيار الأسري في مجتمعاته؛ لذلك سنت بعض مجتمعات أوروبا الطلاق واعترفت به، ولم يكن الطلاق عاملًا مؤثرًا في الحب الصادق بين الأزواج، بل كان علاجًا حاسمًا لكثير من المشكلات الأسرية، وباترًا لها) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: ما قاله (بروكلمان) عن الطلاق عند المسلمين: تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 80، (مرجع سابق) والرد عليه لدى: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 79 - 81، (مرجع سابق). (¬2) محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإسلاميَّة: ص 80، 81، (المرجع السابق نفسه)، وللاطلاع على مكانة المرأة في الإسلام ومكانتها لدى الغرب، وعناية الإسلام بها أكثر من الرجل، للرد على شبهات المستشرقين حول قضايا المرأة والأسرة والزواج والطلاق ونحو ذلك؛ انظر: • توفيق يوسف الواعي: الإسلام في العقل العالمي: ص 29 - 35، (مرجع سابق). =

3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأمة الإسلامية

3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة: انطلق المستشرقون في دراستهم للجانب السياسي من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة من منطلقات غير علميَّة، من أهمها الآتي: 1 - إنكار نبوة الرسول محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- , وإرجاع ما جاء به إلى أصول يهودية ونصرانيَّة وغيرهما، وبناءً على ذلك أنكروا أن يكون الإسلام وحيًا من عند اللَّه، وأن تكون الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة ربانية، وبالتالي فإنَّ تفسير تاريخ الإسلام وحضارته يتم عند معظمهم من خلال منظور مادي مجرد بدعوى العلمية والمنهجية (¬1)، وقد ترتب على ذلك إنكار كثير من أسس السيرة النبوية الشريفة، والتقليل من شأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتناول شخصيته -فيما كانت الدراسات (اللاهوتية) تفرغ عليه الأساطير والخرافات، وأقذع الشتائم وأشنع السباب، وكأنَّه من رجال السياسة أو الحكام العسكريين أو عباقرة الإنسانية، و (مهما كان المستشرق ملتزمًا بقواعد البحث التاريخي وأصوله، فإَّنه من خلال رؤيته الخارجية وتغربه يمارس نوعًا من الهدم ¬

_ = أحمد محمد العسال: الإسلام وبناء المجتمع: ص 166 - 295، الطبعة السادسة 1404 هـ - 1984 م، عن دار القلم - الكويت. • نبيل السمالوطي: بناء المجتمع الإسلامي ونظمه (دراسة في علم الاجتماع الإسلامي): ص 75 - 108، (مرجع سابق). • زاهر عوَّاض الألمعي: مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بزينب بنت جحش (دراسة تحليلية): ص 22 - 45 (مرجع سابق). • محمود مهدي الأستانبولي: نساء حول الرسول والرد على مفتريات المستشرقين: ص 307 - 375، الطبعة الرابعة 1413 هـ - 1992 م، عن مكتبة السوادي - جدة. (¬1) انظر: محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق. .: ص 140، (مرجع سابق)، وانظر: شوقي أبو خليل: الإسقاط في مناهج المستشرقين. .: ص 19، (مرجع سابق)، انظر: محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي 1/ 351، 352، (مرجع سابق).

والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصطدم بذلك الحس الديني، ويرتطم بالبداهات الثابتة، وهو من خلال منظوره العقلي والوضعي، يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة، ويعاملها كما لو كانت حقلًا ماديًّا للتجارب والاستنتاجات وإثبات القدرة على الجدل. . إن البحث في السيرة بوجه خاص، يستلزم أكثر من أيِّ مسألة أخرى في التاريخ البشري؛ شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي يُمكنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقومات العلميَّة التي تمكنه من أداء وظيفته الحيويَّة. إنَّ هذين الشرطين اللذين يُمكن أن يوفرهما منهج متماسك سليم يقوم على أسس علميَّة موضوعيَّة لا يخضع لتحزب أو ميل أو هوى. وقد كانت مناهج البحث الغربي (الاستشراقي) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين) أو كليهما معًا. وكانت النتيجة أبحاثًا تحمل اسم السيرة، وتتحدث عن حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتحلل حقائق الرسالة، ولكنها -يقينًا- تحمل وجهًا وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادة السيرة، وروح أخرى غير روح النبوة ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة. . إنَّ نتائجها تنحرف عن العلم؛ لأنها تصدر عن الهوى. . وتسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس تؤدي إلى نسخ كل ما هو جميل، وتزييف كل ما هو أصيل، وتميل بالقيم المشعَّة إلى أن تفقد إشعاعها، وترتمي في الظلمة، أو تؤول إلى البشاعة) (¬1). ب- وتناول المستشرقون -المعادون للإسلام- عهد الخلفاء الراشدين وعهد الخلافة الأمويَّة، والخلافة العباسية وما بعد ذلك إلى العصر الحديث، في ضوء مناهج بحثيَّة زائفة أظهرت تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة السياسي في صورة مزيَّفة اعتمدت على تراث الزنادقة والشعوبيين وسائر الفرق المنشقة ¬

_ (¬1) انظر: عماد الدين خليل: المستشرقون والسِّيرة النبوية (بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغومري وات) 1/ 116، 117، (مرجع سابق).

على الأُمَّة الإسلاميَّة، كما أنَّ كثيرًا من تلك الدراسات اهتمت بالنزعات العرقية والقبليَّة وفسرت بها تاريخ الإسلام السياسي، كما اتهمت الحضارة الإسلاميَّة بأنها اصطبغت بالأفكار (الهلينستية)، والآراء الهنديَّة وفلسفة الأفلاطونيَّة الجديدة. يقول بعض الباحثين: (كان للشعوبيَّة والعصبيَّة أثر في وضع الأخبار التاريخية، والحكايات، والقصص الراميَّة إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وإلى إعلاء طائفة على طائفة، أو أهل بلد على آخر، أو جنس على جنس، وإبعاد الميزان الشرعي في التفاضل، وهو ميزان التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، كما أن الفرق المنحرفة استغلت القُصَّاص، وانتشارهم وجهل معظمهم، وقلة علمهم بالسنة، وانحراف طائفة منهم تبتغي العيش والكسب، فنشروا بينهم أكاذيبهم، وحكايتهم، وقصصهم الموضوعة، فتلفقها هؤلاء القصاص دون وعي وإدراك ونشروها بين العامة، وانتشرت عن طريقهم كثير من الأحاديث الموضوعة المنسوبة كذبًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعدد لا يحصى من الأخبار والأقوال المكذوبة على الصحابة والتابعين، وعلماء الإسلام، مِمَّا يسيء لهم، ويشوه تاريخهم وسيرتهم. . . وقد تلفقت هذه الأكاذيب والتحريفات (طائفة) من المستشرقين، فوجدوا فيها ضالتهم، وأخذوا يعملون على إبرازها، والتركيز عليها، مع ما أضافوه إليها -بدافع من عصبيتهم وكرههم للمسلمين- من أكاذيب وافتراءات كاختراع حوادث لا أصل لها، أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشويه أو التفسير الخاطئ تبعًا للتصور والاعتقاد الذي يدينون به) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: محمد بن صامل العلياني السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي: ص 499 - =

وقد نتج عن ذلك أن فسرت الخلافة الراشدة بدءًا بحروب الردة وانتهاءً بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ومن بعده علي بن أبي طالب، وقبلهما عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهم- أجمعين، وما تلا ذلك من افتراق الأُمَّة، وكأنه نتيجة لنزعات قبليَّة وعرقيَّة، ولرغبات النفوس وشهواتها. وعن ذلك يقول (بروكلمان): (بيد أنه لَمْ تلبث أن اجتاحت بلاد العرب بأكملها روح الردَّة، ولم يكن للدوافع الدينيَّة في ذلك دور يذكر، وإنَّما أريد -فقط- التخلص من سلطة حكومة المدينة غير المريحة) (¬1). ويقول مفسرًا مقتل مالك بن نويرة: (وعندما ظهر خالد بن الوليد في منطقة تميم، وجد الطاعة في كل مكان تقريبًا إلَّا أن مالكًا بن نويرة، سيد يربوع الذي انفصل عن المدينة عقب وفاة محمد مباشرة ظلَّ مؤمنًا بسجاح، بيد أنه عندما حاصره خالد بفصائله، عرض هو أيضًا استسلامه، ومع ذلك سمح خالد بفصائله، عرض هو أيضًا استسلامه، ومع ذلك سمح خالد بالقضاء عليه (بقتله) مع رجال آخرين، وذلك لأنه اشتهى زوجته الجميلة كما يروى) (¬2). ويقول (بروكلمان) عن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-: (وقد يكون أصله (الأرستقراطي) هذا، الذي عادل عند النبي نقص كفاءته الشخصية) (¬3)، ¬

_ = 502 (مرجع سابق)، وانظر: محمد ياسين مظهر صديقي: الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي: ص 10، 11، 14 - 17، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م، عن دار الصحوة، القاهرة. (¬1) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 48، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الكريم علي باز: افترءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي: ص 111 - 114، (مرجع سابق). (¬2) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 86، (المرجع السابق نفسه). (¬3) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة: ص 110، (المرجع السابق نفسه).

ويقول أيضًا: (وليس من شك أيضًا أن أعضاء المجلس -كبار الصحابة- آثَرُوا اختياره رغبة منهم في أن يروا على رأس المسلمين رجلًا يستطيعون توجيهه والتعامل معه في سهولة ويسر) (¬1). وعلى هذا المنوال يفسر (بروكلمان) ونحوه من المستشرقين تاريخ الإسلام في جانبه السياسي بما يشوه صورة الأُمَّة الإسلاميَّة، ويخفي تميُّزها في جميع جوانب حياتها السياسية والحضارية والاجتماعية. وقد تصدى بعض الباحثين للرد على مزاعم (بروكلمان) ومقارنتها بمزاعم (فيليب حتي) والرد عليهما (¬2)، وتوصل إلى أنهما اتفقا على ذكر القضايا الآتية: • (أن سبب خروج أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- في معركة الجمل كان من أجل التشفي بعلي بن أبي طالب. • اتهام الحسن بن علي بأنه تنازل عن الخلافة مقابل رشوة قدَّمها له معاوية. • اتهام عبد الملك بن مروان ببناء بيت المقدس لتحويل الحجاج إليه. • مسألة العباسة وجعفر البرمكي. • اتهام بعض خلفاء بني أميَّة وبني العباس بالمجون. • جعل الناحية الاقتصادية هي الدافع الأساسي للفتوحات الإِسلامية) (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 110. (¬2) انظر: عبد الكريم علي باز: افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي: ص 111 - 138، (مرجع سابق)، وانظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 89 - 140، (مرجع سابق). (¬3) عبد الكريم علي باز: المرجع السابق نفسه: ص 135، وانظر: في الرد على مسألة =

ومِمَّا درج عليه المستشرقون في تفسير التاريخ الإسلامي في جانبه السياسي أن بعضهم أبرز (تاريخ الفرق الضالة، ومحمد إلى تضخيم أدوارها، وتصويرها بصورة المصلح المظلوم، وبأنَّ المؤرخين المسلمين، قد تحاملوا عليها، فالقرامطة، والإسماعيلية، والرافضة الإمامية، والفاطمية، والزنج، وإخوان الصفا، والخوارج، كلهم في نظرهم واعتبارهم دعاة إصلاح وعدالة وحريَّة ومساواة، وثوراتهم كانت ثورات إصلاح للظلم والجور) (¬1). وأظهر بعض المستشرقين تاريخ الخلافة الأمويَّة من خلال (النزعة القبلية، وشعر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل، ولم يرَ من تاريخ الدولة العباسية كله غير دور الموالي من الفرس، وغير السباق بين العناصر المختلفة، وبداية التنافس والطموح) (¬2)، وتؤكد الحقيقة التاريخية أنَّ (تاريخ بني أميَّة كما يراه الثقات من أهل العلم هو تاريخ تثبيت دولة الإسلام، وذلك على الرغم مِمَّا ارتبط بهذا التاريخ من أحداث مؤلمة لها ظروفها وملابساتها التاريخية الخاصة، التي يجب أن تفهم في ضوئها) (¬3). وقد قال عنها ابن خلدون: (وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميَّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحًا، ولا يرتاب ¬

_ = العباسية. . .؛ شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 124 - 126، (المرجع السابق نفسه). (¬1) محمد بن صامل العلياني السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي: ص 505، (مرجع سابق)، وانظر: حسين مؤنس: كتاب مجد الإسلام لجاستون فييت (ملحق بكتاب الفكر الإسلامي الحديث. . .) ص 573 - 575، (مرجع سابق). (¬2) محمد رشاد خليل: المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره: ص 17، (مرجع سابق). (¬3) المرجع السابق نفسه: ص 18، 19، 20.

أحد في ذلك، ولا يُظَنُّ بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما يُدَّعى عليه من الفسق، حاشا اللَّه لمعاوية من ذلك، وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه، وإن كانوا ملوكًا، لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، وإنَّما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلَّا في ضرورة تحملهم على بعضها، مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل قصد، يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم، فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك، وأمَّا مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين وعدالتهم معروفة) (¬1). ويقول عن العباسيين: (كانوا من العدالة بمكان، وصرَّفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح، ثُمَّ أفضى الأمر إلى بنيهم فأُعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراءهم ظهريًّا، فتأذن اللَّه بحربهم، وانتزاع الأمر من أيدي العرب) (¬2). ومِمَّا يذكر في هذا المقام أنَّ الدراسات الاستشراقية في مجال تاريخ ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص 206، (مرجع سابق). (¬2) مقدمة ابن خلدون: ص 206، (المرجع السابق نفسه). ولمزيد الاطلاع على آراء المستشرقين وشبهاتهم حول تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة وحضارتها منذ نهاية الخلافة العباسية وحتى العصر الحديث؛ انظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 130 - 172، (مرجع سابق)، وانظر: لوثروب ستودارد الأمريكي: حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نويهض، ويتعليق الأمير شكيب أرسلان: 3/ 208 - 342، (مرجع سابق). وانظر: شوقي أبو خليل: غوستاف لوبون: ص 49 - 169، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار الفكر - دمشق، وانظر: أحمد العناني: أطول معارك التاريخ: ص 153 - 173، (مرجع سابق)، وانظر: جمال الدين الشيال: التاريخ الإسلامي وأثره في الفكر التاريخي الأوروبي في عصر النهضة: ص 77 - 113، (مرجع سابق).

الأُمَّة الإسلاميَّة وحضارتها قد بلغت من التنوع حدًّا يصل بها إلى درجة التعقيد، من حيث طبيعة الموضوع وأسلوب معالجته، إذ إلا يُمكن حصره وتصنيفه في سهولة ويسر، لاختلاف هوية المستشرقين، وخلفيتهم البيئية والفكرية التي ينطلقون منها في دراساتهم، فالمستشرقون اللاهوتيون -مثلًا- يختلفون في ذلك عن المستشرقين العلمانيين، وإذا كان الاستشراق من الظاهر تيارًا عامًّا فإنَّ وراء هذا العموم مدارس متنوعة، وتقاليد متعددة، وتوجهات شتى تختلف فيما بينها بقدر اختلاف مصالحها واحتكاكها بالعالم الإسلامي. . .، كما يرجع ما تتصف به من تعقيد في كثير من الدراسات إلى تنوع منطلقات المعالجة، وأهدافها، وما تحرص على أن لا تحيد عنه من المسلك الاستشراقي المعهود، ومناهجه الخاصَّة (¬1)؛ وعلى أيِّ حالة فإنَّه مهما اختلفت المنطلقات والأهداف فإنَّ القدر المشترك بين معظم الدراسات الاستشراقية لتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة وحضارتها هو محاولتها نفي التميُّز عنها، واتخاذ أسلوب التشكيك في عقيدتها وشريعتها وأمجادها التاريخية والحضارية (¬2)، ومن المعروف أنَّهم نسبوا القرآن الكريم إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقالوا إنه من تأليفه، وألصقوا الحديث النبوي بتطور المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى، وشككوا في نسبته إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ونسبوا عمل المسلمين واجتهادهم في الفقه الإسلامي إلى ¬

_ (¬1) محمد بركات البيلي: الخلفية التاريخية للاستشراق. . . ص 137، (مجلة المنهل)، (المرجع السابق نفسه). (¬2) عن الحضارة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منها انظر: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 157 - 176، (مرجع سابق)، وانظر: مصطفى الشكعة: موافف المستشرقين من الحضارة الإسلاميَّة في الأندلس: (مقال مدرج في مناهج المسشرقين في الدراسات العربيَّة الإسلاميَّة): 2/ 273 - 343، (مرجع سابق).

رابعا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين

القانون الروماني، كما شوهوا تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة في جوانبه السياسية والاجتماعية، ونالوا من حضارته الفريدة. يقول (جولد زيهر): (إنَّ نمو الإسلام مصطبغ نوعًا بالأفكار (الهلينستية)، ونظامه الفقهي الدقيق يشعر بأثر القانون الروماني، ونظامه السياسي كما تكون في عصر الخلفاء العباسيين يدل على عمل الأفكار والنظريات السياسية الفارسية) (¬1). ويخلص إلى القول: (وهذا الطابع العام يحمله الإسلام مطبوعًا على جبهته منذُ ولادته، فمحمد مؤسسه لم يبشر بجديد من الأفكار، كما لم يمدنا أيضًا بجديد فيما يتصل بعلاقة الإنسان بما هو فوق حسه وشعوره وباللانهاية، لكن هذا وذاك لا ينقصان من القيمة النسبية لطرافته الدينية) (¬2). رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين: يمكن تلخيص موازين البحث عند المستشرقين بما يأتي (¬3): - تحكيم الهوى ونزعات العداء للإسلام والمسلمين، والتعصب الأعمى للنصرانية، وللشعوب والأمم المنتمية إليها. - وضع الفكرة مقدمًا ثم البحث عما يؤيدها مهما كانت ضعيفة واهية، ¬

_ (¬1) العقيدة والشريعة في الإسلام. . ص 11، ترجمة: محمد يوسف موسى وآخرين، (مرجع سابق). (¬2) العقيدة والشريعة في الإسلام: ص 11، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: محمد عبد اللَّه مليباري: المستشرقون والدراسات الإسلاميَّة: ص 69، (مرجع سابق). (¬3) عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر. . ص 147، (مرجع سابق)، انظر: • السباعي: الاستشراق. . ص 437، (مرجع سابق). • عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث. . ص 27 - 41، (مرجع سابق). • محمد صالح البنداق: المستشرقون وترجمة القرآن. . ص 101 - 105، (مرجع سابق). • إسماعيل سالم عبد العال: المستشرقون والقرآن 1/ 38 - 40، 41، (مرجع سابق).

وكثيرًا ما يعمدون إلى أسلوب المغالطات والأكاذيب، وبتر النصوص أو التشكيك بها، أو الأخذ بالواهي منها. - تفسير النصوص والأحداث والوقائع والنيات والغايات تفسيرات لا تتفق مع دلالاتها وأماراتها الحقيقية، ولا مع النتائج التي أثبتها تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة. - تضخيم بعض الأخطاء اليسيرة والتركيز عليها، وتحليلها والاستنتاج منها نتائج تتنافى وتاريخ المسلمين، وما يحفل به من صور رائعة مشرقة. - تجميع الهفوات التي لا تخلو منها أُمَّة مهما عظمت، ووضعها في صورة واحدة، وتقديمها على أنها هي صورة تاريخ المسلمين. - تصيد الشبهات التي يلتبس وجه الحق فيها على كثير من الناس، ولا يستبين لهم ما لم يمتحنوها بالتجارب الطويلة، والتشبث بإثارة الانتقادات حولها، اتباعًا لأهواء النفوس وشهواتها في إطارٍ من استغلال شعارات براقة المظهر تخدع من لا يعرف الحقائق. - اعتماد ما يوافق هواهم من كل خبر ضعيف، ورأي مردود شاذ، وقول ساقط لا سند له من عقل، ولا نقل صحيح. - رفض الحق بالنفي المجرد، الذي لا يدعمه دليل صحيح مقبول في المنهج العلمي السليم. - تفسير التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلاميَّة بالمنظار الغربي الذي يفسرون به التاريخ الغربي والحضارة الغربية، مع تباين كلٍّ من التاريخين والحضارتين عقيدة ونظامًا، وبيئة ودوافع تباينًا كليًّا. - استنباط القواعد الكلية العامّة من الحوادث الفرديّة الجزئية التي لا يصح منطقيًّا تعميمها. - الاعتماد على الوهم المجرد لتفسير الأمور والوقائع.

- قياس المؤمن المسلم الذي يخشى اللَّه على الذين لا تردعهم روادع دين ولا خلق، وتفسيرهم لسلوك المسلمين أفرادًا وجماعات بأنه مدفوع بأغراض شخصية، ونوازع نفسية دنيوية، وليس أثرًا لدافع ابتغاء مرضاة اللَّه وثواب الآخرة) (¬1). - (يعطي الاستشراق نفسه في دراسته للإسلام دور بمثل الاتهام والقاضي في الوقت نفسه) (¬2). - (يخلط الاستشراق كثيرًا بين الإسلام بوصفه دينًا وتعاليم ثابتة في القرآن والسنة الصحيحة وبين الوضع المتردي في العالم الإسلامي) (¬3)، ويحرص على إسقاط عمل المسلمين المخالف لتعاليم الإسلام على الإسلام نفسه، ويعد ذلك حجة على الإسلام، في حين أن الإسلام حجة على المسلمين وليس العكس (¬4). - (يستثمر الاستشراق الفرقة بين المسليين، ويظهر تاريخ الفرق الضالّة، ويمجد المنشقين عن الإسلام وأمته من فرق قديمة وحديثة، ويعرضهم وكأنهم أصحاب فكر متحرر، ويهتم بإظهار كل شاذ وغريب) (¬5). ومِمَّا يلحظ على كثيبر من دراسات المستشرقين فيما يخص تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بصفة خاصَّة ما يأتي: ¬

_ (¬1) عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر. .: ص 147، 148 (المرجع السابق نفسه). (¬2) زقزوق: الاستشراق: ص 117، (مرجع سابق)، وانظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص 212، (مرجع سابق). (¬3) زقزوق: المرجع السابق نفسه: ص 116، وانظر: محمد البهي: المرجع السابق: ص 62. (¬4) انظر: زقزوق: المرجع السابق نفسه: ص 116. (¬5) انظر: زقزوق: المرجع السابق نفسه: ص 116.

- إهمال جوانب المخالفة إذا كانت دليلًا على التميُّز في إطار العقيدة والشريعة والقيم الأخلاقية والنظم، أو في إطار الأُمَّة الإسلاميَّة وحضارتها. - اصطياد جوانب المشابهة والموافقة بهدف نفي التميُّز عن الأُمَّة الإسلاميَّة، وإهمال ما تدل عليه تلك المشابهة أو الموافقة من وحدة الفطرة أو المسلمات العقليَّة والمنطقية، ونحو ذلك مِمَّا يعد في الحقيقة قدرًا مشتركًا بين الشعوب والأمم، وإنَّما تنظر معظم الدراسات الاستشراقية لجوانب المشابهة والموافقة بين الأُمَّة الإسلاميَّة وغيرها من الأمم الأخرى نظرةً ذات نزعة عاطفيَّة معادية. - إهمال أسباب المشابهة والموافقة بين الأُمَّة الإسلاميَّة وغيرها من الأمم الأخرى، وإغفالها إذا كان ذلك لا يخدم الفكرة التي تسعى الدراسات الاستشراقية لتقريرها (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لمزيد الاطلاع؛ انظر: عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين عن تاريخ الإسلام: ص 59 - 69، 70 - 123، (مرجع سابق). ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية. .: 1/ 197 - 205، 207، 275، (مرجع سابق). أحمد عبد الحميد غراب: رؤية إسلاميَّة للاستشراق: ص 79 - 84، 85 - 140، (مرجع سابق). محمد أحمد ذياب: أضواء على الاستشراف والمستشرقين: ص 116 - 120، (مرجع سابق). عمر بن إبراهيم رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن. .: 1/ 77 - 91، (مرجع سابق).

مبحث ختامي

مبحث ختامي • تقويم الحركة الاستشراقية، ومنهج الإسلام في مواجهتها. • أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين، ووسائلها. • الخاتمة.

تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها من خلال استعراض تاريخ الاستشراق في جذوره الضاربة في أعماق تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب والإحاطة بعوامل نشأته وتطوره وازدهاره وعلائقه، ومظاهر نشاطه وحاضره ومستقبله، وما أثاره من شبهات حول تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وموقف المستشرقين من مقومات هذا التميُّز، وخصائصه، وأهدافه، ووسائل تحقيقه؛ يُمكن تقويم الحركة الاستشراقية فيما يأتي: أولًا: إنَّها حركة فكرية هائلة متشعبة شملت مناطق واسعة جدًّا من العالم، وركزت على العالم الإسلامي بخاصة، ووجهت اهتمامها نحو الإسلام واللغة العربيَّة -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- كما قامت بدراسة جوانب من حياة الأُمَّة الإسلاميَّة، وبخاصة منها العقدية والفكرية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، فهي متعددة المجالات متنوعة في دوافعها وأهدافها، متأثرة بالمراحل التي قطعتها، والأطوار التي مرت بها، ومختلفة في النتائج التي وصلت إليها، (وقد ساهم في تلك الحركة آلاف من المستشرقين، عبر العصور التاريخيَّة المختلفة، وكانت جهودهم متفاوتة مختلفة في صورها) (¬1)، ووسائلها، وتبعًا لذلك جاءت كتابات المستشرقين عن الإسلام؛ (تتراوح بين الجهل التام، والمعرفة الموجهة، بين الإسفاف ¬

_ (¬1) علي حسين الخربوطي: المستشرقون والتاريخ الإسلامي: ص 97، نشر الهيئة المصريَّة للكتاب، 1988 م.

الشنيع، والموضوعيَّة النسبيَّة، بين الافتراء والإنصاف، بين الاستعلاء والنزاهة، بين الفحش الصارخ، والتسامح العاقل) (¬1). أمَّا ما نتج عن هذه الدراسات المتنوعة الشاملة التي تولتها الحركة الاستشراقية فقد كان بالغ الأثر على ذاتية الأُمَّة الإسلاميَّة المتميزة، ولا سيما بعدما اتضح مدى تحامل المنهج الاستشراقي على الإسلام وأمته ومجافاته للحقيقة التاريخية، وما ينطوي عليه ذلك من أخطار أجملها أحد المفكرين في قوله: (إن هذا الاستشراق. . . كان أداة بشعة لتصوير الإسلام وتزييفه لمنع عبوره إلى الحياة الأوروبية، وكان منطلق ومخطط الغزو الفكري في بلاد الإسلام، استطاع أن يخترق حياة المسلمين ويشوه أمام أجيالهم -التي تربت في ظل ثقافة الخمود والجمود- الإسلام بكل معانيه من خلال الاحتكاك الحضاري بالمسلمين في القرن الأخير، ولا سيما في مرحلته الأخيرة التي اختفى فيها وراء براقع العلمية والموضوعية والحياد، فاستطاع في هذه المرة أن يقوم بمنع تسرب الإسلام الحق إلى حياة الثقافية الجديدة، سواء عن طريق الإعلام العام، أم المؤسسات الثقافية في البلاد الغربية، أو المراكز والمدارس والجامعات في البلاد الإسلاميَّة) (¬2). ثم (إنَّ الاستشراق قام بدور تضليلي تاريخي ضخم في حياة المسلمين وتاريخهم وثقافتهم ودينهم، ولقد تغلغلت الكتابة الاستشراقية المتعددة الجوانب في حياة الأُمَّة خلال قرن كامل بحيث نفذت إلى كل جزئية من جزئياتها, لا يدرك خطرها إلَّا العالم الخبير الموازن بين حقائق الإسلام وأوضاعه الحضارية وبين مزاعم المستشرقين ودراستهم لهما) (¬3). ¬

_ (¬1) محمود حمدي زقزوق: سيرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في تصورات الغربيين لجوستاف بفانمو: ص 6، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م، مكتبة ابن تيمية، المحرق، البحرين. (¬2) محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين تجاه الإسلام. . . ص 34، (مرجع سابق). (¬3) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 131.

ثانيًا: إنَّها حركة موجهة ارتبطت في مسارها العام بالتنصير وبالاستعمار، كما ارتبطت بالصهيونية العالمية، وانطبعت بالروح المعادية للأُمَّة الإسلاميَّة وتاريخها, لتحقيق هدف هذه القوى المعادية للإسلام والمسلمين في تشويه الإسلام، ودفع العالم الإسلامي إلى مزيد من الضعف والتخلف. وعلى هذا فإنَّ أعمال المستشرقين تحتاج إلى مواجهة دقيقة عميقة بأساليب مجدية، ووسائل فاعلة، ومنهج محكم يحيط بأبعاد القضية، ويناقشها بروح علمية موضوعية. إن المنهج المطلوب في مواجهة المستشرقين تصحيحيًا وتقويمًا هو منهج الإسلام في مجادلة أهل الكتاب وغيرهم ممن كان يثير الشبهات على هدي الإسلام وتعاليمه، وهو منهج بين واضح، وقد وردت آيات عديدة في القرآن العظيم تبين آداب الحوار والجدل والمناقشة، ثمّ طبق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأفعاله وأقواله ومواقفه ذلك المنهج، وسار سلف الأُمَّة عليه، والتزم الخلف الصالح به، وهو منهج يقوم على أسس رصينة تحقق النزاهة والموضوعية والقوة والأصالة والعدل والإحسان والعفو والصفح. . ولعل من أهم هذه الأسس: 1 - بيان الحق والدعوة إليه. . قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. 2 - إدراك السنن الإلهية في النفس والكون والحياة وتلافي الاصطدام بها، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس: 99] ,

وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] , وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]. 3 - مناقشة الأديان والعقائد والملل والنحل والمذاهب المختلفة مناقشة موضوعية نزيهة تكشف ما فيها من وجوه الزلل والزيف والبطلان، وتبين الحق في ذلك كله. ومن الأمثلة على ذلك أن اللَّه قد أشار إلى مقالة الملاحدة، والذين ينكرون البعث واليوم الآخر في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} [الجاثية: 24] , وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 34 - 37]. وعند تأمل هذا الطرح والمناقشة التي أعقبته تظهر عبارات {تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] {تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87]، وقد ذيلت بأسئلة لطيفة متدرجة من مقدمة إلى نتيجة، وهي ترتقي بالفكر والوجدان، وفيها احترام لعقلية المجادل والنزول معه إلى ما يعقله ويدركه وتذكيره بلوازم ذلك، ثمّ السمو به إلى التقوى، وإيقاظ شعوره ووجدانه وهمته للزوم الحق والخير، وتحذيره من مغبة الكذب على اللَّه ووصفه بما هو منزه عنه، حيث قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 90 - 92]. ولعل في هذا الأسلوب، وما أدى إليه من نتائج وأحكام صورة

واضحة جليلة على المنهج القرآني الجدلي، وما يتسم به من نزاهة وقوة في البيان والأصالة. 4 - التزام الأدب والجدال بالتي هي أحسن؛ قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] ذكر في تفسير هذه الآية: (ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلَّا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين الكلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة، وحب العلو، بل يكون القصد: بيان الحق، وهداية الخلق) (¬1)، أمَّا في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فقد جاء في تفسير ذلك: (إلَّا الذين ظلموا من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصد المجادل منهم وحاله، أنَّه لا إرادة له في الحق، وإنَّما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله؛ وإن المقصود منها ضائع) (¬2). 5 - أخذ الحيطة والحذر من أهل الكتاب مع الالتزام بآداب المجادلة معهم، والتنبه لما قد يلجؤون إليه من: أ- التحريف: قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. ب- التلبيس والكتمان: قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. ج- المخادعة: قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. ¬

_ (¬1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .: 6/ 92 (مرجع سابق). (¬2) المرجع السابق نفسه: 6/ 93.

د- الحسد: قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] , وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. هـ - التعصب لما هم عليه من الباطل: قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. و- تزكية النفس وادعاء التفوق: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] , وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. 6 - النهي عن موالاتهم، والإعلان لهم بأنّا مسلمون، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وقال تعالى: {. . . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. 7 - الإشادة بفئة من أهل الكتاب عرفت الحق فآمنت به، وتعاطفت معه، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83]. هذه أهم أسس المنهج في المجادلة بعامة، ومجادلة أهل الكتاب بخاصة، وقد طبقه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مع المجادلين، ورسخه في الواقع، وسار السلف الصالح عليه، و (اهتم العلماء المسلمون -بتأثير مباشر من القرآن

والسنة- اهتمامًا بالغًا بدراسة أديان الأمم وعقائدها وطقوسها، وعقدوا لذلك كتبًا مفردًا أو فصولًا مطولة في مصنفاتهم كالمسعودي وابن خلدون) (¬1)، وابن حزم، والجويني، وابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، والقرطبي، ثُمَّ برزت في العصر الحديث مؤلفات تُعْنَى بهذا الجانب مثل مؤلفات رحمة اللَّه الهندي وأبي زهرة وغيرهما. ومِمَّا انتهجه علماء الأُمَّة الإسلاميَّة في الاحتجاج على الطوائف التي أثارت بعض الشبهات على عقائد الإسلام؛ أنَّهم كانوا يردون على بعضهم بما قال بعضهم الآخر، ويحتجون بما تورده طائفة من الحق أو ما هو أقرب إليه على الطائفة الأُخرى، حتى تضيق دائرة الخلاف ويُجتَلَى الحق من خلال تحرير محل النزاع، وعن هذا يقول ابن تيمية: (ومِمَّا ينبغي -أيضًا- أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنّة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنَّما خالف السنَّة في أمور دقيقة، ومن يكون قد ردَّ على ¬

_ (¬1) انظر: محمد الشرقاوي: مقدمة لكتاب أبي حامد الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ): الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل: دراسة وتحقيق: محمد عبد اللَّه الشرقاوي، الطبعة الأولى 1403 هـ، عن دار أمية للنشر والتوزيع - الرياض، ص 19. وللاطلاع على أبرز المؤلفات في هذا. . . انظر: المرجع السابق نفسه: ص 19 - 24. عثمان جمعة ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة، ص 65 (مرجع سابق). سيرتوماس. و. أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، الملحق [2] , كتب الجدل بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى ص 476، 477، ومراجع عن أدب الجدل في الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، (مرجع سابق). إدغار فيبير: في الجدل الديني في الأندلس والإبستمولوجيا الحديثة، المجلة العربيَّة للثقافة، الصادرة عن المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم، العدد 271، ربيع الأول 1415 هـ سبتمبر 1994 م، ص 72 - 93، (مرجع سابق).

غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنّة منه، فيكون محمودًا فيما ردَّه من الباطل، وقال من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في ردِّه بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل، فيكون قد ردَّ بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، وردَّ باطلًا بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنَّة والجماعة) (¬1). ويُمكن أن يفيد علماء الأُمَّة الإسلاميَّة من هذه الركيزة المنهجيَّة -التي ألمح إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه- في الرد على بعض المستشرقين بما قاله بعضهم الآخر، وفيما رُدَّ به على المستشرقين من غيرهم. وخلاصة القول: إنَّ منهج الإسلام في مواجهة الاستشراق والمستشرقين من علماء الأُمَّة الإسلاميَّة وباحثيها ومفكريها محدد المعالم، راسخ الأسس، واضح السمات، ملائم للتطبيق، يكشف الزيف، ويهدم الباطل للتي هي أقوم. * * * ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 3/ 348، (مرجع سابق).

أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها بعد الإلمام بطبيعة المنهج الاستشراقي في دراسة الإسلام وأمَّته وأنه يهدف بطرق مباشرة وغير مباشرة إلى طمس معالم هويّة الأُمَّة الإسلاميَّة، والتشكيك في عقيدة الإسلام وشريعته وتاريخه وحضارته وتراثه، والنيل من ذاتيتها المتميزة واستقلالها (¬1)، فإنَّ التصدي لهذا الفكر المغازي يحتاج إلى مواجهة تعتمد على الآتي: أولًا: الثقة في اللَّه قبل كل شيء، وإخلاص النية له ثم تحديد الهدف من اتخاذ أي أسلوب أو التذرع بأي وسيلة لمكافحة هذا الفكر المغازي والتصدي له أو لغيره من الأخطار المحدقة بالأُمَّة. . وأن يكون الهدف هو إعلاء كلمة اللَّه، والانتصار له تعالى لتكون كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى تحقيقًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} [الأنفال: 10]. ثانيًا: الاعتصام بكتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا شرط جوهري لمواجهة الاستشراق وغيره من الأخطار التي تهدد يتميز الأُمَّة، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما كتاب اللَّه وسنة نبيه" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . . ص 130، (مرجع سابق) (¬2) أخرجه الإمام مالك: الموطأ، كتاب القدر، باب: النهي عن القول بالقدر، الحديث =

إذا تحقق هذا وذاك نهضت الأُمَّة الإسلاميَّة من كبوتها، وحققت بذلك تميز شخصيتها، وتفرد ذاتيتها؛ لأنها بذلك تحدد هدفها في الحياة، وترتكز على عقيدة قوية سليمة واضحة، وتنطلق في مسيرتها على جادة بينة في منهج محدد مرسوم مستقيم؛ وهو صراط اللَّه المستقيم؛ الذي فسَّرَهُ عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- حينما سئل عن معنى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] الآية، بقوله: (تركنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في أدناه، وطرفه في الجنة) (¬1). بهذا التمسك وعلى ذلك المنهج سادت الأُمَّة الإسلاميَّة، وانتصرت، وقادت البشرية ردحًا من الزمان. . (وإذا جدّد المسلمون في هذا العصر سيرة سلفهم الصالح عادوا أقوياء بقوة الإسلام، أعزاء بعزته، منتصرين باتباع كتابه وسنته) (¬2). ثالثًا: إدراك واقع الأُمَّة. . . وأنها في حالة ضعف شديد، وهذا الضعف حدث واشتدّ بسبب بعد المسلمين عن كتاب اللَّه وعن سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بسبب تمسكهم بهما كما يصور ذلك أعداؤها ومنهم عامة المستشرقين. . . وهذا الضعف الذي تعاني منه الأُمَّة الإسلاميَّة شكّل مناخًا ملائمًا وبيئة خصبة لنشوء قوًى وتيارات تعادي عقيدة الإسلام وشريعته وتاريخه وحضارته، (ولا بُدَّ لنا أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ¬

_ = رقم [3] , الجزء الثاني، ص 686، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، (والحديث برواية أنس بن مالك، وسبق تخريجه في رواية أخرى وبلفظ آخر لابن عبد البر)، انظر: مقدمة البحث؛ ص 22. (¬1) أورده ابن كثير عند تفسيره للآية المذكورة في تفسيره 2/ 191، ص 696. (¬2) انظر: أحمد محمد جمال: التحديات الدينية واللادينية وموقف الإسلام منها، مجلة كلية أصول الدين، العدد [1]: ص 26، صدرت عام 1397 هـ - 1398 هـ، عن جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، الرياض.

ضعفنا ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته، فالاستشراق في حد ذاته دليل وصاية فكرية، ويوم يعي العالم الإسلامي ذاته وينهض من عجزه. . . سيجد الاستشراق نفسه في أزمة وخاصة الاستشراق المشتغل بالإِسلام، ويومها لن يجد الجمهور الذي يخاطبه لا في أوروبا ولا في العالم الإسلامي) (¬1). رابعًا: إذا كان ما قام به الاستشراق في القديم وما يقوم به في الحاضر يعدُّ جزءًا مهمًّا في الصراع الفكري ضد وجود الأُمَّة الإسلاميَّة وتميزها؛ (لما يسهم به في صياغة التصورات الغربية عن العالَم الإسلامي، معبرًا عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما) (¬2)، فإن هذا الصراع الفكري المرير ضد الأُمَّة الإسلاميَّة والمعركة التي فرضت عليها يُعَدّ أشد وطأة، وأقوى أثرًا، وأعظم فتكًا من أيِّ معركة حربية مهما كان حجمها؛ لأن هذه المعركة معركة أفكار (¬3) حول إثبات الذات وتميزها. ويتساءل بعض الباحثين: (هل نحن حريصون حقًّا على الحفاظ على هويتنا وعقائدنا وتراثنا واستقلالية شخصيتنا الإسلاميَّة أم لا؟ إذا كانت الإجابة بالإيجاب فنحن إذًا أصحاب قضية مصيرية من أجل إثبات الذات. . . قضية صراع حضاري مرير، والاستشراق طرف في هذه القضية) (¬4). والحربُ على الإسلام وأمته في هذا المجال حربٌ عقديَّة فكرية لها ¬

_ (¬1) زقزوق: الاستشراق. . ص 127 - 128، (مرجع سابق). (¬2) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ص 33، (مرجع سابق). (¬3) انظر: زقزوق: الاستشراق. ص 125، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عماد الدين خليل: هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي: ص 24 - 52، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1986 م، عن مكتبة النور، القاهرة. (¬4) زقزوق: الاستشراق: ص 130، (المرجع السابق نفسه).

منطقها ووسائلها وأساليبها، ومِمَّا تتمثل به البحوث والدراسات، والتراجم المختلفة لمعاني القرآن الكريم، وإنجاز المعاجم اللغوية، والموسوعات المتنوعة في التاريخ والاجتماع والعقائد والمذاهب والحضارة، وذلك إلى جانب تأسيس المعاهد والجمعيات وإصدار المجلات وعقد المؤتمرات ونحو ذلك من الأعمال العلمية والتعليمية والإعلامية (¬1) التي تظهر في أحيان كثيرة بالمظهر الحضاري والرقي الفكري، بينما هي في الحقيقة تكيد للأُمّة الإسلاميَّة، وتقوم بتفريغ شخصيتها من مضامينها الصحيحة وتحاول إعادة صياغتها وفق أهدافها -كما وصف إدوارد سعيد مكانة الاستشراق في الثقافة الغربية، وأنها استطاعت (عن طريقه أن تتدبر الشرق- بل حتى أن تنتجه سياسيًّا، واجتماعيًّا، وعسكريًّا، وعقائديًّا، وعلميًّا، وتخيليًّا في مرحلة ما بعد عصر التنوير) (¬2)، وسواء بلغ الاستشراق هذا الهدف أو لم يبلغه فلا أقل من كونه أصبح يشكل ما يشبه الوصاية الفكرية على الأُمَّة الإسلاميَّة وأوضاعها العامة والخاصة. إنَّ التصدي لهذا الواقع يستوجب إعداد الوسائل والأساليب المناسبة لمواجهة هذا التحدي، والتصدي لخطره، وقد اجتهد كثير من الباحثين في طرح ما يقابل التحدي الاستشراقي بمثله، بل ويتغلب عليه. . ومن أبرز الوسائل والأساليب ما يأتي: 1 - إعداد موسوعة للرد على المستشرقين. 2 - إعداد دائرة معارف إسلامية جديدة. 3 - إنجاز ترجمة إسلامية لمعاني القرآن الكريم. 4 - تأسيس مؤسسة إسلامية علمية عالمية. ¬

_ (¬1) انظر: مظاهر النشاط الاستشراقي: ص 294 - 296، (البحث نفسه). (¬2) انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق. . ص 39، (مرجع سابق).

5 - تكوين جهاز عالمي للدعوة الإسلاميَّة. 6 - إنشاء دار نشر إسلامية عالمية. 7 - العمل على تنقية التراث الإسلامي. 8 - الحضور الإسلامي في الغرب. 9 - الحوار مع المستشرقين المعتدلين) (¬1). وهناك أطروحات كثيرة أخرى من أبرزها: 1 - فتح معاهد للدراسات الاستشراقية في الجامعات الإسلاميَّة تعني بما صدر عن المستشرقين تصنيفًا ودراسة ونقدًا. 2 - عقد مؤتمرات لمناقشة الأعمال المنجزة في هذا الصدد ورصد النتائج وتبادل التجارب والخبرات. . ثم الاتفاق على جمع النتائج ونشرها من لدن لجان متخصصة في سلسلة علمية مفصلة تتحول عبر السنين إلى موسوعة كاملة في الرد على المستشرقين. 3 - توجيه بعض الرسائل الجامعية في الأقسام الدراسات العليا في الأقسام الإسلاميَّة والإنسانية نحو دراسة آثار المستشرقين. 4 - تدريس الاستشراق ومناهجه وتراثه وآثاره في الأقسام العلمية في الجامعات) (¬2). ويأتي بعد ذلك تساؤل عما إذا كان ذلك في الإطار النظري فحسب، أو تجاوز هذا الإطار إلى التطبيق العملي؟ والجواب على هذا بأن هناك أعمالًا جماعية وأخرى فردية بذلت في مواجهة الاستشراق وأعمال المستشرقين يُمكن الإلماح إلى بعضها على سبيل الإجمال والإيجاز سواء ما كان منها على المستوى الفردي أو ¬

_ (¬1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . ص 130 - 154، (المرجع السابق نفسه). (¬2) انظر: محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين. ص 132 - 134، (مرجع سابق).

المستوى الجماعي من خلال المؤسسات العلمية والمراكز والهيئات المتخصصة في العالم الإسلامي. أولًا: قام على المستوى الفردي (كثيرٌ من علماء الأُمَّة ومفكريها وبعض الباحثين والدّارسين بالتصدي للاستشراق، ومناقشة منهجه في دراسة الإسلام وبيان مخاطره وخياناته العلمية. . والكشف عن مقدماته ونتائجه الفاسدة) (¬1). ومن أبرز هؤلاء العلماء والمفكرين والباحثين: (محمد رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان، ومصطفى الرافعي، وعباس محمود العقاد، ومصطفى السباعي، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ومالك بن نبي، ومحمد البهي، ومحمد الغزالي، ومحمد محمد حسين، وأنور الجندي، ومحمود شاكر وغيرهم) (¬2). كما توجد مخطوطة عن المستشرقين وأعمالهم لمحب الدين الخطيب في حوزة ابنه ذكرها أحمد سمايلوفتش (أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلاميَّة بكلية الدراسات الإسلاميَّة بيوغسلافيا) (¬3)، ذكر بأنّه اطلع عليها، وقال عن مؤلفها: (. . حاول أن يسجل كل ما يتعلق بالاستشراق، مبتدئًا بمطبوعات شرقية في أوروبا، الجمعيات الاستشراقية المختلفة، مؤتمرات المستشرقين، مشاهير المستشرقين، دائرة المعارف الإسلاميَّة، مجلّات الاستشراق المختلفة، مطابع العربيَّة في أوروبا، المكتبات الأوروبية التي تحتوي على المؤلفات العربيَّة، وما إلى ذلك مما يبدو لنا أنه كان ينوي ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 131. (¬2) انظر: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق. . . ص 684، 685، (مرجع سابق)، وانظر ما سبق في ص 1108 - 1109، (البحث نفسه). (¬3) انظر كتابه: فلسفة الاستشراق: ص 68، (مرجع سابق).

التأليف في هذا الموضوع، علاوة على ما يؤكد دقة تتبعه لأعمال المستشرقين المختلفة، وما كان يصدره علماؤه الكبار في الشرق والغرب على السواء) (¬1). ثانيًا: وأمَّا على المستوى الجماعي من خلال المؤسسات العلمية والهيئات ومراكز البحث في العالم الإسلامي، فهناك على سبيل المثال لا الحصر الآتي: 1 - ما قامت به الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالتنسيق مع الأمانة العامة لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة، من إعداد تراجم لمعاني القرآن الكريم بأكثر من لغة (الإِنجليزية، الفرنسية، وغيرها) وتَمَّ إنجاز عددٍ من التراجم في مقدمتها الإِنجليزية والفرنسية، ومما يجدر ذكره هنا تلك العناية الفائقة بالترجمة بدءًا بتشكيل لجان متخصصة لتدارس التراجم السابقة واختيار أدق التعابير وأنسبها للتعبير عن معاني القرآن الكريم وألطف الألفاظ في اللغات المترجم إليها، ومما يدل على التأدب مع كتاب اللَّه والدّقة في التعبير، كتابة العنوان على النحو الآتي: (القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة. .) إلى اللغة التي ترجمت إليها، فنص القرآن مكتوب بتمامه ثمّ تأتي الترجمة لمعانيه على الحواشي. . غير أن إخراج الترجمة الفرنسية فيما يبدو لي أكثر إبداعًا حيث جاء نص القرآن الكريم وفقًا لمصحف المدينة المنورة وجاءت الترجمة في الصفحة المقابلة، وهذا يحفظ لرسم المصحف كمال العناية والرعاية. . وحبذا لو أخضعت الترجمة أيضًا لترتيب صفحات مصحف المدينة فتبقى الصفحة اليمنى في المصحف هي الصفحة اليمنى في الترجمة، والصفحة اليسرى في الترجمة هي الصفحة ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه: ص 68، في الحاشية، وانظر: مقدمة البحث: ص 35.

اليسرى في الترجمة لئلا يختل تصور الصفحات على من يعتمد على التصور في حفظه للقرآن، وحفظ مواقع الآيات من الصفحات. ومِمَّا لا شك فيه أنَّ إنجاز ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات العالمية الحيّة بدءًا بالإِنجليزية والفرنسية. . بأيدٍ أمينة وقلوب مؤمنة محبة للَّه ورسوله ولكتابه ولأُمَّة الإسلام، وتعمل بعقول واعية مدركة. . من شأنه أن يكافح سموم الاستشراق، ويصد عاديته على الأُمَّة الإسلاميَّة وعلى دستور حياتها الذي جاء رحمة للعالمين كما يكشف بصورة علمية سوء عمل المستشرقين في ترجماتهم المنتشرة لدى الأوروبيين لما فيها من باطل، وتزوير وافتراء، يرمي إلى صرف غير المسلمين بعامة والأوروبيين بخاصة عن قبول الإسلام، وليبقى هؤلاء على كراهيتهم له وحقدهم عليه، فقد أسهمت (هذه الترجمات في صنع سد منيع لمنع عبور الإسلام إلى غير المسلمين بعامة والأوروبيين بخاصة، وعن طريقها دبت كراهية الإسلام والمسلمين في دماء الشعوب الأوروبية) (¬1). 2 - تعنى كثير من الجامعات في العالم الإسلامي بدراسات المستشرقين ومناهجهم، ولعل جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلاميَّة من أبرز المهتمين بما صدر عن المستشرقين بروح متميزة، ومن أبرز ما عملت الآتي: أ- أنشات وحدة خاصة لدراسات المستشرقين في مركز البحوث بالرياض. ب- أنشأت قسمًا دراسيًّا خاصًّا بالاستشراق في كلية الدعوة والإعلام بالمدينة المنورة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: محسن عبد الحميد: أزمة المثقفين. . ص 33، 37، (مرجع سابق). (¬2) لمزيد الاطلاع على مناهج هذا القسم ومقرراته انظر: دليل جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، 1407 هـ، ص 36، 37، 42 - 46، عن مطابع جامعة الإِمام.

ج- قررت تدريس الاستشراق في بعض مستويات الدراسة الجامعية في بعض الكليات. د- تسجيل بعض الرسائل العلمية في مرحلتي (الماجستير والدكتوراه) في أقسام عديدة من كليات الجامعة (¬1). 3 - نظمت أكاديمية (دار المنصفين) بالتعاون مع (ندوة العلماء لكهنؤ) في الهند ندوةً علمية بعنوان (الإسلام والمستشرقون) وقد عقدت الندوة ما بين (26 - 28 ربيع الآخر من عام 1402 هـ الموافق 21 - 23 فبراير 1982 م) شارك فيها عدد من العلماء والباحثين المسلمين ووفد إليها مندوبون عن بعض الجامعات الإسلاميَّة ومراكز البحث والهيئات العلمية في أرجاء العالم الإسلامي. . وقد صدرت أعمال هذه الندوة في كتاب بعنوان: (الإسلام والمستشرقون) تأليف: نخبة من العلماء، وصدرت طبعته الأولى عام 1405 هـ - 1985 م. 4 - في إطار التعاون المشترك بين المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج، وبمناسبة احتفائهما بحلول القرن الخامس عشر الهجري وقع اختيارهما على معالجة موضوع الاستشراق. . وشكلت لهذا الغرض لجنة استكتبت عددًا من العلماء المسلمين للكتابة عن مناهج المستشرقين ونقدها. وقد صدر هذا العمل في كتاب يقع في جزأين بعنوان: (مناهج المستشرقين في الدراسات العربيَّة الإسلاميَّة) وصدرت طبعته الأولى عام 1405 هـ - 1985 م. ¬

_ (¬1) من الرسائل العلمية التي طبعت رسالة الدكتوراه لعمر إبراهيم رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره (دراسة ونقد) (مرجع سابق).

5 - أصدرت بعض المجلات أعدادًا متخصصة عن الاستشراق والمستشرقين، منها على سبيل المثال: أ- عدد خاص عن الاستشراق أصدرته مجلة عالم الكتب وأسهمت في نشره جامعة الإِمام. . وهو العدد الأول من المجلد الخامس المصادر في رجب 1404 هـ إبريل 1984 م. ب- وصدر عدد خاص عن الاستشراق وهو العدد السادس من المجلد الخامس عشر من مجلة عالم الكتب -أيضًا- في جمادى الأولى والآخرة 1415 هـ/ نوفمبر - ديسمبر 1994 م. ج- حمل العدد السنوي المتخصص من مجلة المنهل لعام 1409 هـ عنوان: (الاستشراق والمستشرقون) وهو العدد 4711، السنة [55] المجلد [50] عن رمضان وشوال عام 1409 هـ - إبريل مايو 1989 م. * * *

الخاتمة

الخاتمة تتضمن هذه الخاتمة خلاصة لأهم ما في هذه الرسالة من موضوعات فكريَّة، ونتائج، وتوصيات؛ مِمَّا خلص إليه البحث في تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة والدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين منه، وذلك على النحو الآتي: 1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي: أولًا: اشتمال مفهوم يتميز الأُمَّة الإسلاميَّة على ما اختصت به من دون سائر الأُمم، وتحقق هذا المفهوم بمدلوله العلمي فيها، وبمعطياته المتنوعة، على نحوٍ متفرد من حيث وحدة المصدر والاتجاه، وشمول الرؤية، وكمال النظم بحيث صبغها بصبغته، وميَّزها بطابعه، فكانت أُمَّةً وسطًا. ثانيًا: ارتكاز تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة على القرآن الكريم والسنة المطهرة، على ضوءِ فهم السلف الصالح لهما، وتحقيق ذلك في حياة الأُمَّة عبر عصورها. ثالثًا: استفاضة الأدلة على منزلة التميُّز وضرورته، وأنَّه من سنن اللَّه -عز وجل- مِمَّا يؤكد أنَّ تَمَيُّز هذه الأمَّة قدرًا إلهيًّا، واختيارًا ربانيًّا، وتكريمًا من العليم الخبير، ويبين عظم المسؤولية في تحقيقه. رابعًا: أنَّ ضرورة التميُّز أساس في إبراز ذاتيَّة الأُمَّة، وإظهار سمتها وسماتها, ولا سيما مع تقدم الزمان، وتقدم وسائل الاتصال، وتداخل الثقافات، وتلاقي الأمم بمناهجها المختلفة، وثقافاتها المتنوعة، وسيرورة

أ- عقيدة التوحيد؛

البشريَّة نحو العالمية في نظمها وقيمها وتصوراتها، فالتميُّز ضرورة للأمَّة الإسلاميَّة؛ ليكون ضمانة لها من الضياع، أو التراجع، أو التفريط. خامسًا: إنَّ تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بمقوماته وخصائصه وأهدافه ووسائله، تَمَيُّز فريد لا يعني -بحال- الانغلاق في دوائر الذاتيَّة الضيقة، أو الإقليمية المحدودة، أو العنصرية المقيتة، بل هو تَمَيُّز يعلي من قيمة الفرد، ويهتم بمصلحة المجتمع، وسيادة الأُمَّة لارتكازه على ما يأتي: أ- عقيدة التوحيد؛ التي فطر اللَّه الناس عليها، فهي بذلك: عقيدة سهلة المأخذ، واضحة بينة بيضاء نقية، تعرض قضايا الوجود، وحقائق عالم الغيب وعالم الشهادة، بأسلوب حي مؤثر، يجعل للإيمان أثره العميق في نفس الفرد، وفي استقامة سلوكه، وفي الجماعة ونظام حياتها، وبذلك يتحقق تَمَيُّز الأُمَّة بهذه العقيدة الفذَّة الأصلية، دون غيرها من عقائد الأمم التي داخلها الشرك، والشك، والهوى، والآراء الفاسدة، والأفكار الرديئة، فصارت بذلك أسوأ نماذج التعقيد والتناقض. ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء، المنبثقة من عقيدة التوحيد، التي تربط الأُمَّة بمنظومة من القيم والنظم، تلازم هذه العقيدة ملازمة محكمة، وتعمد على مصادر جعلتها صالحة لكل زمان ومكان وإنسان، لما اشتملت عليه من أحكام تجلب المصالح، وتدفع المفاسد، وتنطوي على مرونة تمكنها من احتواء المستجدات، وربطها بالقواعد المقررة والأصول الثابتة، وفقا لضوابط شرعيَّة دقيقة. ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة؛ فهي أُخُوَّة توجبها عقيدة الإسلام، وشريعته، وتربط شبكة العلاقات الاجتماعية بأواصر قويَّة، قوامها الحق والخير والإحسان, والتعاون على البر والتقوى، ومكافحة الشر والرذيلة والفتن.

د- الخصائص التي تفرد بها تميز الأمة الإسلامية؛ وأهمها

وعلى أساس من هذه الأُخُوَّة تحققت وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة على أوسع نطاق، وكانت بما تفردت به من ارتكازها على التقوى ميزانًا للكرامة، والتفاضل، والتنافس، ونمو البر والإحسان, وشيوع العفو والتسامح؛ والوحدة النموذجيَّة الراسخة، التي أقامت صروح الحق والعدل في أرجاء المعمورة، كما تشهد بذلك حضارتها الزاهرة. د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها: • الربانية: فمصدر التميُّز كتاب اللَّه -عز وجل- وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. • العالَمِيَّة: التي تقتضيها ربانيَّة الإسلام من حيث هو خطاب لكافة البشر، ومنهج شامل مستجيب لحاجاتهم في إطار عالمي لجميع الناس الذين ارتضوا الإسلام دينًا، وانضموا تحت لوائه، دون قيد بزمان أو مكان. • الوسطيَّة: التي هي سمة الأُمَّة الإسلاميَّة، ودليل تحققها بالحق والخير {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. • الإيجابيَّة الخيِّرة: ومظهرها السبق إلى الخير والصلاح والإصلاح، والمسارعة إلى الحق والعدل والبر والإحسان وكل عمل صالح يراد به وجه اللَّه -عز وجل- فهو سبق مبرأ مِمَّا يضر بالآخرين، أو بالكون، بل ينجسم مع سنن اللَّه في الكون والأنفس والحياة. هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة المتمثلة في تحقيق العبوديَّة للَّه، التي هي الغاية من خلق الثقلين، وجعلها خالصة للَّه رب العالمين، وفقًا لما شرع، واقتداء برسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويهدف كذلك لتحقيق الاستخلاف بإقامة دين اللَّه في الأرض، بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان باللَّه، ولا يتأتى

و- وسائل تميز الأمة الإسلامية

هذا إلَّا بتحقيق الهدف الذي سبق؛ لأن الأُمَّة إذا لَمْ تحقق عبوديتها الخالصة للَّه فقدت سيادتها وعزتها. و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة التي يتحقق من خلالها، والتي تسهم في بناء الشخصية الإسلاميَّة للفرد والأُمَّة. • تأتي اللغة العربيَّة في مقدمتها، فهي شعار الأُمَّة، وهي من أهم وسائل تَمَيُّزها؛ لأنَّها اللسان الذي أُنْزِلَ به القرآن الكريم، وبلَّغ به الرسول الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم- رسالة ربه، وهو السبيل لفهم نصوص الدين، والطريق إلى معرفته، ومعرفة نهج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وتأثيرها عظيم في العقل والخلق والسلوك والدين. • ثُمَّ يأتي تاريخ الإسلام وحضارته؛ حيث نشأ هذا التاريخ من انبثاق النور في بطحاء مكة المكرمة، متواصلًا مع تاريخ النبوات السابقة، ومتميِّزًا في نشأته وتطوره، وجاءت حضارة الإسلام على غير مثال سابق؛ من حيث أصالة الأسس، وقوة الجذور، وروح الحياة المتجددة، ذات التأثير الفاعل في حياة البشريَّة، وحركتها وآمالها وأهدافها، وبدأ هذا التاريخ؛ ونشأت هذه الحضارة في دنيا الواقع بصورة فعليَّة ملموسة، وبوقائع ذات أبعاد ضخمة في حاضر الإسلام ومستقبله. وإذا كان مِمَّا اتسم به تاريخ هذه الأُمَّة تفرده واستقلاله عن تواريخ الأُمم الأخرى، فإنَّ مرد ذلك جملة من المقومات التي استندت إليها حياة المسلمين، ومنها: • الالتزام بالإِسلام، والاعتزاز به. • الوعي الشامل بالثقافة الإسلاميَّة، وما يخالفها من الثقافات الأُخرى. • الدعوة والجهاد.

2 - وفي ضوء الدراسة النقدية لموقف المستشرقين من تميز الأمة الإسلامية، تبين الآتي

• التعاون والتناصر والتآزر. وبهذه المقومات ونحوها، تحقق تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة تاريخيًا وحضارة، وتجلَّى أثر الإسلام في التاريخ البشري. 2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي: أولًا: استهداف الأُمَّة الإسلاميَّة من قبل أعدائها منذُ أن تكونت، كما بين ذلك اللَّه -عز وجل- في كتابه الكريم. ثانيًا: أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة واجهت -في سالف عصرها- أصنافًا من التحديات التي تستهدف دينها ووحدتها؛ ومن أبرز تلك التحديات، الغزو العقدي الذي حاول النيل من عقيدة التوحيد، من خلال التفسيرات الفلسفيَّة لقضايا العقيدة، ونشر العقائد الباطنيَّة. ثالثًا: انتصار الأُمَّة الإسلاميَّة في كافة التحديات التي واجهتها منذُ بداية تاريخها، العسكريَّة منها والفكريَّة. رابعًا: تواجه الأمَّة الإسلاميَّة في تاريخها الحديث تحديًا خطيرًا يتمثل في غزو الحضارة الغربية التي تتعارض في كثير من مبادئها وقيمها ومنطلقاتها ومنهجها في الحياة مع مبادئ الإسلام، وقيمه، ومنهجه، ونظمه، والتي اتخذت مختلف الوسائل والأساليب لتحقيق غزو الأُمَّة الإسلاميَّة واحتوائها ثقافيًّا، ومن ذلك تبني الاستشراق ودعمه، فنشأت مؤسسات استشراقية كبرى بما توفر لها من دعم مادي ومعنوي، وسارت حركة الاستشراق هادفة -في مسارها العام- إلى تقويض المقومات العقديَّة والثقافيَّة والروحيَّة لهذه الأُمَّة، ومحاولة اجتثاث الجذور التاريخيَّة المقومة لشخصيتها، وروحها الذاتيَّة، لتصير إلى خلل فطري، وخواء روحي، يسهل في مناخه الفاسد المشوش غزو الأُمَّة الإسلاميَّة، وبالفكر والمبادئ

والمفاهيم والتصورات الغريبة على دين الأُمَّة وعقيدتها، فعمدوا إلى ما يأتي: أ- إنكار تَمَيُّز العقيدة الإسلاميَّة، والزعم بأنَّها مستقاة من اليهوديَّة، والنصرانيَّة، والمجوسيَّة، والوثنيَّة. ب- الزعم بأنَّ الشريعة الإسلاميَّة مقتبسة من القانون الروماني. ج- الزعم بأنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ألف القرآن الكريم، وأنَّ السنَّة الشريفة -في معظمها- من وضع المسلمين لمقاصد شخصية، وسياسيَّة، ومذهبيَّة. د- أنَّ العبادات والشعائر الدينيَّة في الإسلام مقتبسة من اليهود، ومتأثرة بالمجوسيَّة والنصرانيَّة، وكذلك بقايا الوثنيَّة. هـ - إلصاق التهم بالإِسلام، ونبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحملته، وسائر الأُمَّة الإسلاميَّة، وعلى الرغم من التحولات الفكريَّة والتاريخيَّة في الغرب نحو الماديَّة والمناهج العقليَّة والعلميَّة؛ فإنَّ تلك الصورة لم تتغير كثيرًا عن زمن سيادة النصرانيَّة، فسرعان ما اصطبغت بالصبغة الاستعمارية ثُمَّ بالصهيونية، في مسار الحركة الاستشراقية العام. و- الإساءة إلى التاريخ الإسلامي، وإخفاء محاسنه؛ ومن أبرز ما أظهروه: • دعوى انتشار الإسلام بالسيف. • تفسير التاريخ الإسلامي بمنظور روحي أو مادي بحسب تغيُّر النظرة الغربية من النصرانيَّة إلى الماديَّة. وانطلاقًا من التناقض في المناهج المستخدمة، فقد وصف الإسلام بانَّه دين شهواني، ونزعته ماديَّة، وصف العقل المسلم بأنَّه غير قادر على البحث العلمي الموزون؛ لأنَّه فطر بالوراثة على البساطة وإدراك المسائل في صورة جزئيات، منفصلة متباعدة، في غير ما تناسب ولا انجسام،

ولا ارتباط، فهو غير قادر على الربط بين الأشياء برباط منطقي. . يتأثر بالخرافة، ويميل إلى التفسير الغيبي، فلا يقدر على تفسير القضايا تفسيرًا علميًّا موزونًا، واتهموا المسلمين -بحكم عقيدتهم- بالجبريَّة، والتواكل، والكسل، والخمول، وانتهوا بناءً على ذلك، إلى زعمهم أن انحطاط الأُمَّة الإسلاميَّة وتخلفها، يرجع إلى تمسكهم بالدين، والتقيد بتعاليمه وعقائده. ز- أنكر معظم المستشرقين تأثير الإسلام في الحضارة الأندلسيَّة، وتجاهلوا تأثيره الحضاري في الغرب. وعلى الرغم من ذلك كلّه؛ فإنَّ من الإنصاف أن يذكر هنا أنَّ أفرادًا قلائل، وفي فترات متباعدة في تاريخ الاستشراق، ذبوا عن الإسلام، وعن الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنصفوا تاريخ الإسلام وحضارته، وأشادوا بقيمه ومبادئه، وتوافروا على خدمة علوم العربيَّة والإسلام، ومنهم من دخل الإسلام، ومنهم من اقتصر على الثناء عليه، والدفاع عنه، خدمة للحق، وانتصارًا للعلم والمنهج والموضوعيَّة. بالإضافة إلى ما سبق؛ فإنَّ من أهم النتائج والتوصيات التي خلص إليها البحث؛ ما يأتي: أولًا: استمرار تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بتمييز اللَّه لها، وكما يدل على ذلك وعد المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ينبغي عليها أن تحقق في ذاتها جملة من الشروط الشرعيَّة اللازمة لتحقيق التميُّز، ومن أهمها: أ- الثقة في اللَّه قبل كل شيء، وإخلاص النيَّة له، ثُمَّ تحديد الهدف من اتخاذ أيِّ أسلوب أو وسيلة للتصدي للأخطار المحدقة بها. ب- الاعتصام بكتاب اللَّه -عز وجل- وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- كالسلف الصالح. ج- المعرفة بحال الأُمَّة وما فيها من ضعف، وأخطأ نتيجة الانحرافات عن الصراط المستقيم.

د- الوعي بالغزو الثقافي والصراع الفكري ضد تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وإعطائه ما يستحق بوصفه قضية مصيريَّة من أجل إثبات الذات، وكشف الخصم. ثانيًا: ومن النتائج التي توصل إليها البحث سقوط الشبهات الاستشراقية، حول تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة جملة وتفصيلًا، ويوصي البحث أن يستخدم في إسقاطها المنهج الذي طبقه سلف الأُمَّة في حق الفرق الضالَّة، حيث تدفع بعض الشبهات من طرف بما قاله الطرف الآخر، ويدفع الباطل الأكثر بما هو أقل باطلًا منه، ثُمَّ بما في تلك الشبهات من التعارض والتناقض، وما يرد به بعضهم على بعضهم الآخر، إلى أن تنحصر الشبهات في أضيق نطاق، ثُمَّ ينصب عليها النقد والرد، حتى يتحقق دفعها وإسقاطها البتة، ومن ثُمَّ الاحتجاج بتلك الشبهة والآراء على فساد المنهج الاستشراقي ذاته. ثالثًا: ومِمَّا يوصي به البحث الالتزام بمنهج الإسلام في المجادلة، كما أصَّله القرآنُ الكريم، وطبقه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسار عليه سلف الأُمَّة الصالح، وتقيَّد به علماء الأُمَّة ومفكروها في تاريخها القديم والحديث على السواء، وأنَّ هذا المنهج يحقق العدل والإحسان, ويجلب الخير والنفع للأُمَّة الإسلاميَّة في اتصالها بالآخرين، ويتضمن حسن التعامل مع أهل الكتاب، والتسامح مع المخالفين، وفي الوقت نفسه يعصمها من الخديعة، والخب، ويدرأ عنها مغبَّة الإذابة، والنزول عن تَمَيُّزها الذي عصمها اللَّه به من الانزلاق والخسران، ولئلا يصدق عليها إبليس ظنّه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]. رابعًا: ومن النتائج التي توصل إليها البحث: التفريق بين الحكم على الاستشراق كحركة، وعلى المستشرقين بصفتهم أفرادًا ومدارس، ففيما

يتعلق بالاستشراق -بصفته حركة- فهو حركة معادية للإسلام، وجهت في مسارها العام ضد الأُمَّة الإسلاميَّة، وارتبطت بدوائر العداء للإسلام وأمته، أمَّا المستشرقين بصفتهم أفرادًا أو مدارسًا، فإنَّ المنهج العادل -واللَّه أعلم- في الحكم عليهم هو أن يدرس إنتاج ذلك المستشرق أو تلك المدرسة دراسة نقديَّة تبين ما في ذلك الإنتاج من أخطاءٍ، وما فيه من صواب، ثُمَّ تتم الموازنة والتقويم، والرد على ما يشتمل عليه ذلك الإنتاج من الباطل، وتتم الإفادة مِمَّا وصل إليه من آراء صائبة، ويستفاد منها في الرد على شبهات المستشرقين الآخرين وآرائهم، وعندئذٍ ينفك النقد عن الشخص لذاته، وينصب على أقواله بطريقة منهجيَّة موضوعيَّة بعيدة عن الانفعال والمؤثرات الجانبيّة، ويتحقق بذلك قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. خامسًا: ومِمَّا يوصي به البحث ضرورة الاحتراز مِمَّا وقع فيه بعض المفكرين والباحثين الذين تصدوا للاستشراق والرد على شبهات المستشرقين، إذ وقع في ردودهم تزيدٌ في دفع الشبهات، بما جرَّ على حقائق الإسلام شيئًا من التشويه، أو النفي، أو وقع فيها ما يخل ببعض عقائد الإسلام وتشريعاته وأخلاقه، ومسلمات تاريخه وحضارته, بسبب ما يتصف به ذلك المفكر أو الباحث من خلل في ذلك أو بعضه، أو قصور في تصوره، أو عجز في معلوماته ومعارفه تجعله دون الدرجة التي يستوجبها الأمر الذي تصدى له، لذلك فإنَّ الباحث يرى أهميَّة اللجان المتخصصة في تناول الدراسات الاستشراقية، ونقدها؛ ليتحقق بذلك العمل العلمي المتخصص في كل حقل علمي. سادسًا: ومِمَّا يوصي به البحث: ضرورة الوعي بالمراحل التاريخيَّة التي تمر فيها الأُمَّة الإسلاميَّة في علاقتها بالأمم الأخرى، والأطوار التي تطورت خلالها الدراسات الاستشراقية؛ لتحديد حجم العداء، وإنزاله في

منزلته الملائمة له، من غير تهوين لشأنه، ولا تعظيم لخطره، ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ لذلك فإنَّه ينبغي على ولاة أمر الأُمَّة الإسلاميَّة، من قادة وعلماء ومفكرين وباحثين؛ أن يحققوا في معرفة التيارات والقوى المعادية للأُمَّة الإسلاميَّة خصيصة السبق والمسارعة، ولعله ما قد يُعرَفُ في العصر الراهن بمسمى (الدراسات الاستراتيجية)، وعن طريقها، أو ما يحل محلها: يتم الوعي بوضع الأُمَّة على حقيقته، وما يحيط بها من قوى معادية، ومن جهة أُخرى إدراك التحولات في مسار الدراسات الاستشراقية، وتقديرها بقدرها، من حيث سلبياتها وإيجابياتها، والموازنة بين ذلك، لتكون الأُمَّة على بينة من أمرها, ولتعد للأمر عدَّته، وما يستلزم من وسائل وأساليب، وبخاصة ما يتصل بالاستشراق بصفته حركة تعتمد على البحوث العلميَّة والأعمال الموسوعيَّة، والدوريات ونحو ذلك من الأعمال (الأكاديميَّة) والتعليميَّة، وما يتصل بها من عقد المؤتمرات الدوليَّة، التي زادت على ثلاثين مؤتمرًا دوليًّا، أمَّا المؤتمرات الإقليميَّة: فإنَّه يصعب حصرها، وذلك كله يتصل بفكر الأُمَّة الإسلاميَّة وثقافتها وتاريخها وحضارتها، وواقعها ومستقبلها، ويعدُّ -في حقيقة الأمر- من خصوصياتها، وبطانة أمرها، والتصدي لهذا الواقع، ومواجهة هذا التحدي لا يتأتى على الوجه المطلوب إلَّا على مستوى الأُمَّة، من حيث الاهتمام والتخطيط والإعداد والتنسيق والشمول والتكامل والتنفيذ. وختامًا فإنَّه ينبغي الإشادة بما أنجز من أعمال نقديَّة لإنتاج المستشرقين مع ما تنطوي عليه من تكرار، وعدم تنسيق، وأوجه قصور أخرى متنوعة؛ منها: أنَّها لم ترق بعد لتكون في مستوى الإنتاج الاستشراقي لا من حيث الكم أو الكيف، ولكنَّها خطوات راشدة -بمشيئة اللَّه وعونه وتوفيقه- تشق طريقها لدفع عادية الاستشراق والمستشرقين بالوسائل والأساليب العلميَّة المستخدمة في المناهج البحثيَّة المقررة.

كما ينبغي الإشادة بما تمَّ إنجازه على مستوى الأُمَّة من أعمال تعالج ما أحدثه الاستشراق بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وبخاصة العمل على إنجاز تراجم لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات العالميَّة، وفي مقدمتها اللغة الإِنجليزيَّة والفرنسية، لما لها من أهميَّة في مزاحمة تلك التراجم التي أنجزها المستشرقون وظلت على مدى قرون عدّة، منتشرة لدى الغرب بما فيها من باطل وتزوير وافتراء يرمي إلى صرف غير المسلمين بعامة والأوربيين بخاصة عن قبول الإسلام، أو أي شيء فيه ليبقى هؤلاء على كراهيتهم له، وحقدهم عليه. وإنَّ ما قامت به الرئاسة العامَّة لإدارات البحوث العلميَّة والإفتاء بالتنسيق مع الأمانة العامَّة لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة؛ من إعداد تراجم لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات العالَميَّة الحيَّة بدءًا بالإِنجليزية والفرنسية، ليُعَدُّ عملًا رائدًا من شأنه أن يدفع أثر الاستشراق، ويصد عاديته عن الأُمَّة الإسلاميَّة، وعلى دستور حياتها الذي جاء رحمة للعالمين. ومِمَّا يجدر ذكره في هذا السياق تلك العناية الفائقة بالترجمة -المشار إليها- بدءًا بتشكيل لجان متخصصة لتدارس الترجمات السابقة، واختيار أدق التعابير، وأنسبها للتعبير عن القرآن الكريم، وألطف المعاني في اللغات المترجم إليها، بأيدٍ أمينة، وقلوب مؤمنة محبة للَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وكتابه ولأُمَّة الإسلام، وتعمل بعقول واعية مدركة. وتوجد أعمال أخرى تقوم بها بعض الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الإعلاميَّة والصحفيَّة في العالم الإسلامي تتناول الاستشراق والمستشرقين بالدراسة والنقد، ولكنها دون المستوى المطلوب وبخاصَّة إذا قورنت بما قام به المستشرقون، وما أنجزته الحركة الاستشراقية خلال قرون عدّة، ويكفي للمثال على ذلك المؤتمرات الدوليَّة الاستشراقيَّة التي

زادت على الثلاثين مؤتمرًا دوليًّا، واتسمت بالتنسيق والتعاون والتكامل فيما بين المستشرقين من ناحية، والأطروحات من ناحية أخرى، وما اتخذته الأُمَّة الإسلاميَّة إزاء ذلك. ولا شك أنَّ البون شاسع جدًّا، ولكن ما يعول عليه أن تحقق الأُمَّة الإسلاميَّة في ذاتها الشروط التي تقدم ذكرها، وعند ذلك سيكون الاستشراق ذاته والمستشرقون -المعادون للإسلام- أنفسهم في أزمة، ويتحقق فيه وفيهم قول اللَّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 36 - 38]. والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات، سبحان ربك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للَّه رب العالمين. * * *

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع - الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، مقداد يالجن، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973 م. - الاستشراق دراسات تحليلية تقويمية، محمد عبد اللَّه الشرقاوي، دار الفكر العربي، دون تاريخ. - الاستشراق رسالة استعمار، محمد إبراهيم الفيومي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1993 م. - الاستشراق في الأدبيات العربيَّة، علي النملة، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة، الرياض، ط 1، 1993 م. - الاستشراق في التاريخ الإسلامي، علي حسني الخربوطلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988 م. - الاسشراق والخلفية الفكرية، محمود حمدي زقزوق، سلسلة كتاب الأمة، ط 1، 1404 هـ. - الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1985 م. - استقلال الفقه الإسلامي عن القانون الروماني، الدسوقي عيد، مكتبة التوعية الإسلاميَّة، مصر، ط 1، 1989 م. - الإسلام الحديث - البحث عن الهوية الثقافية، غوستاف فون جرونبام، منشورات جامعة كاليفورنيا، 1962 م. - الإسلام في تصورات الغرب، محمود زقزوق، دار التوفيق النموذجية، مصر، ط 1، 1987 م. - الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 5، 1982 م.

- الإسلام وحاجة الإنسانية إليه، محمد يوسف موسى، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 4، 1980 م. - الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، عثمان ضميرية، دار الفاروق، الطائف، ط 1، 1990 م. - الإسلاميَّة والتنمية الاجتماعية، محسن عبد الحميد، دار المنار، جدة، ط 1، 1989 م. - الإعلام الإسلامي وخطر التدفق الإعلامي الدولي، مرعي مدكور، دار الصحوة، القاهرة، 1988 م. - أضواء على الاستشراق، محمد عبد الفتاح عليان، دار البحوث العلمية، الكويت، ط 1، 1980 م. - أضواء على الاستشراق والمستشرقين، محمد أحمد دياب، دار المنار، القاهرة، ط 1، 1989 م. - التبشير والاستعمار، مصطفى الخالدي وعمر فروخ، المكتبة العصرية، بيروت، ط 3، 1986 م. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: محمد زهري النجار، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، 1410 هـ. - دستور الأخلاق في القرآن، محمد عبد اللَّه دراز، تعريب وتحقيق وتعليق: عبد الصبور شاهين، دار البحوث العلمية، الكويت، ط 1، 1973 م. - الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابات المستشرقين، نذير حمدان، دار المنار، جدة، ط 1، 1986 م. - السنن الحديثية (البخاري، مسلم،. . .). - صور استشراقية، عبد الجليل شلبي، دار الشروق، القاهرة، ط 2، 1986 م. - الصورة النمطية للإسلام والعرب في مرآة الإعلام الغربي، عبد القادر طاش، شركة الدائرة للإعلام، الرياض، ط 1، 1989 م. - الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلاميَّة، ساسي سالم الحاج، مركز دراسات العالم الإسلامي، ط 1، 1991 م.

- العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1981 م. - فضل الإسلام على الحضارة الغربية، مونتغومري واط، ترجمة: حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، مصر، ط 1، 1983 م. - الفكر الإسلامي - منابعه وآثاره، محمد شريف، ترجمة: د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصربة، القاهرة، ط 2، 1966 م. - فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، أحمد سمايلوفتش، دار المعارف، مصر، 1980 م. - القرآن والمستشرقون، التهامي نقرة، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 1985 م. - المستشرقون، نجيب عفيفي، دار المعارف، القاهرة، 1980 م. - المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، محمد صالح البنداق، دار الآفاق، بيروت، 1983 م. - المستشرقون والدراسات القرآنية، محمد حسين الصغير, المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، ط 2، 1986 م. - المستشرقون الناطقون بالإنجليزية - دراسة نقدية، عبد اللطيف الطيباوي، ترجمة: قاسم السامرائي، جامعة الإمام، الرياض، 1991 م. - المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية، إسماعيل عمايرة، دار حنين، عمان، ط 2، 1992 م. - المعاجم اللغوية (لسان العرب، القاموس المحيط. . .). - مقاصد الشريعة الإسلاميَّة، محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية، ط 1، 1978 م. - منهج الدعوة الإسلاميَّة في البناء الاجتماعي، محمد الأنصاري، مكتبة الأنصار، الرياض، ط 1، 1984 م. - نظام الإسلام (العقيدة والعبادة)، محمد المبارك، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1981 م. - وغير ذلك. * * *

نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف الوقف علامة فارقة في مسيرة الحضارة الإسلامية وقد أثبت دوره ومكانته في مجالات التعليم والصحة والعمل الثقافي والاجتماعي بمختلف أشكاله وما زالت المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات تقف شاهدة على عظمة وأهمية الوقف عبر تاريخنا المجيد. وفي هذا السياق من العطاء والتواصل الإنساني تهدف الإدارة العامة للأوقاف التي أعلن عن إنشاءها بالقرار الأميري رقم 41 لسنة 2006 م إلى إدارة الأموال الوقفية واستثمارها على أسس اقتصادية، وفق ضوابط شرعية بما يكفل نماءها وتحقيق شروط الواقفين وتعد الأوقاف إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني سواء من ناحية النشأة والقدم أو الاختصاصات المناطة بها. وانطلاقًا من النهضة الوقفية المعاصرة تم توسيع نطاق الوقف وتنويع مصارفه من خلال إنشاء المصارف الوقفية الستة المشتملة على مختلف نواحي الحياة الثقافية والتربوية والصحية والاجتماعية. . . . إلخ، وذلك تشجيعًا لأهل الخير وإرشادًا لهم لوقف أموالهم على المشاريع الخيرية التنموية وتنظيمًا لقنوات الصرف والإنفاق المساهمة في بناء المجتمع الإسلامي الحضاري. • وأما المصارف الستة فهي: 1 - المصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة. 2 - المصرف الوقفي لرعاية المساجد.

3 - المصرف الوقفي لرعاية الأسرة والطفولة. 4 - المصرف الوقفي للبر والتقوى. 5 - المصرف الوقفي للرعاية الصحية. 6 - المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية. وانطلاقًا من الإيمان العميق بدور العلم الشرعي والثقافة الإسلامية بشكل خاص، والعلوم التطبيقية بشكل عام في تقدم الأمة وتطورها، جاء إنشاء "المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية" ليكون رافدًا غنيًا للعطاء الثقافي والعلمي ضمن نطاق اختصاصاته. وأبرز مثال في إطار أعمال وإنجازات هذا المصرف رحلات العمرة للمتميزين إلى جانب إقامة العديد من الدورات العلمية. ولا ننسى الإشارة إلى الدور المهم الذي نهض به الوقف تاريخيًا في تنشيط الحركة العلمية والثقافية، وذلك بإقامة المدارس، والمكتبات والمعاهد وغيرها، ليصنع بذلك حضارة أفادت منها الإنسانية جمعاء. • من أهدافه: - تشجيع ودعم إقامة الأنشطة والفعاليات العلمية والثقافية. - الحث على الاهتمام بالتعليم، وبيان دوره في رقي الإنسان ونمو المجتمعات. - نشر العلم الشرعي والثقافة الإسلامية على أوسع نطاق والارتقاء بمستوى العاملين في هذا المجال. • من وسائله: - دعم إقامة المؤتمرات والندوات وحلقات الحوار والمهرجانات والمعارض والمراكز الثقافية الدائمة والموسمية. - دعم وإنشاء المكتبات العامة. - دعم تنظيم الدورات التدريبية التأهيلية لتنمية المهارات والقدرات في مختلف المجالات العلمية والثقافية.

§1/1