دراسات في الفن الصحفي

إبراهيم إمام

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: ظهرت في السنوات الأخيرة كتب عديدة تناولت بالبحث تاريخ الصحافة، وتطور الصحف، وعلاقة هذا التطور بالظروف السياسية والاجتماعية. ولكن عددا قليلا من هذه الكتب هو الذي اهتم بالصحافة كفن. وقد رأيت أن أجعل "الفن الصحفي" موضوعا لدراسة عميقة تبدأ بتعريف هذا الفن، وعرض خصائصه ومميزاته، ثم بيان قوالبه المختلفة، وأنماطه المتعددة من خبر إلى تقرير إلى مقال إلى عمود إلى تحقيق صحفي إلى حديث. غير أن الفن الصحفي لا يقتصر على التحرير وحده، وإنما تلعب الصور والرسوم البيانية والكاريكاتورية والعناوين المنتشرة على عرض الصفحات، والعناوين الفرعية، فضلا عن الألوان وفنون الإعلان دورا هاما في إبراز الأفكار وتجسيدها، وتحويل المعلومات المجردة إلى معلومات ملموسة مجسدة. فإذا كانت النشرات العلمية، مثلا، تعنى بالجوانب الأكاديمية والنواحي النظرية من البحوث والدراسات، مما يخص العلماء والخبراء، فإن الفن الصحفي هو الذي يستطيع -بالتبسيط والتفسير والتجسيد والتشويق وجذب الانتباه- أن يعرض النظريات العلمية والدراسات الأكاديمية بأسلوب جديد شيق، يفهمه عامة الناس. فجوهر الفن الصحفي هو الإعلام ورواية الأحداث وتفسيرها، ثم توجيه الجماهير وإرشادها، فضلا عن امتاعها وتسليتها، وذلك باستخدام الأشكال والفنون الطباعية المختلفة. ولكن بيت القصيد في كل فن صحفي يكمن في ارتباطه

بالجمهور. ولذلك كانت أهم خصائص الفن الصحفي معالجة الأمور الصعبة بأسلوب سهل، وتفسير الانجازات العظيمة بعبارات سلسة بسيطة. ولكن، كيف يفعل الصحفي ذلك؟ هذا هو موضوع الكتاب الذي بين يديك. وفيه نحاول تقديم الفن الصحفي كوسيلة إعلامية من خلال الكلمة والصورة والعنوان والرسم، وعلاقة الشكل بالمضمون، مع بيان كيفية التجسيد والتبسيط التي يقوم بها الصحفي، والوسائل التي تساعده على ذلك. ولا بد في البداية من شرح أهداف الفن الصحفي وعلاقته بالمجتمع لمعرفة الوظائف والأغراض التي ينهض لتحقيقها، ثم نتناول بعد ذلك فنون التحرير المختلفة كإعداد للمضمون، ثم فنون الإخراج المختلفة كإعداد للشكل الذي لا يمكن فصله عن المضمون. إن الفن الصحفي في حقيقة الأمر هو الفن الإعلامي الكلاسيكي الذي تعلمت منه سائر الفنون الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتليفزيون والسينما. فما أنجزه الفن الصحفي عبر القرون الطويلة منذ اخترع جوتنبرج المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر حتى الآن من استخدام للحروف والخطوط والرسوم والأشكال والصور لعرض الفكر الإنساني وتبسيطه للجماهير، كان الصيغة الأساسية التي بنت عليها الإذاعة فنها المرتبط بالموسيقى والكلمة المسموعة والمؤثرات الصوتية، وكذلك التليفزيون بالصورة المرئية المتحركة المقترنة بالصوت والموسيقى، كما فعلت السينما نفس الشيء على شاشتها الكبيرة. فالفن الصحفي -إذن- هو فن الإعلام الكلاسيكي، الذي اشتقت منه سائر فنون الإعلام الأخرى أشكالها وفنونها وأساليبها طرائقها. فالنشرات الإخبارية، والتعليقات، والندوات، والتحقيقات والصور والإعلانات والجوانب القصصية والدرامية، تشترك جميعا في الفنون الإعلامية المختلفة، ولكنها ترتكز أساسا على خبرة الفن الصحفي الطويلة والمتنوعة.

فالذي يميز الفن الصحفي عن سائر الفنون هو ارتباطه الوثيق بالجماهير فضلا عن عموميته، ودوريته، وعلى هذا الأساس يسعى الفنان الصحفي إلى تحويل الفكر الأكاديمي المجرد إلى عرض فني منسق يستسيغه الجمهور دون أن يهبط إلى مستوى الإسفاف والمبالغة، وهذه هي المعادلة الصعبة أو التحدي العظيم الذي يواجه الفن الصحفي الحديث. وإني إذ أقدم هذه الدراسة للقارئ العربي أرجو أن يجد فيها معالجة جديدة للفن الصحفي. والله الموفق. يناير سنة 1972. دكتور إبراهيم إمام

الباب الأول: ماهية الفن الصحفي

الباب الأول: ماهية الفن الصحفي مدخل ... الباب الأول: ماهية الفن الصحفي الفن الصحفي فن حضاري بالضرورة. إذا كان الشعر، مثلا، يزكو ويزدهر في البيئة البدوية، حيث تسود الحضارة الشفوية، فإن الفن الصحفي، على العكس من ذلك، فن يتصل بأسباب التحضر، وينتشر أكثر ما ينتشر في المدن. فالبيئة القروية أو القبلية المحدودة تكتسب فيها المعرفة بالتجربة المباشرة والشخصية؛ لأنه إذا كان جميع أفراد مجتمع من المجتمعات معدين ليفهموا بالتجربة المباشرة ما يجري من أحداث فإن الطرق العادية للاتصال الشخصي تكفي لنشر الأخبار في هذا المجتمع، ولا يحتاج الأمر لأي وسيلة من وسائل الإعلام الحديثة. ولكن المجتمع الذي يزداد نموه، وتتنوع تخصصاته، وتتعقد مشكلاته، لا يلبث أن يجد وسيلة الفن الصحفي ضرورة حتمية، تبعد كل البعد عن الخبرة الفردية المباشرة. ثم لا يلبث هذا المجتمع المتحضر أن تظهر فيه علوم وفنون وتخصصات بالغة التجريد والتعقيد، فيصبح الفن الصحفي حلا لصياغة المعرفة بطريقة عملية واقعية. وهكذا يكون الصحفي وسيطا اجتماعيا بين الخبير المتخصص من ناحية ورجل الشارع أو الرجل العادي من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد يقول الكاتب الأمريكي المشهور والتر لبمان1: "إن المجتمع الحديث لا يقع في مجال الرؤية المباشرة لأحد، كما أنه غير مفهوم على الدوام، وإذا فهمه فريق من الناس، فإن فريقا آخر لا يفهمه". وهكذا يأتي الفن الصحفي للشرح والتفسير والتكامل.

_ 1 walter lippmann, public opinion "1992" pp. 29-81.

فالفن الصحفي، إذن، هو فن حضاري، يرتبط بالتقدم العلمي، ويتطلب انتشار التعليم، لكي يجعل المجالات البعيدة والمعقدة في متناول الجمهور. والصحفي الناجح في المجتمع الحديث هو الذي يتقن مهارة الاتصال من خلال نشر الأخبار والتعليق عليها وتفسيرها، وتبسيط المعلومات وتجسيدها، وتقديم صور العالم وأحداثه بشكل واضح ومجسد ودرامي، وفي أشكال خالية من التجريد أو الأكاديمية أو التعقيد. ولا شك أن التقدم العلمي والتكنولوجي، ومد خطوط المواصلات كالسكك الحديدية، وتمهيد الطرق، وإنشاء خطوط الاتصال التليفونية والتلغرافية واللاسلكية تؤدي بالضرورة إلى تهيئة الجو الملائم لازدهار الصحافة، ويعتبر انتشار التعليم من أهم العوامل المشجعة للفن الصحفيِ، وبدونه لا يمكن للصحافة أن تقوم لها قائمة.

بين الصحافة والتحضر

بين الصحافة والتحضر: وقد قام كثير من العلماء بدراسة العلاقة بين التحضر والفن الصحفي، وتحليل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والحضارية المؤثرة على الصحافة، نذكر منهم على سبيل المثال ريموند نيكسون1، وللبر شرام2، ولازر سفيلد3، غير أن أشهر هؤلاء جميعا دانيل ليرنر4، الذي بدأ دراسة ميدانية في العامين 1950 و1951 بستة دول من منطقة الشرق الأوسط هي: مصر وتركيا وسوريا ولبنان والأردن وإيران. وقد تضمنت هذه الدراسة أجراء مقابلات مع نحو 1600 شخص، لمعرفة أثر تعرض الأفراد للفن الصحفي، وما يترتب عليه من تكوين اتجاهات نفسية معينة. ويرى ليرنر أن التحضر اتجاه عقلي لا يتحقق إلا في المجتمعات المتطورة. ويقول أن هناك علاقة وثيقة بين التحضر والتعليم والصحافة، فالانتقال إلى المدن

_ 1 RAYMOND B. NIXON. 2 WIBUR SCHRAMM. 3 LAZERSFELD. 4 DANIEL LERNER.

يزيد من نسبة المتعلمين، وهذه الأخيرة تعني نسبة عالية ممن يقرءون الصحف، كما أن قراءة الصحف تؤدي إلى فهم أفضل للمجتمع، ومشاركة فعالة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فالانتقال إلى المجتمع الحضري يأتي في المرحلة الأولى، وفي نطاق المدن تنشأ المدارس والمعاهد، وتمحى الأمية، فيتهيأ الجو لظهور الصحافة، ثم لا يلبث الفن الصحفي نفسه، بما له من قدرة على التبسيط والشرح والتجسيد، أن يضع في متناول الجماهير مفاهيم المجتمع الحديث. فهنا يتعاون المندوب مع المحرر مع المراجع والخطاط والرسام والمصور والمخرج الصحفي لتحويل المعرفة المجردة إلى معلومات مجسدة، والنظريات الأكاديمية إلى معلومات حية، والأفكار العامة إلى موضوعات شيقة جذابة. ويقول ليرنر أنه حينما تصل نسبة الذين يعيشون في المدن إلى 10% تزداد نسبة المتعلمين بشكل محسوس لأن تطور التعليم بعد ارتفاع نسبة المقيمين في المدن 10% يصبح اقتصاديا. وحين تصل نسبة التعليم إلى 25% تصبح أداة الاتصال في المجتمع هي الصحافة التي تؤثر بدورها على المجتمع وعلى الشخصية الإنسانية التي تتميز بالمرونة والقدرة على التصور أو التقمص الوجداني، وهذه القدرة من أهم مميزات المجتمع المتحضر -في نظر ليرنر. فالمجتمع التقليدي البدائي يتسم بالجمود والانعزال والتمزق. جماعاته صغيرة، وقراه منعزلة، أجزاؤه متباعدة، أفراده بسطاء، وإدراكهم محدود. فهم لا يصلون إلى المعرفة إلا عن طريق التجربة المباشرة الملموسة. ولا يتصورون الانتماء إلى أمة كبيرة، وإنما يحسون بالانتماء إلى الأسرة أو القبيلة أو القرية. والصحافة كقوة حضارية، تخلق هذه الشخصية الجديدة المرنة، القادرة على التخيل والتحرك الوجداني، ولا تلبث هذه الشخصية أن تصبح دليلا على التطور والتقدم. ولا شك أن الفن الصحفي هو فن بصري بالدرجة الأولى؛ لأنه فن قائم على قراءة الكلمة المطبوعة ومشاهدة العناوين والصور والألوان

والإعلانات، ولا يمكن للأميين أن يشاركوا في حضارة القن الصحفي، ولكن التحضر والتعليم يهيئان الفرصة لظهور الصحافة، التي تعمل على نشر المعلومات بين كافة الناس. وهناك معامل ارتباط إيجابي مرتفع بين التعليم وارتفاع توزيع الصحف اليومية كما يتضح من الجدول التالي: ففي حين لا تحتاج مشاهدة الفيلم السينمائي إلى نسبة عالية من المتعلمين، نجد أن الصحافة تحتاج إلى نسبة عالية من المتعلمين، كما أن هناك معامل ارتباط إيجابي مرتفع بين التحضر والصحافة. والحقيقة أن الصحافة تعمل كقوة دافعة لزيادة التمثيل الشعبي والمشاركة السياسية، والمساهمة الاقتصادية، والوحدة الفكرية، والإحساس بالانتماء إلى الأمة، وخلق الرأي العام، على أنه ينبغي أن نؤكد العلاقة المتبادلة بين الصحافة والتحضر فكلاهما مؤثر في الآخر ومتأثر به.

ماهية الفن الصحفي

ماهية الفن الصحفي: ونحن نذهب إلى أن هناك فرقا بين الصحافة والفن الصحفي. فالصحافة هي النشر عن طريق الوسائل المطبوعة دوريا بصرف النظر عن استخدام الفن الصحفي، فهناك صحف لا يتوفر فيها الفن الصحفي، في حين أننا قد نجد كتبا تتوفر فيها أصول الفن الصحفي، وخاصة تلك الكتب الدورية التي تصدرها دور النشر لتبسيط العلوم الحديثة، أو لتقديم الفنون والمدارس الفلسفية المعاصرة. بل إن الفن الصحفي نفسه قد أثر على بعض الدارسين والباحثين الذين أخذوا في السنوات الأخيرة يقدمون ثمرات أفكارهم بطرق حديثة، تتميز بالطابع الذي يتميز به الفن الصحفي من معالجة تفسيرية واضحة تعززها الصور والرسوم الإيضاحية، فضلا عن التجسيد الفني والمسرحة والتكرار، واختيار الكلمات ذات الشحنة التأثيرية، فضلا عن الحيل البلاغية الجديدة التي تنم عن الواقعية والحيوية والمشاركة. إن بحثا أكاديميا أو علميا جادا، بمصطلاحات العلم المجردة، أساليب التعبير الأكاديمية، وطرق الاستدلال المنطقية، لا يعتبر من الفن الصحفي في شيء، حتى لو نشر في صحيفة سيارة ذات توزيع مرتفع، ولكن عندما يأتي الفنان الصحفي، ويأخذ هذا البحث الأكاديمي المجرد، ليعالجه علاجا جديدا بالتبسيط والتجسيد والتصوير، والتشبيه الواقعي الحي، مستعينا بفنون الإخراج الصحفي من عناوين وصور ورسوم وكاريكاتور، وأهم من ذلك كله لغة واقعية خالية من التعقيدات المجردة، فيصح القول بأن هذه هي بداية الفن الصحفي. وهكذا يمكن اعتبار الفن الصحفي رؤية جديدة للعالم، تنطبق مع رؤية الشخص العادي. بمعنى أن الفنان الصحفي يترجم المصطلحات الجامدة المجردة المعقدة إلى مصطلحات الواقع العملي النابض بالحياة. وهنا نجد أن الفن الصحفي فن ابتكاري بكل معنى الكلمة. فالسؤال الذي يطرحه الفنان الصحفي دائما هو: كيف يمكن أن تصل هذه المعلومات إلى الجمهور بطريقة مفهومة مستساغة؟ ولقد عولجت الكثير من المدارس الفنية والفلسفية والعلمية الحديثة رغم صعوبتها -كالمنطق الوضعي والوجودية والنسبية والتكعيبية- بمصطلحات الفن الصحفي، فأمكن نشرها بين الجماهير. ومع ذلك، فإن الفن الصحفي كثيرا ما يهدد الأفكار الجادة بالمبالغة والتشويه، عندما يغالي الفنان الصحفي في أسلوبه وطريقته. فإذا أقحمت المسرحة أو الدراما على النص دون مبرر، أو إذا أمعن الفنان الصحفي في الإثارة والتسلية والمفاجأة، فإنه قد ينزلق من الإيضاح إلى التشويه، ومن التفسير إلى ارتجال مضمون مختلف، ولذلك فإننا قلما نجد الخبراء والعلماء راضين عن المعالجة الصحفية، مهما كانت فذة، وذلك رغم الجهود المضنية التي

يبذلها الفن الصحفي من أجل إزاحة التراب عن التراث القديم وتقديمه بأسلوب شيق بديع، أو إزالة التعقيد عن الدراسات الجادة الحديثة، وتبسيطها للجماهير بمصطلحات عادية مفهومة، إن الفن الصحفي، في يد المبتدئ، قد يؤدي إلى ضياع الفكرة الأصلية، بحجة أن الكاتب يحاول تقديم فكرة أحدث، أو إجراء تحسينات أفضل. ولكن الفن الصحفي الناضج هو الذي يبسط دون تشويه، ويجسد دون مبالغة، ويصور دون مغالاة، ويحدث الجماهير دون إسفاف. والاتجاه الحديث في الفن الصحفي يتمثل مثلا في صحف الشرح وتفسير الأخبار وخاصة المجلات الأسبوعية على غرار تايم1، ونيوزويك2، ودير شبيجل3، وكذلك المجلات المصورة مثل لايف4، ولوك5، وباري ماتش، كما يتضح الفن الصحفي في المجلات الثقافية على غرار ريدرز دايجست6 الشهرية. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أن هناك صناعة نشر جديدة في جميع أنحاء العالم المتحضر تقوم على أساس الفن الصحفي في تبسيط العلوم والفنون والآداب. وقد بلغ الاهتمام باستخدام الفن الصحفي في نشر التراث القديم، والكتب الجديدة حدا بالغ الأهمية، حتى إن العالم الأمريكي ستيفنسون7 يفسر الفن الصحفي على أنه نوع من الامتاع أو اللهو الذي يشعر فيه القارئ بالاستغراق. وقد بنى ستيفنسون نظريته على أساس بحوث العالم الهولندي هوزنجا8 مؤكدا أن الأحداث السياسية تقدم بطريقة قصصية أو مسرحية، وكذلك أخبار الجريمة، وأنباء الفضاء، والحرب والسلام.

_ 1 TIME. 2 NEWSWEEK. 3 DER SPIEGEL. 4 LIFE. 5 LOOK. 6 READER.htm'S DIGEST. 7 STEPHENSON. 8 HAIZINGA.

مراحل التطور الصحفي

مراحل التطور الصحفي: وقد وجدنا من مجمل دراساتنا للصحافة العالمية أن الفن الصحفي بالمعنى الذي نذكره لم يبدأ مع ظهور الصحافة، ولكن الفن الصحفي قد أخذ في الظهور حوالي منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الظروف المواتية لذلك. فقد لاحظنا أن للتطور الصحفي إيقاعا محددا في تطوره عبر التاريخ. فالصحافة تبدأ رسمية تتحدث باسم السلطات الحاكمة، ثم لا تلبث أن تتطور مع ظهور الطبقة البرجوازية لخدمة الأغراض المالية والاقتصادية والرأسمالية مباشرة. ولكنها لا تلبث أن تقع في أيدي الأحزاب السياسية المتطاحنة فتصبح لسان حالها وعالة عليها. وفي جميع هذه المراحل، يتطور الفن الصحفي حتى يصل إلى مرحلة النضج والاستواء. فعندما تستقل الصحافة كمشروعات إعلامية، بعيدا عن سلطة الحكومة المباشرة، وبعيدا عن سيطرة الأحزاب، يبدأ اعتماد أصحاب المشروعات على الفن الصحفي للترويج والإمتاع وجذب الأنظار والتشويق والإعلام والتفسير، بل والتسويق عن طريق الإعلانات، التي تشكل نسبة عالية من الإيرادات، وقد تصل إلى 70% أو أكثر، كما تعتمد على التوزيع الجماهيري الضخم الذي يستجلب الإعلانات. وهنا تبدأ سعة الانتشار والجماهيرية والعمومية في خلق الجو المناسب للفن الصحفي الجديد، في بيئة حضرية، بل قد تكون بيئة صناعية، تتوفر فيها أسباب التقدم العلمي والتفوق التكنولوجي اللازمين لازدهار الصحافة الحديثة. ثم يظهر خطر الانزلاق إلى الصحافة الصفراء، صحافة نشر أخبار الجريمة والعنف والجنس والإثارة. وتقع الصحف فريسة للاحتكارات الكبرى، وتستغل استغلالا اقتصاديا، دون ما نظر لخطورة تأثيرها على وجدان الأمة ونفسية الجماهير. وربما يكون الحل أحيانا هو تأميم الصحافة كما حدث في بعض الدول الاشتراكية، أو تنظيمها كما حدث في مصر سنة 1960. ومع ذلك فإن سعة الانتشار والجماهيرية ومحاولة الوصول إلى فئات الشعب المتعددة، والتأثير في الرأي العام، ثم شعبية الثقافة وجماهيريتها، فضلا عن الإيمان بالقيم الديمقراطية -كل هذه عوامل بناءة لنشأة الفن الصحفي الحديث.

الفن الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية

الفن الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية ... الفن الصحفي في الولايات المتحددة الأمريكية: فقد بدأت الصحافة الأمريكية في الظهور يوم 25 سبتمبر سنة 1690 بنشرة اسمها "الوقائع العامة الخارجية والمحلية" ولم يصدر منها سوى عدد واحد لأنها طبعت "دون أدنى علم أو موافقة من السلطات". وبعد أربعة عشر عاما، وفي 24 أبريل سنة 1704، أسس جون كامبل1 صحيفة بوسطن نيوزليتر2، التي كانت تستقي أخبارها من لندن. ثم صدرت عدة صحف في القرنين الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكانت الأخبار تخضع لفكرة تغيرت -منذ ذلك الحين تغيرا جذريا- ألا وهي فكرة الظن بأن ليس للجريدة أن تكتب عن الأحداث الكبرى التي تقع في المدن لأن صغر هذه المدن يمكن كل إنسان من مشاهدة تلك الأحداث ومعاينتها شخصيا. وقد تعرضت الصحف لكبت الحكومات، وفرض الضرائب الباهظة عليها، مما حدا بها إلى الارتماء في أحضان الأحزاب السياسية لحمايتها، وأخذت الصحف تؤيد الفئات السياسية، وتتجنى على الحقائق. ولم يكن توزيع الصحف مرتفعا، بل إن أكثر الصحف رواجا كان لا يزيد توزيعها عن الأربعة آلاف نسخة إلا بقليل. وفي بداية القرن التاسع عشر كان عدد الصحف الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية نحو 200 صحيفة، بل إنها بلغت 1403 صحيفة سنة 1840، ووصلت إلى 2800 صحيفة سنة 1850. وقد أدى الحلف الوثيق بين السياسة والصحافة إلى هبوط الصحف الحزبية إلى الدرك الأسفل في ميدان التهجم على الكرامات والتشهير والتحقير. وهكذا عرفت الصحافة في ذلك العصر باسم الصحافة السوداء. فلم يكن التحيز مقصورا على المقالات والتعليقات، بل تجاوز ذلك إلى أعمدة الأخبار نفسها، مما جعل الصحيفة مجرد نشرة حزبية خالية من الفن الصحفي تماما. ولم تكن الصحف في مستهل القرن التاسع عشر تباع إلا باشتراك سنوي، وكان ثمن الاشتراك في الجريدة يتراوح بين ثمانية دولارات وعشرة. وفي سنة 1830 حدث تطور جديد في سعر الجريدة، عندما أرادت "ديلي كورير" أن تخفض السعر إلى أربعة دولارات.

_ 1 JOHN CAMOBELL. 2 BOSTON NEWSLETTER.

إلا أن الثورة الحقيقية في سعر الصحيفة، ثم في جماهيريتها وسعة انتشارها، قد نشبت سنة 1833 عندما أصدر هوراس جريلي1 أول صحيفة زهيدة الثمن وهي مورننج بوست2، ومع أن التوزيع كان ضئيلا، فقد ظهرت صحافة البنس الواحد لأول مرة في تاريخ أمريكا، وأصبحت الصحيفة في متناول الجميع. وبازدياد التقدم الآلي، وظهور الطابعات الحديثة، ارتفع توزيع الصحف، وبلغ توزيع نيويورك هيرالد3 77 ألف نسخة يوميا. وبلغ توزيع "تربيون" 200 ألف نسخة، و"لدجر"4 400 ألف نسخة. وعندما تحول الاهتمام من المقال إلى الخبر خلال الحرب الأهلية وبعدها، وارتفعت أرقام التوزيع مرة أخرى، وخاصة عندما دخل "جوزيف بوليتزر" و"وليام راندولف هيرست" إلى ميدان الصحافة الشعبية، ظهور الصحافة الصفراء، وهي صحافة الإثارة الرخيصة. وما لبثت الصحافة أن سقطت في يد الاحتكارات الصحفية الضخمة، كما سقطت المشروعات الاقتصادية في أيدي الاحتكاريين، وهو الوضع الذي يتفاقم يوما بعد يوم في الصحافة الأمريكية الحديثة. غير أننا نلاحظ أن ارتفاع التوزيع الضخم، وزيادة الإعلانات زيادة وفيرة، ورقي الأساليب الفنية والتكنولوجية، قد أثر تأثيرا بالغا على الفن الصحفي الأمريكي وخاصة نتيجة للتفوق المذهل في فنون التصوير ونقل الصور سلكيا ولاسلكيا.

_ 1 HORACE GREELEY. 2 MORNING POST. 3 NEW YORK HERALD. 4 LEDGER. 5 LA GAZATTE. 6 THEOPHRAST RENAUDOT.

الفن الصحفي في فرنسا

الفن الصحفي في فرنسا: وفي فرنسا أيضا، بدأت الصحافة رسمية حكومية. وسواء كانت صحيفة الجازيت5 التي أصدرها رينودو6 في 30 مايو سنة 1631 هي الصحيفة الأولى في فرنسا، أو أن هناك صحيفة أخرى صدرت في نفس العام، فإن الصحافة قد صدرت رسمية في فرنسا، وظلت خلال القرن السابع عشر خاضعة لرقابة شديدة من الحكومة والملك بما في ذلك صحيفة جورنال دي سافان1 العلمية الأدبية، وميركور2 الأدبية الاجتماعية. وجدير بالذكر أن عدد الصحف التي تخصصت في الأدب كان كثيرا. كما أن طريقة التشويق في القصص، والنشر على هيئة مسلسلات في الأعداد المتتالية، كانت من الأفكار الجديدة، ولكن الظروف لم تكن قد تهيأت بعد لظهور الفن الصحفي الحديث، وخاصة بعد سقوط الصحف في أيدي الأحزاب المتطاحنة. فقد كانت الصحف اليمينية واليسارية على السواء تصطنع الهجوم الشديد، كما أخذت بعض الصحف تمجد في أعمال العنف والإرهاب وخاصة خلال عامي 1790 و1791. غير أن اتجاهات الأدباء والفلاسفة في الكتابة الفلسفية المجردة، وكذلك المشاحنات الدينية والسياسية، لم توفر الجو المطلوب للفن الصحفي الحديث. وهنا أيضا يبرز الفرق بين الصحافة والفن الصحفي. فالمجادلات النظرية، فالمجادلات النظرية والمشاحنات الدينية، والصراعات السياسية، والفلسفات المجردة، كانت أبعد ما تكون عن نفوس الفراء. ثم اقترن تطور الصحافة بظهور أول جريدة زهيدة الثمن كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما أصدر إميل دي جيراردان3 أول صحيفة من هذا النوع اسمها لابرس4 وذلك في أول يوليو سنة 1836، كما صدرت في نفس اليوم صحيفة لوسيكل5 زهيدة الثمن أيضا. والحقيقة أنه في سنة 1836 كانت في مدينة باريس نحو عشرين جريدة تطبع كل منها 70.000

_ 1 journal des savants. 2 MERCURE. 3 emile de gerardin. 4 LA PRESSE. 5 LE SIECLE.

نسخة، وبعد عشر سنوات بلغ عددها ستا وعشرين صحيفة وبلغ عدد مشتركيها 180.000 مشتركا. وكما سقطت الصحافة الأمريكية في وهدة العنف والجنس والإثارة، فيما يسمى بالصحافة الصفراء، سقطت الصحافة الفرنسية أيضا إلى نفس الدرك بصدور صحيفة "لو بيتي جورنال"1 في أول فبراير سنة 1863، وقد كان صاحبها ميللو2 يبيعها بخمس سنتيمات فقط ولكنها كانت مليئة بالأخبار التافهة، وخاصة أخبار الجريمة والحوادث الدامية. والغريب أن حكام فرنسا كانوا يرحبون بهذه الاتجاه، على أنه خير طريقة لتحويل أنظار الناس عن الأمور السياسية والاقتصادية. والحقيقة أن عصر ازدهار الفن الصحفي في فرنسا يقع في عهد الجمهورية الثالثة وهي التي استمرت حوالي 44 عاما من بعد حرب سنة 1870 إلى بداية الحرب العالمية الأولى. وقد ساعد على ميلاد الفن الصحفي وازدهاره ظاهرة التحضر التي سبق الإشارة إليها، ونعني بها التقدم الصناعي الذي جذب عددا هائلا من سكان الريف إلى المدن، وتحسن طرق النقل والمواصلات نتيجة لتقدم الصناعة واختراع التلغراف والتليفون، وتطور صناعة مواد الطباعة من حروف وكليشهات، واختراع آلة الطباعة البخارية بفضل كونيج الإنجليزي، وبدء استخدام الليونوتيب والروتاتيف أي الطباعة الدوارة. وذلك فضلا عن زيادة عدد القراء نتيجة لظهور الصحيفة زهيدة الثمن، وانتشار الإعلانات وزيادتها. غير أن التعليم كان قوة دافعة للفن الصحفي، فانتشار التعليم الابتدائي في تلك الحقبة قد ضاعف عدد قراء الصحف، كما تضاعف عدد الناخبين وزاد اهتمامهم بأداء الواجبات المدنية والوطنية ومتابعة الأخبار الصحفية. يضاف إلى ذلك أن التوسع الاستعماري لفرنسا في تلك الفترة، قد ألهب حاسة الفضول عند الجماهير، وحمل الصحف المسئولية إشباع تلك الحاسة. وفي بداية القرن العشرين بلغ عدد الصحف الصادر في فرنسا نحو 6000 صحيفة. غير أن ظهور الاحتكارات الكبرى ما لبث أن خفض عدد هذه الصحف تخفيضا هائلا. فامتكلت وكالة هافاس خمس صحف، أما وكالة هاشيت فقد كانت قبل الحرب تقوم بتوزيع الصحف بصفة احتكارية، كما تقوم بذلك حتى الآن.

_ 1 LE PETIT JOURNAL. 2 MOISE MILLAUD.

الفن الصحفي في بريطانيا

الفن الصحفي في بريطانيا: وتعطينا الصحافة الإنجليزية نموذجا طيبا لدراسة ظهور الفن الصحفي وازدهاره عندما تتهيأ الظروف لذلك. وقد صدر أول كتاب أخباري منتظم الصدور في إنجلتزا سنة 1622، وكان يصدر رسميا باسم السلطات الحكومية. وما لبثت الصحف أن غرقت في تيار الثورة الطاحنة، والمنازعات الدامية بين الملكيين والبرلمانيين. أما أول صحيفة إنجليزية بالمعنى المفهوم من اللفظ الحديث من حيث الشكل وثبات الاسم وانتظام الصدور، فهي صحيفة أكسفورد جازيت1 التي صدرت سنة 1665 ثم تحول اسمها إلى لندن جازيت2 بعد عودة الملك والحاشية إلى العاصمة، ولا زالت هذه الصحيفة تصدر رسمية حتى يومنا هذا، وفي نفس حجمها الأصلي. وقد ساعد إلغاء قانون الترخيص سنة 1695 على ازدهار الصحف، فصدرت أول صحيفة يومية في 11 مارس سنة 1702 وهي "ديلي كرنت3" كما ظهرت صحف أقليمية عديدة. وقد كان للنهضة العلمية والتعليمية واتساع الإمبراطورية أثر كبير في تقدم الصحافة، وتقارب الأفكار، وتهيئة الجو لخلق رأي عام مستنير. وسرعان ما تدهورت الصحافة الحزبية بعد انشقاقها بين الهويج "الأحرار" والطورى "المحافظين"، وكانت المهاترات بين الجانبين تصل إلى حد الفحش والبذاءة في التعبير. ثم كان للضرائب الفادحة أثر بالغ أيضا في تخلف الصحافة. ومما لا شك فيه أن إلغاء ضريبة الصحف كانت نقطة التحول بين الصحافة القديمة.

_ 1 oxford gazette. 2 london gazette. 3 daily courant.

والصحافة الحديثة. ففي سنة 1855 ظهرت صحيفة "ديلي تلجراف" وثمن النسخة منها بنس ونصف فقط. ثم ظهرت صحف أخرى زهيدة الثمن مثل ديلي نيوز1 سنة 1868، ومورننج بوست2 سنة 1881، وديلي كرونكل سنة 1877. غير أن الثورة الحقيقية في الفن الصحفي الإنجليزي كانت على يد اللورد نورثكليف الذي أصدر صحيفة ديلي ميل3 سنة 1896 وثمنها نصف بنس، فكانت ثورة جديدة في التحرير والإخراج، ثم ما لبثت أن تبعتها صحف أخرى أهمها ديلي إكسبريس4 التي صدرت سنة 1900. وقد أتاح نمو التعليم وخاصة بعد سنة 1870 زيادة عدد القراء، فكان ظهور الصحافة الشعبية بعد ذلك ثمرة للتحضر، والازدهار الصناعي والعلمي، وانتقال السكان من الريف إلى الحضر، ولا شك أن تجانس سكان بريطانيا، وصغر مساحتها، وتقدمها الاقتصادي والصناعي، وارتفاع مستواها الحضاري، يجعل صحافتها في مقدمة صحف العالم. ولكنها عانت هي الأخرى من السقوط في تيار الصحافة الصفراء، وغرقت بعض الصحف -ولا تزال- في تيار الفضائح والعنف والجنس والجريمة. كما اتضحت ظاهرة الاحتكارات الصحفية الكبرى عقب الحرب العالمية الأولى، وبلغت ذروتها سنة 1930. غير أن قمة الاحتكار قد ظهرت عندما اشترى اللورد طومسوز -المليونير الكندي المشهور- صحيفة التيمس5 الإنجليزية، التي كانت دائما بمثابة مؤسسة حضارية كبرى، يزهو بها الإنجليز، ويضعونها في صف البرلمان والجامعة. ولكن من الطريف أن هذه الجريدة العتيدة، قد مسها تيار الفن الصحفي، وأخذت تجدد من نشاطها، وتتبع أساليب حديثة في الإخراج، كما أنها نأت عن التقليد الراسخ الذي كان يقضي بوضع الإعلانات في الصفحة الأولى، واتبعت أسلوبا جماهيريا جديدا، يجعل للخبر الصحفي مكانه الطبيعي اللائق به في الصفحة الأولى.

_ 1 DAILY NEWS. 2 MORNING POST. 3 DAILY MAIL. 4 DAILY EXPRESS. 5 THE TIMES.

الصحافة في العالم العربي

الصحافة في العالم العربي: وإذا انتقلنا إلى العالم العربي وجدنا نفس التطور الذي يبدأ بالصحافة الرسمية، ثم الحزبية، ثم الصحافة التي تحاول الاستقلال، كما تظهر الصحافة الصفراء في بعض البلاد العربية، وتبدو ظاهرة التكتلات الصحفية أيضا، ولكن بصورة مخففة وغير حادة وأقل كثيرا مما هي في البلاد الرأسمالية الغربية، كما تظهر إجراءات التنظيم الاشتراكي فيما بعد كمحاولة للقضاء على الفوضى والاستغلال والانحراف. فأول صحيفة مصرية باللغة العربية كانت صحيفة الوقائع المصرية التي صدرت سنة 1828 في القاهرة. وفي دمشق صدرت صحيفة "سورية" سنة 1865 وكانت رسمية مثل صحيفة "غدير الفرات" التي صدرت سنة 1867 في حلب. وكان أول صحيفة تصدر في بغداد سنة 1869 هي "الزوراء" الرسمية وكذلك صحيفة "الموصل" سنة 1885. وفي الحجاز كانت صحيفة "القبلة" الصادرة سنة 1924 صحيفة رسمية. وكذلك كانت صحف "الغازيتة" السودانية" الصادرة سنة 1899، و"الرائد التونسي" الصادرة سنة 1860، و"المغرب" الصادرة سنة 1899، كلها رسمية. والحقيقة أن الحملة الفرنسية على مصر هي التي أصدرت أول صحيفتين في العالم العربي باللغة الفرنسية وهما بريد مصر1 والعشرية المصرية2. وكانت الأولى للجيش الفرنسي وأفراده المنتشرين في جميع أنحاء البلاد. أما الثانية

_ 1 le courrier de l'egypte. 2 la decade egyptienne.

فكانت صحيفة علمية لدراسة شئون مصر الاجتماعية والاقتصادية وهي صحيفة المجمع العلمي. وقد حاول الجنرال مينو إصدار صحيفة عربية اسمها التنبيه وذلك سنة 1800 برئاسة الشيخ الخشاب، ولكن هذا المشروع لم يتحقق. وفي سنة 1813، أصدر محمد علي قراراته الإدارية بتقسيم البلاد إلى مديريات وأقسام، وأصدر بعد ذلك تقريرا دوريا اسمه "الجرنال" يحتوي على معلومات دقيقة عن حساب الأقاليم، وشئونها الإدارية. غير أن هذا "الجرنال" كان محدود التوزيع بمائة نسخة، فكانت الصحيفة المصرية الحقيقية الأولى هي صحيفة "الوقائع المصرية" التي صدرت في 3 سبتمبر سنة 1828، التي لا تزال تصدر رسمية حتى يومنا هذا. وفي عهد إبراهيم صدرت صحيفة رسمية أيضا "حيث استنسب عندنا في هذه الدفعة ترتيب جرنال يحتوي على الإعلانات الملكية والأخبار التجارية لأجل الحصول على الفوايد العمومية، واستصوب أن يرسل لكل من كافة البنادر والقرى صورته الآتي نظيرها أدناه ليحصل لكل أحد فايدة من الجرنال المذكور، وبما أن الحصول على ذلك كما يجب فهو منوط لإرسال الإفادات والكشوف والإعلانات المقتضى جلبها لديوان المدارس جمعة بجمعة ددون توقف1 ولذلك أطلق على هذه الصحيفة الجديدة اسم "الجرنال الجمعي". وفي عصر إسماعيل صدرت صحيفتان رسميتان إلى جانب "الوقائع المصرية". فما وافت سنة 1865 حتى صدرت "يعسوب الطب" التي أشرف عليها محمد علي باشا الحكيم وكانت أول مجلة طبية في الشرق، "والجريدة العسكرية". التي عنيت بالمعارف والثقافة العامة إلى جانب عنايتها بالشئون العسكرية. وحتى مجلة "روضة المدارس" التي أنشأها علي باشا مبارك سنة 1870 بعد إنشاء مدرسة الهندسة ومدرسة الحقوق وبعض المدارس الصناعية والتجارية والزراعية، كانت رسمية أيضا.

_ 1 الوقائع المصرية العدد 134.

ثم بدأت الصحافة الشعبية في الصدور سنة 1866، وهي نفس السنة التي شهدت مجلس شورى النواب الذي أنشأه إسماعيل، وكذلك جريدة وادي النيل التي أوعز بإصدارها أيضا لعبد الله أبي السعود. وعندما احتل الإنجليز مصر، أوعز المنوب السامي البريطاني إلى أصحاب المقتطف أن ينشئوا صحيفة يومية سياسية، تعبر عن المصالح البريطانية كما كانت الأهرام تعبر عن المصالح الفرنسية. فتقدم يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس إلى إدارة المطبوعات في 18 أبريل سنة 1888 يرجون الترخيص لهم بإنشاء جريدة المقطم. وفي نهاية القرن التاسع رأى الخديو عباس الثاني أنه من الضروري كسب تأييد الرأي العام المصري، والوقوف في وجه المعتمد البريطاني، والرد على مفتريات الصحف الإنجليزية والفرنسية، وصدور جريدة المؤيد في أول ديسمبر سنة 1889 لصاحبها الشيخ علي يوسف للتعبير عن مصالح المصريين عامة، وصالح الخديو خاصة، ولتكون المتحدثة بلسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية. وفي مستهل هذا القرن نجد أن الأحزاب القديمة والجمعيات السرية التي تكونت في القرن التاسع عشر، قد أصبحت أحزابا علنية قوية تامة التنظيم فتكون الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل سنة 1906، كما ظهر حزبان آخران هما حزب الأمة الذي كان يوجهه أحمد لطفي السيد، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية الذي سبقت الإشارة إليه. ولم تكن الأحزاب تصدر صحفا إخبارية فحسب، وإنما كانت تدافع عن قضية البلاد. فيمكن القول أن صحف الأحزاب الأولى كاللواء والعلم لسان حال الحزب الوطني، والمؤيد لسان حال حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، والجريدة لسان حال حزب الأمة -كانت في الحقيقة نشرات يومية إعلامية لتوجيه الشعب إلى طريق الحرية، كل منها بالطريقة التي آمنت بها. ثم تكونت أحزاب أخرى، كان لكل منها صحيفة أو عدة صحف: فلحزب الوفد صحف البلاغ، وكوكب الشرق، والمصري، والوفد المصري، وصوت الأمة،

والنداء والجريدة المسائية وغيرها. وكان لحزب الأحرار الدستوريين صحيفة السياسة التي أصدرها محمد حسين هيكل في 30 أكتوبر سنة 1922، وهي من أنضح الصحف المصرية من حيث الأخبار والدراسات. وعن جريدة السياسة تؤثر حركات التجديد لتحرير المرأة، والنقد البرلماني والدراسات الأدبية والاجتماعية التي كان يقوم بها طه حسين ومحمود عزمي وغيرهما. ثم تألف حزب جديد عقب مقتل السردار في سنة 1924، هو حزب الاتحاد وأنشأ له صحيفة الاتحاد التي لم يؤثر عنها فضل يذكر، ثم وجد حزب الشعب في سنة 1930، وأصدر صحيفة خاملة الذكر هي الأخرى، عرفت باسم الشعب. وتكونت أحزاب عديدة كحزب الكتلة الوفدية الذي أصدر صحيفة الكتلة ورأس تحريرها رئيس هذه الكتلة المنشقة على الوفد وهو مكرم عبيد، كما أصدر الحزب السعدي المنشق على الوفد أيضا صحيفتين هما الدستور والأساس. ومن الواضح أن المصريين في هذه الفترة قد تفرقوا أحزابا متنافرة، وشيعا متنابذة. فبعد أن كانوا متكتلين جميعا كالبنيان المرصوص في كفاحهم الشعبي الرائع ضد الاستعمار سنة 1919، نجد أن الدستور الصادر سنة 1923 قد ألهاهم عن قضية البلاد الكبرى وهي الاستقلال. وهكذا تنابذ الحكام، وتراشقوا بالسباب والشتائم في خطب ألقوها وكتب أصدروها، ومقالات نشروها في صحفهم على الناس. وفي غمرة السعي للوصول إلى دست الحكم نسيت القضية العظمى للبلاد وهي الاستقلال، وتدهورت صحف الرأي التي كانت تعبر عن قضية مصر، وانحرفت أجهزة التعبير منزلقة في تيار من اللؤم والخبث والخداع فلم تعد هذه الصحف لسان حال الشعب، وإنما أضحت تعبيرا بغيضا عن الأطماع، وكان الاستعمار يشجع هذه التيارات بالمال والأخبار والشائعات. وذلك مسخا للحركة الوطنية، وإمعانا في صرف النظر عن الأهداف السامية. غير أنه في خلال الحرب العالمية الثانية، أخذ المصريون يتنبهون إلى أهمية الصحافة وفنونها الحديثة. وكانت صحيفة المصري قد أخذت بأسباب النهضة

الصحيفة الشاملة وبعثت مراسليها إلى الخارج، وتقدمت في فنون الإخراج والتصوير. وقامت بعض المجلات المصرية، كالمصور وروزاليوسف، بفضح نظم الجيش البالية، وإزاحة الستار عن أسرار الأسلحة الفاسدة. وجاءت هزيمة العرب في حرب فلسطين هزة عنيفة دفعت الصحافة إلى النقد والنقد الذاتي، والاستقصاء والبحث. وقد جاء في مذكرة وزارة الإرشاد القومي المرفوعة إلى مجلس قيادة الثورة في 15 أبريل سنة 1954 ما يلي: "يتبين من مراجعة كشوف المصاريف السرية، أن صحفا حاولت أن تظهر أمام الرأي العام بمظهر الصحافة الوطنية ذات الرأي والعقيدة، وهي في الواقع صحف كانت تتقاضى ثمن آرائها من المصروفات السرية، فكانت أسماء الصحف الحزبية تظهر في كشوف المصاريف السرية، وتختفي مع الوزارات الحزبية وكان البعض الآخر مما يبدو أنه مستقل أو معارض، يتلقى من فيض المصاريف السرية في كل العهود أو أكثرها، ويؤدي الثمن كتابات ظاهرها الوطنية والحماسة للنقد بغير ثمن.

من الصحافة الرسمية إلى الصحافة الشعبية

من الصحافة الرسمية إلى الصحافة الشعبية: وعندما كانت الصحافة رسمية في بدايتها، احتلت الأخبار السياسية والحربية أكبر مساحة من نشاطها الأخباري فكانت الأخبار الجادة الرسمية الجافة أشبه بتقارير عسيرة الفهم طاغية على ما عداها. وكانت الصحف لا تتصور نشر خبر عادي إنساني بسيط، وكان هذا أمر طبيعي ما دامت الصحافة لسان حال الحكومات والطبقات البرجوازية الضالعة معها. ولكن بتقديم الحضارة، وانتصار الديمقراطية، وانتشار التعليم، ورقي الحياة المصرية، وأخذت الصحافة تتجه إلى فنون التبسيط والتحدث إلى الرأي العام، ومحاولة تثقيف الجماهير. فبعد أن كانت أخبار "الوقائع المصرية" لا تخرج عن أنباء ديوان الخديوي الحاكم، وأعمال الحكومة، وتمجيد البطولات الرسمية، بطريقة رخيصة فجة، تطور المضمون الصحفي ليشتمل على عناصر جديدة جذابة مشوقة، كما تطورت لغة الصحافة هي الأخرى، وتعددت فنونها، ونضجت أساليبها.

ولا شك أن الفن الصحفي المصري قد تأثر بالفن الصحفي الأوروبي تأثرا كبيرا، ولا بد أن محرر الوقائع الأول، رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان قد تعلم في فرنسا قد شاهد الكثير من الصحف الفرنسية التي أخذت تعالج موضوعات ثقافية وأدبية وحضارية إلى جانب الموضوعات السياسية والاقتصادية. فبعد أن كان المضمون الأخباري في "الوقائع المصرية" مثلا يدور حول السياسة الخارجية والتجارة والثناء على ولي النعم وبيان نشاط الحكومة في ترقية الأحوال، وما يحدث في سائر أنحاء العالم، نشاهد في عدد الوقائع الصادر في 10 يناير سنة 1847 تجديدا في اتجاه الأخبار الإنسانية الطريفة تحت عنون "أخبار نوعية" أي متنوعات من نوع الأخبار الخفيفة التي تسمى باللطائف الإنسانية1. وحتى جريدة الأهرام -وهي جريدة غير رسمية أو غير حكومية- كان صاحبها سليم تقلا يشرح قصده من إصدارها في طلبه إلى الحكومة لإصدار ترخيص بها قائلا: "إن الجريدة الملتمس إنشاؤها في الإسكندرية تحتوي على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية، وكذلك طبع الكتب" وحتى الأخبار السياسية نفسها كانت تدور حول الأحداث الأوروبية؛ لأن نشر الأخبار المصرية كان أمرا محفوفا بالخطر؛ إذ كانت الحكومات -بطبيعة الحال- لا تسمح للصحف بنقد الحاكم أو توجيه النصح إليه. وقصارى القول، أن الصحافة العالمية -سواء الأمريكية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية- كما رأينا من قبل، كانت تصطنع أسلوبا جافا وبطريقة جادة، تفترض أن قارئ الصحيفة إنسان منطقي ذكي ناضج لا يقل عمره عن الأربعين، مهتم بالسياسة والاقتصاد والشئون المالية والتجارية، ولا ينبغي له أن يهتم بسواها. ثم أتت الصحافة الشعبية فاتسعت المجالات الأخبارية والصحفية، وبدأ الفن الصحفي الأصيل القائم على معاملة الرموز القديمة معاملة جديدة، على أساس واقعي يفهمه الناس جميعا، في الظهور تدريجيا. واتضحت سمات الفن الصحفي وأخذت تتبلور واضحة جلية في نهاية الأمر.

_ 1 human interest.

طبيعة الفن الصحفي وخصائصه

طبيعة الفن الصحفي وخصائصه: فالفن الصحفي يختص برواية أحداث هذا العالم بوسائل دورية1. أهمها الطباعة، وتصدر الصحف يومية أو أسبوعية أو نصف شهرية أو شهرية. وقد نص قانون تنظيم الصحافة رقم 156 لسنة 1960 والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 مايو سنة 1960 بالعدد 188 في مادته الأولى بعد الديباجة "أنه لا يجوز إصدار الصحف إلا بترخيص من الاتحاد القومي، ويقصد بالصحف في تطبيق هذا القانون الجرائد والمجلات وسائر المطبوعات التي تصدر باسم واحد بصفة دورية". وإذا كان الفيلسوف الكبير هيجل يقول: إن قراءة الصحف اليومية أصبحت صلاة الصباح عند الإنسان الحديث، فقد أصبحت قراءة الصحف يوميا شيئا معتادا للقراء، ولا يستطيعون الإقلاع عنه. ولا شك أن هذا التكرار أو الإيقاع المستمر المتواتر من أهم سمات الفن الصحفي. وقد عرف الدكتور محمود عزمي الصحافة بأنها توجيه الرأي العام عن طريق نشر المعلومات والأفكار الخيرة الناضجة معممة ومنسابة إلى مشاعر القراء، خلال صحف دورية. وهكذا أكد ضرورة اتصاف الصحفيين بالنضج والخبرة، كما أكد صفات الفن الصحفي بالعمومية، أي شمول كافة الناس، على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم. والفن الصحفي لا يتوجه بالدرجة الأولى إلى المنطق الخالص، وإنما يتوجه إلى المشاعر والوجدان إلى جانب توجهه إلى المنطق، ومن هنا كانت خطورة التأثير في الجماهير نتيجة للدورية والعمومية والتأثير الوجداني والبساطة في التعبير، والبعد عن التجريد، والاهتمام بالتجسيد. وصفة الدورية هي التي تميز الفن الصحفي، وتؤكد خطره على الرأي العام؛ لأن الصحيفة اليومية، مثلا، تطرق نفوس القراء -عقولهم ومشاعرهم- مرة كل

_ 1 OTTO GROTH, DIE UNERKANNTE KULTURMACHT, "1960" PP.102-121.

أربع وعشرين ساعة. وهذا التكرار مع الانتظام له أثره العميق على الأفهام والنفوس. فتستطيع الصحف أن تتناول نقطة واحدة من الموضوع كل يوم، إذا ما أرادت أن تعالج موضوعا من الموضوعات، فتكون على صلة مستمرة بالقراء، وتستطيع أن تحقق أهدافها وغاياتها. وقد شبه البعض هذا التأثير بقطرة الماء التي تستمر في السقوط على صخرة، ولا بد لها في النهاية أن تفتتها وتصل إلى أغوارها. وهكذا يرتبط عنصر الدورية بعنصر آخر لا يقل أهمية، ألا وهو الاستمرار. ومع ذلك، فلبعض الدوريات الأسبوعية شأنها الخطير، فالدوريات الأسبوعية يتوفر لديها الوقت الكافي لتعمق الموضوعات ومعالجتها بطريقة علمية، مقترنة بالفن الصحفي والاهتمام الإنساني، مع الاستعانة بفنون الطباعة الحديثة كالعناوين والصور والرسوم والألوان، وفنون المسرحة والتجسيد والتبسيط، والمعالجة الواعية لنفسية الجماهير، وذلك بمصطلحات الخبرة المباشرة، مع الابتعاد بقدر الإمكان عن التجريد والأكاديمية. فإذا قيل أن ثقافة الكتب ثقافة رأسية، فإن ثقافة الصحف ثقافة أفقية، تتوخى الانتشار العريض بين سائر فئات الشعب، ومن هنا يكتب لها الذيوع والانتشار، وهما من أهم خصائص التأثير في الرأي العام. فالفن الصحفي هو طريقة تفكير ورؤية خاصة متميزة للحياة، فالصحفي ينظر دائما إلى جمهوره، ويقرر إذا ما كان قادرا على فهم ما يقول أو غير قادر على ذلك، وهو لذلك يضفي على عمله الفني أبعادا ما كان ليضفيها عليه، ولولا هذه النظرة العملية للجمهور. إن الفن الصحفي هو جعل الأحداث والمعلومات والثقافة بل والفلسفة والعلم في متناول الجميع، بطريقة واضحة مشوقة درامية. وقد فطنت الحكومات إلى خطورة هذا الفن، وأخذت تستغله لترويج المفاهيم الجديدة والمذاهب الحديثة بين الجماهير. فالفن الصحفي، بدوريته وعموميته وشموله واستمراره، يضفي على أحداث العالم اهتماما إنسانيا بطريقة تثير الجمهور، وتشحذ قواه، وتملك

مشاعره. حقيقة أنه لا يمكن للفن الصحفي أن يكون له العمق والخلود اللذين يتصف بهما الفن بوجه عام، فليس هناك أقدم من جريدة الأمس، ولكن الفن الصحفي الناجح هو الذي يستطيع أن يعدل قيمة العالم تعديلا مؤقتا على الأقل؛ لأن الصحافة الجيدة تتخذ إطارا لها عالم الافتراضات اليومية الوتيرية، مؤكدة الوجه الدرامي، والاهتمام الإنساني، عن طريق أحداث عالم الحياة اليومية. فالتقرير الصحفي الجيد هو في جوهره عملية خلق وابتكار، وهو كذلك كشف للمتناقضات التي توجد بين الصورة الظاهرية والواقع الفعلى. ولا شك أن الخداع والمغالطات التي تكتشف، كثيرا ما تؤدي إلى عملية تغيير القيم السائدة في المجتمع. ولكن ذلك يتطلب بطبيعة الحال نظرة جريئة وتعبيرا موضوعيا. فالفن الصحفي تعبير موضوعي، وابتعاد تام عن الذاتية التي يتصف بها الأديب مثلا، فالأديب يعنى بنفسه، ويقدم لنا ما يجول بخاطره، ويسجل ما يراه وفقا لرؤيته الخاصة، وبرموز تنم عن ثقافته وعقليته. وهو في هذا الصنيع إنما يصف النفس الإنسانية، ويتعمق أسرارها، ويكشف عن حسناتها وسوآتها، ويكون لأوصافه صدى في نفوس القراء من كل جنس، وفي كل عصر، ما داموا قادرين على قراءته وفهمه، والاستفادة منه. فالأديب حر في اختيار ما يقول، والقراء أحرار في قراءة ما يكتب الأديب. ولكن الصحفي ملتزم بالموضوعية؛ لأنه يعكس مشاعر الجماعة وآرائها. وهو مقيد بمصلحة المجموع. وفي حرية الأديب وذاتيته، وتقيد الصحفي وموضوعيته يقول عبد القادر حمزة: "يجب أن يكون الصحفي حاضر البديهة. حاضر الجواب على كل ما يدعي لأن يكتب فيه، وهو في كل ذلك لا يختار -كما يفعل الأديب- بل الحوادث هي التي تختار له كل يوم ألوانا جديدة، وتدعوه إلى أن يتجه إليها، وينتهي به الأمر إلى أن يتسع أفق الأدب والعلم والخبرة عنده فيصبح وكأنه الموسوعة، بينما يكون الأديب بجانبه وكأنه كتاب في فن معين". فإذا كانت الفيلسوف يبحث عن الحقيقة المجردة على المستوى المنطقي، كما يبحث الأديب عن الحقيقة الخالدة على المستوى الجمالي، فإن الصحفي فنان موضوعي

يقرر الواقع ويرصده بصدق وأمانة وفن. فالصحافة تقوم على الوقائع المشاهدة، وتنأى عن المبالغات والتهاويل. والفن الصحفي لصيق بالجمهور وبالديمقراطية وبالشعبية، ولذلك فإنه يرتبط بظهور الطبقة الوسطى، ثم الطبقات الشعبية. وقد رأينا أن المطبعة قد اخترعت في منتصف القرن الخامس عشر، ولم تظهر الصحافة قبل مرور قرنين من الزمان على ظهور المطبعة، بل إن الفن الصحفي، الذي يرتبط بالجماهير ويؤثر فيها ويتأثر بها، لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الصحافة الشعبية في الظهور، وكان لا بد من اتخاذ أسلوب فني جديد، بل وتطوير لغة صحفية جديدة، بما يعززها من صور وعناوين وألوان ورسوم وكاريكاتور. فإذا كان الأدب هو فن الحقيقة، فإن الصحافة هي فن الواقع. وإذا كان الأدب ذاتيا فإن الفن الصحفي موضوعي بالضرورة. وإذا كان الأدب عاما وإنسانيا وعالميا، فإن الفن الصحفي يتصل بجمهور بعينه، وثقافة بعينها، كما أنه يرتبط بزمن محدد لا يستطيع أن يتجاوزه إلى الخلود. لقد تخيل أحد الأدباء الفرنسيين جوارا لطيفا بين كتاب وجريدة قال فيه الكتاب للجريدة: أنك تنعمين بمائة ألف قارئ، ولكنك لا تمكثين إلا ساعة أو بعض ساعة في يد القارئ، ثم لا تلبثين أن تتعرضي للتمزيق أو التلف. وإذ ذاك يلقى بك في سلة المهملات، أو يتخذ منك الناس غلافا لبعض حاجاتهم، وهكذا تولدين سريعا وتموتين سريعا دون أن تتركي أثرا ما في نفوس الفراء. فأجابت الجريدة بقولها: نعم أيها الكتاب إنك لتفضلني بطول العمر وبسطة الأجل، ولكن لا تنسى أنك تعيش أعمارا طويلة في عالم الظلام ودنيا النسيان، وعندي أن حياة يوم واحد بالمعنى الصحيح أفضل بإشراقها وحركتها وجلالها من حياة مائة عام تقضيها أنت مجهولا من أكثر الناس، مهملا منهم فوق رفوف يعلوها التراب1.

_ 1 دكتور عبد اللطيف حمزة، الصحافة والأدب في مصر "محاضرات"، "1955" صفحة 3، 4.

ويصل الفن الصحفي في موضوعيته إلى حد إغفال اسم الكاتب الصحفي إغفالا متعمدا؛ لأن المهم هو التصوير الموضوعي للواقع، وليس التعبير الذاتي عن الفنان. وقد كانت صحيفة التيمس اللندنية مثلا، ترفض دائما كتابة أسماء محرريها، مهما كانت أخبارهم دقيقة، ومقالاتهم رائعة. حتى الكتاب الذي أصدرته الصحيفة عن تاريخ حياتها، والذي يقع في عدة أجزاء، لم يذكر عليه اسم مؤلف أو كاتب، إمعانا في سياسة الموضوعية. والحق أن الفن الصحفي قد استطاع أن يطور لغته الخاصة، وأشكاله الفنية من خبر وتقرير ومقال وتحقيق وعمود ويوميات، وورسائله البصرية من عنوان وصورة ورسم كاريكاتوري وألوان وزخارف، وكلها تتعاون من أجل تحقيق غايات الفن الصحفي.

الباب الثاني: لغة الفن الصحفي

الباب الثاني: لغة الفن الصحفي مدخل ... الباب الثاني: لغة الفن الصحفي استطاع الكاتب الصحفي الإنجليزي دانيل ديفو الذي اشتهر بقصته الخيالية الطويلة روبنصن كروزو أن يلمس بعبقريته خاصية الفن الصحفي، ولغته الفريدة، التي تتميز عن لغة العلم ولغة الأدب فقال: "إذا سألني سائل عن الأسلوب الذي أكتب به لقلت إنه الذي إذا تحدثت به إلى خمسة آلاف شخص ممن يختلفون اختلافا عظيما في قواهم العقلية -عدا البله والمجانين- فإنهم جميعا يفهمون ما أقول"1. هذا مع ملاحظة أن الرقم "5000" كان هو الحد الأقصى لتوزيع الصحف في القرن الثامن عشر في إنجلترا، وهو العصر الذي عاش فيه ديفو، وأنتج فيه إنتاجا صحفيا متنوع الفنون، حتى أطلق عليه أبو الصحافة الإنجليزية. ومن الطريف أن ديفو كان مغرما بالعناوين المثيرة، مجددا في ذلك كل التجديد، وفي رأيه أن الجماهير لا بد أن تثار بالآراء الجزيئة، مع استخدام الوسائل البصرية التي تحقق هذه الإثارة طباعيا. وهكذا كان فهم ديفو للصحافة إرهاصا وإدراكا لمبدأ الإثارة الذي يفتخر به صحفيو القرن العشرين، غير أنه استغل هذا المبدأ استغلالا فكريا ناضجا، ولم يهبط به إلى مجرد الإثارة الانفعالية الرخيصة. كما أن طريقة ديفو في كتابته الصحفية كانت مبتكرة واعية لوظيفة الصحافة، فهو يبدأ بالتخصيص لكي يتطرق منه إلى التعميم، ولا شك

_ 1 دكتور إبراهيم إمام، تطور الصحافة الإنجليزية "1956" صفحة 89.

أن هذه الطريقة المتبعة في التدريس الحديث يمكن تطبيقها على الفن الصحفي الذي يتوجه إلى القارئ العام بذكائه المتوسط وثقافته العادية. وهكذا تكون رؤية العباقرة للخصائص الفنية سابقة لظهورها. فالصحافة الفنية الحديثة لم تبدأ في إنجلترا إلا في أواخر القرن التاسع عشر على يد اللورد نورثكليف الذي عرف باسم نابليون الصحافة. وإذا تحدث ديفو إلى القارئ كان حديثه عاديا اجتماعيا مألوفا، فهو يستعمل أحيانا جملا غير تامة، ويكسب أسلوبه جاذبية الألفة والطرافة، فهو يقول: "ولما كما على وشك الانتخابات العامة، سأقص عليكم قصة: أن المال والخمر يصنعان كل شيء ... " ثم يمضي في حديث ممتع طريف. ومن أهم مميزات الفن الصحفي عند ديفو أسلوب التهكم اللاذع، والسخرية المشرقة, وكانت طريقته في ذلك ما يسمى بمنطق التسخيف1، فهو يسير مع الرأي الذي يسخر منه في مبالغة إلى آخر الشوط الذي لا بد وأن يؤدي إليه، وذلك لكي يظهر عيوبه ونقائصه، ويفضح سخفه وتناقضه. ولعل خير مثل لذلك نشرته السياسية عن المخالفين للكنيسة2 والتي تحدث فيها بلسان خصومه من رجال الكنيسة الرسمية، وأخذ يبالغ مبالغة شديدة في ضرورة التخلص من المخالفين والقضاء عليهم نهائيا. ومن أسلوبه التهكمي أيضا ما كتبه من مقالات انتخابية في صحيفة "ريفيو"3، والتي جاء فيها: "إذا كنت تريد أن تجرب وتتعلم بطريقة الصواب والخطأ فلا تتحير بل انتخب أعضاء حزب المحافظين لكي تتعلم عن طريق المجرمين والمغفلين. فما البرلمان المحافط إلا برلمان شياطين" وقد يبدو للقارئ الحديث أن هذه ألفاظ نابية، ولكن الحقيقة أن كتاب القرن الثامن عشر كانوا لا يجدون غضاضة في استخدام مثل هذه الألفاظ، بل وأقسى منها وأغلظ بكثير.

_ 1 REDUCTIO AD ABSURUM. 2 DISSENTERS. 3 REVIEW.

الجاحظ فنان صحفى

الجاحظ فنان صحفي: وفي الحضارة العربية، ظهرت إرهاصات بلغة الصحافة حتى قبل اختراع المطبعة. فالجاحظ -وهو من كتاب القرن الثالث الهجري- جدير بأن يكون أو صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه ويمكن النظر إلى أدب الجاحظ في مجموعه على أنه أدب تتوفر فيه الكثير من خصائص الفن الصحفي. لقد كان الجاحظ رجلا شديد الانغماس في المجتمع، وهو في الوقت نفسه غزير الانتاج إلى درجة تلفت النظر، وإنتاجه وثيق الصلة بالأفكار الشائعة في عصره، بل هو صورة دقيقة لما يحيط به في تلك البيئة العباسية من دين وسياسة وثقافة وعادات وتقاليد اجتماعية. لقد كان الجاحظ موسوعي المعرفة، دقيق الملاحظة، سلس الأسلوب، قوي العارضة، ساخرا متهكما، ولكن دون مرارة. وأهم من ذلك، كان مصورا بالقلم تصويرا فنيا يجسم أفكاره تجسيما مشوقا أخاذا. ويكفي أن نشير إلى رسالة التربيع التدوير التي وصف فيها أحمد بن عبد الوهاب لكي نبين عبقرية الجاحظ في فن الكاريكاتور القلمي. وفضلا عن ذلك، فإنك تلمح في كتابات الجاحظ حبا للحياة، وولعا بالناس، وتقديرا للإنسان فهو ليس فيلسوفا يكتب عن الأفكار المجردة. ولكنه أديب أقرب إلى الصحفي، يكتب عن المجتمع بأسلوب رشيق سلس أخاذ. وبمقارنة الجاحظ بمعاصريه، نستطيع أن ندرك خصائص أسلوبه القريب من الصحافة. فابن المقفع، مثلا، أديب وأدبه خلاصة مطالعاته، وتجاربه وتجارب أسلافه من البيئة الفارسية القديمة. وهو يسلك في كتابة أدبه طرقا فنية خالصة، هي تعبير جمالي ممتاز، كان يتحدث على ألسنة الطير والحيوان، ويعتمد على الصور البيانية الرائعة، ولكنه مستوى أدبي جمالي، يرتبط بالرمز الفني، ولا يتصل بالواقع العملي إلا اتصالا يسيرا. وكذلك ابن قتيبة رجل عالم في اللغة وعالم في النقد، وهو متمكن من الحديث والتفسير، وغيرهما من العلوم التي جعلت منه خطيب أهل ألسنة ولكنه رجل حبس نفسه على العلم. ولم يشأ أن يزج بنفسه في المجتمع كما فعل الجاحظ.

لقد كان ابن قتيبة عالما، وحتى لم يكن أديبا كابن المقفع، فكان أسلوبه علميا، مفعما بالاصطلاحات الدينية والعلمية المجردة. وقد رأينا أن الصحافة فن حضاري، لا يزدهر إلا في البيئة الصالحة للتقدم والتطور. ففي صحافتنا المصرية الحديثة، نلاحظ أنها قد ورثت، عند ظهورها في القرن التاسع عشر، عن القرون السابقة أسلوبا عتيقا يميل إلى التكلف. ثم أخذ هذا الأسلوب يتخلى شيئا فشيئا عن هذا التكلف، حتى ظهرت صحيفة "المؤيد" فوجدنا أنفسنا أمام كتاب يميزون بين الأسلوب الأدبي والأسلوب الصحفي، وأخذ الفن الصحفي في التبلور والتطور حتى وقتنا الحاضر. وإذ ذاك وجدنا له لغة تبعد بعدا ظاهرا عن لغة الأدب. فقد استحدث الصحفيون الحاليون تراكيب جديدة لم تخطر للأدباء الأولين على بال. فبدلا من قولهم أنه لا بد من توضيح المسألة توضيحا لا يدع مجالا للشك نجدهم يقولون: نريد أن نضع النقط فوق الحروف. وهناك صفات ونعوت جديدة لا وجود لها في الكتب القديمة مثل: الحقيقة الصارخة، والأكذوبة البيضاء، والليلة الحمراء، الدعاية السوداء، والغيرة الصفراء. وتأثرا بترجمة البرقيات الأخبارية، نجد الأفعال الأجنبية تتسرب إلى اللغة العربية. ومثال ذلك أن حشد الجنود التركية على حدود سوريا "يشكل" خطرا على هذه البلاد، وفعل "يشكل" هو ترجمة حرفية دخلت لغة الصحافة والسياسة واستقرت فيها استقرارا تاما. ومن ذلك قول بعض الصحفيين: "وهنا قفزت طائفة كبيرة من علامات الاستفهام" معبرا بذلك عن معنى الغرابة أو التعجب. وقول آخر: "فكان عليَّ أن أضع أعصابي في ثلاجة بعد سماعي هذا الكلام". وقد كان من أثر الصحفية، وهي جزء هام من أقسام الأخبار الخارجية في صحفنا المصرية، استخدام أسلوب جديد لا علاقة له بالأدب. بل إن اللغة العربية قد استخدمت تراكيب جديدة مستمدة من طبيعة تعبير اللغات الأجنبية. ومثال ذلك شيوع استخدام الجمل الاسمية وتناثرها وكأنها وحدات

مستقلة. فهذه هي طريقة التعبير الأوروبي تماما بالجمل الاسمية المستقلة التي تجعل فيها النقط والوقفات، فقرات متتالية. فطريقة تحرير الأخبار الصحفية المترجمة من أجهزة "التيكرز" أو المبرقات الصحفية قد ساعدت على تطور أسلوب صحفي جديد على اللغة العربية، تتناثر فيه الجمل وتستقل عن بعضها البعض في وحدات ذات مغزى. غير أن هذا الأسلوب الأخباري الصحفي سرعان ما أخذ يغزو فنون الصحافة الأخرى حتى طغى على المقال والتحقيق والحديث والعمود واليوميات وغيرها. ولا بد أن القارئ الحديث يضحك كثيرا عندما يقرأ في الصحف المصرية القديمة تلك الأخبار التي حرص كاتبها على أن تكون مسجوعة ومليئة بزخارف الجناس والطباق. ثم بالتدرج أخذت الصحف تتخلص من هذا الشكل العتيق من أشكال التحرير. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد حتى وجدنا أن فن تحرير الخبر أصبح له أصول وقواعد وقوالب وصيغ معينة، نتحدث عنها في الفصول القادمة.

الصحافة والطباعة والتعليم

الصحافة والطباعة والتعليم: والحقيقة أن الفن الصحفي الحديث كان نتاج تقدم حضاري، ولم يكن تلازم اختراع الطباعة مع ظهور القومية والنهضة الإنسانية والاعتراف بالرأي العام والديمقراطية مجرد مصادفة؛ لأن هذه الظواهر جميعها قد تفاعلت مع بعضها البعض بطريقة دينامية حية ساعدت على خلق ثقافة حديثة، وهيأت الجو لظهور الصحافة، ثم لتطور الفن الصحفي الحديث. وقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ثورة لغوية ساعد على الإسراع بها خمس آلات أصبحت الآن معروفة وشائعة حتى أصبحنا الآن لا نلقي بالًا لأهميتها الاجتماعية والفردية. ففي عام 1876 اخترع جراهام بيل التليفون. وفي سنة 1877 اخترع أديسون الجراموفون، وبعد حوالي عشرين عاما في ذلك

التاريخ استطاع ماركوني أن يجعل الاتصال اللاسلكي ممكنا. ولم تمض ثلاثون سنة على نفس التاريخ حتى أصبحت الأفلام الناطقة وسيلة للأخبار والتسلية، كما أصبح التليفزيون وسيلة محبوبة في بلاد كثيرة. وفي نفس هذه الحقبة، أخذت الحكومات تعترف بمسئوليتها في التعليم ومحو الأمية، وأنشئت المدارس الابتدائية والالزامية على نطاق واسع بعد سنة 1870. ولا شك أن محو الأمية قد ساعد على انتشار الصحافة، وألزم الصحف باتخاذ أساليب جديدة، وفنون حديثة للاتصال بهذه الجماهير العريضة التي محيت أميتها، وكان من الضروري أن تجد في الصحافة مجالا للاطلاع والقراءة. فشهدت هذه الحقبة مولد الفن الصحفي الذي يتوجه إلى الجماهير العريضة بلغة سلسلة سهلة، وفنون طباعية تؤكد المعاني إلى جانب الكلمة البسيطة. ولا شك أن استخدام طابع البريد ذي الثمن الزهيد، والمكتبات الشعبية الحرة، وتوفير المواد المطبوعة طبعا أنيقا بالألوان، والتعبير عن الأفكار والمشاعر بطريقة بيانية طباعيا كل ذلك كان يسير جنبا إلى جنب مع تقدم طرق المواصلات ووسائل الاتصال السلكية واللاسكية. ففي مستهل القرن العشرين تزايد عدد القراء حتى أصبح يحصى بالملايين وأصبح للفن الصحفي لغته الخاصة وأساليبه الفنية لسد حاجات هؤلاء الملايين. ولم يلبث هذا الفن الصحفي نفسه أن أصبح مؤثرا على الحضارة، فأسهم في إدخال أساليب جديدة للسلوك، وعادات جديدة، ومواقف اجتماعية مستحدثة. وقد ذهب العالم الأمريكي مارشال ماكلوهان إلى حد إسناد روح الفردية وروح القومية إلى اختراع جوتنبرج للحروف المتحركة وتنفيذها في أسطر مكونة من كلمات متتابعة. وهو يرى أن الحضارة تشتق طابعها من وسيلة الإعلام. فهو يقول إن الطباعة قد أدت إلى تفجيرات في المجتمعات فأصبحت فردية ومجزأة. وبفضل الكهرباء والتليفزيون، انتعش الإحساس الجمعي والشعور بالعالمية.

الفن الصحفي واللغة

الفن الصحفي واللغة: وقد يكون اتجاه مارشال ماكلوهان -رغم أنه أحدث اتجاهات فلسفة الإعلام الحديثة- مغرقا في الميتافيزيقية، غير أنه لا يمكن إنكار العلاقة الوثيقة بين اللغة والحضارة. فالألفاظ وتركيب اللغة يجسد أساليب الفكر والمشاعر، ولقد حاولت الأجيال جيلا بعد جيل أن تتصارع فيما بينها أو فيما بينهما وبين العالم الخارجي من أجل تطوير أساليب لغوية جديدة تلائم الفكر والمشاعر في عصر بعينه. فجذور اللغة تنبت أساسا من واقع الثقافة والحياة العملية. ويؤكد لنا علماء الإنسان من أمثال "مالينوسكي" و"هوكارت" أن لغة المجتمع تعكس لنا طريقة تصنيفه للأشياء وتقسيمها إلى أنواع، ويبدو ذلك في سلوك الجماعة حينما تمارس نشاطها العملي. وقد شرح مالينوسكي بوضوح تلك الصعوبة التي تواجهنا عند محاولة فهم مدلول الكلمات دون الإشارة المستمرة إلى المضمون الثقافي العام. وقد استطاع علماء اللغة المحدثون أن يكتشفوا العلاقات الوثيقة بين اللغة والتاريخ والحضارة. ولعل نظرية العالم السوفييتي بنيامين لي وورف من أحدث هذه النظريات وأخصبها. فهو يرى أننا جميعا نتعلم لغتنا في فترة الطفولة المبكرة. فيبدأ الطفل في مطلع حياته بإدراك العالم ضمن إطار لغة أمه "الأم". وبغض النظر عن تنوع وغنى العالم الخارجي يبدأ المرء برؤية وإدراك تلك الحوادث التي لها تسميات. أن لغة أمنا تحلل العالم بأسلوبها الخاص وتفرض مثل هذا التحليل والإدراك "التجزئة" علينا جميعا. فالألمان يقولون WORDING OF THE WORLD أي -لو جاز لنا- "تفريد العالم" -أي التعبير عنه بالمفردات. هذه هي فكرة وورف: أن الناس لا يعيشون فقط في عالم الأشياء التي تحيط بنا وفي عالم الحياة الاجتماعية فقط، بل وكذلك في عالم لغة الأم. أن العالم من حولنا يشيد وفق "عالم اللغة". ويعبر وورف عن هذا بقوله: إن كل لغة تتضمن -عدا الاصطلاحات- آراء وأحكاما تعاكس الآراء والأحكام الأخرى.

غير أن هذا ليس كل شيء فاللغات معرضة للتغير وهذا يشمل التغيرات في العالم المحيط بالناطقين بتلك اللغة. وبصورة أدق، يبقى العالم من الناحية الفيزيائية الطبيعية على ما كان عليه، غير أنه لا يبدو كذلك بالنسبة للوعي الإنساني والاجتماعي1. وباختصار، يمكن القول أن اللغات تختلف في طرق تناولها للعالم، ويكتسب الشخص لغة الأم منذ مطلع حياته. ولذلك فإنه يدرك العالم منذ طفولته الأولى، ومن خلال زاوية لغة الأم. فنحن أسرى الكلمات، ونحن ندرك قوانين لغة الأم في طفولتنا بشكل آلي وغير واع. وبجانب اكتسابنا للغة الأم بطريقة غير واعية، نكتسب طريقة تفكير خاصة كامنة في تلك اللغة. وتختلف اللغات في تقسيمها للعالم إلى عناصر بواسطة الكلمات. هنالك، مثلا، كلمة واحدة في لغة الأزتيك تطلق على "الثلج" و"البرد" و"الحديد"، بينما لها كلمات خاصة في اللغتين الروسية والإنجليزية. وللإسكيمو عشرات التسميات للثلج؛ إذ يوصف بكل الأشكال التي تخطر بالبال، الثلج على الأرض، الثلج محمولا على الريح، الثلج الذائب، الثلج المتجمد ... إلخ ولكل حالة كلمة خاصة. كما أنه عند العرب عشرات الكلمات التي يوصف بها الجمل أو السيف، في حين لا توجد سوى كلمة واحدة في الحضارات أو اللغات الأخرى.

_ 1 A KONDRATOV, SOUNDS AND SIGNS "1969", PP.70-75.

لغة الصحافة وخصائصها

لغة الصحافة وخصائصها: غير أن موقف وورف الذي يتبناه كعالم سوفييتي يؤمن بالمادية الدياليكتية التي تقول إن العالم يسبق الإدراك والأشباه تسبق الأسماء المخصصة لها لا يمكن أن نقبله على علاته -رغم صحته من بعض جوانبه. فهل صحيح أن لكل لغة ميتافيزيقية خاصة بها؟ لنفرض أن نيوتن تكلم وفكر بلغة الهوبي الهندية بدلا من الإنجليزية، فهل ستكون صورة العالم مختلفة فيزيائيا وطبيعيا؟ وبمعنى آخر هل تؤثر اللغة على التفكير؟ لا شك أنها تؤثر، ولكن لا على الجوهر بل على أساليب التفكير. إن جوهر الفكرة هو انعكاس للحقيقة، وإن هدف اللغة هو نقل المعرفة والمعلومات عن الحقيقة. وبغض النظر عن التسهيلات الفنية التي يترتب عليها تنوع أساليب التفكير فإن كل لغة قادرة على إعطاء صورة حقيقية عن العالم الخارجي. ويرى علماء النفس أن الطفل يبدأ باستيعاب العالم الخارجي قبل أن يكون قد تعلم النطق، فالإنسان يحلل العالم الخارجي قبل أن يولد عند تفكير لغوي. وعندما يتعلم الطفل التكلم، ويبدأ باستعمال لغته لإلصاق التسميات بخبراته المكتسبة. فالأشياء تسبق المفردات والعكس ليس بصحيح. ولنفرض أن رائدين من رواد القضاء أحدهما أمريكي والآخر سوفييتي قد هبطا على سطح القمر، وعاد كل منهما ليروي انطباعاته بلغته الخاصة. فهل تكون الصورة الأمريكية مختلفة عن الصورة السوفييتية للقمر؟ لقد زار الرحالة العرب قبل أكثر من ألف عام أراضي دول الشمال، وكانت طبيعة وتقاليد وعادات الفايكنج من سكان الشمال غريبة تماما في نظر الزوار العرب، وكانت الغرابة تضاهي غرابة القمر بالنسبة لسكان الأرض وبالإضافة إلى ذلك فإن اللغة العربية تختلف اختلافا تاما عن اللغة النورماندية. ومع ذلك ترى وصف العرب يتفق مع وصف النورمانيين بالنسبة لنفس الظواهر والحوادث والمدن. وأن كل لغة تصور العالم بطريقتها الخاصة، ولكن الرسالة عن الحقيقة تنقل بدقة وصواب. ويقارن علماء اللغة المعاصرون نظام اللغة بنظام الإحداثيات الهندسية، فالانتقال من لغة إلى أخرى شبيه بالانتقال من نظام هندسي للعلاقات إلى الآخر. أن العالم الخارجي هو نفسه غير أن صورته تختلف باختلاف اللغات. إن العالم موغل في التنوع، كما أن عدد الكلمات محدودة في أية لغة. وقد نستطيع عند التعبير العملي العام "وهو التعبير الصحفي كما سنعرف فيما بعد" أن نهمل قطاعات من التفاصيل غير الأساسية ونركز على صفات بارزة

معينة. فالفنان الذي يتعامل بالألوان يجد من الضروري التمييز بين أدق الدرجات اللونية ومنحها تسميات متباينة، في حين أن الشخص العادي لا يشعر عادة بالحاجة إلى أكثر من بضعة صفات لتلبي حاجاته. إن لغة الصحافة هي اللغة السريعة المباشرة العادية الواقعية، فهي تستطيع أن تذكر كلمة كلب أو جمل دون الدخول في التسميات الدقيقة التي قد يهتم بها عشاق الكلاب أو خبراء الجمال. إن تجربتنا العملية، تجعلنا نستطيع أن نلخص، ونكتسب الخبرات عن طريق تبسيط المعاني، ونمذجتها في قوالب خاصة، وهذا هو أساس الفن الصحفي.

مستويات التعبير اللغوي

مستويات التعبير اللغوي: إن اللغة تتميز على غيرها من الرموز والنظم الإشارية بأنها في متناول الجميع، وبمعونتها نستطيع نمذجة العالم، وهذا يميزها عن العلم والفن أو الأدب اللذين يتطلبان تدريبا خاصا. فالفنان يستطيع خلق أسلوبه الخاص -"لغته" الفنية الخاصة- وأسلوبه الجمالي، ورموزه الشخصية. فقد سئل الشاعر العربي القديم لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجاب قائلا: ولماذا لا تفهمون ما أقول؟ وسئل الفنان الحديث بيكاسو: لماذا لا تصور ما يفهمه الناس؟ فأجاب أن للفن رموزا تشبه اللغة الصينية وعليك أن تفهمها أولا. والعالم كذلك له رموزه وصيغه وأرقامه في علوم الطبيعة والرياضة والكيمياء والفلك والمنطق وغيرها. ولا يمكن فهم الرياضة إلا بعد إتقان هذه الرموز يتدرب خاص. أما اللغة العملية، اللغة اليومية، اللغة الاجتماعية، لغة الفن الصحفي فتمتاز بالشمول كما أنها لغة طبيعية منذ الطفولة، في حين أن لغة العلم ولغة الفن من اللغات المصطنعة التي لا يمكن اكتسابها إلا بعد سنوات من المران والتدريب. وهكذا توجد ثلاثة مستويات للتعبير اللغوي: أولها المستوى التذوقي الفني والجمالي ويستعمل في الأدب والفن، والثاني هو المستوى العلمي النظري

التجريدي، ويستعمل في العلوم، والثالث هو المستوى العملي الاجتماعي العادي وهو الذي يستخدم في الصحافة والإعلام بوجه عام. وهذه المستويات الثلاثة كائنة في كل مجتمع إنساني، والفرق بين المجتمع المتكامل السليم، والمجتمع المنحل المريض هو في تقارب المستويات اللغوية في الأول، وتباعدها في الآخر. فتقارب مستويات التعبير اللغوي دليل على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته، وحيوية ثقافته. ومن ثم إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوع من التآلف بين المستويات العلمية والأدبية والعملية، هي غالبا أزهى العصور وأرقاها. أما إذا كان كل مستوى لغوي بعيدا كل البعد عن الآخر فهو دليل على الانفصام العقلي في المجتمع، وهذا إلى التدهور والانحطاط والشيخوخة والانحلال1. وقد حدث هذا لأوروبا في العصور الوسطى عندما كانت اللغة اللاتينية مستأثرة بالدراسات الأدبية، بينما كانت اللغات الاجتماعية محتقرة منبوذة، لا تستعملها إلا الطبقات العاملة الفقيرة، فعاشت في عصور مظلمة، وباتت تتردى في الجهل والتعصب والتنافر والتنابذ. وفي الوقت نفسه، سادت في العالم الإسلامي آداب رفيعة، وكانت اللغة العربية شائعة بين الحكام والمحكومين، مستعملة في الآداب والعلوم، وفي الحياة العملية. ولم تكن الفروق اللغوية بين هذه المستويات شاسعة مفزعة، كما كانت في أوروبا بين اللاتينية والإنجليزية أو الألمانية مثلا، فكان تآلفا في المجتمع وانسجاما بين طبقاته، وحيوية وتكاملا في العقل الجماعي والوجدان الجماعي. وعندما أهل عصر النهضة في أوروبا، وأخذت اللغات المحلية تتبوأ مكانتها اللائقة بها، وتقاربت المستويات اللغوية في الأدب والعلم والمجتمع، أخذت العقلية الاجتماعية تسترد قوتها وسلامتها، وزايلها الانفصام العقلي، وتقاربت المستويات نسبيا، حتى إذا بلغت اللغات المحلية مبلغ النضج والاستواء، كان دانتي وشكسبير وبيكون ولوثر ثم نيوتن وجاليليو وغيرهم.

_ 1 IMAM. I. THE LANGUAGE OF JOURNALISM, "1969".

وفي نفس هذه الظروف وبفضلها أيضا، ظهرت لغة الصحافة. فكانت مثل ديفو اصطنع أسلوبا صحفيا يقترب من أسلوب المحادثة المرسلة، فكان ذلك سببا في رميه بالجهل، واتهامه بالسوقية، كما رمي سلامه موسى وغيره من المجددين في الأسلوب الصحفي. لقد بلغ احتقار الأديب سويفت للكاتب الصحفي ديفو أنه كان يشير إليه قائلا: "ذلك الشخص الأمي الذي أنسى اسمه دائما! " ولا شك أن هذا التحقير من شأن ديفو إنما يرجع إلى الغيرة والحسد؛ لأنه كان يتمتع بشهرة شعبية مدوية. ومن أهم ما يميز ديفو عن غيره من الكتاب أنه استطاع كتابة اللغة الإنجليزية بقوة وحيوية مستمدا ذلك من التقارب بين لغة الكتابة الصحفية ولغة التفاهم العادي. ويرجع تفوق ديفو في فن الأسلوب الصحفي إلى حقيقة هامة وهي أنه بحكم كونه من المخالفين للكنيسة، كان يتلقى تعليمه في الأكاديميات الحرة لأن الجامعتين الرسميتين "أكسفورد وكمبردج" كانتا لا تقبلان المخالفين كطلبة فيها. وقد التحق ديفو بالأكاديمية المشهورة نيوينجتون جرين1 حيث كانت التربية تمر في مراحلها الحديثة، فبدلا من الخطة التقليدية التي اعتمدت على المنهج الثلاثي2 "وهو النحو والمنطق والبلاغة" في المدرسة، المنهج الرباعي3 "وهو الحساب والهندسة والفلك والموسيقى" في الجامعة، نجد أن الأكاديميات كانت تعنى بالمواد بالحديثة كالعلوم والتاريخ والجغرافيا. وقد تعلم ديفو مثلا اللغات الفرنسية والهولندية والإسبانية والإيطالية لأن الأكاديمية كانت تضع اللغات اللحية موضع الاعتبار وتهتم بها اهتمام الجامعتين التقليديتين باللغات الكلاسية القديمة. وكانت ثورة تعليمية كبرى أن يقف ناظر المدرسة التي تعلم بها ديفو اسمه مورتون4 ليشرح المواد الدراسية باللغة الإنجليزية فقد كانت المدارس

_ 1 NEWINGTON GREEN. 2 TRIVIUM. 3 QUADRIVIUM. 4 MORTON.

التقليدية تحتم أن يدرس كل شيء باللاتينية، وكان يخصص أحد الطلبة لكي يتجسس على زملائه ويضبط من تسول له نفسه أن يتحدث بالإنجليزية بدلا من اللاتينية! أما الأكاديمية التي تعلم بها ديفو فقد ضربت بهذه التقاليد البالية عرض الحائط، ونظرت إلى الرطانة اللاتينية باستخفاف، واهتمت بدلا منها باللغات الحديثة والعلوم والمواد الاجتماعية. ومن الطريف أن ديفو قد تعلم الاختزال في أكاديمته، أما المعامل والمتاحف والمضخات والأجهزة وغيرها، فقد كانت من أهم مستلزمات الدراسة في الأكاديميات لأن الطبيعة والفلك والكيمياء كانت علوما أساسية. وهكذا أتيح لديفو برنامج تعليمي حديث بعكس البرامج التعليمية الشكلية الجافة في المعاهد الأخرى وكانت هذه الدراسة خير تمهيد لتخريج مثل هذا الصحفي العبقري، والذي تفوق في فنون الأخبار، وابتكر فن التحقيق الصحفي واكتشف فن الحديث الخاص أو المقابلة الصحفية، وبرع في كتابة المقال الافتتاحي، وتفوق على معاصريه في فن المقال الاقتصادي والتجاري.

التقارب بين المستويات اللغوية

التقارب بين المستويات اللغوية: وقد كانت مصر في أتعس أيامها وأحلك عصورها -في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر- تعاني من الانفصام العقلي في المجتمع، حيث سادت لغة أدبية منمقة متكلفة كتقليد سخيف للطريقة الفاضلية في الكتابة، عقيمة مصطنعة لم يألفها الشعب، ومن ثم لم يتأثر أو ينفعل بها، وويل للمجتمع إذا كان أدبه لا يتفاعل مع أفراده؛ إذ تتسع الهوة بين لغة الأدب ولغة الحياة اتساعا مفزعا، فيمرض العقل، ويذوي الفكر، ويتدهور المجتمع، وتتنافر طبقاته. وقد وجدنا أن كل عصر يتخذ فيه الأدب لغة رسمية مصطنعة يختص بها، في أسلوب من الصور البيانية والحيل البديعة المتراكمة، يصبح الأديب فيه كالكاهن إنسانا غامضا، وشخصية رهيبة مفزعة، وتلك أعراض المجتمع المريض،

والحضارة المنحلة. وقد حدث ذلك -كما قلنا- في العصور الوسطى في أوروبا كما حدث في إنجلترا في مستهل الفتح النورماندي، وحدث أيضا في مصر بعد الفتح التركي حتى القرن التاسع عشر. ولا زلنا نصطلي ببعض ناره. وتشير أبحاثنا التي أجريناها في نواحي الإعلام وعلم الدلالة أن اللغة العربية في مسيس الحاجة إلى الإثراء الفكري، والتقارب بين المستويات المختلفة. ويقيننا أن الحل الوحيد هو ضرورة استعمال اللغة في ميادين العلم الحديث، وخاصة الطب والهندسة والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الحديثة. والرأي عندنا أننا لا ينبغي أن ننتظر حتى تقنن المصطلحات، فلا يكفي أن نبقى بمعزل عن الحضارة الحديثة، وما لم تستعمل لغتنا في هذه الميادين، فإننا نحكم على أنفسنا بالعزلة والتخلف. فاللغة والفكر وجهان لشيء واحد كالعملة تماما. ولكي تساير اللغة العربية الحضارة الحديثة، لا بد وأن تعبر عن الفكر الحديث، وهي قادرة على ذلك، غير أنها تعاني من البطالة وعدم الاستعمال. فليس غريبا أن يكون ظهور أول صحفي مصري وهو رفاعة الطهطاوي في عصر محمد علي مقترنا بنهضة علمية، والتحام بين الثقافة الشرقية والثقافة العربية، واهتمام بالترجمة. وحتى السوريون الذين نزحوا إلى مصر من أمثال أديب إسحاق وسليم النقاش وبشارة وسليم تقلا ويعقوب صروف وجرجي زيدان وغيرهم كانوا تلاميذ لحركة نشر العلوم وتنشيط الفنون التي أنشأها القس غالي سميت والدكتور كرنيليوس فان ديك والقس وليم طمسون والمستشرق منصور كرلتي والدكتور يوحنا ورتبات وتشرشل وغيرهم. وكان من أعضائها ناصيف اليازجي وسليم دي نوفل وميخائيل فرج الله ونعمة ثابت وأنطونيوس الأميوني. ولا شك أن الدكتور يعقوب صروف الذي حصل على بكالوريوس العلوم من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1870 قد ترجم الكثير من الكتب العلمية وجعل من مجلة المقتطف نقطة تحول في الفن الصحفي في محاولاته الأدبية والاقتصادية والسياسية. كما كان يقارن بين كتابات هربرت سبنسر في علم الاجتماع الإنساني ومقدمة ابن خلدون في نفس العلم. وليس من قبيل المصادفة أن يكون جمال الدين الأفغاني ويعقوب بن صنوع والشيخ محمد عبده ومصطفى كامل

وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل من رواد الصحافة الذين جمعوا بين الثقافة العربية المصرية والصحافة الأوربية. وقد استطاع هؤلاء بجهودهم الرائعة أن يخلقوا لغة الفن الصحفي العربي التي تقترب من لغة الأدب، وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط. ولقد توجت هذه الجهود بظهور الصحافة الإخبارية الحديثة، وبالتنويع في وسائل الإقناع الصحفي بالصورة الفوتوغرافية والصورة الكاريكاتورية، والعناية بالأخبار النائية. وقد تطلب ذلك استخدام لغة صحفية تتلاءم مع شعبية الصحافة، تتوخى السهولة والتبسيط، دون أن تهبط إلى العامية في اللفظ، أو السوقية في الفكر. وهكذا تتقارب المستويات اللغوية العلمية والجمالية والعملية؛ لأننا كلما نزلنا في سلم التطور الحضاري للمجتمعات، وجدنا فروقا شاسعة بين المستويين الأدبي والعلمي للغة. ويؤكد عالم الاجتماع كارل بوخر1 أن اللغة المستخدمة في المجتمعات البدائية تنقسم إلى قسمين مختلفين تمام الاختلاف: لغة جمالية للأغاني والقصائد والأناشيد، وأخرى عملية للتفاهم، وهي تختلف عن الأولى اختلافا كبيرا، حتى إن إيقاع لغة التفاهم لا بد وأن يتغير تغيرا تاما لكي يتلاءم مع إيقاع الشعر. ويقول إن سكان جزائر أندامان2 يغيرون من طول الكلمات تغييرا جوهريا حتى ليمكن القول بأن لهؤلاء الناس لغة شعر خاصة غير لغتهم المستعملة في الحياة، ويضيف يسبرسون3 على ذلك قوله: إن اللغة الجمالية لا يفهمها الناس. حتى إن كثيرا ما يضطر المؤلف إلى شرح قصيدته للمغنيين والمستمعين قبل الأداء

_ 1 karl bucher. 2 andaman. 3 jespersen.

التبسيط والنماذج الصحفية

التبسيط والنماذج الصحفية: والتبسيط سمة هامة من سمات الفن الصحفي الذي يعرض الأحداث والأفكار منتزعة من سياقها كما لو كانت وحدات مستقلة. ويلجأ الصحفيون إلى التركيز أحيانا نتيجة لضغوط الحيز الضيق في الصحف والمطبوعات. ويلعب عامل الوقت دورا رئيسيا في تغطية الأخبار وتحريرها وإخراجها. ففي الصحافة لا بد من مراعاة موعد الطبع ومواعيد القطارات ووسائل المواصلات الأخرى للتوزيع. وقد رأينا أن الفن الصحفي يمتاز بالدورية والإيقاع، فهو يروي حدث بعينه في إطار زمن محدد. والزمن المميز على هذا النحو ليس هو الزمن الطبيعي للإنسان العادي؛ لأنه نظرا لدورية المطبوع يكون هذا الزمن عاملا موضوعيا خاضعا لظروف خارجة عن الظروف النفسية للحدث تتحكم فيه على الرغم من إمكان إدخالها ضمنه. فالصحفي فنان تحكمه دورية الصحفية وحدودها الزمنية، كما أنه مقيد بالاهتمام الإنساني لجمهوره. وهكذا نجد أن ظروف المرسل والمستقبل جميعا تجعل التبسيط أهم سمات الفن الصحفي، نظرا لقيود الحيز والزمن والدورية بالنسبة للمرسل، وحدود الفهم والتلقي بالنسبة للمستقبل أو الجمهور. وعلى هذا الأساس نجد أن وسائل الفن الصحفي تعرض مواد مبسطة يسهل على الجماهير استيعابها وفهمها، كما أنها تتمشى مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده. وينتج عن ذلك أن ما يعرض على الناس ليس هو الحقيقة الكاملة وإنما هو الحقيقة الواقعية المبسطة. ولا بد أن تكون المادة المعروضة متفقة مع الثقافة الشائعة، والمعتقدات الدينية، والمعايير الإخلاقية؛ لأن الفنان الصحفي مرتبط بهذه المعايير. وقد سبق القول أن اللغة الصحفية ترمي إلى النمذجة والتبسيط؛ لأن العقلية الجماهيرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج والتجسيد، فهي لا تتخذ سبيل التحليل الموضوعي والدراسة العلمية للوصول إلى الحقائق. وهنا تظهر عملية الرموز المجسدة أو الأنماط أو النماذج، التي تقوم مقام التجربة الفردية أو الجماعية، فيصبح النمط نموذجا جامدا لشخص أو فكرة. وهكذا يلجأ العقل إلى خلق الرموز كعملية حتمية لتنظيم التجارب الإنسانية العديدة. حقيقة إن هناك نمذجة عن طريق الفلسفة والعلم والفن، غير أن هذه نمذجة تقصد لذاتها، أما النمذجة الصحفية فهي تقصد لأسباب خارجية أهمها التبسيط للجماهير. وتعتبر اللغة هي الوسيلة الرئيسية لنقل المعرفة في المجتمع

الإنساني، وهي قادرة على تصوير العالم من زاوية معينة، وهنا يكمن الفرق بين المستوى العلمي للغة باصطلاحاته الفنية المجردة، والمستوى العملي بواقعيته وعموميته. وتقوم هذه النماذج على أساس انتزاع بعض الصفات، وتحريرها من سياقها العام، ثم إبرازها وإلقاء الضوء عليها، مع إعطاء مغزى لها يميزها وييسر فهمها. ومن الطبيعي أن تقوم هذه العملية على أساس التضحية بالتفاصيل، وعدم الاحتفاظ بالنسب الحقيقية في الشخصية الأصلية، من أجل خلق النموذج المبسط الذي يفهمه الناس. فالعامل والفلاح والطالب والمدير والزنجي واليهودي والأمريكي والأوروبي واللص والشرير كل هذه نماذج بشرية تقدم في بضع خطوط أو لمسات شديدة الاختزال تبعد عن الحقيقة الكاملة بتفاصيلها الكثيرة المتشعبة. وما أشبه فن النماذج بفن الكاريكاتور! إن البطل عادة وسيما مديد القامة، متناسق الأعضاء، بينما يظهر الشرير قبيح الصورة، منعدم الاتساق في قسماته وأعضاء جسمه، وقد يضيف الوشم أو ندبة الجرح القديم إلى نموذج الشخصية الإجرامية ما يسهل تمييزها. لا يقتصر أمر النماذج على الشخصيات بل يتجاوزها إلى الأفكار والعقائد والمذاهب. فهناك أفكار ثابتة عن الشيوعية أو البرجوازية أو الرأسمالية. وتتلقى الجماهير ثقافتها ومعلوماتها من خلال هذه النماذج. وتتضح خطورة هذه النماذج عند المبالغة في التبسيط. فليس غربيا أن نجد الزنوج كسالى والعرب متخلفين والإيطاليين مجرمين واليهود ماكرين خبثاء والأيرلنديين مخرفين حالمين، والرجل الأبيض تقدميا عظيما، والرجل الملون مهضوم الحق حقيرا، فضلا عن معاني الحرية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية التي تتردد كذلك بنفس البساطة النمطية، التجسيد السريع برسم خطوط عاجلة.

لغة الأدب ولغة الصحافة

لغة الأدب ولغة الصحافة: وخلاصة القول أن العالم والفنان يعبران عن حقيقة واحدة بطريقتين مختلفتين: الأول يعبر بطريقة نظرية والآخر يعبر بطريقة جمالية، وهذان المظهران من مظاهر الحقيقة ليسا مظهرا واحدا، فكلمة "أحمر" أو "أزرق" أو "أصفر" على سبيل المثال تستخدم كإدراك افتراضي وكإدراك وهمي في كلا المستويين العلمي والجمالي، أي أن هذه الكلمة تستخدم فعليا بمستويين مختلفين في المعنى. ففي الحالة الأولى تعني هذه الكلمة عدد افتراضي من أطوال الموجات غير المنظورة في النظرية الكهربائية المغناطيسية، وإن كان من السخف حقا أن نقول -على سبيل المثال: إن طول الموجة "أزرق". أو أن نؤكد بلا معنى أن لهذه الكهربائيات صوتا ما. أما الحالة الثانية فإن هذه الكلمة تعني للمصور أو الرسام الإحساس الفوري باللون، وهنا يدرك الفنان اللون إدراكا مباشرا، دون ما أشارة إلى المغزى النفعي للون أو الاصطلاحي له. فإذا عرجنا على المستوى الثالث للغة بعد المستوى الجمالي والمستوى النظري وهو مستوى لغة الحياة اليومية، فإننا نواجه المعبر الفعلي عن هذا المستوى، ألا وهو الفن الصحفي. والصحافة تضم أنواعا متباينة من اللغة كلغة التجارة، واللغة الرسمية، ولغة الدين، واللغة العامية الخاصة بالعمال والفلاحين، واللغة الدارجة ... إلخ ولكن لغة الفن الصحفي هي لغة جديدة، تقرب من لغة المحادثة المثقفة، وهي ليست لغة مباشرة كلغة الأدب، التي يصور بها الأديب ما يراه ويرسمه بقلمه؛ لأن لغة الفن الصحفي هي لغة المغزى والمعنى والأهمية. حقيقة أن "نقاء" لغة الأدب، حين يعبر الفنان عن اللون باللون، وعن النغمة بالنغمة وعن الشكل بالشكل، قد تظهر في الصحافة أحيانا، كما أن لغة العلم قد تظهر في بعض الصحف، ولكن لغة الفن الصحفي الأصيل، القائمة على الوظيفية الهادفة والوضوح والإشراق، اللغة العملية، تكاد تكون فنا تطبيقيا قائما بذاته. فالفن الصحفي تعبير اجتماعي شامل، ولغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافي من علم وفن وموسيقى وفن تشكيلي ... إلخ، هذا إلى جانب السياسة والتجارة والاقتصاد والموضوعات العامة. إن الفن الصحفي فن تطبيقي يهدف إلى الاتصال بالناس ونقل المعاني والأفكار إليهم، فهو أداة وظيفية وليس فنا جماليا يقصد لذاته. وسنرى أن للفن الصحفي وظائف محدودة هي: الإعلام والتفسير والتوجيه والتشويق والإمتاع والتنشئة الاجتماعية. ومع ذلك فلغة الفن الصحفي تختلف عن كل هذه جميعا لأنها تتضمنها كلها ولا تقتصر على أي منها؛ لأن القراء ليسوا قطاعا واحدا من الناس ولكنهم في الغالب كل الناس، ولأن الصحفي يكتب لكل الناس في كل الأوقات -وليس لجزء من الناس في كل الأوقات أو لكل الناس بعضا من الوقت- فإنه يجب عليه أن يجاهد لتحقيق هدفه بوجه عام وهو جعل رسالته مفهومة لدى الجميع.

قارئ الصحيفة وقارئ الكتاب

قارئ الصحيفة وقارئ الكتاب: إن هدف الأدب جمالي في حد ذاته، فإن أولئك الذين يكتبون القصة أو الرواية أو المسرحية أو الشعر أو النثر، إنما يخلقون آفاقا جديدة وشخصيات افتراضية بأسلوب يمس حاسة الجمال لدى القراء. أما الصحفيون فلا يمكنهم أن يفعلوا بعض هذه الأشياء، فإنهم -على سبيل المثال- لا يصورون ما يعتبر هروبا من الواقع في حقبة سحيقة أو وهمية. وهناك معيار مؤكد يحكم اختيار موضوعاتهم، فيجب عليهم أن يكتبوا حول ما هو في متناول اليد في ذات الزمان والمكان، ومدى ما يمكن عمله في هذا المجال، مشروطا -بالطبع- بأهمية النتيجة التي تعطيها الفكرة أو الحادث أو الموقف وبسياسة مؤسساتهم الصحفية، وهذا ما عبر عنه الدكتور كامبل بقوله: "إنهم بشبهون العلماء الذين يعملون في معمل، لكن معملهم هو العالم كله، وتجربتهم هي الحياة ذاتها"1. إن لغة الفن الصحفي لا تهدف إلى مناشدة حاسة الجمال لدى القراء، بل على العكس من ذلك، تتضمن اتصالا ناجحا أساسه الوضوح والسهولة. وقد قال "هربرت سبنسر"2 ذات مرة: "إن لدى القارئ أو المستمع في أي لحظة من اللحظات طاقة ذهنية محدودة يمكن استغلالها لتعرف وتفسير الرموز المعروضة

_ 1 R. E. WOLSELEY AND L. R. CAMPBELL, EXPLORING JOURNALISM "1957" P.11. 2 HEBERT SPENEER, THE PHILOSOPHY OF STYLE "1865".

عليه والتي تتطلب جزءا من طاقته الذهنية، أما ترتيب وتنسيق الصور المعروضة عليه فإنها تتطلب جزءا أكبر من المقدرة. والجزء الباقي يمكن تخصيصه للفكرة ذاتها، أما الطاقة الذهنية الأقل حيوية فهي لفهم هذه الفكرة. ويمكننا بالاستعارة تشبيه اللغة بأنها سيارة أن حافلة الأفكار التي يكون من الطبيعي أن الاحتكاك والقصور الذاتي في كل أحوالها يحدان من كفاءتها، والهدف الأساسي في الموضوع -وهو ليس الهدف الوحيد- أن نقلل من هذا الاحتكاك والقصور إلى أقل درجة ممكنة". إن الفن الصحفي هو فن التغلب على عقبات الفهم ويسر القراءة. ولما كان النص في الصحيفة هو العماد أو الأساس، فيمكن تشبيه الصحفي بمرسل الشقرة والقارئ بالمستقبل، وهذه هي عملية الاتصال التي ينبغي أن تتم بأقل ما يمكن من تداخل، وبطريقة اقتصادية ناجحة. وعلى الصحفي أن يختار رموزه -كلماته وصوره ورسومه وعناوينه- ويقدمها بعناية تامة، وأن يعرف مدى سرعة القراءة لدى القارئ، ومدى التركيز على الكلمات أو مجموعات الكلمات ومدى ما يستوعب في ذاكرته من المعاني المؤقتة حتى ينتهي من قراءة الجملة، وهي في الواقع عملية نشطة يشترك فيها القارئ مع الكاتب لإدراك الصور وتطويرها، فكل كلمة أو كل مجموعة من الكلمات يضمنها في عبارات نصه يجب أن تكون مفهومة من عامة القراء، كما يجب أن تعرض بطريقة جذابة تحقق يسر القراءة، وهو ما يعرف بفن الإخراج الصحفي. أما فنون التورية وازدواج المعاني أو الهالات الانفعالية حول الألفاظ، وغيرها من فنون الأدب التي تؤدي إلى تداعي المعاني وخاصة في الشعر، فهي بعيدة تماما عن الفن الصحفي؛ لأنها تقطع تيار الاتصال الذي يجب أن يظل مجراه صافيا نميرا. والواقع أن موقف قارئ الصحيفة يختلف عن موقف قارئ الكتاب. فبينما هو يقرأ الصحيفة بانتباه غير مركز كما يفعل في الحديقة أو القطار أو حتى في الأتوبيس وأثناء تناول الإفطار أو الغذاء، فإن قارئ الكتاب قد يكرس انتباهه ووقته للتركيز على ما يقرأ. ومن هنا كانت ضرورة عرض الأخبار بطريقة صحفية فنية واضحة متلاحمة جذابة تطغى على كل تداخل، ولا يجد القارئ صعوبة في متابعتها. ويجب على الصحفي أن يضع في اعتباره التصميم محدود المساحة للعمود في الصحيفة والحروف الصغيرة التي تطبع بها وتكون من الصعوبة قراءتها -أحيانا- وخاصة لضعاف البصر. وهذه العوامل تهم الصحفي إلى حد كبير؛ إذ عليه أن يختار كلماته ويضعها في جمل وفقرات تساعد على استبعاد تداعي المعاني أو ازدواجها.

نظرية فليش في التجريد

نظرية فليش في التجريد: وليس على الصحفي أن يؤثر على القارئ بثروة كلماته وجمله، بل على العكس من ذلك، فإن عليه أن يختار كلماته لتناسب القارئ بوجه عام. ومن ثم فإن الكلمات الأكثر شيوعا تستخدم بدلا من الكلمات النادرة الاستعمال. وقد قام ثورنديك ولورج1 بدراسات لاستكشاف الكلمات الشائعة والأكثر شيوعا. وقد توصلا إلى أن كل ألف كلمة من الكلمات الشائعة تمثل نسبة 80% من الكلمات الإجمالية التي وجداها في بحثهما في الكتب والمجلات، أما التسعة آلاف كلمة الشائعة التي تليها فتمثل نسبة 18% من الكلمات الإجمالية. أي أنه يمكن القول بأن العشرة آلاف كلمة الشائعة تمثل 98% من مجموع الكلمات المستخدمة في الصحف والمجلات. ويفضل الصحفي أن تكون كلماته خالية من ازدواج المعنى والتورية والغموض. وقد صور لنا كوزبكسكي ومن بعده هاياكاوا2 عملية تجريد اللغة من عوامل الغموض والتورية، ومحاولة التخصيص فتحدثا عن "سلم التجريد" وهو السلم الذي يوضح مدى اختلاف مستويات التجريد. وعلى سبيل المثال، فإن السلم يرتفع صعودا على هذا النسق:

_ 1 E. L. THORNDIKE AND IRVING LORGE. 2 I. HAYAKAWA, LANGUAGE IN THOUGHT AND ACTION "1949".

أ- أن كلمة "بيسي" وهو اسم البقرة المحددة أو البقرة "1" يجعلها تختلف عن البقرة "2" أو البقرة "3" إلخ. ب- كلمة البقرة. ج- كلمة "ماشية" التي تصنف البقرة "بيسي" مع سائر الحيوانات الأخرى التي تشاركها نفس الخصائص. د- كلمة "الموجودات" أو "الأوصول" أو "الممتلكات" الزراعية التي تصنف "بيسي" مع غيرها مما يشترك معها في هذه الخصائص. هـ- كلمة "الأصول". و كلمة "الثروة" وهي أعلى مستويات التجريد في هذا السلم. وقد اكتشف الدكتور رودلف فليش معادلة أو صيغة لقياس يسر القراءة أو ما اصطلح عليه بكلمة "الانقرائية"، كما اكتشف معادلة أخرى لقياس "الجاذبية الإنسانية أو الاهتمام الإنساني". وقد بنى معادلته الأولى عن الانقرائية على أساسين: الأول: متوسط طول الجملة. الثاني: متوسط طول الكلمة محسوبا بالمقاطع. أما معادلة الاهتمام الإنساني أو الجاذبية فهي مبنية على أساسين هما: أولا: متوسط النسبة المئوية لعدد الكلمات الشخصية، وهي جميع الأسماء المعبرة عن الجنسين الطبيعيين، وجميع الضمائر فيما عدا الضمائر المحايدة، وكلمة الناس المستخدمة مع أفعال الجمع، وكذلك كلمة القوم أو الأهل. ثانيا: متوسط النسبة المئوية للجمل الشخصية، وهي جمل المحادثة المنطوقة التي تقع بين علامات التنصيص أو الاقتباس، وكذلك الجمل المنتهية بعلامات الاستفهام أو علامات التعجب ومنها جمل الرجاء والطلب والأمر، وكذلك الجمل الناقصة على أساس النحو اللغوي ولكن يمكن للقارئ فهمها من سياق الحديث. ويضيف الدكتور فليش أن عامل الاجتذاب الإنساني أو الاهتمام الإنساني يساعد على يسر الفهم، ومن فوائده العظمى حث القارئ وتشويقه للقراءة. ويبدأ مقياس فليش من الصفر إلى المائة بالنسبة لكل من الانقرائية والجاذبية. ويبدأ مقياس الانقرائية من السهل إلى المتوسط إلى الصعب للغاية، كما يبدأ مقياس الجاذبية من الممل إلى المشوق إلى الدرامي.

تطبيقات معادلة فليش

تطبيقات معادلة فليش: ويفسر لنا فليش كيفية تطبيق معادلته على النحو التالي1: الخطوة الأولى: إذا أردت أن تختبر قطعة كبيرة من نص معين، فيحسن استخدام العينات، ويمكن أخذ من ثلاث إلى خمس فقرات من المقال ومن 25 إلى 30 فقرة من الكتاب. ولا ينبغي انتفاء عينات مثالية أو ممتازة. ويمكن أخذ عينات منتظمة بمعنى اختيار الفقرة 3 ثم 6 ثم 9 وهكذا.. بحيث تبدأ العينة من بداية الفقرة. الخطوة الثانية: تحصى الكلمات في القطعة المختارة كلها، وفي حالة العينات تحصى الكلمات حتى المائة. مع ملاحظة أن حروف الاختصار، وعلامات الوصل أو الشرطة تعد كلمة، كما تحسب كلمات جميع الأرقام والحروف الواقعة بين مسافات. الخطوة الثالثة: تحصى المقاطع في المائة كلمة المختارة. الخطوة الرابعة: تحصى الجمل على أساس وحدات الفكر، لا علامات الوقف.

_ 1 IMAM I., THE LANGUAGE OF JOURNALISM "1969". P.20.

الخطوة الخامسة: تحصى عدد الكلمات الشخصية في كل مائة كلمة. الخطوة السادسة: تحصى الجمل الشخصية بالنسبة لكل مائة جملة. الخطوة السابعة: استخلص يسر القراءة "ي ق" بإحصاء عدد المقاطع في مائة كلمة أي طول الكلمات "ط ك" ومتوسط طول الجمل "ط ج" طبقا للمعادلة الآتية: ي ق "يسر القراءة"= 206.835-846 ط ك-1.015 ط ج. الخطوة الثامنة: استخلص درجة الجاذبية الإنسانية "ج أ" بإدراج النسبة المئوية للكلمات الشخصية "ك ش" والنسبة المئوية للجمل الشخصية "ج ش" طبقا للمعادلة الآتية: ج أ "الجاذبية الإنسانية"= 3.645 ك ش + 0.314 ج ش. وقاعدة الجاذبية الإنسانية سوف تضع النص على المقياس الذي يبدأ من أقصى الممل في ناحية إلى أقصى الدراما في الناحية الأخرى مع وجود عنصر التشويق والتشويق للغاية بينهما. وفيما يلي جدول فليش للجاذبية الإنسانية:

ومن الأمثلة الطريفة على الفرق بين لغة الفن الصحفي ولغة الأدب عنصر التكرار، الذي يعتبر عاملا هاما للقضاء على الغموض وازدواج المعنى. فالصحفي لا يتردد في تكرار كلمات معينة بغرض الوضوح وتبديد كل غموض محتمل. وقد حذر "فولر" من التباين المنسجم الذي يستخدم الكلمات المترادفة لكي يتجنب تكرار الكلمة ذاتها. ومثال ذلك: أن المجموع الكلي "للملاك" الزراعيين وهو 25.000 منهم 800 "لديهم" أكثر من 600 فدان، 1600 "يمتلكون" ما بين 300 و600 فدان، بينما 116.000 "عندهم" أقل من سبعة أفدنة. بل إن الصحفي أحيانا بفضل تكرار الاسم بدلا من الضمير لأن قارئ الصحيفة ليس لديه نفس المقدرة الاستيعابية لقارئ الكتاب. وقد أثبت جيمس مارلو الصحفي بوكالة أسوشيتدبرس الأمريكية للأنباء في دراسة له أن التكرار كثيرا ما يؤدي إلى يسر القراءة. ولكن التحدي الذي يواجهه الكاتب الصحفي

وهو كيف يكون التكرار مفيدا دون أن يكون مملا. ويعتبر الحشو اللفظي، والأطناب الذي لا داعي له، ثرثرة مملة. ويضرب ممثلا لهذه العبارة بتكرارها العقيم "البرميل الخالي الذي لا يوجد شيء بداخله". التبسيط -إذن- والسلاسة والوضوح، والاقتراب الشديد من لغة الحديث الواقعي الحي المثقف، دون إسفاف أو هبوط إلى العامية، واستخدام اللغة العملية التي تعبر عن الحياة والحركة والعمل والإنجاز هي اللغة الصحفية المؤثرة حقا. ومن الطريف أن هذه اللغة الحية هي نفس اللغة التي اقتربت من الأدب عند الجاحظ، وعند شكسبير نفسه، وكثيرا ما كان حاسدو شكسبير يرمونه بالسوقية؛ لأنهم عاجزون عن اصطناع أسلوبه الرائع، السهل الممتنع، القوي العبر، المتدفق في حيوية وإيقاع، والمليء بالتشبيهات والاستعارات والمجازات التي تزيد النص جلاء ووضوحا وبهاء وإشراقا. وقد كانت عظمة عصر النهضة أو عصر الإحياء كامنة في إحياء لغة الشعب وتطويرها وتقريبها من لغة الأدب، والارتفاع بها لكي تعبر عن العلم والفن والثقافة جميعا.

الباب الثالث: وظائف الفن الصحفي

الباب الثالث: وظائف الفن الصحفي مدخل ... الباب الثالث: وظائف الفن الصحفي رأينا أن الفن الصحفي فن تطبيقي وليس فنا تجريديا. والفن التطبيقي -على العكس من الفن الجميل- لا يقصد لذاته، وإنما يهدف إلى تحقيق غايات معينة، وأن يؤدي وظائف محددة. والفن الصحفي له ست وظائف رئيسية هي: الإخبار والإعلام، التفسير أو الشرح، والتوجيه أو الإرشاد، والتسلية أو الإمتاع، والتسويق أو الإعلان، والتعليم أو التنشئة الاجتماعية. ويقصد بالإخبار أو الإعلام تزويد القراء بالأخبار الداخلية والخارجية التي تهمهم، وتهم بلادهم بصفة عامة. ويتعين على الصحافة أن تقدم القدر الكافي من هذه المعلومات حتى يستطيع الناس أن يكونوا رأيا عاما سليما في شئونهم الداخلية والخارجية، وبذلك يستطيعون تحقيق الديمقراطية السليمة. ومن ثم فإنه ينبغي عرض الأخبار بالطرق المبسطة، والأشكال الميسرة، حتى يسهل على القراء متابعتها والاهتمام بها. ويتفق العلماء على أن نشر الأخبار لا بد وأن يتصف بالموضوعية والصدق والأمانة والدقة، ولا بد وأن تكون الأخبار حديثة الوقوع ومهمة للجماهير وذات مغزى بالنسبة لهم، ولا بأس من أن تتصف الأخبار بشيء من الإثارة والروعة والطرافة والضخامة والتوافق مع سياسة الصحيفة. ومع ذلك، فلا بد أن تكون الأخبار محايدة ومنزهة عن الهوى أو الغرض. إن الصحيفة حرة في التعبير عن رأيها، ولكنها ليست حرة بالمرة في أن تعبث بالأخبار، أو تحجبها عن الرأي العام. وهناك مثل مشهور بين الصحفيين يقول إن الرأي حر، ولكن الخبر

مقدس في موضوعيته. ومهما كانت الظروف والأحوال، فلا ينبغي أن تنشر أخبار كاذبة أو ناقصة أو ملفقة أو محرفة سواء بالنسبة للداخل أو الخارج. غير أن هناك مجتمعات لا تؤمن بهذه الاتجاهات. لقد ذهب البعض إلى القول بأن الحقيقة هي ذلك الشيء الذي يخدم مصالحنا! فكل شيء لا يخدم المصلحة غير جدير بالنشر حتى لو كان صادقا وحقيقيا. إن بعض الدول الشيوعية لا تنشر أخبار عن الغرب، إذا ما أحست أن هذه الأخبار -رغم صدقها وموضوعيتها- لا تخدم سياسة الدولة. فالصين الشعبية مثلا لا تذيع أخبار الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة إنجازاتها العلمية في الفضاء، والهبوط على سطح القمر؛ لأنها ترى أن ذلك قد ينطوي على آثار سيئة بالنسبة للرأي العام الصيني. ولا شك أن موضوعية الأخبار تتوقف إلى حد كبير على لون الجريدة وسياستها في التحرير. فصحف الرأي الحزبية تعمد إلى تلوين الأخبار لكي تبدو متفقة مع لونها السياسي، ومتمشية مع مبادئها، ومحققة لأغراضها وغاياتها. وقد تشوه هذه الصحف الحقيقة في بعض الأحوال أو تطمس معالمها في البعض الآخر، للتهوين من شأن الأعمال التي قام بها خصومها السياسيون. وإذا كانت صحف الرأي الحزبية تعاني من تلوين الأخبار من زاويتها الحزبية، فإن الصحف التجارية المنتشرة في الغرب، تعاني هي الأخرى من ضغظ المعلنين عليها، وفرض بعض الاتجاهات على سياستها. وتسير الصحف التجارية عادة مع تيار الأغلبية، وقد تنزلق إلى نفاق الجماهير، والهبوط إلى مستوى الأخبار السطحية التافهة، أو أخبار الجريمة والعنف، ورغبة منها في رفع التوزيع، واجتذاب أكبر عدد ممكن من القراء. وكثيرا ما تتناقض هذه الصحف مع نفسها فتهاجم اليوم من كانت تمدحه بالأمس؛ لأنها تقف دائما إلى جانب الأقوى. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الصحافة تعتمد اعتمادا كبيرا في استقاء الأخبار على وكالات الأنباء العالمية، وأن هذه الوكالات تخضع للسياسة العليا والمطامع الاستعمارية للحكومات، وهي تسخر عادة لأغراض وطنية ضيقة، فإن المشكلة تبدو معقدة بالنسبة للأخبار الصحفية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن حرية تداول الأخبار ليست مكفولة في كل أنحاء العالم، وأن الرقابة كثيرا ما تفرض على البرقيات والمكالمات التليفونية والرسائل الصحفية لأغراض سياسية، كما تفرض الضرائب الباهظة على الأعمال الصحفية، وتقيد حرية انتقال الصحفيين والمراسلين الأجانب، فإن أبعاد الوطنية الأخبارية للصحافة تبدو في غاية التشابك والصعوبة.

الوظيفة الأخبارية أو الإعلامية

الوظيفة الأخبارية أو الإعلامية: ولكن الحقيقة أن وظيفة الأخبار من الوظائف الأساسية التي لا يمكن للصحافة أن تقوم لها قائمة بدونها. فأظهر صفة من صفات الإنسان الاجتماعية هي حب الاستطلاع لمعرفة الأنباء والاطمئنان إلى البيئة. ومن الثابت أن رغبات الفرد الأولية وحاجاته إلى الطعام والمأوى والجنس ترتبط برغبات أخرى اجتماعية كالتعرف إلى الأشخاص الآخرين، واختبار البيئة، وجمع المعلومات المفيدة عن الطبيعة والإنسان والحيوان. وهذه هي أهم سمة من سمات الإنسانية التي تساعد الفرد على التكيف مع البيئة والانسجام مع غيره من الناس الذين يعيشون معه؛ لأن هذا التكيف هو الدليل على الصحة النفسية والسلامة الاجتماعية. ولا شك أن المجتمع البدائي يحمل في طياته بذور وظيفة المخبر الصحفي فمن الثابت أن الإنسان البدائي كان يحكي للداته أخبار مغامراته في الصيد، ويروي لأقرانه أنباء انتصاراته وخبراته المختلفة في الحرب والدفاع عن النفس. وهناك وثائق تاريخية منها ما هو محفور في كهوف الإنسان البدائي القديم، ومنها ما هو منقوش على جدران المعابد، كتلك التي كان يأمر بها الملك رمسيس الثاني أن تدون على حوائط المعابد بعد كل معركة ينتصر فيها، ومنها ما هو مدون على أوراق البردي.

وقد اكتشف فلندرز بترى1 أوراق بردي مصرية يرجع تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وتتضح فيها الحاسة الصحفية لإثارة الميول عند القراء، وجذب انتباههم وتحريك الشوق فيهم. ومن الوثائق الهامة في وسائل الإعلام لائحة منقوشة على واجهة معبد هيبيس تضمنت القانون الذي يجب أن يرعاه الحاكم والمحكوم ضمانا لحسن سير العدالة وأيضا لقواعد جباية الأموال وإنذارا بالعقاب عن الجرائم المتفشية وأهمها الرشوة والبلاغ الكاذب. ولعل الصورة الأولى لإذاعة الأخبار منسوخة باليد في أوروبا قد عرفت عند الرومان فيما كان يعلق من تعليمات رسمية بشكل نشرات حكومية تبقى معلقة طول اليوم في الميادين الهامة لتبين للناس ما يجري من أحداث. ولما كانت هذه النشرات المنسوخة تصور يوميا فقد سميت بالوقائع اليومية2 كما سمي كتابها بالوقائعيين3. ويبدو أن هذه الوقائع الرسمية المنسوخة التي أخذت تنتشر في روما على عهد يوليوس قيصر سنة 59 قبل الميلاد كان يمكن الحصول على نسخ منها لقراءتها في البيوت بعيدا عن الميادين العامة التي كانت تلصق فيها هذه النشرات عند مفترق الطرق. فقد أشار جيوفينال إلى أن سيدة كانت تمضي الصباح في قراءة الصحيفة في بيتها4. واستغل يوليوس قيصر الوقائع الرسمية في تسجيل نشاط مجلس الشيوخ وعرض أعمال أعضائه وأقوالهم على الجمهور. وقد أراد يوليوس قيصر بهذا العمل أن يسلط الأضواء على تصرفات أعضاء المجلس حتى يسلكوا سبيلا يليق بهم ويتناسب مع النشر والإذاعة على الناس، وبهذه الطريقة يحرز المحسن ثناءه ويلقى المسيء جزاءه. وما لبثت الوقائع الرسمية الرومانية أن أصبحت سجلا حافلا بأخبار المحاكم والحروب وأنباء الزواج والوفيات والمواليد والطلاق والقتل والجريمة. كما اهتمت برواية الغرائب والعجائب والشذوذ. ومع أن الصين قد عرفت الصحافة المطبوعة في القرن السابع الميلادي على عهد أسرة تانج5، فلم تظهر الصحافة في أوروبا إلا في القرن السادس عشر ولم يبدأ انتشارها إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

_ 1 w. flinders petrie. 2 acta diurna. 3 actuarii. 4 la grande encyclopedie, vol. 27 p.384 5 TANG.

الخبر المنسوخ والخبر المطبوع

الخبر المنسوخ والخبر المطبوع: ويختلف المؤرخون فيما بينهم حول نشأة الخبر الخطوط ويعتبر البعض الأمر الصادر في إنجلترا سنة 1275 بتنظيم مهنة الأخبار وثيقة تثبت بداية هذا النشاط الأخباري. وقد كانت الأخبار حرفة يقصد من ورائها إبلاغ الملوك والأمراء والبنوك بالأخبار السياسية، وأحاطة التجار أيضا بالأخبار الاقتصادية. وقد كانت البندقية تعج بالقادمين من شتى بقاع العالم، من البحارة والمغامرين والرحالة، الذين كانوا يجتمعون لرواية أخبارهم ومغامراتهم، فكان يتلقفها المخبرون فيذيعونها على الناس. على أن أشهر هؤلاء المخبرين جميعا إخوان فوجرز الذين اتخذوا من مدينة أرجزبرج مقرا لهم، وكانت لهم مكاتب أخبارية فرعية في لندن وباريس وغيرهما من العواصم الأوروبية ومدنها الكبرى. وكان إخوان فوجرز متخصصين في أعمال المصارف فنشروا إلى جانب الأخبار السياسية والحربية والاجتماعية أخبارا تجارية ومالية ذات قيمة كبيرة للتجار ورجال المال والأعمال. والحق أن جهود إخوان فوجرز في القرن السادس عشر تنم عن جرأة بالغة ودقة فائقة حتى أصبحت رسائلهم من الأسس الجوهرية التي لا يستغني عنها رجال السياسة والحكم والمال. ولا يزال بعض هذه الرسائل المنسوخة الهامة محفوظا بالمكتبة القومية في فيينا1

_ 1 R. E. WOLSELEY & L. R. CAMPBELL, EXPLORING JOURNALISM "1949" P.5.

وقد يبدو غريبا أن يستمر نشاط الرسائل المنسوخة حتى مطلع القرن الثامن عشر أي بعد اختراع الطباعة بثلاثة قرون. ولكن الحقيقة أن هذه الرسائل كانت تسد فراغا كبيرا لا يمكن أن تسده الصحف المطبوعة، وذلك لأن القيود الحكومية والرقابة الصحفية وقوانين النشر المختلفة كانت تنصب على المطبوعات فقط مما جعل لهذه الرسائل المنسوخة أهمية كبرى وخاصة عندما تكون الحكومة شديدة في رقابتها أو عندما تصادر المطبوعات أو تعطل. ولا شك أن إنشاء الخدمات البريدية في القرن الخامس عشر كان من أهم العوامل التي ساعدت على رواج الرسائل الأخبارية المنسوخة، غير أنه ينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه الرسائل لم تكن ذات صفة شعبية كما يتوهم بعض المؤرخين، والحقيقة أنها كانت مقصورة على طبقة بعينها من رجال البلاط والسياسة وأثرياء التجار وذلك لارتفاع قيمة الاشتراك فيها حتى بلغ حوالي خمسين جنيها بعملتنا الحديثة. ومن ناحية أخرى كان عدد المتعلمين أنفسهم قليلا، فضلا عن أن الخطابات المنسوخة لا يمكن انتشارها على نطاق واسع لقلة عدد ما ينتج منها نظرا لصعوبة عملية النسخ وبطئها. ومع تقدم الصحافة المطبوعة، لم يستطع الخبر المنسوخ أن ينافس الخبر المطبوع، وخاصة بعد صدور الصحف الدورية بأنبائها المنيرة والخرافية أحيانا مثل أخبار مقاطعتي إسكس وسافوك في إنجلترا "حيث أمطرت السماء قمحا على مسافة بين الستة والسبعة أميال". ومن الطريف أن هذه الصحف المطبوعة كانت تحتوي على خبر واحد مثير بتفاصيل كثيرة ومبالغة. كما أن أسلوب الكتابة كان يتخذ شكل الأغنية أو الشعر ذي الوزن القافية، مصحوبا أحيانا ببعض الرسوم التي كانت تحفر على قوالب خشبية. وقد كانت أخبار العالم الجديد واكتشاف أمريكا تروى في أوروبا بطريقة مليئة بالتهويل والمبالغة. وتنافست صحف إيطاليا والنمسا وألمانيا وهولندا على نشر هذه الأخبار التي كانت تترجم إلى صحف أوروبية أخرى وبالعكس.

وظيفة الشرح والتفسير

وظيفة الشرح والتفسير: وإذا كانت الوظيفة الإعلامية للفن الصحفي هي تقديم الأخبار للجماهير بوضوح وصراحة ودقة وموضوعية مع ذكر مصادر هذه الأخبار، والالتزام بمعايير الصدق والأمانة والنزاهة، فهناك وظيفة أخرى لا تقل أهمية وهي وظيفة الشرح والتفسير والتبسيط. ونبادر إلى القول بأن التفسير والشرح ليس من قبيل التحريف أو الحذف أو إبداء الرأي، بل إن هذه الوظيفة قد نشأت حديثا بعد أن تعقد المجتمع، وازدادت تخصصاته، وترامت أبعاده، وأصبح معظم ما يجري فيه غير مفهوم للإنسان العادي، مما يتطلب من الصحفي شرحا لمغزاه، وتفسيرا لطبيعته. فالصحافة الحديثة مسئولة عن تقديم المعلومات إلى الجماهير بصورة مبسطة مستساغة ومألوفة للقارئ العادي، وخالية من التفاصيل العلمية المعقدة. ولما كان الأمل في تكوين الرأي العام مرتبطا ارتباطا وثيقا بما تقدمه الصحافة من معلومات، وما تزود به قراءها من بيانات وأخبار، فقد أصبح من الضروري بيان طبيعة الحقائق والمعلومات، مع الاستعانة بالصور والعناوين وشتى الفنون الطباعية الصحفية. وفي رأينا، أن العمود الفقري للفن الصحفي الحديث هو عنصر التبسيط والتجسيد والتصوير، الذي يحاول تقديم أعقد المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية باصطلاحات الإنسان العادي. وقد رأينا في الفصل السابق أن الفن الصحفي قد طور لغة المحادثة العادية الشخصية لكي يعبر عن المفاهيم الحضارية الحديثة، ولكي يضمن مشاركة جماهير الناس في مناقشتها. إن الصحفي الحديث مسئول عن جعل كافة الحقائق والمعلومات ذات القيمة الحضارية في متناول أفهام كل الناس. وقد رأينا كلما ازداد النمو الفني والصناعي والعلمي لمجتمع ما، فإنه يصبح غاية في التعقيد والتجريد، وبعيدا كل البعد عن التجربة الفردية المباشرة. وهنا تظهر وظيفة الصحفي الناجح في رأب الصدع، وسد الهوة السحيقة بين الخبير والإنسان العادي، وبين

المتخصص ورجل الشارع، وذلك مع الاستعانة بكل الوسائل والفنون الصحفية التي تخلص الأحداث من تجردها، والأخبار من تعقدها، والمعلومات من صعوبتها. إن المجتمع الإنساني الحديث أصبح ذا بعد كبير، بل إنه قد أصبح في الحقيقة متعدد الأبعاد. وقد لاحظت المؤسسات الاحتماعية والسياسية والعلمية أن نشر الأخبار مرتبط بنجاح رسالتها، ولكن هذا النشر لا بد وأن يكون مقترنا بالتبسيط والسلاسة حتى يفهمه الناس. ولا بد من أن يستخدم هنا خبراء في التشخيص والتجسيد والشرح والتفسير، وتحويل المصطلحات العلمية والفنية إلى مصطلحات الخبرة العادية. والحقيقة أن هناك براعة صحفية في المزج بين المعالجة الصحفية والمعالجة الأكاديمية، لكي يفهم العمل الأصلي بعبارات سهلة ومبسطة. وعلى الصحفي من خلال التفسير أن يوقظ القارئ، ويثير انتباهه، ويهيئ ذهنه للفهم، ويحثه على متابعة القراءة، وقد يتطلب ذلك أن يبهجه ويفاجئه ويسليه. ولذلك فإن استعمال المسرحة، أو الأسلوب الدرامي لا يمكن أن ينفصل عن الفن الصحفي. إن الفرد في المجتمع الحديث لا يملك من الوقت أو الجهد أو المال أو العلم ما يمكنه من الوصول إلى مدلولات دقيقة لجميع المعارف، أو تكوين صور حقيقية للعالم الذي حوله. وفي معظم الأحيان يكون المحصول اللغوي للقارئ أو المستمع أو المشاهد محدودا، فلا يفهم ما يقال له. ومن هنا جاءت أهمية التبسيط والتجسيد والنمذجة، نتيجة لظروف الجماهير العريضة التي يزداد عددها كقراء للصحف من جهة، ولضغوط الحيز الضيق في المطبوعات من جهة أخرى. ولما كانت الفرص المتاحة إمام الفرد للمراجعة والنقد قليلة ومحدودة، فإنه لا يستطيع أن يفهم مشكلات العالم الحديث بتعقيدها وتخصيصها وتنوعها دون إلقاء الضوء عليها من الخبراء المتخصصين في عمليات النقل والتبسيط. ومع أن الفرد يعيش في حيز صغير من المكان على سطح الأرض، ويتحرك في دائرة محدودة، ولا يعرف إلا عددا قليلا من الناس، ولا يدرك من الأحداث إلا بعض زواياها، دون أن يعرف الزوايا الأخرى، فإن عليه -في المجتمع الديمقراطي- أن يشارك بالرأي حول مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية تغطي مساحات أكبر مما يعيش مكانا وزمانا ويتناول من الموضوعات أكثر مما يمكنه ملاحظته شخصيا، معتمدا في ذلك على ما تمده به الصحافة وأجهزة الإعلام الأخرى من رؤى وأخيلة ونماذج وأنماط.

الفن الصحفى والمجتمع الحديث

الفن الصحفي والمجتمع الحديث: وإذا ألقينا نظرة فاحصة على المجتمع الحديث لوجدنا أنه يعاني من مرض خطير يمكن تسميته بالانقسام أو الانفصام الاجتماعي، ولا شك أن هذا الانفصام ليس إلا نتيجة محتومة لأنظمة التخصص وتقسيم العمل التي تتطلبها وسائل الإنتاج الحديثة وأساليب الإدارة العامة في الحكومات. فالمجتمع يعاني من التضخم الكبير والتخصص الشديد بحيث أصبحت أقسام المجتمع الواحد منعزلة عن بعضها البعض في الميادين الاقتصادية والحكومية وغيرها. وعندما تنعزل الوحدات المكونة للمجتمع الواحد، وتصبح غامضة عسيرة الفهم يعاني المجتمع من الانفصام الذي أشرنا إليه، وتكون وظيفة الصحافة هي إعادة التفاهم إلى هذا المجتمع. على أن التكامل الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا على أسس من الإيمان بأهمية الرأي العام، وحقه في الإطلاع على الأخبار والمعلومات أو بمعنى آخر الاعتراف بضرورة التفسير والشرح من أجل إحراز التفاهم. فالفرد العادي في المجتمع الحديث المتخصص لا يستطيع أن يعيش وفقا لمبدأ الاكتفاء الذاتي الذي كان سمة المجتمع القديم. فكل سلعة يحتاجها مهما صغرت كشفرات الحلاقة ومعجون الأسنان تقوم بإنتاجها شركات ضخمة بعضها في مصر وبعضها في الخارج. وكذلك طرق المواصلات داخل المدينة وخارجها، ووسائل المخابرة بالبريد والتليفون والتلغراف قد أصبحت وظائف معقدة يصعب فهمها أو تقديمها. فما بالك بمنجزات العلم الحديثة كالطاقة الذرية، وحرب

الميكروبات، وغرف الفضاء، والهبوط على القمر، والاتصال بالكواكب الأخرى! إن الإنسان وحده لا يستطيع أن يفهم سائر المؤسسات والشركات التي تزوده بالمنتجات والخدمات. والعجيب أنه كلما ارتفعت الحضارة، وزاد التخصص، أصبح مصير الفرد معلقا في أيدي جهات شتى ومؤسسات عديدة، في مجالات الاقتصاد والنقابات والهيئات والسياسية وغيرها. فنحن نعيش في عصر العلم والخبراء والمعلومات المعقدة، وكذلك يمتاز هذا العصر بوسائل الاتصال الحديثة، والاعتراف بحساسية الرأي العام وأهميته. ولما كانت حياة الإفراد متأثرة بما يجري في كافة الهيئات والمؤسسات المتعددة، فإن طابع الحضارة الحديثة يتطلب من الصحف أن تقوم بتفسير هذه المدنية المعقدة. ونستطيع القول بأن أجهزة الإعلام قد أخذت هي الأخرى في التخصص وفقا لطبيعتها، فلم تعد الصحافة هي أسرع الوسائل الإعلامية في نقل الأخبار، بل إن الإذاعة قد تفوقت عليها تفوقا عظيما. غير أن النشرات الإخبارية والإذاعية لا تستطيع أن تعطي أخبارا كاملة مفسرة، وإنما هي تعطي مجرد عناوين سريعة، ولمحات خاطفة، تاركة للصحافة مهمة الشرح والتفسير والتفصيل. ونحن لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن المهمة الرئيسية للفن الصحفي الحديث، بعد تطور الإذاعة، أصبحت الشرح والتعليق والتفسير. وقد رأينا أن مجلات متخصصة في تفسير الأخبار، وبيان أبعادها المختلفة قد أخذت تظهر في جميع أنحاء العالم نخص منها بالذكر مجلات تايم ونيوزويك في أمريكا ودير شبيجل في ألمانيا وباري ماتش في فرنسا، بالإضافة إلى المجلات المصورة مثل لايف ولوك وغيرهما. وهكذا تطورت مهمة الفن الصحفي الحقيقي، وأصبحت تدور حول التفسير وإلقاء الضوء على الأخبار، وبيان آثار الأحداث على حياة الناس. ولذلك ظهر فن التحقيق الصحفي، الذي يعتبر بحق من أهم معالم الصحافة الحديثة لأنه يعطي للقراء معلومات حية تساعد على فهم الأخبار، كما تستخدم الصور والعناوين والرسوم، وكافة فنون التسجيل الطباعي من أجل التبسيط والشرح والتفسير.

وعملية التبسيط كثيرا ما تكون أصعب من الخلق والابتكار الفني ذاته. ولذلك فإنه لا يقوم بمهمة التبسيط سوى علماء من نوع جديد، يتقنون الفن الصحفي الأصيل، ويهضمون المسائل العويصة، ويحلون غوائصها بحيث يستطيعون أن يتحدثوا عن أعظم الحقائق بأبسط الألفاظ. وعلى العكس من ذلك ترى أن من لم يهضم المادة يسرف في استخدام المصطلحات الفنية، ويعجز عن الإبانة، بل قد يبلغ به الأمر أن يقول التوافه والبديهيات في أعقد الألفاظ وأشق المصطلحات، وأصعب العبارات. وكل ذلك فضلا عن أن عملية الهضم نفسها لا تكفي ذلك؛ لأن التبسيط يتعرض حتى عند الهاضمين لخطرين كبيرين، أولهما الإيجاز الغامض وثانيهما الإطناب المخل. فبعد عميلة الهضم وإتمام الفهم، يتعين على الكاتب الصحفي أن يخضع عصارة عقله للألفاظ السهلة المبينة، وهذه العملية شاقة تتطلب الاهتمام بالمضمون من جهة، وإسكان المعنى في اللفظ المناسب من جهة أخرى. بل يتطلب الأمر مرحلة ثالثة هي الإقناع.

وظيفة التوجيه والإرشاد

وظيفة التوجيه والإرشاد: وتتصل مهمة الإقناع بالوظيفة الثالثة من وظائف الفن الصحفي وهي التوجيه والإرشاد. وهنا يحتاج الصحفي إلى أكثر من مهمة نقل الأفكار وتفسيرها؛ لأنه ينقل الإيمان بهذه الأفكار. وهذا الإيمان لا ينتقل بمجرد حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدوم إذا ما تعلق بحرارة الفكر. ومن البين أن مهمة الصحافة قد أصبحت بالغة المشتقة في العصر الحاضر؛ لأنها تنقل كثيرا من الأخبار والآراء المتصلة بالنظريات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة. فليس غريبا أن تقسم أبواب التحرير في الصحف الكبرى أقساما مختلفة. فهذا محرر المسائل السياسية، وذلك محرر الشئون الخارجية، وثالث محرر المسائل الاقتصادية، ورابع متخصص في الشئون المالية، وخامس متخصص في الفن والأدب، بل إننا نجد التخصصات

قد تجاوزت ذلك إلى الرياضة والشطرنج والمسرح الفني التشكيل وشئون إدارة الاقتصاد المنزلي وغيرها. ولم يعد التوجيه والإرشاد مجرد مقالات بلاغية، أو خطب منبرية، بل إنه على العكس من ذلك يتطلب منهجا خاصا في التحرير يقوم على الدليل والبرهان، ويعتمد على الحقائق والأرقام والبيانات والصور والإحصاءات الدقيقة، وهذه هي وسائل الإقناع والتوجيه والإرشاد، وهي التي تعطيه من القوة والتأثير ما لا يمكن أن تحققه الألفاظ الضخمة الجوفاء. وتنطوي وظيفة التوجيه والإرشاد على مهمة أساسية من مهام الصحافة، ألا وهي القيادة. فالمفروض أن تكون الصحافة بمثابة المعلم أو الرائد أو القائد، فهي التي تأخذ بيد الجماهير، وتساعد الناس على حسم الأمور، فتقضي على التردد، وتحذر من الارتباك، وتحمل المشعل في مقدمة الجمهور لكي تنير له الطريق. وعليها أن تقف دوما في جانب الحق والعدل والخير والفضيلة. فالصحافة هي حارس الأمة الأمين. فمن الذي يعلم الوطني حقوقه؟ ومن الذي يرشده إلى واجباته؟ ومن الذي يكون له عونا في المعترك الذي يلقي بنفسه فيه، ومن الذي يدرأ عنه عادية كل من أراد به سوءا؟ إنها الصحافة وهي دون غيرها على الدوام. وإذا لم يكن هناك صحافة أصبحت الشجاعة الأدبية أمرا من الأمور الشاذة، بل أصبحت في حكم المستحيل، وكذلك شأن الشجاعة الحربية، فإن الجندي لا يرمي نفسه فوق الخطر، ولا يقدم على المهالك، إلا عندما ترمقه أعين زملائه ويشجعه صوت الطبول ورائحة البارود! ولأجل أن يتكون الرأي العام، وتتوطد دعائمه، يجب أن يوجد ذلك الصوت العظيم -صوت الأمة- الذي يعطي كل ذي حقه، فيثني في كل يوم على العاملين، ويؤنب المقصرين، ويذكر الناس بالمنافع العامة المشتركة، وبالمبادئ الاجتماعية، ويؤازر بقوته كل حق من حقوق الأفراد.

ويقول هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديمقراطية": "إن القدرة على توجيه الأخبار وجهة معينة هي نفسها القدرة على حرمان القراء من أن تصل إليهم المادة التي يستطيعون بها أن يكونوا لأنفسهم رأيا في كل مشكلة. وأن من يوازن بين الطريقة التي عالجبت بها الصحافة البريطانية موضوع نزع السلاح في وقت انعقاد مؤتمر جنيف سنة 1932، والطريقة التي عالجت بها تلك الصحافة أخبار السلوك الجنسي عند رجال الدين الإنجليز، في الفترة نفسها، ليشهد أن الصحافة الإنجليزية أولت كل اهتمامها للموضوع الأخير بقصد إهمال الموضوع الأول برغم أنه خطير. وهنا لا يجد القارئ صعوبة ما في اكتشاف الطريقة التي يتكون بها الرأي العام في بلد من بلاد الديمقراطيات الرأسمالية الغربية كإنجلترا". ولا شك أن سلطة الصحافة في ممارسة النقد والتوجيه جعلها بمثابة السلطة الرابعة إلى جانب السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. وقد قال توماس جيفرسون: إذا خيرت بين صحافة بلا حكومة أو حكومة بلا صحافة لفضلت الأولى على الثانية دون تردد. وكان الإمبرطور الألماني غليوم الثاني يرى أن الصحفيين قادة يوجهون الشعب، وأنهم بمنزلة كبار الضباط بالنسبة للجيش. ويقول جيمس برايس: إن الصحيفة هي التي جعلت الديمقراطية أمرا ممكنا. ولقد قالها أرسطو منذ عدة قرون أنه إذا كان على المواطنين أن يختاروا حكامهم بالطرق الديمقراطية، وأن ينتخبوا زعماءهم بالأساليب الشعبية عن طريق الاقتراع، فلا بد لهم أن يعرفوا الكثير عن هؤلاء الحكام وأولئك الزعماء أو القادة. ولا شك أن الصحافة تقوم بمهمة التوجيه والإرشاد حتى يحسن الجمهور اختيار حكامه. ويخطئ من يظن أن مهمة التوجيه والإرشاد مقصورة على المجال السياسي وحده؛ لأن الصحف تقدم للقراء توجيهات أدبية بالنسبة لقراءة الكتب والمقالات الجديدة، وكذلك توجيهات فنية بالنسبة للمسرح والفن والموسيقى والسينما

وسائر الفنون الأخرى. وقد تقدم نقدا مدروسا لأوجه النشاط الفني المختلفة وتفرد لها أبوابا ثابتة. ومن واجب الصحافة أن لا تكتفي بالنشر والإعلان في ميدان الثقافة، بل تنهض أيضا جهة النقد والتوجيه، كما تفعل في المسائل السياسية والاقتصادية ذلك لأن الثقافة غذاء روحي لا يقل أهمية عن غذاء البطون، وقد يكون منه النافع كما يكون منه الضار، ولذلك تعتبر مهمة النقد الأدبي والفني جزءا من رسالة الصحافة. وقد تفسد الناحية التجارية مهمة النقد النزيه بسبب تدخل الإعلانات، ولكن المهم أن نعرف من الصحافة شيئا عن الأفلام مثلا، حتى يمكننا أن نستعين به لنقرر مشاهدة تلك الأفلام أو عدم مشاهدتها، أو لكي نسمح لأطفالنا وشبابنا بمشاهدتها أو نمنعهم من ذلك. ويذهب البعض إلى أن التوجيه والنقد قد يتضمن التعريف بعقدة الفيلم أو المسرحية، فيفسد على المشاهدين عناصر المفاجأة والترقب والانفعال، ولكن هذا الرأي ليس في الواقع صحيحا على إطلاقه، وذلك بدليل أن الكثير من الأفلام تعرض قصصا معروفة ومكتوبة أو متداولة بين القراء. وكذلك نجد أن الكثير من المسرحيات الناجحة يكون معروفا للقراء كمسرحيات شكسبير وأحمد شوقي مثلا. بل إن تاريخ المسرح اليوناني نفسه، يثبت أنه قد تناول الأساطير الدينية وغير الدينية بالمعالجة الدرامية الناجحة. ومن ذلك مثلا قصة أوديب وغيرها، ولكن ذلك لم يمنع المشاهدين من الاستمتاع بها، إن عظمة سوفوكليس الحقيقية هي في تناول الموضوع الأسطوري وعلاجه علاجا دراميا. وقصة كليوباترا معروفة تاريخيا، ومع ذلك فقد عالجها شكسبير ودرايدن وكثير من الكتاب الفرنسيين وأحمد شوقي، ولم تكن معرفة الحقيقة التاريخية عائقا للفن المسرحي بحال من الأحوال. وفضلا عن ذلك فإننا نلاحظ أن كثيرا من المشاهدين في المسارح الأوروبية الكبرى لا يكتفي بأن يقرأ بعض المسرحيات قبل مشاهدتها، بل ويصطحب معه نص المسرحية المطبوع ويحاول

أن يتابعه أثناء المشاهدة دون أن يفقده ذلك لذته الخاصة في مشاهدة التمثيلية. وإذن فحجة العدول عن التعريف والنقد بدعوى أن هذه العملية تذهب بعنصر التشويق حجة واهية لا يمكن أن تثني الصحافة عن واجبها في إرشاد الجمهور نحو الصالح وغير الصالح والجميل والقبيح من الأفلام والمسرحيات، لتتركهم يجازفون بوقتهم ومالهم بل وأحيانا بمشاعرهم الخاصة أو مشاعر ذويهم من أطفال ونساء عندما يقدمون على مشاهدة فيلم أو مسرحية قبيحة أو فاشلة أو شريرة، وذلك بينما تستطيع الصحافة أن تقوم بما قد تعجز عنه الحكومات بقوانينها وتشريعاتها ورقبائها وموظفيها في توجيه الانتاج التلقائي والفني الوجهة السليمة النافعة -على حد قول الدكتور محمد مندور- وذلك لأن بالنقد والتوجيه النزيهين ستنزل أكبر عقاب، أو جزاء لتجار الفكر والعاطفة الإنسانية إذ ترزأهم بالخسارة المادية وتضيع عليهم أكبر ما يحرصون عليه وهو الربح المادي الآثم. لقد أصبحت الصحافة العربية تتولى في هذه الأيام مهمة كبيرة في توجيه الثقافة والأدب والفن، وهي لا تزال تواجه في أداء هذه المهمة عدة مشاكل لا بد أن تبت فيها برأي، ثم توجه الأمة نحوه، وتأتي هذه المشاكل من عدم تحديد موقف ثقافي واضح بين الشرق والغرب، وبين الحديث والقديم، وبين الترجمة والإنتاج الذهني، ولكن لا بد لكل صحيفة أن تختار لها منهجا قويما ترتضيه، وفقا لما تراه خيرا لها وللعالم العربي. وفي كل ذلك لا ينبغي أن يكون حكم الصحافة حكما جزافيا نزقا، بل ينبغي أن يكون حكما واضحا قائما على التعليل وقابلا لشرح والتفسير، ومبنيا على الحجج والبراهين، وهكذا يكون التوجيه والنقد إرهاصا بفن المستقبل المرتجى. وفضلا عن ذلك فإن الصحافة الحديثة قد أصبحت تقوم بتوجيه الطفل والمرأة وخاصة بعد أن تركت المرأة البيت إلى العمل في المصنع والحقل والمدرسة والمستشفى والجامعة وفي كل مكان. إن الصحافة -والإعلام بوجه عام- يقدم للطفل من الأخبار والمعلومات والقصص والتسلية ما كانت تقدمه ربة البيت أو الجدة حتى الأمس القريب، بل إن فنون تربية الطفل، وإعداد المائدة، وحتى طهو الطعام، وتنسيق الأثاث، وزخرفة المنزل، وفنون التجميل، وتفصيل الأزياء وحياكتها، أصبحت موضوعات شيقة في صحافة اليوم. وهكذا نرى أن المجتمع الحديث المعقد قد ترك للصحافة وظائف جديدة، كان يقوم بها آخرون من قبل، عندما كان المجتمع بسيطا متماسكا ساذجا.

وظيفة الإمتاع والتسلية

وظيفة الإمتاع والتسلية: أما الوظيفة الرابعة من وظائف الفن الصحفي فهي الإمتاع أو التسلية، وهي وظيفة قديمة قدم البشرية نفسها، عندما كان المغني والمنشد والراوية يقوم بالتسرية عن الناس، وإمتاعهم برواية القريب والطريف والعجيب من القصص الواقعية والخيالية على السواء. وقد ورثت الصحافة هذه المهمة الخطيرة التي يرى ماكدوجال1 أنها تخفف العبء عن النفوس والعقول، وتجعل الحياة محتملة رغم ما فيها من متاعب، وهكذا تصبح التسلية ذات أثر نفسي حميد. ويذهب ستيفنسون2 إلى أن الإمتاع والتسلية هما هدفان أساسيان للإعلام بوجه عام. ويرى أن ألوان المتعة القصصية قد أثرت على الجوانب الأخبارية والإعلامية نفسها، حتى أصبحت الأحداث السياسية تقدم بطريقة درامية، كما تطورت أساليب الكتابة الصحفية لتروي أخبار الجريمة والسياسة، وأنباء الفضاء والحرب والسلام بطريقة إنسانية تقرب من القصص الفنية أو الأدب. ويلاحظ سيفنسون أن الإيقاع الإعلامي يسير على أساس فترات من الأخبار تمثل التوتر، يعقبها فترات من الترفيه، تمثل الهدوء والاسترخاء. فإذا نظرنا إلى البرنامج الإذاعي الناجح لوجدنا أنه يحتوي على الأخبار السياسية والتعليقات حول الأحداث، بما يجري من حروب ومعاهدات وكوارث، ثم تأتي بعد ذلك

_ 1 MACDEOUGALL, UNDERSTANDING PUBLIC OPINION, MEMILLAN "1952". 2 STEPHENSON.

فترات الموسيقى وبرامج التمثيل والغناء. وفي الصحافة الحديثة أيضا نجد إلى جانب الأخبار والمقالات والأحاديث، رسوما شيقة، وصورا جذابة، وكاريكاتير ونكتا، وقصصا، وتمثيليات. وهكذا يبدد الإمتاع الترفيهي كل آثار الضعظ الأخباري، والتوتر العصبي. غير أن وظيفة الترفيه والإمتاع يمكن أن تتجاوز حدودها ويصبح ضررها أكبر من نفعها. ومن هنا جاءت نصيحة الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون، الذي طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة، حرصا على نفوس الشباب من المبالغة والتهويل والانحراف. ونذكر في القرآن الكريم الآية الكريمة: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . إلى آخر الآية الكريمة التي تستثني من الشعراء الذين آمنوا؛ لأن وظيفة الشاعر قديما تشبه وظيفة الإعلامي الحديث، وخاصة من حيث جوانب الإمتاع. غير أن الفيلسوف اليوناني أرسطو يرى أن التنفيس عن المتاعب والآلام هو الهدف الرئيسي من الاستمتاع الفني. والترفيه عنده عملية تطهير للنفس، فعندما يشاهد المتفرج مسرحية مثلا، فإنه يعاني ما يعانيه البطل من آمال وآلام. وفي النهاية يفرج المشاهد كربته، وينفس عن آلامه ومتاعبه، فيشعر بالراحة النفسية، ويخرج من المسرح وقد أزاح عن كاهله أعباء الانفعالات المتراكمة والمشاعر المكبوتة. ومن هنا كان لفنون الترفيه -ومنها الفن الصحفي- أثر بالغ في شفاء الجماهير من عقدها النفسية. ولعل هذا يذكرنا بنظرية سيجموند فرويد المشهورة حول التحليل النفسي. وتقوم هذه النظرية على أساس النزعات التي صادفها الكبت، والتي تجد فرصة للظهور بعد أن ظلت مكبوتة في اللاشعور، ربما منذ الطفولة الباكرة. ويحاول الذين يعانون من تراكم هذه الرغبات المكبوتة، والعقد المختزنة في اللاشعور، أن ينفسوا عنها بالطرق الوهمية. فمن خلال الفن والترفيه، يمكن للإنسان أن يتقمص الشخصيات، ويمر بالعديد من التجارب والخبرات، مما يؤدي إلى الشعور بالراحة النفسية. ولا شك أن الفن الصحفي يقدم من العناصر الترفيهية ما يرضي الجمهور، ويسري عنه، ويخفف من متاعبه. فالتخيل وتقمص

الشخصية يؤديان إلى إطلاق النزعات المكبوتة -على حد قول فرويد. ومن الواضح أن نظرية أرسطو في التطهير النفسي عن طريق الدراما تقترب كثيرا من نظرية فرويد عن التنفيس، وتخفيف التوتر، وإطلاق الرغبات المكبوتة، عن طريق تقمص الشخصيات الوهمية، والتسرية عن النفس. ويذهب النقاد إلى أن وظيفة الترفيه قد تفسد الصحافة؛ لأنها تصرف الجماهير عن الأحداث الجادة، وتخلق جوا هروبيا يصيب النفس بالمرض. وقد تلجأ الحكومات الدكتاتورية إلى مثل هذه الصحافة الترفيهية لصرف أنظار الجماهير عن الأحداث الواقعية والمشكلات الحقيقية، وقتل روح النقد عن الناس. ويذهب هؤلاء إلى أن قصص ألف ليلة وليلة، مثلا، قد صدرت لمثل هذا الغرض. ويؤكد هؤلاء النقاد أن مهمة الترفيه قد تترك للسينما والتليفزيون، بل حتى للإذاعة نفسها، أما الصحابة فينبغي أن تركز جهودها في مهام أخرى كالأخبار والتعليق والتوجيه والنقد. والحقيقة أن الصحيفة كوسيلة إعلام ينبغي أن تتصف بالتوازن أو الاتزان، فلا تسرف في الجد إلى حد العبوس، ولا تتطرف في الترفيه إلى حد العبث. وإنما ينبغي أن تسد الحاجات الإنسانية بما فيها من جوانب جادة وأخرى ضاحكة. وقديما قال الأديب الفرنسي رابيليه: إن الضحك من أهم السمات المميزة للإنسان، كما أن المرح صفة هامة من صفاته، لتجديد نشاطه، واستمرار حيويته. غير أن الترفيه لا ينبغي أن ينحط إلى مستوى التهريج المسف وإلا كانت آثاره خطيرة على نفسية الشعب وقواه العقلية. ونحن نذهب إلى أن الترفيه المنحط يمكن أن يؤدي إلى تمزيق وحدة الشعب، والقضاء على تماسكه، وتدمير روحه المعنوية. وليس أدل على ذلك من أن الجيوش تتعرض إلى هجوم صحفي يتمثل في مجلات حقيرة مليئة بالصور العارية، والنكب الجنسية، والأخبار التافهة السخيفة، وذلك إمعانا في إفساد النفوس، وتسميم العقول، وتمزيق الصفوف، ويحرص الاستعمار دائما على إشاعة الفوضى والانحلال والفساد بترويج الصحف الصفراء، ذات المضمون المريض، لتخدير الشعب، وصرفه عن الواقع الأليم الذي يتردى فيه. وهكذا يتضح لنا أن وظيفة الترفيه سلاح ذو حدين، وقوة لا بد أن يحسن استخدامها.

وظيفة الإعلان والتسويق

وظيفة الإعلان والتسويق: والإعلان هو الوظيفة الخامسة من وظائف الفن الصحفي. وهنا أيضا نجد أن النشاط الإعلاني نفسه قد عرف منذ أقدم العصور، إلا أن الإعلان الصحفي لم يعرف إلا بعد اختراع الطباعة ونشأة الصحافة، كما أن الأسلوب الفني للإعلان الصحفي لم يظهر إلا بظهور الفن الصحفي نفسه. حقيقة أن بردية قديمة يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قد اكتشفت في طيبة وعليها إعلان يقول: إن عبدا اسمه "شيم" قد هرب من سيده الطيب "هابو" وهو يرجو من يجده أن يعيده إلى سيده "هابو" الخياط -الذي يفصل أرقى الملابس حسب رغباتك- وسوف يحصل من يرشد عن العبد على قطعة ذهبية مكافأة له! ولا شك الأغريق قد عرفوا الإعلان الشفوي، وكلمة "مناد" مثلا، كانت تطلق على البائع الصغير الذي ينادي على بضاعته في السوق، كما كانت تطلق على المنادي الرسمي الذي يذيع الأوامر والبيانات الحكومية. وكذلك كان المنادون في الحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية يقومون بواجباتهم عن طريق النداء الشفوي، الذي كان يغني على طريقة التطريب الجميل، للإعلان عن البضائع أو المفقودين أو عن أوامر الحاكم ونواهيه. ويصف لنا "سينكا" الكاتب الروماني منظر الباعة المتجولين أو أصحاب الدكاكين وهم ينادون على بضائعهم ويطرونها ويغرون المارة بشرائها. كما يصف الخبازين وصانعي الحلوى وبائعي السجق وقد عرضوا بضائعهم على أبواب الحمامات العامة وهو ينادون عليها بصوت رخيم كالغناء الجميل. ولعل هذا الذي وصفه "سينكا" يقرب كثيرا من نداء الباعة في القرون الحديثة في العالم العربي وقد نجده حتى في أيامنا هذه. ولكن الإعلان الحديث -والإعلان الصحفي بوجه خاص- أخذ يأخذ مكانته الإعلامية في أعقاب الثورة الصناعية. والمعروف أن استخدام الآلة قد أدى إلى سرعة الإنتاج وزيادته الضخمة مع خفض التكاليف. وقد خلق هذا الإنتاج الكبير ضرورة استهلاكه على نطاق ضخم أيضا وبسرعة، حتى تستطيع المصانع المنتجة تصريف إنتاجها ولا تضطر إلى تخزينه، وإلا زادت النفقات.

ونتيجة لذلك ظهرت الحاجة إلى وجود شبكة كبيرة من الموزعين تتولى بيع المنتجات للجماهير في المستعمرات وغيرها، وإخبار المستهلكين الحاليين والمرتقبين بوجود السلعة وحثهم على شرائها وكان ذلك بواسطة الإعلان. وهكذا نرى أن الإعلان هو ثمرة للمجتمع الحديث. فبعد اختراع الطباعة، وانتشار التعليم، وتطور الإنتاج وزيادته، وظهور الصحافة الحديثة وما طرأ عليها من تطورات في الطباعة، ثم رقي الفن الصحفي وتعدد أساليبه في التحرر والتصوير والإخراج صادر الإعلان الصحفي فنا يدر على الصحافة أرباحها الرئيسية التي قد تصل إلى نسبة 70% من إيراداتها. وقد قدمت لجنة التعريف لجمعية التسويق الأمريكية تعريفا للإعلان بأنه "تلك الجهود غير الشخصية التي يدفع عنها مقابل لعرض وترويج الأفكار أو السلع أو الخدمات بواسطة شخص محدد". فالإعلان ينشر في صحيفة عامة، وهي مؤسسة غير شخصية، ويدفع عنه الثمن نظير النشر، كما أن المعلن لا بد وأن يكون معروفا للناس، والغرض هو ترويج السلع والمنتجات. وتقول دائرة المعارف الفرنسية أن الإعلان "هو مجموع الوسائل المستخدمة لتعريف الجمهور بمنشأة تجارية أو صناعية وإقناعه بامتياز منتجاتها والإيعاز إليه بطريقة ما بحاجته إليها"1. فالإعلان هو الفن الذي يخلق حالة من الرضا العقلي نحو سلع المعلن. لذلك فإن قولنا بأن الإعلان يبيع السلع هو من قبيل المجاز؛ لأنه في حقيقة الأمر يهيئ المستهلك لتقبل السلعة، أي يجعله في حالة عقلية يستريح إليها.

_ 1 LE COURRIER DE L.htm'EGYPTE.

الإعلان والصحافة

الإعلان والصحافة: وأول إعلان ينشر في الصحافة التي صدرت في مصر كان قد ظهر في صحيفة "البريد المصري"1 لتحديد ثمن النسخة منها وشروط الاشتراك بها. ثم نشرت هذه الصحيفة في العدد التاسع منها إعلانا حكوميا عن إنشاء مصلحة التسجيل. ومع ذلك فإن هذين الإعلانين لم يأخذا طابع الإعلان التجاري ولكن ظهرت الإعلانات كثيرة بعد ذلك تعلن عن مصانع المشروبات الروحية والمكرونة والحمامات العامة، وعن بيع ممتلكات ضابط فرنسي سوف يغادر البلاد. ولكن هذه الإعلانات بدأت تنكمش بتحرج مركز الحملة الفرنسية حتى أصبحت الإعلانات مقصورة على ما تنشره الحكومة من بيانات وأوامر2. وينبغي أن نفرق بين الإعلان الحكومي الرسمي والإعلان التجاري، وهنا نجد مرة أخرى أن الإعلان الرسمي يسبق الإعلان التجاري، كما سبق القول. وقد ظل الإعلان الحكومي مسيطرا على الصحافة، فكانت مصلحة السكك الحديدية تنشر إعلانات تتعلق بالقوانين والتنبيهات التي تخص السكك الحديدية، ثم أخذت المتاجر، وخاصة متاجر الأجانب، تعلن عن سلعها، وبدأت الأهرام تنشر كثيرا من إعلانات الأطباء وناشري الكتب الأوروبية والعربية والمسارح والملاهي والإعلانات القضائية. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت المصانع والبنوك وشركات النقل والتأمين في الإعلان، وكان معظمها مملوكا للأجانب. ولعبت المنافسة بين هذه الوحدات الاقتصادية دورا فعالا في تنشيط الحركة الإعلانية، وكانت الصحف حديثة العهد بالإيراد الضخم الذي تحققه من الإعلان، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى مهاجمة بعض الصحف للشركات التي كانت تعلن في صحف أخرى منافسة. ولم تكن مهنة الإعلان في ذلك الحين تحكمها قوانين واضحة فيما يختص بعلاقة المعلنين بوسائل النشر أو بتقاليد المهنة وكرامتها. وفي نفس الوقت اتجهت الصحافة الحزبية إلى الهجوم في مقالاتها من أجل ابتزاز الأموال والإعلانات من الحكومة والأحزاب والهيئات في داخل البلاد وخارجها. وقد فطنت الصحف بعد ذلك وفي مرحلة الاستقلال التي تأتي -كما سبق القول بعد مرحلة الصحافة الرسمية ومرحلة الصحافة الحزبية- إلى أن الاستقلال

_ 1 L'ENCYCLOPEDIE FRANCAISE. 2 محمود نجيب أبو الليل، الصحافة الفرنسية منذ نشأتها حتى نهاية الثورة العرابية "1953" ص72.

الحقيقي إنما يتوقف على الأرباح التي تغطي تكاليف الإنتاج. ولما كان من النادر أن تكفي إيرادات التوزيع لسداد النفقات والتكاليف اللازمة لإصدار الصحيفة، فقد صار الإعلان مصدرا حيويا من مصادر إيراد الصحيفة، بل وشريان حياتها الأصلي والرئيسي لسد عجز إيراداتها، وذلك بدلا من الاعتماد على الحكومة أو الأحزاب السياسية أو المصروفات السرية لسد عجز الإيرادات. والواقع أنه منذ بداية القرن العشرين، أخذ الإعلان يلعب دورا هاما في حياة الصحف نتيجة لما أحرزه من تقدم كبير، ومجاراة لما طرأ على الحياة الاقتصادية من ازدياد في الإنتاج وارتفاع في الاستهلاك، وما صاحبها من رواج تجاري عظيم. والمعروف أن تكاليف إصدار النسخة الواحدة من الصحف اليومية يبلغ نحو أربعة أو خمسة أمثال الثمن الذي يباع به، ويغطي إيراد الإعلان ذلك الفرق بين التكاليف الحقيقية، وثمن البيع. وتعتبر الصحف من أقوى وسائل الإعلان؛ نظرا لتنوع مستويات الصحف فهناك الصحف الراقية، وهناك الصحف الشعبية، وهناك صحف الطبقات الوسطى. وحتى في المجتمعات الاشتراكية الحديثة مثل مجتمعنا، نجد أن هناك فرقا بين الأهرام والأخبار مثلا. فالأهرام يقرؤها جمهور كبير من أهل المدن، ومن كبار السن نسبيا، في حين أن الأخبار تنتشر في الأقاليم وبين الشباب. فالأهرام تجتذب الإعلان في العقارات والمزادات والعمارات والآلات الكهربائية والطبية والإعلانات الاجتماعية والوفيات، في حين تجتذب الأخبار الإعلان عن الأسمدة والآلات الزراعية والوظائف الخالية ودور السينما والأفلام والكتب والقصص. وتتمتع الصحافة بخاصية نفسية فريدة، فهي وسيلة الإعلام الوحيدة التي يدفع فيها القارئ ثمن اطلاعه على مادتها المقروءة، ويقوم بدفع هذا الثمن بدافع من رغبته وحدها، وكثيرا ما يستجيب للإعلان الصحفي لأنه يطرق تفكيره، وهو في حالة نفسية طيبة ومتأهب للعمل، في حين أن الإعلان الإذاعي أو التليفزيوني أو السينمائي أو إعلان الملصقات، تطرق ذهنه أثناء الاسترخاء. كما أن الصحافة

الجيدة تنشر إعلانات متخصصة في الصفحات المناسبة لها، كصفحة المرأة وإعلانات الأثرياء وأدوات التجميل، وصفحة الشباب وإعلانات الملابس الرياضية وهكذا. وقد رأينا أن أهم خصائص الصحافة هي: الحالية والدورية والمرونة والتنوع، ولا شك أن الإعلان الصحفي يستغل هذه الخصائص استغلالا مفيدا. وإذا كانت الجرائد تعجز أحيانا عن إتقان الإخراج لسرعة صدورها، كما أن جماهير الجريدة متسعة وعريضة، فضلا عن قصر عمرها، فإن المجلة تتلافى هذه العيوب؛ لأن المجلة تمتاز بالإخراج المتقن والطباعة الفاخرة، كما أن قراءها من فئات معينة كالشباب والنساء والمثقفين وغيرهم، فضلا عن أن المجلة تدوم وقتا أطول من الجريدة بطبيعة الحال. وتنقسم الإعلانات الصحفية إلى إعلانات عامة، تمتاز بحجمها الكبير وألوانها الجذابة الزاهية، وحروفها الواضحة، وإعلانات مبوبة أو إخبارية، تعتمد على الانتباه الإرادي الموجه إليها عمدا، وإعلانات اجتماعية تنشر معلومات عن الزواج والمواليد والنجاح والأسفار وغير ذلك، ثم إعلانات قضائية تحتم القوانين نشرها في الصحف وتنظم اللوائح أساليب النشر وعدد مراته.

فن الأعلان الصحفى

فن الإعلان الصحفي: وفن الإعلان الصحفي يقوم على الكتابة الإعلانية التي تهدف إلى التأثير في نفس القارئ. وعلى المحرر الإعلاني أن يكتشف الفكرة التي سوف يتحدث عنها في الإعلان باحثا عن مزايا السعلة المعلن عنها وطرق أدائها لوظيفتها وأفضليتها على منافساتها، والأسلوب الإعلاني قد يكون منطقيا، ولكن أغلب الإعلانات ترتكز على استغلال الدوافع النفسية وتستخدم الأسلوب الوجداني. ولما كانت عملية الشراء هي عملية نفسية -أساسا- فإن المعلن يستخدم فنون جذب الانتباه، وإثارة الاهتمام، وخلق الرغبة، والإقناع بسلامة الشراء، وذلك بغية دفع القارئ إلى التنفيذ. فليس غريبا أن ينقسم الإعلان إلى عنوان رئيسي لجذب الانتباه، وعنوان فرعي أو ثانوي لاستثارة الاهتمام، ثم يأخذ

الإعلان بيد القارئ للاطلاع على بعض البيانات التي تتصل برغبات القارئ وأفكاره، ثم يبين فوائد السلعة وكيف توفر على صاحبها الوقت والجهد والمال -كالغسالات والثلاجات والمكانس وغيرها- وتأتي الخطوة الأخيرة لتحديد مكان البيع وسعره. وفي كل ذلك يعتمد فن الإعلان، على الفن الصحفي القائم على التبسيط والتحديد، وإثارة الانتباه، والاختصار، وسلاسة العبارة وسهولتها. غير أن فن الإعلان الصحفي هو مزيج من الكلمة والصورة، والعنوان والرسم واللون، وهذه جميعا تتضافر بطريقة فعالة لإبلاغ الرسالة الإعلامية إلى القارئ. ولا تنبت الإعلانات الجذابة المبتكرة من تلقاء نفسها، ولكنها في واقع الأمر نتيجة تفكير عميق، وتصميم دقيق. وهي أشبه بعمل المهندس المعماري الذي يبدأ بعمل تصميم عام للعمارة التي ينوي إقامتها ثم يأخذ في رسم تفاصيلها قطعة قطعة، حتى تصبح عملا فنيا متكاملا. فيبدأ إنتاج الإعلان بمرحلة التصميم والتفكير، ثم تأتي مرحلة إعداد الرسوم والصور. وفي المرحلتين يتضافر المحرر مع الفنان لإخراج إعلان جيد. وفي جميع الأحوال يلعب التجسيم دورا رئيسيا في الإبراز والتشويق، ولا بأس من الاستعانة بالرسوم البيانية، والصور الكاريكاتورية؛ لأنها من المعينات الأساسية للكلمة المطبوعة في الفن الصحفي. ومع أن للإعلان دوره في تسويق السلع والخدمات، فقد تعرض لهجوم شديد يوجه إليه.. فيقال مثلا إنك إذا صنعت مصيدة أفضل للفئران فإن العالم سوف يشق دربا إلى بابك، فالإنتاج الجيد يؤثر دون حاجة إلى إعلان. وبالرغم من أن عالم الاقتصاد الأمريكي المشهور الفريد مارشال1 لم يجد مكانا للإعلان في نظريته الاقتصادية إلا أنه اعترف بوجوده في العمل الصناعي والنقابي، وهو هنا يفرق بين الإعلانات البناءة التي تستخدم في تقديم المعلومات، والإعلانات الشرسة التي تحاول أن تقضي على المنافسين. وهو يرى أن الإعلانات القتالية مدمرة اجتماعيا.

_ 1 alfred marshall.

ويعاب على الإعلان بأنه فاقد اقتصادي، وأنه يؤكد على الماديات، ويخلق شعورا بعدم الرضاء. وفي ذلك يقول أحد النقاد: "إنك تشتري أشياء لا تحتاجها بنقود لم تحصل عليها، محاولا أن تقلد أناسا لا تحبهم" ولعله يشير إلى إعلانات البيع بالتقسيط التي تحقق إشباعا ماديا دون هدف اجتماعي أو أيديولوجي. بل إن بعض النقاد يرون أن الإعلان يخلق حاجات زائفة غير حقيقية. ولعل المآخذ التي يأخذها البعض على تردي الذوق الفني، وإفساد الذوق العام للشعب، تعبر عن الاستياء من الاستخدام الرديء للأسلوب الصحفي، والهبوط به -في أيدي الأدعياء والدخلاء على المهنة- إلى درك يوصف بالغفلة والسذاجة. غير أن أعنف ما وجه إلى الإعلان هو أنه يمكن الاحتكارات السياسية والتجارية من السيطرة على الصحف، وجعلها أبواقا لها. ولعل التسلط الصهيوني على الصحافة العالمية من أنصع الأدلة على هذا الخطر. غير أن مؤيدي الإعلان الصحفي يؤكدون أن الإعلان يزيد الطلب على السلع، عن طريق أخبار المستهلكين بوجود السلعة ومميزاتها واستعمالاتها، ولولا ذلك لما أمكن التوزيع على نطاق واسع أو الإنتاج على نطاق واسع أيضا. أما من حيث تكاليف التوزيع والتي يوفر الإعلان جزءا منها، فيأتي عن طريق تخفيض العمولة التي يتقاضاها تجار الجملة؛ لأن السلع المعلن عنها أسهل في بيعها وأسرع من السلع غير المعلن عنها، ولو لم يستخدم الإعلان في بيع السلع لاستلزم ذلك استخدام مئات بل ألوف من مندوبي اليبع للقيام بمهمة التوزيع. فإذا قارنا بين نصيب الوحدة المباعة في تكاليف الإنتاج، ونصيبها في تكاليف مندوبي البيع لوجدنا أن نصيبها في الحالة الأولى أقل بكثير منه في الحالة الثانية. هذا إلى جانب سرعة عملية البيع في الحالة الأولى وبطئها في الثانية. ويلعب الإعلان دورا في النشاط الاقتصادي إذ إنه يقرب بين المنتجين والموزعين والمستهلكين. وله طائفه الإرشادية والإخبارية الهامة التي تشرح للجمهور مدى توفر السلع وكيفية الحصول عليها، وشروط شرائها، إلى جانب وظيفته التعليمية التي تهدف إلى تعريف الجمهور بحاجاته إلى السلع وكيفية استعمالها، ووظيفته التذكيرية التي تجعل السلع المنتجة عالقة بذاكرة الجمهور، وتبرز إلى عقله الواعي كلما أحس بحاجة تشبعها تلك السلع، ووظيفته الإعلانية التي تحيط الجماهير بالحقائق عن المنشآت والأجهزة التي تعمل في خدمتها. ومن هنا كان الإعلان ضرورة اقتصادية واجتماعية، حتى في المجتمعات الاشتراكية. ولكن مما لا شك فيه أن الإعلان لا بد وأن يرتكز على أسس سليمة من العلم والذوق والإخلاق.

وظيفة التثقيف والتنشئة الاجتماعية

وظيفة التثقيف والتنشئة الاجتماعية: والوظيفة السادسة للفن الصحفي هي التثقيف والتنشئة الاجتماعية. وقد قدم العالم الألماني أوتوجروت1 تعريفا للإعلام يقول فيه: "إنه التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها". بمعنى أننا إذا أخذنا صفحة من جريدة أو مجلة وأخضعناها للتحليل العلمي الدقيق لوجدنا أنها تنبض بما في الأمة التي صدرت عنها الجريدة أو المجلة من قيم ومبادئ وعادات وتقاليد. وفي هذا المعنى قال جلبرت مري2 أستاذ التاريخ اليوناني في جامعة أكسفورد: "لو كان لليونان صحف، ولو أن صحيفة واحدة، أو حتى صفحة واحدة من صحيفة واحدة قد وصلت إلى أيدينا، لكانت معرفتنا بالتاريخ اليوناني أكثر حيوية وأعظم عمقا مما عليه الآن؛ لأن الصحيفة سجل نابض بالحياة، وانعكاس لثقافة الأمة، وتجسيد لإطارها الاجتماعي والثقافي". وقد سخر البعض من هذه الوظيفة الصحفية وقال بلهجة تهكمية: "إن الكتاب والفلاسفة هم أولئك الناس الذين تستأجرهم السلطة الحاكمة ليشعروا الناس أن كل شيء يسير على ما يرام"3. والحقيقة أن الصحافة تقوم ببث الأفكار والمعلومات والقيم التي تحافظ على ثقافة المجتمع، وتساعد على تطبيع أفراده وتنشئتهم على المبادئ القويمة التي تسود في الحضارة. فوظيفة التنشئة

_ 1 otto groth - die unerkannte kulturmacht. 2 دكتور إبراهيم إمام، تطور الصحافة الإنجليزية "1956" المقدمة. 3 brown, fechniques of persuasion. "1967" p.21.

الاجتماعية تتصل بخلق الجو الحضاري الملائم للتقدم والنهضة عن طريق التوعية الشاملة بأهداف المجتمع وخططه. فالفن الصحفي يسعى لتكامل المجتمع، بتنمية الاتفاق العام، ووحدة الفكر، بين أفراده وجماعاته، ويقوم بتثبيت القيم والمبادئ والاتجاهات والعمل على صيانتها والمحافظة عليها، ويدخل في ذلك نوعية المواطنين بالسياسات والإجراءات، ودعم قوى الدفاع بإعلام المواطنين بالتهديدات الخارجية والداخلية على الأمن القومي، ويوسع مجال الحديث والمشاركة والمناقشة بترويج الاصطلاحات الجديدة المتعلقة بالنواحي التكنولوجية والثقافية، بطريقة التبسيط والتفسير. وإذا كان الصحافة تعمل على دعم العادات الاجتماعية السائدة، فإنها ترحب بالتعديلات والتغيرات التي يمكن للجماعة أن تطبقها وتقبلها. وهنا يكمن الفرق بين الفن التشكيلي وفن الأدب من جهة، والفن الصحفي من جهة أخرى. فالفنان التشكيلي قد يرسم صورة عارية، والأديب قد يصور حياة امرأة منحرفة؛ لأن الفن -وخاصة في العالم الغربي- قد يقف موقف الحياد الأخلاقي1 ولكن ليس كذلك الصحفي الذي لا بد وأن يلتزم بإخلاقيات المجتمع وعاداته وتقاليده وقيمه. إن الصحفي مثلا ملتزم بقضايا الساعة، وبموضوعات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، ولكن الأدب أو الفنان قد يتحرر من هذا الالتزام. وقد تكون رؤية الأديب أو الفنان للعالم وللقيم من خلال نظرته الذاتية، ولكن الصحفي ينظر إلى العالم نظرة موضوعية من خلال نظرة قرائه، ومن خلال قيم المجتمع ومبادئه. ويمكن النظر إلى الفن الصحفي على أنه ذلك الفن الذي يقوم ببث رسائل واقعية أو خيالية على أعداد كبيرة من الناس، يختلفون فيما بينهم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ويقصد بالرسائل الواقعية مجموعة الأخبار والمعلومات التي تدور حول الأحداث، وكذلك القصص والتمثيليات التي قد ترتكن إلى الواقع وتنسج منه صورة فنية. وفي جميع الأحوال، تراعي الصحافة أن المواد المنشورة تتفق مع الثقافة الشائعة والمعتقدات الدينية والمذاهب السياسية والمعايير الأخلاقية. فالصحافة الغربية تزخر بأخبار العنف والجريمة، وقصص رعاة البقر، والصور العارية، بل إن بعض الصحف تتخصص في نشر الفضائح الجنسية، كحادث الوزير البريطاني بروفيومو وعشيقته كريستين، في حين أن السوفييت يرفضون هذه الأساليب، ويمنعون نشر أخبار الجريمة في صحفهم.

_ 1 ammoral.

القيم والقواعد السلوكية

القيم والقواعد السلوكية: فالصحافة تقوم بالتثقيف، وتطبيع الناس على عادات الأمة وتقاليد الحضارة وطقوسها وأنماط سلوكها، مما يهيئ للفرد أساليب التعامل مع الناس، والتكيف مع البيئة. فقد ثبت الآن بعد دراسات علم النفس الارتقائي، وعلم الإنسان "الأنثروبولوجيا" وعلم الاجتماع، أن التثقيف له أثره الكبير في تشكيل الاتجاهات النفسية والرأي العام. وكثيرا ما يمثل الإنسان بالمادة الخام والمنظمات الاجتماعية بالخزاف الذي يشكل المادة في يده تشكيلا يتفق مع عادات الجماعة وقيمها وتقاليدها. ويؤكد أوديجارد1 أنه من المستحيل فهم الرأي العام في أمة من الأمم ما لم ندخل في اعتبارنا تللك القرى المادية والأدبية التي تشكل شخصية هذه الأمة. ولكي نتعرف على اتجاهاتها وآرائها، يجب علينا أن نهتم بدراسة المنظمات الاجتماعية التي تعطي للفرد معتقداته وتشكل اتجاهاته. فالإنسان في المجتمع يتأثر بالأسرة والدين والتقاليد ونظام الدولة والأصدقاء والأقران، والجماعات ذات النفوذ كالنقابات والأحزاب والهيئات والصحف وأجهزة الإعلام الأخرى. وقد فطن خبراء الحرب النفسية إلى أهمية الصحافة في شن الدعاية السوداء، فاتخذوا من الصحف المشهورة والمجلات المحبوبة ستارا تتخفى الدعاية وراءه، عندما تستعير من الصحف الاسم والعناوين والإخراج وشكل الغلاف

_ 1 odegard quoted by cutlip and center, effective public relations "1952".

وغيرها من المعالم الصحفية التي تعود عليها القارئ وأنس إليها، ثم أخذ من وراء هذا الستار تقطر سمومها لكي تصل إلى أغراضها. بل إن أسلوب الفن الصحفي في الكاريكاتور والنكتة والسخرية والترفيه، كثيرا ما يستخدم لتحقيق الأغراض الدعائية، وذلك على أساس ما للفن الصحفي من قوة في التأثير على الجماهير. إن وظيفة التثقيف والتنشئة الاجتماعية تنطوي على التوعية والإيقاظ والتنبيه، وبث روح المسئولية، والإيمان بالقيم والمبادئ، والشعور بالولاء العميق للأمة. وهنا يقوم الفن الصحفي بتجسيم الأهداف، وشرح الخطط، وإعداد المواطن للعمل في الحرب والسلم على السواء. إن الصحافة تقدم العديد من القواعد السلوكية من خلال الخبر والتعليق والمقال والتفسير والنكتة والقصة والكاريكاتور، ومن خلال الردود على أسئلة القراء. ومن هذه القواعد السلوكية أن الحب هو مفتاح النصر، ويكفي للمرء أن يحب لكي يقهر كل شيء، وتتردد هذه القاعدة -عادة- في ردود الخطابات، كما تتكرر في الأغاني والأفلام. وقاعدة أخرى هي أن العمل المتواصل لا بد وأن يؤدي إلى النجاح. هذا فضلا عن معاني الفضيلة والرذيلة، ومبادئ الثقة بالنفس والثقة بالجماعة والثقة بالله، والإيمان بالدين، والاعتقاد بالثواب والعقاب، ويرمز لها بالجنة والنار. وتلعب الأخبار نفسها هذا الدور عندما تتلقف الأحداث الإنسانية، وتصوغها وترويها بأسلوب صحفي جذاب. مثال ذلك زواج الممثلة جريس كيلي بالأمير رينييه1 حاكم موناكو، وهو موقف يصوره قوة الحب التي تجعل أمير الأحلام يتزوج من الشعب، كما فعل الملك إدوارد الثامن من قبل مع الليدي سمبسون. ولعل أسطورة سندريللا الإنسانية تعمق من قيمة الحب ومعجزته. ويحضرنا أيضا في هذا الصدد اهتمام الصحف بزواج الأميرة الإنجليزية مارجريت بالمصور أرمسترونج2 وهو من الشعب بعد أن رفضت الأسرة المالكة زواجها من

_ 1 rainier. 2 armstong - jones.

رجل آخر لأنه مطلق. ومن ذلك أيضا أخبار السفاح الذي اهتمت به الصحافة المصرية، ثم كتب عند نجيب محفوظ وغيره من الكتاب قصصا تردد نفس الحادث وتعلق عليه، وإذا كان محمود سليمان هو السفاح الواقعي فقد نسج الفنانون حوله قصصا مليئة بالأحداث والقيم. وقد وجدنا من دراستنا لتحليل مضمون الصحف المصرية الحديثة، أن هناك نزعة لتفضيل البساطة، وتصويرها على أنها من أفضل قواعد السلوك، ويتخذ الكتاب من حياة الريف والأحياء الوطنية والبيئات العمالية نماذج لموضوعاتهم. ويحن بعض الكتاب إلى الأيام الخوالي باعتبارها تنطوي على البساطة، ويبشر البعض الآخر بمستقبل زاهر، ويؤكد أن الخير كل الخير في العمل المتواصل والإنتاج لتحقيق أهداف المجتمع الناهض. ووجدنا أيضا نزعة أخرى إلى التقليل من قيمة المال، والتهوين من شأن الثروة، وإعلاء شأن الحب والصحة والسعادة، كما وجدنا تأكيدا مستمرا على القيم الاشتراكية والدينية، وقد كان لهما صدى في الشعار الذي رفع أخيرا وهو "العلم والإيمان". وهكذا نجد أن هذه القيم تتردد في صحافتنا سواء في الأخبار أو الموضوعات أو التحقيقات أو الصور أو المقالات أو القصص.

التحليل الوظيفي للصحافة

التحليل الوظيفي للصحافة: والآن، بعد أن درسنا وظائف الفن الصحفي، ينبغي علينا أن نشير إلى أن هذه الوظائف يمكن أن تحدث آثارا عكسية، تتناقض مع الأهداف المنشودة أو الآمال المرجوة. فليس من الضروري أن تتطابق الأهداف مع النتائج. فإذا قامت وزارة الصحة مثلا بحملة صحفية من أجل حث الناس على الفحص الطبي لاكتشاف بعض الأمراض المعدية، فإن الروح المعنوية للعاملين بمكاتب الصحة قد ترتفع، لما يحظون به من اهتمام صحفي في عملهم اليومي. ولكن في الوقت نفسه، قد تخيف هذه الحملة كثيرا من الناس وتصيبهم بالذعر، وهنا تعتبر الحملة ذات نتائح عكسية أو سلبية لا تتفق مع الأهداف المرسومة لها.

وقد عكف تشارلس رايت1 على دراسة الآثار السلبية والإيجابية للصحافة وغيرها من وسائل الإعلام. يقول رايت إن لكل وظيفة من وظائف الصحافة آثارا إيجابية وأخرى سلبية. ويضرب لذلك مثلا، ذلك التصريح الأمريكي الذي أدلى به الرئيس الراحل كنيدي إلى أمته في أكتوبر سنة 1962 حول حصار كوبا، فقد استقبل أغلب الأمريكيين هذا التصريح استقبالا طيبا، غير أن البعض منهم أحس بالخوف من أن يؤدي هذا الموقف إلى حرب ذرية، أما تأثير هذا التصريح على القراء السوفييت كما أطلقوا عليه في برافدا وازفستيا فقد كان سلبيا للغاية لأنه ينطوي على الإهانة والتحرش. ويتساءل رايت عن الآثار الإيجابية والسلبية لوظائف الفن الصحفي التي يجملها في أربع وظائف رئيسية هي: الأخبار ونشر المعلومات حول البيئة المحيطة بالفرد أو المجتمع الذي يعيش فيه، ثم وظيفة الإرشاد والتفسير والتوجيه التي تقوم بها المقالات والافتتاحيات وغيرها، وكذلك وظيفة نقل التراث الثقافي والتنشئة الاجتماعية، وأخيرا وظيفة الإمتاع أو التسلية أو الترفيه. وهكذا يتفق رايت مع لاسويل2 في أن وظيفة الصحافة -كوسيلة إعلام- تتصل بمراقبة البيئة وجمع أخبارها، والربط بين أجزاء المجتمع لخلق الاتفاق العام أو الرأي العام، وكذلك نقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل، ويضاف الترفيه أيضا إلى هذه الوظائف الثلاث. ولا شك أن خصائص الصحافة التي سبقت الإشارة إليها كالدورية والتكرار والاستمرار والانتظام والعلنية وسعة الانتشار، تجعل آثارها الوظيفية قابلة للدراسة المنهجية العلمية. وقد تصدى رايت لمهمة التحليل الوظيفي لبيان آثار الصحافة على الفرد والجماعة الفرعية والنظام الاجتماعي والنظام الثقافي بوجه عام. فهو يتساءل عن الآثار الإيجابية والنتائج السلبية الظاهرة والكامنة للصحافة وغيرها من وسائل الإعلام في قيامها بوظائفها من الأخبار إلى التفسير إلى الترفيه إلى التثقيف وذلك بالنسبة للفرد والجماعة الفرعية والمجتمع والثقافة.

_ 1 charles wright, "functional analysis in mass communication "p. o. q. "1960" vol. 21-pp. 605-620. 2 harold lasswell, analysis of political behaviour "1949".

العوامل السلبية والإيجابية في الصحافة

العوامل السلبية والإيجابية في الصحافة: إن نشر الإخبار له طابع إيجابي لأنه يعطي تحذيرا من الخطر المحدق بالمجتمع سواء من الداخل أو الخارج، مما يساعد على درء الخطر في الوقت المناسب، كما أنه يتيح للأفراد -من خلال النشر العام- فرصة متساوية للإحساس بالخطر والاستعداد لمواجهته. هذا فضلا عن أن نشر الأخبار ضروري لتحقيق الاحتياجات اليومية للمؤسسات في المجتمع كأخبار البورصة والأوراق المالية والأرصاد الجوية والملاحة البحرية والجوية. وهنا نجد أن هذه الأخبار تخدم الفرد والمجتمع على السواء، ما دامت الرفاهية الفردية متصلة بالرفاهية الاجتماعية. والصحيفة مصدر للمعلومات اليومية العادية، كبرامج الإذاعة والتليفزيون، وأخبار المودات والأزياء، والوفيات والأخبار الاجتماعية وغيرها. ولا شك أن معرفة الأخبار تضفي هيبة واحتراما على الإفراد الذين يعرفونها، كما أن التركيز الصحافة على فرد من الأفراد كنشر صورته والتحدث عنه يضفي عليه هالة من الاحترام والتقدير. وهنا نجد أن الصحافة تلعب دورا خطيرا في محاسبة المنحرفين وكشف النقاب عن الخارجين على القانون والعرف والقيم، وإدانة المنتهكين للتقاليد والأخلاق. فكأن الصحافة تقوم بفضح السلوك المنحرف، وتنهض بمهنة الضبط الاجتماعي التي كان يقوم بها الاتصال الشخصي في المجتمعات الشفوية. غير أن معرفة الأفراد بالأخبار قد تؤدي إلى انتشار اللامبالاة؛ لأنهم قد يتعودون أن المعرفة وحدها كافية، وأنه غير مطلوب منهم القيام بأي نشاط إيجابي فتنتشر السلبية بين الأفراد، وهذه ما تسمى أحيانا بظاهرة التخدير. وقد تؤدي الأخبار إلى تلقين المنحرفين أساليب السلوك العادي للمجتمع.

وإذا كانت الأخبار تعطي المعلومات للجماعات الفرعية كالجماعات السياسية الحاكمة، وتساعدها في محافظتها على السلطة، فإنها قد تؤدي من جهة أخرى إلى تقليل نفوذ تلك الجماعة الحاكمة، إذا ما تضاربت الأخبار عن الخسائر في وقت الحرب أو ادعاءات القادة بالنصر، أو حينما تهدف دعاية الأعداء عمدا إلى التهوين من شأن القادة والتقليل من قيمتهم في نظر شعوبهم. والحقيقة أن نشر الأخبار قد ينطوي على خلق تطلعات جديدة وتوقعات مبالغ فيها كما حدث في ثورة التطلعات في العقد الخامس في هذا القرن، ثم تلتها حالة من التذمر والإحباط بعدما ثبت أن من الصعب سد هذه الاحتياجات وإرضاء تلك التطلعات والآمال. وقد يكون وقع الأخبار سيئا للغاية عندما يتكرر التحذير فيصاب الناس بالذعر، كما أن الفرد قد يتحول باهتماماته إلى حياته الخاصة، ويولي ظهره تماما للأخبار العامة، إذا ما كانت مبالغة في كميتها بحيث تغرق الفرد في بحر هائل من المعلومات التي لا يستطيع أن يفعل حيالها شيئا. وهنا تنشأ حالة من التبلد الذهني والوجداني؛ إذ يكتشف الفرد أن كل ما يطلب منه هو أن ينفعل دون أن يفعل شيئا، وهذا هو جوهر الشخصية السلبية. ولا شك أن للأخبار آثارها الحميدة في نقل الثقافة من مجتمع إلى آخر بغية التنوع والإثراء الحضاري، غير أن الأخبار التي تترك دون رقابة أو عناية قد تؤدي في نهاية الأمر إلى نوع من الغزو الثقافي، واجتثاث للثقافة الأصلية المضيفة للثقافة الوافدة. وتأتي وظيفة التفسير والتوجيه لمساعدة الفرد على تجنب المبالغة في تقويم الأحداث، وكذلك في الإسراف الشديد في الحساسية. فالصحفي الحديث يعرف أنه مسئول عن وضع الأحداث في نسبها الحقيقية، وإعطاء الأخبار وزنها النسبي السليم. ومن الثابت أن أحكامنا السياسية والعامة لا تصدر نتيجة تأثرنا بالواقع الموضوعي وحده، وإنما تصدر أيضا عن فهمنا وتصورنا لهذا الواقع الموضوعي من خلال تأثرنا بالصحافة وغيرها من وسائل الإعلام. فالمؤثرات التي تحيط

بالإنسان لا تكون السبب المباشر في الاستجابة للبيئة، ولكن معنى هذه المؤثرات، أو صورتها في ذهن الإنسان، هي التي تحدث الاستجابة. وقد تكون الأحداث أو الحقائق من الصعوبة بحيث لا تفهم إلا بعد تبسيطها وشرحها وتفسيرها، وهذا ما تقوم به الصحافة كوظيفة من أهم وظائفها. غير أن تفسير الأخبار وتوجيه السلوك قد تكون له آثار سيئة؛ لأنه ربما يؤدي إلى التقليل من قيمة النقد الاجتماعي، وإلا تعرض النقاد لعقاب من الحكومة. وفي المجتمعات التجارية الرأسمالية ينأى النقاد عن أي توجيه إيجابي حرصا على عدم إغضاب أي فئة من الفئات الاجتماعية؛ خوفا من التأثير الاقتصادي السيئ كالمقاطعة مثلا. وقد يتأثر الفرد نفسه تأثير سيئا نتيجة للتعرض المستمر لوجهات النظر الموجهة، حتى يتعود على التلقي السلبي للمعاني، دون أن يعمل فكره، فتقتل حاسة النقد فيه.

نظرية التحليل الوظيفى للفن الصحفي

نظرية التحليل الوظيفي للفن الصحفي: وقد رأينا أن عملية التنشئة الاجتماعية تساعد على استمرار التراث الثقافي، ونقل القيم والخبرات المشتركة. ولا شك أن الصحافة عامل هام في عملية التطبيع إلى جانب الأسرة والمدرسة والدين، ولكن كثيرا ما ينجم عن نشر الثقافة من العاصمة قضاء على الثقافات المحلية أو الأقليمية. ومن هنا جاءت ضرورة إنشاء الصحافة الأقليمية وغيرها من وسائل الإعلام المحلية كالإذاعات ومحطات التليفزيون الإقليمية والمحلية. غير أن العناصر الدرامية في الصحافة والإعلام قد تؤكد على العلاقات الجنسية والعنف بطريقة ضارة بالشباب، مما يشجع على السلوك المنحرف. كما أن الإعلان الرديء في المجتمعات الرأسمالية التنافسية قد يخلق روحا فظة غليظة وذوقا عاما رديئا. بل إن العالم الفنان هربرت ريد1، يذهب في كتابه "معنى الفن" إلى أن التنشئة الاجتماعية السيئة قد تكون سببا في خلق

_ 1 HERBERT READ, THE MEANING OF ART.

الشخصيات المريضة التي تستمتع بالقسوة، وتتلذذ بسفك الدماء. ويرى أن مثل هذه الظروف هي التي تخلق جو القرن العشرين المفعم بالكآبة والسوداوية وحب الانتقام. فإذا كانت التنشئة الاجتماعية تؤدي إلى اكتساب ثقافة الجماعة وأساليب سلوكها. وزيادة التآلف الاجتماعي بين أفرادها، وتوسيع قاعدة الأساليب الشائعة والخبرة فيما بينهم، مما يقلل من الاتجاهات الانقسامية والتمزقية، ويشيع القيم السائدة، والاندماج الاجتماعي، فإنه في الوقت نفسه قد يساعد على خلق المجتمع الجماهيري، ويقلل من الخصائص الفردية. ونجد في كتابات علماء الإعلام المتخصصين في الدول الحديثة شكوى مريرة من المجتمع الجماهيري الضخم الذي يصبح فيه الفرد متعرضا للتشكل عن طريق أجهزة الإعلام وأدوات التأثير في الجماهير وخاصة الإعلان والدعاية والعلاقات العامة. وإذا أتينا إلى وظيفة الترفيه، وجدنا أن الإمتاع والتسلية من الوظائف التي تعمل على إراحة الجماهير نفسيا، وإعطاء فرصة للانتعاش بعد العمل الطويل، ولكن الترفيه قد يتردى إلى الهبوط بمستوى الأذواق، كما أنه قد يخلق الفرص لظهور الاتجاهات الهروبية في القصص الخيالية، والدراما الرومانسية، والمعالجات البعيدة عن الواقع ومشاكله. ولا شك أن في ذلك إضعافا للمستويات الجمالية والثقافية الرفيعة، كما أنه قد يعطي للسلطة الحاكمة فرصة لصرف أنظار الشعب عن مشكلاته وواقعه. ويمكن تلخيص نظرية التحليل الوظيفي للفن الصحفي في النقاط الأربع التالية: فبالنسبة لوظيفة الأخبار نجد أنها تعمل على تحذير المجتمع من الأخطار الطبيعية مثل الهجوم أو الحرب أو الوباء، وتنقل معلومات نفعيه كالأخبار الاقتصادية والجوية والتموينية. ولكنها تهدد المجتمع بمقارنات بمجتمعات أخرى أفضل مما يخلق ثورة التطلعات. ومن ناحية أخرى قد تؤدي الأخبار إلى ظهور حالة من الذعر أو الخوف. وتعطي الأخبار للفرد معلومات مفيدة، وتضفي عليه هيبة واحتراما، وتمكنه من ممارسة قيادة الرأي، ولكنها قد تسبب في زيادة الإحساس بالفقر والحرمان وتخلق روحا من اللامبالاة والتخدر.

وللأخبار فائدة محققة للطبقة الحاكمة لأنها تعطيه معلومات مفيدة لزيادة نفوذها وتقويته، والكشف عن المنحرفين، والتأثر على الرأي العام عن طريق المراقبة والسيطرة واختفاء الشرعية على السلطة، ولكنها قد تهدد الطبقة الحاكمة عندما تتكشف نواحي الضعف، وتظهر الأحوال الحقيقية، التي قد يسهم الأعداء في نشرها. وإذا كانت الأخبار عاملا مساعدا لنشر الثقافة العامة، فإنها قد تتيح الفرصة لغزو ثقافي. ولا شك أن وظيفة التفسير والتوجيه تساعد على التعبئة والتوعية، وتقف في مواجهة التهديدات التي قد تعصف بالاستقرار الجماعي، وبذلك تمنع انتشار الذعر، ولكنها قد تؤدي إلى الخضوع الاجتماعي، وتعرقل التغيير، وتعطل النقد. وتعمل هذه الوظيفة على تقليل التوتر بين الأفراد وتبسيط المعلومات واستيعابها، ولكنها قد تؤدي إلى زيادة السلبية، وضعف القوى النقدية لدى الفرد. ولا شك أن التفسير والتوجيه يساعدان الجماعات الفرعية الحاكمة مثلا على الاحتفاظ بالسلطة، ولكنها في الوقت نفسه تحملها مسئوليات ضخمة. أما بالنسبة للثقافة فإنها تعرقل الغزو الثقافي، وتحقق المحافظة على التراث القومي، ولكن ذلك ينطوي أيضا على خطر التقوقع، وعرقلة النمو الثقافي، والابتعاد عن كل ما قد يؤدي إلى إثراء الثقافة عن طريق الانفتاح على الخارج. وقد رأينا أن وظيفة الترفيه ذات أثر نفسي حميد للتنفيس عن المتاعب والآلام، ولكنها قد تجعل المجتمع غارقا في الأوهام وبعيدا عن الواقع، مما يزيد السلبية، ويتيح الفرصة لظهور الاتجاهات الهروبية. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه الأوضاع ربما توفر وسيلة للسلطة الحاكمة للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية. فضلا عن أن الترفيه قد يهبط إلى مستويات ضارة بالذوق العام. ولا شك أن مهمة التنشئة الاجتماعية لها آثارها الحميدة لتكامل المجتمع ووضوح أهدافه، واندماج فئاته وتنشئة شبابه وخلق الوحدة الفكرية والوجدانية. ولكنها قد تؤدي إلى خلق المجتمع الجماهيري الذي يصبح الفرد فيه

مجرد وحدة خاضعة لأسلوب حياة نمطي عام. حقيقة أن التنشئة الاجتماعية تعمل على تقليل الاتجاهات الانحرافية، وتمنع التمزق، وتصون القيم، ولكنها في الوقت نفسه قد تمكن السلطة الحاكمة من البقاء في السلطة والاعتماد على روح المحافظة دون أي تغيير، وذلك يقضي على ضرورة النمو، إن التماثل والمحافظة على القيم من الأمور المرغوب فيها، ولكن التغيير والنمو من سمات الحيوية والتطور لبلوغ الآفاق الجديدة في الحياة.

الباب الرابع: فن الخبر الصحفى

الباب الرابع: فن الخبر الصحفى مدخل ... الباب الرابع: فن الخبر الصحفي لا شك أن الخبر قديم قدم البشرية؛ لأنه يتصل بحياة الإنسان، وهو ينشأ بالضرورة في كل مجتمع من المجتمعات مهما كان بسيطا أو بدائيا، ولكننا نهتم هنا بفن الخبر الصحفي، أي فن الخبر المطبوع في الصحف المنشورة، ولا يعنينا في هذا الصدد فنون الخبر الشفوية التي كانت -ولا زالت- تعرف في المجتمعات البدائية. وكذلك نمر مر الكرام على الخبر المخطوط أو المنسوخ، الذي عرف قبل اختراع المطبعة، وإن كان قد ظل معروفا للناس حتى بعد ظهور الصحف المطبوعة. غير أن الخبر المخطوط أو المنسوخ لم يستطع أن يصمد أمام الخبر المطبوع لرخص ثمن الأخير وسعة انتشاره وانتظام صدوره وخاصة بعد أن انشئت مكاتب البريد في القرن الخامس عشر. ومن الطريف أن الخبر الصحفي ظهر متأثرا بالخبر الشفوي والخبر المخطوط فكان بشكل أغنية أو صورة شعرية أو نثرية. وقد اتخذت الدوريات التي كانت تعرف باسم الجازيتات -ولعلها نسبة إلى الجازيتا وهي عملة إيطالية- عناوين طويلة لأخبار مبالغة وشاذة عن خوارق الطبيعة. ثم أخذت الأخبار تتنوع بعد ذلك، وتبتعد عن الصورة الشعرية وتقترب من شكلها الواقعي الموضوعي الحديث.

ماهية الخبر الصحفي

ماهية الخبر الصحفي: وقد اختلف الباحثون والعلماء حول تعريف الخبر. فيقول تشارلس دانا1: "إن الخبر هو كل ما يهم الجماهير العريضة من الناس ويلفت أنظارهم" ويقول البعض إنه الشيء الجديد الذي يتلهف القراء على معرفته بمجرد نشره في الصحيفة وقد جاء في كتاب تاريخ التيمس -وهي صحيفة إنجليزية مشهورة- إن الخبر هو تسجيل لمحاولات الفرد المثابرة نحو اختراق رداء ذلك الغموض بعيد المدى الذي يكتنف أفقه. ولا شك أن هذا التعريف يوضح مدى فضول الناس وحبهم الغريزي للاستطلاع وخوفهم من المجهول وميلهم إلى مراقبة البيئة والاطمئنان إلى كل ما يحدث فيها. وقد رأينا أن الفضول والقلق والخوف من أهم العوامل التي تساعد على ظهور الأخبار وانتشارها. ويرى تشيلتون بوش2 الأستاذ بجامعة ستانفورد أن الخبر هو تقرير عن حادث يستطيع القارئ أن يفهمه. وفي تعريف آخر3 أن الخبر هو كل جديد يهم أكبر عدد ممكن من الناس. أما كيرتيس ما كدوجال4 فيرى أن الخبر هو تقرير عن أحداث يجد الصحفي الممتاز أنها صالحة للتحرير النشر. ويعرف ولزلي وكامبل5 الخبر بأنه تقرير عن فكرة أو حادث أو صراع له صفة الحالية أو الجدة ويهم المستهلكين "القراء". وترى الصحافة الرأسمالية أن الخبر هو تقرير عن حادث معين ترى الصحيفة في نشره وسيلة للربح المادي. غير أن سام باكلي الذي أصدر أول صحيفة إنجليزية سنة 1702 وهي "ذي ديلي كرانت" كتب يقول: إن أهم ما يتصف به الخبر هو الحيدة التامة وعدم المحاباة. وهناك تعريف آخر يقول إن الأخبار هي بعض أوجه النشاط الإنساني التي تهم الرأي العام وتوجهه وترشده وتسليه وتعلمه.

_ 1 CHARLES DANA. 2 CHILTON BUSH. 3 WILLARD BLEYER. 4 CURTIS MEDOUGALL. 5 WOLSELEY AND CAMPBELL, EXPLORING JOURNALISM "1957" P.271-272.

وقد عقدت مجلة كوليير الأسبوعية الأمريكية ندوة جمعت إليها عددا كبيرا من محرري الصحف في أمريكا لكي يمدوا المجلة بتعريف صحيح للخبر الذي ينشر في الصحف، ولكن أعضاء الندوة اختلفوا اختلافا كبيرا في ذلك. فظهرت المجلة وبها عدد كبير من التعريفات. ومنها على سبيل المثال. 1- الخبر هو كل ما يهم القراء أن يعرفوا عنه شيئا ما. 2- الخبر هو كل شيء يرغب عدد كاف من الناس في قراءته بشرط ألا يكون خارجا على قواعد الذوق العام، وقوانين السب والقذف. 3- الخبر هو كل شيء يحدث ويهتم به الناس. 4- الخبر هو كل ما قد يتحدث عنه الناس، وكلما كان الاهتمام الذي يثيره فيهم أكبر كانت قيمته أعظم. 5- الخبر هو الاستطلاع الدقيق للأحداث الإنسانية، والكشوف والآراء فيما يهم الناس ويؤثر فيهم. 6- الخبر هو كل ما يحدث وكل ما توحي به الأحداث وكل ما ينجم عنها. 7- الخبر هو الوقائع الأساسية التي تتعلق بأي حدث أو مناسبة أو فكرة تستحوذ على اهتمام الناس، وتؤثر على الحياة وعلى السعادة البشرية. 8- الخبر قائم في أساسه على الناس، ويجب أن يكون محدودا بما يعنيهم، وما يرضيهم دائما. 9- الخبر يشمل كل أنواع النشاط الجاري الذي يستحوذ بصفة عامة على اهتمام الناس، وأحسن الأخبار ما أثار اهتمام أكبر عدد من القراء. 10- الخبر كل ما يتعلق بالصالح العام، وكل ما يهم القراء أو يترك أثرا في علاقاتهم ونشاطهم وآرائهم وأخلاقهم وسلوكهم.

وقد قال اللورد نورثكليف -منشئ الصحافة الإنجليزية الحديثة- أن الشيء الوحيد الذي يساعد على زيادة توزيع الجريدة هو الخبر، والخبر هو كل ما يخرج عن محيط الحياة العادية المألوفة، ويكون مدار حديث العامة والخاصة1. وهناك تعريف آخر يقول2: إن الخبر الصحفي هو كل خبر يرى رئيس التحرير أو رئيس قسم الأخبار في جريدة ما أنه جدير بأن يجمع ويطبع وينشر على الناس لحكمة أساسية هي أن الخبر في مضمونه يهم أكبر جمع من الناس ويرون في مادته أما فائدة ذاتية أو توجيها هاما لأداء عمل أساسي أو تكليفا بواجب معين إلى آخر ما يراه الناس واجبا يتحتم على الصحافة كأداة من أدوات الإعلام أن تؤديه نحوهم. ومن هنا نستطيع أن نفرق بين الأخبار العادية التي تتداولها بعض الألسنة، والأخبار الصحفية التي تتداولها كل الألسنة.

_ 1 د. عبد اللطيف حمزة، المدخل في فن التحرير الصحفي "1956" ص55، 56. 2 جلال الدين الحماصي، المندوب الصحفي، الجزء الأول "1963" ص23، 24.

الخبر الصحفى بين الشرق والغرب

الخبر الصحفي بين الشرق والغرب: على أننا ينبغي أن نفرق بين مفهوم الخبر في الحضارة الغربية ومفهومة في الحضارة الاشتراكية الشرقية، فالصحافة الغربية تجد أن نشر الأخبار غاية في ذاتها. ولعل نورثكليف هو صاحب القول المأثور: "إن كلبا عض رجلا ليس خبرا يستحق النشر، ولكن رجلا عض كلبا هو الخبر الذي يستحق النشر"، بالرغم من أن مثل هذا الخبر يخلو تماما من الدلالة أو القيمة للصالح العام. وقد ذكرنا أن الصحافة الصفراء -صحافة الجنس والعنف والإثارة- قد نجمت عن الرغبة في إثارة الجماهير العريضة، ونشر الأخبار التافهة. وقد ارتبطت هذه الصحافة في أمريكا باسم بولتزر وهيرست1 عندما أصبح التهويل والمبالغة طابعا عاما للصحافة الصفراء من أجل رفع التوزيع وزيادة الأرباح. وأخطر من ذلك عناية هذه الصحف عناية عجيبة بنشر أخبار الجريمة، مما أثار القادة وأرباب

_ 1 pulizer & hearst,

الأقلام والمصلحين. وقد ارتبطت هذه الصحافة الصفراء بالعناوين العريضة "المانشيتات" والمبالغة في استخدام الصور والألوان الزاهية، والإسراف في الرسوم والصور الكاريكاتورية1. وتعمد الصحافة الصفراء إلى الإكثار من النكت والفكاهات والمداعبات، كما أنها تبتكر الشخصيات، وتخترع المواقف المسرحية الدرامية، وكأنها تدافع عن الصالح العام، في حين أنها تجري وراء الأخبار الشخصية والفضائح، حتى ولو كان ذلك على حساب الأسر المرموقة والشخصيات المحترمة. غير أن القراء في نهاية الأمر، يرفضون هذا النوع من الصحافة، ويسعون وراء الدقة والعناية بالجوهر. ولعل هذا الشعور هو الذي أفضى بجريدة لابرس2 الفرنسية -وهي من الصحف الصفراء- إلى التوقف عن الصدور، سنة 1927، عندما بالغت في التغرير بالجمهور. فقد نشرت هذه الجريدة نبأ وصول طيارين مغادرين إلى نيويورك بعد أن عبروا المحيط الأطلنطي لأول مرة، ثم تبين فيما بعد أن الطائرة سقطت في المحيط. أما الصحافة في العالم الاشتراكي كالاتحاد السوفييتي مثلا، فإنها تنظر إلى الخبر من ناحية وظيفته الاجتماعية. فالسبق الصحفي لا يقصد لذاته، ولا ينشر خبر من الأخبار إلا بعد التأكد من فائدته للحزب وللمجتمع. فمثلا، لقد ألقى إيزنهاور خطبة هامة طالب فيها بعقد اتفاق عالمي للسلام، وكان ذلك في السادس عشر من إبريل سنة 1953، غير أن الصحافة السوفييتية لم تنشره إلا في الخامس والعشرين من نفس الشهر. كما أن أخبار انتخاب نيكسون مثلا لم تجد طريقها إلى الصحف الاشتراكية إلا بعد فترة من الزمن. وكان الخبر بسيطا في ذيل عمود في آخر الصفحات. بل إن أخبار أبوللو 12 و13 و14 ووصول رواد الفضاء إلى القمر لم تجد طريقها للنشر. وهناك تعريف للخبر يقول: "إن الخبر هو ذلك الشيء الذي يخدم مصالحنا! ".

_ 1 frank luther mott, american journalism. 2 la presse.

ويرى السوفييت أن السبق الصحفي عادة برجوازية سيئة. ويعلل جوكوف -نائب رئيس تحرير البرافدا- سبب التأخر في النشر والتعليق على بعض الأحداث العالمية يومين أو ثلاثة بقوله: "إن النجار الماهر يقيس سبع مرات ويقطع مرة واحدة"1 فليس غريبا أن تقبع البرافدا في مكان هادئ بمبناها الضخم المرتفع، ولا يسمح للأجانب بالصعود إليها إلا بإذن خاص، ولا حتى للسوفيتي نفسه، إلا بعد تقديم بطاقته إلى الحارس الرسمي. والحقيقة أن الصحافة السوفييتية قد تعرضت لنقد عنيف في المقال الذي نشرته مجلة الحزب القومية "كوميونست" بقلم ستربيوكهوف وهو من الموظفين البارزين في إدارة الإعلام والدعاية المركزية للحزب الشيوعي، وقد جاء فيه: "إن الصحف السوفييتية جامدة مملة، ذات طابع واحد، وسطحية، وضعيفة من وجهة النظر الأيديولوجية. وإننا لو نظرنا إلى مجموعة من الصحف والمجلات الصادرة لما أمكن التفريق بينهما إلا بالنظر إلى أسمائها". وتطالعنا جريدة "البرافدا" في الخامس من مايو سنة 1956-وهو يوم الصحافة السوفييتية- بمقال جاء فيه: "إن تقرير اللجنة المركزية إلى المؤتمر العشرين أبرز أهمية توجيه عناية خاصة إلى تدعيم دور الصحافة في جميع الميادين السياسية والتنظيمية والأيديولوجية. وعلى ذلك يجب إدخال تحسينات جوهرية على طريقة تحرير الصحف وإزالة الأخطاء التي جعلت من الصحافة شيئا غير مستساغ، وتعالج موضوعات مكررة لا معنى لها". وقد امتدح "بولن" -مساعد رئيس تحرير الأزفستيا- الصحافة الغربية، ونصح الصحفيين بمحاولة إرضاء أذواق القراء. ولقد أعرب إيفار سبكتور2 عن هذه الحقيقة بقوله: "إن الروس الذين يقرءون الصحف الأمريكية محقون في إبداء دهشتهم، عندما تفاجئهم هذه الصحف بأخبار الحوادث والجرائم وحالات الطلاق والزواج وغيرها من أخبار المجتمع، وهم يدهشون كذلك عند رؤيتهم قسما خاصا

_ 1 أحمد بهاء الدين، شهر في روسيا، صحفة 109. 2 إيفار سبكتور، خطر العقل الروسي ترجمة صلاح الشبكشي، صفحة 14.

بالرياضة يحتل جزءا كبيرا من الصحف اليومية العادية، فمثل هذه الموضوعات أهملتها الصحافة السوفييتية فهي لا تنشر إلا أنباء مختصرة عن النواحي الرياضية الأخرى مثل مباريات الشطرنج أو كرة القدم". وذكر الكسي أدجوبي -زوج ابنه خروشوف- رئيس تحرير أزفستيا أنه عندما نشرت صحيفته خبرا عن طلاق مارلين مونرو، احتج القراء السوفييت على نشر هذا الخبر الذي أسموه "هراء! " وقد وجدت صحيفة "البرافدا" في تطور الصحافة السوفييتية وخروجها عن المألوف بنشر الصور والمقالات المسلية والرسوم الفكاهية، أن الصحافة قد صارت مقلدة "لجرائد الفضائح"، كما نددت بالإعلانات وقالت إها تقليد للطريقة المتبعة في الصحافة البرجوازية. وذهبت إلى أنه من الخطأ إرضاء القارئ على حساب الحد من الدعاية الأيديولوجية.

من الخبر الجاد إلى الخبر الخفيف

من الخبر الجاد إلى الخبر الخفيف: وقد كانت الأخبار السياسية والاقتصادية هي الطابع الغالب على صحافتنا المصرية منذ صدورها سنة 1828. وحتى الصحافة الشعبية نفسها كانت تنظر إلى الخبر على أنه موضوع سياسي وعلمي تجاري، كما يتضح من نص طلب الترخيص الذي تقدم به سليم تقلا لشرح قصده من إصدار صحيفة الأهرام؛ إذ يقول: "والإفادة من ذلك أن الجريدة الملتمس إنشاؤها في الإسكندرية تحتوي على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية وكذلك طبع الكتب". والحقيقة أن الأخبار كانت تدور في مجملها حول الثناء على ولي النعم، وبيان نشاط الحكومة في ترقية الأحوال، وكذلك فيما يحدث في سائر أنحاء العالم، غير أننا نلمح أحيانا بعض الأخبار الطريفة في صحيفة الوقائع المصرية، وهي أخبار مترجمة عن الصحف الأجنبية، وهي في الغالب فرنسية. ويبدو أن رفاعة رافع الطهطاوي -محرر الوقائع الأول- قد تعلم في فرنسا شيئا عن المعالجة الإنسانية للأخبار، والابتعاد عن الموضوعات الجافة. ومن الواضح أن الصحفيين كانوا يؤثرون نشر الأخبار الأجنبية؛ لأن نشر الأخبار المحلية كان

يعرضهم لضيق الحكام وتبرمهم، وربما إثارة سخطهم وتعرضهم للعقوبات الأليمة. ومن الغريب أن تطالعنا جريدة الأهرام على صفحتها الأولى بعددها الصادر في 10 إبريل سنة 1889 بمسألة فكاهية تقول فيها: "أجب يا من لك إلمام بأوليات الحساب عن عدد قيمته 45 طرح من عدد آخر قيمته 45 فكانت قيمة الباقي 15 وجنس الأعداد واحد من المطروح والمطروح فيه -كاتبه أسعد حداد". وجاء جواب هذه المسألة في العدد التالي "لقد استقبلنا حل هذه الفزورة في وقت واحد بقلم حضرة الخواجة جرجس ملك وقلم حضرة الخواجة يوسف إلياس وكلا الحلين متفقة". وقد رأينا كيف انتقلت الصحافة الغربية من النقيض إلى النقيض. فبعد أن كانت جادة كل الجد، عابسة كل العبوس، أصبحت في مطلع القرن العشرين تافهة كل التفاهة، ماجنة كل المجون. فقد أصبحت الأخبار تافهة هشة، تطفح بأخبار الجريمة والفضيحة والعنف. ولا شك أن اهتمام الصحافة بالربح ورفع التوزيع واحتواء القراء الجدد من البسطاء والعمال قد دفع الصحافة إلى هذا التيار. بل إنها أخذت تبتدع الأخبار وتختلقها اختلاقا فإذا شحت الأخبار، أوحت الجريدة -كما فعلت الديلي ميل- إلى مغامرة الرياضيين أو السباحين بعبور بحر المانش مثلا. وقد انزلقت صحيفة أخبار اليوم المصرية إلى هذا النوع من الصحافة فأخذت تنشر أخبار الجريمة في شيء من التفضيل المثير، وخاصة تلك الجرائم الجنسية البشعة. كما استخدمت بعض الفتيات للاتصال بكبار رجال الفكر والأدب بالتليفون ثم نشر موضوع المكالمة في العدد التالي لتكون مثيرة طريفة. كما سارت في سبيل اختلاق الأخبار المصنوعة إلى آخر الشوط فأجرت المسابقات حول اختيار البطريرك الجديد، أو مسابقة الطيران الشراعي. وقد كتبت إحدى الصحف تقول: إذا كان المخبر الصحفي تعوزه المعلومات الأساسية التي تحيط بالأحداث سواء أكان اكتشافات أو مخترعات فكيف

يستطيع هذا الصحفي أن ينقل الأخبار ويجعلها مفهومة للقراء؟ لا شك أنه يضطر إلى معالجة الموضوع بخفة، فيكتب عن الجوانب التافهة، ويهمل الجوانب الجادة. ولكن يتفادى الصحفي التجريد وبرودة الموضوعات الصعبة والمجردة، يحاول إيجاد الصورة أو الشخصية التي تجسد آراءه ويتعامل مع الصورة الشخصية عوضا عن الفكرة، مما يسمح له بالوصول إلى عقلية الجماهير وأفهامهم العادية. وهكذا نجد أن الطابع الشخصي أوالتجسيد يغلبان على التفكير والتجريد. وهكذا تتغلب المغامرات الغرامية، والأخبار الخفيفة، وترديد النماذج المألوفة بدلا من التصدي الحقيقي الجاد لواقع الحياة. إن الأخبار التي تدور حول شخصية علمية مثلا كأينشتين تنزلق إلى معالجة سطحية لأطواره الغريبة، فيقال إنه يكره صابون الحلاقة، ويفضل تسريحة شعر معينة، ويرتدي ملابس قديمة، وكل ذلك على حساب مؤلفاته وأفكاره، التي لا يشار إليها إلا بمجرد اللمحات البسيطة.

كيفية الحصول على الأخبار

كيفية الحصول على الأخبار: تعتبر وكالات الأنباء العالمية والإقليمية والمحلية من أهم مصادر الأخبار وكذلك يعتبر قسم الاستماع الإذاعي مصدرا غنيا بالأخبار غير أن هذين المصدرين -على أهميتهما- لا يميزان صحيفة عن أخرى؛ لأنهما مورد شائع لجميع الصحف والمجلات. ولو وقف الأمر عند هذا الحد وكانت الصحف تعتمد فقط على وكالات الأنباء والإذاعات لما كان لصحيفة ميزة على الأخرى من الوجهة الإعلامية، ولما برزت شخصية صحيفة معينة وظهر تفوقها على الأخرى. حقيقة أن فن الصياغة والعرض الفني يلعبان دورا هاما، ولكن اختلاف المصادر هو الذي يجعل الصحيفة ذات شخصية فريدة. ومن هنا كان لا بد من الاعتماد على المصادر الخاصة كالشخصيات الكبيرة التي يلتقي بها الصحفيون، وسفراء الدول الأجنبية، ورجال السلك السياسي، وكبار المفكرين، والوزراء والقادة. ومع أن الوزارات والمصالح والشركات قد

أنشأت إدارات متخصصة للعلاقات العامة؛ لنشر الأخبار على الصحفيين، فإن المخبرين الناجحين لا يعولون على هذا المصدر العام وحده، ويحاولون دائما الحصول على الأخبار من مصادرها الأولى. ولكن ليس معنى هذا أن يلجأ الصحفي إلى طرق غير مشروعة لاستقاء الأخبار. فالسرقة والتساهل في العرض والشرف وخراب الذمم والتضليل والغش والخداع والرشوة ليست من فنون الصحافة في شيء. وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا نموذجا لخداع المستعمر، عندما نجح الشيخ علي يوسف في الحصول على أخبار الحملة المصرية على دنقلة، عن طريق الاتصال بتوفيق أفندي كيرلس الموظف بمكتب بريد الأزبكية -وهو المكتب الذي كان يتلقى البرقيات الخاصة بالحملة، فإن هذا المسلك كان طبيعيا، ما دام الإنجليز قد حرموا صحيفة المؤيد من الأخبار، بينما أغدقوا بها على صحيفة المقطم التي كانت تتحدث بلسانهم. لقد كان الأمر مكيدة مدبرة، والحرب خدعة، وهذا ما فعله الشيخ علي يوسف فاستحق إعجاب الشعب المصري الذي هتف بحياته وحمله على الأعناق. وقد تلعب المصادفة دورا هاما في الحصول على الأخبار. وقد اطلع الشعب المصري يوما في جريدة الأهرام على خبر زواج توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء، وهو في السبعين من عمره، من فتاة نمساوية في السابعة عشر من عمرها، وكانت جريدة الأهرام أولى الجرائد المصرية التي سبقت إلى نشر هذا الخبر الذي شغر بال الرأي العام في مصر مدة غير قصيرة. "وفي ذلك الوقت الذي اشتعل فيه الغرام بين السياسي العجوز والشابة النمساوية مر المرحوم الأستاذ جبرائيل تقلا بقرية من القرى، وأراد أن يبقى فيها ليلة واحدة، وبينما هو يسجل اسمه في دفتر الفندق لاحظ صاحبه أنه كتب أمام جنسيته أنه مصري، فأخبره بأن بين نزلاء الفندق مصريا آخر كبيرا اسمه توفيق نسيم، وإن هذا السياسي الكبير سيتزوج من ابنته، وأحس الأستاذ جبرائيل تقلا بأنه وقع على نبأ هام. نبأ لا بد أن يحدث دويا في مصر، وأمسك الأستاذ تقلا بالورقة التي سجل عليها اسمه فشطب ليلة واحدة، وكتب عدة ليالي. فقد شعر بأن مكانه

كصحفي في هذا الفندق حيث تولد قصة صحفية ضخمة، وبالفعل كانت القصة من الضخامة بحيث شغلت قراء الأهرام عدة أشهر"1. غير أن عنصر المصادفة وحده لا يجدي ما لم يقترن بذكاء الصحفي وحصافته، وتخطيطه وتدبيره. ويروي لنا الأستاذ جلال الدين الحمامصي عدة قصص لنماذج ممتازة للحصول على الأخبار. منها مثلا أن صحفيا أمريكيا استطاع أن يحصل على أخبار خطيرة عن توقف بريطانيا عن دفع ديونها لأمريكا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لقد بدأ الصحفي يدرس عادات وتصرفات رئيس الوزراء البريطاني مستر رامزي مكدونالد، فعلم أنه اعتاد على الخروج من منزله في 10 داوننج ستريت في الساعة السادسة والنصف من صباح كل يوم، وقبل تناول طعام الإفطار، في جولة على الأقدام، يقف خلالها ليطعم البط في بحيرة من البحيرات الصناعية في حديقة من حدائق لندن "هايد بارك"، ولهذا قرر ببيرهس -وهذا هو اسم الصحفي الأمريكي- أن يقلد رئيس الوزراء البريطاني: يقوم كل يوم صباحا ويطعم الطيور، وهذا أمر لم يكن يفعله في حياته على الإطلاق. وهكذا توطدت الصداقة بينهما حتى جاءت اللحظة المناسبة التي عرف فيها الصحفي حقيقة النبأ وأبرق به إلى وكالته. وقد استطاع مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط سنة 1956 أن يسبق جميع وكالات العالم بحيلة طريفة، فقد كان يسجل خطبة الرئيس جمال عبد الناصر في غرفة من غرف البرلمان حيث كان يخطب رئيس الجمهورية، وينقل بالتليفون فقرات الخطبة أولا بأول، فتسجلها الوكالة وتذيعها هي الأخرى أولا بأول. وعندما انتهى المؤتمر الصحفي، وغادر الرئيس مكان الاجتماع، الذي كان قد أحكم غلق أبوابه، انطلق الصحفيون إلى مكاتبهم، كل يحاول أن يبعث بنتائج المؤتمر قبل غيره، دون أن يعرفوا أن وكالة أنباء الشرق والأوسط قد انتهت من مهمتها بالكامل.

_ 1 جلال الدين الحمامصي، صحافتنا بين الأمس واليوم، صفحة 155.

فن استقاء الأخبار

فن استقاء الأخبار: ويمكن للصحفي أن يستدرج البسطاء حتى يدلوا بكل ما لديهم من أخبار. لقد أثار اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في الفترة ما بين الحربين العالميتين ضجة عالمية كبرى، وكانت صحيفة التيمس تحتكر نشر هذه الأخبار نظير مبلغ مائة ألف دولار من أجل الانفراد بالقصة. غير أن صحفيا أمريكيا اقترب ذات يوم من أحد المصريين العاملين في المقبرة وبادره بسؤال "هل يمكن أن تحكم في خلاف شديد استحكم بيني وبين زملائي؟ " وعندما أظهر المصري استعداده لذلك سأل ويليمز -وهذا هو اسم الصحفي- عما إذا كان هناك تابوت واحد أم تابوتان؟ فأجابه المصري بكل بساطة: تابوت توت عنخ آمون؟ هل هذا ما تقصده. إن خاتم الملك على التابوت، وهو بحالة جيدة. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد بوجود الجثة في التابوت. وهكذا هدم ذكاء الصحفي احتكار التيمس والمائة ألف دولار. وحدث أن كان اللواء محمد نجيب يلقي بحديث هام في مجلس قيادة الثورة لمحطة إذاعة أمريكية، فاقترب أحد الصحفيين المصريين من المهندس الأمريكي الذي كان يشرف على الصوت، وسأله عن الأجهزة، وأوهمه بعدم المعرفة، فأخذ المهندس الأمريكي يشرح له، وحانت الفرصة للصحفي أن يضع السماعات على أذنيه ويسمع حديث الرئيس كلمة كلمة، وينقله إلى صحيفته فينفرد بسبق عظيم. وحدث أن كان أحد عمال اللاسلكي يقضي جزءا من وقت فراغه في مخزن وكالة الأنباء في بوسطن بأمريكا، عندما كان يحرك مفتاح جهاز راديو بهدف التسلية فاستمع إلى دقات تطلب النجدة من البحرية الأمريكية، ولما فهم مضمون الرسالة جيدا صاح قائلا: "لقد اصطدمت الباخرة تيتانيك بجبل ثلجي عائم في المحيط، إنها تطلب النجدة، وقد سمعتها الآن". وبالفعل تأكد الخبر، وكان نتيجة مصادفة من جهة ومجازفة من جهة أخرى؛ إذ صدق مراسل وكالة الأنباء ما قاله العامل!

ويقول أحد الصحفيين أن هناك مفاتيح للشخصيات لا بد للصحفي أن يعرفها لكي يصل إلى الأخبار ... مثلا كان يهمني أن أعرف أن نوري السعيد -رئيس وزراء العراق الأسبق- يكون في أسعد حالاته النفسية عندما كان يوجد مع حفيدته وزوجة ابنه، ومن هنا كنت أحرص على أن لا أسأل نوري السعيد في السياسة، إلا إذا رأيته في منزلة محاطا بأحد أحفاده أو بزوجة ابنه "صباح". وكذلك كان يهمني أن أعرف أن مفتاح الدخول إلى قلب توفيق السويدي -أحد ساسة العراق السابقين- هو الحديث عن الاقتصاد والبنوك وأسهم البنك العربي. وبعد ذلك يفتح السويدي لي كل ما عنده من الأسرار. أما توفيق أبو الهدى -أحد ساسة الأردن السابقين، فقد كانت ابنته "سعاد" هي مفتاح أسراره، ومن هنا كنت أستعين بسعاد على أبيها، أو أستعين بأخبار سعاد وقصصها لكي أدخل إلى قلب أبيها بلا استئذان. وكانت قصص الصيد والبنادق، ورحلات الصيادين هي مفتاح الدخول إلى قلب كميل شمعون، رئيس جمهورية لبنان الأسبق، أما سلفه الشيخ بشارة الخوري فقد كان أديبا، واسع الاطلاع، يعتني باللفظ والعبارة، وكانت أخبار ولده الشيخ خليل تحتل حيزا كبيرا في قلبه. ومن هنا كان مفتاح الدخول إلى قلب الشيخ بشارة أما الحديث في الأدب، أو في الشيخ خليل. وكان صالح جبر -أحد رؤساء وزارات العراق- يكره نوري السعيد، فكان كل همي لكي أرطب لصالح جبر أعصابه، وأحصل منه على الأسرار أن أبدأ الحديث بصب اللعنات على نوري السعيد. أما المرحوم هاشم الأتاسي، رئيس جمهورية سورية السابق، فقد كان يهوى حيث الذكريات عندما كان "قائم مقام تركيا" في عكا عام 1932 ميلادية كان المرحوم يعتقد أنه في ذلك المنصب قد بلغ أوج العظمة والمجد، وعندما كنت أقابله في قصر "المهاجرين" بدمشق، كان الحديث يبدأ بذكريات عكا، وينتهي بذكريات عكا، وخلال الذكريات تتسرب الأسرار. وكان "عبد الإله" وصي عرش العراق ثم ولي عهده، يحب الحديث عن الكلاب، وكان صبري العسلي -أحد رؤساء وزارات سوريا السابقين- مغرما

بالحصول على أخبار نادى الشرق، ومن ربح في "اللعب" ومن خسر؟ ومن كان هناك، ومن لم يكن. وكان رشيد كرامي زميلا لأخي الصغير بالقاهرة فكنت لا أبدأ حديثي معه إلا بالحديث عن الأخ الصغير. وكنت أعلم أن زعيما عربيا كبيرا في دمشق يشكو من مرض معين فكنت أحرص على أن أمده بآخر أخبار الأدوية لهذا المرض. وعندما كنت في مدينة برلين وطلبت تحديد موعد لي أقابل فيه رئيس البلدية وحاكمها "ويلي برانت" قيل لي إن ذلك ممكن بشرط أن أنتظر عشرة أيام. فأبرقت إلى ويلي برانت أقول له: "أنا على موعد غدا مع مستر أولبرخت ولا أريد أن أقابله قبل أن أقابلك، وأفهم منك حقيقة الموقف". والمعروف أن أولبرخت هو زعيم ألمانيا الشرقية. وبعد ساعة واحدة كنت مع ويلي برانت في مكتبه ببرلين الغربية. ويروي أحد الصحفيين المصريين1 أنه حاول عبثا مقابلة الدالاي لاما ولكن كل جهوده ضاعت سدى، فلم يجد بدا من أن يربط أجزاء جسمه بالضمادات والقطن والشاش، ثم يطلب أن يحمل على "نقالة"، ويطاف به أمام مقر الدالاي لاما طلبا للشفاء، وبذلك حرك مشاعر هذا الزعيم المعبود، وطلب من حاملي النقالة أن يحضروه إليه، فتمت المقابلة.

_ 1 الأستاذ أنيس منصور.

أساليب الحصول على الأخبار

أساليب الحصول على الأخبار: ويمكن القول بوجه عام أن أهم أساليب الحصول على الأخبار هي الصداقة وتقديم المعونة والإيهام بالعلم والجرأة ودقة الملاحظة واستكناه الأحداث وتوقعها. ولا شك أن تكوين المصادر عن طريق الصداقة أمر معروف، حتى إن بعض وكالات الأنباء العالمية تصر على أن يكون المراسلون أعضاء في الأندية العامة، التي يتردد عليها الوزراء والمسئولون، وتذهب إلى حد سداد جميع الاشتراكات للمراسلين. ويتطلب الحفاظ على الصداقة احترام آداب المهنة وعدم إفشاء الأسرار التي يدلي بها المصدر إلى الصحفي. ومعنى ذلك أنه لا ينبغي للصحيفة -حرصا على ما يسمى بالسبق الصحفي- أن تستهين بهذه الأمانة، أو تعبث بسرية الأخبار. "حدث في أمريكا أن اختطف طفل رضيع من عربته الصغيرة، ووضع الخاطف ورقة صغيرة يطلب الفدية، وأبلغ الحادث إلى البوليس الذي رأى من المصلحة إذ ذاك عدم إذاعة الخبر إلى أن يعاد الطفل إلى والديه، ووعدت الصحف بعدم النشر، إلا صحيفة واحدة رأت في الموضوع خبرا مثيرا للقراء، فنشرت الخبر، وتبعتها الصحف الأخرى في ذلك بعد أن أصبح الخبر معروفا. وكان لذلك أن فشلت خطة رجال البوليس، وعثر على الطفل الذي كان وحيد والديه بعد أيام جثة هامدة، وضاع كل أثر من آثار هذه الجريمة! وهكذا أفسد هذا السبق الصحفي الذي حرصت عليه الصحيفة خطة البوليس للتعرف على الجناة، وانحطت قيمة الصحيفة التي سعت إلى ذلك"1. ويستطيع الصحفي أن يقدم بعض المعونات أو الخدمات للمصدر، مثل بيان أعماله الجليلة وشرح موقفه، دون إسراف أو مبالغة، مع الالتزام بالصدق في الرواية. ويسعد رجال الشرطة النابهون برؤية أسمائهم وصورهم في أعمدة الصحف، ولا بأس من ذلك ما دام معتمدا على الحقيقة الموضوعية. ولكن ليس معنى ذلك التستر على الأخطاء، أو استغلال الصحيفة للدعاية الرخيصة. ولا بأس أيضا من تقديم الهدايا في المناسبات كأعياد الميلاد وغيرها، دون مبالغة في ذلك. وقد لا يتعدى الأمر دعوة المصدر إلى تناول طعام الغذاء أو الغشاء أو مصاحبته إلى إحدى دور السينما أو المسرح أو تقديم بعض الهدايا للمصدر أو أسرته في المناسبات السعيدة كالنجاح أو الخطبة أو الزواج وكذلك مواساة المصدر في المناسبات الأليمة كوفاة أحد الأقارب مثلا.

_ 1 جلال الدين الحمامصي، صحافتنا بين الأمس واليوم، صفحة 126، 127.

وقد يجد الصحفي أن أسلوب الإيهام بالعلم، وذكر بعض المعلومات، قد يستدرج المصدر إلى تصحيح تلك المعلومات، والإدلاء بالحقائق. ولكن هذا الأسلوب لا يصلح إلا مع المصادر الحديثة العهد بالصحفيين، أما القدامى والمتمرسون فكثيرا ما يفطنون إلى هذه الحيلة. والحق أن بعض الشخصيات تحاول أن تتظاهر بالعلم، وأنها عالمة ببواطن الأمور، فتدلي بما لديها من معلومات لتصحيح الأخطاء، وهذه فرصة ذهبية للصحفي يستقي منها الأخبار. والجرأة من صفات المخبر الصحفي والمراسل الناجح. وقد رأينا أن بعض المراسلين العسكريين يغامرون بأرواحهم في سبيل الحصول على الأخبار، ومنهم من يشترك مع فرق الصاعقة والمظليين فيهبطون معهم بالمظلات. وقد يغامر البعض وبنضم إلى بعض الرحالة في رحلاتهم الخطيرة للوصول إلى قمم الجبال أو بلوغ المناطق القطبية، أو عبور البحار والمحيطات في سفن صغيرة مثل السفينة رع وغيرها. وقد تصل الجرأة إلى حد الاختفاء تحت منضدة أو أريكة في المؤتمرات الدولية الخطيرة. ومن المأثور عن الزعيم الألماني المستشار بسمارك أنه كان يفتش تحت مائدة المفاوضات ليتأكد أنه لا يوجد صحفي تحتها. ويروى أن أحد المترجمين الفوريين قد أحس، وهو جالس في كابينة الترجمة بصوت غريب، فالتفت تحت كرسيه، فوجد صحفيا قابعا يستمع إلى كل ما يدور من مناقشات باللغة التي يعرفها، من المترجم الفوري! ومثل هذا العمل لا يستطيع أن يقوم به إلا صحفي يتصف بالمخاطرة والجرأة الشديدة. وفي تاريخ الصحافة أمثلة لهؤلاء الذين وصلوا إلى أسرار المؤتمرات الدولية عن هذا الطريق. ولا شك أن دقة الملاحظة واستكناه الأحداث وتوقعها، ومراقبة تحركات رجال السياسة والمسئولين، والربط بين الخيوط، وملاحقة أبطال القصة الأخبارية من أهم أساليب الوصول إلى الخبر الخطير. "ففي خلال أزمة 4 فبراير سنة 1942، التي أحاطت فيها الدبابات البريطانية قصر عابدين وأجبرت الملك فاروق على تعيين مصطفى نحاس باشا رئيس للوزراء، كان المندوب السياسي لإحدى الصحف المصرية يوشك أن يأوي إلى فراشه عقب عمل كثير شاق خلال النهار، عندما اتصل به رئيس تحرير الجريدة وقال له: "في الجو إشاعات عن أزمة سياسية" ثم طلب منه أن يتحرى الأمر.

وبدأ هذا الصحفي يفكر من أين يبدأ وفي هذا الوقت المتأخر من الليل. كانت الساعة إذ ذاك توشك أن تقترب من العاشرة مساء، ورئيس الوزراء -المرحوم حسين سري باشا- كان قد اعتاد أن يأوي إلى فراشه في منتصف العاشرة، ثم هو مع هذا اعتاد ألا يتحدث إلى الصحفيين، بل كانت هناك شبه خصومة بينه وبين الصحافة. وكان السفير البريطاني في رحلة صيد خارج القاهرة، ورئيس الديوان الملكي ليس في منزلة، أو هكذا قيل للمندوب السياسي. وفجأة طرأت له فكرة وهو يرتدي ملابسه باحثا عن نقطة البداية. وإذا كانت هناك أزمة، فلا يعقل أن يكون رئيس الوزراء قد نام فعلا، فلماذا لا يتجه إلى منزله؟ أو بمعنى آخر لماذا لا يحاول؟ واستقل سيارته، واقترب من بيت رئيس الوزراء، فوجد الأنوار كلها. مطفأة! أو لعل الستائر كانت تخفي الأضواء داخل المنزل، ووقف يفكر قليلا، وكاد أن يمضي بسيارته إلى "المجهول" لولا أن لمح من على بعد سيارة قادمة في اتجاه منزل رئيس الوزراء. لقد كانت سيارة السفير البريطاني الرولز رويس، المميزة بلونها الأصفر، ووقفت السيارة عند الباب، ونزل منها السفير البريطاني لورد كيلرن بقامته الضخمة وأسرع إلى داخل البيت، ولمح الصحفي المصري على الباب رئيس الوزراء وهو يستقبله. وتنصرف بعد ذلك سيارة السفير، ويعود الهدوء إلى المكان في لحظة. كل هذا لم يستغرق أكثر من دقيقة، ومع هذا فقد كانت دقيقة غالية الثمن، وأطفأ الصحفي نور سيارته، ووقف إلى مكان قريب من المنزل يراقب. ومضى الوقت حتى اقتربت الساعة من منتصف الليل، وكان الصحفي يتصور رئيس التحرير وهو ينتظره في مكتبه أو يبحث عنه في كل مكان. ولكنه مع هذا فضل أن ينتظر. لقد كان موقنا أن انتظاره لن يذهب سدى لإحساسه الجازم بأن هناك أزمة فعلا. وأن عناصر هذه الأزمة موجودة في هذا الاجتماع.

فهذه المقابلة التي تتم قبل منتصف الليل، وعودة السفير البريطاني من رحلة الصيد التي بدأها صباح نفس اليوم. وقيل في الصحف أن السفير ينوي قضاء عطلة الأسبوع بطولها في أكياد. كل هذا يدل دلالة قاطعة على أن هناك أزمة بالفعل. ولمح الصحفي سيارة السفير عائدة. ثم فتح باب منزل رئيس الوزراء وخرج السفير البريطاني وانطلق بسيارته، ومن ورائه صاحبنا الصحفي المصري، وكانت وجهة السفير دار السفارة، وكانت مكاتبها كلها مضاءة والحركة فيها على أشدها. وعاد صاحبنا إلى مكتبة ليحاول الاتصال برئيس الديوان الملكي، وهنا تدخل الخط ليساعد في استكمال عناصر النصر الصحفي إذ رد أحمد حسنين باشا بنفسه المكالمة وسمعه الصحفي يسأل "أهو قصر عابدين الذي يتكلم؟ " وسأله الصحفي "ولماذا تطلب قصر عابدين في هذه الساعة المتأخرة؟ " ولم ينتظر الصحفي الجواب بل بادر فأفرغ ما عنده من أخبار في أذن رئيس الديوان. قال له: إن السفير البريطاني اجتمع برئيس الوزراء فترة طويلة، وإن النشاط على أشده في دار السفارة، وإن هناك ما يؤكد "مولد أزمة ضخمة". وعلى أساس معرفة الصحفي المصري بما يقرب من كل شيء، تكلم رئيس الديوان الملكي كلاما يكمل القصة الصحفية الضخمة، بعضه سمح المصدر بنشره، والبعض لم يسمح به. وخرجت الجريدة المصرية الصباحية في اليوم التالي، وفي صفحاتها النبأ الكبير تحت عنوان "ماذا في الجو؟ السفير البريطاني يقطع إجازة نهاية الأسبوع ويعود إلى القاهرة للاجتماع برئيس الوزراء قبيل منتصف الليل". وفي نفس اليوم الذي نشرت فيه هذه القصة الكبيرة، وقع حادث 4 فبراير وخرج السفير البريطاني من مكتبه في موكب الدبابات لينذر الملك السابق بقبول مصطفى النحاس رئيسا للوزراء1.

_ 1 جلال الدين الحمامصي، المندوب الصحفي، الجزء الأول "1963" ص257-259.

ويجد الصحفيون لذة في خداع زملائهم والانتصار عليهم في معركة الحصول على الأخبار. ومن تلك الخداع ما عمد إليه أحد الصحفيين الإنجليز في إثيوبيا من تعطيل سيارته -وكان الطريق ضيقا- لكي تعترض مرور سيارات زملائه وكانوا في طريقهم إلى مكتب التلغراف بعد أن حصلوا على أخبار سياسية هامة حول مسألة معينة. وكان هذا الصحفي قد بعث ببرقية إلى صحيفته في وقت مبكر بواسطة رسول خاص. ونجحت هذه الحيلة وانفردت الصحيفة التي يعمل فيها هذا الصحفي بتلك الأخبار، ولم تتمكن الصحف الأخرى من نشرها إلا في اليوم الثاني. وقد يكون الصحفي أشد قسوة وفظاعة فيفرغ إطار سيارة زميله من الهواء، فيعطله عن أداء مهمته، بل إنه قد يقطع سلك التليفون عمدا، أثناء إملاء الصحفي المنافس لأحد الأخبار، فيحرمه من جني ثمار جهده الطويل. وهناك صحفي ماكر كان يعرف موعد عودة المسئول إلى الوزارة فيحتفظ به سرا في نفسه، ثم يقوم بتوديع زملائه الصحفيين، وقد يخرجون معه إلى بيوتهم، ثم يعود هو -وحده- لكي يحصل على الخبر وينفرد به. وقد سبق القول أن هذه الألاعيب والخدع ليست من الفن الصحفي في شيء، بل إن الصحافة الحديثة تعتمد على دستور آداب المهنة وأخلاقها، وتصر على أن تكون المنافسة بين الصحفيين شريفة وعادلة.

معايير الحكم على الخبر

معايير الحكم على الخبر: والآن، بعد أن يصل الخبر إلى الصحيفة، ويتسلمه سكرتير التحرير المختص، وهو عادة إنسان ذواقة، يحكم على صلاحية الخبر للنشر، ويعرف المكان اللائق به، ابتداء من الصفحة الأولى والصفحات الداخلية إلى سلة المهملات. ولكن هل هذا الحكم الذي يصدره سكرتير التحرير مجرد إحساس ذاتي غامض، أم هو حكم مبني على أسس ومعايير وضوابط؟ الحقيقة أن هناك عدة معايير أو مقاييس تحدد قيمة الخبر، ومبلغ صلاحيته للنشر. ومن أهم هذه المعايير: الصدق، والدقة، والحالية، والقرب، والضخامة. والقابلية للنشر، والاتفاق مع سياسة الصحيفة، والتشويق، والإثارة، والروعة، الطرافة. ويعتبر الصدق أهم هذه المعايير جميعا، بل إنه الأساس الذي ينبني عليه الخبر الصحفي. ويتصل بعامل الصدق عدة مسائل منها: الكذب المباح "الأكاذيب البيضاء"، والشك في صحة الخبر، والخطأ في الاقتباس، وتلوين الأخبار، وتكذيب الأخبار، والرقابة على الأخبار، وتأثير المعلنين على الناشرين. ومع أن الصدق هو القاعدة الأساسية العامة، إلا أن لها استثناءات بالضرورة. فهناك حالات يباح فيها الكذب إلى حد ما في رواية الأخبار الصحفية، ولا تتقيد الصحيفة بقاعدة الصدق المطلق، وإنما قد تقضي المصلحة العامة بعدم ذكر الحقيقة كاملة، وهذا ما اصطلح عليه باسم الأكاذيب البيضاء. ومثال ذلك حالات الأوبئة والحرب. فليس من الحكمة في شيء نشر أخبار الأوبئة التي تورث الذعر بين الناس. بل ينبغي أن يكون النشر بحكمة وروية. وكذلك أخبار الحرب والخسائر لا بد وأن يراعى فيها جانب الدقة ومدى تأثيرها على الروح المعنوية للقوات المسلحة وللشعب. ومن هنا كانت البلاغات الرسمية أصول إعلامية ينبغي إتقانها؛ حفاظا على روح الأمة، وجمع الصفوف بين العسكريين والمدنيين على السواء. وقد درجت الدول على عدم نشر أخبار مرض رؤساء الدول والقادة بطريقة فجة تثير الخوف أو الذعر، بل ينبغي أن تكون التقارير الطبية مطمئنة للناس، ما استطاع الأطباء ذلك. ولكن ليس معنى هذا الكذب أو عدم النشر في حالات الخطر المحقق. أما الأخبار المشكوك فيها، والتي تذكر في عبارات غامضة مثل "لم يتأكد بعد" أو "يتكهن به المراقبون"، فإنها قد تعرض الصحفي الناجح لأخطاء كثيرة. ولا ينبغي للصحفي أن يؤرخ للغد، أو يعتمد على الحدس والتخمين، أو يكتب عن أمور متوقعة. وفي هذا يقول صحفي من رجال المدرسة الكلاسيكية وهو إسبندر1: "لا تعمل اليوم أبدًا ما تستطيع أن تطرحه حتى الغد لكي تتفادى

_ 1 j. a. spender.

التعليقات غير الناضجة والتي يتضح فيما بعد أنها على غير أساس"، وقد دأبت بعض الصحف على كتابة أوصاف مسهبة لزيارة رئيس الوزراء مثلا لمنطقة معينة، ثم تنشرها فعلا بالعبارات التقليدية المألوفة، ولكن يتضح بعد ذلك أن رئيس الوزراء قد ألغى رحلته، وهنا تقع الصحيفة في خطأ بالغ، ويسخر منها القراء. حدث مرة أن تناقلت وكالات الأنباء نبأ قالت فيه: "إن سلطان باشا الأطرش قد مات" وتسابقت الصحف المصرية في نشر هذا الخبر، عدا صحيفة الأهرام. فلما سئل أنطون الجميل رئيس تحرير الصحيفة يومئذ عن سبب ذلك أجاب بقوله متهكما: "من لم يمت في الأهرام، فإنه لم يمت"، وبالفعل أذاعت وكالات الأنباء في اليوم التالي خبرا قالت فيه: "إن الذي توفي هو والد سلطان باشا وليس هو سلطان باشا نفسه". وقد ينجم الخطأ عن اقتباس مغرض يجترأ من حديث أدلى به مسئول، وينتزع انتزاعا قسريا من أجل تاكيد فكرة تريد الصحيفة أن تؤكدها. ولا شك أن الصحف الحزبية تعمد إلى اقتباسات تؤيد وجهة نظرها، وكذلك تفعل الصحف من خلال الإعلام الدولي، وفي خضم الحرب الباردة، بحيث يسوق كل فريق مجموعة من الاقتباسات التي تعزز سياسته. ولا شك أن تلوين الأخبار، والمبالغة في المواقف، وصياغة الموضوعات الأخبارية بطريقة أدبية، وإثارة شعور القراء من خلال الوصف الذاتي، ويجعل القراء غير قادرين على الفصل بين حدود الحقيقة والخيال. وقد سبق أن قلنا إن جوهر الفن الصحفي يكمن في موضوعيته، أما نشر التقارير الخيالية، والإمعان في الإثارة والمبالغة، فإنه لا يدخل في صميم الفن الصحفي. ولا ينبغي نشر الأخبار جزافا اعتمادا على أن مبدأ النشر لذاته هو الأساس، وأن وظيفة الصحافة هي محض النشر، ثم تكذيب ما نشر؛ لأن الوظيفة الحقيقية للصحافة هي تحري الدقة في نشر الأخبار.

وقد تكون الرقابة الحكومية سببا في إطلاق الشائعات، وخاصة وقت الحرب، ولكن كثيرا ما يكون المعلن سببا آخر في عدم ذكر الحقائق؛ احتراما لمركزه المالي، وحفظا لإيرادات الصحيفة. وهناك أمثلة تاريخية تدل على تأثير المعلنين على أصحاب الصحف، فقد ارتكب أحد المعلنين من سكان مدينة فيلادلفيا جريمة بمدينة نيويورك، ولم تنشر صحف فيلادلفيا حرفا واحدا عن الجريمة بالرغم من أن صحف نيويورك ظلت تنشر عن الحادث طوال أسبوعين كاملين. وحدث مثل هذا أيضا بالنسبة لأحد المعلنين بإحدى الولايات الغربية، وكان قد قدم للمحاكمة بتهمة رشوة حاكم الولاية، ولم تنشر الصحف المحلية شيئا عن هذه الجريمة مجاملة للمعلن. ويمكن القول أن جريمة الصهيونية في فلسطين لا يكتب عنها لأن المعلنين اليهود من أصحاب رءوس الأموال يضغطون على الصحف، التي تخشى من نشر الأخبار الحقيقية، حفاظا على المعلنين.

الدقة والحالية والقرب والضخامة

الدقة والحالية والقرب والضخامة: والدقة في نشر الخبر من الأمور بالغة الأهمية، وهي عامل مكمل للصدق. فقد يكون الخبر صحيحا، ولكن لا تراعى الدقة في نشره بالطريقة التي تحفظ عليه صدقه وصحته، ويكون من نتيجة ذلك بطبيعة الحال إما سوء الفهم أو أن يفقد الخبر قيمته عند النشر. وفي ذلك يقول بوليتزر1: "إن الدقة للصحيفة كالعفة للمرأة". ولذلك تعنى الصحف الكبرى التي تسير على نهج صحفي فني دقيق، بمراعاة الدقة عند النشر مراعاة تامة. وصحة الخبر وصدقه لا تكتمل إلا بالدقة في الإلمام بأطراف الخبر، والأرقام، والبيانات، والصور. وعندما يتطرق الشك إلى القارئ في عدم دقة الخبر المنشور أو أنه معدل تعديلا بفقده أهميته، حينئذ يفكر القارئ في قراءة جريدة أخرى. وعندما يفقد القارئ ثقته في الجريدة يبدأ توزيعها في الانخفاض.

_ 1 pulizer.

وهكذا تختلف الصحف من بلد إلى آخر. فبعض الصحف تهتم بالسبق الصحفي أكثر من الدقة والبعض الآخر يهمها الدقة أكثر من السبق الصحفي، فهي تهتم بثقة القراء أكثر ما تهتم بأولوية الخبر في النشر1. والحالية أو الجدة الزمنية من أهم صفات الخبر الصحفي. فالصحافة تهتم دائما بموضوعات الساعة، أو الماجريات الأخبارية، وكلما كان الخبر جديدا، كان اهتمام القراء به عظيما. وهناك مثل أمريكي يقول: "ليس هناك أقدم من صحيفة الأمس". وقد ساعدت الاختراعات الحديثة على سرعة النشر. فعندما تكون هناك مباراة لكرة القدم تذهب في العادة سيارة إذاعية يصف منها الصحفي المباراة وينقلها في الحال إلى الصحيفة، بل إنها تنقل الصور أيضا عن طريق التليفون، ويستطيع الخارجون من المباراة أن يقرءوا في الصحيفة وصفا دقيقا ومصورا للمباراة التي كانوا يشاهدونها. ولكن ينبغي أن ندرك أهمية معالجة الموضوعات القديمة معالجة جديدة. فظهور وثيقة من الوثائق التاريخية التي تغير فهم الناس للتاريخ والحقائق، كما فعل الاتحاد السوفييتي عند نشره للمعاهدات السرية في الحرب العالمية الأولى يعتبر تجديدا والتزاما بمبدأ الحالية أو الجدة. وكما أن الخبر لا بد وأن يكون قريبا من حيث الزمان، فإنه لا بد وأن يكون قريبا من حيث المكان. فمن الثابت أن أحداثا تقع في مصر تهم المصريين أكثر مما تهم سكان أمريكا الجنوبية مثلا، والعكس صحيح. ويذهب بعض الصحفيين في ذلك إلى حد القول بأن حادثا لسيارة أو قطار في المدينة يظفر بالنشر أكثر من مذبحة أو حرب في الهند، بالرغم من أن ضحايا الحادث يعدون على الأصابع، في حين أن ضحايا المذبحة أو الحرب يعدون بالآلاف! غير أن القرب ليس مكانيا فحسب، وإنما هو قرب نفسي بالدرجة الأولى. فما يحدث لطلبتنا في الخارج قريب إلى نفوسنا، ولذلك يظفر بالنشر، وما يحدث لسفير من سفرائنا في الخارج، مهما بعدت المسافات، يتصل بحياتنا ويصبح

_ 1 دكتور محمود فهمي، الفن الصحفي في العالم "1964" ص61، 62.

موضوعا رئيسيا للنشر، وتراعي الصحف هذه الصفة من صفات الخبر مراعاة دقيقة، وتفرق من أجل ذلك بين الطبعة التي توزع في العاصمة، وتلك التي توزع في الإسكندرية، وكذلك طبعة الأقاليم، فإذا وقعت الحادثة في العاصمة عنيت بها الطبعة التي توزع في العاصمة عناية تامة، وقلت هذه العناية بالقياس إلى طبعة الأقاليم أو المدن. ومما لا شك فيه أن التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم المعاصر قد ربط بين أواصر الكرة الأرضية وجعل من كوكبنا وحدة متماسكة من ناحية الأخبار، كما أن فكرة الرأي العام العالمي قد أخذت تتحقق بفضل الإعلام الدولي من جهة والمنظمات السياسية الدولية كالأمم المتحدة والوكالات الدولية المنبثقة عنها، وهكذا أصبح الاهتمام الدولي، وتأثر الناس بالأحداث العالمية أمرا واقعا، يشهد به تأثير أحداث فيتنام على الرأي العام العالمي، وكذلك ما تمخضت عنه مشكلة الشرق الأوسط، ومشكلة الحرب الباكستانية الهندية من آثار بعيدة المدى على بلاد مختلفة، بعيدة إلى حد كبير عن مسرح الحوادث. وأما عنصر الضخامة فلا يعني مجرد التهويل أو المبالغة، وإنما يعني أن حادثا يجرح فيه شخص جرحا طفيفا لا يستحق النشر كخبر، أما الحادث الذي يذهب ضحيته عدد كبير من الناس فإنه يظفر بالنشر في مكان بارز من الصحيفة. ثم إن مرض إنسان عادي من عامة الشعب لا يصنع خبرا صحفيا، ولكن مرض فنان عظيم، أو أديب مشهور، أو سياسي كبير، لا بد وأن يصنع خبرا صحفيا، يهتم به الناس، وقد يتحدثون عنه وقتا طويلا، فكل ما يصنعه رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو الوزراء أو كبار الأدباء والعلماء والفنانين وقادة الرأي ونجوم المجتمع لا بد وأن يعطينا أخبارا هامة. وقد تنصرف الأهمية إلى موضوع الخبر نفسه كأن يكون مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية خطيرة، أو كشفا علميا أو اختراعا عظيما. فإذا اجتمعت أهمية شخصية من الشخصيات مع أهمية الموضوع وضخامة عدد المهتمين به، فلا بد أن يكون الخبر صالحا للنشر في الصفحة الأولى، أو في إحدى الصفحات ذات الأهمية الكبيرة.

سياسة الصحيفة وفنون التشويق

سياسة الصحيفة وفنون التشويق: والقابلية للنشر مقياس آخر للخبر الجيد. والصحفي الناجح يدرك بحسه ومرانه أن خبرا من الأخبار له أحقية وأولوية على خبر آخر. والحقيقة أن المشكلة التي تواجه صحافة اليوم ليست في ندرة الأخبار أو قلة الموضوعات، كما كان الأمر قديما. وإنما مشكلة هي في الانتفاء والاختيار من الأعداد الهائلة من الأخبار والمعلومات والصور التي تأتي إلى الصحيفة من أماكن شتى. على أن القابلية للنشر ترتبط بقوانين المطبوعات، وقوانين النشر من سب وقذف وغيرها، كما يتصل باهتمام الرأي العام في مرحلة معينة، فضلا عن الذوق العام الذي قد يرفض موضوعا من الموضوعات حتى ولو كان هاما وتتوفر فيه كافة مقاييس الخبر الناجح. ويجب أن يتفق الخبر مع السياسة العامة لتحرير الصحيفة سواء من حيث الموضوع أو اللغة أو طريقة العرض. وعلى هذا الأساس قد يكون خبر ما عن جريمة من الجرائم والبشعة أو الأخلاقية صالحا لصحيفة معينة ولكنه لا يصلح لغيرها. ومن المعروف أن هناك صحفا رفيعة المستوى وأخرى متوسطة، كما أن هناك صحفا شعبية تتحدث إلى الجماهير العريضة. ومن الصحف ما تعتمد على الإثارة، ومنها ما ترفض هذا المبدأ رفضا تاما. وقد تكون الصحيفة شيوعية أو يسارية أو يمينية، فتعتمد في اختيار أخبارها على لونها السياسي. فليس غريبا أن تكون أخبار الشيوعية وأحزابها في العالم أهم الموضوعات في الصحافة الشيوعية، في حين أن الموضوعات الدينية تظفر باهتمام الصحف الدينية. وسياسة الصحيفة هي التي تستطيع أن تتحكم في اختيار الخبر ومقوماته فتقدم واحدا على غيره أو تهمله إهمالا تاما. وقد رأينا أن الصحافة الشيوعية تقلل من نشر أخبار أمريكا بل إنها ترفض نشر انتصاراتها العلمية في عالم الفضاء. وتذهب بعض الصحف إلى أن عناصر التشويق والإثارة والطرافة والروعة من أهم سمات الخبر الجيد. وهناك تعريف للنبأ يقول إنه ما يخرج عن المألوف.

فيصبح نابيا أو بارزا. وفي ذلك يقول الصحفي المشهور نورثكليف: "في شارع تسكنه مائة أسرة وأسرة لا يلتفت الناس إلى مائة أسرة تعيش عيشة مألوفة هناك بينما يلتفتون إلى أسرة واحدة يكون لها حالة شاذة كحالة طلاق أو جريمة أو نحو ذلك. ويلاحظ أن عنصر التشويق ينطوي على الابتعاد عن الموضوعات الجافة المجردة، وقد ترتد الصحيفة إلى البدائية من أجل التشويق فتنشر أخبار الجن والعفاريت، وتتحدث عن شيخ مر عليه القطار ولم يمت، وعن تحضير الأرواح بطريقة شعبية في المنزل، وعن عالم الغيب بأسلوب ساذج بسيط. وشعار هذا النوع من الصحافة "قدم لقرائك ما يحبونه فقط، وما يدر عليك الربح الوفير". غير أن جوهر الفن الصحفي يكمن حقيقة في تقديم الخبر الجاد، والموضوع المفيد، والمعلومات الدقيقة، بأسلوب شيق ممتع مفهوم، مثير للفكر، وليس مثيرا للغرائز الدنيا، وذلك يتطلب -بطبيعة الحال- تنوع الموضوعات وشمولها حتى تجد كل فئة من الفئات القارئة بغيتها. وقد قلنا إن فن مسرحة الأحداث والمعلومات يقربها من الأفهام فأسماء الزعماء، والبلاد، والقوانين والأنظمة والمشكلات السياسية والاجتماعية، يمكن عرضها من خلال الأسلوب المشوق. ويقدم لنا الأستاذ جلال الدين الحمامصي1 مجموعة من المعادلات الطريفة التي تبين عناصر الغرابة والإثارة في الخبر فيقول: "رجل غربي تزوج من غير أن يطلق زوجته السابقة ثم يستمر بعد ذلك في عملية الزواج من واحدة بعد الأخرى حتى يصبح عدد زوجاته "أربعا"، ثم ينكشف أمره وتقف زوجاته الأربع أمام المحكمة شاكيات خروجه على الدين والقانون. مثل هذا الخبر يتطور في صحافة الغرب ليصبح قصة يتحدث عنها الناس جمعيا، ويقاد صاحبها إلى المحاكمة وتتوسع الصحف في النشر عنها، بينما مثل هذا الخبر في أي بلد يدين أهله بالدين الإسلامي لا قيمة له لأن القانون والدين يبيحان للزوج أن

_ 1 جلال الدين الحمامصي، المندوب الصحفي "1963" ص28.

يتزوج أربعا! ولكن إذا حدث في بلد إسلامي وجود مثل هذا الرجل المزواج وزاد عدد زوجاته عن العدد الذي يسمح به الشرع فأصبح العدد خمسا أو أكثر هنا يمكن أن يتطور الخبر ليصبح قصة صحفية تهم القراء! ومعادلة أخرى: نبأ عن صراف + زوجة + 7 أولاد= صفرا. بينما أن نبأ عن صراف بنك - 10آلاف جنية من الخزينة= خبرا. أو نبأ عن صراف بنك + زوجة + عشيقة - 30 آلاف جنية= خبرا أكثر أهمية. ومعادلة ثالثة: نبأ عن رجل عادي عمره 80 سنة + حياة عادية= صفرا. ونبأ عن رجل عادي عمره 80 سنة + رحلة مغامرة= خبرا. رجل عادي 80 سنة + زوجة شابة 18 سنة= خبرا. رجل عادي 80 سنة + زوجة شابة 18 سنة + 3 توائم= خبرا أكثر أهمية. ومن المعروف أن القبض على سكير في الشارع ليس خبرا. ولكنه إذا كان هذا السكير رئيس جميعة منع المسكرات صارا خبرا. وقصة القروي الذي باع ترام العباسية لمصري من أقاصي الصعيد قصة خبرية طريفة. ووجه الغرابة فيه مرجعه إلى ذكاء القروي، وغباء القادم من أقاصي الصعيد. وطبيعي أن للقصة ذيولا كأن يركب الصعيدي الترام ويحاول الحصول على الإيراد من الكمساري. ومثل هذا النوع من القصص الطريفة لا يمكن أن يهمل بمجرد اختفاء العناصر الأخبارية الأخرى، بل يكفي أن يكون "غريبا" لكي يكون "خبرا" بل إن مثل هذا الخبر قد يعيش في أذهان جمهور القراء أكثر مما يعيش خبر استقالة موظف كبير بسبب خلافه مع بعض زملائه في العمل! 1.

_ 1 جلال الدين الحمامصي، نفس المرجع السابق، ص35.

ويلاحظ أن هناك محاور عامة تدور حولها الأخبار الطريفة وأهمها: الجنس وأخبار الغراميات وقضايا الزواج والطلاق وقد تتخصص صحف بعينها في هذا النوع مثل صحيفة نيوز أوف ذي ورلد1 الإنجليزية التي يصل توزيعها إلى خمسة ملايين نسخة يوميا، وكذلك أخبار المال مثل الكسب المفاجئ لأوراق اليانصيب والسرقات والثراء المفاجيء والخسارة الفادحة. وهناك أيضا الجمال ومسابقاته وأخبار الفنانات وصورهن. وتلعب أخبار الحيوان دورا أساسيا في الصحافة الأجنبية وقد تكون صورة الغلاف لقط أو كلب. وكذلك يكون الأطفال موضوعا إنسانيا للأخبار، وهناك صحف مخصصة لهم أو عنهم. ولا شك أن الصراع موضوع يجعل الأخبار نابضة القوة والحياة، سواء أكان الصراع حربا أو مباراة أو مسابقة أو نقاشا. وقد تدور الأخبار حول الشيوخ والمسنين كما تدور حول الأطفال فتبدو طريفة كل الطرافة. ومسرحية الحياة كثيرا ما تظهر أيضا في شكل رواية كوميدية مضحكة، وإذ ذاك تكون الحوادث الطريفة التي تتألف منها القصة المضحكة بمثابة التوابل على مائدة الصحيفة. ومن الأمثلة على ذلك: حكاية الغزال الهارب من حديقة الحيوان، وحكاية الجمل الذي فر من صاحبه حتى وصل إلى باب قصر عابدين، وحكاية الثور الذي وصل إلى المجمع اللغوي. ولعل هذه الأمثلة توضح عنصر الغرابة في الأخبار: قصة الطفل الذي يولد في طائرة، وصياح الديك الذي تسبب في موت أسرة كاملة، وخبر الرجل الميت الذي نهض من نعشه، وحكاية الرجل الذي باع الأراضي في القمر، وحكاية الصعيدي الذي اشترى الترام في مصر، وقصة الشحاذ الذي عثر فجأة على عقد من الماس.

_ 1 NEW OF THE WORLD.

الأخبار الخارجية

الأخبار الخارجية: وهكذا نرى أنه يمكن تقسيم الخبر إلى عدة أنواع. فهناك الأخبار الجادة التي تتصل بالنواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونعني بها الصحافة الجادة أو الرفيعة مثل صحف التيمس1 البريطانية، والنيويورك تيمس الأمريكية2، ولوموند3 الفرنسية وغيرها. وهناك الأخبار الهشة أو الخفيفة وتعنى بها الصحافة الشعبية، ومن الأمثلة على ذلك صحف ديلي ميرور4 ونيوز أوف ذي ورلد5 وغيرها. وتقسم الأخبار بوجه عام إلى قسمين: الأخبار الخارجية، والأخبار الداخلية. وهذه الأخيرة تشتمل على الأخبار السياسية والحكومية، والأخبار الاقتصادية والمالية، والأخبار الزراعية، والأخبار العمالية، والأخبار التعليمية وأخبار المدارس والمعاهد والجامعات، والأخبار العالمية والأدبية والفنية، والأخبار الاجتماعية والأخبار الرياضية، وأخبار الحوادث والجرائم. ولا شك أن نشر الأخبار الخارجية قد ازدادت أهميته منذ الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة بأجهزتها ووكالاتها كمجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية ومنظمة اليونسكو ومنظمة الأغذية والزراعة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية وغيرها. وقد اهتم معهد الصحافة الدولي بزيوريخ بدراسة الأخبار الخارجية وأثرها على القراء، ودورها في دعم السلام وتكوين الرأي العام. ولاحظ المعهد أن معظم الأخبار التي تنشر ليست سوى قشور وأنها لا تعطي للقارئ فكرة متكاملة عن أحداث العالم. ويرى المعهد الدولي أن الأخبار الخارجية التي ترد من وكالات الأنباء تكون عادة ملونة بمصالح الدول التي تصدر عنها وكالات الأنباء. كما أن الأخبار العالمية تفتقر إلى عنصر التفسير والتوضيح والشرح، وهذه من أهم مستلزمات الصحافة الحديثة، وخاصة في حالة الأخبار المركبة والمعقدة، وما أكثرها في العصر الحاضر. ولا شك أن نشر الأخبار باقتضاب دون شرح أو تفسير يجعلها غير مفهومة للسواد الأعظم من الشعب، مما يؤدي إلى تثبيط الهمم، فضلا عن أن الصحافة

_ 1 THE TIMES. 2 NEW YORK TIMES. 3 LE MONDE. 4 DAILY MIRROR. 5 NEWS OF THE WORLD.

الشعبية قد عودت الجماهير على الأخبار الإنسانية والأخبار الطريفة كالحوداث والمباريات والأسماء اللامعة. والحقيقة أن رؤساء أقسام الأخبار الخارجية لا يجدون في صحفهم إلا مساحة صغيرة محدودة لا تسمح بإعطاء فكرة سليمة أو كاملة عن الأحداث الدولية. وتتكلف أقسام الأخبار الخارجية في الصحف الحديثة الشيء الكثير من المال، وذلك لأنها تتطلب عددا كبيرا من الأشخاص الذي يتقاضون مرتبات ضخمة، ولا بد لهؤلاء الصحفيين أن يتنقلوا باستمرار وأن تكون لهم اتصالات عديدة. ومن المعتاد أن تحتوي كشوف مصروفاتهم أرقاما مرتفعة، ويندر أن ترفق بها ما يؤيدها من أسانيد أو فواتير؛ إذ إنهم لا بد وأن ينقلوا أخبارهم بأسرع الوسائل، وهذا يعني بأكثر الوسائل تكاليفا، فمصروفات التليفون والتلغراف في صحيفة باريسية كبرى تصل وحدها إلى عدة ملايين من الفرنكات في السنة1. وإذا أرادت صحيفة ما أن تستخدم وسائلها الخاصة فقط في الحصول على الأخبار فسوف تنوء ميزانيتها بهذا العبء، حتى ولو كانت في أعلى درجات النجاح. لذلك نجد أن كل الصحف مضطرة إلى الاستعانة بوكالة أو أكثر من وكالات الأنباء العالمية والإقليمية والمحلية، وبذلك يمكن توزيع تكاليف الأخبار بين عدد من المستفيدين. وتعتبر وكالة الأنباء في كل بلاد العالم عنصرا جوهريا في الصحافة والمعاصرة، كما أنها ضرورية للصحف الصغيرة وخاصة لصحف الأقاليم. ولكن على الرغم من أن الوظيفة الأساسية لوكالات الأنباء هي الإعلام والأخبار كما يفهم من اسمها، إلا أن الدول تستطيع أن تستغل هذه الوسيلة في الدعاية السياسية، فتقدم الحكومة بتوجيه تلك الأنباء وجهه معينة وتدس دعايتها من خلال الأنباء التي ترسلها إلى جميع أنحاء العالم بواسطة وسيلة التحكم فيما تذيعه الوكالة من أنباء كالرقابة والحذف والإضافة.

_ 1 دينواييه، الصحافة في العالم، ترجمة عبد العاطي جلال.

الأخبار الداخلية

الأخبار الداخلية: ولا شك أن الأخبار الداخلية تمثل الاهتمام المباشر للقارئ. وقد سبق أن بينا عنصر القرب كعامل من عوامل نجاح الخبر الصحفي. ويقول علماء النفس إن الطفل حين يولد يهتم بجسمه ويمص أصابعه ويحرك قدميه وينظر بعينيه، ثم يكبر ويهتم بالأشياء المحيطة به فيعرف والديه وأسرته ولعبه، ثم يختلط بالناس من أصدقائه وأقرانه وزملائه في المدرسة. فالأخبار المحلية هي الأخبار التي تثير الاهتمام قبل غيرها. وليس غريبا أن نجد في الخارج أخبارا للأحياء في المدن، وللقرى في الأقاليم. بل إن المزارع الجماعية "الكولوخوزات" والمصانع في الاتحاد السوفييتي، وكذلك الكوميونات في الصين الشعبية لها صحفها المحلية الخاصة بها. وتعتبر الأخبار السياسية والحكومية من أهم الأخبار التي يدلي بها المسئولون من رؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزارات والوزراء والمسئولون عن المؤسسات والهيئات والمصالح. ومن هنا جاءت ضرورة تمثيل الصحف بمندوبين في هذه الجهات. ومما يساعد المندوبين على عملهم أن يعقد المسئولون مؤتمرات صحفية بين الحين والآخر، كما أنهم ينشئون مكاتب للعلاقات العامة، أو يعينون سكرتيرين صحفيين لهم. والأخبار الاقتصادية والمالية لها أهميتها الكبرى، ولا بد أن تتسم بالموضوعية وهناك وكالات أنباء تفرد نشرات اقتصادية ومالية تشمل أسعار الفتح والقفل في الأسواق العالمية وخاصة القطن والذهب والفضة والبلاتين والمعادن، وأسعار الأسهم والسندات، وأسعار العملة الأجنبية، ولوكالة رويترز البريطانية قسم خاص بذلك يسمى "الكومتيل". غير أن التقارير السنوية للبنوك المحلية والشركات الصناعية والتجارية وشركات التأمين والنقل والجمعيات التعاونية والغرف التجارية والصناعية، وقانون ربط ميزانية الدولة التي تعده وزارة الخزانة، وكذلك القوانين المختلفة التي تصدرها الدولة والمتعلقة بإنشاء شركات جديدة أو تأميم بعض الشركات

القائمة أو الصناعات، واجتماعات كبار رجال البنوك والشركات في مجالس الإدارة وفي الاتفاقيات الاقتصادية كل ذلك يعتبر مصدرا هاما للأخبار الاقتصادية والمالية. وتعالج الصحف الشئون الزراعية وأخبارها، فتهتم بأسعار الغلال والخضر والفواكه والسلع الغذائية، مع بيان صادراتها ووارداتها، وتقدم معلومات عن الثروة الحيوانية وطرق العناية بها، فضلا عن نشر التشريعات والقوانين والقرارات الزارعية، المتصلة بالإصلاح الزراعي والجمعيات التعاونية والمستحضرات الكيمائية، ومشروعات الري والصرف، وبعض البحوث العلمية المتعلقة بالتربة والمواسم الزراعية والبذور المنتقاة، ورعاية النباتات، ومقاومة الآفات. ومع التقدم الاشتراكي أصبحت أخبار العمال وتشريعاتهم، والضمان الاجتماعي، والتأمين ضد الحوادث، وأخبار النقابات، والترفيه عن العمال، وتثقيفهم، ووسائل رفع الإنتاج، وغيرها من أخبار الكفاية الإنتاجية وتحسين ظروف العمل، والانتخابات العمالية لمجالس الإدارات والنقابات، هذه الأخبار تنشر بالصور والرسوم الموضحة وتشكل جزءا هاما من الصحيفة في المجتمع الاشتراكي. وتدور الأخبار التعليمية حول المدارس والمعاهد والجامعات، ولا شك أن هذه الأخبار تتصف بالحساسية لأنها تتصل بالرأي العام، وبمستقبل الأبناء والأجيال المستقبلة. وتخصص الصحف المصرية صفحات كاملة لنشر أخبار المدارس والجامعات، إما بشكل أبواب ثابتة للأخبار والمعلومات، أو بشكل تحقيقات صحفية في مناسبات افتتاح المدارس والجامعات، وكذلك مواسم الامتحانات وغيرها. وقد سبق القول أن أخبار العلم والفن والأدب والثقافة بوجه عام قد أصبحت ضرورة في مجتمعنا الحديث، والفن الصحفي الحقيقي هو الذي يحاول أن يجعل هذه الأخبار -رغم صعوبتها- في متناول أفهام القراء العاديين، وذلك عن طريق التفسير والتوضيح، واستخدام اللغة الصحفية الناجحة، مقترنة بالصورة والرسم البياني والتوضيحي.

أما الأخبار الاجتماعية فهي تتراوح بين الأخبار الجادة حول وصول وسفر رجال السلك السياسي وممثلي النقابات والهيئات، وكذلك أخبار عقد القران والزفاف والمواليد والترقيات والتنقلات، كما تلعب أخبار الوفيات دورا رئيسيا في حياتنا، يندر أن تجد مثيلا له في صحف العالم. غير أن الأخبار الاجتماعية قد تهبط إلى مستوى الفضائح، ونشر أسرار الفنانين والفنانات وفضائح الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، وتناول حياتهم الخاصة بتفصيلات مثيرة وغريبة. وتهتم الصحافة بأخبار الرياضة اهتماما كبيرا. وقد جاءت الإذاعة والتليفزيون لتعميق الوعي الرياضي بين أفراد الشعب، وأصبحت الصحف -بالضرورة- مسئولة عن تزويد هذا الشعب الواعي بأنباء الرياضة ومبارياتها معبرة عن ذلك بالكلمة المطبوعة والصورة الفوتوغرافية المعبرة. بل إن بعض العناوين الرئيسية في الصفحة الأولى قد تكون حول مباريات رياضية، وخاصة إذا كانت المباراة دولية أو متصلة بالدوري العام لكرة القدم مثلا.

أخبار الجريمة

أخبار الجريمة: وتعتبر أخبار الجريمة آفة من آفات الصحافة الحديثة. ويرى بعض العلماء أن نشر أخبار الجريمة ضرورة للمجتمع؛ لأن الصحيفة مرآة ينعكس عليها الواقع ولا بد للجمهور أن يعرف الحقائق المحيطة به، وأن يعرف الأشرار وألاعيبهم ودور رجال الشرطة في القبض على المجرمين، وكشف أخلاقهم للناس، فإذا ما عرفوا وسائل المجرمين في السرقة والاحتيال، أصبحوا محصنين ضدها، كما أن الخبر الصحفي قد يساعد رجال الشرطة في البحث عن المجرم ومطاردته. غير أن فريقا آخر من العلماء يعارض نشر أخبار الجريمة ويعتبر أنها ضارة بالمجتمع، وخاصة إذا ما ظهر المجرم بصورة بطل محبوب، كأبطال الروايات والمسرحيات. فبدلا من نشر خبر الجريمة وتقبيحها، وتحليل أسبابها، وطرق القضاء عليها، نجد أن الصحف تسلي القراء بأخبارها، وتظهر المجرمين بطريقة تدعو إلى الإعجاب. كما أن هذا النشر قد يحيط المجرمين علما بخطوات رجال الشرطة وأساليبهم، فيتعلم المجرم كيف يتفاداها وينجو منها، هذا فضلا عن

أن نشر محاكمات المجرمين قد يتخذ شكلا مسرحيا يطمس الحقائق، ويؤثر على سير المحاكمة. والحقيقة أنه لا يجوز للصحافة أن تسلب الأشخاص المتهمين حقهم في محاكمة عادلة. وكثيرا ما تنشر الصحف صورا تدعو للاشمئزاز وخاصة في الجرائم الجنسية والخلقية، وحوادث التصادم والقتل. كما أن نشر الأسماء وصور المتهمين فيه تجريح للأشخاص قبل إدانتهم، والمعروف أن نشر أخبار الجريمة يؤثر على الشباب والمراهقين تأثيرا سيئا، كما أنه يؤذي الذوق العام، ويهدد السلامة النفسية والاجتماعية للأمة. ويتفق العلماء على ضرورة الحد من نشر أخبار الجريمة وبيان أسبابها وعللها وطرق تجنبها، وتذهب بعض الدول -في الكتلة الشرقية- إلى حظر نشر أخبار الجريمة باعتبار أن هذا النشر ضار بالمجتمع.

فن صياغة الخبر

فن صياغة الخبر: لقد رأينا من قبل أن للفن الصحفي لغته الخاصة التي تمتاز بالجمل القصيرة ذات الحيوية الإيقاعية، مع استخدام الألفاظ العادية، واصطلاحات الحياة اليومية، بدلا من الاصطلاحات العلمية المجردة، كما أن الجمل القصيرة تفضل على الجمل الطويلة، مع ضرورة استخدام الألفاظ المألوفة للقراء. وقديما كان الصحفيون يستعينون بالحكم والأمثال والشعر والآيات القرآنية، غير أن الصحفيين المحدثين يستعينون الآن بالأرقام والأشكال البيانية والصور والرسوم وغيرها. وكانت الأخبار في القرن الماضي تروى بالطريقة الأدبية، فيسير الكاتب القصة رويدا رويدا نحو حل العقدة في نهاية الخبر. ولكن الخبر الصحفي الحديث له قوالبه الجديدة، القائمة على السرد المباشر، وإعطاء كل الحقائق في أقصر عبارات ممكنة، والابتداء بالعقد، أو أهم عناصر الخبر في البداية مباشرة وهذا ما يسمى بأسلوب الهرم المقلوب.

فالخبر الصحفي يبدأ بالعنوان الدال على الخبر والمطابق لحقيقته، ولكنه لا بد وأن يكون مثيرا للانتباه، دون تهويش أو خداع. وقد يكون للخبر أكثر من عنوان. ومع ذلك فإن العنوان ينبغي أن يكون قصيرا ودالا وأمينا. ولقد كانت الأخبار تنشر في الماضي تحت عناوين عامة مثل: تلغرافات رويترز أو تلغرافات هاواس أو أخبار الدواوين أو أخبار خارجية أو أخبار حكومية. ولكن الصحافة الحديثة تفضل إبراز موضوع الخبر وتحديده في العنوان. ويفضل الصحفيون الابتعاد عن العناوين السلبية التي تعبر عن النفي أو التساؤل مثل "لا ينتظر صدور القانون اليوم" أو "هل قتل الفدائي رئيس الوزراء؟ ". وفي جميع الأحوال يعتبر الأحوال الخبر الصحفي إجابة عن ستة أسئلة1: منها خمس شقيقات والسادسة غير شقيقة. أما الشقيقات الخمس فهن: من؟ وماذا؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ وأما الأخت السادسة غير الشقيقة فهي كيف؟ والإجابة عن من؟ تعبر عن شخصية أو عدة شخصيات صنعت الخبر، وتجيب ماذا؟ عن الشيء الذي حدث، أما متى؟ فلبيان وقت حدوث الخبر كما تبين أين؟ مكان وقوعه ثم يأتي السبب لإجابة السؤال الخامس وهو لماذا؟ وتبقى الأخت السادسة وهي كيفية وقوع الحادث وملابساته وظروفه. ولكن ليس معنى ذلك أن ترد الإجابات عن الأسئلة الخمسة بهذا الترتيب الذي ذكرناه، بل لا بد وأن يختار العنصر الهام والأساسي أولا، كما أنه ليس من الضروري الإجابة عن الأسئلة جميعا في بداية الخبر، وإلا تعرضت المقدمة للحشو المفتعل. فالغرض من القالب الصحفي هو نشر الأخبار بوضوح ودقة تساعد القارئ على الفهم. ولذلك فإن الخبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: العنوان والمقدمة وجسم الخبر. وفي جميع الأحوال، يعبر الصحفي عن الحقيقة الموضوعية ويبتعد تماما عن الذاتية في اختيار الألفاظ أو في بناء الخبر والإجابة عن الأسئلة الستة التي سبق بيانها، والمهم أن يكون العنوان صادقا وجذابا، وأن تحتوي

_ 1 تسمى بالإنجليزية 5 w's and h.

المقدمة على عناصر الخبر الرئيسية. ثم تأتي العناصر الأخرى مرتبة حسب أهميتها. ومن هنا جاءت تسمية الشكل الصحفي بالهرم المقلوب. والقاعدة في صياغة الخبر هو البدء بالعناصر المهمة أولا، وهذه تتطلب حاسة صحفية ذواقة وتدريب ومران طويلين. ولا بد أن تحرك هذه البداية انتباه القارئ وأن تثير اهتمامه. والفرق بين المحرر الناجح والمحرر الفاشل يكمن في هذا الاختيار الدقيق لمقدمة الخبر. فقد يكون هناك تناقض في موقف إنساني مثير كالرجل الذي يلقى القبض عليه ليلة زفافه، أو العالم الذي يموت قبل استلامه جائزة الدولة التقديرية بعدة أيام. وهناك المقدمة التي تحتوي على تصريح مقتبس من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء. وعلى ذلك فالمحرر الصحفي بإزاء الأسئلة التقليدية المعروفة -الشقيقات الخمس والأخت السادسة- يفاضل بسرعة بين إجاباتها، ويعمل ذوقه الفني وحسه الصحفي في هذه المفاضلة. فالاسم اللامع المشهور يظفر بالإجابة عن السؤال من. والوفاة أو الانتحار أو الانفجار يكون إجابة عن ماذا، وغرابة الزمن كمقابلة تتم بين السفير ورئيس الجمهورية بعد منتصف الليل أو قبيل الفجر تصبح مثيرة، كما أن وجود رجل دين في ملهى ليلي يجعل المكان في مقدمة الخبر. وانتحار أول رجل من فوق برح القاهرة كان خبرا جديدا يجيب عن السؤال كيف. والمهم أن المقدمة لا بد وأن تتصف بالمرونة الكافية بحيث تتشكل وفقا لنوع الحادث أو الخبر، مع الحذر من الحشو بالتفاصيل، وإرجاء ذلك إلى جسم الخبر نفسه في الموقع المناسب لذلك. وقد تكون المقدمة اقتباسية تحتوي على عبارة جرت على لسان مسئول كبير مثل "قرارنا هو القتال". وقد توجه المقدمة إلى القارئ نفسه مثل "أنت الآن مطالب بضريبة جديدة". وهناك المقدمة التساؤلية مثل "هل تستأنف أمريكا تجاربها الذرية؟ " أما المقدمة الساخنة فهي تحتوي على معلومات مثيرة تخطف الأبصار، وتجعل القارئ مشوقا إلى متابعة الخبر.

ويقسم الأستاذ جلال الدين الحمامصي الأنباء الصحفية التي يمكن صياغتها بطريقة الهيكل الهرمي إلى عدة أقسام منها: الأنباء المتعلقة بوقائع والأنباء المتعلقة بأعمال أو أحداث أو حركات ثم الأنباء المتعلقة بالتصريحات والأقوال المنسوبة للأشخاص. وقد يكون الخبر مركبا فيتخذ شكلا هرميا يبدأ بمقدمة شاملة ثم تحليل للزوايا المختلفة وفقا لأهميتها. وهناك المتابعة الأخبارية التي تتخذ شكلا هرميا أيضا. أما قالب الوقائع البسيطة فيبدأ بالعنوان ثم المقدمة ثم ترتيب الوقائع حسب أهميتها مع الربط بينها ربطا متجانسا بحيث يخرج النبأ في النهاية مستكملا كل الاعتبارات التي أشرنا إليها من قبل. أما هيكل القصة المتعلقة بحركة فهو كما يلي: المقدمة: "أطلق مجهولون قبل ظهر اليوم الرصاص مع مدافع رشاشة على زيد الرفاعي "36 سنة" سفير الأردن في لندن في محاولة لاغتياله وهو داخل سيارته التي كان يستقلها من منزلة إلى دار السفارة في حي كينزنجتون "حي السفارات". الواقعة الثانية: وقد حطمت الطلقات زجاج السيارة، وأصابت السفير في يده اليمنى -طبقا لبيان إدارة سكوتلانديارد- أما سائق السيارة فلم يصب بجراح وتمكن من الانطلاق بالسيارة إلى "مستشفى ماري أبوت" مباشرة، حيث أجريت للسفير الإسعافات الأولية ثم نقل بعد ذلك إلى مستشفى "فيتزروي نافيلد" حيث تقرر أن تجرى له عملية جراحية. الواقعة الثالثة: وأعلنت منظمة "أيلول السوداء" التي قتلت وصفي التل رئيس وزراء الأردن في القاهرة منذ 17 يوما، مسئوليتها عن الحادث، وكان المتهمون الذين

ألقى القبض عليهم في القاهرة قد اعترفوا بأن هدف المنظمة الأساسي هو اغتيال المسئولين عن المجازر التي حدثت ضد الفلسطينيين في الأردن. وهكذا يمضي الخبر في شرح الواقعة، ومن الطبيعي أن يصاحب الخبر صورة للسفير الأردني. وهو هيكل يشتمل على وقائع وأحداث مثيرة، وفيه وصف لأشخاص، وبعد ذلك شهادة شهود، وبيانات أخرى تفصيلية. ومثل هذه الموضوعات تختتم عادة بفقرة تتضمن البيانات عن الشخصيات المتعلقة بالحادث. أما الأخبار الخطب والبيانات والرسائل والتصريحات والأقوال ونحوها فتتخذ شكل المستطيلات المتتابعة في إيقاع يبدأ بالمقدمة ثم ملخص ثم اقتباس من الكلام المنقول ثم ملخص آخر يليه اقتباس، وهكذا إلى آخر البيان أو الخطبة. ولا بد للصحفي أن يبذل جهدا لكي يستخلص النقط الأساسية التي تهم القراء فيبرزها، فالخطبة إذن لا تقدم بنصها كما هي، وإنما تجزأ وفقا للمعنى، وتلخص، مع إيراد النصوص التي تعزز التلخيص. ولهذا السبب، فإن بعض الصحف لا تكتفي فقط بتقديم هذا الهيكل الهرمي للبيان وإنما يورد نص البيان بعد الانتهاء من وضع البيانات الهامة في صورة الهيكل الهرمي، وعلى هذا الأساس فهناك حالتان: الأولى: أن تقدم الهيكل الهرمي من غير نص البيان، وفي هذه الحالة يتحتم أن يكون الهيكل وافيا. والثانية: أن تقدم البيان مع الهيكل الهرمي، وعندئذ فإن مقدمة الهيكل الهرمي تكون ملخصة ومركزة منعا للإطالة والتكرار.

الموضوعات المركبة ومتابعة الأخبار

الموضوعات المركبة ومتابعة الأخبار: إن النبأ الصحفي الذي يشتمل على الوقائع وحدها، أو الحركة وحدها، أو تصريحات مقتبسة ومنسوبة إلى مسئولين أو أفراد عاديين، ولو أنها تختلف في نوع المادة "إلا أنها في تكوينها -كما رأينا- تتفق في طريقة الشكل الهرمي أو الهيكل من "القمة" إلى "القاعدة" من حيث التسلسل. فالنبأ المتعلق بالوقائع يبدأ بالمقدمة عن الواقعة الهامة ثم الواقعة الثانية والثالثة وهكذا، والنبأ الخاص بالحركة أو الحادث يبدأ بمقدمة شاملة لما وقع ثم تعود فتعيد نشر التفاصيل لما اشتملت عليه المقدمة من وقائع هامة وهكذا. والنبأ المتضمن أقوالا مقتبسة يبدأ بمقدمة فيها بيان محدد مختصر عن الموضوع ثم الأقوال المقتبسة وهكذا. على أنه كثير ما يحدث أن يكلف صحفي بتغطية موضوع شامل لكل هذه الأنواع الثلاثة. وفي هذه الحالة فإن التكوين الهرمي يتطور إلى تكوين معقد بعض الشيء، ولكن من المؤكد أن في استطاعتنا تطبيق نفس المبادئ. فيحتوي هذا النبأ مثلا على المقدمة فالجملة الانتقالية فالحدث فواقعتان من الوقائع، ثم بعض الأقوال المقتبسة. وهناك الموضوعات المركبة ذات الزوايا المتعددة. وتكون هذه الأخبار متشابكة ومتعددة الأماكن والنواحي. وهذه الأخبار يغطيها أكثر من مندوب ثم يأتي المحرر ويجمع هذه المعلومات من زواياها المختلفة في خبر واحد. ويراعى عند كتابة هذه القصة الانتقال من المقدمة إلى إبراز النقط الهامة التي جاءت في المقدمة نقطة نقطة، ثم نعود إلى إبراز التفصيل الكامل لكل نقطة من هذه النقط، ففي حادث مصرع وصفي التل مثلا، يذهب فريق إلى فندق شيراتون، وفريق آخر إلى المستشفي، وفريق ثالث إلى السفارة الأردنية، وفريق رابع إلى المحقق، وفريق خامس إلى شقة المتهمين بالاغتيال في الزمالك، وبعد تجميع هذه المعلومات من كل فريق، يجرى صياغتها بطريقة المقدمة التي تتعلق بزاوية هامة ثم ملخص الزوايا الأخرى الأقل أهمية، ثم الزوايا الأخرى وهكذا. ولمتابعة الموضوعات الصحفية يحتاج الأمر إلى مقدمة تلخيصية للربط بين ما سبق نشره بالأمس مع زاوية جديدة في الموضوع. ويتحتم بعد الانتهاء من تسجيل هذه المقدمة، أن نحرص حرصا شديدا على أن تكون الفقرة التي تلي هذه المقدمة "ربطا" بين الجديد والقديم، بتلخيص ما حدث في اليوم السابق في سطور قليلة ومركزة ووافية، وذلك لعدة أسباب: أولها وأهمها أننا نفترض دائما أن القارئ لم يقرأ ما سبق نشره، وثاني هذه الأسباب أن القارئ الآخر ضعيف الذاكرة ونسي ما سبق نشره. ثم ننتقل بعد ذلك إلى التطورات الجديدة ويلاحظ أن تكون فقرة الربط خالية من الحشو والتعقيد، حتى ينتقل القارئ إلى التطور الجديد في الموضوع بسهولة ويسر.

الماجريات البرلمانية

الماجريات البرلمانية: كانت صحيفة الوقائع اليومية التي أصدرها يوليوس قيصر سنة 59 قبل الميلاد أول صحيفة خطية يصدرها الرومان، وتحتوي إلى جانب الأخبار على تسجيل نشاط مجلس الشيوخ وعرض أعمال أعضائه وأقوالهم على الجمهور. وقد أراد يوليوس قيصر بهذا العمل أن يسلط الأضواء على تصرفات أعضاء المجلس حتى يسلكوا سبيلا يليق بهم ويتناسب مع النشر والإذاعة على الناس، وبهذه الطريقة يحرز المحسن ثناءه، ويلقى المسيء جزاءه. وكانت أول صحيفة إنجليزية تنشر الأخبار الداخلية ومحاضر الجلسات البرلمانية صحيفة صدرت في نوفمبر سنة 1641 باسم "ملخص الإجراءات في البرلمان الحاضر"1. وكان يصدرها توماس2 في ثمان صفحات. وفي سنة 1642 تطور اسم الدورية فأصبح "اليومية الكاملة لإجراءات البرلمان"3، وكان يحررها صموئيل بيك4، وقد نجحت هذه الدورية الأسبوعية رغم اسمها يومية لأن كلمة يومية معناها هنا تفاصيل إجراءات البرلمان نجحت في إلهاب ميول الجماهير القارئة لمتابعة البرلمان في وقت كان فيه مجلس

_ 1 THE HEADS OF SEVERALL PROCEEDINGS IN THIS PRESENT PARLIAMENT. 2 J. THOMAS. 3 A. PERFECT DIURNALL OF THE PASSAGES IN PARLIAMENT. 4 SAMUEL PECKE.

العموم البريطاني قوة مرهوبة الجانب تحارب الملك وتنتصر عليه وعلى أعوانه. على أن أهم تجديد ابتكرته "اليومية الكاملة" هو نشر عدة رسوم مختلفة تمثل أعضاء مجلس العموم أثناء انعقاد الجلسات، وكانت هذه الخطوة الجريئة وثبة رائعة في الشجاعة السياسية من جهة وفي الفن الصحفي من جهة أخرى. ولا شك أن انتشار الصحافة البرلمانية في تلك الحقبة كان يقصد منه تعبئة الجماهير ضد الملكية، وانتهى الأمر بأن قدمت "اليومية الكاملة" تقريرا صحفيا عن إعدام الملك شارل الأول سنة 1649، بفصل رقبته عن جسده بالبلطة التي أهوى بها الجلاد، والملك راكع فوق صخرة الإعدام. ولم يكد ينتصر كرومويل في ثورته ضد الملك، حتى قلب ظهر المجن للصحافة، وأخذ يضيق على حريتها، وأصبح نشر المحاضر البرلمانية محظورا، وذلك حتى القرن الثامن عشر، عندما استطاع الصحفي الإنجليزي ويلكيز أن يحبط محاولة أعضاء مجلس العموم لمعاقبة الصحفيين واضطهاد الطابعين. وقد وصل هذا الصحفي إلى منصب "عمدة مدينة لندن" وأعلن أن القبض على رجال الصحافة يعد خرقا لحقوق الأفراد، والامتيازات المرعية التي يتمتع بها كل مواطن. وقد حذا أعضاء مجلس مدينة لندن حذو زميلهم ويلكيز عندما عرضت عليهم قضايا الصحفيين، فتقرر حبس اثنين منهما في قلعة لندن، حيث أحاطهما الشعب بالتكريم والتأييد والهتاف، فأقيمت الحفلات وأعدت الولائم، وقدمت الهدايا، فكان ذلك انتصارا للصحافة وتمجيدا لها وتأكيدا لحريتها في نشر الماجريات البرلمانية ونقد الحكومة. والحق أن ويلكيز كان يؤمن إيمانا راسخا بحرية الصحافة. فهو يكتب في صحيفة "ذي نورث بريتون"1 أن حرية الصحافة حق طبيعي لكل مواطن؛ لأنها أقوى دعامة لحماية الحريات في البلاد، وكم أفزعت الصحافة الوزراء المفسدين، وكشفت خططهم الخطيرة، ومؤامراتهم الدنيئة، وتخاذلهم وخداعهم! إن الصحافة تستطيع أن تكشف النقاب عن هذه الأشياء جميعا، وتعرض أعمال

_ 1 THE NORTH BRITON.

الوزراء على الرأي العام، لكي يقول كلمته فيها، فتثير كراهية الشعب ضد الفساد والبطش والضعف والطغيان. وقد كان الصراع بين الصحافة والحكومات من أجل نشر محاضر جلسات البرلمان والمحاكم والهيئات السياسية جزءا لا يتجزأ من ملحمة الحرية الصحفية في مصر. فقد كانت الحكومات ترى في نشر هذه المحاضر تحقيرا لها وافتئاتا على حقوقها. وقد كان الدكتور محمود عزمي مندوبا برلمانيا لجريدة السياسة. وكان الدكتور عزمي يرسم بقلمه صورا ساخرة للنواب المصريين، ويضع يده على كثير من مواطن الضعف فيهم، ولعل ذلك يذكرنا بما كان يفعله الصحفيون الإنجليز من استخدام الرمز الجريء المكشوف لنقد أعضاء مجلس العموم البريطاني، وخاصة الأديب المشهور الدكتور جرنصون. ويبدو أن الدكتور عزمي قد أثار سخط النواب عليه فقرر أعضاؤه إذ ذاك أن يطردوه من المجلس، وأن يحرموه من الجلوس في شرفة الصحافة، ويحرموا جريدة السياسة من نشر محاضر جلسات البرلمان. ووقف عزمي وحده في شرفة الصحافة يواجه ضجة المجلس، وفي اليوم التالي ظهرت جريدة السياسة وفيها مقال عنيف بقلم الدكتور محمود عزمي ضد مجلس النواب المصري. وفيها كذلك وصف دقيق لما ورد في الجلسة التي حرم منها. واستمرت جريدة السياسة تنشر وصفا لهذه الجلسات التي يعقدها البرلمان حتى هاج المجلس مرة أخرى، وطالب بإجراء تحقيق مع مندوبي الصحف، وموظفي المضبطة، لمعرفة الموظف الذي يمد جريدية السياسة بأخبار هذه الجلسات. فن صياغة الماجريات: ويمكن القول بوجه عام أن تحرير الماجريات البرلمانية والقضائية والدبلوماسية والدولية، يشبه إلى حد كبير طريقة كتابة الخبر ذي الأقوال المقتبسة. فالمحرر يضع بعد العنوان مقدمة يلخص فيها أبرز ما جرى في تلك الجلسات، ويثبت أهم النتائج، ثم إنه إذا أتى إلى صلب الخبر أو جسمه أخذ يوجز ثم يفصل من الأقوال ما يفسر الإيجاز. وهناك طريقة تعتمد على الإيجاز

والتركيز لإعطاء القارئ فكرة صحيحة عن الحوادث التي وقعت والقرارات التي اتخذت دون ما دخول في التفاصيل الدقيقة. وهنا يكون على الصحفي أن يقوم الحقائق والأحداث، ويجهد نفسه للتفرقه بين الغث والسمين، ولا يكترث للحوادث الصغيرة أو الأحاديث العابرة التي لا تؤثر على المجرى العام لسير الجلسة. وهناك طريقة أخرى تقوم على الإسهاب والتفصيل، فيحرص الصحفي على تسجيل كل شيء، حتى وصف الملابس وحركات الجسم، وطريقة الكلام، والهدوء أو العصبية. ولا شك أن الصحفي العظيم يستطيع أن ينقل من خلال هذه التفاصيل روح الجلسة، فيفهم القراء من بين السطور، ما لا يستطيع أن يفصح عنه من خلال السطور نفسها. غير أن ظروف الصحافة الحديثة، وغلاء أسعار الورق، وكثرة الإعلانات، قد أدت إلى ابتكار طريقة وسط بين الطريقتين، بحيث يوجز الصحفي في البداية، ويعطي صورة للجلسة وما حدث فيها بوجه عام، وبعد ذلك يورد بعض العبارات وأقوال الأعضاء أو الشهود بنصها، مع حذف التفاصيل التي لا ضرورة لها. وهذه الطريقة لها خطرها؛ لأنها تتطلب صحفيا أمينا يتحمل المسئولية بضمير حي، ولا يستغل الحذف للتشويه أو الانحياز لفريق دون الآخر، فالموضوعية في نشر الماجريات القضائية والبرلمانية والسياسية والدولية من أهم معالم الصحافة الجيدة. وقد أصبح من المقرر الآن أن الجمهور من حقه أن يعرف كل شيء مما يجري في المحاكم أو البرلمان أو المؤتمرات السياسية أو المنظمات الدولية. غير أن من واجب الصحيفة أن تراعي منتهى الدقة في نشر أخبار المحاكم ومحاضر جلساتها، ولا بأس من تحليل العوامل النفسية عن طريق الحركات والإشارات، وكذلك تفسير المواد القانونية للجمهور العام، ولكن من الخطأ الانحياز إلى جانب أو آخر، أو إلحاق الضرر بالمتهمين. وقد أصبح نشر الماجريات السياسية والدولية عن المؤتمر والمفاوضات والاتفاقيات من أهم الموضوعات الصحفية. بل إن ظروف مصر الحقبة الأخيرة

وعرض قضية الشرق الأوسط على الأمم المتحدة في الجمعية العامة أو مجلس الأمن، وكذلك مناقشتها في الاجتماعات الرباعية لممثلي الدول الكبرى، قد جعل من متابعة هذه الأخبار ضرورة يحس بها القراء، ويتوقون إليها. غير أن متابعة الماجريات السياسية والدولية تتطلب صحفيين أذكياء مثقفين، على درجة عالية من الوعي والمسئولية، وإتقان اللغات الأجنبية. هذا فضلا عن أن تدخل الصحافة في هذه الأمور -بعد أن كان ذلك محظورا من قبل- في عصور الدبلوماسية الهادئة، والمفاوضات السرية، قد ألقى على عاتق الصحفيين مهمة الاتزان، والابتعاد عن الإثارة، والموضوعية في نقل الأحداث والخطب والأقوال؛ لأن هذه القضايا تتصل بالحرب والسلام.

الباب الخامس: فن التحقيق الصحفى

الباب الخامس: فن التحقيق الصحفى مدخل ... الباب الخامس: فن التحقيق الصحفي يبدأ فن التحقيق الصحفي -عادة- من النقطة التي ينتهي عندها الخبر الصحفي. فقد رأينا أن الخبر الصحفي يجب أن يحتوي على إجابات لخمسة أسئلة تقليدية، أما التحقيق الصحفي فينهض للإجابة عن سؤال أساسي هو: لماذا؟ وذلك ليس بالسؤال الهين، بل ربما كانت علوم الفلسفة كلها منذ نشأة التفكير المنهجي تحاول الإجابة عن هذا السؤال الجذري. فليس غريبا أن يسمى التحقيق الصحفي في بعض الدول العربية استطلاعا، ويفهم في كثير من الدول الأجنبية على أنه دراسة، ذلك أن روح التحقيق الصحفي تتسم بالدراسة والاستطلاع والبحث وتقصي أسباب الحقائق ومعرفة الزوايا المتعددة للحقيقة الواقعة. وكثيرا ما يتصل التحقيق الصحفي بالأحداث الجارية، ويرتبط بالأفكار الحية في حياتنا، ولذلك فإنه يتسم بالواقعية والحالية، حتى ولو كان الموضوع تاريخيا، بمعنى أن الزاوية الجديدة، أو النظرة المكتشفة حديثا، أو التقييم الجديد للحقائق التاريخية والشخصيات تعطي معاني وأبعادا غير معروفة من قبل. فالتحقيق الصحفي ينطوي على المعلومات والبيانات والتعليقات والمعاني والأبعاد الكامنة وراء الأخبار والمفاهيم السائدة، فهو عمل ابتداعي خلاق. وقد يقال إن التحقيق الصحفي يتناول أحيانا موضوعات تاريخية كعصر إسماعيل أو الثورة العرابية أو حتى التاريخ الفرعوني القديم، وهذا صحيح، غير أن الزاوية الجديدة، والرؤية المبتكرة، والوثائق المكتشفة حديثا، هي التي تجعل الموضوع التاريخي جديرا بالمعالجة الصحفية. فهنا لا بد وأن تتوفر عناصر

الجدة والطرافة؛ لأن التحقيق الصحفي لا يهدف إلى مجرد التسجيل، بل يهدف كذلك إلى الإعلام والتفسير والتوجيه والترفيه والتسويق والتنشئة الاجتماعية. وقد يكون التحقيق إعلاميا أو تفسيريا أو توجيهيا أو ترفيهيا أو تعليميا أو إعلانيا، غير أنه في معظم الأحيان يحقق أكثر من هدف واحد من تلك الأهداف. والمهم أن يكون التحقيق موضوعيا سلسا في أسلوبه، مشوقا في معلوماته، جذابا في معالجته، وقبل كل شيء يتسم بالوضوح والجلاء والتحقيق الصحفي يرتبط ارتباطا وثيقا بفن المجلة، "وهذه مشتقة من مادة جلا أو جلاء أو ظهر ووضح، ومنها جلية الأمر أي ما ظهر حقيقة أي الخبر اليقين. والمجلة هنا بمعنى أنها استجلاء حقيقة من العالم"1. ولا نبالغ إذا قلنا إن خير تعريف للتحقيق الصحفي نفسه أنه استجلاء حقيقة من العالم المحيط بنا، ومعالجتها بأسلوب واقعي مشوق جذاب. ويقسم الإنجليز الفن الصحفي إلى قسمين رئيسين: أما القسم الأول فهو الأخبار، أما القسم الثاني فهو المعالم، وهذا القسم الثاني يهتم بتوضيح معالم الأنباء والأفكار، فالخبر يعطي الحقيقة مجردة، أما المعالم فتفسر ما وراء الخبر. فرواية خبر من الأخبار كحادث قتل في وقت معين ومكان محدد مع ذكر اسم القاتل والقتيل وغير ذلك من التفاصيل يدخل في باب الخبر، ولكن القارئ يحب -عادة- أن يعلم شيئا عن حياة القتيل وسيرة القاتل، ويورد أن يعرف شيئا عن دوافع الجريمة، وربما دوافع الجرائم بصفة عامة، وهنا تأتي وظيفة المعالم في التفسير والشرح والتعليق والإيضاح. إن فن التحقيق الصحفي هو فن التنوير والتثقيف بأسلوب جديد يصل إلى كافة الأفهام. وهو فن يختلف عن فن الكتاب العادي؛ لأنه ينطوي على تحرير صحفي, وفن تصويري، وتجسيد للمعاني، وتبسيط للحقائق، مع استخدام

_ 1 تعريف الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلة الطبيب الصادرة سنة 1884 بالاشتراك مع الدكتور بشارة زلزل وخليل سعادة.

الصور الفوتوغرافية، والرسوم الإيضاحية، والخرائط التفسيرية، والنماذج التي تيسر الفهم لكافة المستويات الثقافية. ولذلك فإننا قد نتحدث عن "إنتاج" التحقيق الصحفي، ولا نكتفي بمجرد كتابته أو تحريره، علما بأن التحقيق يتضمن الحوار والمناقشة والحديث الصحفي والاستقصاء والبحث والدراسة، بشرط أن يتم كل ذلك في إطار الواقع العملي، ويعبر عنه باصطلاحات مفهومة للجميع، مع الابتعاد عن المصطلحات العلمية والفنية المجردة. وما أقرب فن التحقيق الصحفي من فن الفيلم التسجيلي السينمائي! فإذا كانت جريدة الأخبار الناطقة في السينما تناظر الجانب الأخباري من الصحافة، كما أن الأفلام الدرامية تناظر الجوانب القصصية والترفيهية من الصحافة، فلا شك أن الفيلم التسجيلي هو ما يناظر فن التحقيق الصحفي. وكلاهما -الفيلم التسجيلي والتحقيق الصحفي- لا بد وأن تتوفر فيه عناصر الواقعية والصدق والتغطية الكاملة من زوايا متعددة، فضلا عن التشويق والتحليل والتبسيط وإثارة انتباه القارئ أو المشاهد بما وراء الأخبار من خلفيات وشخصيات -على أن يتم ذلك كله بطريقة فنية خلاقة، وهذا هو التناول الإبداعي للواقع -على حد قول جريرسون1. وإذا كان ثمة فن من الفنون الصحفية يستطيع أن يقف صامدا في مواجهة الإذاعة والسينما والتليفزيون، فهو فن التحقيق الصحفي، إذا أحسن إنتاجه، وأتقنت لغته وعباراته. وعالم اليوم يفكر بأسلوب بصري جديد، وهناك عدد كبير من المتعلمين الجدد الذين يريدون أن يدخلوا عالم الثقافة من خلال التعبير المصور، والأسلوب المبسط، والألوان الزاهية المعبرة، وهكذا يدخل فن التحقيق الصحفي لكي يعلم ويثقف ويوجه ويرشد ويفسر ويمتع. وفي عصرنا الذي يسوده التخصص الضيق، يستطيع هذا الفن أن يربأ الصدع، ويملأ الثغرات الفاصلة بين شتى التخصصات في المجتمع.

_ 1 ألبرت فولتون، السينما آلة وفن ترجمة صلاح عز الدين وفؤاد كامل مراجعة البشلاوي، ص268.

ماهية التحقيق الصحفي

ماهية التحقيق الصحفي: لقد رأينا أن الجاحظ يعتبر -في نظر المؤرخين- صحفيا؛ لأنه أديب موسوعي العلم والمعرفة، واقعي الأسلوب، سلس العبارة، يرفع الكلفة بينه وبين القارئ، ويعبر عن خصائص عصره وسمات بيئته. فهو يمتاز بأنه لم يترك موضوعا عاما إلا وكتب فيه رسالة أو كتابا. "ومن يرجع إلى رسائله وكتبه يجده قد ألف في النبات وفي الشجر وفي الحيوان وفي الإنسان وفي الجد والهزل، وفي الترك والسودان، وفي المعلمين والقيان، وفي الجواري والغلمان. وفي العشق والنساء، وفي السنية وفي الشيعة والعباسية والزيدية والرافضة، وفي حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل وفي البخلاء واحتجاج الأشحاء، وفي هذا ما يدل على أن الجاحظ خطا بالكتابة الفنية عند العرب خطوة جديدة نحو التعبير عن جميع الموضوعات في خلابة وبيان عذب. كان يفهم الكتابة الأدبية على أنها معان تنسق في موضوع خاص مما يتصل بالطبيعة أو الإنسان، وكان لذلك صبغة في كتابته، فإنها كانت ذات موضوع قبل أن تكون ذات أسلوب، وليس معنى ذلك أنه كان يهمل ألفاظه وتراكيبه، بل لقد كان يعنى بها عناية شديدة"1. لقد كان الجاحظ لسان عصره، لا يتستر ولا يتخفى، يعبر عن الواقع بلهجة عادية بالنسبة لأهل زمانه، يحكي ويصور ويمثل تمثيلا دقيقا ينبض بالحيوية، وقد نجح في نقل صور الحياة في بيئته العباسية عبر القرون بكل صدق وأمانة. لقد كان مصورا عظيما، ينقل المشاهد بحذافيرها وبدقائقها وتفاصيلها. وفنه هذا ينم عن قوة ملاحظة فائقة، يحسده عليها كل صحفي حديث. لقد تفوق الجاحظ في فن الإبانة، وأتقن التصوير والتجسيم، مهما كان الموضوع الذي يتناوله، إنه رجل شديد الانغماس في المجتمع، يهتم بالمسائل العامة -كما يقول المحدثون- وهو غزير الإنتاج إلى درجة تلفت الأنظار، وهو صورة دقيقة لما يحيط به من تلك البيئة العباسية من دين وسياسة وثقافة وأدب وعادات وتقاليد اجتماعية راقية غير راقية.

_ 1 دكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص160، 161.

وهكذا نجد أن وظيفة التحقيق الصحفي الحديث هي تقديم صورة مدروسة للواقع، كما فعل الجاحظ بالنسبة لعصره، وإذن فوظيفة التحقيق -التي هي مدعاة وجود فنه الذي لا يعمل في فراغ- تالية للخبر، ومعنى ذلك أنها تضيف إلى الواقع أبعاده، وتسبغ عليه معناه، وتقدم للجماهير مغزاه. فالتحقيق يشرح ويفسر ويعلق، ويبين الأسباب النفسية والعوامل الاجتماعية والخلقية والمادية، وهو في نهاية الأمر يقترح اقتراحات إيجابية فعالة. فليس التحقيق الصحفي مجرد صورة جميلة كتلك التي يصورها الأديب، ولكنه دراسة واعية هادفة. فلا يكفي أن تقدم المعلومات التقريرية السطيحة، وإنما ينبغي البحث عن المسببات ذات المعنى. إن الوظيفة الأولى هي أن يقدم من المعلومات أكثر مما قدمه محرر الأخبار. فإذا جاز القول أن المخبر الصحفي هو بصرنا الذي نبصر به وسمعنا الذي نسمع به وحواسنا التي نحس بها، وهو يعرف جيدا أن عليه أن ينقل إلينا جميع ما رأى وما سمع دون أن يقحم فيها شيئا من ذاتيته أو تأملاته أو إيحاءاته، فإن فن التحقيق الصحفي يقوم على التفسير الاجتماعي للأحداث، والتفسير النفسي للأشخاص الذين اشتركوا في هذه الأحداث. غير أن ذلك لا يعني أن التحقيق فن ذاتي. فليس من وظيفة المحقق الصحفي أن يعرض رأيه الذاتي أو وجهة نظره الخاصة، بل إنه على العكس من ذلك، مطالب بالبحث والدراسة وجمع الآراء والاتجاهات على كافة أنواعها. إنه يلقي الضوء على الأحداث والأشخاص فيزيدنا علما، ويثري ثقافتنا، ويبين الأبعاد العميقة للخبر. فالأخبار تنتشر على المساحة السطحية، ولكن التحقيقات تتعمق في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية جميعا. ويظن البعض أن التحقيق الصحفي طرز أدبي يستطيع كاتبه أن يستخدم فيه الأسلوب الإنشائي، والأسلوب الذاتي. ولكن الحقيقة أن هذا الفن الصحفي لا بد وأن تتوفر فيه سائر الصفات الفنية الصحفية، كالحرص على استخدام الألفاظ المألوفة، وتجنب الألفاظ العلمية والاصطلاحات النادرة، مع الحذر من الانزلاق إلى العامية المبتذلة، واللفظ الدقيق، والعبارة السليمة الموجزة.

والاقتصاد في الكتابة مع البعد عن الحشو والإسهاب، والموضوعية في نقل الآراء والاتجاهات، والأمانة في تصوير أبعاد المشكلات. حقيقة أن التحقيق الصحفي يحتاج إلى الاستعانة بآراء الخبراء، ووجهات نظر المتخصصين والفنيين، مما يتطلب إجراء أحاديث ومقابلات معهم، غير أن وظيفة الفن الصحفي، لا تكون هي مجرد النقل أو الاقتباس، إنما التحويل من التخصص الدقيق إلى التعبير العام الشامل الذي يفهمه الناس، وهنا تلعب الصورة دورا في التعريف والإبانة والتصوير؛ لأن الموضوعية والأمانة في النقل هما أساس ذلك الفن "التسجيلي" -فن التحقيق الصحفي. لذلك فإنه يندر نشر تحقيق صحفي بدون صور فوتوغرافية، ورسوم بيانية، وخرائط إيضاحية، ونماذج تفسيرية. ولا يوجد مثل التحقيق الصحفي كفن يطبق فيه مبدأ العامل السيني1 أو التأثير الثالث، وهو إشراك القارئ مشاركة إيجابية في فهم المضمون الصحفي وتصوره واستيعابه، ولا يتم هذا التأثير إلا بتفاعل الألفاظ والصور تفاعلا تاما يلقي الضوء على المضمون الصحفي. والمعروف أن الألفاظ رموز أو صور مرئية للكلام المسموع، فكأن العين حين تقرأ الألفاظ تنقل إلى المراكز السمعية في المخ صورا للألفاظ الصوتية. أما الصور، فإنها رموز مرئية خالصة تعبر عن موضوعات مرئية أصلا. وعلى ذلك فإننا نستغل قوى السمع والأبصار عندما ننشر مادة صحفية بالألفاظ والصور، مما يؤدي إلى تصوير الأحداث تصويرا ينبض بالحياة والواقعية. ويستفيد الفن الصحفي الحديث من تفاعل العبارات اللفظية والصور لخلق إحساس واقعي يقترب كثيرا من الحادث الأصلي، وينقله بأمانة موضوعية. ولا بد أن تتوافق الصور والكلمات توافقا فنيا يشبه التوافق الموسيقى بين أجزاء اللحن لخلق نغمة واحدة. ولا غنى عن التعبير اللفظي حتى في حالة الصورة المفردة؛ إذ لا يمكن للصورة وحدها أن تدل على اسم صاحب الصورة، أو اسم المكان، أو الزمان. هذا فضلا عن النواحي الفكرية والعاطفية التي لا يتم التعبير عنها في وضوح إلا بالعبارة اللفظية مقترنة بالصورة.

_ 1 x factor.

تطور فن التحقيق الصحفي

تطور فن التحقيق الصحفي: فليس غريبا أن يرتبط ازدهار التحقيق الصحفي بظهور الصورة الصحفية، والفنون التسجيلية الأخرى كالرسوم والخرائط وفنون صناعة الكليشيهات "الأنماط". لقد كانت صحيفة العشرية المصرية1 التي أصدرتها الحملة الفرنسية على مصر تحتوي على تحقيقات صحفية منذ صدورها في أكتوبر سنة 1798، كما كانت بريد مصر2 الصادرة في أغسطس سنة 1798 تحتوي على وصف لساحات القتال، وللحفلات التي حضرها نابليون. كما كانت تعنى بنشر تفاصيل زيارات بونابرت العلماء المصريين ورجال دينهم كزيارته للسيد السادات في مولد السيدة زينب، وهذا ما يسمى الآن بالتحقيق الصحفي الموسمي أو تحقيق المناسبات، بل إن الصحيفة أسهبت في وصف المأكل والمشرب في شهر رمضان، وأوردت ما دار من جدل بين بونابرت والمشايخ حول القرآن الكريم، وقد استغرق ذلك صفحتين كاملتين. على أن التطور الملحوظ في الأسلوب والموضوع يبدأ من العدد الخامس من صحيفة لوكورييه "البريد المصري"2 فقد أذاعت على قرائها أنها ستنشر ما يفيد قراءها الأوروبيين ويطلعهم على عادات المصريين وتقاليدهم، وأكدت أنه لن ينشر شيء إلا على أساس تصوير لحالة من الحالات أو بعد دراسة مستوفاة. وهذا في نظرنا هو جوهر التحقيق الصحفي الذي ينقل بأمانة وموضوعية صورة من الصور، أو أن يقوم بدراسة مستوفاة لمشكلة من المشكلات. وفضلا عن ذلك قامت الصحيفة بنشر ما يسمى الآن بالتحقيقات الصحفية الطريفة ذات الموضوع الإنساني مثل عادات الزواج والطلاق، والأخذ بالثأر بين الأسر والجماعات. وقد كان رفاعة الطهطاوي -أول محرر للوقائع- قد عرف فن التحقيق الصحفي في فرنسا، فأخذ يبذر بذوره الأولى في تلك الصحيفة الرسمية، كما استطاع السوريون واللبنانيون القادمون من بلاد الشام أن يجلبوا معهم هذا الفن

_ 1 la decade egptienne. 2 le courrier d'egypte.

الذي تعلموه من البعثات التبشيرية وأساتذة الجامعة الأمريكية، وخاصة ما يتصل بالعلوم والفنون. ومن ذلك مثلا تاريخ أهرام الجيزة الذي نشر في جريدة الأهرام بعددها الأول الصادر في 5 أغسطس، ومن ذلك أيضا تحقيقات بشارة تقلا عن رحلته في الأستانة. غير أن تطور الصحافة المصورة بمجلاتها الجديدة مثل الهلال واللطائف وسركيس والحكمة والثريا والأرغول والكشاف قد استطاعت أن تقفز بفن التحقيق الصحفي عدة خطوات إلى الأمام. وقد كانت التحقيقات تدول حول الأخبار الجديدة مثل هزيمة أتباع المهدي وفرار التعايشي إلى كردفان. وتحتوي التحقيقات على عناصر التشويق المختلفة بأسلوب سهل مألوف للقارئ العادي. ومن الطريف أن مجلة اللطائف الصادر سنة 1886 قد تخصصت كما يتضح من اسمها في نشر التحقيقات الطريفة، "لاحتوائها على كل لطيفة" على حد قول صاحبها شاهين مكاريوس. ولكن ليس معنى هذا أنها كانت مجرد تحقيقات خفيفة هشة، بل لقد كانت معظمها، في حقيقة الأمر، مبنية على دراسة جادة، ومدعمة بالصور. ويبدو أن كاتب التحقيق، كان يدرك منذ البداية أن فنه فن موضوعي وليس فنا ذاتيا، فلا ندهش من أنه ما كان يوقع باسمه على التحقيق إلا نادرا. ثم جاءت القفزة الثانية لفن التحقيق الصحفي بازدهار فن طباعة الرتوجرافور أو فن الطباعة الغائرة الملونة. فكانت مجلة اللطائف المصورة الصادرة سنة 1915، ومجلة المصور الصادرة سنة 1924، والبلاغ الأسبوعي المصورة الصادرة سنة 1926، والجديد الصادرة سنة 1928، والدنيا المصورة ومصر الحديثة المصورة الصادرتان سنة 1928 أيضا، طلائع رائعة لرقي فن التحقيق الصحفي. وتطالعنا مجلة المصور في عددها الأول الصادر في 4 أكتوبر سنة 1924 بافتتاحية تؤكد فيها أنها تطبع صور الأشخاص والحوادث والمشاهد بطريقة متقنة للغاية وكأنها صور فوتوغرافية، وهي إشارة إلى فن طباعة الروتوجرافور،

فضلا عن الاهتمام بالجوانب المشوقة والإنسانية من الفكاهات والنبذ المفيدة -على حد قول المجلة. من ذلك مثلا موضوعات عن ابن فلاح يعتبر أغنى رجل في العالم، وتساؤل حول من الأبرع في النشل الرجال أم النساء؟، وغرائب الفرار من السجن. وقد كان المصور المشهور رياض شحاتة من الرعيل الأول الذين أسهموا في تصوير بعض التحقيقات عن ارتياد الصحراء، وقد كانت الموضوعات المنشورة تتخذ عنوانا لها كلمة "جولة" أو "رحلة" أو "بحث" أو "دراسة" كما شنت مجلة المصور عدة حملات على شكل تحقيقات مصورة1، دارت حول "مشروعات بمئات الألوف من الجنيهات تفشل أو لا تنجح فمن المسئول"، وتناولت فيها موضوع سكة حديد السويس، وموضوع الخطوط التليفونية الأرضية بين مصر والإسكندرية، وقد تكلف هذه المشروع 240.000 جنيه. ويلاحظ أن الصحافة المصرية في الثلث الأول من القرن العشرين كانت تشير إلى التحقيق بألفاظ متعددة منها: البحث والدراسة والجولة والرسالة والمشاهدات والنقدات والملاحظات، وهي جميعا تدل على حس صحفي سليم لفهم طبيعة التحقيق الصحفي ووظيفته. وفي 4 أغسطس سنة 1939، نجد المصور يستخدم لأول مرة عبارة التحقيق الصحفي2، بعنوان "مملكة الريف ودولة الأقاليم". ومن الطريف أنه تحقيق جماعي اشترك فيه عدد من مندوبي المصور، بالإضافة إلى أبحاث "البارزين من حكام المديريات وأبنائها" -على حد قول المصور.

_ 1 المصور، العدد 372، الجمعة 27 نوفمبر سنة 1931. 2 العدد 773.

الصحافة الحديثة وفن التحقيق

الصحافة الحديثة وفن التحقيق: وهكذا نرى أن فن التحقيق الصحفي قد أخذ يتطور تدريجيا كفن مستقل منذ ظهور المجلة المصورة، ثم جاءت أحداث الحرب العالمية الثانية، وتطور فنون الاتصال التليفوني والتلغرافي ونقل الصور بسرعة، وتعطش الناس إلى معرفة الأخبار وتحليلها، ودراسة أبعادها وآثارها، فكان لا بد من الاعتماد على التحقيق الصحفي لسد هذه الحاجات الجديدة. ولا شك أن الصحافة الحزبية قد تنافست لاجتذاب القراء عن طريق هذا الفن الصحفي الجديد، وخاصة بعد تفوق جريدة السياسة تفوقا عظيما في هذه المضمار. ولذلك "رأى سعد زغلول أن يجمع شبان حزبه أمثال علي الشمسي وواصف غالي والنقراشي وأحمد ماهر ليفكروا معه فيما يجب أن يفعله هذا الزحف الصحفي، لكن أحدا من هؤلاء لم تكن له خبرة صحفية، وكان حافظ عفيفي هو الذهن الصحفي وراء الجريدة الجديدة.. قرأ كثيرا عن الصحافة ودرس جريدة التيمس الإنجليزية وحاول أن ينشئ جريدة تعتمد على الخبر أولا ثم على الرأي ثانيا، فجاءت السياسة شيئا جديدا لا يمكن أن يقاومه صحفيو الوفد، كان العقاد وعبد القادر حمزة كاتبين عظيمين.. كان المقال الذي يكتبه العقاد مثلا يهز الحكومة.. يزلزل الرأي العام.. لكن العقاد لم يكن يستطيع أن يكتب خبرا أو تحقيقا صحفيا أو يحاول أن يقوم بسبق صحفي، وكذلك كان عبد القادر حمزة أستاذا في كتابة المقال القصير.. أكبر عدد من المعاني في أقل عدد من الألفاظ.. ولكنه كان متأثرا بمدرسة المقال أكثر من تأثره بمدرسة الخبر والتحقيق الصحفي.. وبهذا بدأ تفوق جريدة السياسة الضخم على صحف الوفد جميعها.. شعر سعد زغلول الصحفي بأنه سينهزم في معركة الصحافة! شعر أنه ليس بين أنصاره أو أصدقائه الصحفي بمعنى الكلمة الذي يستطيع أن يحول الجريدة السياسية إلى جريدة خبر ورأي وتحقيق وكاريكاتور في وقت واحد"1. والواقع أن الخبر والتحقيق الصحفي يمثلان مع الصورة والرسم والكاريكاتور جوهر الفن الصحفي الحديث. ومنذ أن بدأ الشيخ علي يوسف اهتمامه بالخبر في صحيفة المؤيد الصادرة في أول ديسمبر سنة 1889، ثم

_ 1 معهد السيد شوشة، أسرار الصحافة، ص29، 30.

جاءت اللواء والجريدة والصحف المستقلة لتعميق هذا الاهتمام بالخبر، أصبح الطريق مفتوحا أمام جريدة السياسة سنة 1922، لبدء عصر جديد من الصحافة الحديثة التي تضارع الصحافة الأوروبية. ثم كان المرحلة السابقة على الحرب الثانية ابتداء من سنة 1936 من معالم التطور الجديد في الفن الصحفي، الذي ازدهر ازدهارا عظيما خلال فترة الحرب وما بعدها. وقد رأينا أن هذا الفن ما كان يمكن أن يتطور لولا التقدم العلمي في خدمة الطباعة والتصوير والرسم وصناعة الكليشيهات، فضلا عن التقدم الهائل في فن التصوير الصحفي. وفي هذه الظروف بالذات تطور فن المجلة ليصبح مجالا خصبا لفن التحقيق الصحفي، فخرجت صحافتنا من المجال المحلي إلى المجال الدولي، وارتفعت أرقام التوزيع، كما زادت مساحات الإعلانات وإيراداتها، فدخلت الصحافة طور النضج والاستواء، وتنافست الصحف على تجديد الفن الصحفي وإتقانه، حتى ليمكن القول دون مبالغة أن الصحافة الحديثة تمتاز حقا بفن التحقيق الصحفي.

مصادر التحقيقات وخططها

مصادر التحقيقات وخططها: يبني التحقيق الصحفي على مشكلة يتلقفها الكاتب من الوسط الذي يعيش فيه وينفعل به، وكلمة "مشكلة" هنا بالمعنى الواسع للكلمة فهناك مشكلات الصحة والتعليم والقفز والبطالة والجهل وغيرها ولكن هناك أيضا مشكلات تتطلب مهارات أو معرفة أو وصف. ولذلك فإن أساس التحقيق الصحفي في البداية هو فكرة أو خاطر أو انطباع أو ملاحظة وتتعدد مصادر التحقيق الصحفي من أخبار الصحف ومقالاتها، إلى الملاحظة الشخصية، إلى التجربة الإنسانية المباشرة، وكذلك الأحاديث الصحفية والنشرات والوثائق. والصحيفة سجل حافل بالموضوعات التي يمكن لكاتب التحقيق الصحفي أن يختار منها العديد من الزوايا. ولا نقصد الأخبار فحسب، بل إن هناك الأحاديث والإعلانات ورسائل القراء وصفحة الوفيات نفسها. وكثيرا ما يكون في النشرات العلمية، والمجلات الفنية المتخصصة معلومات هامة يقوم الصحفي

بتبسيطها وتقديمها للقراء بشكل واقعي مستساغ. كما أن الأبواب الثابتة الموجهة إلى الشباب أو النساء أو العمال أو الأطفال أو غيرهم من فئات الشعب قد توحي بموضوعات قيمة للتحقيقات الصحفية. وقد يجد الصحفي في الأخبار الاجتماعية كسفر الأطباء أو وصول الخبراء أو فوز العلماء في المسابقات العلمية والجامعية موضوعات جديرة بكتابة تحقيقات صحفية عنها، ولا شك أن الإعلانات الغريبة والطريفة قد توحي بموضوعات جذابة. فليس غريبا أن يقول كبار الصحفيين إننا نعثر على موضوعات التحقيق الصحفي في كل شيء من حولنا. والمهم أن يختار الصحفي زاوية قابلة للتنفيذ، ومثيرة لأفكار الجماهير ومشاعرهم، وفي نهاية الأمر يجب أن نتذكر وظائف الفن الصحفي من إعلام وتفسير وتوجيه وإمتاع وإعلان وتنشئة اجتماعية؛ لأن هذه جميعا أهداف يسعى التحقيق الصحفي إلى بلوغها. وفي جميع الأحوال لا يكتفي الصحفي بمجرد اختيار الموضوع المناسب بالنسبة إليه، بل لا بد من مراعاة اهتمام القراء بالموضوع، وموافقة الموضوع لسياسة الصحيفة أو المجلة، كما يتأكد الصحفي من توفر المصادر من كتب ومطبوعات وبيانات وشخصيات، يرجع إليهم ويحصل منهم على أحاديث تلقي الأضواء على الموضوع. فلا شك أن المكتبة الصحفية وأرشيف القصاصات وأرشيف الصور من المصادر الأساسية للتحقيقات الصحفية، ولكن لا بد من استكمال هذه العناصر بالمقابلات الشخصية والأحاديث والآراء من كافة الزوايا والاتجاهات. وقد تكون نشرات العلاقات العامة مفيدة، ولكنها لا تعتبر مصادر للحكم النهائي على المشكلات، وإنما هي تعطي نقط البدء والمناقشة؛ لأن نشرات العلاقات العامة غالبا ما تعطي وجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر المؤسسة أو المنظمة التي تعمل إدارة العلاقات العامة لحسابها. ومن المهم يكون لدى الصحفي فكرة واضحة عن الصور والبيانات الإيضاحية البصرية لأنها تمثل عنصرا أساسيا في فن التحقيق الصحفي. ويخضع إعداد التحقيق الصحفي لأسلوب علمي قائم على جمع المعلومات والتخطيط وتحضير الأسئلة التي توجه للأشخاص، غير أن هذا التخطيط في

مجموعة لا بد وأن يكون مرنا، فقد يكتشف الصحفي موضوعا فرعيا يشعر أنه أخطر وأهم من الموضوع الأصلي فيوجه عنايته إليه. والواقع أن الصحفي في هذه الحالة كالمحلل النفساني والبائع الناجح والسياسي الماكر والصديق المخلص ووكيل النيابة اللبق1 يسعى لجمع كافة المعلومات ويقومها ويوازن بينها. وما أشبه هذا الصحفي بلاعب التنس الذي يتعلم كيف يرد الكرة فوق الشبكة، وكيف يدفعها بقوة وفجأة من زوايا مختلفة2! وإذا كان الصحفي يتصدى لجمع الحقائق والمعلومات من السلطات الرسمية، فيجب عليه أن يكون ماهرا في إجراء الحديث، وأن يتقن الاستماع والتحدث جيمعا، وأن يتحمس للموضوع وينقل حماسة للآخرين في اتزان وتؤدة؛ لأن الشخصية غير المتحمسة تشعر المصدر بعد الاهتمام. وليس معنى ذلك أن يكون تحمس الصفحي ذاتيا، فنحن نذهب إلى أن التحقيق الصحفي فن موضوعي، ومن الخطأ أن يبدأ الصحفي بوهم معين أو شائعة من الشائعات، ظنا منه أنها فكرة جديدة، ثم يأخذ في جمع المعلومات والبيانات والأحاديث التي تثبت ذلك الوهم أو الشائعة. وكم من تحقيقات بنيت على آراء متطرفة، أو أفكار متعصبة، أو حملات شخصية متحيزة، يجهد فيها الصحفي نفسه ويلح على القارئ لإثبات أحكام مسبقة، بطريقة بعيدة كل البعد عن الأسلوب العلمي. ويلاحظ أن البكاء أو العويل، والمبالغة في التعبير، والسخرية المريرة، والمهاترة الفظة، والهجوم الشخصي المتطرف، ليس من الفن الصحفي في شيء. ولكن ليس معنى ذلك انعدام العاطفة، ففرق كبير بين التعبير الواقعي عن العاطفة، وبين الإغراق في الانفعال دون ضابط.

_ 1 جلال الدين الحمامصي، المندوب الصحفي "1963" ص166. 2 كارل وارين، كيف نصبح صحفيا، ترجمة عبد الحميد سرايا، ص122.

أنواع التحقيق الصحفي وموضوعاته

أنواع التحقيق الصحفي وموضوعاته: وتتنوع التحقيقات الصحفية بتنوع أهدافها وغاياتها، وهي في مجملها أهداف وغايات الفن الصحفي نفسه. فهناك تحقيقات إعلامية وأخرى تفسيرية. ومن التحقيقات ما هو توجيهي إرشادي، ومنها أيضا تحقيقات الإمتاع والتشويق فضلا عن التحقيقات التعليمية، وثمة تحقيقات إعلانية يستغلها المعلنون للإعلان عن بضائعهم وسلعهم، وخاصة في المجتمعات الرأسمالية. والتحقيق الإعلامي يرمي إلى إشاعة الحقائق والمعلومات بين الناس، كما يرمي التحقيق إلى تفسير هذه المعلومات وتبسيطها. ومصدر الصحفي في هذه الأحوال العديد من الصحف والمجلات العلمية والجامعية، وصحف النقابات الصناعية، وبيانات الهيئات والمجلات المختلفة، وكذلك نشرات مراكز الأبحاث العلمية والوزارات التي لها اتصال بالمجال العلمي، كوزارة التعليم العالي والجامعات والمعاهد العليا ووزارة التربية والتعليم ووزارة البحث العلمي. ولا شك أن وكالات الأنباء والإذاعات الداخلية والخارجية والمعارض مصادر غنية بالمعلومات في هذا الصدد. والمهم هو أن يختار الموضوع الذي يهم القراء، كالاكتشافات الطبية، والأدوية الحديثة، وعلاج الأمراض المستعصية، والخدمات الصحية، والآلات الحديثة، والأجهزة الإلكترونية، والآلات الحاسبة، والصحفي الماهر هو الذي يحول اصطلاحات العلوم الحديثة إلى لغة صحفية مفهومة لكافة الناس؛ لأن "اللغة التي يستعملها العلماء وأبحاثهم وتجاربهم والنتائج التي يصلون إليها لا تهم القارئ العادي في قليل أو كثير، إذا نقلتها الصحيفة كما هي؛ لأنها لغة علمية بحتة وأرقام لا يعرفها إلا العلماء"1. ولا شك أن تحويل هذه الموضوعات العلمية إلى موضوعات صحفية تتطلب كذلك إثارة اهتمام القارئ حتى يشعر أنها تهمه في حاضره ومستقبله وتتصل بصميم حياته. وهناك تحقيقات تدور حول الغريب والطريف من الموضوعات المشوقة مثل مقابلة مع ضرير استعاد بصره، وزيارة لمستشفى تعالج البدانة، واستعراض للأقزام في السيرك. ويمكن لهذه التحقيقات أن تزود القارئ -إلى جانب المتعة

_ 1 كارل وارين، كيف تصبح صحفيا، ترجمة عبد الحميد سرايا، ص253.

والتسلية- بالمعلومات والمعارف. ولا بد أن تكون هذه التحقيقات ممتعة وجذابة تصلح للقراءة السريعة، يشغف بها القراء وتهز مشاعرهم. وتدور موضوعات هذا النوع من التحقيق المشوق حول جميع الأشياء الموجودة فوق الأرض.. من صعيد ثعبان البحر والدب الشاحب اللون إلى قفص الصقر الأسود والضفدع ذي القرون، ومن التوائم السيامية إلى قوائم لاتونا، ومن مناجم الذهب في جورجيا إلى خزائن الذهب في البنك.. ومن العزاب إلى الزوجات الهاربات1 ومهما كان الموضوع فإن أهم وصية يضعها الصحفي نصب عينيه هي: "لا تكن مملا". والتحقيق الإرشادي أو التوجيهي يتصدى لمعالجة المشكلات ويبحث عن حلول لها. ولا بد للصحفي أن يدرس أبعاد المشكلة التي يعالجها، وأن يكون أسلوبا موضوعيا، بمعنى أنه يجمع كافة المعلومات، ويتلقى جميع الآراء والاتجاهات، من المؤيدين والمعارضين على السواء. "ولا يكتفي كاتب التحقيق بقراءاته الخاصة حول الموضوع وإنما يستعين بطائفة من الأخصائيين أو الفنيين الذين لهم دراية كافية بالموضوع فيجري مع بعضهم أحاديث مختلفة، يستطلع فيها آراءهم ويدون هذه الأحاديث ليقارن بين مختلف الآراء ويستخلص منها أرجحها وأقربها إلى العقل". والمهم أن يصل التحقيق إلى نتائج إيجابية واضحة كاقتراحات لحل المشكلات، وإلا فإنه يقترب من أسلوب الحملات الصحفية. وفي رأينا أن الحملة الصحفية أقرب إلى فن المقال الصحفي منها إلى فن التحقيق الصحفي. فمقالات مصطفى كامل في الصحافة المصرية والفرنسية خلال شهري يونيو ويوليو سنة 1906، وفي أعقاب حادثة دنشواي، وكذلك مقالات الشيخ علي يوسف في المؤيد والتي نشرت تباعا من 14 إلى 20 أكتوبر سنة 1906 تحت عنوان "قصر الدوبارة بعد الأربعاء". وغيرها من الحملات الصحفية الحديثة التي نجحت في فضح المستعمر وكشف ألاعيبه تدخل في فن المقال الصحفي. فمن المعروف أن أغراض الحملة الصحفية تكون معروفة مسبقا، وتجمع المعلومات

_ 1 برنارد ونربرجر، الصحفي الأمريكي، ترجمة وديع سعيد، ص119. 2 الدكتور حسونة عبد القادر، الصحافة مصدر للتاريخ، ص152.

والصور لخدمة هذه الأغراض وترتب الحقائق من أجل تحقيق نجاح الحملة، بل إن المقابلات والأحاديث نفسها تخطط لنفس الغرض. وحتى الصور والألفاظ وأسلوب الكتابة تعمل متضافرة لإبراز موضوع الحملة الصحفية وضمان نجاحها. غير أن التحقيق الصحفي الأصيل ينطوي على روح الدراسة والبحث. فقد تكون الدراسة لشخصية من الشخصيات فتصبح بمثابة تحليل للجوانب النفسية لشخصية عظيمة أو مشهورة يهتم بها الرأي العام، ولا تكون الشخصية معاصرة بالضرورة، فقد يكتشف الصحفي جوانب جديدة، ومعلومات غير معروفة عن زعيم عاش منذ سنين طويلة كأحمد عرابي أو مصطفى كامل، أو نابليون بونابرت أو حتى قدماء المصريين بعد اكتشاف جديد لمقابرهم ومعابدهم. وحتى تحقيقات المناسبات في المواسم الدينية والقومية يمكن أن تتخذ بفضل ذكاء الصحفي وفطنته زوايا جديدة للدراسة تلقي أضواء مشوقة على الموضوعات المألوفة. وهنا أيضا تلعب المراجع والكتب والقصاصات والصور والمقابلات دورا رئيسيا في إنتاج التحقيق الصحفي الناجح. ولا شك أن روح الدراسة واكتشاف الجديد هي التي تمكن الصحفي من تحويل موسم الامتحانات، وموسم افتتاح المدارس، وموسم الإجازات -رغم تتابعها العادي الرتيب- إلى موضوعات طريفة جذابة، بشرط اختيار الزاوية الجديدة. ويستغل المعلنون فن التحقيق الصحفي لترويج سلعهم وخدماتهم، عن طريق التحرير الناجح والصياغة المشوقة، والعناوين المغرية، والصور الجذابة. وكثيرا ما يتخذ الإعلان شكل القصة أو الوصف، كما يستخدم العبارات الموحية، غير أننا نرى أن الإعلانات التي تتخذ شكل التحقيق الصحفي تعتمد على دراسة الدوافع الإنسانية، كما أنها تستغل حاجة الإنسان المعاصر إلى المعرفة السريعة، لإشباع فضوله والتأثير عليه. والحقيقة أن التحقيقات الصحفية لا تنقسم إلى أنواع محددة؛ لأنها تتداخل تداخلا يجمع بين أهدافها وفنونها، ولذلك فإن الخيط الفاصل بينها خيط وهمي رفيع، فكثيرا ما نجد التحقيق الصحفي إعلاميا ومشوقا وتوجيها وتفسيريا في وقت واحد. وثمة نزعة جديدة في التطبيق العملي لإنتاج التحقيق الصحفي وهي تجنيد فريق كبير من الصحفيين والمصورين للعمل معا لإنجاز تحقيق واحد، وخاصة عندما تكون المشكلة ذات صفة عاجلة أو متعددة الجوانب أو مترامية الأطراف. وهنا تتحقق مرة أخرى صفة الموضوعية التي لا بد وأن يتصف بها التحقيق الصحفي.

عناوين التحقيق الصحفي

عناوين التحقيق الصحفي: ويبنى التحقيق الصحفي من عنوان ومقدمة ثم يأتي صلب التحقيق أو جسمه وأخيرا تأتي الخاتمة، وذلك فضلا عن الصور والرسوم البيانية والخرائط وغيرها من الوسائل الإيضاحية. وقد سبق القول أن التفاعل الناجح بين العناوين الجذابة والصور المعبرة، واللغة الصحفية النابضة بالحياة، والموضوع الشيق، هو أساس نجاح التحقيق الصحفي. ويلعب العنوان الرئيسي العريض مع الصورة أو مجموعة الصور دورا رئيسيا في إثارة اهتمام القارئ وجذب نظره. وهناك اتجاه يقول إن "ثلاثة أشياء تجذب القارئ إلى موضوع صحفي بالذات: أول هذه الأشياء العنوان، وثانيها طريقة إخراجه وثالثهما اسم كاتب التحقيق الصحفي1 غير أننا قد لاحظنا أن الاتجاه الحديث نحو موضوعية التحقيق، والعمل الجماعي بروح الفريق المتعاون من الصحفيين والمصورين، قد جعل اسم الكاتب يأتي في مرتبة أخيرة بعد المضمون والعنوان والصورة. ويشبه كاتب التحقيق الصحفي بالمشرف على الغرق الذي يبادر -حين يجد نفسه في خطر- بطلب النجدة. وهنا لا يكون النداء مجرد ثرثرة، بل لا بد أن يكون النداء صيحة قوية دالة تجذب الانتباه لنجدة الغريق من ورطته الخطيرة. إنه لا يعطي تفاصيل لا داعي لها، وإنما يحدد مكانه وموقفه وحالته بأدق العبارات وأوجزها. وهكذا يكون عنوان التحقيق الصحفي الرئيسي. أما العناوين الفرعية فهي تشير إلى تسلسل الأفكار وتتابعها، ولا بد أن تتصف هي الأخرى بالجاذبية والتشويق، والأخذ بيد القارئ للمضي في قراءة

_ 1 جلال الدين الحمامصي، من الخبر إلى الموضوع، ص21.

التحقيق. وتعمل هذه العناوين كفواصل ذات تتابع إيقاعي بين الفقرات، دفعا للملل، ومساعدة للقارئ على التقاط أنفاسه أثناء القراءة. وقد يستعاض عنها برسوم كاريكاتورية أو صور صغيرة أو خطوط جذابة ملونة. ومجالات الخلق والابتكار هنا عديدة. وأنواع العناوين كثيرة. فمنها العنوان الدال، والعنوان الانتقائي، والعنوان الإيضاحي، العنوان الوصفي، والعنوان الاقتباسي، والعنوان الاستفهامي، والعنوان الخطابي وعنوان المفارقة. أما العنوان الدال فهو عنوان إخباري شامل يدل دلالة واضحة على مضمون التحقيق في جملة تلخيصية واحدة مكثفة مركزة مثل: "جرائم الثأر تزيد 20% رغم التوسع في التعليم". والعنوان الانتقائي يعمل على اختيار فكرة معينة تمتاز بالجاذبية وخفة الظل أو الأهمية ووضعها في العنوان كجملة منتقاة مثل: "هيلانة جرجس تخرجت من الأزهر الشريف". أما العنوان الإيضاحي فهو عنوان صريح يعطي موضوع التحقيق بشكل عام وواضح مثل: "فساد النظام البيروقراطي في وزارة التربية والتعليم". ولكن العنوان الوصفي يميل إلى التبسيط والتحديد مثل: "الأمطار تحول شوارع العاصمة إلى أنهار" والعنوان الاقتباسي يختار جملة أو تصريحا أدلى به أحد الأشخاص مثل: "لا تقتل الخاطئة ولكن ادعها إلى طريق الله". والعنوان الاستفهامي يتضمن سؤالا يجتذب القارئ مثل: "كيف تزيد دخلك دون أن تخرج من منزلك؟ " والعنوان الخطابي يتحدث فيه الكاتب إلى القارئ مباشرة مثل: "أنت مدعو إلى رحلة حول العالم! " ثم يأتي عنوان المفارقة مثل: "دعوة إلى السلام لا صيحة للحرب! ". ومهما كان نوع العنوان، فإنه يجب أن يتصف بالإيجاز والوضوح والسلاسة. كما أنه يجب أن يكون دالا في صدق وأمانة عن مضمون التحقيق، مع اختيار الجوانب الطريفة والجذابة دون مبالغة، مع ملاحظة أن التكرار في العنوان قد يشير إلى إفلاس الكاتب، فيشتت انتباه القارئ ويشعره بالملل. ومن المستحسن أن تكتب الأعداد بالأرقام لا بالألفاظ فيما عدا الأعداد الصغيرة المفردة. والملاحظ أن كثيرا من الكتاب يؤثرون كتابة العنوان بعد الفراغ من كتابة التحقيق بأكمله، حتى يأتي معبرا تعبيرا صادقا وسليما عن مضمون التحقيق.

مقدمات التحقيق الصحفي

مقدمات التحقيق الصحفي: وبعد العنوان الرئيسي والعناوين الأخرى المساعدة تأتي المقدمة، وهي المدخل إلى الموضوع الرئيسي، كما أنها تستحوذ على اهتمام القارئ وتقوده إلى صلب التحقيق. وقد قسم توماس بيري1 المقدمات إلى أحد عشر نوعا وضرب مثالا لكل نوع منها. فمقدمة المفارقة تشتمل على معنى المقارنة والتناقض مثل: "إلى التسابق لفعل الخير ودعم السلم العالمي عن طريق نفوذ الزعماء الروحانيين بدلا من التسابق على التسلح للحرب". والمقدمة الاستفهامية تحتوي على سؤال مثل: "ما الذي ثلاثة شبان يطلقون النار على رجل فقير مسكين في السادسة والستين من عمره فيردونه قتيلا؟ ". أما المقدمة المثيرة فتحتوي على فكرة غريبة مثل: "اقترح أحد علماء الاجتماع اليوم أن يكف الناس عن الوقوع في الحب. وقال إنه ليس صحيحا أننا نقع في الغرام أو نحب من النظرة الأولى. وقال إن الحب ليس طارئا مفاجئا وليس صدفة ... ". وقد تكون المقدمة مثيرة للدهشة أو مثيرة للتشويق فيتصدر التحقيق موضوع مثل:

_ 1 توماس بيري، الصحافة اليوم "1958" ترجمة مروان الجابري ص180-183.

"كانت مشكلة أمام مسجل الفندق أن يأتي إليه خمسة أشخاص ويطلبون حجز غرفتين بسريرين مزدوجين وغرفة صالون. قال المسجل: "ولكن هذا لا يكفي لايواء خمسة أشخاص". ثم تطلع إلى بطاقات الحجز فوجد ... ". والمقدمة المجازية تستعير من فن الأدب أسلوبا للتعبير الجذاب مثل: "يخلع المطار كساء الخريف لكي يزدان لأعظم أيام تاريخه.. بأضخم استقبال مرح شهدته المدينة منذ 12 عاما". وقد تنطوي المقدمة على حكم أو تصريح فاصل مثل: "اللصوصية مهنة غير مجزية للإنسان في جميع الأحوال، فأجرها ضئيل واعتزالها يتم في سن مبكرة بسبب الموت أو الاضطرار للعيش وراء القضبان الحديدية. وإنها لتبدو على الورق مهنة يسيرة تسير هكذا: يتجه فريق من الرجال المختارين بعناية والمقنعين إلى حيث يكون عادة قدر كبير من المال، فيخيفون الحراس والناس، ويرهبونهم بأسلحتهم ويخرجون سالمين بغنيمة كبرى. وهذا هو ما حدث في مدينة.. منذ أسبوعين.. على نمط عمليات السطو". ومن الأدب أيضا، يستعير الفن الصحفي طابع المقدمة الجادة في مقام الهزل مثل: "تتميز ساعة الحائط في مكتب.. للشحن بأن لها وجها يشل الفتاة الجميلة عن العمل. إن الساعة الكهربائية بضوئها الساطع تسبب حساسية شديدة للسكرتيرة يجعلها غير قادرة على العمل لما يصيب عينها من هياج وحساسية. وهكذا إما أن يتوقف الزمن. أو تتوقف الفتاة الجميلة عن العمل". والمقدمة الاقتباسية تحتوي على نص جملة أو عبارة يفتتح بها التحقيق الصحفي مثل: "هذه هي الرأسمالية؟ " قالها خروشوف مشيرا إلى بطن رئيس مجلس إدارة أكبر شركات أمريكا للصلب وأردف يقول..

وقد تتضمن المقدمة حوارا طريفا يجذب أنظار القراء ويدعوهم لمتابعة التحقيق الصحفي مثل: - الرجل العصري هو الذي يساعد زوجته بعد أن خرجت للعمل. - تقولين إنه يكنس ويطبخ ويرعى الأطفال؟ - ولم لا؟ واحتدم النقاش بين زعيمة الحزب النسائي وبين أستاذ الشريعة في كلية الحقوق.. وقد تكون المقدمة بمثابة "برشامة" تحتوي على عديد من المعلومات المركزة مثل: "أصبح من المؤكد أن تتدفق الأسلحة الأمريكية على إسرائيل بعد أن تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية علنا بالتزامها بتسليم ما قيمته ألف مليون دولار من الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل". وقد تحتوي المقدمة على عنصر التورية واللعب بالألفاظ، وهو فن النكتة المحبوب وخاصة في مصر مثل: "استطاعت الموسيقى الآسرة أن تأسر حقا الفتاة نانسي.. فبعد انصرافها من المدرسة توقفت في محل لبيع الأسطوانات والآلات الموسيقية.. واستغرقت في الاهتمام بالموسيقى.. حينما اقفل العمال أبواب المحل وذهبوا إلى بيوتهم. وقد اضطر البوليس إلى استدعاء الموظفين من بيوتهم لفك أسر نانسي الجميلة". وتعمل المقدمة على الربط بين العنوان وصلب التحقيق، كما أنها تثير الانتباه وتغري بالقراءة، ولذلك فإنه يراعى فيها الوضوح والجاذبية، مع الابتعاد عن الحشو، وتجنب التفاصيل التي لا داعي لها في المقدمة. ولذلك فإن الصحفي مطالب بالانتقاء والموازنة لاختيار المقدمة المناسبة للموضوع، حتى يهيئ القارئ للاطلاع على صلب التحقيق.

فن صياغة التحقيق الصحفي

فن صياغة التحقيق الصحفي: أما صلب التحقيق الصحفي فيتخذ خمسة قوالب رئيسية1 هي: قالب العرض، وقالب القصة وقالب الوصف وقالب الاعتراف وقالب الحديث. ولعل قالب العرض هو أبسطها جميعا بشرط أن يكون جذابا، ويسوق فيه الكاتب طائفة من الآراء والمعلومات ثم يستخلص في النهاية نتائج دراسته بشرط أن يكون محايدا في عرض آراء المؤيدين والمعارضين. وقد تلعب عناصر الصراع بين الآراء دورا أساسيا في جذب الانتباه، وتسلسل الكتابة والموضوعات الفرعية. على أنه ينبغي أن يستخلص الصحفي نتائجه من المعلومات والآراء التي عرضها، ولا يقحم رأيه الخاص. وربما كان القالب القصصي هو الذي يميز فن التحقيق الصحفي عن فن الخبر بصورة واضحة. وقد رأينا أن صياغة الخبر تجعل المعلومات الهامة في المقدمة ثم تأتي المعلومات الأخرى مرتبة ترتيبا وفقا لأهميتها. فوظيفة المقدمة الخبرية أن تعطي القارئ أهم الحقائق بسرعة واختصار. أما القالب القصصي فإنه على العكس من ذلك، يبدأ فيه الكاتب بإثارة الاهتمام وجذب الانتباه ثم يتسلسل مع اهتمام القارئ صعودا إلى الذروة من خلال الحوار والحديث ورواية الأحداث. ولذلك فإن قالب السرد القصصي يمثل بهرم معتدل وليس مقلوبا كقالب الخبر. وعادة يبدأ الكاتب بمقدمة مثيرة للدهشة أو العجب، يدلف منها إلى بداية القصة، ويتسلسل منها حتى النهاية أو الذروة. غير أننا لا ينبغي أن نخلط بين القصة الخيالية والقصة الواقعية، فالأولى تعتمد على الإبداع الفني والأدبي، في حين أن الثانية ترتكز على أسس الفن الصحفي الواقعي. أما قالب الوصف فهو أكثر قوالب التحقيق الصحفي شيوعا وأقربها إلى الفن الصحفي، ويقدم الكاتب موضوعه عن طريق الوصف المباشر، مع إبراز الملامح الرئيسية أو المكان موضوع التحقيق الصحفي. ويعتبر وصف

_ 1 الدكتور عبد اللطيف حمزة، المدخل في فن التحرير الصحفي "1958" ص308.

الرحلات والبلاد المختلفة من أشهر الموضوعات الصحفية التي يصلح لها هذا القالب الفني. ونؤكد مرة أخرى أن أدب الرحلات الخيالي لا يدخل ضمن فن التحقيق الصحفي الوصفي. وأنجح التحقيقات ما يتصل بخبر جديد أو اكتشاف حديث، كما يحدث في التنقيب عن الآثار. ويحتاج الكاتب إلى إعداد الخلفية العلمية من المعلومات الضرورية لوصف المكان الذي يذهب إليه، كما ينبغي أن يكون قوي الملاحظة، يقظا، حاضر البديهة. وأهم من ذلك قدرة الكاتب على الوصف بالقلم، وبراعته في نقل ما يشاهده وكأنه يرسم لوحات حية. ويعقد الأمل على أن هذا النوع من التحقيقات يمكن أن يكون عاملا قويا في ربط أواصر الإنسانية عن طريق التفاهم بين البشر والتقريب بين عاداتهم وثقافاتهم ونظمهم السياسية والاجتماعية. وقالب الاعتراف يقدم صورا نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني، يرسمها الصحفي بغزارة المعلومات التي يدلي بها المصدر أدبيا كان أو زعيما أو فنانا أو بطلا رياضيا. ويعتمد هذا النوع من التحقيقات على الأمانة والصدق في نقل العبارات وكذلك على التصوير النفسي، والتحليل السيكولوجي. ولا شك أن الإنسان الذي اشترك في الأحداث بنفسه يستطيع أن يروي الأحداث بطريقته الخاصة التي تثير الاهتمام وتشوق القراء. ويحقق هذا القالب الصحفي وظائف الإعلام من أخبار وتسلية وإمتاع وإرشاد بطريقة غير مباشرة. أما قالب الحديث فهو من أهم القوالب الصحفية وأكثرها شيوعا. وهنا يكون للصحفي صفات البائع، فهو مضطر أن يذيب شخصيته في شخصية محدثة، وتلك صفة ضرورية لا يقصد بها الإقناع وحده، ولكنها ألزم ما تكون في الحقيقة لإيجاد المشاركة الوجدانية بينه وبين المتحدث. وقد كانت الصحافة في الماضي -حرصا منها على الدقة والأمانة والصدق- تنشر الأسئلة والأجوبة نشرا حرفيا دقيقا، ولكن الصحافة الحديثة عدلت عن هذه الطريقة، ووجدت فيها ما يبعث على الملل والسآمة، فاتخذت طريقا وسطا فيه تحليل للجو المحيط بالحديث، مما يضفي عليه حيوية ونضارة وبهذه الطريقة يلقي الصحفي الأضواء على شخصية محدثة. وقد يهدف الحديث إلى جمع الحقائق والمعلومات والأخبار،

ولكنه قد يكون حديثا لبيان الآراء والاتجاهات، وهناك أحاديث للإمتاع والتسلية، فضلا عن الأحاديث التعليمية التي تبين كيف تصنع الأشياء أو كيف تكتسب المهارات. ويلاحظ أن يكون التحقيق الصحفي إيقاعيا في تنوعه بين التلخيص والوصف ثم إيراد نص ما يقوله المتحدث وهكذا حتى ينتهي الحديث. غير أن على الصحفي أن يحذر من أن يصبح هو نفسه محور الحديث؛ لأن القراء يشغفون بحديث المصدر لا حديث الصحفي. وكثيرا ما يلجأ رجال السياسة والدبلوماسية المحتكون إلى الإجابات العامة المختصرة التي تنعدم فيها روحه الشخصية، فلا يظفر الصحفي من الحديث إلا بأسئلته هو. ويلاحظ أن التحقيق الصحفي ليس حديثا، وإنما هو صورة لشخصية من الشخصيات تظهر من خلال الحديث والتحليل.

خاتمة التحقيق الصحفي

خاتمة التحقيق الصحفي: وينبغي أن يكون للتحقيق الصحفي خاتمة قوية واضحة أشبه ما تكون بالكلمات النهائية في فن المسرحية. ولا تكون النهاية مسرفة في طولها. وإلا انعدم تأثيرها، ولكنها تتسم بالتوافق بين مساحتها ومساحة التحقيق الصحفي نفسه. وتعتبر الخاتمة بمثابة النتائج التي وصل إليها الصحفي من تحقيقه، ولذلك فإنها كثيرا ما تربط بالمقدمة نفسها وتكون صدى لها. ونجد أن بعض الصحفيين يجعلون الخاتمة تعبيرا عن رأيهم الذاتي، بصرف النظر عن المقومات الأخرى والآراء المختلفة والأفكار الشائعة في التحقيق. غير أن النهاية ينبغي أن تكون منطقية مع التحقيق الصحفي، ولا تلصق به كتذييل مقحم أو مفروض عليه. وفي رأينا أن الخاتمة تستمد خصائصها من طبيعة التحقيق الصحفي نفسه. فإذا كان التحقيق من نوع إعلامي تعرض فيه الحقائق والآراء المختلفة، فأنسب خاتمة هي تلك التي توجز مجموع الأفكار والآراء وتربطها ببعضها البعض وتستخلص منها النتائج المنطقية المترتبة على المعلومات والأحاديث والآراء. ولا ينبغي أن يفرض الصحفي أحكامه الذاتية الشخصية؛ لأن ذلك ميدانه فن آخر من الفنون الصحفية هو المقال أو العمود أو اليوميات.

ويرى بعض الصحفيين أن التحقيق الصحفي ينبغي أن يختم بنهاية سارة مثل المسرحيات والأفلام؛ لأن الخاتمة السعيدة تشيع البهجة والسعادة بين القراء، وخاصة بالنسبة للتحقيقات القصصية، والموضوعات الإنسانية. ولا شك أن مثل هذه النهاية لها تأثيرها الطيب في نفوس الجماهير، غير أن إقحام خاتمة سعيدة على كل موضوع بلا استثناء يحيل فن التحقيق الصحفي إلى ضرب من التسلية الرخيصة، ولذلك فإن الخاتمة السعيدة لا بأس بها -بشرط أن تكون هذه الخاتمة نتيجة منطقية لأحداث التحقيق وشخصياته. وخير خاتمة للموضوعات الدراسية، وتحقيقات البحث في المشاكل العامة، تلك التي تقدم حلولا واقتراحات إيجابية فيما يتصل بالمسائل العامة المطروحة للمناقشة والدراسة. ولا شك أن الصحافة بمثل هذه التحقيقات تؤدي رسالة هامة في النقد والتوجيه، كما أنها توجه الرأي العام إلى العناية بالشئون العامة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية. وقد رأينا أن التحقيق الصحفي قد يمثل شريحة من شرائح الحياة، أو قطاعا من قطاعات المجتمع، أو صورة من الصور النابضة بالحياة. وهنا لا مكان للتوصيات أو الاقتراحات، وإنما تأتي الخاتمة بشكل صورة مصغرة للصورة العامة، كالفنان الذي يستطيع أن يرسم اللوحة الضخمة ملخصة في خطوط بسيطة، ولكنها قوية ومعبرة. ولا شك أن ذوق الصحفي، وقدرته على التعبير الفني، والتحليل النفسي -وخاصة في التحقيقات التي تدور حول الشخصيات، تعد -بحق- من أهم مميزات الفنان الصحفي المجيد. والمهم أن تكون الخاتمة جزءا جوهريا من التحقيق وليس مجرد إضافة يمكن الاستغناء عنها. دور التصوير في التحقيق الصحفي: وهكذا نرى أن بناء التحقيق الصحفي يتكون من عنوان ومقدمة وصلب للموضوع ثم خاتمة أو نهاية. وليس معنى قوالب العرض والقصة والوصف والاعتراف والحديث، أن كل نوع من هذه الأنواع منفصل تماما عن غيره، بل إننا كثيرا ما نجد التحقيق الصحفي الواحد وقد تضمن زوايا مختلفة من هذه

القوالب جميعا. وقد رأينا أن صياغة التحقيق الصحفي تقترب من الصياغة القصصية من حيث البداية المشوقة الجذابة، ثم الاستطراد من قمة الهرم نحو قاعدته -بعكس قوالب الهرم في الأخبار- بعبارات تؤدي إلى الذروة. ومثال ذلك هذه الافتتاحية المشهورة في تحقيق عن فائدة التأمين على الحياة: "إن الموت هو شيء طبيعي، ومن الممكن أن يحدث لك الآن، أو بعد قراءة هذا التحقيق، كما أنه من الممكن أن يكون كاتب هذا التحقيق في عداد الأموات حتى قبل أن تصل هذه الصحيفة إلى يدك". والمهم أن تنتقل من الافتتاحية إلى صلب الموضوع بسلاسة ولباقة تجعل القارئ يسترسل في القراءة، دون ملل. ولا بأس من استخدام الحوار تارة، وتصوير الشخصية تارة أخرى، وكذلك عرض نماذج من الآراء والاتجاهات المختلفة، مع مهارة فنية في التحرير، تجعل الكاتب محركا للأحداث دون أن يقحم نفسه عليها. حتى إذا جاءت الخاتمة كانت منطقية مع صلب التحقيق بآرائه ومعلوماته وحقائقه وصوره وشخصياته. ومن الواضح أن فن التحقيق الصحفي يرتبط بثلاث دوائر أو حلقات متشابكة هي: سياسة الصحيفة، والصياغة الإنسانية الجذابة، واهتمام القراء. ومهما كانت الفكرة أو الموضوع، فلا بد من الارتباط بسياسة الصحيفة من جهة ودائرة اهتمام القراء من جهة أخرى1. غير أن الصورة هي التي تعطي للتحقيق الصحفي الحديث وجهه الجديد المميز له عن سائر فنون الصحافة الأخرى حتى يقال إن كل ما هنالك من الفرق بين صحافة الأمس وصحافة اليوم يكمن في الصورة. كما يؤكد ذلك ما يذهب إليه علماء الصحافة المحدثون من أننا نعيش مرة أخرى في حقبة من الزمن هي حقبة الصورة. وقد ترك بعض علماء الأدب من أمثال مارشال ماكلوهان دراساتهم

_ 1 H. PATTERSON AND S. HYDE, WRITING AND SELLING FEATURE ARTICLES "1949" PP.200-293.

الأدبية وتوجهوا إلى الفنون الإعلامية، وهم يرون أننا نعيش أساسا في حضارة بصرية. "فلقد دخل إلى حيز الوجود أدب بصري لم يسبق له مثيل يقرأ فيه الناس الصور كما لم يفعلوا من قبل ومنذ مئات السنين تاركين بذلك للألفاظ واجب نقل الأفكار المجردة غير القابلة للانتقال في أشكال مرسومة"1 ويذهب رأي آخر إلى حد القول بأن الصحافة هي الصورة التي قد تفوق في قيمتها قوة الخبر نفسه لأنها في تكوينها وإخراجها تعبر عن الحقيقة2. والواقع أن تطور فن المجلة يعتمد في أساسه على تطور فن التصوير ولذلك فإن فن التحقيق الصحفي قد ارتبط ارتباطا وثيقا بتطور فن المجلة وازدهار فن التصوير. ولما كان الصدق والواقعية والموضوعية أهم خصائص التحقيق الصحفي الناجح، فإن المصورين يلعبون دورا أساسيا في التعبير الأمين عن مضمون التحقيق. ويظن البعض أن الصورة مجرد إضافة أو زخرفة للتحقيق الصحفي، ولكن الاتجاه الحديث يحتم أن تكون للصورة وظيفة محددة، وإلا فإنه من المستحسن الاستغناء عنها وإهمالها. وفي بعض الأحوال التي يتعذر فيها التصوير، تقوم الرسوم الكاريكاتورية والتصويرية بدور الصورة الفوتوغرافية، وهذا هو دور الرسم التسجيلي في المحاكم التي تمنع التصوير، أو في الظروف التاريخية التي يتعذر فيها التصوير الفوتوغرافي، كلحظة سفر الملك فاروق إلى الخارج بعد خلعه من الحكم. هذا فضلا عن أن الرسوم تستطيع أن تفسر وتشرح وتبسط بطريقة أكثر مرونة من الصورة الفوتوغرافية. التحقيق الصحفي وفن المجلة: وقد أصبح فن التحقيق الصحفي المصور سمة مميزة للصحافة الحديثة، كما تخصصت المجلات العالمية الكبرى لهذا النوع من الفن الصحفي مثل لايف

_ 1 توماس بيري، الصحافة اليوم "1958" ترجمة مروان الجابري، ص507. 2 جلال الدين الحمامصي، صحافتنا بين الأمس واليوم، ص26.

ولوك وتايم ونيوزويك وشتيرن وجوردي فرانس وباري ماتش وورلد سكالا1، وقد تخصصت هذه المجلات في دراسة فنون التأثير في الجماهير من خلال التحقيق الصحفي المصور، فكانت هذه المجلات حقولا للتجريب الحديث، حتى وصلت إلى قمة الفن الصحفي، وتوزع هذه المجلات ملايين النسخ في شتى بقاع العالم. وقد صدر بين سنتي 1936 وسنة 1950 نحو 251 مجلة عالمية مصورة، وهذه هي نفس الفترة التي بلغت فيها المجلة المصرية أيضا تفوقا عظيما، كما سبق القول، وقد ارتفع توزيع المجلات المصورة باطراد وخاصة في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وصدور عدد من المجلات الشعبية المصورة في مدينة هامبورج وغيرها. ويكاد لا يصدر عدد واحد من هذه المجلات في أوروبا وأمريكا دون الاستعانة بالتحقيق الصحفي المصور. بل إن بعض هذه المجلات تكاد تتخصص في هذا الفن دون سواه. وقد ارتفع توزيع هذه المجلات العالمية من 83.235.000 نسخة سنة 1939 إلى 150.628.000 نسخة سنة 1950 "2"، بفضل التحقيق الصحفي. وتعتبر مجلات نويه اليستوريرتيه ودي تزايت ودير شبيجل وشتيرن3 من أهم المجلات الألمانية المصورة التي خطت بفن التحقيق الصحفي خطوات قافزة إلى الإمام. وقد بدأ تأثير هذه المجلات العالمية على صحفنا ومجلاتنا في الظهور منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت بعض مجلاتنا تنقل التحقيقات الصحفية بصورها وتترجم ألفاظها، ثم بدأت بعض المجلات المصرية والعربية الأخرى رسم سياسة ابتكارية للتحقيقات الصحفية، فتقدم هذا الفن تقدما عظيما بعد ظهور الصورة الملونة الجيدة. وقد أصبح الصحفي الفذ -ابتداء من العقد الخامس من هذا

_ 1 LIFE - LOOK - TIME - NEWSWEEK - STERN - JOURS DE FRANCE -PARIS MATCH - WORLD SCALA. 2 أدموند كوبنتر، إعلام الصحفيين، ترجمة أنيس صايغ، ص216. 3 NENE ILLUSTRIERTE - DIE ZEIT - DER SPIEGEL - STERN.

القرن- هو المخبر وكاتب التحقيق بعد أن كان كاتب المقال قبل سنة 1919. فإذا قلنا إن صحافة هذا العصر هي صحافة التحقيق فلسنا مبالغين في شيء. غير أن هذه الصحافة الحديثة تواجه اليوم منافسة خطيرة من وسائل الإعلام المصورة، وخاصة التليفزيون والسينما. فبعد أن كانت الإذاعة تتميز بالسرعة والحالية في إذاعة الأخبار، وجدنا أن الصحافة المصورة كانت تكمل تلك الأخبار السريعة التي تأتي في النشرة الإخبارية. وبمعنى آخر، أصبح التحقيق الصحفي متخصصا في تفسير أبعاد الأخبار، وتقديم تفاصيلها المختلفة. غير أن المنافسة الحقيقة بين المجلة المصورة والسينما والتليفزيون قد أثرت بالفعل على توزيع الصحف، حتى قيل عن المجتمع الإنجليزي مثلا أنه تحول إلى مجرد مجتمع ذي عيون زجاجية تحدق في شاشة من الكريستال1. ولم يكن مصدر المنافسة هذه المرة سرعة النشر كالإذاعة بل كان "معالجة موضوعات عديدة عن طريق التليفزيون بطريقة أقرب إلى القلوب والعقول وأحب إلى الأذن والعين معا. ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي نعالج فيه بطريق التليفزيون مختلف مشاكلنا الاجتماعية ونقضي على ما في مجتمعنا من رواسب الماضي وآفاته". ولا شك أن السر في تفوق التليفزيون يكمن في قدرته على نقل الحدث حين وقوعه بصورته وفي حركته. وهو لا يكتفي بمجرد التسجيل بل بإعادة العرض وإمكانية النقل فورا إلى داخل البيوت بصورة حية سريعة تساوي سرعة الضوء، ولا شك أن هذه المنافسة قد جعلت الصحف -وخاصة المجلات المصورة- تتجه إلى العناية بموضوعاتها وصورها، حتى تصمد أمام هذه المنافسة الخطيرة. ولا شك أن اختراع الأقمار الصناعية لنقل البرامج التليفزيونية عبر القارات -بل وعبر الكواكب أيضا- قد مهد الطريق لانتقال فنون الإعلام إلى عصر جديد.

_ 1 سعد زغلول، تليفزيون للجميع، المقدمة.

وقد اتضح من البحوث العلمية أن التليفزيون قد أدى إلى نقص ساعات القراءة من 21 ساعة أسبوعيا إلى 18 ساعة فقط، كما أن 49% من المقتنين لأجهزة التليفزيون قد توقفوا عن قراءة الكتب، 24% توقفوا عن قراءة المجلات، 3% عن قراءة جرائد يوم الأحد، 2% عن قراءة الصحف الصباحية1. غير أن التليفزيون لا يؤثر على الصحافة التفسيرية التي تعطي خلفيات الخبر وتشرحه، أما الصحف الترفيهية فقد تأثرث بالتليفزيون إلى حد كبير. إن فن المجلة المصورة يواجه منافسا قويا هو التليفزيون بلا شك، غير أن الصحافة تستطيع أن تنافس التليفزيون نفسه بالنسبة للموضوعات العميقة، ذات الأبعاد المتعددة، والتفاصيل الدقيقة. فهنا تتفوق الكلمة تفوقا كبيرا. وحتى الأفلام التسجيلية السينمائية نفسها لا تستطيع منافسة الكلمة المطبوعة في الصحف والمجلات من هذه الناحية؛ لأن العمق الفكري لا يمكن بلوغ أغواره بدون الكلمة. ويذهب علم النفس الحديث إلى أن استعمال اللغة استعمالا عقليا واعيا يخرج بالمدركات من مجال الغموض اللاشعوري إلى حيز الوضوح الشعوري ويتفق وارد2 وستاوت3 في إنجلترا، وبرجسون4 في فرنسا، وكروتشي في إيطاليا، على أن اللغة هي مجموعة الرموز التي تنقل المعاني من إبهام الأحاسيس إلى نور الفكر. وفي رأيهم أن الرموز المصورة، لا يمكن أن تقوم مقام الأنماط اللغوية لأنها غامضة غير محدودة. وأن أدق الرموز للتعبير عن الأفكار هي الكلمات، إذا استعملت استعمالا عقليا واعيا. وقد جربت مثلا فكرة إصدار مجلات مصورة بدون ألفاظ، ففشلت فشلا ذريعا؛ لأن الكلمة المقترنة بالصورة تتضافر لإبراز المعنى -وهذا هو جوهر

_ 1 د. حسن شحاته سعفان، التليفزيون والمجتمع، ص99. 2 J. WARD, PSYCHOLOGICAL PRINCIPLES "1914" P. 206. 3 G. F. STOUT, AND LYTIC PSYCHOLOGH "1894" P.192. 4 BERGSON, L'EVOLATION CREATRICE, ENG. TR. "1910" P.279.

الفن الصحفي. لقد أدت الصورة خدمة عظيمة للصحافة، ولكنها لا يمكن أن تطغى على الكلمة أو تحل محلها. وسوف تظل الكلمة المطبوعة خير وسيلة للتعبير والإبانة والوضوح، وخاصة بالنسبة للموضوعات الجادة ذات التفاصيل المتشعبة، والأفكار الدقيقة ذات الجوانب المتعددة، والعواطف الكامنة في النفس الإنسانية، التي تنتظر الكلمة لبيانها والإفصاح عنها بوضوح وجلاء، تقصر عنها الصورة مهما بلغت من الروعة والإتقان. وفي رأينا أن فن التحقيق الصحفي المصور سوف يظل أهم ما يميز الصحافة الحديثة في مواجهة وسائل الإعلام الأخرى.

الباب السادس: فن المقال الصحفي

الباب السادس: فن المقال الصحفي مدخل ... الباب السادس: فن المقال الصحفي "سارية الربيع والعمود" عنوان كتاب إنجليزي شهير كتبه موريس هويليت1 عن فن المقال، وفيه يعقد المؤلف مقارنة شيقة بين فن المقال الأدبي وفن المقال الصحفي. فقد شبه الأول بسارية الربيع، وهي ذلك العمود الكبير الذي يتخذه الإنجليز رمزا لعيد الربيع، يزينونه بالزهور البديعة من كل صبغ. والورود الجميلة من كل لون، فتبدو السارية وكأنها العروس في جلوتها. ثم شبه المقال الصحفي بالعمود العاري من جميع هذه الزينة. وقد استعار الكاتب كلمة "العمود" هنا للتورية، فلهذا اللفظ معنيان: أولهما العمود بالمعنى المادي المعروف، والآخر "العمود" بمعنى النهر الذي يكتب في صحيفة من الصحف. وينعى الكاتب على الصحافة نبذها لتلك الزخارف الأدبية الجميلة، ويتهم أسلوبها بالجدب والإمحال، ويحن حنينا شديدا إلى تلك الأيام الخوالي التي كان الإنسان ينعم فيها بالفراغ وقراءة المقالات الأدبية الطويلة الزاهية، لا تلك الأعمدة الجافة السريعة في أنهر الصحف. ونجد في كتاب "الأدب البريطاني المعاصر"2 نفس هذا المعنى؛ إذ يقول المؤلفون: "لقد أصبحت المشكلات التي يواجهها الأدباء خطيرة معقدة، بحيث

_ 1 W. F. WILLIAM, A BOOK OF ENGLISH ESSAYS "1952" P.235. 2 FRED B. MILLET, JOHN M. MARLY, EDITH RICHARD, CONTEMPORARY BRITISH LITERATURE P.84.

لا تترك مجالا، ولا متسعا من الوقت أو الجهد لكي ينتجوا أدبا متعدد الألوان كالذي يتاح للأديب الذي يجد كثيرا من الفراغ. من الثابت أن الأديب أمامه متسع من الوقت ليكتب ما يشاء، وينشره متى يشاء. أما الصحفي فإنه مقيد بالمطبعة ومرتبط بمواعيدها، فهي تلهبه بسوطها، وتوقظه من سباته وكسله، فالأديب قد ينتظر الإلهام، أما الصحفي فعليه أن يكتب بمنتهى السرعة، وفي مواعيد منتظمة انتظاما دقيقا. ويقول الدكتور طه حسين في نفس المعنى: "ولا بد للأديب أن يروض نفسه، ويسوسها حتى تألف الجهد والعناء والمشقة. ونرى أنها أيسر ما يجب لإنتاج الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدبا. ولا على الأديب أن يغضب أصحاب المطبعة إن أبطأ به الإنتاج عما ضربوا له من موعد، فذلك كله خير له من أنه يتعجل، فيرضي الصحيفة والمطبعة، ويسخط الفن ويفسد معه ذوق كثير من القراء. وهنا تفكر الصحف وتثور فهي لا تستطيع أن تنتظر الأديب حتى يتقن إنتاجه، ويصبح نشره شيئا لا حرج فيه. فمن أراد أن يكتب لها على شرطها فليعمل، ومن أبى إلا أن يكتب إلا على شرط الأديب فليلتمس لنفسه مذهبا آخر من مذاهب النشر"1. وتتردد هذه المعاني أيضا في قول باحث مصري حديث إذ يقول: "وذهبت الصحافة بالفن الكتابي حتى أحالته إلى فن باهت اللون، لا حظ له من جمال الأصباغ التي تفتن العين. والسبب في ذلك أن الأديب يتاح له من الفراغ ما يجد له من أسباب التأنق والتحذق والتصنع والتفنن على حين أن الصحفي وراءه مطبعة تطالبه بغذائها كل يوم"2. فهل هناك حقا ما يدعو إلى هذا التحسر على بساطة فن المقال الصحفي ونبذه للألوان المزخرفة والمحسنات المبرقشة؟ أم أن فن المقال الصحفي هو في

_ 1 جريدة الجمهورية، عدد 5 فبراير سنة 1954. 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، جزء 2، ص225.

الحقيقة فن يؤدي وظيفة أخرى مختلفة تماما عن فن المقال الأدبي؟ فإذا كانت الكتابة مضمونا وصياغة، فإن المقال الأدبي يضع الصياغة في المكان الأول، أما المقال الصحفي فإنه يهتم بالمضمون والفكرة التي يرمي إلى إيضاحها في يسر وجلاء. وإذا جاز لنا أن نشبه المقال الأدبي بلوحة زيتية متعددة الألوان، فإن المقال الصحفي صورة من اللونين الأبيض والأسود فقط، ولكنها تعبر عما تريد في وضوح وبساطة وقوة. بل إن المقال الصحفي أشبه شيء بفن الرسم الكاريكاتوري، الذي يعبر عن رأي ما في سرعة وسخرية، ولكن في قوة وحيويه، أما المقال الأدبي فهو صورة معبرة مليئة بالألوان. والواقع أن السرعة -وهي أهم مميزات الكتابة الصحفية- ليست هي المسئولية وحدها عن إخراج المقال الصحفي من حيز الأدب الخالد، إلى مجال الصحافة غير الخالد، بل السبب الأقوى هو أن المقال الأدبي يتصل بالأعماق البشرية، ومن هنا يمكن أن يكون أدبا عالميا يتجاوز الحدود المحلية والزمنية، في حين أن المقال الصحفي يرتبط بالأحداث الجارية والمشكلات الاجتماعية.

البيئة الأولى لفن المقال

البيئة الأولى لفن المقال: والحقيقة أن فن المقال الصحفي هو ثمرة للتقدم الحضاري، فهو بطبيعته لا يزكو إلا في بيئة يتكون فيها الرأي العام، ويتقدم فيها العمل السياسي، وتتصارع بها الآراء والاتجاهات، وينتشر فيها التعليم، وينهض الفنون، وتصبح الديمقراطية اتجاها مقبولا لدى الجميع، وينتقل التفكير من الذاتية والأسطورية إلى الواقعية والموضوعية. فإذا نظرنا إلى فن المقال الأدبي نفسه لوجدنا أنه قد ظهر في بيئة ملائمة لنشأته، وجد فيها جوا صالحا للنمو والازدهار فمن الثابت أن فن المقال قد رأى النور في عصر النهضة الأوروبية1، حين كانت أوروبا تزيح عن كاهلها كابوس العصور الوسطى، بما فيها من تعصب ديني وضيق أفق وجهل مطبق. وقد

_ 1 RENAISSANCE.

امتازت هذه الفترة بظهور مدارس فلسفية جديدة، اعترفت بقيمة الإنسان، وثارت على احتقاره والتقليل من شأنه، فمجدت الإنسانية وأقرت للبشر حق السعادة، وأنكرت تعاليم الكنيسة التي حضت على الزهد، وإنكار حق البدن وإذلاله إذلالا. وقد أعلنها الكاتب الفرنسي رابيليه1 مدوية: أن المرح أهم صفات الإنسان2. أما الحزن والاكتئاب والعبوسي، وهي ما أرادته الكنيسة، فقد ولت أيامها بزوال لعصور الوسطى، وبزوغ فجر النهضة. ومن الثابت أيضا أن تعاليم الإنسانيين3 قد استمدت من الدراسات الكلاسيكية في الأدب والفلسفة، وخاصة ملاحم هوميروس وفلسفة أرسطو، فتفتحت العيون على انتصار أوليس4 وهو يعلن ذاتيته الإنسانية أمام الآلهة، فكانت هذه الفكرة وأمثالها مما ألهب خيال بترارك وبوكاشيو وتشوسر5 وغيرهم، وعندما ثار الإنسانيون على تعاليم الكنيسة، بتقديسها للفلسفة انتشرت مذاهب الشك والنزعات الفردية، كما نبذت الفلسفة المدرسية6 المبنية على اليقين الديني، وحلت محلها فلسفة عقلية، أتاحت للفرد مجالا للتعبير الحر والبحث، فكانت نهاية للسلطة المطلقة والاستبداد الفكري، وتحطيما للأصنام الثابتة. فأهم مميزات عصر النهضة -وهو الذي يمثل بيئة المقال الأصلية- نزعة التفكير الفردي والميل إلى المعرفة والرغبة في التجربة. وقد كانت أهم سمات العصر: حب الاستطلاع وتوسيع آفاق المعرفة البشرية، والتعطش إلى الارتباط بالمجهول، بدلا من الخوف منه والإعراض عنه، فخرج المغامرون يستكشفون الأقطار الجديدة في الأمريكتين، وأخذ الفلاسفة يفكرون في مجالات جديدة وبأساليب مبتكرة، كانت الكنيسة تحذرهم منها، وقد تكفل

_ 1 RABELAIS. 2 LE RIRE EST LE PROPRE DE L'HOMME. 3 HUMANISTS. 4 ULYSSES. 5 PETRARCH, BOCCACIO, CHAUCER. 6 SCHOLASTIEISM.

البروتسنانت بتحطيم سلطان رجال الدين, وتحرير الفرد من طغيان الكنيسة، منادين بأن الإنسان خليق بعبادة ربه دون وساطه أحد، فلا يليق أن يقف القس بين العبد والرب. وهكذا كانت بيئة المقال الأولى بيئة حرية وإنسانية وفردية في عصر النهضة، فتحرر الفرد من قيود العصور الوسطى بنظامها الاجتماعي الجامد، وبدأت حضارة جديدة بعد أن حلت التجارة محل الزراعة كأساس للنظام الاجتماعي، وبعد أن قامت مجتمعات جديدة مبنية على جهود الأفراد، وخاصة أثرياء الطبقة الوسطى. وخلاصة القول، أن عصر النهضة يمثل نهاية النظام الإقطاعي، القائم على تقديس السلطة، وتقييد حرية الفرد في الدنيا والدين، وعندما هبت نسائم النهضة في أوروبا استيقظت من سباتها، ورأت ألوان الحياة، وأحست بمتعة الحركة والكشف، دون خوف من الكنيسة، واستمتعت بمباهج الحياة الدنيا، بعد أن كانت الكنيسة لا تسمح للفرد إلا باستعداد للحياة الأخرى، وخرج المفكرون من المنهج اللاهوتي إلى المنهج التجريبي، وانتقل النظام الاجتماعي من جمود الإقطاع الزراعي إلى النشاط التجاري، ومن الحكم الاستبدادي المطلق إلى ظهور الطبقة الوسطى التي كانت لها اليد الطولى في جمع الثروة والاختراع والتأليف والتقدم ثم المطالبة بالاشتراك في الحكم. وقد رأينا أن مميزات هذه البيئة هي نفسها مميزات فن المقال: فلولا الإيمان بعقل الإنسان، واحترام ذاتيته، وحب الاستطلاع، والرغبة في المعرفة، وحرية البحث ونشاط الفرد -وهي جميعا مميزات عصر النهضة- لما قدر لفن المقال أن يرى النور.

بيئة المقال الصحفي في مصر

بيئة المقال الصحفي في مصر: وفي مصر، كان ازدهار فن المقال معاصرا للنشاط الفكري والسياسي والعلمي والأدبي جميعا ولا شك أن اليقظة المصرية بدأت مع الحملة الفرنسية التي قادها بونابرت إلى الديار المصرية، كما أن ظهور محمد علي ومحاولته إنشاء الدولة الحديثة، وانفصاله عن الدولة العثمانية، وشعور المصريين بحاجتهم القصوى إلى تأييد اللغة العربية، وانتصار هذا التأييد في مواجهة اللغة التركية، قد كان له أبلغ الأثر في التمهيد لنشأة فن المقال. لقد كانت الحملة الفرنسية عامل إيقاظ للمجتمع الشرقي من سباته، ولا ننسى أن تلك الحملة هي التي أتت إلى مصر بالمطبعة العربية، كما أنها هي التي جندت العلماء والباحثين لإصدار الكتاب الضخم المشهور "وصف مصر" في تسع مجلدات، معها صور وخرائط ولوحات تقع في أربعة عشر مجلدا أخرى. لقد كانت هذه الحملة بمثابة قرع شديد على أبواب المعرفة، أو هزة قوية شرع المصريون بعدها يعملون ويفكرون. وكما ارتبط فن المقال الصحفي الأوروبي بظهور القوميات المنسلخة عن العالم المسيحي الموحد، فقد كان فن المقال المصري مرتبطا -هو الآخر- بحركة انفصال القومية عن العالم الإسلامي المنضوي تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية. وعندما بدأ محمد علي يرسل البعثات إلى الخارج سنة 1826، وينشئ المدارس الحديثة، ويعتمد على حركة الترجمة، ويهتم بالعلوم الهندسية والطبية ويفتتح لها المدارس العليا، أخذت نسائم الثقافية الأوروبية تهب على مصر. من أجل ذلك نعمت مصر في أيام محمد علي بنهضة علمية مباركة التقى فيها التياران الشرقي والغربي، ومن التقائهما معا نشأ الأدب المصري الحديث والصحافة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر. وكان التيار الشرقي يتمثل في العلوم النقلية، وفي تعليم اللغة العربية، وفي بعض الكتب الأدبية القديمة، مثل مقامات الحريري، وبديع الزمان، ودواوين الشعراء الفحول كالفرزدق وجرير والمتنبي وأبي العلاء. ومثل ديوان الحماسة لأبي تمام ... إلخ. "وكان التيار الأوروبي يتمثل في ترجمة كثير من الكتب التي احتاج إليها التعليم الحديث، وقام بتصحيحها الأزهريون كما ظهر التيار الأوروبي كذلك في ترجمة بعض الكتب الأوروبية إلى اللغة العربية. وكانت هذه الترجمات

ذات صبغة علمية في أكثرها أيام محمد علي، لحاجة المدارس الحديثة إلى ذلك، ثم أصبحت ذات صبغة أدبية في أكثرها أيام إسماعيل". وقد لعب السوريون النازحون إلى مصر دورا لا يستهان به في نقل الثقافة الأدبية عن طريق المبشرين الأمريكيين والفرنسيين الذين اتخذوا من سوريا وجبل لبنان مراكز للتبشير والدراسات العلمية والأدبية. وقد كان جبرائيل وبشارة تقلا، وأديب إسحاق وسليم النقاش ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وفارس نمر وغيرهم ذوي فضل في نقل الحضارة الحديثة وخاصة بالنسبة للعلم والقصة والمسرح والمقال. وبين مارس سنة 1871 وأغسطس سنة 1879 ظهر في مصر فيلسوف الشرق جمال الدين الأفغاني، وقضى بها ثمان سنين، كانت من خير السنين بركة على مصر وعلى العالم الشرقي؛ "لأنه كان يغرس في الأرض بذورا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الازدهار. فكل الذي أتى بعدها من تعشق للحرية، وجهاد في سبيلها فهذا أصلها، وإن وجدت بجانبها عوامل أخرى ساعدت عليها وزادت في نموها"1. وفي هذه الفترة بالذات، يمكن القول بأن الرأي العام المصري قد تكون، ولا شك أن إنشاء صندوق الدين سنة 1876، وكذلك الرقابة الإنجليزية الفرنسية في نفس العام، وتأليف الوزارة المختلطة برئاسة نوبار باشا، ثم محاضرات جمال الدين الأفغاني في داخل الأزهر وخارجه، وكذلك التقاء التيار الأوروبي بالتيار الشرقي بالتيار السوري، بالتيار الذي أتى به جمال الدين الأفغاني، كل هذه العوامل قد هيأت الجو لظهور الرأي العام المصري، وتكوين العقل المصري الحديث. وفي رأينا أن هذه هي البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية الصالحة لظهور فن المقال بوجه عام، وفن المقال الصحفي بوجه خاص.

_ 1 أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص60، 61.

يضاف إلى ذلك أن الصحافة الشعبية الحقيقية قد بدأت في تلك الحقبة بالذات لأنه مما لا شك فيه أن جريدة وادي النيل الصادرة سنة 1866 -في نفس السنة التي أنشأ فيها إسماعيل مجلس شورى النواب- كانت شعبية من حيث الشكل فقط، ولعل إسماعيل قد أوحى بإصدارها إلى عبد الله أبي السعود لكي يحارب بها التدخل الأجنبي والدولة العثمانية، ولكي يظهر بالمظهر الأوروبي الذي كان يفتخر به ويرنو إليه. وأبلغ دليل على ذلك أنه لم يطق جريدة نزهة الأفكار لعثمان جلال وإبراهيم المويلحي فأغلقها بعد صدورها مباشرة سنة 1869. وأما جريدة الأهرام الصادرة سنة 1875، وجريدة مصر لأديب إسحاق الصادرة بوحي من جمال الدين الأفغاني سنة 1877، وجريدة التجارة لأديب إسحاق وسليم نقاش الصادرة في سنة 1878، وجريدة التنكيت والتبكيت الصادرة سنة 1881 بقلم الصحفي الثائر عبد الله النديم -فهذه هي الصحف الشعبية الحقيقية التي فتحت صدرها لفن المقال الصحفي. وفي أحضان تلك الصحافة الشعبية، وفي بيئة النهضة الفكرية والاجتماعية، ظهرت جرائد مصباح الشرق لإبراهيم المويلحي، والمؤيد للسيد علي يوسف، واللواء لمصطفى كامل، والجريدة لأحمد لطفي السيد، والأخبار لأمين الرافعي، كما ظهرت السياسة لمحمد حسين هيكل والبلاغ لعبد القادر حمزة، وفي هذه الصحف بلغ فن المقال الصحفي شأوا بعيد من الرقي والتقدم.

المقال في عصر النهضة والتنوير

المقال في عصر النهضة والتنوير: "لا بد أن تتغير بلادنا" هذه هي الصيحة التي ترددت في عصر التنوير المصري في القرن التاسع عشر. وكانت هذه الصيحة معاصرة تماما لظهور فن المقال الصحفي. ولعل منشئ هذا الفن في بلادنا وهو رفاعة الطهطاوي "1801-1873" -صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز- قد شغف بالعلوم الحديثة التي تعلمها في باريس على يد شومار وشواليه، وشهد ثورة الشعب الفرنسي ضد الملك شارل العاشر ووزيره بولنياك، فكره الحكم الاستبدادي، وعاد إلى مصر زعيما فكريا وثقافيا، ومعلما رائدا، وصاحب فضل في إنشاء فن المقال في جريدة الوقائع المصرية ومجلة روضة المدارس.

وفي عصر التنوير المصري، ترجم عبد الله أبو السعود صاحب جريدة وادي النيل أوبرا عايدة إلى اللغة العربية سنة 1861، وترجم ابنه محمد أنسي قصة جول بلاز1 وترجم محمد عثمان جلال صاحب نزهة الأفكار قصة يول وفرجيني وجعل لها عنوانا غريبا -وإن كان يتمشى مع لغة العصر- وهو "الأماني والمنه في حديث قبول وورد جنه". وترجم أديب إسحاق صاحب جريدة مصر وجريدة التجارة رواية أندرماك ورواية شارلمان وغيرهما. ثم كان ظهور فن المجلة وخاصة مجلة الجنان لبطرس البستاني ثم المقتطف -التي انتقلت إلى مصر- ليعقوب صروف، واللطائف لشاهين مكاريوس، والهلال لجورجي زيدان والمشرق للأباء اليسوعيين وغيرهما من المجلات الأخرى التي أعطت لفن المقال الصحفي مجالا واسما للتطور والازدهار. ولكن كيف تتغير بلادنا؟ هذا هو السؤال الملح الذي حاول المفكرون والمصلحون أن يجيبوا عنه في عصر التنوير. ولا شك أن "حديث عيسى بن هشام" التي نشرها المويلحي في شكل قصصي بجريدة مصباح الشرق كانت نقدا اجتماعيا غاص في أعماق المجتمع المصري، وجاء كتاب محمد فريد وجدي بعنوان "تطبيق الديانة الإسلامية على النواميس المدنية" وهو الكتاب الذي أعيد طبعه فيما بعد بعنوان "المدينة الإسلامية" دفاعا عن الإسلام، وتطهيرا له من البدع والخرفات. كما أن مقالات قاسم أمين ردا على دوق داركور الذي تعرض لذم الدين الإسلامي، وكذلك مقالات الشيخ محمد عبده ردا على هانوتو الذي هاجم الدين أيضا -كانت كلها في نفس الاتجاه الاجتماعي الإصلاحي. ولا شك أن ترجمة أحمد فتحي زغلول لكتاب أدمون ديمولاند بعنوان: "بم تقوم أفضلية الإنجليز السكسونيين" سنة 1899 -والذي نشر بشكل مقالات في جريدة المؤيد- على النحو الذي نشر به قاسم أمين كتابه تحرير

_ 1 LE SAGE - JULES BLAS.

المرأة- قد أثر تأثيرا بالغا في نفوس المصريين. نحن نقرأ في مقدمة الكتاب: "نحن ضعاف أمام الغرب، ضعاف في الزراعة، ضعاف في الصناعة، ضعاف في التجارة، ضعاف في العلم، ضعاف في العزيمة، ضعاف في الألفة والمودة، ضعاف في النخوة والشعور الملي "يريد الديني"، ضعاف في الجامعة القومية، ضعاف في الخيرات، ضعاف في طلب الحقوق وأداء الواجبات، ضعاف في حفظ ما ترك الآباء، ضعاف في التحصيل، ضعاف حتى نرجو كل شيء من الحكومة.." ثم يختم كلامه قائلا "ودواؤنا في التربية وسلامتنا في نشر العلوم والمعارف". وثمة كتاب آخر لفت نظر المستشرق هنري بيريس1، وهو كتاب "حاضر المصريين وسر تأخرهم" للكاتب المصري محمد عمر وقد صدر سنة 1902، وكتب مقدمته أحمد فتحي زغلول نفسه، وفيه يقسم المؤلف المجتمع المصري إلى طبقات ثلاث: الطبقة الغنية، والطبقة المتوسطة، والطبقة الفقيرة، وذهب إلى أن لكل واحدة عيوبا تختص بها، وأخذ يذكر ما يره علاجا حاسما لكل عيب منها على حدة. ويتجه الكاتب اتجاها تحليليا فكريا مستعينا بالإحصاءات فيقول مثلا: "في القاهرة وحدها زاد عدد دور القمار في ثمان سنوات فقط إلى 7475 دار للعب، وكانت قبل ذلك 316 دارا فقط، أي أن الزيادة بلغت 5169 دارا بالقاهرة". وقد أزعجت هذه الظاهرة جريدة المؤيد، فانبرى الشيخ علي يوسف يهاجمها، وطبع خطابات خاصة ملحقة بالجريدة، وطلب من القارئ أن ينزع الخطاب ويملأ البيانات المكتوبة ويوقعها باسمه، ويبعث بها إلى جريدة المؤيد أو إلى نظارة الداخلية، وكثرت الأصوات المطالبة بإغلاق دور القمار فاضطرت الحكومة إلى السعي حثيثا في ذلك. وقد حركت تقارير اللورد كرومر واتهامه المصريين بالجهل والتعصب همم المصريين، وحفزتهم إلى العمل، وانبرى الكتاب يدافعون ويعلقون ويحللون، فكان ذلك نعمة على فن المقال الصحفي. فالشيخ علي يوسف مثلا يعارض اللورد كرومر في قوله إن الجامعة الإسلامية دعوة تعصب وإثارة للحروب الصليبية

_ 1 مجلة المكشوف، العدد 392، سنة 1945.

ويعلق على ذلك قائلا: "الجامعة الإسلامية إذن ليست في الواقع إلا شعورا عاما لدى المسلمين جميعا بالظلم، وشكايات متكررة من وقع هذا الظلم، ورغبة عامة في النهوض بالأمم الإسلامية للتخلص من آثار الظلم إلى الأبد". فلا شك -إذن- أن بيئة التنوير، وعصر النهضة الفكرية، وتفجير طاقات النقد والنقد الذاتي، والابتداع في التحليل والتشخيص، والاتجاه نحو الترشيد والعقلانية، وظهور الرأي العام المصري وتكونه من خلال الصحافة والتعليم، والتأثر بالتيارات الفكرية الحديثة، والرغبة في التغيير السياسي والاجتماعي كل هذه الظروف والعوامل قد هيأت الجو لظهور فن المقال الصحفي لأنه بطبيعته فن حضاري يزدهر في بيئة الفكر والعلم والنهضة والتنوير.

ماهية فن المقال

ماهية فن المقال: وكلمة مقال1 ذاتها تعني محاولة2 أو خبرة3 أو تطبيقا مبدئيا4 أو تجربة أولية5. وقد رأينا أن روح عصر النهضة هي روح التجربة، والعناية بالخبرة الإنسانية، والاهتمام برأي الفرد، والإيمان بقدرته، فهناك تطابق تام بين طبيعة فن المقال، وروح عصر النهضة. فالمقال محاولة لاختيار فكرة من الأفكار، أو لتدبر رأي من الآراء، أو لتأمل اتجاه من الاتجاهات النفسية، والتعبير عنها بأسلوب سلس جذاب. فليس المقال بحثا علميا، أو فصلا من فصول كتاب أدبي أو علمي ولا قصة ولا محاضرة من المحاضرات المنظمة ولا دراسة مرتبة ترتيبا منطقيا، وإنما المقال فكرة يتلقفها الكاتب من البيئة المحيطة به، ويتأثر بها -وفي هذا الجو الوجداني للتلقف يعبر الكاتب عن هذه الفكرة بطريقة ما، حظها من النظام قليل، وحاجته إلى الترتيب والتمحيص والتدقيق أقل، ذلك أن الكاتب لا يقصد إلى التعبير

_ 1 ESSAY. 2 EPREUVE. 3 EXPERIENCE. 4 PREMIERE APPLICATION. 5 PREMIERE TENTATIVE.

بالمنطق الشكلي الجامد، وإنما بالمنطق النفسي الإنساني. فالمقال حديث يوشك أن يكون عاديا، يعرض الكاتب فيه على قرائه فكرة أو اتجاها، كما يعرض لموضوع من الموضوعات التي يزجي بها وقت الفراغ من بعض الجلساء. أليست هذه الصفات تتطلب اعترافا بقيمة الفكر والرأي؟ أليست تتضمن احتراما لشخصية الكاتب والقارئ على السواء؟ أليست تنطوي على معنى الحرية والمناقشة والحوار؟ أنها تفتح مجالا للتفكير والمسامرة والتوجيه والإرشاد والترفيه والتسلية والتجربة والتعليم والتنشئة الاجتماعية -وهي جميعا- أهداف الفن الصحفي نفسه، كما سبق القول. ولعل أشهر تعريف للمقال1 ما ذهب إليه الدكتور جونصون، وهو يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل "المقال وثبة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، وهو قطعة إنشائية لا تجري على نسق معلوم، ولم يتم هضمها في نفس صاحبها، أما الإنشاء المنظم فليس من المقال في شيء". وفي تعريف آخر2: "المقال هو الإنشاء المتوسط الطول، يكتب نثرا عادة، ويعالج موضوعا بعينه بطريقة بسيطة موجزة على أن يلتزم الكاتب حدود هذا الموضوع، ويكتب عنه من وجه نظره هو". وما كان المقال، الذي هو أصلا اتجاه ذاتي -عندما يكون المقال أدبيا- أو وثبة ذهنية أو وجهة نظر خاصة بصاحبها، أو مسامرة طريفة تنم على شخصية قائلها، ليجد بيئة أكثر ملاءمة من بيئة عصر النهضة. وليست كذلك مجرد صدفة أن يكون أول من يكتب في هذا الفن اثنان من أئمة عصر النهضة هما: مونتاني3 وبيكون4. كما وجدنا أيضا أن أئمة عصر التنوير المصري والنهضة السياسية والاجتماعية من أمثال رفاعة الطهطاوي والنديم ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل هم أنفسهم أعظم كتاب المقال المصري.

_ 1 يلاحظ أن كلمة ESSAY مشتقة من الفعل essayer ومعناه يقيس أو يزن أو يختبر أو يجرب، ومشتقة أيضا من الاسم assay ومعناه اختبار المعادن مثل الذهب أو الفضة لمعرفة جوهرها أو حقيقتها. ونلاحظ أن كلمة essay الإنجليزية ومرادفتها الفرنسية essai تتفق إلى حد كبير في المعنى اللفظي لكلمة مقال العربية. فهذا اللفظ باشتقاقه من الأصل قال والاسم هو القول بمعنى الرأي أو الاتجاه. وهكذا تتقارب في نظرنا المعاني اللفظية للكلمات الإنجليزية والعربية والفرنسية: essai ومقال وessai. 2 encyclopedia britannica, vol. 8-p.716. 3 montaigne. 4 bacon.

مولد في المقال وخصائصه

مولد في المقال وخصائصه: فليس غريبا -إذن- أن يكون مونتاني منشئ هذا الفن، وهو الفيلسوف الشاك، الذي قدر قيمة الفكر وذاتية الإنسان. وهو يذكر في مقدمة مقالاته التي صدرت في يونيو سنة 1588: "أن ذاتي هو موضوع مقالاتي"1. وقد كانت هذه العبارة بحق إيذانا بمولد فن المقال، وثورة أدبية جديدة أحدثت انقلابا خطيرا في الموضوعات والأساليب على السواء. فالموضوعات قبل عصر النهضة وقبل مونتاني، كانت ملكا للجميع، ثابتة محددة، أشبه شيء بالمنهل العام الذي يغترف منه الأدباء والشعراء، وكانت الموضوعات محصورة في ثلاث اتجاهات هي: البطولة والشجاعة والحرب. وأتى فن المقال -على العكس من ذلك- تعبيرا ذاتيا غير شائع، ووجهة نظر خاصة. ولا شك أن هذا الاتجاه الفردي يرتبط ارتباطا وثيقا بالاتجاه العام لروح عصر النهضة فنعتبره جزءا لا يتجزأ من هذه الروح. فكما كانت تعاليم الكنيسة مصبوبة في قوالب جامدة فثار البروتستانت -بتأثير من الفكر الإسلامي- عليها، وكما كان نظام الإقطاع محددا تحديدا متعسفا فحطمه المفكرون والطبقة الوسطى، وكما كانت ألوان فن التصوير محددة فأصر المصورون على تنوعها وتحررها، وكما كانت التقاليد الفلسفية تقاليد مدرسية شكلية، فاتجه الفلاسفة اتجاها عقلانيا حرا، وكذلك كانت الموضوعات الأدبية الآسنة سببا في ثورة مونتاني، فكان المقال -هو الآخر- تعبيرا عن الذاتية،

_ 1 je suis moi-meme la matiere de mon livre.

وانطلاق الذهن، فيتخذ مونتاني من نفسه موضوعا خاصة لأدبه يعبر عن رأيه واتجاهه وشعوره وإحساسه. وقد يقال هنا أن رسائل شيشرون1 الروماني وخطبه، وخطابات سينيكا2 إلى لوسيليوس3 وتعاليم بلوتارك4 الأخلاقية، والخطب والحكم العربية التي عرفت في عصر الجاهلية يمكن اعتبارها مقالات لاتجاهاتها الذاتية، ولكن هذا الزعيم غير صحيح لأنه يهمل بعض مميزات فن المقال للأسباب الآتية: أولا: لا يمكن مقارنة هذه المؤلفات والأعمال الأدبية في تعبيرها الذاتي بفن مونتاني، فإذا كان هؤلاء قد تحدثوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك عرضا وعلى نحو غير مقصود، وتعوزه روح الألفة، أما المقال فهو طراز فني يقصد منه اجتذاب نظر القارئ وإثارة تشوقه بالتحدث إليه مباشرة. فهو أقرب شيء إلى المحادثة المرسلة الحرة، فالكاتب يحدث صديقه القارئ على قدم المساواة دون إملاء أو استعلاء. فالفرق بين هذه المؤلفات وفن المقال، أن شخصية الكاتب في الأولى تكاد تكون مفروضة فرضا على القارئ، في حين أن شخصية كاتب فن المقال تصبح موضوعا طريفا محبوبا جذابا. وقد كان اتجاه مونتاني المشرب بالدعابة والاستخفاف وروح الألفة وعدم التكلف، والمصادقة والإيناس هو الذي أعطى لفن المقال طابعه المميز له. فهو يتحدث دون تكلف عن والده "الذي يكن له كل احترام وتبجيل"، ويقدم لنا كبار الأدباء والعلماء متحدثا عنهم بصراحة تامة ومبديا فيهم رأيه الخاص. وهكذا أرسى مونتاني أهم قواعد فن المقال وهي نعمة المساواة بين الكاتب والقارئ التي تنم عن روح الصداقة غير المتكلفة. ومن ناحية أخرى، يكتب عن الموضوعات من وجهة نظره هو، وكأنه يعلنها مدوية: أنا مونتاني أتحدث

_ 1 cicero. 2 seneca. 3 lucilius. 4 plutrach.

إليكم، أيها الأصدقاء، عن نفسي دون تكلف1، فنغمة المساواة التي تصطنعها الصحافة الحديثة في اليوميات وفي المقالات بعنوان "تعال معي" إنما تضرب بجذورها في القرن السادس عشر الذي عاش فيه مونتاني2. ثانيا: غير أن التحدث عن النفس أو الكتابة الذاتية، تستلزم في الواقع أسلوبا خاصا يتناسب معه، ويمتاز بالمرونة واليسر والبساطة وعدم التكلف لكي يعبر عن روح الألفة ونغمة المساواة، وعلى العكس من ذلك نجد أن مؤلفات القدماء من أمثال شيشرون وهوارس وبترارك، وحتى مذكرات أرازموس الهولندي قد كتبت باللغة اللاتينية، مما أفسد أهم مميزات المقال وهي صفة "العادية" أو الألفة وعدم التكلف. ومن هنا كان مونتاني الرائد الأول لفن المقال لأنه أول من حطم الحاجز السميك بينه وبين القارئ، في المضمون والأسلوب على السواء، فاستطاع أن يعبر عن نفسه، وأن يعرض على القارئ أحاسيسة ومشاعره بصراحة ساخرة، متحدثا في موضوعات جذابة شائقة ومغامرات خاصة به، بأسلوب سلس مباشر، عادي صادق التعبير، لا تثقل فيه الزخرفة أو التنميق. وذلك يذكرنا بتطور فن المقال المصري الذي أخذ يتخلص من النشر التقليدي المحبوس في أورقة الأزهر، والموشى بالمحسنات اللفظية والبديعية، والموشح بالأشعار والحكم والأمثال، لكي ينطلق من الزخرف إلى العبارة الدالة، ومن أسار الموضوعات التقليدية إلى رحابة الموضوعات السياسية والاجتماعية العامة. وهل كان مونتاني يستطيع الوصول وحده إلى فكرة التعبير الذاتي واحترام الفردية ونغمة الألفة وأسلوب الدعابة والخفة لولا أن هذه جميعا كانت صفات

_ 1 يبدأ مونتاني مقاله عن الحزن بقوله: je suis de plus exempte de cette passion. de la tristesse, chapter 2, book 1. 2 l. magnus. a. history of europian literature "1934" p.128.

عصر النهضة التي تجاوب معها القراء؟ وهل كان الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ومصطفى كامل صاحب اللواء، وأحمد لطفي السيد محرر الجريدة، ومحمد حسين هيكل محرر السياسة، وعبد القادر حمزة صاحب البلاغ وغيرهم أن يحرروا أسلوب فن المقال، لولا أن البيئة نفسها كانت مواتية للنهضة، ومهيأة لمعالجة الموضوعات السياسية والاجتماعية الجديدة، لما يغمرها من تيارات فكرية إسلامية وأوروبية وشرقية ومصرية؟ وهل كان مونتاني وحده يستطيع استعمال أسلوب اللغة القومية بدلا من اللاتينية، لولا أن هذه الحركة كانت أهم مميزات عصر النهضة الذي عاش فيه وهو عصر ظهور القوميات؟ وقد جاء عزوف الكتاب المصريين عن الأسلوب التقليدي متوافقا مع ظهور القومية المصرية التي تحدث عنها أحمد لطفي السيد بقوة وإقناع في "الجريدة" كما كان الاحتلال البريطاني نفسه دافعا قويا للتمسك بالقومية. ثالثا: تعد النزعة العقلية من المميزات الأساسية لمقالات مونتاني، وسمة تميز فن المقال بوجه عام عن غيره من طرز الأدب الأخرى، والمقال اتجاه فكري أو وثبة ذهنية -كما يقول الدكتور جونصون- تعبر عن رأي صاحبها. والمعروف أن حركة العقلانية، والعزوف عن التفسير الديني أو الغيبي للحقائق والمشكلات، كانت أهم خصائص عصر النهضة الأوروبية، كما كانت أيضا أهم خصائص عصر التنوير في مصر، وقد قادها على الصعيد الأدبي الدكتور طه حسين وعلى الصعيد الاجتماعي قاسم أمين والشيخ محمد عبده نفسه، وعلى الصعيد السياسي أحمد لطفي السيد، وترددت هذه الاتجاهات العقلانية في جريدة "السياسة" بصورة رائعة.

خصائص فن المقال

خصائص فن المقال: وينبغي على كاتب المقال ألا يسرف في عرض عواطفه عرضا مثيرا؛ لأن الاتزان والنضج والهدوء من أهم خصائص فن المقال. وإذا كان مونتاني قد اتخذ الميزان شعارا له. فإن ذلك يدل على مبلغ اهتمامه باختيار الحقائق بإنصاف وروية وهدوء واتزان. وإذا كانت المحاضرة أو الموعظة لا تتصل بفن المقال لأنها لا تلتزم بنغمة المساواة، وقد تحطم روح الألفة والصداقة بين الكاتب والقارئ، فإن الخطابة هي الأخرى ليس من فن المقال في شيء؛ لأن إثارة القارئ أمر لا يتلاءم مع طبيعة هذا الفن. لذلك نظر التاريخ إلى الشيخ علي يوسف أنه الكاتب الصحفي الذي عبر بهدوء عن أفكاره في مقالاته، فكان المؤيد يمثل عقل مصر المفكر، في حين أن الزعيم مصطفى كامل كان الخطيب السياسي الذي ألهب حماس الجماهير، فكان يمثل قلب مصر النابض. فصحافة المؤيد تؤثر في العقول وتعتمد على المنطق وتجري وراء الحجة والدليل، أما صحافة اللواء فتؤثر في العواطف، وتلهب المشاعر الوطنية، وهي من هذه الناحية أقرب ما تكون إلى الخطابة في جملتها. وقد عبرت عن ذلك الأديبة الإنجليزية فرجينيا ولف1 بقولها: "إن المقال يجب أن يبدأ بداية تملك مشاعر القارئ، وتوقظه من سباته حتى يشارك الكاتب خبراته الشائقة المدهشة الغريبة، بل إن الكاتب قد يصطحب صديقه القارئ محلقين في عالم الخيال، أو أنهما قد يغوصان سويا باحثين عن درر الحكمة. ولكن على أيه حال لا يجوز إثارة القارئ إثارة ما ... ". ويقول الدكتور زكي نجيب محمود2: "حتى إذا تكاملت من هذه الخواطر المتقاطرة صورة، عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة، لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ لا ينفر منه". ويقول الدكتور عبد اللطيف حمزة3 أيضا: "الهدوء: ونقصد به اعتدال الكاتب الصحفي في إظهار عواطفه للقراء، وقد سبق لنا القول كذلك أن هناك

_ 1 virginia woolf, quoted by r. w. jepson from, the modern essays, in his book, essays by modern writers. 2 زكي نجيب محمود، جنة العبيط، ص9. 3 عبد اللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، الجزء الثالث ص95.

فرقا من هذه الناحية بين الصحفي والخطيب. والآخر صاحب الحق في إثارة الجماهير، وتحريك مشاعرهم عن طريق الغضب أو الثورة. والأول -وهو الصحفي- لا يليق به أن يتخذ لنفسه موقف الخطيب في إقناع الجماهير، بل عليه أن يعتمد في ذلك على قدرته في الإتيان بطائفة من اللفتات الذهنية حينا، واللفتات الشعورية حينا، بحيث يتمثله القارئ رجلا هادئا". ومن الطريف، أن الفن الإذاعي الحديث قد تأثر تأثرا بالغا بفن المقال الصحفي، فهو ينبذ اللهجة الخطابية، ويعتبرها مدمرة للفن الإذاعي الأصيل القائم على الإفضاء والمحادثة العادية الشيقة، حيث يكون المستمع للإذاعة أو مشاهد التليفزيون في خلوته أو في سيارة أو جالسا مع أسرته وأصدقائه، فيصبح الجو الخطابي المثير غريبا، ومنافيا لروح الألفة والإيناس التي هي روح فن المقال الصحفي والفن الإذاعي جميعا.

بيكون مؤسس فن المقال الإنجليزي

بيكون مؤسس فن المقال الإنجليزي: كان طبيعيا، إذن، أن ينشأ فن المقال في عصر النهضة، وأن يظهر على يد فيلسوف شاك وإنساني مفكر شعاره "ماذا أدري؟ " وهو مونتاني، فلم يكن غريبا كذلك أن يكون منشئ فن المقال الإنجليزي أصدق الناس تمثيلا لعصر النهضة وهو السير فرانسيس بيكون "1561-1562" المعاصر لشكسبير. وقد كلف السير سدني لي1 نفسه عناء كبيرا لكي يثبت أن ثمة علاقة كانت بين مونتاني وبيكون، ومفسرا ذلك بأن شقيق السير فرانسيس بيكون الأكبر -واسمه أنتوني بيكون-2 عاش في مدينة بوردو الفرنسية، التي كان مونتاني يتولى منصب العمدية فيها بين سنة 1583 وسنة 1591، وكان أنتوني يكتب خطابات إلى أخيه فرانسيس يحدثه فيها عن مقالات مونتاني.

_ 1 sir sidney lee, the franch renaissance in england, "1910" pp.169 f. f. 2 anthony bacon.

ولكن هذه العلاقة العابرة وحدها لا يمكن أن تنهض دليلا مقنعا على سبب ظهور فن المقال في بريطانيا. "فمن الثابت أن مقالات مونتاني قد ترجمت إلى الإنجليزية في نفس السنة التي صدرت فيها، وذلك عندما منح التصريح إلى جمعية الناشرين1 لترجمتها ونشرها ولك -بطبيعة الحال- قبل ترجمة فلوريو المشهورة سنة 1603 بعدة سنوات. ولكن مجرد قراءة هذه المقالات ذاتها لا يكفي لتعليل نشأة فن المقال في بريطانيا، كما أن اطلاع رفاعة الطهطاوي على الصحافة الفرنسية ومقالاتها لم يكن كافيا لنشأة فن المقال في مصر. ولعل السبب الأصيل لظهور فن المقال الفرنسي، هو نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال الإنجليزي، وكذلك نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال المصري ألا وهو ملاءمة البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لطبيعة فن المقال نفسه. والحق أنه ما من شخصية في بريطانيا مثلت عصر النهضة بخيره وشره تمثيلا صادقا مثل السير فرانسيس بيكون، صاحب الفضل في الطريقة الاستنباطية، ومحرر الفكر من قيود التقاليد، ومنقذ أسلوب الكتابة من قيود الغموض والإغراق في الزخارف اللفظية. وقد كان بيكون عالما مغرما بروح التجريب والبحث والدراسة العلمية، وهي مميزات عصر النهضة الأوروبية، كما اهتم بأمور الدنيا متمتعا بلذاتها وأريج عطورها وجمال زهورها وبريق جواهرها. ثم إن فلسفة الانتهازية تعكس فلسفة ميكافيللي زعيم ساسة عصر النهضة في إيطاليا. وإذا كان الملك قد تغاضى عن وضاعة بيكون عندما امتدت يده إلى الرشوة، وانحطت نفسه إلى الوشاية والالتواء. فإن المؤرخين المحدثين يميلون إلى التغاضي عن ذلك أيضا. ولعله دأب الإنجليز عند المفاخرة بتراثهم. غير أننا قلنا إن ظهور فن المقال يرجع إلى بيئة عصر النهضة المواتية والتي عبر بيكون بمقالاته عن روحها، فنحن لا ننكر كذلك أن بيكون قد تأثر

_ 1 stationers company.

بمونتاني. وليس أدل على ذلك من أن المقال الأول الذي كتبه بيكون "عن الحقيقة"1 يحتوي على نبذة منقولة عن مونتاني، كما أن مقاله الثاني "عن الموت2 كان من أهم الموضوعات التي كتب عنها الفيلسوف الفرنسي مونتاني. وسواء كان التأثير مباشرا عن طريق النهضة أو غير مباشرة عن طريق مونتاني فقد كان بيكون له طريقته الخاصة في الكتابة، فهو بفلسفته التجريبية، وعقليته العلمية، كان لا بد أن يتخذ لنفسه أسلوبا يختلف عن أسلوب مونتاني الفيلسوف النظري الشاك. وبيكون عالم موسوعي المعرفة يذكرنا بأرسطو وبالجاحظ. وقد وجد هذا الفيلسوف في فن المقال خير مجال للتعبير عن أفكاره وخواطره، وإن كان قد لونه بشخصيته، وشكله بمزاجه. وشتان بين أسلوب مونتاني الذاتي الخاص وأسلوب بيكون الذي يقترب من الحكم المتناثرة التي لا رابط بينها إلا الموضوع نفسه. ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض الباحثين المحدثين إلى الزعم بأن فقر التوراة كسفر الحكمة، وسفر النساء الفاضلات تعد مقالات، باعتبار أن مجموعة الحكم حول موضوع معين تكون مقالا. وهم يضربون بذلك أمثلة مما جاء في مقالات بيكون في كتابه الأول الصادر سنة 1597، وخاصة مقاله عن "الدراسة"3 وكتابه الثاني الصادر سنة 1625، وخاصة مقاله "عن الشدائد"4. غير أننا نتفق مع هذا الرأي لأن حكم التوراة، وتلك الحكم التي أثرت عن العصر الجاهلي، لا يمكن أن تعد مقالات. وذلك أنه فضلا عن اختلاف الأسلوب فنحن نجد أن صفة الذاتية والتعبير عن وجهة نظر الكاتب الشخصية كإنسان يروي خبرة معينة خاصة به تنعدم في هذه الحكم ذات الصبغة العامة. وعلى العكس من ذلك نجد أن مقالات بيكون، بالرغم من تناثر العبارات، تعكس نفسية الكاتب وذاتيته، وتعبر في وضوح وجلاء عن أفكاره الانتهازية التي يستحيل

_ 1 on truth. 2 on death. 3 of studies. 4 of adversities.

أن تكون حكما عاما. فهو يرى -مثلا- أن الحرب نافعة ومفيدة لأنها تقوي روح الشجاعة والإقدام، وتنمي ملكات الناس وخصالهم. ويقول إنه يكفي مجرد الخوف من تسلط دولة على دولة لقيام الحرب بينهما، قبل إعلانها فعلا. وهو يرى أن غير المتزوجين هم أحسن الأصدقاء، كما أنهم خير السادة وأفضل الخدم، أما الزوجة والأولاد فأثقال ورهائن وأخطار. والبرلمانات -في نظره- هيئات استشارية، وليست حاكمة، وإذا حكم الملك وفقا للقانون، فهذا تنازل منه! وتصطبغ هذه الآراء بصبغة الشخصية بلا شك، وإن كانت تعبر عن أحداث بعينها تعبيرا مباشرا، وتصور خبرات خاصة يرويها الكاتب للقارئ بطريقة المناجاة والإفضاء كما فعل مونتاني. ولعل السبب الذي جعل بيكون يكتب بطريقة العبارات المتناثرة هي رغبته في الابتعاد عن التكلف، أو أنه كان شديد العناية بأفكاره فكان يدونها كالمذكرات الخاصة، اعتقادا منه أنها دين عليه لا بد وأن يؤديه إلى الأجيال اللاحقة، فوجد في فن المقال قالبا صالحا لتسجيل أفكاره وخواطره، على نحو يشبه كثيرا تلك المذكرات الخاصة التي يكتبها الكاتب لنفسه، تعليقا على حادث خبره أو كتاب قرأه. ويقول ماكولي إن بيكون بلغ به الحرص على تدوين خواطره أنه أملى ذات يوم أطرف النكت التي يعرفها لأنه لم يكن ميالا للعمل الجدي بسبب مرضه، ولعل المقال الساخر -وخاصة في الصحافة- يضرب بجذوره العميقة حتى تلك الحقبة.

المقال بين الأدب والصحافة

المقال بين الأدب والصحافة: وهكذا نرى أن فن المقال قد ولد في بيئة النهضة الأوروبية، كما أنه انشعب إلى شعبتين: شعبة يغلب عليها الطابع الذاتي ويمثلها مونتاني، وشعبة أخرى تهتم بالموضوع من نواحيه المختلفة. والكتابة الذاتية تتخذ من موضوع المقال نقطة قفز إلى التعبير الذاتي، ويقول دريدن1 في مقدمة كتابه عن "القصص الخرافي": إن أهم خصائص المقدمة "وهي نوع من المقال" التجوال

_ 1 dryden preface to fables.

بحيث لا تخرج عن الموضوع خروجا تاما ولا تظل مرتبطة به دائما، وقد تعلمت هذه الطريقة من مونتاني. وتعد مدرسة مونتاني تعبيرا صادقا عن فن المقال الأوروبي، ولها أتباع وتلاميذ حتى يومنا هذا. ولا شك أن الكاتب الإنجليزي إبراهام كاولي1 "1618-1667" يتقن فن المقال على طريقة مونتاني الذاتية، فكتب مقاله وكأنه صديق يسر إلى صديق، ويضع عنوانا له "عن نفسي" وقد جاء فيه: "أعترف أنني أحب كل شيء صغير. فالمزرعة الصغيرة ممتعة، والبيت الصغير بهيج والأصدقاء لا بد وأن يكونوا قلائل، والوليمة الصغيرة لطيفة. وإذا قدر لي أن أعشق مرة أخرى "ولكن الحب عاطفة كبرى وعلى ذلك فإنني أرجو أن أتخلص منها سريعا" فلن أعشق إلا خفة الظل، ولن أميل إلا إلى الجمال المتواضع، لا الجمال الفاتن الجبار. والحقيقة أنني أكره العظمة والشموخ ... ". وما أقرب هذا الفن الذاتي الرشيق من فن كاتبنا المصري إبراهيم عبد القادر المازني "1889-1949"، وذلك الكاتب المتواضع، خفيف الروح، وحتى عناوين مقالاته وكتبه مثل: حصاد الهشيم، وخيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا، وفي الطريق، وقبض الريح، ومن النافذة، وع الماشي، تنبئ بتلك الروح وتعبر عنها. مثال ذلك مقدمة لكتاب صندوق الدنيا التي يبدؤها بقوله: "إلى التي منها معدني، وإليها المآل.. إلى أمنا الأرض". ويقترب فن المقال عند الدكتور طه حسين من فن مونتاني. "فمن الصفات التي أعانته على النجاح في ميدان الصحافة صفة السهولة في التعبير، والواقعية في التصوير، والإيناس في إجراء الحديث، حتى ليشعر القارئ لمقال من مقالات هذا الأديب أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض أخواته،

_ 1 ABRAHAU COWLEY, ON MYSELF.

يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها"1. وقد تلقفت الصحافة فن المقال الأدبي، واستثمرته كقالب جديد تصوغ فيه الأفكار، وتتخذ منه سلاحا ماضيا للنقد والتعقيب. وأداة فعالة للتوجيه والإرشاد. وقد أضافت مدرسة تصوير الشخصيات قوة جديدة إلى مدرستي مونتاني وبيكون، مستمدة من تحليل الشخصية وتصوير النماذج الإنسانية والاجتماعية تصويرا ساخرا فكها على طريقة ثيوفراست بأسلوب سلس جذاب، وحضور بديهة وقوة عارضة، ويذكرنا بكتابات الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير التي أربت على خمسين صفحة من القطع الكبير، يصف فيها أحمد بن عبد الوهاب، وتفنن فيها الجاحظ ألوان كثيرة من التفنن في السخرية والنقد. وقد نبغ في هذا الفن من كتابنا المحدثين إبراهيم المويلحي صاحب مصباح الشرق وعبد العزيز البشري في مجلة السياسة الأسبوعية، وفكري أباظة في مجلة المصور، وأحمد حافظ عوض في مجلة خيال الظل. يقول عبد العزيز البشري في وصف زيور باشا: "الواقع أن زيور باشا رجل -إن صح التعبير- يمتاز عن سائر الناس في كل شيء. ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله، ولا عرضه، ولا بعد مداه. فإن في الناس من أهم أبدن منه. وأبعد طولا، وأوفر لحما. إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا. أما صاحبنا، فإذا اطلعت عليه أدركت -لأول وهلة- أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، ومنها المتيبس المتحجر، ومنها المسترخي المترهل، وعلى كل حال لقد خرجت هضبة عالية مالت من شغافها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان..".

_ 1 عبد اللطيف حمزة، المدخل في فن التحرير الصحفي "1956" ص185.

ويستطرد الكاتب قائلا: "والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه الممتلكات الواسعة عاجز تمام العجز عن إدارتها، وتوليها بالمراقبة والإشراف. وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي..". ويختتم المقال قائلا: "ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل"1. ولا شك أن أسلوب السخرية الذي امتازت به مدرسة تصوير الشخصية، وهو الذي هيأ المقال لكي يكون أعظم ركن من أركان الصحافة، وخاصة منذ اكتشاف الفن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مصر. فقد أصبحت السخرية أمرا لازما للمقال الصحفي فلا ينبغي أن يخلو منه هذا العنصر المهم، ما دام الكاتب الصحفي في معرض النقد والتوجيه، "بحيث إذا خلا المقال الصحفي من هذه الحالة من السخرية الخفيفة أصبح لا غناء فيه"2.

_ 1 عبد العزيز البشري، المرآة "1927" ص70. 2 عبد اللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، الجزء الثالث ص95.

المقال الأدبى والمقال الصحفى

المقال الأدبي والمقال الصحفي: وإذا كان عصر النهضة هو البيئة المواتية لظهور فن المقال الأدبي، فقد كان عصور التقدم العلمي، والتنوير الفكري، وتكون الرأي العام، وظهور الطبقة الوسطي التي تمتاز بعقلية واقعية، وتهتم بمشكلات المجتمع العملية من أهم عوامل ظهور فن المقال الصحفي. والواقع أن تقدم المجتمع، وتحرره من تقاليد الإقطاع، وانتصار الطبقة الوسطى التقدمية، والاعتراف بقيمة الإنسان، واحترام شخصيته، والكف عن إيلام الفرد، والبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة، وإجراء التجارب لغرض البحث، وإنشاء العلاقات الاقتصادية الجديدة

القائمة على التجارة والزراعة الحرة بدلا من الزراعة الإقطاعية، وتكوين الشركات والمصارف كل هذه العوامل الحضارية قد هيأت الجو لظهور فن المقال الصحفي. ويلاحظ أن تطور الحماية الأدبية ورعاية الفنون عامة وانتقالها من طبقة إلى أخرى على مر العصور قد أثر تأثيرا قويا في شكل المقال وأسلوبه. فعندما كان المقال موجها إلى الارستقراطية والطبقة الوسطى المثقفة كمقالات أحمد لطفي السيد في الجريدة، ومقالات أديب إسحاق في مصر والتجارة، كان لا بد للكاتب أن يعنى بدقة اللفظ، ورصانة العبارة، وجمال الذوق في الكتابة. وعندما دالت دولة الارستقراطية بعد الثورة الفرنسية، وبعد الثورة المصرية في 23 يوليه سنة 1952، وبدأت عهود الديمقراطية، انتقلت الرعاية الصحفية إلى سواد الشعب، فكان لا بد لأسلوب الكتابة الصحفية أن يتغير ويشكل نفسه تشكيلا جديدا، يتلاءم مع عقلية السادة الجدد، وجلهم من العمال والفلاحين وصغار الموظفين. وقد كان فن المقال الصحفي غير معروف في البداية، ولم يكن هناك فرق بين المقال الأدبي والمقال الصحفي. فكان المقال مقيدا بقيود الماضي، وبالطريقة الأدبية العالمية، حتى جاء الشيخ محمد عبده فأخذ يقترب شيئا فشيئا من لغة الصحف، ثم جاء السيد عبد الله النديم واقترب كثيرا منها، وأعانه على ذلك ميله الطبيعي إليها. وبدأت بوادر فن المقال الصحفي عند الابتعاد عن فن الأناقة الفنية المتكلفة، والزخارف المعقدة. ولم يكد ينتهي القرن التاسع عشر حتى أصبح للصحافة في مصر لغة خاصة بها، وظهر ذلك جليا في كتابات الشيخ علي يوسف السياسية في المؤيد، وكتابات مصطفى كامل في اللواء، ولطفي السيد في الجريدة، وعبد القادر حمزة في البلاغ وغيرهم من كتاب المقال الصحفي. وفي رأينا أن فن المقال الصحفي يختلف عن فن المقال الأدبي اختلافا جوهريا، وذلك من حيث الوظيفة والموضوع واللغة والأسلوب جميعا. فمن الثابت أن المقال الأدبي يهدف إلى أغراض جمالية، ويتوخى درجة عالية من جمال العبارة، وذلك كما يتوخاها الأديب الذي يرى الجمال غاية في ذاته، وغرضا

يسعى إلى تحقيقه. أما المقال الصحفي فإنه يهدف أساسا إلى التعبير عن أمور اجتماعية وأفكار عملية، بغية نقدها أو تحبيذها. وهو على كل حال يرمي إلى التعبير الواضح عن فكرة بعينها. فكأن الوظيفة الاجتماعية الفكرية في المقال الصحفي تتقدم على أية ناحية أخرى كالمتعة الفنية مثلا. حقيقة أن المقال الأدبي قد يتناول أحيانا موضوعات اجتماعية أو سياسية أو غيرها -وقد جاء هذا التطور الأدبي نفسه متأثرا بالصحافة- ولكن هذه الموضوعات لا تخرج عن كونها نقطا للارتكاز، ينفذ منها الكاتب نحو هدفه الأسمى، وهو التأثير الجمالي. وكذلك المقال الأدبي قد يكون جميلا -وهنا أيضا يبدو تأثره بالمقال الأدبي واضحا- إلا أن هدفه الأول ليس جماليا خالصا، وإنما هو بالدرجة الأولى اجتماعي فكري. فالفرق بين المقال الأدبي والمقال الصحفي يتمثل في الفرق القائم بين الفن الجميل كالتصوير والنحت والزخرفة والشعر، والفن التطبيقي كالعمارة والأثاث والحفر وغيرها وكلاهما فن لا شك فيه، إلا أن الأول يستغل خامات اللون واللفظ للوصول إلى الجمال، أما الثاني فلا بد أن يدخل في اعتباره أمورا عملية فنية اجتماعية. فالمقال الأدبي كالفن الجميل لا يلقي بالا إلا إلى قواعد الإنتاج الفني الخالص، أما المقال الصحفي فلا بد أن يراعي أمورا متعددة كمستوى القراء وثقافتهم، وسياسة الصحيفة، وقوانين المطبوعات والرقابة والتعبير المبسط عن الأفكار المعقدة لتلائم السواد الأعظم من الشعب. وبينما يكتب الأديب لطائفة من الناس تعشق فنه، في الوقت الذي يشاء، بغية التأثير تأثيرا جماليا، إذا بالصحفي يكتب لكل الناس، وفي كل وقت سواء راقه أو لم يرقه. ولعل أهم ما يميز الأديب عن الصحفي أن هذا الأخير يفترض دائما قارئا وهميا متوسط الثقافة عادي الذكاء، ويكتب بأسلوب يفهمه العامة ولا ينفر من الخاصة، ويتحدث إلى عقل القارئ مباشرة في وضوح ويسر، أما الأديب فلا حاجة له أن يتقيد بهذه القيود، فهو حر يكتب بالأسلوب الذي يجيده، ويتحدث بالطريقة التي يتقنها. ثم إنه غير مسئول بعد ذلك إذا عجز عن فهمه بعض الناس أو اقتصر تذوق أدبه على طائفة مثقفة دون غيرها.

من الأدب إلى الصحافة

من الأدب إلى الصحافة: إن الأدب فن ذاتي، يتصل بالنفس البشرية، أما الصحافة، فهي فن اجتماعي يتصل بحياة المجتمع، فالمقال الأدبي يتصل بأعماق النفس والعواطف الإنسانية "فهو يعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه، ومن هنا قيل إن المقال الأدبي قريب جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كليهما يغوص بالقارئ إلى أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، ويتغلغل في ثنايا روحه حتى يعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقال الأدبي والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالا أدبيا1. أما المقال الصحفي فيتصل أكثر ما يتصل بأحداث المجتمع الخارجي عامة، كما يفترض وجود رأي عام يخاطبه ويتحدث إليه، وبمعنى آخر، يمكن القول أن المقال الأدبي يدخل في اعتباره عواطف الفرد ووجدانه، أما المقال الصحفي فيهتم بما يسمى "بالوجدان الجماعي". فالصحافة مرآة تنعكس عليها مشاعر الجماعة وآراؤها وخواطرها. ومن هنا جاء تعريف أوتوجروت لها بأنها تجسيد لروح الأمة. أما الأدب فمرآة تنعكس عليها مشاعر الأديب وآراؤه وخواطره. وإذا كان المقال الصحفي يهتم بتفاصيل ما يجري من الأحداث اليومية في المجتمع، وبتسجيل الإحصاءات والأرقام التي جمعت والكلمات التي قيلت، والأحداث التي وقعت، كأنه يثبت جسم الحقيقة، فإن المقال الأدبي ينفذ إلى روح تلك الإحصاءات والأرقام والكلمات والأحداث. فالمقال الصحفي يهتم بالواقع والتفاصيل، أما المقال الأدبي فإنه يهتم عادة بالقيم2. ولذلك فإن الفرق بين الأديب والصحفي في فن المقال هو في نزوع أحدهما إلى أعماق النفس البشرية ونزوع الثاني منزع الناقد الاجتماعي، أي أن الفرق بينهما كالفرق بين رجل يشرف على الحياة من أعلى الجبل ورجل يضطرب في الحياة نفسها، ويخالط الناس أنفسهم عند السفح.

_ 1 دكتور زكي نجيب محمود، جنة العبيط، ص10. 2 maurice hewlett. a book of english essays, "ed, by williams" 1952, pp.239.

والمقال الأدبي قد يكون خياليا أو مثاليا أو واقعيا تبعا لميول الكاتب وأغراضه، ومزاجه الشخصي، أما المقال الصحفي فإنه ينبغي أن يكون عقليا واقعيا، يعتمد على المنطق والأسانيد الواقعية الحسية، دون تحليق في عالم الخيال أو المثل. فالأديب حر في اختيار الموضوع الذي يشاء، أما الصحفي فهو مقيد باختيار الموضوعات العامة التي تهم أكبر عدد ممكن من القراء، تدور حول مسائل ومشكلات تهم الدولة والمجتمع. وجمال المقال الأدبي يتحقق في ذاته لأنه لا يعتمد كثيرا على العناصر الخارجية كالظروف والمناسبات، ذلك أن الأديب يلتمس الجمال الحقيقي في العبارة عن طريق البراعة الفنية في الصياغة والأداء، أما الصحفي فعلى العكس من ذلك ترتبط كتابته دائما بالجو الاجتماعي، والظروف السياسية المحيطة به، حتى إننا لا نكاد نفهم هذه المقالات الصحفية في العصور الماضية دون الإحاطة التامة بالبيئة الاجتماعية، وخصائص العصر الذي كتبت فيه. ومن المعروف كذلك أن الآداب الخالدة، والمؤلفات الكبرى لا تتطلب في دراستها مثل ذلك العناء الذي تتطلبه القطع الأدبية التي يكتبها أدباء الطبقة الثانية؛ لأن الآداب العظمى الرفيعة تتصل بعواطف الإنسان الثابتة، وترتبط بعلاقات بشرية خالدة، أما الصحافة فإنها تدور حول أمور اجتماعية ومناسبات معينة، لذلك كانت كتابات الطبقة الثانية في الأدب والصحافة أيضا ذخيرة هامة للمؤرخ وعالم الاجتماع، تتفوق في قيمتها الاجتماعية ودلالتها التاريخية على الآداب الإنسانية الرفيعة التي يهتم بها الأدباء والنقاد وعلماء الجمال. فبينما نجد أن الأديب يكتب ما يشاء مهما كان الموضوع دقيقا أو خياليا أو غريبا، ويحاول أحيانا أن يكتشف ما خفي عن أنظار غيره من الأدباء مستعينا في ذلك بخلق الشخصيات الخيالية والمواقف الوهمية، إذا بالصحفي مقيد بالحاضر لا يستطيع الفرار منه، وما فيه من أحداث فهو لا يستطيع أن يرخي العنان للخيال كما يفعل الأديب، ولا يستطيع أن يهمل الشخصيات الواقعية من أجل شخصيات خيالية، ولا يستطيع أن يسبح في أجواء الماضي أو يطير في خيال المستقبل كما

يفعل الأديب. فالصحفي مقيد بميول قرائه وسياسة صحيفته ورغبات المعلنين بل أوامر الحاكمين أيضا! 1. والصحفي يعتمد على الواقع المحسوس، يشتق منه الدليل الذي يسوقه على صحة رأيه في مسألة من المسائل، ويتنكب طريق الأديب الذي يتسلق على كلام السابقين من مشاهير الشعر والحكمة والقصص. فالصحافة فن واقعي لصيق بالأحداث الجارية، والصحفي يشتق دليله من الحوادث، لا من بطون الكتب الأدبية أو الفلسفية، مع قدرته على الوصول إلى هذه الكتب والانتفاع بها والاستشهاد بكلام ذويها. وقد رأينا أن ديفو منشئ فن المقال الصحفي الإنجليزي، كان يجشم نفسه مصاعب الأسفار الطويلة في القرن الثامن عشر لجمع المعلومات والبيانات حتى تبنى مقالاته على الوقائع. ولا غرابة في ذلك، فإن عبقرية ديفو الواقعية هي التي حولت فن القصة نفسه من الرومانسية إلى الواقعية. وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي منشئ فن المقال الصحفي في مصر مغرما بالرحلات، كلفا بالمشاهدات التي سجلها في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وكذلك في مقالاته.

_ 1 h. m. patterson, writing and selling feature articles, "1949", p.290.

لغة المقال الصحفى

لغة المقال الصحفي: وكان لا بد أن يكون لفن المقال الصحفي لغته الخاصة، ذلك الأسلوب الذي وصفه ديفو بقوله: "إذا سألني سائل عن الأسلوب الذي أكتبه قلت إنه الذي إذا تحدثت به إلى خمسة آلاف شخص ممن يختلفون اختلافا عظيما في قواهم العقلية -عدا البله والمجانين- فإنهم جميعا يفهمون ما أقول". ويقول عبد الله النديم في العدد الأول من صحيفة "التنكيت والتبكيت": إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجازات واستعارات، ولا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بفخامة لفظ وبلاغة عبارة، ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء، ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها، لا تلجئ إلى

قاموس الفيروزآبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها، وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيتك كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، "ونديم" يسامرك بما تحب وتهوى، وما أقرب فهم النديم لفن المقال من فهم مونتاني وبيكون له! لقد كان أسلوب الصحافة المصرية متأثرا بأسلوب الهمذاني في إيثار السجع القصير الفقرات وهي الطريقة التي سار عليها عبد الله فكري. غير أن معظم الصحف تردى أسلوب كتابتها إلى مستوى خفيض أذهل الشيخ محمد عبده ودفعه إلى إصلاحه. مثال ذلك هذا الخبر العادي الذي نشر في جريدة الأهرام سنة 1877: "في صبيحة يوم الثلثا من هذا الأسبوع شبت النار شبوبا مرهبا بمينا البصل في مخزن "شونة" من مخازن الوجيه جبرائيل أفندي مخلع الأفخم استيجار جناب الخواجا لورانس الذي دعى فيه كمية من القطن. لكن المخزن والقطن تحت دائرة السيكورتاه". ويتحدث الشيخ محمد عبده عن أساليب الكتابة التي ثار عليها فيقول: كانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب: الأول ما كان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رث خبيث غير مفهوم ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته.. والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ما كان يراعى فيه السجع وإن كان باردا وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئا في الذوق بعيدا عن الفهم ثقيلا على السمع غير مؤد للمعنى المقصود ولا منطبق على آداب اللغة العربية. ثم ورد علينا في أخريات الأيام ضرب آخر من التعبير غريبا في بابه وهو ما جاءنا من الأقطار السورية في جريدتي الجنة والجنان المنشأتين بقلم المعلم بطرس البستاني.. وبه أنشئت جريدة الأهرام في مصر1.

_ 1 محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الأول "1931" ص11، 12.

أما الأسلوب الصحافة الذي ثار عليه الشيخ محمد عبده فقد كان مزعجا حقا، فإذا ما رجعنا إلى افتتاحية العدد الأول من الوقائع المصرية وجدنا أنه عربي متترك تغلظ فيه ركاكة الترجمة الحرفية إلى درجة يمجها الذوق العربي، فإذا تجولنا بين أعداد الوقائع في عهودها الأولى وجدناها حافلة بالأخطاء اللغوية والنحوية مع ركاكة التأليف وتعثر الفكرة، حتى جاء رفاعة الطهطاوي، فألقي بعض الضوء في هذا الجو المظلم، وحتى صحيفة روضة المدارس -التي كتبت للمثقفين- كان أسلوبها ثقيلا متلبكا ركيكا، كما رأينا هذا الأسلوب نفسه في صحيفة وادي النيل -أول صحيفة شعبية تصدر في مصر. ومن أسلوب الأهرام ما جاء سنة 1878 تعليقا على السياسة الخارجية "مسألة شرقية وعقدة إبليسية عبث بها القلم زمنا فزادها تعقيدا فاعتيض عنها بالسيف. فيل يناظر سمكة وسمكة تباري فيلا. وكلاهما بعيدا مقرا.. ونحن بينهما هدف ترمي عليه أسهمهما فبئست حالنا"1. والجريدة تقصد بالفيل روسيا، وتقصد بالسمكة إنجلترا، على نحو ما وصفهما بسمارك! وقد رأينا أن الصحافة المصرية بدأت تتقدم أساليبها شيئا فشيئا منذ سنة 1870 حيث بدأ التعليم ينتشر، والحضارة تزدهر، والعمران يتسع، والأسفار تكثر، والحياة تنتفض انتفاضة ثورية جديدة نحو التحرر. وبدأت ثمرات المفكرين من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ثم أحمد لطفي السيد تؤتي أكلها، وكانت قمة الأسلوب الصحفي الحديث عند الشيخ علي يوسف في صحيفة المؤيد. وقد وصف عبد الكريم سلمان -وهو المحرر الثاني للوقائع بعد الشيخ محمد عبده- طريقة التخلص من الأساليب العتيقة بقوله: "وأما من عود نفسه على الطريقة العتيقة "طريقة القافية والتسجيع" فليس له من دواء إلا مطالعة كتب التاريخ ووسائل الإنشاء "ومنها صحف الأخبار العربية الجيدة" فإنها حاسمة لدائه، نافعة في تقدمه وترقيه إلى أعلى الدرجات في هذا الفن الجليل".

_ 1 الأهرام، عدد 89 بتاريخ 12 إبريل سنة 1878.

العلم والأدب والصحافة

العلم والأدب والصحافة: وخلاصة القول، أن الشيخ محمد عبده استطاع أن يكتشف فن المقال الصحفي، كما استطاع عبد الله النديم أن يقترب من الجماهير -ولكن من خلال العامية- أما علي يوسف فقد حقق بقلمه البداية الفاصلة بين فن المقال الصحفي وفن المقال الأدبي، فكان رائدا لمن أتوا بعده من كبار الصحفيين. مثال ذلك أن الشيخ علي يوسف -وهو صحفي بطبعه- اتخذ من مشاهدة البحر المتوسط موضوعا سياسيا تاريخيا. عالجه إذ ذاك بعقلية واقعية سياسية. وفي ذلك ما يدل على غلبة الصحافة على مزاج هذا الرجل قبل كل شيء. ولو أن كاتبا كالمويلحي أراد أن يتخذ من البحر موضوعا للكتابة لاتخذ موضوعا أدبيا خياليا خالصا، وذلك لغلبة المزاج الأدبي عليه. وقد كتب الشيخ علي يوسف هذه المقدمة وهو في عرض البحر المتوسط في طريقة إلى الأستانة وهو يقول فيها: "إن للقطر المصري شأنا عظيما في مدينة البحر المتوسط الأولى، وفي تاريخ الديانات ووسائل انتشارها في أرجاء العالم، وفي عصور المنازعات والمنافسات بين ممالك الأدوار السابقة، وفي هذا العصر الحاضر سواء من جهة السياسة أو التجارة أو تأثير الدين". إن الكاتب الصحفي ينفذ إلى المغزى والدلالة، في حين أن الكاتب الأدبي يهتم بالتعبير الجمالي والوصف ونقل المدركات المحسوسة. فالأديب يحاول أن ينقل لك البحر نفسه في مقاله الأدبي، أما الصحفي فلا يهمه من البحر إلا مغزاه الاجتماعي ودلالته السياسية وأهميته الاقتصادية. وقد وصف مصطفى كامل البحر1 فبدأ بتسع أبيات من الشعر، ثم أخذ يصف البحر وجلاله والباخرة وركابها وأسماها الجزيرة المتحركة والموج وهياجه والريح واضطرابها والجو وتقلبه.. فكانت صورة أدبية للبحر المتوسط تختلف عن تلك الصورة التي رسمها علي يوسف.

_ 1 جريدة الأهرام، عدد 14 يوليو سنة 1894.

والفنان الأصيل لا يجرد الحقيقة كما يجردها الصحفي، ولكنه يدرك اللون ويعبر عن اللون، ويحيا في هذه الحياة خبرات معينة ليعبر عنها مباشرة ويقدمها في إطار جمالي دون أن يحولها إلى معان سياسية واجتماعية كما يفعل الصحفي. والفرق بين الأدب والصحافة أو بين المستوى الجمالي والمستوى الاجتماعي للغة، يقابله كذلك فروق أخرى بين كل من المستوى الأدبي والعملي والعلمي. فجدول الماء مثلا يراه الأديب ويراه العالم. ولكن الأديب يصف شكله كما يحسه تماما ويتحدث عن ألوانه وألوان ما يحيط به من نبات وحيوان، ويصور خرير الماء أو هديره، وهدوء سطحه أو تموجاته وانكساراته على حالة الصخر، وتستطيع إذا قرأت كتابة فنية جميلة عن هذا الجدول أن تحس به، وترى أزهاره وتستمتع بضوء القمر الذي يغمره. أما العالم، حين ينظر إلى الجدول نفسه فإنه لا يرى فيه إلا جزئيات وذرات وبروتونات وإلكترونات، يراها تدور في أفلاكها المحددة ودوراتها المقدرة، ويعبر عن ذلك على أساس قوى الشد والجذب الأفقية والحركة العمودية ثم جاذبية الأرض وإشعاع الضوء وانكساره وتردد الصوت وقياسه وهكذا.. ويستحيل أن تعتبر هذه جميعا خبرات موضوعية عن جدول الماء، وإنما هي مسائل افتراضية قائمة على أسس علمية، ونظريات تصيب أو تخطئ تبعا لتطور العالم وتقدمه على توالي العصور والأزمان. والأديب فنان يستعمل الألفاظ على النحو الذي يروقه أو يفضله على غيره، أما الصحفي فإنه يلتزم طريقة بعينها، قائمة على البساطة والوضوح، وتيسير الفهم على القارئ العادي، ولما كان الصحفي يعرض أفكارا وآراء، ويفسر اتجاهات ويشرح بيانات، فإن واجبه أن يتجنب أسلوب الأديب الذي يكون غالبا أسلوبا منمقا بالمحسنات اللفظية، موشى بالحيل البديعية، أو أن الصور البيانية تتلاحق فيه وفقا لذوق الكاتب وإدراكه لمعاني الجمال، الذي هو هدف المقال الأدبي. أما المقال الصحفي فلا يمكن أن يكون منمقا في لغته أو موشى في عباراته، ولا يجب أن تتراكم فيه الصور البيانية؛ لأنها ربما تعوق القارئ في فهمه لفكرة الكاتب في سرعة ووضوح ويسر.

فالصحفي يرى الأشياء من ناحية دلالتها العملية وتفسيرها الاجتماعي، حتى إن فوائد المدركات ونفعها أهم عنده من إدراكها لذاتها إدراكا فنيا خالصا كما يفعل الأديب والفنان. فالفرد العادي "ويمثله الصحفي بمستواه اللغوي العملي وبأسلوبه السريع" لا يرى الأشياء بعينه وإنما يدركها بعقله في سرعة من خلال ما تحدده له تربيته وخبرته وبيئته. أما الأديب أو الفنان فإنه يدرك الأشياء نقية خالصة. فقطعة الأرض الفضاء، مثلا، يرى فيها الفيلسوف ظواهر معينة، ويرى فيها العالم الجيولوجي مراحل وحقبا مرتبة ترتيبا زمنيا محددا، وقد يجد فيها المحارب فرصا للدفاع أو نقطة ارتكاز للهجوم، ويراها المزارع مجالا للزراعة والإنتاج والكسب. والشيء المدرك -في هذه الحالات جميعا- هو قطعة الأرض التي تتحول في غمرة الحياة الاجتماعية إلى مصالح مجردة ومنافع ذاتية. أما الأرض نفسها كشيء موضوعي له استطالته أو استدارته أو لونه أو جماله فإنها تنسى كخبرات في ذاتها، ويترجمها الإنسان العادي حالا إلى معان ويفسرها إلى أغراض. فالألوان مثلا لا ترى نقية خالصة؛ لأنها سرعان ما تستحيل إلى فوائد ودلالات: فاللون الأحمر بالنسبة للسائق لا يهمه كمدرك لوني، وإنما كمعنى للخطر. والزهرة الصفراء تعني الغيرة عند بعض الجماعات، ولكنها تدل على الأمل عند بعض القبائل الإسترالية. فاللون يكتسب معنى اجتماعيا ودلالة عملية بصرف النظر عن قيمته الموضوعية، كمدرك خالص. وهكذا يطارد الماضي الحاضر، والمنفعة أو الدلالة تحل محل الحقيقة الموضوعية، والمغزى يمحو الواقع المحسوس، فلا يرى الشخص العادي في الأشياء إلا آمالا ورغبات وأماني ووعودا. وهذه تجعلنا نشاهد في المدركات التي نحسها طرزا ترتبط ارتباطا وثيقا بمصالحنا ومنافعنا الخاصة. أما الأشياء بشكلها الموضوعي الخالص المجرد، فلا شأن لنا بها، وإنما نرى مغزاها ومعناها، ونتائجها وآثارها، فنجد أنفسنا في النهاية غارقين في خضم ضخم من الخبرات عديمة الألوان. وما دام أسلوب المقال الصحفي هو الأسلوب العملي الاجتماعي، وما دامت طريقة الإدراك هي طريقة الرجل العادي، فإنه ينبغي على ذلك أن يكون المقال الصحفي عملي التعبير، واقعي الاتجاه.

الصحافة والرأى العام

الصحافة والرأي العام: يرى الدكتور محمود عزمي أن الصحافة هي توجيه الرأي العام عن طريق نشر المعلومات والأفكار الناضجة معممة ومنسابة إلى مشاعر القراء خلال صحف دورية. ولا شك أن فن المقال الصحفي يلعب دورا رئيسيا في توجيه الرأي في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها. وإذا صح تقسيم الصحافة إلى ثلاثة أنواع هي صحافة الجماعات1، وصحافة الجماهير2، وصحافة الدولة أو الصحافة الرسمية3 بحيث تعبر الأولى عن الأحزاب السياسية والنقابات والجماعات والهيئات المختلفة، بينما تنشر الثانية الأخبار سعيا وراء الربح المادي، كما أن صحافة الدولة هي لسان حال الهيئة الحاكمة، فمما لا شك فيه أن المقال الصحفي له تأثيره اللغوي القوي في مخاطبة عقول الناس وقلوبهم ووجدانهم بطريقة عادية تقرب من الإفضاء بين الصديق والصديق. وتلعب الصحافة هذا الدور الخطير من خلال عنصر التكرار في المقالات الافتتاجية والأعمدة بوجه خاص، والصحيفة بهذا التكرار أشبه شيء بقطرات الماء التي تسقط تباعا وباستمرار على صخرة قوية، ولا بد لها يوما أن تخرق هذه الصخرة، وقد تصل إلى تحطيمها وتهشيمها في نهاية الأمر، ولسنا نذهب إلى أن الصحافة هي التي تصنع الرأي العام وحدها، بل إننا نعتقد أن الصحافة تأخذ من الرأي العام وتعطي له، تؤثر فيه وتتأثر به، تقود الشعب وتنقاد له، وتوجه الحكومات وتتلقى توجيهاتها منها.. فالصحافة -وخاصة عن طريق المقال الصحفي- تعمل على توجيه الأمة. وفي هذا المعنى قال الزعيم مصطفى كامل: "إذا كانت الصحافة في كل بلاد العام شديدة التأثير، عظيمة الفائدة، فإنها يجب أن تكون في مصر أشد تأثيرا،

_ 1 DIE GRUPPEN PRESSE. 2 DIE MASSEN PRESSE. 3 DIE STATES PRESSE.

وأكبر نفعا؛ لأن الأمم الحية غنية عن إرشاد الصحف في كثير من الشئون أما في مصر وبقية بلاد الشرق فوظيفتها أن تكون المهذبة المؤدبة، المنشطة المشجعة، القائمة مقام المجالس النيابية، حتى تترقى الأمة وتنال كل حقوقها". والحقيقة أن الرابطة وثيقة بين الصحافة والرأي العام. فقد كان التدخل الأجنبي في مصر، واستبداد الحكم منذ تولاه محمد علي، والأزمة التي وقعت بين الخديو إسماعيل والباب العالي، وظهور الدستور العثماني سنة 1876، وازدياد الحركة الفكرية في مصر بظهور السيد جمال الدين الأفغاني. من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور الصحافة الشعبية والرأي العام في وقت واحد. ومع أن التعبير عن الرأي العام كان تعبيرا كامنا في شكل جمعيات سرية مثل الجمعية السرية للضابط سنة 1867، وهي الجمعية التي ارتبطت بالأمير حليم وانضم إليها علي الروبي وأحمد عرابي وعبد العال حلمي وعلي فتحي وغيرهم، ثم تحولت سنة 1879 إلى الحزب الوطني -وهو غير الحزب المنسوب إلى مصطفى كامل، وانضم إليه شريف باشا وشاهين باشا وعمر لطفي باشا وراغب باشا ومحمد سلطان وغيرهم من قادة المعارضة في مجلس النواب، كما نشأت جمعية مصر الفتاة في الإسكندرية سنة 1879، وجمعية المودة السرية لضباط الجيش، وجمعية المقاصد الخيرية وغيرها. غير أن الصحافة -وخاصة صحافة المقال- قد استطاعت أن تعبر عن الرأي العام العلني أصدق تعبير. فليس من شك أن جميع هذه المنظمات السرية والعلنية تدلنا دلالة قوية على وجود الرأي العام، وقد استتبع ظهور هذه الجمعيات ظهور الأحزاب السياسية والصحافة الشعبية وخاصة صحف المقال. وهكذا كان الوعي بسوء الحالة والشعور بوطأة الظلم هو الذي هيأ الجو لظهور الصحف والأحزاب، وقد أعان هذا كله على نضوج الرأي العام.

موضوعات المقال الصحفي وأسلوبه

موضوعات المقال الصحفي وأسلوبه: ويلاحظ أن الصحافة المصرية كانت تقف موقف المعارض من السلطة الحاكمة، سواء السلطة الفعلية وهي الاحتلال أو السلطة الاسمية وهو الخديو. والحقيقة أن مقالات الصحف المعارضة تجد دائما صدى في نفوس القارئ لا تجده الصحف المؤيدة. وقد كان الشعب ينظر دائما إلى الحكومة نظرة الطير إلى الصائد لا نظرة الجيش إلى القائد، وذلك لأن أغلب الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر لم تكن وليدة إرداة الشعب، وبالتالي لم تكن تحس إحساسا صادقا بالأمة وآمالها وتعمل على تحقيقها وعلاجها. ولم تكن كراهية الشعب للحكومة راجعة إلى انعدام الوطنية عند الحكام في كل حين، ولكن الاستعمال حال دون الحكومات الوطنية ذاتها وخدمة الشعب خدمة حقيقية وكسب مجتمعه أو على الأقل ثقته وتجنب عداوته، حتى لقد خلق هذا الإحساس عند صحف المعارضة في كثير من الأحيان نوعا من روح البطولة والاستشهاد في سبيل الشعب ضد الطغيان. فلم يكن غريبا أن تروج صحافة المعارضة، وأن يقبل الناس على قراءة مقالاتها السياسية، خاصة وأن المعارضة كانت تتحدث دائما على المثل العليا والأهداف السامية والآمال المرجوة، فهي متنفس للشعب الذي يتلمس فيها العزاء الروحي. وقد فطنت الصحف المؤيدة للأحزاب إلى هذه الحقائق، فأخذت تقلل من الإسراف في المديح، والمبالغة في التأييد. ولقد فطنت بعض الصحف العالمية الكبرى إلى هذه الحقيقة وراعتها حتى في منهج دعايتها الحزبية مثل صحيفة الديلي هيرالد1 التي اجتمع مجلس إدارتها بعد إنشائها بفترة وجيزة، وبعد أن لاحظ تدهور الجريدة وانكماش رواجها نتيجة لإسرافها في الدعاية الحزبية فاتخذ قرارا يقضي بأن لا تتجاوز هذه الدعاية 10% من مساحة الجريدة. وعلى أثر هذه القرار انتعشت الصحيفة وراجت واطرد نجاحها حتى أصبحت من أوسع الصحف انتشارا ومن أقواها أثرا في نشر الدعاية لحزب العمال في

_ 1 DAILY HERALD.

إنجلترا وفعلت جريدة المصري نفس الشيء عندما قللت من غلوائها في تأييد حزب الوفد، بل إنها ذهبت إلى حد انتقاده أحيانا أو على الأقل عدم تأييده تأييدا أعمى على طول الخط. وقد ساعدت الصحافة المعارضة على ظهور فن المقال النزالي على الصعيد الأدبي أولا ثم الصعيد السياسي فيما بعد. فعلى صفحات "الجريدة" تناظر مصطفى صادق الرافعي عن الأدب القديم وطه حسين عن الأدب الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة الأسبوعية" ولعلها مستمرة حتى يومنا هذا. وتناظر العقاد مدافعا عن الأدب السكسوني ضد الأدب اللاتيني الذي دافع عنه طه حسين. وعلى الصعيد السياسي، كانت الحملات قاسية بل ضارية أحيانا، وبعض هذه الحملات أنقذ البلاد من نير الظلم، ونعني بذلك الحملة التي قادها علي يوسف ضد اللورد كرومر باسم مقالات "قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء". وعددها أربعة عشر مقالا، وأشهر منها مقالات مصطفى كامل ضد كرومر أيضا، وقد أطاحت به، وأبعدته عن الحكم في مصر. ويخطئ من يظن أن المقال السياسي هو النوع الوحيد من المقالات الصحفية الذي تهتم به الصحافة، وإذا كان ذلك صحيحا بالنسبة للصحافة القديمة، فإن ذلك غير صحيح بالنسبة للصحافة الحديثة التي أصبحت موسوعية في اهتمامها ومقالاتها فهي تعنى بالاقتصاد والاجتماع والفن والأدب والرياضة والثقافة جميعا. وقد أصبح من الضروري أن يضم مجلس التحرير في الصحيفة نخبة من الخبراء والمتخصصين في السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتعليم والشئون الاجتماعية والعسكرية. ولقد أصبح المقال الصحفي الحديث يمثل العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ولم يعد ذلك اللسان المتبرع بالمدح أو الذم وفقا للأهواء دون ما ضابط. والواقع أن المقال الصحفي أخذ يقترب كثيرا من الخبر والتحقيق الصحفي من حيث الموضوعية والدراسة، كما أن وظائف المقال أخذت تتضح في مجالات كثيرة أهمها الشرح والتفسير والتوجيه والإرشاد والتسلية والإمتاع.

وقد سبق القول بأن الموهبة الصحفية هي موهبة التبسيط والتجسيد والبعد عن المفاهيم المجردة. فالصحافة الحديثة لا يمكن أن تتجاهل عصر الفضاء وعصر الذرة، ولكنها لا تستطيع كذلك أن تستخدم اصطلاحات العلم المجردة. ومع هذا وذاك ينبغي للمحرر العلمي إدراك أن القارئ لا يضيره أن يقرأ لفظا علميا غريبا على مسامعه إذا دعت الضرورة إلى استعماله في المقال، بشرط أن يبسطه ويقربه إلى الأفهام. "ولا ينبغي للمحرر في هذه الحالة أن يعتذر عن استعمال هذا اللفظ، ولا أن يحاول أن يشرحه شرحا علميا مستفيضا؛ فله -مثلا- أن يستخدم لفظ الوحدة الحرارية، ولكن ليس عليه أن يشرح هذه الوحدة الحرارية من الوجهة العلمية. بل يقول مثلا: إن ثلاث قطع من السكر، أو قطعة صغيرة من الزبد تولد مائة وستين وحدة إذا كان يقوم بعمل مجهد"1. والخلاصة أن المقال الصحفي يشتق بموضوعاته من الحياة الواقعية، وكذلك يشتق لغته من نفس تلك الحياة الواقعية، وينبغي أن يكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم وثقافاتهم، وهذه اللغة هي اللغة القومية في صورتها الدارجة وليست صورتها العامية لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القراء والتقعر أو الغرابة في الأسلوب والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحال ما2.

_ 1 كارل وارن، ترجمة عبد الحميد سرايا، ص289. 2 عبد اللطيف حمزة، الصحافة والأدب في مصر، الفصل الثاني.

المقال بين التقليد والتجديد

المقال بين التقليد والتجديد: ويعتبر المقال الصحفي الافتتاحي أهم فنون المقال الصحفي، وهو فن خاص يعتمد على الشرح والتفسير والإيضاح، معتمدا على الحجج والبراهين، والإحصاءات والبيانات، للوصول في نهاية الأمر إلى إقناع القارئ وكسب تأييده. وكاتب المقال الافتتاحي ينبغي أن يكون ملما بالموضوع الذي يكتب فيه، وأن يقرأ عنه في الكتب والمجلات المصرية والأجنبية. وليس المقال الافتتاحي تعبيرا عن الرأي الشخصي لصاحبه، وإنما هو في حقيقة الأمر تعبير عن سياسة الصحيفة. ولذلك فكثيرا ما يكون المقال الافتتاحي غفلا من التوقيع؛ لأنه منسوب إلى الصحيفة كهيئة إعلامية أكثر منه إلى الشخص نفسه. وفي الصحافة الحديثة، يختار مجلس التحرير موضوع المقال الافتتاحي، ويعهد بكتابته إلى المتخصص في ذلك الموضوع. ولم يعد المقال الافتتاحي مجرد تعبير عن الرأي بصورة قاطعة حاسمة، بل لقد أصبح هذا المقال نوعا من التحليل الدقيق المتوازن، الذي يسوق فيه الكاتب الحجج والبراهين لإثباته، في هدوء وروية. والحقيقة أن كاتب المقال في الماضي كان أشبه بالفارس الذي يخوض غمار معركة بسيفه وحصانه فهو يهاجم ويناور ويدافع، أما كاتب اليوم الذي يعبر عن مؤسسة كاملة، فإنه لا يستطيع أن يعبر تعبيرا ذاتيا أو انفعاليا، ولكنه ينقل المعاني في هدوء وروية وتؤدة. غير أن هذا التعبير "اللاشخصي" ليس معناه الجفاف في التعبير أو الجفاء في موقف الكاتب من القارئ؛ إذ إن خاصية التبسيط في الحديث والإيناس في السرد، لا تزال أهم مميزات فن المقال الصحفي. فالكاتب يسعى لإثارة الانتباه، واجتذاب القراء، والتحدث إليهم حديث الند للند دون استعلاء. إنهما صديقان يتحدثان حديثا يهم كل واحد منهما بقدر ما يهم الآخر. والمقال الافتتاحي قائم على روح المشاركة، وهي روح الديمقراطية الحقة التي تفترض المساواة بين الجميع. ومن هنا كان هذا الفن متسما بالهدوء والابتعاد عن الاستعلاء أو الخطابة. ذلك أن المقال الافتتاحي يهدف إلى الإقناع لا مجرد الاستمالة العاطفية. فالشواهد والأدلة والبراهين، سواء بالنصوص أو الإحصاءات أو المقارنات ضرورة لازمة للتعليق على الأخبار والمجريات. وكثيرا ما يكون المقال الافتتاحي بمثابة تعليق على الأخبار والأحداث الجارية، مع الاستشهاد -بطبيعة الحال- بأمثلة تاريخية وتقارير إخبارية، ولذلك فإن كاتب المقال الافتتاحي يعتمد اعتمادا كبيرا على الأرشيف الصحفي. وعلى مذكراته الخاصة، بالإضافة إلى ذاكرته القوية.

وقد كان المقال الافتتاحي في القرن الماضي يشغل الصفحة الأولى وبعض أجزاء من الصفحات الأخرى. واشتهر من كتاب المقال في بلادنا: محمد عبده، وأديب إسحاق، وعبد الله النديم، والزعيم مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، وعبد القادر حمزة، وأمين الرافعي، وإبراهيم المازني، وحسين هيكل وغيرهم من أساطين الفكر والأدب والصحافة. وفي الصحافة الإنجليزية لمعت أسماء كتاب المقال من أمثال ديفو وأديسون وستيل وجونسون وويلكيز وديكنز ولامب وبرنارد شو ووب وغيرهم. وكذلك كان كتاب المقال من الأمريكيين من ألمع رجال الفكر والسياسة والأدب ومنهم صمويل آدمز وجون آدامز وجوزيف وارن وصمويل كوبر ورالف إمرسون ووالتر لبمان وغيرهم. وقد كان المقال الافتتاحي ينهض بمهمة القيادة والزعامة، وكان وسيلة التوجيه والإرشاد والتنشئة الاجتماعية، كما كان الوسيلة المؤثرة لتكوين الرأي العام. ولا يزال المقال الافتتاحي يلعب دورا رئيسيا في الصحافة الرفيعة أو صحافة الرأي العام المستنير كصحيفة التيمس الإنجليزية والنيويورك تايمس الأمريكية والموند الفرنسية وغيرها. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا مقالات هذه الصحف قد تتجاوز في أهميتها وتأثيرها حدود البلاد التي تنشر فيها الصحيفة إلى بلاد أخرى. غير أن هذا المقال التقليدي الطويل الذي قد يصل إلى أربعة آلاف كلمة مثل مقال الشيخ علي يوسف بعنوان "حفلة الوداع"1، قد أصبح اليوم مقالا قصيرا لا يزيد -بشكل عام- عن ستمائة كلمة على الأكثر. بل إن الصحف الحديثة قد درجت على تناول موضوعات متعددة في المقال الافتتاحي الواحد الذي يتخذ شكل ثلاثة أو أربعة مقالات افتتاحية قصيرة، كما تفعل جريدة التيمس الإنجليزية وصحيفة الجمهورية المصرية. ولا شك أن تنوع الموضوعات يؤدي خدمة جليلة للصحافة الحديثة، واسعة الانتشار، والتي يختلف قراؤها اختلافا كبيرا

_ 1 المؤيد، العدد 5157 بتاريخ 7 مايو سنة 1907.

في الأذواق والأمزجة. فهناك مقالات حول الرياضة وأخرى حول الفن بالإضافة إلى السياسة والاقتصاد والشئون العامة. فكاتب المقال الافتتاحي يدرك تمام الإدراك أن صياغته للمقال ليست صياغة أدبية، ولا هي صياغة غير ملتزمة، وإنما هي صياغة ترتبط بسياسة الجريدة من ناحية، واهتمام القراء وميولهم من ناحية أخرى. لهذا نجد أن افتتاحيات الصحف الكبرى تحتوي على تعليق سياسي، وآخر اقتصادي، وثالث اجتماعي، ولا تهمل التعليق الطريف أو الخفيف الذي يقوم بالتسلية والنقد والسخرية في وقت معا. وقد درجت الصحف الأوروبية والأمريكية الكبرى -وخاصة صحافة الصفوة- على نشر الافتتاحيات في صفحة القلب أو الصفحة الوسط كما تفعل التيمس والديلي تلجراف والفيجاور، في حين تنشر الصحف الشعبية افتتاحياتها على الصفحة الأولى إلى اليسار كما تفعل الديلي ميل والديلي إكسبريس.

موضوعات المقال الافتتاحي

موضوعات المقال الافتتاحي: وقد أصبح المقال الافتتاحي في الصحف الحديثة أخباريا في جوهره، يعني أن ما فيه من رأي ومن توجيه ومن ترفيه يعتمد على الأخبار وتفسيرها واستغلالها في تأييد رأي سياسي أو آخر. ولذلك ينبغي أن يكتب المقال في حذر وعن بينة وموازنة بين المصالح المختلفة والآراء المتعارضة التي يمكن أن يمسها المقال فيرضي طائفة أو يسخط أخرى. وكثيرا ما يتعرض محرر هذا المقال لمزالق خطره على الجريدة وقرائها حتى في القضايا البراقة التي لا يتبين الكاتب لأول وهلة ما فيها من مساس لمصالح طوائف من الشعب على حساب طوائف أخرى كقضية الإنتاج وضرورة تشجيعه وزيادته. فالصحفي غير اليقظ قد يتحمس لهذه القضية كثيرا غير مدرك ما قد يكون هناك من تعارض بين مصلحة المنتجين ومصلحة المستهلكين، مع أن المستهلكين طبقة أوسع من طبقات القراء. فتشجيع الإنتاج مثلا قد يدعو إلى

فرض ضرائب جمركية واقية أو مانعة، ونعني بالواقية التي يقصد منها حماية الإنتاج المحلي، ويترتب على ذلك أن يضطر المستهلك إلى أن يشتري السلع المحلية بدلا من السلع الأجنبية، مع أنها أقل جودة وأكثر ثمنا، وبذلك يضار المستهلك، وإن كان المنتج الوطني سيستفيد بالضرورة؛ إذ سيستطيع زيادة إنتاجه وتوزيع هذا الإنتاج في الأسواق المحلية على الأقل. كما أن زيادة الإنتاج ليست هي المشكلة الاقتصادية الوحيدة التي يعانيها المجتمع، فإلى جانب الإنتاج تقوم مشكلة التوزيع ثم مشكلة التداول وأخيرا مشكلة الاستهلاك، وهذه المشاكل الأربعة: أي الإنتاج والتوزيع والتداول والاستهلاك كثيرا ما تتعارض مع مصالح القائمين بها من طبقات الشعب. فتعزيز الإنتاج مثلا قد يؤدي إلى مناصرة رأس المال ضد العمل وإلى فوز رأس المال بالنصيب الأكبر من ثمرات ذلك الإنتاج. ولذلك لا بد وأن يحسب بحساب دقيق مشكلة التوزيع، أي توزيع ثمرات الإنتاج بين العمل ورأس المال. وليست كمية الإنتاج هي المشكلة الاقتصادية الوحيدة لأن تداول الثروات يعتبر هو الآخر أساسيا في الحياة الاقتصادية. وفي النهاية تأتي مشكلة الاستهلاك وارتباطها بعمليات الإنتاج والتوزيع والتداول. ومصالح المستهلكين قد تتعارض مع مصالح المنتجين، كما قد تتفق معها، وذلك لأن إنتاجا بغير استهلاك لا يمكن أن يستمر، ولا بد أن يصاب في النهاية بالكساد أو التوقف، ولذلك فمن مصلحة الإنتاج أن تزداد القوة الشرائية للمستهلكين وأن يكثر إقبالهم على الاستهلاك ليستطيع دولاب الإنتاج الاستمرار في عمله. ومن هذا التحليل السريع للحياة الاقتصادية نتبين ما فيها من تيارات متعارضة ومصالح متضاربة لا بد للصحفي أن يفطن إلى كل منها، وأن يقدر عند كتابته الجمهور الذي يريد أن يرضيه أو أن يدافع عن مصالحه حتى يلقى ما يهدف إليه من استجابة. ومسائل السياسة الداخلية يتوقف علاجها على وضع الصحافة القانوني والفعلي ومدى ما يتمتع به من حرية أو ما تخضع له من رقابة والتزامات. فالأمر

فيها ليس أمر رأي فحسب، بل أمر إمكانيات وإباحات ومحظورات أيضا، وهي تحتاج أحيانا إلى لباقة وتحاليل أكثر مما تحتاج إلى قوة رأي أو لسلامة قصد. وقد يشقى بها الصحفيون شقاء مرا عندما يتعارض رأيهم مع الممكن وغير الممكن.. وقد يحملهم القراء أو المواطنون تبعات لا قبل لهم باحتمالها؛ إذ ينتظرون منهم ما لا تسعفهم به الممكنات من نقد أو توجيه أو معارضة أو تأييد، ولذلك لا تزدهر الكتابة السياسية إلا في ظل نظام تكفل فيه الحدود المقبولة لحرية الرأي والنقد والتوجيه. وفي مثل هذه الحالة تنمو الثقافة السياسية العامة للأمة بفضل الصحافة. وتتعارض الآراء وتتصارع لينتصر الأصلح في نهاية الأمر. وأما السياسة الخارجية فقد تعقدت هي الآخرى لكثرة التيارات والمنظمات الدولية التي تعمل في العالم. ولا غنى للصحفي عن الإلمام بتلك النظم وطريقة عملها والهيئات التابعة لها واختصاصات كل هيئة ومدى تعلق مصالح بلاده بها. لأن الكثير من مسائل السياسة الدولية أصبح مرتبطا بهذه المنظمات كهيئة الأمم المتحدة بما فيها من جمعية عامة ومجلس أمن ومجلس اقتصادي واجتماعي وما إلى ذلك من وكالات متخصصة كاليونسكو ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية وغيرها. وهناك حركة التكتلات الدولية التي تسيطر الآن على سياسة العالم والتي تشعبت في اتجاهاتها على نحو لا تكاد الصحافة تنجح في ملاحقته. ففي كل يوم تنشأ أحلاف جديدة وتكتلات مشتركة متداخلة، حتى أصبحت السياسة الدولية مختلفة المعاني. وتتبع هذه الحركة يستلزم الاطلاع على الكثير من الوثائق الدولية التي تسجل هذه المواثيق. ومن حسن الحظ أن بعض شركات الأنباء أخذت تعنى بجمع هذه الوثائق ومد الصحف بها، إلى جانب نشراتها الأخبارية، وإن كانت صفحات الجرائد والمجلات كثيرا ما تضيق عن نشر هذه الوثائق، ولكن إدارات الصحف الكبرى تحتفظ بها في محفوظاتها ليستعين بها رئيس التحرير والمحررون المختصون في كتابة مقالاتهم الإيضاحية والإرشادية في السياسة الدولية.

محرر المقال الافتتاحي

محرر المقال الافتتاحي: فكاتب المقال الافتتاحي هو ذلك الكاتب اليقظ الذي يستطيع أن ينفذ إلى مغزى الأخبار وما يحمله الخبر من المعاني والتنبوءات. وبهذه الطريقة يستطيع الأفراد -كما نستطيع الجماعات- أن تحل مشكلاتها التي تعرض لها، سواء كانت مشكلات نفسية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ويكون الفضل في ذلك راجعا إلى الصحافة أو إلى الكاتب الذي انبرى للكتابة في الوقت المناسب. ويرى الدكتور عبد اللطيف حمزة1 أن كاتب المقال الافتتاحي ليس كالأديب، وإنما هو شخص آخر لا يعبر عن آرائه الذاتية، بل يتقيد بآراء الصحيفة التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي تدافع عنه الصحيفة. ولكي يكون هذا الكاتب ممتازا في هذا اللون من ألوان التحرير، يحسن أن يكون متمتعا بصفات منها: أولا: أن يكون ذا حاسة صحفية دقيقة يذوق بها الأحداث الجارية في محيطه، والأحداث الجارية في خارج هذ المحيط. وعلى قدر حظه من هذه الحاسة دائما يكون نجاجه في كتابة المقال الافتتاحي، وخاصة في المجال السياسي. ثانيا: أن تكون له حاسة تاريخية كذلك يستطيع بها ربط الماضي بالحاضر، وبها يستطيع أيضا أن يتكهن بالمستقبل، ومن ثم كان التاريخ عنصرا مهما من عناصر ثقافة الصحفي، وذلك ما تلاحظه معاهد الصحافة في العالم. ثالثا: أن يكون ذا ثقافة عريضة، لا بأس أن تبدو في بعض مواضعها عميقة. فبهذه الثقافة -التي يعتبر التاريخ جزءا منها- يستطيع الصحفي

_ 1 الدكتور عبد اللطيف حمزة، المدخل في فن التحرير الصحفي "1956" ص218، 219.

البارع أن يقف على المعلومات التي تمكنه من الحكم الصائب والنظر الصادق والتوجيه السليم. وهنا نذكر -مع الأسف- أن أهم ما يميز الصحافة الأجنبية عن الصحافة المصرية إلى يومنا هذا إنما هو صفة التخصص. فالمقال الافتتاحي في صحيفة إنجليزية أو فرنسية إنما يكتبه رجل مختص في نوع الموضوع الذي يخوض فيه المقال الافتتاحي. فإن كان المقال اقتصاديا كتبه شخص اقتصادي، وإن كان سياسيا كتبه شخص سياسي. رابعا: وهو خلاصة ما تقدم من الصفات، ينبغي أن يكون كاتب المقال الافتتاحي ذا حاسة اجتماعية مرهقة أو قدرة على الانغماس في المجتمع بالغة، وموهبة في الحديث والإيناس والملاطفة، ونحو ذلك من الخصال التي تمكنه من الوقوف على حقيقة الرأي العام. ولم يعد كاتب المقال الافتتاحي رئيس التحرير، أو المحرر الأول كما كان الأمر في القرن الماضي والجزء الأول من هذا القرن، بل أصبح هذا المقال معبرا عن سياسة الصحيفة، كما أن اختيار الموضوع يتم في اجتماع مجلس التحرير، ثم يعهد إلى محرر متخصص أو أكثر بكتابة الافتتاحات التي قد تدور حول السياسة أو الفن أو الرياضة أو الاقتصاد أو الأدب، أو قد تكون مختارات منوعة من هذه الموضوعات جميعا.

فن العمود الصحفي

فن العمود الصحفي: نلاحظ في السنوات الأخيرة وجود الأعمدة المتعددة في الصحف الغربية عامة والصحف المصرية خاصة، وذلك لأن الصحف منذ انتشارها حتى أوائل القرن الحالي كانت تعتمد على المقال الافتتاحي، الذي كان طويلا في البداية ثم أخذ يقصر شيئا فشيئا، كما كانت موضوعات المقال الافتتاحي تدول حول موضوعات جادة في أغلب الأحيان، وإن كانت تتناول أحيانا بعض الموضوعات الطريفة غير أن الصحافة المصرية قد أخذت عن الصحافة الغريبة فن العمود الصحفي، وهو الفن الذي عرفته أوروبا وأمريكا بعد انتشار الصحافة الشعبية أو الصحافة العامة. فقد كانت أوروبا مقسمة في مجتمعاتها إلى طبقتين اجتماعيتين: طبقة عليا وطبقة دنيا تمثل عامة الشعب، وكانت الطبقة الأولى تسيطر على شئون السياسة والاقتصاد. وكذلك على فنون الأدب والمعرفة، ولم تكن للطبقة الشعبية أية إرادة. وقد رأينا أن الصحافة في بدايتها كانت تهتم بشئون الطبقة العليا، وترعى مصالحها، ولا يلقي بالا للطبقات الشعبية، وذلك في مرحلة الصحافة الرسمية، والصحافة الحزبية. حتى إذا تطور المجتمع بعد الانقلاب الصناعي، وظهور الطبقة الوسطى، ثم طبقات العمال والفلاحين الذين اعترف بقيمتهم، استلزم الأمر ظهور أفكار اجتماعية وظواهر نفسية ترمي إلى تكتل الشعب في فئات متعددة كالنقابات والهيئات والفئات. لم تعد الرابطة التي تربط المجتمع رابطة تسلط طبقة عليا على طبقة دنيا. بل ظهرت روابط متعددة ثقافية وفنية وعمالية وروحية وما إلى ذلك من روابط اجتماعية ظهرت بظهور الترابط الاجتماعي متعدد الوجوه. لذلك بدأت الصحافة تتجاوب مع الطبقات الجديدة في المجتمعات المختلفة، وقد ساعد على ذلك ظهور ما يسمى بالصحافة المستقلة، التي ابتعدت عن السياسات الحزبية، وعن التملق الرسمي للسلطة، وأخذت تعتمد على الإعلان والتوزيع كموردين أساسيين لها. وفي تلك الفترة بدأ اهتمام الناس بالرياضة والفن والأدب الشعبي وغيرها من الموضوعات، كما أخذ المجتمع يخدم المرأة، ويقدر الطفل ويعطي له مكانته الطبيعية باعتباره رجل الغد وقائد المستقبل. عندئذ تغير قراء الجريدة، وتعددت أذواقهم ومشاربهم ومستوياتهم، ولم يعد أبناء الطبقة العليا وحدهم قراء الصحف، بل أصبح الشعب بفئاته المختلفة -طبقيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا- هم قراء الصحف. وهكذا دخلت الصحافة حياة الناس، وتحولت من مجرد معلم إلى صديق، وكان لزاما عليها أن تتطور وأن تغير من أسلوب تحريرها واختيار موضوعاتها، وبدأت المقالات التي تهتم بمصالح الأفراد والجماعات المتعددة المذاهب والاتجاهات والأهداف. فنشأ فن المقال الافتتاحي القصير ثم فن العمود الذي أخذناه عن الصحافة الغربية.

فقد نشأت الأعمدة أولا في أمريكا سنة 1823، بعد استقرار الأحوال في والولايات المتحدة، فأخذت كل ولاية تعنى بمشاكلها الخاصة. وقد وجدت الأعمدة صدى لدى القراء، وعرفت في إنجلترا وفرنسا بعد ظهور الصحافة الشعبية زهيدة الثمن في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الأعمدة تتوخى الحديث إلى القارئ كصديق، وبلغ كتاب الأعمدة في أمريكا سبعة آلاف كاتب. كما ظهرت وكالات متخصصة في نشر الأعمدة مثل وكالات الأنباء. وقد بدأ هذا النوع الجديد من المؤسسات في الظهور بأمريكا منذ الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1861، وهي تزيد الآن عن مائتين وخمسين مؤسسة1. ومن أشهر هذه المؤسسات مؤسسة ماكلور2، التي كانت في أول أمرها توزع حوالي خمسة آلاف كلمة في الأسبوع، ثم لم تلبث أن بلغ ما توزعه ثلاثين ألف كلمة في الأسبوع. وهناك مؤسسة بوك الصحفية التي كانت تنشر العمود الأسبوعي للكاتب الأمريكي هنري وارد بيشر تعليقا على الأخبار. وقد رأت مؤسسة بوك أن خير وسيلة لجذب النساء لمطالعة العمود الصحفي أن تنشر عمودا خاصا بالأطفال ضمن الأعمدة التي تنشرها، وتبيع حق نشرها لجميع الصحف التي تطلب ذلك. ويؤخذ مما تقدم أن هناك مجالا إنسانيا كبيرا تسبح فيه الأعمدة الصحفية، وأن العمود الصحفي الإنساني هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم. ونحن نعلم أن الصحافة عمل اجتماعي محلي النزعة، ولكن العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب؛ لأنه يتجه دائما إلى النفس البشرية، وإلى الاهتمامات العامة.

_ 1 robert w. jones, journalism in the united states, p.349. 2 maclure.

أسلوب العمود الصحفى وموضوعاته

أسلوب العمود الصحفي وموضوعاته: ومقال العمود حديث شخصي يومي أو أسبوعي لكاتب معين يوقعه باسمه وتحت عنوان ثابت مثل "نحو النور" أو "ما قل ودل" ويمكن أن نطلق عليه اسم النبذة اليومية أو الأسبوعية أو الكلمة الشخصية. ومن الطريف أن بعض الأعمدة في الصحف الإنجليزية تحمل اسم كاتبها في العنوان مثل عمود الفيلسوف الإنجليزي "دكتور جود"1 الذي ينشر تحت عنوان يحمل اسمه بخط كبير فيجتذب الناس على أساس قلم الكاتب نفسه. والغاية الأساسية من العمود هي ربط القارئ بالكاتب وبالصحافة لإرشاده وتسليته وتثقيفه بمادة خفيفة الظل. ويعتبر العمود رأيا شخصيا وكتابته ذاتية. ولذلك نرى كاتب العمود يختلف أحيانا في وجهة نظره عن سياسة الصحيفة في موضوع ما، ولا غبار عليه في انتهاج هذه الخطة. غير أن بعض علماء الصحافة مثل ليبلنج2 يرى أن كاتب العمود لا يختلف عن كاتب المقال الافتتاحي؛ لأنه يعرض وجهة نظر الصحيفة لا وجهة نظره هو، على أن معظم الصحف، ومنها صحف كبرى في العالم تؤثر إعطاء الكاتب حرية كافية للتعبير عن رأيه الشخصي في العمود الصحفي. ولكي يكون العمود الصحفي ناجحا ومقروءا، ينبغي ألا يهمل عاملا هاما، وهو اتصال الموضوع بالقارئ، من قرب أو بعد، فإن القارئ يشعر بالموضوع الذي يتصل به أكثر من الموضوع العام الذي لا يتصل بحياته اتصالا مباشرا أو غير مباشر. وقد يتخذ العمود شكل سؤال وجواب، فيعرض الكاتب لسؤال القارئ، وقد يذكر اسمه أو يشير إليه بالأحرف الأولى، وفقا لرغبة صاحب السؤال، ثم يجيب على ذلك السؤال بما يرى، على أن اختيار كاتب العمود للأسئلة التي يوردها للقراء والإجابة عليها ينبغي أن يراعى فيها أن تكون ذات صفة عامة غالبا، أو إنسانية حتى يجد القارئ أنها ذات فائدة له، أو قد يكون العمود عرضا تحليليا لرسالة وردت إلى محرر العمود، وفي ذلك ما يجعله موضعا للنقد من القراء أنفسهم إذا لم يوفق إلى عرض تحليلي للرسالة أو الإجابة عن الأسئلة إجابة صحيحة. وكثيرا ما يتضمن الرسائل الواردة موضوعات يمكن أن تكون ذات صبغة إنسانية، ومثل هذه الموضوعات ينبغي أن تبذل لها عناية أكبر من المشاكل

_ 1 dr. joad. 2 a. j. liebling.

الخاصة لبعض القراء، والسبب في ذلك راجع إلى عامل نفسي وهو أنه كثيرا ما يحس القارئ بالشعور الذي ينتاب صاحب الرسالة إذا وقع في هذا المأزق أو الورطة التي لم يجد لها حلا، مما دعاه إلى أن يستفتي محرر العمود، وكثيرا ما يتصور القارئ نفسه مكان زميله القارئ الآخر في مشكلته فيحس بإحساسه، ولذلك وجب على كاتب العمود مراعاة ذلك كله عند كتابته حتى تكون هناك صلة أوثق بينه وبين قرائه وهو الأمر الذي تحرص عليه الصحيفة كل الحرص1. ويصور العمود شخصية الكاتب وأفكاره وأحاسيسه وتأملاته، والكاتب يعتبر القراء بمثابة أصدقائه حين يفضي إليهم بكل ما خطر على باله أو ما يجيش في صدره من أفكار دون تكلف، ولا يضع كاتب العمود نفسه موضع المعلم أو الناصح أو المؤدب أو المترفع أو المتعالي، وإنما يخاطبهم مخاطبة الزميل لزميله أو الند للند. وكاتب العمود لا يتعمق في البحث كما يفعل المتخصصون، وإنما هو يكتب على سجيته كمواطن صالح مندمج في حياة الناس، وشاعر بآمالهم وآلامهم ومحاسنهم وعيوبهم، وعارف بمقاييس الخير والشر، كما أنه عارف بموازين الحق والباطل وبمعايير القبح والجمال، يستطيع أن يتهكم ويسخر في موضع التهكم والسخرية، ولكن بعبارات غير جارحة وإن كانت لاذعة. ويمتاز العمود الصحفي بخفة الظل وسهولة الأسلوب، واستخدام الصيغ الاستفهامية والاستنكارية والتعجبية، كما أنه يمزج التعبير بالتهكم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة والاقتباسات الدالة، والنقد البناء. وبالرغم من أن العمود لا يتسع لأكثر من الكلام عن فكرة واحدة، أو خاطر واحد، فإن كاتبه مضطر كذلك -بحكم الحيز الذي خصصته الصحيفة للعمود- أن يوجز في عبارته، وألا يجنح إلى الإسهاب في هذه العبارة.

_ 1 دكتور محمود فهمي، الفن الصحفي في العالم، "1964" ص141.

فن اليوميات الصحفية

فن اليوميات الصحفية: ومقالات "اليوميات" قريبة الشبه جدا من روح فن العمود من حيث التعبير الشخصي الذي ينم عن تفكير صاحبه، وروح المذهب الذي يعتنقه، ونظرته إلى الحياة، سواء كانت روحه ساخرة أو متواضعة أو مغرورة أو متكبرة. وقد تتناول اليوميات نقدا سياسيا أو اجتماعيا، والكاتب هنا يعبر عن وجهة نظره هو لا وجهة نظر الصحيفة. ويرى بعض علماء الصحافة1 أن المحرر الصحفي ينبغي أن يترك آراءه الخاصة عند باب غرفة التحرير، ويخلعها دائما كما يخلع معطفه عند هذا الباب حتى إذا ما انتهى عمله، وعاد إلى معطفه عادت إليه آراؤه الخاصة التي يمكنه أن يحتفظ بها لنفسه. غير أن هذا الرأي لا يمكن أن ينطبق على كاتب اليوميات بصفة مطلقة، وذلك لأن اليوميات أشبه بالمقال الأدبي من حيث العناية باختيار الألفاظ، والاحتفاظ بطلاوة الأسلوب، بل لعلها أقرب إلى مقالات الاعترافات، بصفة خاصة، فهي تقدم صورا نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني. وهي تتطلب سيطرة تامة على اللغة والتعبير بالأسلوب السهل الممتنع، ولا شك أن طواعية اللغة لا تتيسر إلا للعارفين بها، والقادرين عليها. ولعل الطريقة الجاحظية في الكتابة بخصائصها المعروفة من حيث الإسهاب والاستطراد واتساع العبارة وجذب القارئ وسحبه بلطف ومهارة، والقدرة على أن تؤدي أفخم المعاني بأيسر الألفاظ، والعناية بجرس اللفظ وموسيقى العبارة -كل هذه الخصائص تنطبق على فن اليوميات الحديثة. وتقول باترسون2 في مقدمة كتابها عن فن المقال الصحفي أن قراءة المذكرات واليوميات محبوبة لأنها تدور حول قصص وأحداث تعتبر أقرب إلى الواقع منها إلى أي شيء آخر. وقد يعترف الكاتب بأخطائه وبإخفاقه في بعض مراحل حياته، ولكنه يعلل لهذا الإخفاق، فيكون الضعف البشري موضوعا للمعالجة الفنية. وقد تتعرض اليوميات لبعض فئات المجتمع ولحالات غربية من حالاته أو بعض الأوضاع الشاذة. ولا شك أن ذلك يعود بالفائدة على القارئ،

_ 1 a. j. liebling, the wayward pressman. 2 h. patterson & s. hyde, writing and selling feature anticles "1949". introduction.

ويساعده في حياته الخاصة، وسلوكه مع الأفراد والجماعات؛ لأنه يقتدي غالبا بكاتب هذا النوع من المقال في طريقة تغلبه على الصعاب. ومن مميزات "اليوميات" تنوع موضوعاتها التي تصور الحياة الإنسانية بمعناها الواسع بخيرها وشرها، وتخلب العقل البشري والوجدان الإنساني، إلى جانب أنها قد تعالج السياسة والاقتصاد والمال والشئون الاجتماعية والعائلية. ويشترط في كاتب اليوميات أن يكون معروفا للناس من قبل بمؤلفاته أو بتقاريره الصحفية أو باتصالاته أو بأحاديثه في الإذاعة والتليفزيون أو بإنتاجه الأدبي، فكاتب "اليوميات" لا بد وأن يكون معروفا لدى القراء، الذين يتهافتون على قراءة يومياته لما تتصف به من خصائص الصدق في التعبير، والقدرة على التحليل النفسي. ويلاحظ أن كاتب اليوميات الناجح لا يكون منطويا على نفسه، بل كثيرا ما يكون منبسط النفس1، غير معقد، يستطيع أن يرفع التكلف بينه وبين القارئ، ويعرض أفكاره في بساطه ويسر. وما أقرب أسلوب اليوميات الصحفية من أسلوب مقالات مونتاني الذاتية الأولى التي ظهرت مع عصر النهضة الأوروبية! وهكذا نجد أن ثمة علاقة وثيقة بين فنون المقال منذ نشأتها الأدبية الأولى حتى تطوراتها الأخيرة في مقالات اليوميات الصحفية.

_ 1 extrovert.

الباب السابع: فن الإخراج الصحفي

الباب السابع: فن الإخراج الصحفي مدخل ... الباب السابع: فن الإخراج الصحفي لا يتحقق الفن الصحفي بالتحرير وحده أو بالصور فقط ولا بهما معا، وإنما يعتبر تصميم الصفحات وطريقة عرض الموضوعات وأساليب تنظيم المواد الصحفية من أخبار ومقالات وتحقيقات وإعلانات وصور ورسوم كاريكاتير وغيرها، جزءا مكملا للفن الصحفي. ولا يرمي الإخراج الصحفي إلى أغراض جمالية بحته؛ لأنه فن تطبيقي يحقق أغراض الصحافة الناجحة من حيث الوضوح والدقة والصدق في التعبير ويسر القراءة، وجاذبية الصحيفة للقراء1. وإذا كان التحرير يمثل المعنى أو المضمون. فإن الإخراج يمثل المظهر أو الشكل، غير أن العلاقة بينهما وثيقة، فلا بد للشكل أن يعكس المضمون بأمانة وصدق وجاذبية. ويهدف الإخراج الصحفي إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية هي: الارتفاع بالانقرائية، وهي قابلية الصحافة لكي تكون مقروءة في يسر وسهولة دون أي عائق، وعرض الموضوعات المختلفة بطريقة تتفق مع أهميتها سواء بالنسة لحجمها أو عناوينها أو ترتيبها في أجزاء الصفحة الواحدة، وكذلك تصميم الصفحات بأساليب جذابة ومشوقة، ومحققة للمعاني المستهدفة، على أن يتم ذلك كله بطريقة مدروسة تخلع على الصحيفة سمات محددة تكون شخصيتها، وتميز

_ 1 stanley morison, the english newspaper "1932" p.319.

ملامحها، فيعرفها القارئ من أول وهلة، ويكون معها ما يشبه الصداقة والألفة، حتى إنه يؤثرها على غيرها، ولا يرضى عنها بديلا. فالحروف والأنماط "الكليشيهات" هي العناصر الأولية أو المواد الطباعية التي يستخدمها المخرج الصحفي -أو سكرتير التحرير الفني- لتكوين صفحات جريدته أو مجلته. فإذا جاز لنا أن نشبه خطوات الإنتاج بإحضار مواد البناء كالطوب والأحجار والحديد والبلاط وغيرها، كان الإنتاج الصحفي الأول هو إعداد الحروف والصور والرسوم والإعلانات والموضوعات. ثم يقوم المخرج الصحفي بالإشراف على عملية بناء الصحيفة أو إخراجها وفقا لخطة يضعها مقدمة -وفقا لأسس فنية وعلمية- كما يضع المهندس الإنشائي والمهندس المعماري خطة البناء قبل تشييده. وقديما كانت عملية الإخراج مماثلة تماما للنظم المتبعة في إخراج الكتب، بل إن الصحف نفسها كانت تسمى كتب الأخبار1 وكان يطلق على الصحفي نفسه اسم المؤلف2، وظلت فكرة الناس عن الصحيفة مماثلة لفكرتهم عن الكتاب، فلم يكن غريبا أن تظهر الصحف بمظهر الكتب من حيث الإخراج والتبويب وطريقة الطبع وأسلوب الكتابة والتحرير وغير ذلك. فقد وجدنا مثلا أن رئيس التحرير كان يوقع باسمه في ذيل العمود الأخير من الصحيفة مثل أحمد عبد الرحيم أو عبد الكريم سلمان في الوقائع المصرية، وعبد الله النديم في التنكيت والتبكيت والطائف والأستاذ. وكان طبيعيا أن ترتبط فكرة الإخراج الصحفي بطريقة إخراج أقدس الكتب وأحبها إلى المخرج الصحفي ألا وهو القرآن الكريم. فإذا أراد الطابع أن يتأنق، أخرج الصحيفة في إطارات مزخرفة زخرفة إسلامية كالتي تستعمل في طباعة المصحف الشريف، كما يتضح من إخراج بعض أعداد الوقائع المصرية3.

_ 1 NEWSBOOKS. 2 AUTHOR. 3 العدد 627 من الوقائع المصرية.

وليس أدل على التمثل بين مفهوم الصحيفة ومفهوم الكتاب من أن بعض الصحف والمجلات مثل الأستاذ، والتنكيت والتبكيت، والقطر المصري "التي كان يصدرها أحمد حلمي" وغيرها كانت تتسلسل أرقام صفحاتها من نهاية آخر صفحات العدد إلى بداية العدد التالي، على اعتبار أنها تكون في مجموعها كتابا واحدا متصلا. فلم يكن غريبا إذن أن يكون إخراج هذه الصحف الأولى مماثلا تماما لإخراج الكتب من حيث التبويب ونظام الأعمدة والصفحة الأولى أو الغلاف. وقد دأب المخرج الصحفي على وضع محتويات الصحيفة داخل إطار أسود أن نصف أسود أو ثلث وثلثين أو مزخرف أو مزدوج. وكان المحرر يستعمل عبارات للتقديم أو الافتتاح كالتي تستعمل في الكتب تماما، فهو يبدأ باسم الله الرحمن الرحيم أو بكلمة "تمهيد" أو "مقدمة" أو "استفتاح"1 غيرها. وكانت هذه الصحف التي صدرت في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين تستخدم الحروف الكبيرة في الطباعة؛ إذ يتراوح حجم الحرف بين ستة عشر وأربعة وعشرين بنطا لصلب المادة الصحفية، وستة وثلاثين بنطا للعنوان. ويتضح من ذلك مرة أخرى أن هذه الحروف هي التي تستعمل أيضا في طباعة الكتب. ولم يكن هناك أي تنوع في أحجام الحروف كالذي نشاهده في الصحافة الحديثة، وكانت الموضوعات ترتب ترتيبا مسلسلا دون تقديم أو تأخير، وهذا هو طابع الكتب.

_ 1 انظر العدد الأول من مجموعة "المفيد" الصادرة في 5 أكتوبر سنة 1881.

مولد الإخراج الصحفي

مولد الإخراج الصحفي: والواقع أن هذا الأسلوب القديم في الأخراج كان مناسبا تماما لوظيفة الصحافة في مستهل ظهورها. وقد رأينا أن الصحافة بدأت رسمية حكومية، ثم اهتمت بالنشرات الإعلانية والاقتصادية لخدمة التجار، ثم تطورت بعد ذلك فأصبحت أدوات حزبية يستخدمها الساسة كأبواق للدعاية. وهكذا بقيت الصحافة محصورة في بيئات الطبقات الحاكمة من الساسة والتجار والخاصة من المثقفين. ولذلك لم يكن غريبا أن يظل الإخراج الصحفي وثيق الصلة بالكتاب، لا يحفل كثيرا بالعناوين، ولا يهتم بطرق استمالة القارئ واجتذابه. وذلك أن قراء الصحف -وهم قلة من المثقفين وأصحاب المصالح- كانوا يسعون إلى الصحافة سعيا، وكانت هي الأخرى تبدو في مظهر يليق بهذه الطبقات من الوقار والجد والاحتشام. وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأت الثورة الصناعية في أوروبا وأخذت تنتقل إلى شتى بقاع العالم، كما انتشرت بذور الديمقراطية ثم الأفكار الاشتراكية وما تضمنته من احترام للشعوب، واعترفت الدول بواجباتها الاجتماعية وحملت على عاتقها مهمة تثقيف الناس وتعليمهم والمحافظة على صحتهم، والارتفاع بمستواهم، وتحقيق أسباب الرفاهية لهم. فكان لا بد للصحافة أن تتأثر بهذه التيارات الجديدة، وتتوسع في وظيفتها لتخدم هذه الطبقات الناشئة، كما كانت تخدم الارستقراطية والطبقات الوسطى من قبل. وهكذا ولدت الصحافة الشعبية لكي تساير العصر الجديد، وتتوجه إلى الكتل الشعبية التي تعد بالملايين. فرأينا في أمريكا -مثلا- صحفا جديدة زهيدة الثمن كصحيفة نيويورك صن1 وغيرها من الصحف التي بدأت في الظهور بعد سنة 1830 واهتمت بالأخبار الخفيفة والحوادث الطريفة إلى جانب عنايتها بالنواحي السياسية والتجارية والاقتصادية الجادة. وحدث في بريطانيا نفس الشيء بعد إلغاء الضرائب على الصحف سنة 1855 فظهرت صحيفة ديلي تلجراف2 سنة 1858، وصحيفة ديلي نيوز3 سنة 1868 وصحيفة ديلي كرونكل4 سنة 1877 وغيرها كثير. وكانت كلها صحفا زهيدة الثمن تباع ببنس واحد أو بنس ونصف بنس. وفي فرنسا ظهرت صحيفة "لابريس" في سنة 1836، كما ظهرت صحيفة "لوسيكل" في نفس السنة، وهما من الصحف زهيدة الثمن أيضا.

_ 1 new york sun. 2 daily telegraph. 3 daily news. 4 daily chronicle.

وكان لا بد للصحافة الشعبية الجديدة أن تغري القراء بوسائل جديدة في الإخراج تتمشى مع مضمونها المتنوع. وقد اكتشف الصحفيون في أواخر القرن التاسع عشر أن الإخراج الصحفي القديم الذي كان يتناسب مع الموضوعات الجادة وطبقة القراء من الخاصة، لا يمكن أن يأتلف مع المضمون الأخباري المتنوع والموضوعات الخفيفة. وفي سنة 1890 بدأ أخطر انقلاب في فن الإخراج الصحفي، وكان يتجلى على وجه الخصوص في كل من صحيفة ورلد1 التي أصدرها بولتزر2 وصحيفة جورنال3 التي أصدرها هيرست4 بمدينة نيويورك. وكان من أمارات هذا الانقلاب ظهور العناوين الكبيرة المنتشرة "المانشيت" على عرض الصفحة أو على عرض بضعة أعمدة. والتوسع في نشر الصور والرسوم، والمبالغة في الأخبار المثيرة من حيث التحرير والإخراج حول الحرب الإسبانية الأمريكية، وما لبث النقاد أن أطلقوا عبارة "الصحافة الصفراء" على هذه المحاولات الجديدة في الإثارة والمبالغة والإسراف في العناوين، والابتذال في العرض الرخيص. وفي 28 يناير سنة 1904 نجحت تجربة نورثكليف الثانية عندما أصدر صحيفة ديلي ميرور5، وكانت بحق أول تطبيق لفن الإخراج الصحفي الحديث بالنسبة للصحافة الخفيفة المصورة. وحقيقة أنه كانت هناك محاولات أخرى سابقة ظهرت في كل من صحيفة "الستراتيد" لندن نيوز6، وصحيفة ويكلي جرافيك7 وصحيفة ديلي جرافيك8، ولكنها كانت جميعا نماذج تقليدية لا جديد فيها، ولم تستطع اجتذاب القراء كما اجتذبتهم صحيفة ديلي ميرور. وظلت طريقة نورثكليف هي الطابع لعام لفن الإخراج الصحفي حتى سنة 1933. وفي هذه السنة تولى آثر كرستيانسن9 رئاسة تحرير صحيفة

_ 1 world. 2 pulitzer. 3 journal. 4 hearst. 5 daily mirror. 6 itlustrated london news. 7 weekly graphic. 8 daily graphic. 9 arthur christiansen.

ديلي إكسبريس1، فرأي بثاقب فكره وعظيم عبقريته أن طريقة نورثكليف مقيدة بنظام الأعمدة، وأنها بذلك تكبل نفسها وتحد من حرية المخرج الصحفي في العرض. ولأول مرة في تاريخ فن الإخراج الصحفي نجد أن كريستيانسن كان ينظر إلى الصفحة على أنها لوحة بيضاء يعرض عليها من المواد الصحفية ما يشاء دون التقيد بالأعمدة. وهكذا تحرر فن الإخراج الصحفي من أغلال الأعمدة، وأصبح المجال متسعا أمام المخرج والمصور والفنان لإخراج الصحيفة بصورة جذابة، تغري القارئ بشرائها واقتنائها. ثم تطور أسلوب الإخراج الأفقي بعد ذلك تطورا كبيرا يختلف تمام الاختلاف عن الأسلوب العمودي التقليدي، وطبق تطبيقا مبتكرا في الصحف النصفية2 التي أخذت تنتشر انتشارا كبيرا في أوروبا وأمريكا وغيرها.

_ 1 daily express. 2 tabloid.

شكل الصحيفة المصرية واخراجها

شكل الصحيفة المصرية وإخراجها: وقد تطور الصحفي مصر تطورا كبيرا منذ نشأة الصحافة حتى الآن. فكانت الوقائع المصرية -مثلا- في بدء صدورها لا تحتوي إلا على عمودين فقط في صفحتها الأولى، وكانت تصدر في الحجم النصفي، وتخلو من العناوين خلوا تاما، فإذا نشر خبر من الأخبار فإنه يسرد سردا كالقصة أو المقامة في أسلوب مسجوع بلا عنوان. وهذا مثل من أخبار الصفحة الأولى بالوقائع المصرية: "قد ذكر في طي ما نشر من صحائف الوقائع المصرية، المنمرة فيما تقدم ينمرة ستمائة وأربعة، أن حضرة أفندينا العظيم الجاه، بلغه الله تعالى ما يترجاه، قد حل بالأقاليم البحرية ركابه العالي، وشرفها ستة وخمسين يوما على التوالي، وأعطى أهلها إعانة اثنين وأربعين ألف كيس عدا، وقواهم بالأدوات اللازمة لتكثير الزراعات، وغمرهم بعض مكارمه الجاري، حتى عمروا جميع الصحاري ... ".

"ولما حان توريد أصناف المزروعات من ذلك الموسم، التي هي عبارة عن القطن والأرز والسمسم، وكان قد آن الوقت الذي يتوجه فيه جنابه إلى أقاليم الوجه المذكور، لترتيب المواد الشتوية وغيرها من سائر الأمور، حرك من الإسكندرية ركاب جواده السمند، صبيحة يوم الخميس التاسع عشر من رجب الفرد، أحد شهور السنة العظيمة الميمنة، وسار على رجع السرعة، حتى نزل يقصر حضرة محرم بيك الكائن بشاطيء الترعة، وبعد أن جلس فيه جلسة خفيفة، انتقل منه إلى قنحته الشريفة، وما زال سائرا بعد ذلك إلى أن وصل ... وبات هناك ... ". "وحيث إن التراخي الحاصل من محيي الدين أفندي كان سببا لعزله عزل ولقب إبراهيم أغا بدلا منه في محله، ولقن المدير إليه من الوصايا". وهكذا كانت تنشر الأخبار دون ترتيب لعناصر المهمة، بل إن أهم عنصر في الخبر -وهو عزل الموظف وتعيين بدله- وقد جاء في نهاية الخبر، ويلاحظ أن السجع المتكلف هو طريقة التحرير العادية، ولم يكن يفصل بين الأخبار إلا فراغ أبيض، وحروف الطباعة كلها من نوع واحد يصل إلى بنط 24، أما العناوين فقد كانت غير موجودة بالمرة ثم أخذت تتخذ شكلا عاما غير مخصص مثل: أخبار داخلية وأخبار خارجية وأدبيات ونسائيات والأقاليم وتلغرافات عمومية. وهكذا كانت العناوين كأسماء فصول الكتب أو أبواب المؤلفات دون تخصيص للمضمون خلافا لما تفعل الصحف الحديثة حين تبرز في العنوان ملخصا دالا على الخبر أو الموضوع. ثم أخذت الصحف تبتعد تدريجيا عن إخراج الكتب عاما بعد عام، وأخذت الأعمدة تضيق وتتعدد. فكانت الأهرام مثلا تظهر في ثلاثة أعمدة عند بدء صدورها، ثم تطورت بعد ذلك وتعددت أعمدتها فأصبحت أربعة ثم خمسة سنة 1886، ثم ستة في سنة 1890، ثم سبعة في سنة 1897 حتى وصلت إلى ثمانية أعمدة، وإن كانت قد عادت مرة أخرى إلى نظام السبعة سنة 1931. ووتتجه الصحافة الحديثة إلى النمطية في شكلها وحجمها. فهناك الصحف العادية وهي ذات نمط واحد فيبلغ طولها نحو 56 سم وغرضها نحو 42 سم،

أما الصحف النصفية فيبلغ طولها نحو 42 سم وعرضها نحو 28 سم. وهناك صحف يتوسط حجمها بين الحجم العادي والحجم النصفي مثل صحيفة "لوموند"1 الفرنسية. وقد أصبح عدد الأعمدة في الصحيفة العادية ثمانية أما في الصحيفة النصفية فيبلغ عدد الأعمدة خمسة، ولكن الصحافة النصفية تتحرر كثيرا في إخراجها وفي عدد أعمدتها، وفي استخدام الصور والعناوين. ويذهب البعض إلى أن الحجم النصفي للصحيفة قد جاء نتيجة لحاجة سكان المدن وإلى قراءة الصحف في السيارات العامة ومركبات الترام عند الذهاب إلى أعمالهم أو العودة منها، مما يتطلب حجما أصغر في هذه المواصلات المزدحمة، ولكن لا شك أن الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 ثم الحرب العالمية الثانية سنة 1939، مع هبوط عدد الإعلانات، وعدم وتوفر الورق وغلاء أسعاره، وقلة عدد الأيدي العاملة بسبب التجنيد كانت كلها عوامل هامة لانتشار الصحافة النصفية أو صحافة التابلويد2، التي كانت قد بدأت في الظهور في لندن سنة 1904 على يد نورثكليف في صحيفة الديلي ميرور، كما ظهرت في أمريكا في صيف سنة 1919 بمدينة نيويورك، وذلك بصدور صحيفة ديلي نيوز النصفية. وكما توحدت أحجام الصحف وأشكالها، توحدت أيضا مساحات الأعمدة، وهي الوحدات المكونة للصحيفة، فأصبح اتساع العمود ثابتا بمقدار 11.5 كور تقريبا. ويرجع ذلك إلى تعميم أنواع الآلات المستخدمة في الطباعة وقطع الغيار، وأنواع الورق المصنوع آليا أما بطريقة الطحن الميكانيكي أو المعالجة الكيميائية. وفي أوروبا وأمريكا ظهرت شركات توزع مقالات وموضوعات وتحقيقات مصورة ثابتة بالنسبة لعدد كبير من الصحف، وخاصة الصحف الإقليمية، كما كانت وكالات الإعلان تفعل نفس الشيء بالنسبة للإعلانات الموحدة التي توزع بشكل ثابت على عدد كبير من الصحف، فضلا عن توزيع مواد صحفية بشكل صفحات جاهزة مضغوطة على الصفحة الكرتونية

_ 1 le monde ويسمى هذا الحجم battard. 2 Tabloid.

"الفلان"1 التي تعد للصب والطبع فورا. وهكذا دخل الفن الصحفي في طور الإنتاج الضخم المموحد، شأنه شأن الإنتاج الاقتصادي في معظم الشركات الكبرى. وقد كانت الصحف العربية الصادرة في العصر العثماني كالوقائع المصرية والزوراء العراقية وغيرهما نصفية الحجم، ولكن ذلك لم يكن سوى مظهر من مظاهر السذاجة في الإخراج، ثم جاءت الصحف الشعبية مقلدة لهذا الحجم النصفي في بادئ الأمر، وأخذت تتطور بعد ذلك حتى وصلت إلى الحجم العادي. وهناك بعض الصحف النصفية التي صدرت في فترة ما بين الحربين العالميتين مثل "السياسة الأسبوعية" التي ظهرت سنة 1926، و"الصرخة" الصادرة سنة 1933 عن حزب مصر الفتاة، الذي أصدر أيضا "الضياء" و"الثغر" و"مصر الفتاة" -وكلها صحف نصفية. وهناك أيضا "آخر لحظة" التي كانت ملحقا لمجلة آخر ساعة، وكانت ذات حجم نصفي منذ ظهورها سنة 1949 ثم استقلت عن آخر ساعة وكانت تصدر مرتين فثلاث أسبوعيا. ويبدو أن الأحزاب السياسية قد اختارت هذا الحجم النصفي. فظهرت "الاشتراكية" عن حزب مصر الفتاة الذي تحول إلى الحزب الاشتراكي، و"اللواء الجديد" عن الحزب الوطني سنة 1951، و"الدعوة" عن الإخوان المسلمين، ويلاحظ أن الصحف الجامعية كانت تفضل هذا الحجم النصفي أيضا مثل صحيفة "صوت الجامعة" التي أصدرها قسم الصحافة بجامعة القاهرة سنة 1956 وكتب مقالها الافتتاحي الأول الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأخذت الكليات الجامعية الأخرى تقلد قسم الصحافة في نفس الاتجاه إلى الحجم النصفي. ومن الطريف أن بعض الصحف قد بالغ في كبر الحجم في وقت رخص فيه الورق، كصحيفة الأهرام التي بلغ طول صفحتها 70 سم وعرضها 52 سم، وذلك سنة 1897. وذهبت بعض الصحف الأجنبية إلى حد المبالغة في الحجم مثل صحيفة "جورنال أوف كومرس"2 الأمريكية التي كانت تصدر سنة 1853 بمدينة نيويورك، وقد بلغ طول صفحاتها 125 سم وعرضها 87.5 سم، واستحقت هذه الصحيفة وأمثالها أن يطلق عليها اسم صحافة البطاطين3. وقد وصل عدد الأعمدة في هذه الصحف إلى أكثر من أحد عشر عمودا.

_ 1 dry mat. flong. 2 journal of commerce. 3 blanket lewspapers. see: wolsely & campbell, exploring journalism "1945" p.8.

فن اخراج العناوين

فن إخراج العناوين: وقد رأينا أن الصحف الأولى لم تكن تستخدم العناوين إلا قليلا، كما كانت العناوين عامة وصغيرة على عمود واحد أو عمودين. غير أن تطور الصحافة نحو الشعبية والبساطة وسعة الانتشار جعل العناوين سمة ضرورية للصحافة الحديثة التي تعمل على اجتذاب القارئ وتشويقه وتثقيفه وإعلامه. فلم يعد العنوان صغيرا عاما بل أصبح عنوانا كبير الحجم موجز العبارة دال المعنى. وقد كانت العناوين قديما تجمع من ذات حروف المتن مع إظهارها بقوسين، أو جمعها بحروف أكبر قليلا من حروف المتن لإبرازها. أما الصحافة الحديثة فقد أخذت تتفنن في أشكال العناوين، وطرز حروفها، وكبر حجمها، وتنوع ألوانها، بل وتعدد أسطرها؛ إذ أصبح للموضوع الكبير عدة عناوين رئيسية قبل المقدمة، وهذا فضلا عن العناوين الفاصلة بين الفقرات. وعندما تتعدد أسطر العنوان الرئيسي، فإن المخرج الصحفي يهتم بتنويع الشكل وطراز الحروف أو الخط. فقد تتوالى أسطر العنوان لتشكل في مجموعها مثلثا قاعدته هي السطر الأعلى ومركزه السطر الثالث أو الرابع من العنوان. وقد يتخذ العنوان شكل المستطيل فتتابع الأسطر مع التنوع في الحجم واللون وزيادة السطر الأول فقط في الطول زيادة إلى اليمين أو اليسار من أجل لفت الأنظار. وهناك ترتيب أخر

للعناوين يجعلها تشبه درج السلم لأن كل سطر يدخل قليلا داخل الصفحة حتى تبدو النهايات والبدايات بشكل متدرج وقد تكون أسطر العنوان الرئيسي موحدة في بدايتها أو في نهايتها، والمرجع في ذلك كله إلى ذوق المخرج الصحفي وخبرته ونوع الصحيفة وطبيعة القراء. ولا شك أن أشكال العناوين وطرز حروفها وطريقة إخراجها تسهم إسهاما كبيرا في تحديد شخصية الصحيفة المتميزة. ولذلك دأبت الصحف الكبرى على قوائم ثابتة بمثابة "كتالوجات" لأنواع العناوين وأشكالها وطرز حروفها، ولا يسمح للمخرج الصحفي بالتصرف إلا في حدودها، محافظة على شخصية الصحيفة. ولكل صحيفة سياستها الإخراجية الخاصة التي تقوم على أساسها عملية التصحيف أو توزيع المواد المختلفة على الصفحات. فالصفحة الأولى من جريدة التيمس الإنجليزية كانت تحتوي على الإعلانات الصغيرة بدون صور، حتى حررها اللورد طومسون من هذا التقليد المحافظ الموغل في القدم. وقديما كانت الصحف الإنجليزية تتبع نفس الطريقة فلا تنشر في الصفحتين الأولى والأخيرة إلا الإعلانات. ولعل السر في ذلك أن الطباعة كانت بدائية عند ظهورها، ولذلك كانت الإعلانات تطبع أولا في الصفحة الأولى والصفحة الرابعة المقابلة لها لأنهما تتعرضان للاتساخ بالخبر، وتخصص الصفحتان الداخليتان النظيفتان للأخبار والمقالات. ورغم تقدم الطباعة، ظلت الصحف المحافظة متمسكة بتقاليدها القديمة محافظة على شخصيتها. وقد اتضح للورد طومسون -كما اتضح لغيره من أصحاب الصحف- أن العناوين الرئيسية والفرعية أساسية في الصفحة الأولى، بل والصفحات الداخلية أيضا، لجذب أنظار القراء وإثارة رغبتهم في الشراء، وإغرائهم بالاطلاع على أهم الأخبار والموضوعات. وقد وجد خبراء الصحافة أن العنوان الجيد هو الذي يدل على الخبر كله أو على الأقل يصور أبرز أجزائه، كما أنه يرد على أكثر الاستفهامات الستة التي سبقت الإشارة إليها في باب الخبر الصحفي. ويكتب العنوان بأسلوب شبه برقى بعد حذف الكلمات الزائدة وحروف الجر والعطف ما أمكن

ذلك، بشرط أن يؤلف العنوان جملة تامة. والعنوان الصحفي يمتاز بالقوة والجاذبية والوضوح والتركيز والإبانة، مع الحذر من المبالغة أو عدم مطابقة العنوان لمتن الخبر أو الموضوع. ويراعي المخرج الصحفي ضرورة التناسب بين طول العنوان وعدد كلماته وخاصة عند تعدد الأسطر، فلا يكون أحد الأسطر مزدحما بالكلمات والآخر قليل العدد منها. ولو أن الصحافة تستخدم أحيانا ألفاظا أشبه ما تكون بالصياح أو الصراخ مثل: الحرب أو المعركة أو الدم أو الانتقام وكثيرا ما تكون هذه العناوين باللون الأحمر على عرض الصفحة الأولى. وتدأب الصحف المثيرة أحيانا على نشر عناوين غامضة تصلح لكل شيء مثل: أسرار الموقف السياسي، وأسباب التدهور الاقتصادي. ولكن الحقيقة أن العنوان الجيد هو العنوان الدال المكون من جمل تامة الفائدة، مع مراعاة عدم التكرار في المعلومات الواردة في العنوان؛ لأن كل سطر، بل وكل كلمة ينبغي أن تكون ذات وظيفة أساسية، وإلا فإنه يجب الاستغناء عنها. ويتجنب الصحفيون العناوين الغامضة أو المضطربة؛ لأن الوضوح من أهم سمات الفن الصحفي، والتباس المعاني أخطر ما ينزلق إليه هذا الفن. وغني عن البيان أو الموضوع الجاد يتطلب عنوانا جادا، في حين أن الموضوع الخفيف أو الطريف يتطلب عنوانا خفيفا طريفا. وينأى الصحفي بطبيعته عن استخدام اللغة العامية في العناوين، وإن كان لا يمانع في استخدام لفظ أو عدة ألفاظ عامية في المتن إذا تطلب الموضوع ذلك، وخاصة عند الاقتباس أو الحوار. وكلما كان العنوان موجزا، كان أفضل من العنوان الطويل الممل. ويراعي المخرج الصحفي عدم قطع كلمات السطر في العنوان واستكمالها في السطر التالي؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغموض واللبس أحيانا.

العنوان المنتشر "المانشيت"

العنوان المنتشر "المانشيت": ويعتبر العنوان المنتشر على عرض الصفحة أو "المانشيت" من معالم الصحافة الحديثة لجذب الأنظار وللتأكيد والإبراز. وقد ظهر هذا النوع منل العناوين لأول مرة في تلك الصحافة الأمريكية المثيرة المسماة "بالصحافة الصفراء" والتي انتشرت في أمريكا بين سنة 1892 وسنة 1914، وهي الفترة التي شهدت الحرب الإسبانية، وارتفاع توزيع الصحف ارتفاعا هائلا، وتحقيق الأرباح، واستثمار رءوس الأموال الكبيرة. وقد لعبت هذه الصحافة الصفراء بعناوينها الضخمة الحمراء المثيرة، والإسراف في استخدام الصور الزائفة، والمبالغة في العناوين الخادعة على رأس موضوعات مثيرة مضللة، فضلا عن تملق الجماهير تملقا رخيصا. ولا شك أن هذه الصحافة قد أثرت أبلغ تأثير على فن الإخراج الصحفي، كما اهتمت بأخبار الرياضة، وأبرزت فن العمود الصحفي، وأصدرت الملاحق الملونة، والصور القصصية "الكارتون"، وترتبط الصحافة الصفراء بأسماء "راندورلف هيرست"1 و"سكريبس"2 و"ماكري"3 وغيرهم4. وقد كانت أحداث الحربين العالميتين فيما بعد عاملا هاما في انتشار العناوين الضخمة بطريقة مثيرة في معظم بقاع العالم، غير أن تكرار العنوان المنتشر بصورة مستمرة، بسبب وبلا سبب، قد أفقده قيمته الحقيقية في الإثارة وجذب الأنظار. ومن المؤكد أن الفن الصحفي قد فقد كثيرا من مرونته نتيجة لثبات العنوان المنتشر، ولذلك فإن الاتجاه الحديث يرمي إلى الإقلال منه، وعدم استخدامه إلا عند الضرورة الحقيقة التي تستلزمه. وليست العبرة في منع هذا العنوان لذاته، وإنما العبرة في مطابقة العنوان المنتشر لمقتضى ظروف الأخبار والمعلومات. فقد كانت صحافتنا المصرية مثلا أثناء العدوان الثلاثي الغادر على مصر سنة 1956 تنشر عناوين جريئة كبيرة متعددة على عرض الصفحة، بل لقد تعددت العناوين حتى ملأت الصفحة الأولى تقريبا، وكان ذلك مقبولا نظرا للظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها البلاد، أما أن تنشر هذه العناوين بلا سبب وفي الظروف العادية فليس له ما يبرره.

_ 1 RANDOLPH HEARST. 2 SCRIPPS. 3 MCRAE. 4 F. L. MOTT, AMERICAN JOURNALISM "1953" PP.411-514.

ولقد عرفت صحافتنا المصرية العنوان المنتشر أول ما عرفته بطريقة طبيعية كانت تتطلب نشره فعلا، وذلك يوم 11 فبراير سنة 1908 بمناسبة هزت وجدان الشعب المصري من أعماقه، وهي وفاة زعيم من أعز زعمائه وهو مصطفى كامل. فكان طبيعيا أن تنشر اللواء على عرض صفحتها الأولى نبأ رحيل الزعيم بقولها "مصاب مصر والشرق بفقد المغفور له مصصفى كامل باشا صاحب اللواء". ولا شك أن هذا العنوان له دلالته وأهميته مما يبرر نشره على عرض الصفحة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للصحف الحديثة التي انزلقت في تيار الصحافة الصفراء، وأخذت تبالغ في استخدام العناوين الضخمة ذات اللون الأحمر، فأفقدت هذا العنوان قيمته، وأصابت القراء بنوع من التبلد وعدم الاحتفال بقيمة العنوان. وقد أتى على صحافتنا وقت كانت تتبارى فيه لإبراز العناوين الضخمة التي تحتشد بالتفاصيل، فانحرفت بذلك عن أصول الفن الصحفي والذوق السليم. غير أن المسئولين في صحفنا سرعان ما فطنوا إلى عيوب هذا الإسراف وتلك المبالغة وأخذوا يعملون على الحد منها، حتى تعود إلى العناوين قيمتها وفاعليتها. وما لبث هذا السبق المحموم نحو اللون الأحمر والعناوين الضخمة أن انقلب إلى سباق نحو الهدوء والاتزان والتعقل. وقد كانت صحيفة الجمهورية في مقدمة تلك الصحف التي حاولت سنة 1958 معالجة الأمر بالاستغناء عن العناوين الحمراء العريضة، واستبدلت بها عناوين سوداء معتدلة. وحذت الأهرام حذوها سنة 1961، ومضت في هذا السبيل بنجاح، في حين أن الجمهورية نفسها لم تستطع مقاومة إغراء العناوين كثيرا. ويبدو أن جريدة الأهرام قد اختطت لنفسها هذه الخطة الهادئة الجديدة منذ سنة 1963، فعدلت نهائيا عن السباق المثير المحموم. وقد كان بعض العناوين المنتشرة تملأ النصف الأعلى من الصفحة الأولى تقريبا، وكان لا بد للمخرج الصحفي أن يتفنن في عرض تلك العناوين بشتى الطرق، مثل استخدام الخطوط المتنوعة من ثلث ونسخ ورقعة وديواني وكوفي وفارسي وحر، فضلا عن التنوع في المساحة واللون، حتى لا تكون العناوين على وتيرة واحدة مملة، والمخرج الصحفي في مصر يستعيض عن حروف الطباعة الكبيرة بالأنماط الخطية "الكليشيهات" التي يتأنق الخطاط في إخراجها وتنوعها، كما يلجأ إلى الألوان وخاصة اللون الأحمر، بالرغم من عيوب هذه الطريقة من حيث البطء وارتفاع التكاليف والخروج عن أصول الذوق الفني السليم.

أجناس الحروف الأفرنجية

أجناس الحروف الإفرنجية: غير أن المخرج الصحفي المصري مضطر لذلك لما يشعر به من أزمة تضايقه كثيرا، نظرا للفقر المدقع في تنوع أشكال الحروف الطباعية وأنواعها. فبينما يتمتع المخرج الصحفي في أوروبا وأمريكا بثروة طائلة من حروف الطباعة التي تتعدد أشكالها حتى تربو على الألف، وتتنوع هذه الحروف من حيث درجات السواد أو ما يسميه الطابعون بالحروف البيضاء والسوداء فتبلغ أربع درجات في حروف الطباعة الأوروبية، نجد أن المخرج العربي محصور في درجتين فقط. ثم هناك التنوع من حيث عرض الحرف ودرجة انتشاره على السطر. فإذا كانت مشكلة المخرج الصحفي في أوروبا وأمريكا هي حيرته في الاختيار من بين مئات الأشكال والألوان، فإن مشكلة المخرج الصحفي في الشرق العربي هي الفقر المدقع في تنوع أشكال الحروف وأنواعها، سواء كان ذلك بالنسبة للعناوين أو المقدمات أو صلب الموضوعات. ولن يقيل المخرج الصحفي العربي من عثرته إلا الاهتمام بإثراء حروف الطباعة العربية. وأمامنا في تراثنا العربي المجيد ألوان متعددة من الخطوط الرائعة كالرقعة والنسخ والثلث والكوفي والفارسي والديواني والمزخرف والحر وغيرها. وأن زيادة واحدة قصيرة لدار الكتب المصرية لتعطينا فكرة كاملة مقنعة عن ثراء الخط العربي بأنواعه المختلفة الجميلة، وتعدد أشكاله وقواعده. وقد اعترفت الدول الأوروبية بجمال هذا الخط فأقامت له بعض المعارض الفنية في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية. فما علينا إلا أن نختار وننقح ونلائم

بين هذا الفن الجميل والفن الطباعي التطبيقي لكي نظفر بأجمل الخطوط وأرشقها. ومخرج الصحف أو الكتب في أوروبا وأمريكا يعرف أن حروف الطباعة المتعددة المتنوعة تخدم أغراضه المختلفة؛ لأن كل نوع من الحروف يتناسب مع موضوع بعينه، فيزيد التعبير قوة وجمالا، ويلبس المضمون شكلا فصيحا مبينا. فحروف الطباعة تتدرج من الخشونة والقوة إلى الرشاقة والرقة في التعبير. والجنس الروماني القديم يمتاز بالخفة والرشاقة الزخرفية التي تجعله يتلاءم تماما مع الموضوعات النسائية، وأسرة الحروف المشهورة باسم جراموند1 على وجه الخصوص -وهي فرع من الجنس الروماني القديم- تعبر عن الأنوثة والخفة والجمال، فتستعمل بنجاح تعبيري فائق في إعلانات أزياء النساء وأدوات التجميل، وصفحات المرأة في الصحف والمجلات النسائية بوجه عام. والواقع أن حروف الطباعة تساير الأذواق المختلفة باختلاف الأمم والأزمان. وتنقسم حروف الطباعة الإفرنجية إلى خمسة أجناس رئيسية هي: الجنس القوطي القديم2 والجنس الروماني3 والجنس المائل4 والجنس الخطي والنسخ5 والجنس الفوطي الحديث6. ولكل جنس من هذه الأجناس صفاته الخاصة المميزة عن الجنس الآخر. وحروف الجنس القوطي القديم تعد أقدم أنواع حروف الطباعة جميعا، وقد استخدمها جوتنبرج في طباعة إنجيله المشهور، ويمتاز هذا النوع بزخرفته الدينية، فكان يحاكي حروف المخطوطات القديمة التي ألفها الناس قبل اختراع الطباعة، ولذلك تقبله المثقفون والمحافظون الذين نظروا إلى فن الطباعة في بدايته على أنه فن حوشي شعبي لا يليق بالسادة. وينم الحرف القوطي القديم عن العراقة والوقار والجمال، وقد فتن الطابع الإنجليزي كاكستون به، واستخدمه الطابعون في الكتب الدينية والدعوات للاحتفالات الرسمية وحفلات الزواج وحفلات تتويج الملوك والرؤساء.

_ 1 garamond. 2 text, "black type". 3 roman. 4 italic. 5 script & cursive. 6 gothic.

واشتهر الجنس الروماني في إيطاليا قبيل نهاية القرن الخامس عشر، وكان مبتدعة نيكولاس جنسون1 من رواد الطباعة الأوائل الذين قدموا للحركة الإنسانية وعصر النهضة حروفهم الجديدة التي كانت أيسر في القراءة وألطف في الشكل وأكثر جاذبية في تباين عناصرها بين الأصول الثقيلة والحروف المسننة الخفيفة التي تكون ظلالا بديعة الشكل. وقد جاء الطابع الإيطالي بودوني2 بتطوير آخر للحروف الروماني، فقوى من التباين بين الأصول والأسنان. وابتكر مانوتيوس3 الحرف المائل سنة 1501 فغير قاعدة الحروف العمودية إلى الحروف المائلة وهي تستخدم الآن لإبراز الكلمات أو تأكيد العبارات، وهكذا أصبح استخدامه مقصورا على لفت النظر والإبراز والتباين. أما الحرف الخطي والنسخ فهو يماثل خطوط النساخ في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو أقرب الخطوط جميعا إلى الخط اليدوي، ولذلك فإنه يستعمل في المطبوعات ذات الصبغة الشخصية كالدعوات إلى حفلات عيد الميلاد والزواج والحفلات الخاصة. وتستعمله الصحف في الإعلانات الخاصة بأزياء النساء والروائح العطرية ومنتجات التجميل. أما الجنس الخامس من حروف الطباعة الأوروبية وأحدثها تاريخيا فهو القوطي الحديث، الذي لا يحتوي على نهايات دقيقة مدببة، فيسمى بالحرف عديم الأسنان4. ومن مميزاته انعدام التدرج بين الطلال الخفيفة والثقيلة بعكس الحرف الروماني. ويعد الحرف القوطي الحديث انعكاسا أمينا للحضارة الحديثة في الفن والهندسة، وهي الحضارة التي تؤمن بأن الوظيفة هي التي ينبغي أن تحدد الشكل5 أو الصياغة في الفنون، ويبدو ذلك واضحا في هندسة المعمار الخاصة بالمستشفيات والمدارس والأندية والصحف. فوظيفة كل من هذه

_ 1 NICOLAS JENSON. 2 GIAMBATTISTA BODON. 3 ALDUS MANUTINS. 4 SANS - SERIF. 5 FUNCTION SHALL DETERMINE FORM.

المؤسسات تحدد الخصائص المعمارية والمميزات البنائية التي تقام على أسسها صروح الأبنية الحديثة، وحتى أجزاء البناء الواحد يتخذ كل منها شكله المنبثق من وظيفته المعمارية كدعائم حمل الأسقف وغير ذلك. وتمتاز الحروف القوطية الحديثة بالبساطة المتناهية وسهولة القراءة وجاذبية الشكل ولو أنها رتيبة. وتستخدم الصحف الشعبية هذه الحروف بكثرة، وخاصة في عناوينها المنتشرة والرئيسية، كما تستعمل في الإعلانات الضخمة والملصقات التجارية وينم هذا الجنس من الحروف عن القوة والخشونة ويمتاز من الناحية الفنية بالقدرة على المقاومة والاحتمال، ولعل مرجع ذلك إلى انعدام الأسنان الرفيعة التي تتعرض للكسر بسرعة. وقد ابتكر الطابعون والفنانون نوعا من الحروف القوطية ذات الأسنان السميكة بين سنة 1815 وسنة 1840، وأطلقوا عليه أسماء الكرنك والقاهرة وممفيس1 وغيرها من الأسماء المصرية القديمة، فكما أن التمثال الفرعوني يمتاز بالقوة والبقاء والقدرة على الخلود ومقاومة عوامل الطبيعة المختلفة، فإن هذا الحرف هو الآخر يمتاز بالصلابة ومقاومة ضغط آلات الكبس والطبع الحديثة.

_ 1 KARNAK, CAIRO, MEMPHIS.

أسر الحروف وأشكالها

أسر الحروف وأشكالها: وكما تنقسم الحروف إلى أجناس خمسة رئيسية، فإن كل جنس من هذه الأجناس يتفرع إلى فروع كثيرة تسمى بالأسر. وتندرج تحت الجنس الروماني مثلا عدة أسر من الحروف مثل: كرلون وجراموند وتشلتنهام وجودي1 وغيرها كثير. وتشترك جميع هذه الأسر في المميزات الخاصة بالجنس الروماني الذي ينتمي إليه، كالتباين بين العناصر الثقيلة والخفيفة في الخطوط، واحتوائه على أسنان دقيقة وغير ذلك. يطلق عادة على كل أسرة اسم صاحبها أو مبتكرها،

_ 1 CASLON, GARAMOND, CHELTENHAM, GOUDY.

ولكل أسرة أشكالها المختلفة وأحجامها التي تترواح بين بنط 6 وبنط 72 أو أكثر حتى بنط 144. ولكل أسرة نماذج خاصة بها تطبع في شكل قوائم ونشرات أو كتالوجات. وتنم حروف أسرة "كزلون"1 مثلا عن البساطة والوقار؛ لأنها طويلة جميلة، مفتوحة متباينة البياض والسواد، وسهلة القراءة، ومن هنا كان استعمالها لائقا بالكتب والنشرات والإعلانات الهادئة، ذات الصبغة الرفيعة. أما حروف أسرة جودي -وهي من الجنس الروماني القديم- فتمتاز بالرقة والخفة والرشاقة والجمال، ولذلك فإنها تصلح لطباعة المجلات النسائية وإعلانات الأزياء وغير ذلك من مستلزمات المرأة. وعلى العكس من هذه الحروف الرقيقة، نجد أن أسرة "بودوني"2 تمتاز بالقوة التي تظهر في شكلها الهندسي الذي ينم عن معاني الرجولة، فليس غريبا إذن أن نجد الصحف تستعمل هذه الأسرة من حروف الطباعة في الإعلان عن ملابس الرجال، وفي المناسبات التي تتناسب مع شكل هذه المجموعة من الحروف المعبرة عن القوة والثبات. ولعل أقوى حروف الطباعة تعبيرا عن القوة والخشونة إلى حد كبير، تلك الحروف القوطية الحديثة، التي تصلح للإعلانات الضخمة والملصقات التي تعلق في الشوارع والطرقات، وتستخدمها الصحف في عناوينها المنتشرة "المانشيتات"، وخاصة الصحف الشعبية والصحف النصفية "التابلويد". هناك، إذن، مئات الأنواع من الحروف الإفرنجية، التي تكفل التنوع من جهة والتعبير المناسب للموضوع من جهة أخرى. فلفظ مثل "الذهب" في إعلان أو في عنوان ينبغي أن ينم عن معاني الجمال والبريق والعظمة التي تتبعث من هذا المعدن النفيس، في حين أن كلمة "التراب" في إعلان أو عنوان خبر أو قصة، لا بد وأن نختار لها طرازا من الحروف يترجم عن معنى هذا

_ 1 CASLON. 2 BODONI.

اللفظ، وكثيرا ما يلجأ المخرج الصحفي العربي إلى فن الخط اليدوي للتعبير بالنقط الصغيرة المتقاربة عن معنى "التراب" مثلا. وباختصار يمكن القول أن المخرج الأوروبي لديه من حروف الطباعة ما يكفل له حسن التعبير بلغة طباعية ميسرة، في حين يفتقر المخرج الصحفي العربي إلى ذلك كله. أما آلات الجمع العربية فلا تحتوي إلا على حرف واحد فقط هو النسخ، كما أن الحجم نفسه محدود في الأنباط من 9 و12، وإن كانت جريدة الأهرام قد أخذت تستخدم البنط 7 في الأخبار المحلية وأنباء الأقاليم. وقد يكون المستقبل لهذا الحجم من الحروف نظرا لغلاء أسعار الورق، وارتفاع تكاليف الطباعة، وكثرة الأخبار العالمية والمحلية. وتستخدم الأنباط 16 و18 و24 في العناوين، كما يستخدم البنط 12 في المقدمة. وقد تقدمنا بفضل جهود المهتمين بالطباعة فاستطعنا أن نضيف الأسود إلى جانب الأبيض من الحروف، ولكن آلات الطباعة الأوروبية قد نوعت من أشكال حروفها تنوعا كبيرا وخاصة بالنسبة لآلتي اللينوتيب والإنترتيب1. ويبذل المسئولون عن الطباعة العربية الحديثة جهودا مشكورة لتطوير الحرف العربي، وقد ساهم مجمع اللغة العربية في ذلك بالإعلان عن مسابقات يشترك فيها الفنانون والطابعون لهذا الغرض، غير أن الصعوبة هي في التبسيط مع المحافظة على شكل اللغة الجميل. حقيقة أن بعض المهندسين -مثل نصري خطار وغيره- قد نجحوا في عمليات التبسيط واختصار عدد الحروف وتيسير القراءة، ولكن ذلك النجاح جاء على حساب الشكل والمأثوري المألوف لحروف الطباعة العربية. وهناك جهود أخرى تبذلها الصحف بالاتفاق مع شركات الطباعة العالمية لاستخدام الآلات في جمع العناوين على طريقة "لدلو"2، وقد نجحت الأهرام في ذلك، كما نجحت الصحف المصرية أيضا في اختصار حروف صندوق آلة الجمع الآلي منذ عام 1960، هذا فضلا عن استخدام العقل الإلكتروني للجمع الآلي السريع دون أخطاء وبسرعة فائقة، وهو المشروع الذي بدأت الأهرام في تطبيقه بنجاح على المجلات التي تصدرها. وربما تستخدمه مستقبلا في جمع مواد الجريدة نفسها.

_ 1 من حروف اللينوتيب: EXCELSIOR, TEXTYPE, PARAGON, OPTICON, ومن حروف الإنترتيب: CORONA REGAL, REX. 2 LUDLOW.

توزيع المواد على الصفحات

توزيع المواد على الصفحات: وقد رأينا أن الإخراج الصحفي قد تطور من مفهومه القديم للصحيفة ككتاب إلى المفهوم الجديد الذي يعتبر الصحافة فنا مستقلا قائما بنفسه له قواعده وأصوله. فبعد أن تحرر فن الإخراج الصحفي من قيود الأعمدة وأغلال الخطوط الرأسية، أصبحت عمليات الإخراج من العمليات الفنية التي تعتمد على الدراسات المختلفة في الفن التشكيلي وعلم النفس لدراسة نفسية القراء، وعلم وظائف الأعضاء لدراسة عملية الإبصار وعوائق القراءة. فكأن الحرية الجديدة التي أحرزها فن الإخراج الصحفي -شأن كل حرية جديدة- كانت تنطوي على مسئوليات خطيرة. فقديما كان المخرج الصحفي يملأ الأعمدة المحددة. أما الآن فقد أصبحت الصفحة الخالية كلوحة الفنان تتطلب دراية ومرانا وذوقا لكي توزع عليها المواد توزيعا فنيا جذابا. وإذا كانت الصحف القديمة قد دأبت على تخصيص الصفحة الأولى للمقالات والصفحة الأخيرة للإعلانات والصفحات الداخلية للأخبار المختلفة، فإن قليلا من الصحف الحديثة تتبع هذا الأسلوب، فالصفحة الأولى قد أصبحت بمثابة الواجهة أو اللافتة التي تجذب الأنظار، وتحاول الصحف الحديثة نشر أهم أخبارها في هذه الصفحة، ولا ترى الصحف الشعبية حرجا في تقديم الأخبار الخفيفة والطريفة في الصفحة الأولى مدعمة بالصور الخلابة والعناوين الجذابة. والواقع أن توزيع المواد على الصفحات المختلفة يعبر تعبيرا صادقا عن شخصية الصحيفة وطابعها العام. فلا بأس عند بعض الصحف، مثلا، من نشر أخبار الجريمة وأنباء الحب والزواج والطلاق وصور الممثلات في الصفحة

الأولى، وخاصة تلك الصحف النصفية الشعبية المثيرة كصحيفة "بلت" الألمانية وصحيفة "ديلي ميرور" الإنجليزية وصحيفة "ديلي نيوز" الأمريكية، وهي صحف توزع بالملايين. ولكن صحفا أخرى تفضل أن تنشر في هذه الصفحة أهم الأخبار ذات المغزى والتي تترتب علهيا نتائج خطيرة كأنباء السياسة الدولية والتطورات الاقتصادية والاختراعات العلمية والأخبار الداخلية الهامة وما شاكل ذلك. ويراعي المخرج الصحفي دائما أن الصحيفة يقرؤها أفراد الأسرة جميعا فلا يضع الأخبار التي يهتم بها النساء في نفس الصفحة التي تحتوي على أخبار تهم الرجال. فباب الرياضة وصفحة المرأة لا يقعان في مكان واحد، حتى إذا أخد الوالد أو أحد الأبناء ورقة من الصحيفة ليقرأ موضوعا سياسيا أو رياضيا، فإن الأم أو الابنة تستطيع أن تقرأ القصة أو الأخبار الاجتماعية أو صفحة المرأة في ورقة أخرى، ويحاول المخرج الصحفي أن يحقق لهم ذلك. ويلاحظ أيضا أن الصحف الرفيعة تنشر في صفحاتها الأولى أخبارا طويلة جادة؛ لأن قراءها متجانسون وهم غالبا من المثقفين الذين لهم جلد على قراءة الأخبار الجادة الطويلة، أما الصحف الشعبية التي تحاول اجتذاب أنصاف المتعلمين وغيرهم، فإنها تعرض الأخبار القصيرة المشوقة في الصفحة الأولى، حتى لا يضيق بها القارئ أو يمل فينصرف عنها إلى غيرها. وتعمد الصحافة الشعبية إلى الإكثار من الصور والرسوم تشويقا للقارئ، بينما نقل هذه الصور في الصحف الرفيعة. ويمكن القول بوجه عام أن الصحافة الشعبية الحديثة تحاول عرض أكثر عدد ممكن من أطراف الأخبار وأغربها في الصفحة الأولى، مع إحالة القارئ إلى الصفحات الداخلية لقراءة البقايا. وعندما يعد سكرتير التحرير الفني خطة الإخراج في الصحافة الحديثة نجد أنه يدخل في اعتباره عدة عوامل متشابكة أهمها عقلية القارئ ونفسيته، وسلوكه البصري أثناء القراءة، بالإضافة إلى تكوين الصفحات تكوينا فنيا جميلا يوضح الأخبار ويجذب الأقطار. فمما لا شك فيه أن للصحيفة مقوماتها الاقتصادية التي لا بد من العناية بها حتى تتمكن من أداء رسالتها الإعلامية والثقافية والاجتماعية. وما دامت هناك عدة صحف تتنافس لكسب ود القارئ واجتذابه بشتى السبل، فلا بد من العناية بكافة الدراسات والأساليب الفنية التي تؤدي إلى جمال العرض، وسهولة القراءة، وفن التنسيق، وعرض الأخبار والمعلومات بترتيب منطقي وفقا لأهميتها النسبية، مع مراعاة سياسة الصحيفة وميول القراء، وذلك فضلا عن المحافظة على شخصية الصحيفة وجاذبيتها.

المخرج الصحفي وواجباته

المخرج الصحفي وواجباته: ولذلك فإن المخرج لم يعد مجرد طابع متمرس على فن الطباعة، وإنما هو شخص مثقف ثقافة عميقة ومتنوعة في فنون العرض والتشكيل وعلوم النفس والاجتماع ووظائف الأعضاء جميعا. وقد رأينا أن المخرج الصحفي لا بد وأن يعرف مضمون الأخبار والمقالات والتحقيقات والموضوعات المختلفة ويختار لها ما يناسبها من الشكل الطباعي والإخراجي المناسب لها. ومع أن رئيس التحرير هو المسئول الأول عن كل ما يصدر في صحيفته، فإنه لا يستطيع أن يفعل كل شيء بمفرده، وخاصة بعد أن أصبح الفن الصحفي متشعب الفروع ويتطلب تخصصا في كل فرع، ولذلك فإن مهمة الإخراج توكل عادة إلى أحد سكرتيري التحرير المتخصصين في هذه الفن. والمخرج الصحفي هو حلقة الاتصال بين أقسام التحرير من جهة وأقسام الطباعة من جهة أخرى، وعليه أن يتذوق الأخبار حتى يضع كل خبر في مكانه اللائق به وإخراجه بالطريقة التي تناسبه. وما دام النشاط الصحفي في جوهره سباقا مع الزمن؛ لأن القطارات والطائرات لا يمكن أن تنتظر الصحف المتأخرة، فلا بد أن يتقن المخرج الصحفي فن الإدارة حتى يتم كل شيء في موعده المحدد تماما، ومع حرصه الشديد على إعطاء القارئ أكبر قدر من الأخبار والمعلومات، فإنه لا ينسى أن يضعها في إطار جميل جذاب، يغري الناس بالقراءة واليسيرة السهلة، والفهم القائم على التبسيط المدروس.

وإذا كانت الصحف الكبيرة تخصص مخرجا صحفيا للإشراف على تحويل الأصول الخطية إلى مواد طباعية ثم عرضها وتنسيقها وفقا للأصول الفنية المرعية، فإن الصحف الصغيرة تسند هذه المهمة إلى سكرتير التحرير المركزي، الذي يقوم بمراجعة الأصول وإخراجها. وفي بعض الصحف، نجد أن المحرر يتعاون مع المخرج الصحفي في تصميم الصفحات، والإشراف على تنفيذها، فصفحة المرأة، وصفحة الجامعات، والصفحة الرياضية، وصفحة الأطفال، وصفحة الفنون، وصفحة الأدب، وغيرها من صفحات الأخبار السياسية الخارجية والداخلية والاقتصادية وغيرها، يشترك في إخراجها المحررون المتخصصون على اعتبار أنهم يعاونون في اختيار الشكل الأنسب للتعبير عن المضمون. وعندما ترد الأصول والصور والرسوم إلى مكتب المخرج الصحفي يقوم بتوزيعها على أقسام الجمع والحفر لصناعة أسطر الحروف والأنماط "الكليشيهات"، فيتولى رئيس أقسام الجمع الآلي توزيع الأصول في شكل تعيينات متساوية على العمال، يقوم كل عامل بجمع الجزء المنوط به على آلته في الحال، سواء بتحريك المفاتيح لسبك الحروف مباشرة، أو عن طريق تثقيب الشريط وإعداده للعمل في وحده السبك الآلي. وقد يستخدم العقل الإلكتروني في هذه المرحلة الأخيرة. وفي نفس الوقت يرسل المخرج الصحفي الصور والرسوم والخطوط إلى أقسام الحفر لتصويرها وحفرها كيمائيا على ألواح الزنك أو النحاس، أو باستخدام أجهزة الحفر الإلكتروني "الكليشوجراف" على ألواح النولار1 "وهو مادة تشبه البلاستيك"، ويقوم قسم التصحيح بعمل التجارب2 وتصويب الأخطاء المطبعية. ويقوم المخرج الصحفي بتوزيع المواد على الصفحات وفقا للأصول الفنية التي سنشرحها فيما بعد، وبعد ذلك على نماذج تمثل الصفحات الحقيقية بحجمها الطبيعي أو بحجم مصغر. ويبدأ عادة بتوزيع الإعلانات الواردة إليه من أقسام الإعلانات ثم المواد الثابتة كالمقالات والتحقيقات والأركان المنوعة على مختلف

_ 1 nolar. 2 proofs.

الصفحات, ولا شك أنه يفعل ذلك بناء على سياسة الصحيفة الإخراجية، ومبادئ فن الإخراج، إلى جانب خبرته الطويلة. وتنقسم النماذج إلى أعمدة عليها وحدات قياس طولية مرتبة ترتيبا تصاعديا في جانب وتنازليا في جانب آخر، حتى يسهل على المخرج قياس المواد بدقة، وخاصة الإعلانات التي تحسب بالسنتيمتر، وتتقاضى عنها الصحف مبالغ باهظة تمثل الإيرادات الرئيسية لها. ولا بد كذلك من إعداد خطة الإخراج واضحة على النماذج المخططة حتى يستطيع العمال أن يتعاونوا بسهولة في التنفيذ، فخطة الإخراج الصحفي تشبه إلى حد كبير خطة المهندس المعماري التي ينبغي أن تتم قبل تنفيذ عملية النباء. وفن الإخراج الصحفي هو عملية تخطيط صفحات الجريدة أو المجلة وتوزيع مواد التحرير من أخبار ومقالات وصور ورسوم وعناوين على هذه الصفحات وذلك بناء على الأسس الفنية والنفسية والصحفية في مراعاة ميول القراء وطبيعتهم البصرية والعقلية. على أن يكون ذلك كله منسجما مع سياسة الصحيفة في التحرير والإخراج معا. كما يشرف المخرج الصحفي بنفسه على تنفيذ الصفحات وقفل الأطواق وإعدادها للكبس على الورق الكرتون المكون من طبقات رقيقة من الوق والسيلولوز "لفلان"1 ثم سبك الصفحات بالرصاص المصهور على شكل نصف أسطوانة، وتركب هذه الأشكال الأسطوانية على محاور آله الطبع الدوراة "روتاتيف"2 التي تدور بسرعة فائقة، وتزود بالحبر عن طريق مضخات خاصة، فيخرج الورق من النهاية الأخرى للمطبعة بعد مروره بين محاور الطبع كاملا ملونا بل مطويا في صورة معدة للتوزيع على القراء. وهكذا يتضح لنا أن المخرج الصحفي لا بد وأن يملك حاسة قوية لتقويم الأخبار وتقدير أهميتها، ومن ثم تحديد مكانها في الصحيفة، وذلك وفقا للسياسية الإخراجية، وتحت إشراف رئيس التحرير المسئول، كما يمتاز بخبرة واسعة بعمليات الإنتاج الصحفي من تحرير ومراجعة وجمع وحفر وطبع وغير ذلك، فضلا عن ذوق فني أصيل تعززه دراسات في الفنون عامة وفي الإخراج الصحفي خاصة، مع معرفة تامة بميول القراء ووسائل التأثير النفسي، وتحقيق أعلى مستوى من الانقرائية1، أي يسر القراءة وسهولتها.

_ 1 flong. 2 retative.

الأسس الصحفية والنفسية لفن الإخراج الصحفي

الأسس الصحفية والنفسية لفن الإخراج الصحفي: ويقوم فن الإخراج الصحفي على أسس صحفية ونفسية وفسيولوجية وفنية. أما الأسس الصحفية فتتصل بتقويم الأخبار والموضوعات ودراسة أساليبها، وتقدير القيمة النفسية لها. وقد تعرضنا لهذه الدراسة في الأبواب السابقة من هذا الباب. وفي الصحف الأجنبية خبراء في تذوق الأخبار2 تلقى على كواهلهم هذه المسئوليات، كما يقوم بهذه المهمة سكرتير التحرير المركزي، ولكن المخرج الصحفي لا بد وأن يكون قديرا هو الآخر في فن هذا الفن لأن العلاقة بين فن التحرير وفن الإخراج كالعلاقة بين المضمون والشكل في مختلف الفنون. وقد رأينا في الأبواب السابقة أن الفن الصحفي يعتمد على العلاقة الوثيقة بين الصحيفة والقراء، وأن للخبر مقاييس معروفة كالحداثة والقرب والضخامة والدلالة وسياسة الصحيفة واتجاهات الرأي العام وغيرها. والصحافة الشعبية الحديثة لا تفرض الأخبار على قرائها فرضا، ولكنها تدرس ميولهم دراسة دقيقة، وتنشر الموضوعات الصحفية التي تدور حول محاور الميول الإنسانية. وقد لاحظ الباحثون الصحفيون أن محاور الميول تتطور من عصر إلى آخر، فقد ازداد شغف الناس مثلا بالعلوم والفنون والمخترعات الحديثة، وأصبحت أنباء الفضاء والذرة والأخبار الاقتصادية والسياسية تحتل مكانة أعظم مما كانت تحتله من قبل. وبعد أن كان القارئ من قبل يمل قراءة الموضوعات الاقتصادية والسياسية، نجده اليوم شديد الاهتمام بالأخبار الخارجية والعلاقات الدولية ومعاني الإجراءات الاقتصادية كتخفيض قيمة الدولار أو إنشاء البنوك الدولية

_ 1 READABILITY. 2 COPY TASTERS.

وغيرها. على أن بعض الصحف تظن واهمة أن القراء يهتمون بحوادث القتل والجريمة والأخبار التافهة الغريبة أكثر من اهتمامهم بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها، ولكن هذا الوهم يتبدد يوما بعد يوم. وليس معنى ذلك أن تنشر الصحف موضوعات علمية جافة أشبه بالرسائل العلمية أو تقارير اقتصادية وسياسية معقدة كتلك التي تكتب للخبراء والمسئولين، وإنما الفن الصحفي الحقيقي -كما رأينا من قبل- هو القدرة على تحويل تلك الموضوعات الهامة ذات المغزى الحقيقي، وذات الدلالة والخطر إلى موضوعات صحيفة جذابة، سهلة القراءة ومحببة إلى النفوس، ولا يتأتى ذلك -بطبيعة الحال- إلا بتضافر فنون الإخراج والتحرير والتصوير جميعا. وقد كان من الطبيعي أن تتأثر الصحافة بعلم النفس الحديث وتنتفع بأبحاثه ونتائجه كما تأثرت به سائر العلوم والفنون الأخرى. ولا شك أن الفن الصحفي يعتمد على أسس نفسية ودراسات تجريبية في هذا المضمار. ومن أهم العوامل النفسية المؤثرة في الصحافة: السن واتجاهات الرأي وأذواق القراء وعقلية الجماهير وثقافتهم والعادات القرائية ودور الألوان في التأثير والتبسيط والإقناع. فالشيوخ مثلا يفضلون الإخراج التقليدي العمودي المحافظ، في حين أن الشباب يميلون إلى الإخراج الأفقي الانسيابي، المدعم بالصور والألوان، وهذه في نظر الشيوخ بدع لا داعي لها، ويعلق أرنولد على اتجاه الصحافة المحافظة إلى الهجوم على التليفزيون والسينما واعتبارهما عوامل هدم الصحافة قائلا إنه بدلا من الشكوى والشتم والتهجم ينبغي على الصحافة أن تدرس كيف تجتذب الشباب والأطفال بالفن الصحفي الناجح، الذي لا يقوم على تقليد السينما أو محاكاة التليفزيون، وإنما بإنشاء فن صحفي مستقل قائم بذاته له القدرة على التأثير الإيجابي الفعال. وقد درجت الصحافة الحديثة على سبر غور الرأي العام وقياسه ومعرفة اتجاهاته نحو الموضوعات المختلفة التي تنشر، وينبغي أن تتكرر عملية قياس اتجاهات الرأي العام وتعديل السياسة الإخراجية بناء عليها. كما تختلف أذواق

القراء وفقا لأعمارهم وفئاتهم وثقافاتهم، فصحيفة الطبقة العامة تختلف عن صحيفة الفلاحين وتلك تختلف عن صحيفة الأطباء أو القضاة أو المثقفين. فقد تستخدم العناوين الكبيرة والصور الإيضاحية والرسوم والنماذج في صحيفة العمال أو الفلاحين، ولكن يمكن الإقلال من هذه العناصر في صحف المثقفين. ويعنى الإخراج الصحفي بمعرفة عادات الناس القرائية، فهناك فريق يكتفي بالمرور السريع على العناوين عامة ثم يتخير منها ما يهمه ليقرأه بإمعان، وهناك فريق آخر يطلع على المقدمات ويكتفي بها دون صلب الأخبار، وفريق ثالث يهتم بالنواحي الأدبية أو السياسية أو التجارية أو الفنية وهكذا.. فعلى قسم الأبحاث في الصحيفة أن يوالي دراسة عادات القراء، وتسجيل أي تغيير يطرأ عليها، حتى يتمكن المخرج الصحفي من تعديل خطته وفقا للنتائج التي يصل إليها، هذا مع العلم بأن المحافظة على البناء العام للصحيفة أمر جوهري للغاية لأنه يكون شخصيتها المألوفة لدى القراء. وتدرس الألوان من ناحية التأثير النفسي في القراء سواء في الإعلانات أو الأخبار أو الموضوعات، وبالنسبة لصحافة الأطفال وصحافة الشباب وصحافة المرأة وغيرها من أنواع الصحف. فمن الثابت أن الألوان تثير انتباه القراء وتخلق أثرا محببا لأول وهلة، وعندما تستعمل في الإعلانات تكسبها جمالا وواقعية وقدرة على التأثير. ولكننا نجد من جهة أخرى أن الإسراف في استخدام الألوان يؤدي إلى عكس الغرض المنشود. وقد أثبت لوكاس وبريت1 أن ازدحام الألوان يقلل من التباين والإبراز، وبذلك تنعدم قيمة التلوين، بل إن الإسراف في الألوان يجعل الطباعة السوداء أكثر لفتا للنظر. وقد وجد أيضا أن استعمال الألوان بكثرة في العناوين المثيرة وغيرها يكون أشبه شيء بالصخب المزعج الذي يثير إثارة غير هادفة ولا معنى لها، بل إنها تشبه بالصراخ الانفعالي العالي الذي لا لزوم له. والمخرج الصحفي الناجح لا يستعمل الألوان لغرض الإثارة في ذاتها، وإنما للإبراز والدلالة. أما إذا انتشرت الألوان

_ 1 lucass & britt, advertising psychology & research "1950" p.300.

بلا ضابط فإن الصحيفة تفقد توازنها وتأثيرها. فالموسيقى الجميلة تبدأ هادئة وتحمل مشاعر المستمع في شوق حتى النهاية ويمكن حينئذ الارتفاع بطبقة النغم، أما إذا بدأت صاخبة واستمرت صاخبة فيستحيل الوصول بها إلى مواضع التأكيد والإبراز وغيرها. والطبيعة نفسها لا تسرف في الألوان. فقوس قزح لا نراه إلا نادرا، وإلى جانب كل زهرة زاهية اللون ملايين الزهور العادية والأوراق الخضراء. ولو طغت الزهور الزاهية على غيرها لما لفتت أنظارنا، وكذلك الألوان في الصحافة تفقد قيمتها عند الإسراف في استعمالها. ويعنى المخرج الصحفي كذلك بالارتباطات النفسية للألوان. فهو يعلم مثلا أن الألوان الحمراء والبرتقالية تنم عن معاني الدفء والعاطفة والحرب والخطر وغيرها. فالدم والنار لونهما أحمر. والشمس، وهي مبعث الدفء والضوء والحياة، كرة ملتهبة وضاءة غنية بالألوان الحمراء والبرتقالية. فلا غرابة، إذن، أن ترتبط الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية بالعاطفة والدفء والحياة. أما الألوان الزرقاء فتنم عن الهدوء والسكون والبرودة. فالماء لونه مائل إلى الزرقة وكذلك السحاب. فإذا اردنا استعمال الألوان في إعلان عن الثلاجات مثلا، وجب أن يكون اللون مائلا إلى الزرقة. أما إعلانات المدافئ مثلا فتناسبها الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية. والألوان البيضاء والزرقاء والخضراء تنم عن الطهر والنقاء، بينما تعبر الألوان الأرجوانية عن الخصوبة والرخاء. ولكن لا ينبغي أن يعتبر المخرج الصحفي هذه الارتباطات قوانين قاطعة بل لا بد أن يجرب ويختبر بنفسه.

الأسس الفسيولوجية لفن الإخراج الصحفي

الأسس الفسيولوجية لفن الإخراج الصحفي: والإخراج الصحفي فن تطبيقي له أغراضه النفعية. فالصحيفة تصدر ليقرأها الناس. ويعتبر مقياس الانقرائية -القابلية للقراءة السهلة- أهم مقاييس النجاح الصحفي. ولا بد أن يدخل المخرج الصحفي في اعتباره أن قارئ الصحيفة غير قارئ الكتاب؛ لأن الصحيفة تقرأ غالبا في ظروف غير مواتية لتيسير عملية القراءة. فهناك من يطلع على صحيفته في السيارة العامة أو أثناء تناول طعام الإفطار أو في محطة السكك الحديدية، وقد يكون الضوء غير كاف للقراءة. وقديما كانت الصحف تطبع بحروف كبيرة عندما كانت الأخبار قليلة والورق رخيصا، ثم تغيرت الأحوال بعد ذلك فارتفعت أسعار الورق وكثرت الأخبار بتقدم المواصلات والاعتراف بأهمية الصحافة، فأخذت الصحف تستعمل الحروف الصغيرة للاقتصاد فبلغت بنط 5 في الصحف الأوروبية وبنط 7 في الصحف العربية كالأهرام مثلا. ولكن تقدم البحوث الطبية والدراسات البصرية ألقى الضوء على مشكلات القراءة الصحفية وأثرها على العين. فمن الثابت أن الناس ينفقون من الوقت في القراءة أكثر مما ينفقون في الأكل مثلا، وأن الإخراج الصحفي الرديء قد يضر العين أبلغ الضرر. ومن هنا بدأت الدراسات الجادة في الأسس الفسيولوجية للإخراج الصحفي. وقد كان الناس يعتقدون قديما أن القارئ ينتقل من كلمة إلى أخرى حتى يستوعب السطر ثم يبدأ قراءة سطر آخر، ولكن الأبحاث الحديثة أثبتت خطأ هذا الاعتقاد. والعين لا تتحرك أثناء القراءة في خط مستقيم من كلمة إلى أخرى، وإنما تتحرك في فقرات بينها وقفات. وفي كل فقزة يدرك القارئ وحدة فكرية لا وحدة لفظية. وكلما زادت الوقفات كان ذلك دليلا على تعثر القراءة. وفي بعض الأحوال يضطر القارئ إلى الرجوع وإعادة ما قرأه. ولا شك أن هذه الرجعات تدل كذلك على صعوبة القراءة، فلا بد إذن من توفير الانقرائية وتيسير القراءة عن طريق تقليل الوقفات وخفض الرجعات إلى أدنى حد ممكن. والعين الطبيعية لا تستوعب في النظرة الأولى إلا سنتيمترين من الألفاظ تقريبا. ومعنى ذلك أنه إذا زاد طول السطر، استلزم ذلك تحريك حدقة العين أو الرأس تحريكا كثيرا قد يطول إلى حد التعب والملل. ولذلك أجريت عدة تجارب لمعرفة أطول الأسطر المناسبة للقراءة المريحة. ولا شك أن هناك علاقة وثيقة بين حجم الحروف وطول السطر. فكلما كبرت الحروف أمكن إطالة السطر، أما إذا كانت الحروف صغيرة فمن الواجب أن يكون السطر قصيرا.

ومن الطريف أن الطابعين القدامى قد استطاعوا الوصول إلى نتائج هامة في هذا الصدد تقترب كثيرا من النتائج التي وصل إليها علماء النفس والفسيولوجيا، فقد اعتاد هؤلاء الطابعون في الماضي أن يجعلوا طول السطر بالكور مساويا لحجم الحرف بالنبط مرة ونصف مرة. فإذا استعمل حرف حجمه عشرة أبناط وجب أن يكون طول السطر خمسة عشر كورا، وإذا استعمل حرف حجمه اثنا عشر بنطا وجب أن يكون طول السطر ثمانية عشر كورا وهكذا. ولنقارن ذلك ببعض النتائج التي وصل إليها العلماء من أمثال باترسون وتنكر1 وغيرهما: ومما سبق يتضح ضرورة جمع حروف المقدمة التي تكون عادة من بنط 24 أو بنط 18 أو بنط 12 على عمودين أو ثلاثة. أما صلب الخبر وهو عادة من بنط 9 فيكفي أن يكون على عمود واحد. ويحسن كذلك أن تجمع المواد التي يقرؤها غالبية الناس بحروف كبيرة نسبيا، أما المواد التي يقرؤها القليل من الناس كنتائج سباق الخيل أو أسعار البورصة مثلا فمن الممكن أن تجمع بحروف صغيرة. ولكن لا ينبغي أن يقف العامل الاقتصادي عائقا في سبيل الانقرائية. وعلى

_ 1 donald g. patterson & miles a. tinker. how to make type readable "1940" p.3-4.

المخرج الصحفي أن يختصر بعض التحقيقات المطولة والمواد المكررة والحشو وغير ذلك، لكي يضمن أن الصفحات مريحة للنظر سهلة القراءة، وذلك لأن القارئ غير ملزم بمتابعة ما يعرض عليه في الصحيفة، إذا وجد صعوبة في القراءة، فهو إذا لم يجد السبيل ميسرا أمامه لجأ إلى صحيفة أخرى أو مجلة أو أي وسيلة من وسائل الإعلام كالإذاعة والتليفزيون. ومن العوامل التي تساعد على يسر القراءة فراغ أبيض بين الكلمات والسطور. ولكن الإسراف في استعمال هذه الفراغات مثله مثل ازدحام السطور والكلمات قد يتعب النظر، ولا بد أن يستخدم الفراغ الأبيض بمهارة، كأن يأتي مثلا في نهاية فقرة ذات معنى واحد أو في آخر كل شهادة ترد في قضية من القضايا. أما إذا استعمل البياض بعد سطر واحد مثلا فقد يؤدي إلى التشويش على القارئ بإيهامه أن السطر يكون وحدة مستقلة. ووجد أيضا أن الفراغات البيضاء بين الأعمدة ضرورية للغاية ومريحة للنظر، ويجب إلا يقل عرض جسم الجدول بين كل عمودين عن ستة أبناط وقد وصل عرض أجسام الجداول أيام الحرب العالمية الثانية إلى أربعة أنباط بل وإلى بنطين أحيانا، وذلك للاقتصاد في الورق وتكاليف الطباعة، ولكن هذه السياسة خاطئة وتؤدي عادة إلى عكس الغرض المنشود. ويعتقد بعض الصحفيين أن الإسراف في استعمال الحروف "السوداء" يعين على يسر القراءة، ولكن الأبحاث العلمية أثبتت خطأ هذا الاعتقاد. فلا ينبغي الإسراف في استعمال الحروف "السوداء"، ويجب الاقتصاد في استعمالها على العناوين والمقدمات الأخبارية والعبارات والمراد إبرازها فقط، مع الاكتفاء باستعمال الحروف "البيضاء" في صلب الخبر. والعناوين الفرعية لا تساعد على ترتيب الأفكار فحسب، بل تساعد أيضا على تسهيل القراءة، فهي تريح العين عند النظر إلى الحروف في صورة فقرات منفصلة لا كتلة متماسكة سوداء، وينصح علماء الصحافة بوضع العناوين الفرعية بين كل مائتين أو ثلاثمائة حرف على الأكثر.

ويسرف بعض المخرجين الصحفيين في استعمال الحروف البيضاء على أرضية سوداء، ظنا منهم أن هذه الطريقة تسهل عملية القراءة وتساعد على الإبراز ولفت النظر، ولكن التجارب العلمية أثبتت أن الحروف البيضاء على أرضية سوداء تتعب نظر القارئ، وخاصة إذا كثر استعمالها. والقراءة بهذه الطريقة أعسر من قراءة الحروف السوداء على الأرضية البيضاء. وفي آخر الإحصاءات أن سرعة قراءة الحروف السوداء على أرضية بيضاء تزيد 10.5%عن سرعة قراءة الحروف البيضاء على أرضية سوداء، ولا بد أن يراعى الاعتدال في ذلك لأنها متعبة لنظر القارئ رغم فائدتها المحققة في لفت الأنظار. وقد وجد أن اللون الأسود على أرضية الورق الأبيض هو أفضل الألوان بالنسبة لراحة العين، وقد يكون السبب في ذلك هو تعود القراء عبر مئات السنين على قراءة الحروف السوداء المطبوعة، غير أن الألوان الأخرى كالأحمر والأخضر والأصفر والبرتقالي والأخضر وغيرها تصلح لجذب الانتباه أكثر مما تصلح لطباعة المتن نفسه. ومما لا شك فيه أن توفير المساحة البيضاء المناسبة حول الحروف السوداء يؤدي إلى راحة العين ويسر القراءة. غير أن المساحة البيضاء نفسها ينبغي أن تتناسب مع حجم العنصر الطباعي ودرجة سوداه. فالحروف الكبيرة تحتاج إلى بياض أكبر، كما أن الحروف الداكنة السواد تتطلب بياضا أكبر من الحروف المتوسطة أو الرمادية. ولذلك فإننا نجد أن وجه الحرف يرتكز على قاعدة تزيد بمقدار بنط واحد على الأقل لتوفير البياض اللازم. ويستخدم البياض أيضا حول العناوين والصور والإطارات، كما يستخدم حول الجداول الفاصلة بين الأعمدة بحيث لا يقل عن 6 أبناط لراحة العين. وتستخدم بعض الصحف مساحات من البياض الطولي بين الأعمدة بدلا من الجدول، كما تستخدم البياض نفسه للفصل بين الموضوعات في صفحة المقالات الافتتاحية. هذا فضلا عن استخدام المساحات البيضاء في الهوامش المحيطة بالصفحات، والمعروف أن هوامش الصحف أصغر من هوامش الكتب. مع ملاحظة أن الإسراف في المساحات البيضاء يمكن أن يتعب البصر كالإسراف في المساحات السوداء.

الأسس الفنية للاخراج الصحفي

الأسس الفنية للإخراج الصحفي: يتجه فن الإخراج الحديث إلى اعتبار الصفحة لوحة بيضاء غير محددة بالأعمدة تحديدا جامدا، فيستطيع المخرج أن يعرض العناصر الطباعية المختلفة -من حروف إلى صور إلى رسوم إلى خرائط- بنفس الطريقة التي يعرض بها الفنان رسومه أو صوره. وعلى هذا الأساس أصبح التصميم الصحفي مبنيا على أسس مشابهة للتصميم الفني. وينظر المخرج الصحفي إلى الصحيفة التي يخرجها على أنها وحدة متكاملة من حيث الشكل العام والإخراج الفني، ومع أن كل خبر لا بد أن يقع في مكانه المخصص له واللائق به، فلا بد أن تنسجم العناوين والحروف والصور وغيرها من العناصر الطباعية لتكون فيما بينها وحده فنية تريح النظر وتمتع القارئ وتعينه على القراءة بيسر. ولا يمكن تحقيق هذه المميزات إلا إذا كانت الصفحة مكونة تكوينا فنيا. والتكوين الفني1 له أصوله وقواعده ولا بد أن يتوفر فيه عدة عناصر تتضافر جميعا للوصول إلى ذلك التكوين الجميل. ولعل أهم هذه الخصائص التوازن2 الذي ينقسم إلى نوعين: توازن شكلي متماثل، وتوازن غير شكلي متباين. فإذا نظرت إلى صفحة متوازنة توازنا متماثلا وجدت أن النصف الأيمين من الصفحة ينطبق تمام الانطباق على النصف الأيسر منها، وذلك من حيث كافة العناصر الطباعية. ولكن هناك توازنا آخر أكثر حيوية، تتباين فيه العناصر الطباعية المكونة لنصفي الصفحة، بحيث إنك إذا رسمت خطا عموديا في منتصف الصفحة لما وجدت أن النصفين ينطبقان كما هو الحال في التوازن المتماثل. ومع ذلك فإن هذا التوازن المستتر يمكن إحساسه، وإن كان يصعب قياسه بالمسطرة، كما تستطيع أن تفعل في التوازن المتماثل. فالمساحة الصغيرة البعيدة عن المحور البصري للصفحة تتوازن مع مساحة أخرى كبيرة قريبة من هذا المحور. وكذلك المساحة الطباعية قاتمة اللون يمكن

_ 1 COMPOSITION. 2 BALANCE.

أن تتوازن مع عدة مساحات أخف درجة وهكذا. ويعتمد هذا النوع من التوازن غير الملحوظ على نظرية الروافع التي تجعل التوازن بين الأثقال متوقفا على حجمها وبعدها أو قربها من نقطة الارتكاز، ولعل ميزان القبان هو خير مثال لذلك. وقد وجد أن التوازن غير الشكلي يعطي المخرج الصحفي حرية في التعبير والتنويع أكثر من التوازن الشكلي الهندسي المتماثل. ومن صفات التكوين الجميل أيضا الإيقاع1، وهو الذي يجعل التصميم نابضا بالحياة. فكما نسمع الأنغام الإيقاعية في الموسيقى، ونشهدها في الحياة بتتابع الليل والنهار والفصول والحياة والموت، فإنه من الممكن أن نلمس الإيقاع في الشكل الفني عندما تنتقل عين القارئ من عنوان إلى آخر ومن صورة إلى صورة، دون تعثر أو ملل، ولا شك أن الإخراج الأفقي الحديث قد منح الصحفي مجالا أوسع للتعبير بالإيقاع، فأصبح من السهل تكوين العناوين والصور بحرية تامة لا يتمتع بها المخرج في النظام العمودي التقليدي. وإذا كانت الخطوط العمودية تنم عن القوة والرسوخ والاستقرار والوقار، فإن الخطوط الأفقية والمائلة ترتبط بالحركة والحيوية والإيقاع وهي سمات فن الإخراج الصحفي الحديث. والتناسب2 من أهم خصائص التكوين الجميل، ويقصد بالتناسب جمال العلاقات بين الأجزاء بعضها بالبعض الآخر وكذلك بالنسبة للشكل الكلي نفسه. ومع أن التناسب يكون نتيجة للإحساس والذوق العام فهناك بضعة إرشادات أيضا في هذا الصدد. فقد وجد اليونان أن التناسب لا يكون بالتماثل، فلا يعقل مثلا أن تكون الشجرة ذات الفروع والأغصان المتماثلة في السمك جميلة الشكل؛ إذ إنه لا بد من التدرج بنسب معينة. "والقاعدة الذهبية" التي وصل إليها اليونان تقول إن أجمل نسبة هي 3: 5 تقريبا، ويحسبها البعض حسابا دقيقا فيقولون إنها 1: 1.414 أو 3: 4.24. ومع ذلك فإن المخرج الصحفي لا ينبغي أن يكون عبدا لهذه المقايسس الإرشادية النافعة.

_ 1 RHYTHM. 2 PROPORTIONS.

فالهدف الأساسي للإخراج الفني هو الوصول إلى صفحة يسودها التوافق والانسجام1. فالعناصر الطباعية لا بد أن تنسجم لتكون صفحة متكاملة. ومع ذلك فإن المخرج الصحفي بحاجة إلى إبراز بعض العناصر كالأخبار والصور التي يرى أنها ذات قيمة أو خطر بحيث تستحق الإبراز2. ويقوم هذا العنصر على أساس التباين في المساحة والدرجة والشكل واللون والفراغات البيضاء. فالمعروف أن العنوان أو الصورة الكبيرة تلفت الأنظار وخاصة إذا قيست بالنسبة للمساحة العامة للصفحة، كما أن الحروف السوداء والصور الداكنة تثير الانتباه أكثر من العناصر الطباعية العادية، وخاصة إذا كانت على أرضية بيضاء. وقد يكون العنوان هاما ومأخوذا من وثيقة خطيرة فيحاط بدائرة أو يوضع في إطار، وبذلك يلفت الأنظار عن بقية المواد. وقد رأينا أن الألوان تثير الانتباه بطبيعتها وخاصة إذا كانت زاهية، ومع ذلك فإن الإسراف في استعمالها لا يحقق الغرض المنشود. والفراغ الأبيض في الصحيفة يشبه الصمت في الخطابة، فإذا أراد الخطيب أو المتحدث أن يلفت الأنظار صمت برهة ليسترعى انتباه الجمهور. والموسيقى أيضا تعتبر فترات الصمت جوهرية للغاية. وقد استغلت الإعلانات تلك الفراغات استغلالا مثيرا فاحتجزت مثلا صفحة كاملة بيضاء لإعلان واحد كتب في وسطه سطر واحد بحروف صغيرة تقول: "هذه الصفحة غسلت بصابون ... " ومع ذلك، فالإسراف في استعمال المساحات البيضاء مثل الإسراف في استخدام الألوان يفسر الإخراج من النواحي الفنية والنفسية معا. وقد دأبت بعض الصحف الحديثة على استغلال خصائص الإبراز والتأكيد، ظنا منها أن ذلك يساعد على جذب الأنظار وارتفاع التوزيع، ولكن الحقيقة أن المبالغة في الإبراز لا ينجم عنها إلا التشويش على القارئ. فالعناوين الضخمة، والألوان الكثيرة المتعددة، والإطارات المتناثرة، والمساحات الداكنة، تبدو كلها وكأنها صرخات مدوية تفزع القارئ وتمسخ القيم الفنية، فلا يبدو الإبراز تأكيدا، بل إن الصحف الهادئة أصبحت أكثر جاذبية ولفتا للنظر من الصحف الصاخبة! والواقع أن تراثنا الصحفي الأصيل بعيد عن هذا الصخب الذي بدأ قبيل الحرب العالمية الثانية، عندما طبعت الأهرام جزءا من رأس صفحتها الأولى باللون الأحمر يوم 7 يناير سنة 1931. وهناك أيضا الأرضية الحمراء الملونة للأهرام الثلاثة التي اتخذتها الجريدة شعارا لها سنة 1933، كما اتخذت جريدة المصري العلم الأخضر شعارا لها منذ أكتوبر سنة 1937. وبعد ذلك أخذت الصحافة المصرية تتبارى في إقحام الألوان بكثرة، وجربت الصور والرسوم ذات الألوان المتعددة، تمشيا مع الذوق البصري الذي خلفه عالم السينما والتليفزيون.

_ 1 HARMONY. 2 EMPHASIS.

المذهب الكلاسيكى في الإخراج الصحفي

المذهب الكلاسيكي في الإخراج الصحفي: ويتراوح فن الإخراج الصحفي بين المذاهب التقليدية والمأثورية من جهة والمذاهب التجديدية الانطلاقية الحديثة من جهة أخرى. والتوازن المتماثل أسلوب تقليدي في الإخراج الصحفي لتكوين صفحة منسقة، وفيه يتماثل شقا الصفحة تماثلا تاما. وقد كان هذا الأسلوب سائدا في الصحافة المصرية والأجنيبة خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولا شك أن النفس البشرية ميالة بطبيعتها إلى التوازن والتماثل1. ويقول كتسون2: أن الإنسان مخلوق متوازن الشكل بطبيعته، لذلك فإنه إذا رأى شيئا أحب أن يراه بشقي كيانه المتماثلين، ولا يتسنى له ذلك إلا إذا كان ما يراه متوازنا. ولا شك أن التوازن المتماثل أسلوب ناجح ينم عن الهدوء والوقار، ولذلك تتمسك به الصحف الرفيعة لأن قراءها يأنسون إليه. ولكن هذا الأسلوب في الإخراج الذي يعبر عن الأخبار العادية في الأحوال العادية، يصبح قاصرا إذا أردنا التعبير عن أخبار متفاوتة الأهمية؛ لأنها تتطلب إبراز عناصر معينة وتأكيدها دون غيرها. ومن عيوب الأسلوب المتماثل في الإخراج أنه هندسي شكلي، قد يبعث إلى الملل، مصطنع لا يتغير كالشعر ذي القافية الرتيبة، أو الموسيقى ذات الإيقاع الممل، ويضطر المخرج الصحفي في حالات كثيرة إلى تعديل الأخبار باختصارها

_ 1 symmetry. 2 h. d kitson, manual for the study of advertising and selling.

أو الإضافة إليها لكي يتم التماثل بين شقي الصفحة، ولا بد أن ينجم عن ذلك مبالغة في بعض العناوين وتصغيرا لبعض العناوين الأخرى، وهذا على حساب القيم الإخبارية الصحفية. أما إذا أراد المخرج أن يحتفظ بالقيم الإخبارية مع تمسكه بأسلوب التماثل الشكلي في الإخراج، فلا بد أن يلجأ إلى وضع بقايا الموضوعات في الصفحات الداخلية، غير أن كثرة البقايا، وإحالة القائ إلى الصفحات الأخرى، تتعب القارئ وتفسد الأسلوب الإخراجي. وقد علق أحد الصحفيين1 على هذا الأسلوب الشكلي معبرا عن الثورة عليه بقوله: إنني أريد أن أتحرر من هذا الأسلوب الجاف المصطنع، ولا أود أن تكون صحيفتي كحجرة استقبال من الطراز العتيق حيث يثبت كل مقعد في مكانه المحدود دون أن يطرأ عليه أي تغيير. ولكني أفضل أن تمتاز صحيفتي بشيء من التلقائية الطبيعية المحببة إلى النفس، حتى يشعر القارئ أنه يطلع على صحيفة واقعية، تعرض عليه الأنباء بالطريقة التي ينبغي أن تعرض بها دون مبالغة أو تهويل أو تقييد جامد في قوالب حديدية من التوازن المتماثل. وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى التحلل من الأصول الإخراجية أو الدفاع عن الصحف الانطلاقية، وإنما أدعو إلى إخراج واضح يمتاز بالمرونة والتلقائية. وأسلوب كهذا في الإخراج قمين بدفع الملل وتبديد السأم بالإضافة إلى مرونته وإشباع ميول القراء في البحث عن كل جديد. لذلك بدأ المخرجون الصحفيون يتحررون من قيود التماثل الدقيق، ويأخذون بالتوازن المتحرر في أجزاء من الصحفة. فنجد أن صفحات تتوازن في سنة أعمدة ولا تتوازن بالنسبة للعمودين الآخرين وبذلك يتحرك المحور البصري للصفحة إلى اليسار مثلا. وقد يتم التوازن في أعلى الصفحة وفي أسفلها مع بقاء وسط الصفحة دون قيد التماثل. وقد يكون التوازن بعناصر طباعية مختلفة فيقابل العنوان صورة مثلا، كما يمكن تعدد المحاور البصرية في أجزاء الصفحة الأربعة مع تنوع العناصر الطباعية وفقا لذوق المخرج. وهكذا نجد أن هذا

_ 1 national printer journalist, "june 1922", p.26.

الأسلوب غير الشكلي يتم فيه التوازن بتوزيع القوى وتعادلها حول المحور البصري للصفحة. فمساحة واحدة كبيرة على مقربة من المحور يمكن أن تتوازن مع مساحة صغيرة بعيدة عنه سواء كانت هذه المساحة صورة أو حروفا أو رسوما أو غير ذلك. أو أن مساحة داكنة كبيرة تتوازن مع بضع مساحات فاتحة صغيرة. وتوزع المساحات عادة على خطوط مائلة وعلى أبعاد متفاوتة. وهكذا يستطيع المخرج الصحفي أن يتجنب الرتابة والتزمت بالتحرر من قيود التماثل الهندسي الشكلي الدقيق، كما يمكنه أن يعرض الأخبار وفقا لأهميتها النسبية عن طريق التوازن المتباين1. ولكن المخرج الصحفي يواجه أحيانا بخبر هام تطغى قيمته الصحفية على سائر الأخبار الأخرى، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى إبراز هذا الخبر وتأكيده مع الاحتفاظ بوحدة الصفحة واتساقها. وهو يستطيع أن يحقق ذلك إذا استعان بأسلوب الإخراج البؤري2، وفيه يظهر عنوان كبير متوازنا مع عدة عناوين أخرى أصغر منه وأقل سوادا. فإذا كانت البؤرة البصرية فوق الربع العلوي الأيمن من الصفحة، كان لا بد من توزيع بقية المواد الطباعية متدرجة من أعلى اليسار إلى أسفل اليمين بطريقة تشبه الدعامة أو الرف، وهكذا يوجد إلى جانب البؤرة البصرية الأصلية بؤرة بصرية ثانوية تنتقل إليها العين بعد استيعاب الجزء الرئيسي الأول. وهنا تواجه المخرج الصحفي مشكلة أخرى هامة، فأي مكان من الصفحة يعتبر أكثر جذبا ولفتا للأنظار؟ إن علماء النفس المحدثين من أمثال هوجو مونستربرج3 وغيره ممن عنوا بدراسة علم النفس الصحفي يؤكدون أن عين قارئ الصحيفة تتحرك من اليسار إلى اليمين "عند قراءة الصحيفة الأجنبية" حتى تصل إلى نهاية السطر في أقصى اليمين فتكون الوقفة، حيث "تهضم" العين ما قرأت، ويعي العقل ما استوعبه. ولذلك فإن الصحف

_ 1 contrast and balance. 2 focus make-up. 3 hugo mulnsterberg, editor and publisher, august 20, 1932.

الأمريكية تفضل وضع الموضوعات الهامة في أقصى اليمين، وهذا على العكس من الصحف الإنجليزية التي لا زالت تضع هذه الموضوعات إلى اليسار. ويرى علماء النفس أيضا أننا إذا وضعنا الموضوع الهام في غير مكانه الطبيعي، فإننا نرغم العين على التوقف والتبصر إرغاما، فيتأثر العقل تأثرا لا شعوريا، يفسد عملية القراءة الطبيعية. ويهمنا أن نذكر بالنسبة للصحافة العربية أن أبحاثا قد أجريت منذ سنوات لدراسة سلوك القارئ، ومن نتائجها أن القارئ العربي يمر ببصره على السطر من اليمين إلى اليسار فتكون الوقفة في أقصى اليسار، حيث ينبغي أن توضع الموضوعات الهامة. فإذا طبقنا هذه النتيجة العلمية الهامة، كان لا بد للمخرج الصحفي العربي أن يحدث انقلابا في الإخراج مثل الانقلاب الذي حدث في الصحافة الأمريكية، فتنتقل الموضوعات الهامة من اليمين إلى اليسار كما انتقلت هذه الموضوعات في الصحافة الأمريكية من اليسار إلى اليمين. وإذا كان الإخراج البؤري يساعد على التعبير عن القيمة الإخبارية للمواد الصحفية، فإنه قد يفسد توازن الصفحة إذا لم يكن المخرج الصحفي شديد الحذر. فالمبالغة في العنوان البؤري قد تجعل مركز الثقل في مكان واحد فيختل توازن الصفحة، لكن المخرج الفنان يستطيع بمهارته أن يوزع العناوين توزيعا دقيقا على أجزاء الصفحة بحيث تشير جميعا إلى العنوان البؤري فتجذب النظر إليه، وتتوازن معه في الوقت نفسه فتخدم الوحدة الفنية للصفحة. فالمهم -إذن- هو أن تتساوى قوى الجذب والشد بحيث ينتج التوازن من تعادلها. والواقع أن المذهب الكلاسيكي في الإخراج الصحفي يهدف بأساليبه المختلفة إلى اتساق الصفحة وتكاملها، بحيث ينظر إليها القارئ على أنها وحدة فنية تتضافر أجزاؤها جميعا للتعبير عن شتى الموضوعات، وينبغي أن تتدرج العناوين والصور والحروف من حيث الحجم ودرجة السواد من أعلى إلى أسفل على أن يكون هذا التدرج غير مفتعل، وإلا اختل التوازن وأصبح الجزء العلوي أثقل بكثير من الجزء السفلي. أما إذا كانت العناوين متساوية السواد والحجم فإنها تبدو كالبقع أو كرقعة الشطرنج، كما أن الإسراف في الفراغات البيضاء يفسد الصفحة؛ لأن هذه الفراغات تتصل ببعضها وتكون أشكالا شاذة تفسد نظام الصفحة. ومن الخطأ وضع العناوين أو الصور على خط الطي "وهو وسط الصفحة التي تطوى عنده" ولكن ينبغي أن توزع العناوين والصور على جميع أجزاء الصفحة العليا الوسطى والدنيا لكي تتم الوحدة الفنية المتكاملة في تدرج واتزان.

المذهب الحديث في الإخراج الصحفي

المذهب الحديث في الإخراج الصحفي: وثمة مذهب آخر في الإخراج الصحفي لا يحفل بالقواعد التقليدية ولا يهتم بالقوانين الفنية المأثورة، بل إنه كثيرا ما يتعمد تخطي القواعد وتحطيم القيود. وينطوي هذا المذهب الحديث على الانطلاق والتحرر من أفكار التوازن بجميع أشكاله، وإهمال الوحدة الفنية التقليدية إهمالا مقصودا. ويمكن اعتبار المذهب الانطلاقي الحديث امتدادا طبيعيا للفنون الحديثة بمدارسها التجريدية والسيريالية والتكعيبية والتعبيرية والمستقبلية1 وغيرها. فالقواعد الكلاسيكية والنتائج الأكاديمية تحطم من أجل التعبير الحي والتجريب الجديد. وتتخطى الصحافة الانطلاقية قيود الإخراج الصحفي الكلاسيكي إمعانا في جذب الأنظار. وإبراز بعض النواحي الهامة من الأخبار، وجريا وراء الترويح وارتفاع التوزيع. فلا بأس من وضع العناوين الحمراء الضخمة إلى جانب العناوين السوداء العريضة والصور الداكنة والألوان الصاخبة. ولا بأس أيضا من استعمال بعض أنواع الخطوط التي قد لا تنسجم مع بعضها البعض، بل تتباين تباينا شديدا للإثارة ولفت الأنظار. ويدافع أصحاب المذهب الحديث في الإخراج عن أساليبهم قائلين إنها تتمشى مع روح العصر. فقد انتهى زمن الإخراج العمودي بانتهاء عصر العربات والخيول وشيوع السيارات والقطارات. وإذا نظرنا إلى سيارة حديثة وجدنا أنها

_ 1 ABSTRACTION, SURREALISM, CUBISM, EXPERSSIONISM, FUTURISM.

عرضية الشكل، أفقية التصميم، انسيابية الأجزاء، تتوازى مقابضها وأبوابها توازيا أفقيا مع سطح الأرض ولا تتعامد عليه، كما كانت هندسة العربات والسيارات العمودية في بداية ظهورها. وقد انتهى كذلك عصر الزخارف المعقدة، وجاء بدله عصر البساطة والوظيفية، فمظهر الشيء ينبغي أن يستمد من وظيفته دون تهويل زخرفي أو تعقيد لا داعي له. وهناك أسلوبان رئيسيان للمذهب الحديث في الإخراج الصحفي، أما الأول فهو الأسلوب الوظيفي التجريبي، وأما الآخر فيمكن أن نسميه بالأسلوب الانطلاقي العشوائي. فبينما يهدف الأسلوب الأول إلى التحرر من القيود على أسس علمية تجريبية لتحقيق الرسالة الإخراجية من تيسير القراءة ووضوح التعبير وتبسيط العرض وفاعلية الإعلام، نجد أن الأسلوب الآخر لا يلوي على شيء إلا الإثارة غير الهادفة. فالأسلوب الأول علمي مقصود، وأما الآخر فهو غير مقصود ولذلك يسمى بالعشوائي أو الارتجالي. ومن سمات الأسلوب الوظيفي الحديث تبسيط العناوين وإبرازها، واستخدام الفراغات البيضاء بدلا من الجداول بين الأعمدة، وإيثار الإخراج الأفقي على الإخراج العمودي، وجمع مواد الموضوع الصحفي على عمودين أو أكثر بدلا من جمعها في عمود واحد، والتجريب في وضع اسم الجريدة في رأس الصفحة بحيث يكون في الوسط أحيانا، وأحيانا أخرى إلى اليمين أو إلى اليسار، والتوزيع كذلك في أشكال العناوين والعناوين الفرعية. وتجري التجارب أيضا في وضع العناوين المنتشرة "المانشيتات" فقد تكون فوق اسم الصحيفة أو تحته، وقد تستعمل مجموعة من الصور المتجاورة بدلا من العنوان المنتشر "المانشيت". ويؤمن أصحاب المذهب التجريبي بضرورة الدراسات الإحصائية لفهم اتجاهات القراء على أسس نفسية وفسيولوجية، مع مواصلة التجريب وتعديل الخطة الإخراجية على هذه الأسس العلمية. وهناك تجربة إخراجية تتلخص في تبويب الصفحات تبويبا دقيقا بحيث تتجمع أخبار السياسة مثلا في مكان واحد وأخبار الجريمة كلها في مكان آخر.

وهكذا بالنسبة لأخبار الفن والرياضة والدين والأدب وغيرها، وعلى نحو ما تفعله مجلة تايم ومجلة نيوزويك الأمريكيتين. وبذلك تشبه الصفحة كتابا مبوبا منسقا. ويذكر نيل سوانسون1 سبع مزايا لهذا الأسلوب في الإخراج وهي: 1- أنه أكثر مرونة من الأسلوب التقليدي لأنه يسهل عملية التصحيف بالنسبة للأخبار التي ترد متأخرة. 2- ينظم العمل في أقسام المراجعة وسكرتارية التحرير. 3- اقتصادي في شغل الحيز المعقول دون إسراف. 4- اقتصادي أيضا في عملية الجمع، وكذلك في الوقت والجهد المبذولين في عملية التصحيف؛ إذ إنه لا حاجة إلى جمع البقايا، ما دامت الأخبار تخرج إخراجا نوعيا. 5- تكون الموضوعات المترابطة تحت عنوان واحد. 6- ييسر القرءان لأن الموضوعات تدور حول محاور متجانسة بدون بقايا. 7- طريقة ناجحة للتعبير عن وجهتي النظر في مكان واحد، بدلا من وضع وجهة نظر في صفحة ووجهة نظر أخرى في صفحة ثانية، فقد يقرأ القارئ. واحدة منهما دون الأخرى. أما الأسلوب الانطلاقي العشوائي فهو أسلوب ارتجالي لا يقوم على أسس تجريبية مقصودة، وإنما يهدف إلى الإثارة، بنشر العناوين الضخمة والمبالغة في التلوين والإبراز. ولا يدري المخرج الصحفي أن إعطاء الأخبار عناوين كبيرة متساوية الضخامة يؤدي إلى قتل بعضها البعض، والتشويش على القارئ، فإذا تصادمت العناوين الكبيرة والأنماط السوداء والصور الضخمة تشتت انتباه القارئ وكل بصره وشعر بالدوار من هذه الفوضى. فلا غرابة إذن أن يشبه علماء الصحافة هذا النوع من الإخراج بالسيرك! فيجب على المخرج الصحفي إدراك أن حروف الطباعة ما اخترعت إلا لتقرأ، وأن التكديس والازدحام والعناوين الثقيلة والجداول المعقدة المتراكمة والصور الداكنة القلقة، إذا ما حشدت حشدا مرتجلا لا تؤدي إلا إلى الملل والفوضى. ومن هنا كان على المخرج الصحفي أن يسأل نفسه عن الغرض من اتباع أسلوب معين في الإخراج وتفضيله على غيره، ومدى ملاءمته لمضمون التحرير. أما مجرد حشو الصحفحات بالعناوين والألوان والصور الضخمة دون هدف سوى الإثارة فلا ينجم عنه إلا الفشل.

_ 1 neil h. swanson.

تطور فن الإخراج الصحفي

تطور فن الإخراج الصحفي: وتعد سنة 1931 مفترق الطرق في تاريخ فن الإخراج الصحفي في مصر. فمنذ تلك السنة أخذت الصحف تعنى عناية فائقة بالتبويب والإخراج المدروس على أسس مقصودة لتيسير القراءة واجتذاب القارئ. وأخذ المقال يفقد مكانته العظيمة التي كان يحتلها في صدر الصفحة الأولى، وتبوأت الأخبار الهامة مركز الصدارة بدلا من المقال، وأصبح من تقاليد الصحافة المصرية أن توضع أخبار الدولة والأخبار الداخلية وأخبار المجتمع في صفحتي القلب، كما خصصت الصفحة الثانية للأخبار الخارجية، والصفحة الأخيرة للقصة الأدبية أو القصائد الشعرية أو الأركان المنوعة أو اليوميات أو الصور. ووزعت التحقيقات والأحاديث على الصحفة الثالثة وغيرها. ثم تتطور وظائف الفن الصحفي وتزيد أبواب الصحف، وتنشأ الأركان الجديدة كالآداب والفنون والعلوم، وتخصص صفحات للرياضة والمرأة والتجارة والمال، وتعنى الصحف بالتحقيقات والإحصاءات وتفرد لها أماكن بارزة. ويزيد عدد صفحات الجريدة حتى يبلغ عشرين صفحة قبيل الحرب العالمية الثانية، وتصدر الصحف أعداد خاصة تحتوي على 64 صفحة كعدد الأهرام الزراعي "15 مايو سنة 1935" وعدد الأهرام الصناعي "4 إبريل سنة 1936".

وتحتل الصور والخرائط أماكن كبيرة بارزة في معظم صفحات الجرائد، وتخصص صفحات بعينها للصور الإخبارية. وقد تأثر الإخراج الصحفي بالحرب العالمية الثانية، عندما نقص الورق وتوقف استيراد الحروف والآلات، وقلت الإعلانات، فتغيرت أساليب العرض، واختصرت الأبواب المختلفة، وألغيت التحقيقات المطولة. ومع ذلك فقد بذلت الصحف جهدا مشكورا للاحتفاظ بالمستوى الأخباري للصحافة، وأصبح من الضروري زيادة عدد السطور في الأعمدة، والإيجاز في تدوين الأخبار، وتلخيص البيانات والخطب تلخيصا وافيا لا يخل بمضمونها، واستلزم الأمر أيضا أن تتمسك الصحف بالبنط الصغير وهو البنط 9. وقد كانت هذه الحقبة الصعبة ذات أثر بالغ في توجيه الفن الصحفي تحريرا وإخراجا وجهة جديدية، فأصبح الإيجاز والسرعة التي تعكس إيقاع الحياة الحديثة من أهم معالم الأسلوب الصحفي. وحتى بعد انتعاش الصحافة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظلت الموضوعات القصيرة، والأسلوب التلغرافي، والتعبير بالرسم والصورة والخريطة، هو جوهر الفن الصحفي الجديد حتى بعد أن بلغت صفحات الجريدة اليومية 92 صفحة في فبراير سنة 1949. أما الإعلانات -وهي مصدر الإيرادات الأول للصحيفة- فإنها توزع على الصفحات توزيعا دقيقا وفقا لسياسة الصحيفة الإخراجية. فقد تلامس الإعلانات جوانب من مواد التحرير؛ لأن الإعلانات تستمد قيمتها من الإطار التحريري للمواد الصحفية، أو أنها قد تنشر في صفحات مستقلة، مما ييسر طبع نسخ من هذه الإعلانات وتوزيعها بمفردها. وتنتهج بعض الصحف سياسة إخراجية خاصة تقضي بنشر إعلانات الرياضة في صفحة الرياضة، وإعلانات السينما في صفحة الفن، وإعلانات الأزياء في صفحة المرأة، وهكذا تنشر الإعلانات في الصفحات المتصلة بموضوعاتها. وقد كان ذلك ميسرا في وقت الرخاء عندما كانت الجريدة تحتوي على ست عشرة أو عشرين صفحة، وحين كانت الأركان المختلفة والأبواب تنشر كل يوم. أما في ظروف التقشف الاقتصادي فلا تظهر

الأبواب إلا مرة في كل أسبوع بوجه عام، ولذلك يتعذر تخصيص الإعلانات لكل صفحة من الصفحات على أساس الموضوعات المتصلة بها. وإذا كان من حق المعلن أن تظهر إعلاناته في أماكن ملفتة للأنظار لكي تنجح رسالته الإعلانية، فإن من حق الصحيفة أيضا أن تتقاضى أجورا تتناسب مع أهمية المكان الذي يحتله الإعلان، فإذا نشر إعلان في صحيفة إلى جوار عمود يكتبه صحفي لامع، كان من حقها أن تتقاضى أجرا ممتازا. وهناك صفحات ملفتة للأنظار بطبيعتها كالصفحة الأولى والصفحة الأخيرة، وصفحتي القلب مثلا. وتتقاضى الصحف أثمانا خاصة لنشر الإعلانات في هذه الصفحات.

فن إخراج الإعلانات

فن إخراج الإعلانات: والمرحلة الأولى من مراحل الإخراج الصحفي هي توزع الإعلانات توزيعا فنيا على الصفحات. ويتم ذلك بطبيعة الحال عن طريق قسم الإعلانات تنفيذا لرغبة المعلن. وهناك ستة أساليب لإخراج الإعلانات وهي: أولا: أسلوب نصف الهرم، وفيه ترتب الإعلانات في جانب واحد من جانبي الصحيفة بحيث تشغل الجزء السفلي ثم تتدرج إلى أعلى. وتوضع أولا الإعلانات الكبيرة ثم الأصغر فالأصغر كلما اتجهنا إلى أعلى؛ لأننا إذا وضعنا الإعلانات الصغيرة في أسفل الصفحة، أصبحت "مدفونة" لا تلفت الأنظار. وما دمنا نفضل دائما أن تمس الإعلانات جانبا من المواد التحريرية، فإن هذا الأسلوب نصف الهرمي خيرا ما يحقق ذلك، ويمتاز هذا الأسلوب أيضا بأنه يترك فراغا كبيرا في أعلى الصفحة يسمى بوضع العناوين الهامة سواء كانت منتشرة "مانشيت" أو عريضة على ثلاثة أو أربعة أعمدة فأكثر. وهو أسلوب اقتصادي من حيث الوقت والجهد لأنه يجعل شكل الصفحة منسقا جذابا، وفيه إرضاء للمعلن لأن إعلاناته تجذب الأنظار وتشجع على القراءة وتغري بالإطلاع ولا تبدو "مدفونة" أبدا1.

_ 1 H. FRANK SMITH, "GOOD TYPOGRAPHY IN NEWSPAPER MAKING" - EDITOR & PUBLISHER FEB. 24, 1923.

ثانيا: أسلوب نصفي الهرم، وفيه تعرض الإعلانات في أسفل الصفحة وكلا الجانبين معا في وقت واحد. ويلجأ المخرج إلى هذه الطريقة إذا كانت الإعلانات كثيرة. وتتدرج الإعلانات كذلك بنفس الطريقة، فتوضع الأكبر في أسفل الصفحة وإلى الداخل، ثم تتدرج الإعلانات الأصغر في أعلى الصفحة نحو الخارج، ويلاحظ أن هذا الأسلوب يسمح أيضا لأكبر عدد من الإعلانات بملامسة مواد التحرير، كما يترك الجزء الأعلى من الصفحة خاليا للعناوين المختلفة. ثالثا: أسلوب نصف الهرم والمستطيل، ويتبع هذا الأسلوب في حالة وجود مجموعة من الإعلانات المتساوية في العرض، بالإضافة إلى مجموعة أخرى متفاوتة. فتنظم المجموعة المتفاوتة على شكل هرمي والمتساوية على شكل مستطيل. وتقع مادة التحرير بين نصف الهرم والمستطيل. ومن عيوب هذا الأسلوب أن جانبا من الإعلانات في أسفل المستطيل يبقى "مدفونا" فلا يسترعي الأنظار. رابعا: أسلوب المستطيل، فإذا وجد إعلان كبير مستطيل أو عدة إعلانات صغيرة ذات عرض واحد، فلا مناص من عرضها بطريقة المستطيل في أحد الجوانب أو إلى أسفل، بشرط ألا يطغى الإعلان على مواد التحرير فيفسدها. ويحاول كثير من المعلنين شغل ثلاثة أرباع الصفحة مثلا للسيطرة على مساحة الصفحة بأسرها، غير أن بعض الصحف ترفض ذلك، إلا إذا تقاضت أجرا مناسبا لهذه التضحية، فمن الخطأ أن تبرز الإعلانات مساحة أو لونا على حساب المادة التحريرية. خامسا: أسلوب المستطيلين، وفيه ترتب الإعلانات ذات العرض الصغير فوق بعضها في جانب واحد، ثم ترتب الإعلانات ذات العرض الواحد الأكبر فوق بعضها في الجانب المقابل، فتقع مادة التحرير بين المستطيلين وتكون أشبه بالبئر، تختفي فيه الأخبار الصغيرة التي تأتي في أسفل الصفحة. ولا شك أن هذا الأسلوب في الإخراج يدفن بعض الإعلانات والأخبار على السواء، فيعتبر كثير العيوب، ولا يلجأ إليه المخرج الصحفي إلا مضطرا.

سادسا: الأسلوب العشوائي، وهو أسلوب ارتجالي تتناثر فيه الإعلانات بدون نظام، ويحول دون تنسيق الصفحة تنسيقا فنيا لأن الإعلانات والأخبار أو مواد التحرير الأخرى تكون مختلطة وغير واضحة المعالم، ولا ينبغي للمخرج الصحفي الكفء أن يلجأ إلى هذا الأسلوب مهما كانت الظروف لأنه يدل على الإهمال. ويلاحظ بوجه عام تنوع الأساليب في صفحات العدد مع مراعاة التوازن بين الصفحات المتقابلة. فإذا استعمل الأسلوب الهرم والمستطيل في الصفحة الثانية مثلا، فمن المستحسن استعمال نفس الأسلوب في الصفحة الثالثة. وتصر بعض الصحف على عدد نشر الإعلانات الداكنة أو ذات الألوان المتعددة، إذا كان نشرها "يقتل" إعلانات أخرى أو مواد تحريرية مجاورة. فالمبدأ العام هو اتساق مواد الصفحة الواحدة وانسجامها شكلا ومساحة ولونا، حتى لا تغطي عناصر معينة على الأخرى. فلا بأس من نشر الإعلانات القاتمة مع مواد تحريرية ذات عناوين ثقيلة وصور كبيرة لكي تتوازن معها ولا تطغى عليها، على أن تنشر الإعلانات المتوسطة الهادئة مع مواد التحرير المناسبة الهادئة أيضا. ولا تقتصر عناية المخرج الصحفي على الأجزاء العليا من الصفحة، حيث توجد العناوين الرئيسية والصور؛ إذ إنه يعنى أيضا بوسط الصفحة وأسفلها؛ لأن هذه الأجزاء محتاجة إلى الإبراز حتى لا تطغى عليها الإعلانات، كما يتجنب المخرج الصحفي وضع الصور والإطارات بجوار الإعلانات لأن ذلك قد يؤدي إلى "قتل" الإعلان، أو التشويش على القارئ، فيظن أن الصورة أو الإطار امتداد للإعلان. وينصح بازيل والترز1 أن تنظم العناوين والصور تنظيما إيقاعيا مع العناصر الطباعية الأخرى، بحيث يكون مرور العين عليها في خط مريح جذاب، وهذا لا يتأتى إلا بمراعاة الوحدة الفنية المتكاملة للصفحة. وللعناية بالأجزاء السفلية من الصفحات، يستحسن عدم تركها للبقايا، بل لا بد من العناية بها وذلك عن طريق عرض الصور والعناوين بها عرضا جذابا حيا، بوضعها في إطارات غير كاملة، أو بالإشارة إليها بالأسهم أو غير ذلك.

_ 1 basil walters, the minneapolis star journal.

فن إخراج المقالات والتحقيقات

فن إخراج المقالات والتحقيقات: ويعتبر إخراج المقالات من أهم المشكلات التي توجه المخرج الصحفي في العصر الحديث؛ لأن اهتمام القارئ قد انتقل من المقالات إلى الأخبار. فقديما كانت الصحف أدوات للتعبير عن الرأي، وكانت المقالات أهم عناصر الصحيفة، في فترة عرفت في تاريخ الصحافة العالمية بالصحافة الشخصية، لأن كتاب المقالات كانوا من كبار الشخصيات الذين عبروا عن آرائهم. ثم تتطور الصحافة ويطغى الخبر على المقال، وتندثر الصحافة الشخصية، ويبدأ عصر المؤسسات الصحفية الكبيرة كأجهزة ضخمة غير شخصية، ويقفز الخبر إلى الصفحات الأولى ومعه الإعلان والصور، ويجد المخرج الصحفي نفسه مواجها بمشكلة انصراف الناس عن قراءة الموضوعات والمقالات، وهو مطالب مع غيره من الصحفيين المثقفين الذين يدركون عظم المسئولية الملقاة على عواتقهم إلى التفكير في إعادة التوازن بين الخبر والعناصر الثقافية الأخرى. ومما لا شك فيه أن الإخراج السيئ المنفر يعقد المشكلة ويزيد من انصراف الناس عن قراءة المقالات والتعليقات. وقد اتجهت عناية الصحفيين أخيرا إلى إخراج المقالات الافتتاحية إخراجا جذابا، فتجمع الأسطر على عرض عمودين أو عمودين ونصف على الأقل، وبذلك يبدو المقال قصيرا غير مسرف في الطول، ويحسن استعمال حروف من بنط 12 مثلا مع وضع رقائق بين الأسطر. ومن وسائل الترغيب أيضا وضع الكاريكاتور الجذاب، وخطابات القراء "إلى المحرر" في نفس الصحفة. وذلك لأنها عناصر مشوقة للقراء. والواقع أن عزوف الناس عن قراءة المقالات والموضوعات الثقافية مشكلة خطيرة لا يمكن أن يحلها المخرج الصحفي وحده. فالمحرر نفسه يحمل نصيبا كبيرا من المسئولية، ولا يستطيع أي مخرج صحفي أن يخلق من مقال فاشل مقالا ناجحا. ومع ذلك فقد أثبتت التجارب العلمية التي أجراها روبرت راند1 بمعهد ميديل للصحافة أن الإخراج الجيد يزيد عدد قراء المقالات الافتتاحية بنسبة 10.1%.

_ 1 rober r rand, "a study of reader interest in thirty editorial pages" thesis submitted to medill school of journalism.

وتعنى الصحافة الحديثة أيضا بإخراج التحقيقات الصحفية المصورة إخراجا بديعا، ويقبل القراء عليها إقبالا يعوض انصرافهم عن المقالات. ولا شك أن إقبال القراء على التحقيقات راجع إلى بساطة العرض، واعتماد الصحفيين على أحاديث المسئولين والخبراء، فضلا عن الإحصاءات الحية وأساليب العرض الواقعية. كما تعتبر الصور والرسوم والألوان، والفقرات الخفيفة الممتعة، والعناوين الفرعية الجذابة. والفراغات البيضاء بين الفقرات، والجرأة في استخدام الإخراج الأفقي على عرض الصفحات المتقابلة، والاستفادة من ألوان الطباعة الحديثة وفنونها، ومن أهم العوامل التي تجذب القراء إلى الاطلاع على التحقيقات. وقد تأثر كتاب المقال الصحفي تأثرا كبيرا بأسلوب التحقيقات، حتى أصبح المقال الحديث مبنيا على تحليل الحقائق، وعرض المعلومات الواقعية بعيدا عن المبالغة أو التأثير الأدبي بالألفاظ. ويحسن أن نختتم هذا الباب بطائفة من الإشارات العامة بالنسبة للإخراج الحديث: 1- لا بد من وضع عنوان أو صورة في أعلى العمود، وقد يتعذر ذلك في بعض الأحيان، ولكن المخرج الفنان يضن بترك رأس العمود خاليا. 2- لا تضع الصور والإطارات بجوار الإعلانات؛ لأن الصورة قد تقتل الإعلان لجاذبيتها، أما الإطار فقد يبدو امتدادا للإعلان. 3- تجنب وضع أية صورة أو عنوان على خط الطي. 4- تفضل بعض الصحف ألا تكون الصورة في الأعمدة الخارجية التي تقع على حافة الصفحة، ومن المستحسن أن تكون في العمود الثاني إلى الداخل على أقل تقدير. 5- لا ينبغي الإسراف في استعمال العناوين المنتشرة "المانشيت" في الصفحات الداخلية، إلا في الأحوال التي تتطلب ذلك، كأن تخصص لخطاب رئيس الجمهورية، أو خطاب العرش، أو بيان هام، أو تصريح دولي، أو تقرير سياسي خطير.

6- تجنب تكديس الصفحات بأسطر الحروف، ويستحسن تخفيفها بالصور أو العناوين الفرعية التي يجب أن تظهر بين الفقرات تيسيرا للقراءة. 7- أن المبالغة في ملء الصفحة بالعناوين السوداء الداكنة المتعددة تؤدي إلى تشتيت الانتباه، كما أن المبالغة في تخفيف العناوين تجعل الصفحات باهتة منفرة، قليلة الجاذبية. 8- من الأخطاء الشائعة إنهاء العمود بنهاية الفقرة؛ لأن هذه النهاية ربما توحي للقارئ خطأ أن هذه الموضوع قد انتهى. فعند إتمام عمود ببقية عمود آخر، يحرص المخرج الصحفي على الاحتفاظ بسطرين أو ثلاثة. أما الاكتفاء بالبقية منفصلة في وحدة منعزلة دون رابط، فقد تؤدي إلى إهمال القارئ لها، ولذلك فإنها تسمى -على سبيل السخرية- "بالأرملة"، أو "البقية اليتيمة". 9- لا يجوز إكمال موضوع من عمود إلى عمود آخر إلا إذا كان العنوان على عرض عمودين أو ثلاثة ولا يجوز أن تكون البقية في مستوى أعلى من العنوان في العمود السابق. فمن الخطأ أن يكون العنوان في منتصف عمود ثم تأتي البقية في رأس العمود التالي. ويجب أن تكون البقية قريبة ومتصلة بالموضوع في العمود الأول، ويحدث أحيانا عند اتباع أسلوب نصفي الهرم في إخراج الإعلانات أن يبدأ الموضوع في العمود الأول إلى أن يصل إلى الإعلان، ثم يكمل هذا الموضوع في أسفل العمود التالي، تحت مستوى الإعلان الأول، فيحتار القارئ ولا يستطيع العثور على هذه البقية، فيتركها يائسا. 10- يجب تنسيق السياسة الإخراجية في سائر الصفحات، وخاصة إذا كان لكل صفحة سكرتير أو مخرج صحفي خاص بها، وذلك حتى لا تتكرر الموضوعات أو تتعارض، ولكي تنسجم جميع الصفحات من الناحية الفنية والإخراجية.

الباب الثامن: فن التصوير الصحفي

الباب الثامن: فن التصوير الصحفي مدخل ... الباب الثامن: فن التصوير الصحفي لقد أصبح الفن الصحفي الحديث فنا بصريا يعتمد على الصور والرسوم والخرائط، كما أصبحت الصورة تلعب دورا أساسيا في تحقيق أهداف الصحافة، في عصر تسوده لغة بصرية جديدة نشأت -بالضرورة- نتيجة للتفوق الهائل في فن السينما والتقدم الرائع في فن التليفزيون. ومع أن الصور قد استخدمت في الصحف منذ أكثر من قرن، فإن التوسع الكبير في استخدامها خلال السنوات الأخيرة كان أبلغ أثرا على الصحافة منه في أي وقت مضى. فحتى العقد الرابع من هذا القرن، لم تكن الصحف تحمل أكثر من صورة أو صورتين على صفحتها الأولى. وأكثر من عشرة صور في بقية صفحاتها، وكانت الصور في معظمها تتسم بالجمود والتصنع. أما الآن فإن التغير قد أصاب عدد الصور وحجمها وطبيعتها. لقد زاد عدد الصور، وخصصت لها صفحات كاملة، وأصبحت اللقطات الجديدة لموضوعات حية، وذلك بفضل ابتكار حاجب الضوء الأسرع حركة والفيلم الأنعم جزئيات والعدسات الأنقى خامة. ثم واكب ذلك تقدم سريع في فن صناعة الأنماط "الكليشيهات" وكذلك في طرق نقل الصور بسرعة مذهلة سلكيا ولاسلكيا. ومرة أخرى نجد أن ظهور الصحافة الشعبية زهيدة الثمن حوالي سنة 1830، وانفراج أزمة الورق بعد اختراع آلة فوردرنييه1 التي تنتج الورق في صورة لغات كبيرة متصلة لا حد لطولها، وإقبال القراء على

_ 1 FOURDRINRER.

الصحافة الجديدة المصورة، ونجاح المجلات الجديدة في اجتذاب القراء، كل هذه العوامل قد تفاعلت لإنتاج الفن الصحفي المصور. ولقد عرف الإنسان قيمة الصورة منذ فجر التاريخ، عندما سجل أنباء انتصاراته على جدران الكهوف والمغامرات في حياته البدائية. ولعل الحكيم الصيني كونفوشيوس1 هو الذي قال: إن الألف كلمة لا يمكن أن تتحدث ببلاغة كما تتحدث صورة واحدة. غير أن المربي المورافي كومنيوس2 هو الذي اكتشف أهمية الصورة كوسيلة للإعلام والإيضاح والإقناع وذلك سنة 1587. ومنذ ذلك الحين أخذت جهود العلماء والفنانين تتضافر في شتى أقطار العالم لمعرفة فن التصوير وطرق طبع الصور ونقلها بسرعة ودقة وسهولة. وقد اكتشف إقليدس اليوناني سنة 350 قبل الميلاد أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، ولم يفت أرسطو ملاحظة أشعة الشمس وهي تنعكس على سطح الأرض بقعا ضوئية مستديرة بعد مرورها خلال الفتحات بين أوراق الأشجار، ويقال إنه قد عن له أن يأتي بورقة من البردي تلقى على صفحتها تلك البقع الضوئية المستديرة، ولاحظ أن حجم تلك البقع يختلف باختلاف المسافات بين الفتحات وورقة البردي. غير أن العرب هم الرواد الأوائل في علم الضوء ودراسة العدسات، ويعد الحسن بن الهيثم من أشهر علماء الضوء الذين احتفى الغرب ببحوثهم وساروا على منهجهم. وفي سنة 1276 تحدث روجر بيكون3 -وهو عالم إنجليزي أعجب بالعرب وتأثر بكتاباتهم- عن جهاز بصري ذي مرآة، يعده البعض إرهاصا بظهور آلة التصوير، لولا أن حديثه جاء غامضا. وقد أجرى ليوناردو دافنشي4 تجارب عديدة على الصندوق المظلم، بيد أن التاريخ يشير إلى رجل آخر ويمنحه فضل اختراع آلة التصوير، وهذا الرجل هو جان بابتيست بورتا5 وهو إيطالي من مدينة نابولي نشر كتابا له سنة 1553

_ 1 CONFUCIUS. 2 COMENIUS. 3 ROGER BACON. 4 LEONARDO DA VINCI. 5 JEAN BAPTISTE PORTA.

وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره أسماه "السحر الطبيعي" وفيه يصف لنا بعض خواص الصندوق المظلم وتطبيقاته في فن التصوير الضوئي. ويرجع إلى دانييلا بربارو1 فضل استخدام العدسة المحدبة بدلا من الثقب، كما أوضح لنا قيمة استخدام العدسة البسيطة مع استعمال فتحة ضيقة، وذلك في كتابه "ممارسة المنظور"2. ثم تطور فن التصوير على يد عالم فلكي يدعى يوهان كيبلر، استطاع أن يضيف معلومات كثيرة إلى ما اكتشفه بربارو من قبل، وقد نشر هذه المعلومات في كتاب له صدر سنة 1611 وفسر فيه عمل العدسات البسيطة والعدسات المركبة.

_ 1 DANIELLA BARBARO 2 PRACTICE OF PERSPECTIVE.

اكتشاف السطوح الحساسة والأفلام

اكتشاف السطوح الحساسة والأفلام: غير أن فن التصوير هو فن تدويني أصلا، يقوم فيه المصور بتسجيل ما يراه على سطح حساس للضوء. فبينما كان فريق من العلماء يبحث في تقدم صناعة العدسات وأساليب تحسينها، كان فريق آخر يبحث وسائل تسجيل الصور على سطوح حساسة. لذلك نجد أن معظم الباحثين في فن التصوير كانوا يولون اهتماما كبيرا إلى الدراسات الكيمائية وخاصة مادة نترات الفضة التي أخذوا يدرسون خواصها منذ القرن السادس عشر حتى وصلوا إلى خاصية تأثرها بضوء الشمس واكتسابها اللون القاتم. ومن هؤلاء العلماء يوهان شولز1 الذي أجرى تجاربه سنة 1721، وكارل وليم شيل2 وهو عالم سويدي اكتشف أن الأشعة البنفسجية والزرقاء أسرع تأثيرا من الأشعة الحمراء على أملاح الفضة الحساسة مثل نترات الفضة أو كلوريد الفضة، وذلك سنة 1771. وقد أسهم العالم الإنجليزي توماس ويدجود3 في أبحاث نترات الفضة أيضا في عام 1802، واهتدى العالم ديفي في عام 1818 إلى أن أملاح كلوريد

_ 1 J. SCHULZE. 3 C. SCHEEL. 4 T. WEDGOOD.

الفضة أشد حساسية من أملاح نترات الفضة وبذلك تكون أكثر تأثرا بالضوء إلى أن حالف الحظ العالم الإنجليزي السير جون هيرشيل1 في التوصل إلى اكتشاف مادة كيمائية خاصة هو صوديوم ثيوسلفيت2 ويطلق عليها هيبوسلفيت الصوديوم، وهو ملح يذيب أملاح الفضة مثل كلوريد الفضة ونترات الفضة التي لا تتأثر بالضوء، وبذلك يمكن تثبيت الصورة وحفظها من الزوال، وتم ذلك سنة 1819. ثم انصرف اهتمام العلماء بعد ذلك إلى ميدان آخر من ميادين فن التصوير وهو كيفية الحصول على مواد حساسة مختلفة تصلح لتسجيل صور ثابتة، واستطاع الكيمائي الألماني كريستيان فريدريش شوينباين3 أن يذيب القطن في الكحول والأتير للحصول على الكلوديون الرطب الذي يعتبر أساس صناعة الأفلام، وخاصة في ذلك الوقت، كما يستخدم حتى الآن في الصحف لإنتاج أسطح حساسة لالتقاط صور الكليشيهات عليها. وجاء من بعده العالم فريدريك أسكوت آرشر4 الذي اكتشف في عام 1815 أن إضافة اليود والبوتاسيوم إلى الكلوديون الرطب يجعل السطح الحساس المغطى بنترات الفضة أكثر حساسية ويساعد على إنهاء عملية التثبيت في غضون بضع دقائق. بيد أن أشهر التجارب في عالم التصوير هي تلك التي قام بها العالمان الفرنسيان نيبس5 وداجير6 للحصول على طبقات حساسة للضوء، وذلك ابتداء من سنة 1829. ومن هذه التجارب مثلا طلاء لوح من النحاس بطبقة من الأسفلت ثم لصق ورقة شفافة مرسوم عليها صورة ثم تعريضهما معا لضوء الشمس حتى يتصلب الأسفلت المعرض للضوء، بينما تظل الأجزاء الباقية تحت الخطوط المعتمة كما هي أي أنها لا تتصلب وتبقى قابلة للذوبان في محلول خاص. واستطاع ليبس أن يزيل الأسفلت المتصلب، ويحفر اللوح النحاس بحامض

_ 1 SIR JOHN HERSCHEL. 2 SODIUM THIO SUIPHATE. 3 CHRISTIAN FRIEDRICH SCHOENBEIN. 4 FRIEDRICH SCOTT ARCHER. 5 JOSEPH NICHEPORE NIEPCE. 6 LOUIS DAGUERRE.

النيتريك فتبقى الخطوط واضحة عميقة مما يسهل تحبيرها بأي حبر، ومن ثم يتيسر طباعة أي عدد من النسخ من هذا اللوح، وقد أطلق على هذه الطريقة اسم طريقة الحفر الشمسي1، ولكنها كانت غير عملية لأن الأسفلت بطبيعته لا يمتاز بالحساسية الكافية إلى الدرجة المطلوبة. وبعد وفاة العالم نيبس في عام 1833، واصل داجير إجراء أبحاثه وتجاربه حتى عثر في النهاية على سر جديد هو أن أبخرة الزئبق تسبب في إظهار الصورة المختفية على اللوح الحساس، وتسمى هذه الطريقة باسم ألواح الفضة واليود2. وفي 19 أغسطس سنة 1839 أمام أراجو اللثام عن أسرار فن التصوير الضوئي أمام أعضاء أكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون الجميلة فسر لهم طريقة التصوير المسماة داجيروتيت. وأجريت التجارب باستخدام القار "الأسفلت" ومادة اليود مع الاستعانة بالزيت العطري3 كما استخدمت بعض الدعامات الزجاجية لطلائها بتلك المادة الحساسة. وقد أثار هذا الاختراع الجديد اهتمام الرأي العام في ذلك العصر وأصبح حديث الناس، واهتمت الصحف بأخباره. من ذلك مثلا ما نشرته صحيفة جورنال دي ديبا4 في عددها الصادر يوم الثلاثاء 20 أغسطس سنة 1839 أي اليوم التالي لعرض هذا الاختراع في الأكاديمية تقول: "إننا نؤكد أن هذا الاختراع الجديد يتفوق على كثير من الاختراعات التي تمت حتى الآن والتي يمكن أن يتصورها العقل البشري". ومن الطريف أن بعض الصحف أخذت تتحدث عن هذا الاختراع حديثا غامضا عجيبا حتى اعتبرته من عمل الجن أو الشياطين. وفي الوقت الذي ذاع فيه صيت داجير وفضله في فرنسا حوالي سنة 1839، كان هناك عالم إنجليزي يدعى وليم هنري فوركس تالبوت5 يجري تجاربه للحصول على طرق جديدة لطباعة الصور على ورق أبيض مغطى بطبقة من أملاح

_ 1 HELIOGRAVURE. 2 LODIZED SILVER PLATES. 3 LAVENDEROIL. 4 JOURNAL DES DEBATS. 5 W. H. F. TALBOT.

كلوريد الفضة وأيوديد الفضة، وقد نجح هذا العالم في اكتشاف أول طريقة للحصول على صور إيجاببة تطبع من سالبية ورقية. ويلاحظ أن هذه خطوة جديدة لم يسبق لها مثيل في عالم التصوير؛ لأن صور داجير السابقة لم تكن إلا إيجابيات مباشرة يتعذر الحصول منها على نسخ متعددة، في حين أن تالبوت استطاع تحويل الصور المطبوعة على الورق المغطى بأملاح الفضة الحساسة إلى سالبية وذلك بطريقة العكس1، أي تحويل الأبيض إلى أسود، ولعلها تشبه السالبية التي نشاهدها اليوم، وذلك باستخدام مادة كيميائية خاصة تمنع تأثير الضوء على المادة الحساسة بعد نزعها من فوق اللوح المطلي، وبذلك أمكنه الاحتفاظ بالصورة المطبوعة على الورقة الحساسة.

_ 1 REVERSE.

تطور فن التصوير الضوئي

تطور فن التصوير الضوئي: أما صاحب الفضل الأول في ابتكار الفيلم الحساس الجاف فهو العالم الإنجليزي مادوكس1 الذي استطاع في سنة 1871 أن يستبدل بالكلوديون الرطب الجيلاتين الجاف. وفي سنة 1872، استطاع الكيمائي الألماني فوجل2 أن يكتشف طريقة مبتكرة يجعل بها الفيلم حساسا لألوان الأشعة الضوئية فيما عدا اللون الأحمر، وذلك بإضافة صبغات معينة من ذات لون الأشعة إلى خامة الفيلم نفسه، وهذه هي الأفلام الأرتوركروماتيك. وعندما اهتدى تشارلس بنيت3 إلى أن تسخين الجيلاتين أثناء تحضير الطبقة الحساسة يجعلها أكثر حساسية لألوان أشعة الضوء، كان ذلك بمثابة نهاية لعصر الفيلم الرطب وبداية لعصر الفيلم الجاف، وذلك سنة 1879. وفي السنة التالية استطاع جورج إيستمان4 أن يجعل من صناعة الأفلام الجافة تجارة واسعة الانتشار. وفي عام 1887، استطاع القس الأمريكي هانيبال جودوين5 أن يصنع الفيلم الشفاف الحديث لأول مرة. أما الفيلم القديم فلم يكن سوى شريط من

_ 1 DR. R. MADOX. 2 H. W. VOGEL. 3 CHARLES BENNET. 4 GEORGE FASTMAN. 5 HANNIBAI GOODWIN.

الورق يغطى بطبقة من الجيلاتين وأملاح الفضة الحساسة. وكان المعتاد آنذاك أن تنزع الطبقة الحساسة من فوق هذا الورق لاستعمالها كسالبية شفافة. ثم اكتشف بعد ذلك العالمان هنتر ودرفيليد1 العلاقة بين الحرارة والزمن في عملية التحميض لإظهار الصورة بصرف النظر عن مدة التعريض الأصلية، بشرط أن تكون الأفلام من نوع واحد، ثم اخترع جورج إيستمان بعد ذلك، لأول مرة، الفيلم الملفوف2 وبذلك بدأت شركة كوداك المشهورة أعمالها على نطاق واسع. واستطاع الكيمائي الألماني كونيك3 في سنة 1905 أن يبتكر الفيلم الحساس لجميع الألوان وهو المسمى بانكروماتيك4، وذلك باستعمال صبغات خاصة تضاف إلى خامة الفيلم نفسه. ويعتبر عام 1931 نقطة تحول هامة في تاريخ التصوير، عندما ابتكر عازف الكمان ليبولد جودسكي5 بالاشتراك مع صديقه ليوبولد مانس6 لأول مرة فيلما ملونا كان الأساس الذي بني عليه فيما بعد فيلم الكوداكروم والذي انتشر على نطاق واسع بعد سنة 1935. وقد لعبت آلة التصوير الصغيرة "لايكا" دورا هاما في تطور فن التصوير، وكان مخترع هذه الآلة أوسكار بارناك7 من كبار الباحثين الألمان الذين أجروا بحوثا عميقة عن الميكروسكوبات. وقد عن له أن يجري أبحاثا أخرى عن آلات التصوير الحديثة لاقتصاد الأفلام باستخدام أشرطة السينما المتبقية في عمل أفلام تصويرية بدلا من الألواح الزجاجية التي كانت تستعمل في آلات التصوير الكبيرة. ثم توقفت أبحاث بارناك عدة سنوات أثناء الحرب العالمية الأولى واستؤنفت بعد الحرب إلى أن كللت بالنجاح الباهر سنة 1924، وانتجت آلات التصوير من طراز "لايكا" على نطاق تجاري واسع سنة 1925. واستطاعت الصحافة أن تستغل هذه الآلة الحديثة أعظم استغلال لما تتوافر فيها

_ 1 HUNTER & DRIFFIELD. 2 BOLL FILM. 3 KONIG. 4 PANCHRONATIC. 5 LEOPOLD GEDOWSKY. 6 LEOPOLD MANNES. 7 OSCAR BARNACK.

من مميزات كثيرة. فهي صغيرة الحجم، خفيفة الوزن، سهلة الحمل والاستعمال. ويتكون الفيلم فيها من ست وثلاثين صورة صغيرة، يمكن التقاطها بمنتهى السهولة، خاصة وأن الآلة مركبة تركيبا خاصا يجعل تعريض صورتين فوق بعضها مستحيلا. ويستطيع المصور أن يستعمل هذه الآلة وهو واقف وقفة طبيعية جدا؛ لأن وضع الآلة يكون أمام عينية مباشرة. والمصور بهذه الطريقة لا يلفت الأنظار لصغر حجم الآلة، وبذلك يتجنب حساسية الناس لآلة التصوير، تلك الحساسية التي تفقد الصور عناصر التلقائية والواقية والحيوية والحركة، وعندما اكتشفت مصابيح الإضاءة الوامضة سنة 1929 أصبح الطريق ممهدا للتصوير الليلي السريع. ويرجع الفضل إلى هارولد إدجارتون1 في ابتكار جهاز خاص يعطي سرعات عالية للغاية في قافل آلة التصوير ويسمى بالإستروبوسكوب2 وقد تصل سرعته أحيانا إلى 1/ 50000 من الثانية، بل قد تصل إلى جزء من مليون من الثانية بسهولة. ثم توالت الأبحاث الدقيقة لتجنب الانعكاسات الضوئية على سطح العدسة مما يقلل من مجموع الأشعة النافذة إلى السطح الحساس، فاستطاع أستاذ الفيزياء هاولي كارترايت3 أن يغطي السطح الزجاجي للعدسة بطبقة من أبخرة الكالسيوم والمغنسيوم وغيرها من المواد بحيث لا يزيد سمك هذه الطبقة عن 4 من مليون من البوصة، وذلك لتجنب انعكاس الأشعة الضوئية، كما سبق القول. وقد بلغ طموح الباحثين إلى حد أنهم أرادوا الحصول على صور مجسمة ذات أبعاد ثلاثة ملونة بالألوان، وقد تحقق لهم ذلك سنة 1940، عندما اكتشف دوجلاس ونيك4 طريقة خاصة لمعالجة الفيلم بالعدسات المقعرة، بحيث تساعد على تصوير الموضوعات للحصول على نتائح مجسمة بأبعادها الثلاثة في الصور الملونة وغير الملونة. أما عن إمكانية التقاط الصور وتحميضها وطبعها في وقت واحد فهو اختراع يرجع إلى سنة 1947، عندما ابتكر إدوين لانت5 آلة تصوير تلتقط الصورة وتحمضها على ورق حساس خاص، وتعدها للطبع مباشرة عندما يضغط المصور على زناد معين يجعل سائل التحميض يغمر السالبية ثم ترسب الفضة المعدنية بعد ذلك على ورق خاص فتخرج الصورة مبتلة نوعا ما، حيث تجف بعد برهة وجيزة.

_ 1 harold e. edgerton. 2 stroboscope. 3 howley cartwright. 4 douglas winneck. 5 edwin land.

فن إنتاج الأنماط "الكليشيهات"

فن إنتاج الأنماط "الكليشيهات": وبينما تقدمت فنون التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر على النحو الذي سبق ذكره، لم تكن الصحافة قد عرفت الوسائل الفنية الحديثة التي تمكنها من نشر الصور عن طريق صناعة الأنماط "الكليشيهات" المعدنية. ومع ذلك، فلم تقف الصحافة مكتوفة الأيدي، بل كانت تصنع أنماطا على طريقة الحفر الخشبي، وذلك برسم الصورة المراد طبعها على قطعة من الخشب، ثم حفر الأجزاء الواقعة بين خطوط الرسم حفرا غائرا، حتى يتسنى تحبيرها وطبعها على الورق. ومع أن هذه الطريقة في صناعة الأنماط المحفورة على الخشب لم تستطع مجاراة الصحافة في بادئ الأمر لأنها كانت محدودة النتائج، فقد استطاع توماس بويك1 أن يقفز بهذه الصناعة الخشبية قفزات سريعة إلى الأمام، عندما اكتشف في عام 1820 أن القطاعات العرضية من أخشاب الشجر أصلح بكثير من القطاعات الطولية لحفر الأنماط الطباعية. وقد بلغت صناعة الأنماط الخشبية ذروتها سنة 1850، عندما ابتكر تشارلس ويلز2 طريقة جديدة لإنتاج الأنماط كبيرة الحجم بسرعة وسهولة، وبذلك ساير تقدم صناعة الأنماط ما بلغته الصحافة من رقي وانتشار3. وتتلخص طريقة ويلز في وضع مجموعة من القطع الخشبية المتساوية الواحدة إلى جانب الأخرى لتكون فيما بينها سطحا واحدا متحدا. وكانت هذه القطع الخشبية

_ 1 thomas bewick. 2 charles wells. 3 john clyde oswald, a history of printing, p.322.

تربط من الخلف برتاج خاص لكي تثبت تماما. وبعد ذلك يقوم الفنان المصور برسم الصورة على السطح الكبير الذي هو في الحقيقة مجموعة سطوح القطع الخشبية. وبعد انتهاء عملية الرسم تفك القطع الخشبية وتفصل عن بعضها البعض، وتوزع على الحفارين لحفرها، وفي النهاية تجمع القطع وتضم إلى بعضها وتثبت بالرتاج أو بمسامير خاصة وتكون معدة للتحبير والطبع في الحال. وكانت صناعة الأنماط الخشبية متسقة تمام الاتساق مع فن الحصول على الأخبار من حيث الحداثة والسرعة والسبق. فإذا علمت الصحيفة بحادث حريق أو فيضان مثلا، بعثت إلى مكان الحادث مندوبيها الصحفيين ومعهم مصور خاص يرسم صورة هيكلية سريعة لمكان الحادث وبعض التفاصيل الهامة. وكأن هذا الفنان يقوم مقام المصور الفوتوغرافي في الصحافة الحديثة، أما عملية النقل إلى مجموعة السطوح الخشبية المتحدة فتشبه عملية التصوير على اللوح المعدني في الحفر الحديث. ولكن صناعة الأنماط الخشبية لم تحقق الأغراض التي كان يهدف إليها رجال الصحافة في القرن التاسع عشر، واتضح أنها طريقة متخلفة عن ركب التقدم الذي وصلت إليه فنون الصحافة الأخرى والطباعة وصناعة الورق غيرها. وأصبح من الضروري إجراء بحوث للوصول إلى طرق أفضل لصناعة الأنماط بسرعة وبساطة. ومن هذه المحاولات إنتاج الأنماط بطريقة السبك المعدني، وتتلخص هذه الطريقة في تغطية لوح من المعدن بمادة تشبه الطفل سمكها 16/ 1 من البورصة، ثم ترسم الصورة المطلوب طبعها على سطح هذه المادة الطفلية، وتأتي بعد ذلك مرحلة الحفر فتشق الخطوط في سطح المعدن، وأخيرا تأتي عملية السبك فيصب مصهور المعدن ليتخذ شكل الخطوط المحفورة، ويتم بذلك عمل نمط معدني بارز، غير أن هذه الطريقة كانت عقيمة بطيئة, ولم يقدر لها ما كان ينتظرها من نجاح، رغم قلة تكاليفها نسبيا. وأخذت بحوث العلماء تنتقل إلى التصوير الفوتوغرافي، إمكانية نقل الصور إلى السطح المعدني وحفرة بطرق ميكانيكية أو كيمائية. وقد رأينا أن

بحوث نيبس وداجير وتالبوت قد تقدمت خطوات عظيمة في هذا السبيل، وخاصة تالبوت الذي اكتشف سنة 1852، أن الورق المشبع بمحلول بيكرومات البوتاسيوم يصبح صلبا إذا تعرض للضوء، ويعد هذا الاكتشاف حجر الزاوية في صناعة الأنماط المعدنية1، فالجيلاتين البيكروماتي يصبح غير قابل للذوبان في الماء إذا تعرض للضوء. وأهم مميزات هذه الطريقة أن أجزاء السطح البيكروماتي التي تتعرض للضوء تصبح صلبة ومقاومة للحامض، أما الأجزاء الأخرى التي لا تتعرض للضوء فإنها تذوب في الماء بسهولة تاركة سطح المعدن عاريا، ومعرضا لفعل الحامض. ويعد تالبوت أيضا صاحب الفضل في استخدام الشبكة لفصل سطح الصورة إلى أجزاء دقيقة أو نقط للحصول على الدرجات اللونية والظلال المتدرجة، وذلك بوضع شبكة زجاجية دقيقة بين السطح الحساس والإيجابية وتعريضهما للضوء. ولولا هذا الاختراع الخطير لما استطاع أحد أن ينتج أنماط الصور بتلك الدقة والواقعية التي نشهدها في هذه الأيام ولا سيما بعد إجراء التحسينات العديدة على مر السنين للحصول على أنواع مختلفة من الشبكات المناسبة لطرق الطباعة من جهة، وأنواع الورق من جهة أخرى. وهناك ثلاثة أنواع للطباعة يترتب عليها أيضا ثلاث طرق لإنتاج الأنماط. وهذه الأنواع هي: الطباعة البارزة، والطباعة الغائرة، والطباعة الملساء. وفي هذه الأنواع جميعا تتم عملية الطبع أو النقل على الورق بالتلامس أو الضغط، لكن الحبر قد يكون فوق سطح النمط المعدني أو قد يكون في ثنايا فجوات داخلية فيه.

_ 1 j. e mack & m j. martin, the photographic process. p.11.

إنتاج الأنماط البارزة

إنتاج الأنماط البارزة: ولدراسة الأنماط البارزة، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين هما: الأنماط الخطية التي لا تستعمل فيها الشبكة، وهي أنماط الخطوط والمساحات المتجانسة، والأنماط الظلية التي لا بد من استعمال الشبكة في إنتاجها، وهي أنماط الصور ذات الظلال المستمرة التدرج من النور إلى الظل. كما أن هناك تقسيما آخر لدراسة الأنماط من حيث اللون، وهي تنقسم كذلك إلى قسمين: الأنماط ذات اللون الواحد، والأنماط ذات الألوان المتعددة. وهناك أربع مراحل رئيسية لإنتاج النمط البارز سواء كان خطيا أو ظليا، ذا لون واحد أو متعدد الألوان. وكل ما هناك من فرق هو أن النمط الخطي لا تستعمل فيه شبكة التصوير التي تستعمل في النمط الظلي، كما أن الأنماط الملونة تتطلب نمطا خاصا لكل لون من الألوان المطلوبة. ويبدأ المخرج الصحفي هذا العمل باختيار الصورة أو الرسم أو الفنون المطلوب وإرساله إلى قسم الحفر. وفيه تتم عملية الإنتاج على أربع مراحل رئيسية هي: أولا: التصوير الفوتوغرافي، وذلك بالتقاط الصورة على سطح حساس. وتستعمل الصحف المصرية طريقة الكلوديون الرطب لإعداد هذا السطح الحساس الذي تلتقط عليه صور الأصول الخطية والظلية على السواء، وبذلك يمكن عمل سالبيات لها. وتمتاز هذه الطريقة برخصها ووضوحها ودقتها، كما أن غشاء الكلوديون الحساس الذي يتكون على اللوح الزجاجي، يمكن تجفيفه بواسطة الحرارة ونزعه ثم تركيبه مع غيره من الأغشية على سطح زجاجي آخر. وتتبع هذه الطريقة توفيرا للجهد والمال بطبع جميع هذه السالبيات على لوح معدني واحد. وتيسر طريقة الكلوديون الرطب عملية علاج السالبيات وتحسينها للحصول على نتائج مرضية. أضف إلى ذلك أن الزجاج المستعمل في عمل السالبيات يمكن تنظيفه وإعادة استعماله لإنتاج سالبيات جديدة. ويتلخص التفاعل الكيمائي الذي يحدث عنه غمر لوح الزجاج المغطى بالكلوديون في حمام الفضة في اتحاد يودور الكادميوم وهو أحد مركبات محلول الكلوديون مع نترات الفضة مكونا يودور الفضة: يودور كادميوم + نترات فضة= يودور فضة + نترات كادميوم. ويلاحظ أن يودور الفضة هي المادة ذات اللون البني التي تتكون عند وضع الزجاج المغطى بالكلوديون في حمام الفضة، وهي لا تذوب في الماء وتكون السطح الحساس للضوء الأبيض، أما أملاح الكادميوم فتذوب في محلول نترات الفضة.

وبعد تكوين السطح الحساس يأتي دور التصوير لنقل صورة الأصل على اللوح الزجاجي الحساس وبذلك يتم عمل السالبية. ثانيا: طبع الصورة على اللوح المعدني، وذلك بتغطية سطح المعدن بطبقة غرائية بيكروماتية حساسة للضوء، ثم لصق السالبية على هذه السطح المعدني الحساس وتعريضهما معا لضوء أبيض ناصع يحتوي على كمية كبيرة من الأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية. وتمتاز مصابيح الأقواس الكهربائية المقفلة بأنها ترسل كمية كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية، أما المصابيح المفتوحة فلا ترسل كمية كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية كالتي ترسلها المصابيح المقفلة، ولكنها غنية بالأشعة المنظورة، ولذلك فهي تصلح لتصوير الأصول الملونة. ولما كانت أجزاء الرسم في الأصل قد أصبحت شفافة في السالبية فإنها تسمح بمرور الضوء خلالها، ونتيجة لذلك تتصلب المواضع المقابلة لها من الطبقة الغرائية البيكروماتية، وتصبح غير قابلة للذوبان في الماء، أما الأجزاء البيضاء في الأصل والتي أصبحت معتمة في السالبية فإنها لا تسمح بمرور الضوء خلالها، وبذلك تحمي الطبقة الغرائية البيكروماتية المقابلة لها من التصلب بفعل الضوء، ومن ثم تكون قابلة للذوبان في الماء بسهولة. وعلى هذا الأساس تتحدد بدقة الأجزاء الطباعية التي تبقى بارزة، والأجزاء غير الطباعية التي تصبح منخفضة بفعل تآكل الحامض. ثالثا: عملية الحفر، وهي تتم بعد طلاء اللوح المعدني بالمادة المقاومة للحامض. وقد تكون هذه المادة في شكل مسحوق أحمر أو في شكل محلول "دم التنين"1، ثم يسخن اللوح المعدني ويبرد لتبدأ عملية الحفر الأول بواسطة حامض النيتريك بالنسبة لألواح الزنك أو بمحلول كلوريد الحديديك إذا استعملت ألواح النحاس. ويصبغ اللوح المعدني عادة بالصبغة البنفسجية لكي تظهر الأجزاء الطباعية بوضوح فيسهل مراجعتها على الأصل. على أن قسم الحفر لا يعتمد على تأثير الحامض وحده، وإنما يلجأ إلى استخدام الإبرة الميكانيكية لعمل اللمسات الأخيرة، كتعميق بعض الفراغات حتى لا تحمل الحبر أثناء عملية الطبع. رابعا: وبعد الانتهاء من عملية التهذيب تأتي مرحلة التجهيز النهائي بوضع اللوح على قاعدة معدنية أو خشبية، بحيث يكون ارتفاعها مساويا لارتفاع الحرف الطباعي.

_ 1 DRAGON.htm'S BLOOD.

إنتاج الأنماط الغائرة

إنتاج الأنماط الغائرة: أما طريقة إنتاج الأنماط بالحفر الغائر فترجع إلى القرن الخامس عشر، عندما كان الفنانون يحفرون الصور بالأزاميل المدببة وغيرها على ألواح النحاس. أما طريقة الحفر الغائر على الأسطونات النحاسية وهي المسماة بالروتوجرافور1. فلم تبدأ إلا حوالي سنة 1893، عندما استطاع الفنان كارل كليتش2 أن يطبق طريقة تالبوت ويجعلها مناسبة للطباعة الغائرة من سطوح أسطوانية نحاسية. ويمتاز الروتوجرافور الحديث أيضا بأنه يستخدم التصوير الفوتوغرافي في نقل الصور والرسوم وغيرها إلى السطح المعدني بحيث يبقى الحبر في الأجزاء المنخفضة فقط دون غيرها من الأماكن البارزة التي تنظفها شفرة الطبيب3، وهي لا تتآكل بسرعة لأن الحبر يعمل بمثابة سائل للتشحيم. والواقع أن تطيبق الطريقة الأسطوانية في الطباعة الغائرة قد جعل طباعة الروتوجرافور من أسرع أنواع الطباعة وأنسبها للصحافة. وأهم خصائص الروتوجرافور أنها طريقة شبكية، تستخدم فيها الشبكة لتجزيء كل ما يطبع على سطح النحاس، ولا ينطبق ذلك على الصور الظلية فقط "كما هو الحال في الطباعة البارزة" وإنما يطبق كذلك على الأصول الخطية، بل وعلى الحروف ذاتها. وإذا كانت الخطوط الشبكية تكاد لا تظهر في طباعة الروتوجرافور، فمرجع ذلك إلى أن الشبكة المستعملة تكون عادة دقيقة للغاية،

_ 1 ROTOGAVURE. 2 KARL KLIETSCH. 3 DOCTOR'S BLADE.

كما أن الورق الذي يستعمل في طباعة الروتوجرافور يكون عادة من النوع القابل لامتصاص الحبر، فالأجزاء القائمة تلتقط كمية كبيرة من الحبر تكفي للانتشار وإخفاء معالم الخطوط الشبكية المجاورة. وغني عن البيان أن طباعة الروتوجرافور تصلح صلاحية كبيرة للأصول المصورة سواء كانت فوتوغرافية أو مرسومة بالفحم أو الزيت أو الألوان المائية وغيرها. ويستحسن بطبيعة الحال أن تكون هذه الأصول ظلية حتى يمكن الاستفادة من طبيعة الروتوجرافور الشبكية. وتتلخص طباعة الروتوجرافور في خمس خطوات رئيسية هي: أولًا: إعداد إيجابيات شفافة على أقلام، وتستخرج هذه الإيجابيات للصور والحروف أيضًا، ويلاحظ أن توزيع النور والظل في هذه الإيجابيات يكون مطابقًا لتوزيعهما في الأصل نفسه. ويراعى دائمًا إلى جانب الدقة وإظهار التفاصيل أن تكون الإيجابيات متساوية في الكثافة حتى يتسنى توحيد العلاج الكيمائي في الخطوات التالية بعد ذلك. ويلاحظ أيضًا أن تكون الإيجابيات هادئة، فلا يشتد التباين بين الظلال القائمة والأضواء العالية. وحتى الحروف نفسها لا ينبغي أن تتجاوز كثافتها ظلال الإيجابيات. وكثيرا ما تستخدم الرتوش للمساعدة على وضوح الشكل وفصل الدرجات اللونية وغير ذلك. ثانيًا: إخراج الصفحات وضبطها على لوح زجاجي كبير يطلق عليه "البنورة" وتعد كل ثمان صفحات مثلا على مستوى واحد. ولا بد أن يراعي المخرج الصحفي تطابق الصور وضبطها ولا سيما في الطباعة الملونة. ففي هذه الطباعة تعد إيجابيات خاصة لكل لون، كما يخصص لوح معدني لكل لون أيضًا. وإذا لم يضبط المخرج الصحفي مواضع الإيجابيات بمنتهى الدقة. طغت بعض الألوان على الأخرى، وأصبحت النتيجة غير موفقة. ثالثًا: تلتقط صورة واحدة لمجموعة الصفحات على الجيلاتين الحساس، كما تلتقط كذلك صورة لشبكة الروتوجرافور على نفس الجيلاتين. ويلعب هذا الورق دورًا مهمًا في طباعة الروتوجرافور، وهو يتكون من مواد عضوية ممزوجة

بمحلول بيكرومات البوتاسيوم كما يدخل في تكوينه مادة ملونة مثل أسود الكربون وكذلك بعض الأصباغ، ولذلك يسمى بالنسيج الكربوني1 أو الورق المصبوغ2. وشبكة الروتوجرافور زجاجية. يبلغ عدد الخطوط. في البوصة الواحدة منها مائة وخمسين خطا، أي أن البوصة المربعة تحتوي على 22500 من المربعات السوداء المحددة بالخطوط الشفافة الرفيعة والمتقاطعة بزوايا دائمة، أما إذا استعملت الشبكة لتصوير الأصول ذات اللون الواحد، فإن زواية التقاطع تكون 45 درجة فقط. وعند تصوير الشبكة على ورق الجيلاتين الحساس. تصبح الأجزاء التي تحت الخطوط الشفافة، والتي تعرضت للضوء. غير قابلة للذوبان في الماء، أما المربعات المعتمة الواقعة بين الخطوط، فإنها تحمي مناطق الجيلاتين الحساس المواجهة لها من التصلب بالضوء، فإذا صورنا الإيجابية الشفافة بعد ذلك على الجيلاتين الحساس، فإن الضوء يؤثر في المناطق المربعة المحصورة بين الخطوط المتصلبة، وتصبح هذه المناطق عير قابلة للذوبان في الماء بدرجات تتناسب مع كميات الضوء التي تخللت مناطق الشفافية والإعتام في الإيجابية. رابعًا: تلصق الأوراق الجيلاتينية على الأسطوانات النحاسية، ثم يكشط ظهر الورق بالماء لكي يبقى الجيلاتين على النحاس. ويلاحظ أنه عند استعمال الماء الساخن تذوب الأجزاء الجيلاتينية التي لم تتصلب بالضوء بينما تبقى الأجزاء المتصلبة فوق سطح النحاس. ويلاحظ أن أجزاء أخرى تذوب إلى حد يتناسب مع درجة تعرضها للضوء. خامسًا: وأخيرًا تأتي عملية الحفر، وفيه تتأكل الأجزاء العارية من النحاس وهي الأجزاء الطباعية، بينما تبقى الأجزاء التي يحميها الجيلاتين المتصلب، وبهذه الطريقة يصبح السطح المعدني معدًّا للطبع وذلك بعد تحبيره وامتلاء الفجوات بالحبر الذي يمتصه الورق.

_ 1 carbon tissue. 2 pigment paper.

إنتاج الأنماط الملساء

إنتاج الأنماط الملساء: وإذا كانت عمليات إنتاج الأنماط البارزة والغائرة قد عرضت منذ القرن الخامس عشر، فإن الطباعة الملساء لم تعرف إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وهي لذلك تعد أحدث الطرق المعروفة لإنتاج الأنماط. ويرجع الفضل في ابتكارها إلى الممثل والكاتب المسرحي سنفلدر1 الذى اكتشف طباعة الليثوجراف2 "أي الطباعة على الحجر" في بافاريا سنة 1798 3. وفي سنة 1895، أمكن استعمال ألواح المعدن بدلا من الحجر، وجربت خامات مختلفة كان أكثرها نجاحًا الزنك والألمونيوم. وأخيرا استعمل النحاس المغطى بقشرة من النيكل أو الكروم. وفي سنة 1906، ظهرت طريقة الأوفست لطباعة الأنماط الملساء. وبفضل هذه الطريقة الحديثة أمكن استعمال أسطوانة مغلفة بالمطاط تنقل عليها الصورة الطباعية من النمط المعدني إلى الورق. ولا شك أن اختراع هذه الطريقة غير المباشرة لنقل الصورة من السطح المعدني إلى الورق كانت بمثابة ثورة جديدة في عالم الطباعة والإنتاج الصحفي. وقد أمكن كذلك استخدام آلة التصوير لنقل الصور وطبعها على السطح المعدني. وهكذا تطورت الطباعة الملساء من الطبع اليدوي بالرسم إلى الطبع الآلي بالتصوير الفوتوغرافي. ولا زالت طريقة الرسم باليد على اللوح المعدني مستعملة في إنتاج أنماط الملصقات والإعلانات الكبيرة. وإذا كانت هذه الرسوم ملونة، وجب على المصور أن يعد لوحًا معدنيًَّا لكل لون من الألوان الرئيسية الأربعة وهو بذلك يقوم مقام المرشح في فصل الألوان. ويلاحظ أن المصور يستخدم أقلامًا خاصة ذات تأثير شحمي. ولطباعة مجموعة من الأصول بالأوفست، يتم إعداد السالبيات بالتصوير الشبكي على الأقلام. وهذا يطبق على الصور فقط، أما الحروف فلا داعي

_ 1 alois senefrlder. 2 lithography. 3 senefelder A. the invention of lithography "trans-lated by muller" pp. 6-7.

لاستعمال الشبكة في تصويرها. ومن الواضح أن ذلك يختلف عن طباعة الروتوجرافور التي يتحتم فيها تصوير جميع الأصول من صور وحروف تصويرا شبكيا على الجيلاتين الحساس. ثم يأتي بعد ذلك دور التنسيق وضبط الصفحات، فيقوم المخرج الصحفي بتكوين الصحفات، وذلك بتوزيع السالبيات الشبكية والحروف وفقا للتصميم الهيكلي. فكأن هذه المرحلة شديدة الشبه بإعداد الصفحات في الطباعة البارزة، وتكوينها من الأنماط الشبكية والحروف المجموعة باليد أو الآلة ثم ربطها جميعا داخل الأطواق المعدنية، والواقع أن هناك نوعا من الورق الأصفر يعد خصيصا كقاعدة ترتكز عليها مجموعة السالبيات والحروف في الطباعة الملساء، وبذلك تقوم مقام الأطواق في الطباعة البارزة. وبعد ذلك تأتي عملية تنظيف اللوح المعدني وتحبيبه وتحسيسه. أما التنظيف فهو عبارة عن محو الآثار الطباعية السابقة بدعك اللوح ببودرة الخفاف وغسله بالبوتاسا الكاوية. وأما التحبيب فيتم عن طريق آلات خاصة تتحرك فيها كرات من الزجاج أو الصيني بسرعة تبلغ مائتي ذبذبة في الدقيقة الاهتزازية اللامركزية لسطح الزنك. وأخيرا تأتي خطوة التحسيس أي تحويل الزنك إلى سطح حساس للضوء، وذلك بتغطيته بالمواد المعروفة كالألبومين والبيكرومات، وبذلك يصبح لوح الزنك معدا لاستقبال الآثار الطباعية على سطحه. ثم يأتي بعد ذلك دور الطبع التصويري على السطح المعدني الحساس، وتتم هذه الخطوة بطريقة الالتصاق التام1 في جهاز خاص لتفريغ الهواء، وهي نفس الطريقة المتبعة للطبع بالالتصاق على الجيلاتين في الروتوجرافور. وعندما يمر الضوء خلال الأجزاء الشفافة من السالبيات، تتصلب الطبقة الحساسة فوق المعدن، وتصبح غير قابلة للذوبان في الماء، بينما تبقى الأجزاء الأخرى غير المتأثرة بالضوء على حالها الأصلي، أي قابلة للذوبان في الماء. وبعد ذلك يرفع اللوح المعدني من جهاز التفريغ، ويدهن جيدا بالحبر الأسود الشحمي، ثم يغسل

_ 1 CONTACT METHOD.

بالماء، وعنذئذ تذوب أجزاء الطبقة الحساسة "وهي التي تمثل المناطق غير الطباعية من الأصل" وتزول حاملة معها طبقة الحبر التي كانت تغطيها، أما الأجزاء الأخرى التي تصلبت بفعل الضوء "وهي التي تمثل المناطق الطباعية من الأصل" فإنها تبقى ملتصقة باللوح المعدني ومحتفظة بطبقة الحبر على سطحها. وهكذا تتم عملية التحميض أو الإظهار. ويلاحظ أن هذه الصورة المنطبعة على اللون المعدني معتدلة غير مقلوبة، فهي تشبه الأصل تماما، ما عدا لون الأرضية الذي يكون رماديا خفيفا بلون الزنك مثلا. وتعمل الأسطوانة المطاطية في طباعة الأوفست كحلقة الاتصال لنقل الصورة من النمط المعدني إلى الورق. ويلاحظ أن الصورة تكون معتدلة على السطح المعدني فتطبع مقلوبة على المطاط وأخيرا تنقل معتدلة على الورق. وتبدأ بعد ذلك عملية الحفر. والواقع أن كلمة "حفر" تستعمل تجاوزا في الطباعة الملساء؛ لأن الحامض المخفف الذي يستعمل لا يقوم بعملية حفر بالمعنى المفهوم في كل من الطباعة البارزة والغائرة، وإنما تكون وظيفته الأساسية جعل الأجزاء غير الطباعية من اللوح المعدني عديمة الحساسية للحبر، وإذا حدث بعض التآكل فهو طفيف للغاية. ويدهن اللوح المعدني أيضا بطبقة خاصة من الغراء السيلولوزي لحماية الأجزاء غير الطباعية وجعلها قابلة لاستقبال الماء. وعلى العكس من ذلك يستعمل محلول الأسفلت لتنظيف اللوح المعدني وجعل الأجزاء الطباعية من الصورة كالنقط والحروف والخطوط قابلة لالتقاط الحبر. والمعروف أن طباعة الليتوجراف أو الأوفست قائمة على أساس إعداد سطح واحد تتأثر بعض أجزائه بالحبر الشحمي وتطرد الماء بينما تصبح الأجزاء الأخرى قابلة للماء وطاردة للحبر الشحمي. ومن ثم فإننا نجد أن آلة طباعة الأوفست تتناوب التحبير والترطيب بالماء في كل دورة من دوراتها. وينبغي أن نشير في ختام دراستنا للأنماط المختلفة أن الخبراء المحدثين يواصلون جهودهم لاكتشاف خامات جديدة تصنع منها المطاط. وقد جربت أنماط البلاستيك والنولار بنجاح لحفر الصور مباشرة عن طريق الإبرة الإلكترونية في جهاز الكليشوجراف، واستعملت أيضا أنماط المطاط، وخاصة المطاط الصناعي، وهناك محاولات ناجحة لإنتاج الأنماط بالترسيب الكهربائي وغير ذلك من الطرق الحديثة التي تهدف إلى السرعة والبساطة والاقتصاد.

نقل الصور بالتليفون والراديو

نقل الصور بالتليفون والراديو: وعندما اكتشفت فنون صناعة الأنماط المصورة، أخذ الصحفيون يوجهون اهتمامهم المتزايد إلى التقاط الصور وتحميضها وطبعها ونقلها إلى مسافات بعيدة عبر دول العالم بأقصى سرعة ممكنة ليتسنى لهم الظفر بالسبق الصحفي في التصوير، بنفس الطريقة التي يظفرون بها بالسبق الصحفي في الأخبار عن طريق استعمال التليفون والتلغراف والراديو. وفي سنة 1828 أمكن الوصول إلى طريقة لنقل الصور سلكيا بتحويل القيم الضوئية في الصورة من ظلال وإنصاف ظلال متدرجة وأضواء إلى موجات كهربائية تتناسب مع الأشعة الضوئية. ويتركب جهاز استقبال الصور سلكيا من أسطوانة تلف حولها الصورة بعد التقاطها، وتدور الأسطونة المغلقة بالصورة حول نفسها ثم تنبعث أشعة ضوئية تنعكس على سطح الصورة فيكون الانعكاس الضوئي متناسبا مع الأضواء والظلال. وبقدر ما ينعكس من ضوء تحدث تغييرات مقابلة في التيار الكهربائي يمكن إرسالها خلال خط تليفوني عادي. ويستطيع المستقبل في نهاية الخط "أي الصحيفة" أن يتلقى هذه السيالات الكهربية ويحولها إلى ما يناظرها من قيم ضوئية، بعكس الطريقة التي استعملت في الإرسال. والمعروف أن جريدة الأهرام تستخدم هذه الطريقة لنقل الصور منذ سنة 1964، وكانت أول صورة تنقل من أسوان بمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من بناء السد العالي يوم 14 مايو من تلك السنة. أما نقل الصور بالراديو فقد أصبح من ضرورات الصحافة الحديثة بعد تقدم وسائل المواصلات الأخرى وربط القارات والدول المختلفة ربطا ماديا بالطيران الحديث وغيره من وسائل الاتصال، ونفسيا بالمنظمات الدولية المختلفة والهيئات العلمية والثقافية التي تعمل على نطاق عالمي. وقد كان للحرب العالمية الثانية أثر كبير في انتشار الصور المنقولة بالراديو، فلم يكن غريبا أن تتلقى جريدة الأهرام أول صورة تستقبل بالراديو في العالم العربي يوم 7 مايو سنة 1943، وهي الصورة التي أرسلت خصيصا لوزارة الاستعلامات البريطانية،

غير أن الأهرام استقبلت صورة أخرى أرسلت خصيصا لها في 31 مايو سنة 1942، وكانت تصور اجتماع سفيري مصر وتركيا في مدينة لندن. كما كان للحرب أيضا أثرها البالغ في نشر الخرائط والرسوم الإيضاحية والنماذج المجسمة، وكانت هذه العناصر من أهم مكونات الفن الصحفي المصور. ثم تطورت بحوث نقل الصور بعد سنة 1948 وأصبح التصوير الجوي متقنا غاية الإتقان. فالمصور الذي يريد التقاط صورة من الجو يقف عادة في نهاية الطائرة، وبعد الانتهاء من التصوير تجري عمليات الإظهار والتكبير والطبع وغيرها، وتعلق الأجهزة بلوالب خاصة لمنع الاهتزازات، وبذلك يتم العمل في دقائق معدودة. وبهذه الطريقة يمكن التقاط صور المباريات والاحتفالات وسباق الخيل وتحركات الجيوش وغيرها في سرعة وإتقان. ولا شك أن نقل الصور من الكواكب الأخرى كالقمر والمريخ والزهرة بالتليفزيون قد جعل من القرن العشرين عصر الصورة الكونية بالمعنى الصحيح، كما أصبح الرأي العام يطالب بالصورة كأساس للإعلام الحديث. فليس غريبا أن تنشأ مجلات أخبارية جديدة تعتمد على الفن الصحفي المصور مثل مجلة تايم سنة 1923، ومجلة نيوزويك سنة 1933، ومجلة لايف سنة 1936، ومجلة لوك سنة 1937. كما ظهرت وكالات متخصصة في الصور مثل الأسوشيتدبرس1 والإنترناشيونال برس بكتشورز سرفيس2 وورلد وايد3 ووكالة أكم نيوز بكتشورز4 التي أسست سنة 1913 وأصبحت وكالة يونايتد برس فيما بعد. وهذا فضلا عن الوكالات الإقليمية والمحلية التي تتبادل الصور مع الوكالات العالمية وفيما بينها أيضا مثل وكالة الأنباء الألمانية ووكالة الأنباء اليوغوسلافية وغيرهما. وإلى جانب الوكالات العالمية ووكالات الصور توجد مصادر أخرى تعتمد عليها الصحف للحصول على الصور مثل وكالات الدعاية ومكاتب العلاقات العامة

_ 1 ASSOCIATED PRESS. 2 INTERNATIONAL PRESS PICTURES SERVICE. 3 WORLD WIDE PHOTOS. 4 AEME NEWS PICTURES.

فضلا عن المصورين المحترفين والهواة. وتحاول وكالات الدعاية ومكاتب الأنباء تزويد الصحف بالصور الممتازة فنيا حتى لا تجد الصحف أي عائق في نشرها. وتتلقى الصحف هذه الصور بطريقة دورية. وهناك مصورون محترفون لا يعلمون لحساب صحيفة بعينها، وإنما يقدمون إنتاجهم للعديد من الصحف. وقد تكون لصور هؤلاء المصورين الأحرار مميزات جيدة. أما المصورون الهواة فهم عموما من الأشخاص الذين يلتقطون الصور لمجرد المتعة والذين لا يقتصرون على الرغبة في بيع موادهم. وهم يصيبون أعظم النجاح عندما يحصلون على لقطة غير ميسورة. ومن أكثر الصور التي يبيعها المصورون الهواة شيوعا، صور الحوادث لحظة وقوعها أو بعد وقوعها فورا، وكذلك المواد التصويرية للتحقيقات الصحفية، والصور التي تلتقط في أماكن ممتنعة على المصورين المحترفين كالمؤتمرات السرية والاجتماعية المغلقة. وخلاف ذلك، تحصل الصحف على الصور من مصادر متنوعة، وأكثرها شيوعا عائلة الشخصية الجديرة برواية أنبائها وأصدقاء تلك الشخصية والمكتبات العامة وملفات الجمعيات التاريخية.

من التصوير التسجيلي إلى التصوير الصحفي

من التصوير التسجيلي إلى التصوير الصحفي: ولعل دراستنا لفن التصوير الصحفي هي في الواقع دراسة لظهور الصور الأخبارية أو الصور الإعلامية بوجه عام. فقد تطور فن التصوير من المرحلة الجمالية إلى المرحلة الإعلامية بين سنة 1925 وسنة 1935. وقد رأينا أن فن التصوير كان قد بدأ في الانتشار على نطاق واسع في مدينة باريس سنة 1839، عندما أخذ المصورون يلتقطون صورا فنية جميلة على غرار اللوحات الزيتية أو المائية التي كانت معروفة منذ العصور الوسطى، ويتضح ذلك بوجه خاص في المدرستين الكلاسيكية والرومانسية في فن التصوير. وفي عام 1940 بدأت مرحلة التصوير الفوتوغرافي التسجيلي والأخباري، بمعنى أنه ظهر لأول مرة فريق من المصورين الذين وجهوا عنايتهم إلى الموضوعات التسجيلية أكثر من الموضوعات الجمالية، وتعتبر هذه المدرسة الأخيرة نواة فن التصوير الصحفي.

وقد كان المصور مورس1 "وهو مخترع التلغراف" الرائد الأول لهذا الفن التسجيلي، فقد التقط سنة 1840 صورة تذكارية لزملائه الذين كانوا يتلقون العلم معه بجامعة بيل. وفي سنة 1841 ظهر المصوران النمساويان جوزيف ناترر ويوهان ناترر2 اللذان التقطا صورة لحرس الإمبراطور جوزيف في مدينة فيينا. وفي عام 1841 أيضا أو لعله في العام التالي التقط المصور النمساوي رايسر3 مجموعة مكونة من 14 صورة حول الاحتفالات العسكرية التي أقيمت بمدينة لينتز4 بالنمسا، وهي مجموعة أخبارية من الطراز الأول. وفي سنة 1842، التقط المصور الألماني هرمان بيو5 مجموعة صور بلغ عددها 46 صورة عن الحريق المدمر الذي شب في مدينة هامبورج. وفي سنة 1849، قام الكاتب الروائي الفرنسي ذائع الصيت جوستاف فلوبير6 ومعه المصور ماكسيم دي كامب7 بزيارة مصر والسودان، حيث التقطا مجموعة من الصور الرائعة التي تبين عظمة الفن الفرعوني القديم. وتعتبر هذه الصور من الوثائق الهامة التي يعتز بها مؤرخ فن التصوير الصحفي، كما يلاحظ أن هذين الزائرين هما أول كاتب ومصور يعملان معا على النحو الذي نجده في الصحافة الحديثة عندما يقوم المخبر الصحفي والمصور معا بجلب الأخبار المصورة. وقد قام المصور الإسكتلندي بيازا سميث8 برحلة إلى مصر سنة 1891، التقط أثناءها صورا بديعة للأهرام بآلة تصوير طريفة لعلها الأولى من نوعها، إذ تعد بحق أول آلة تصوير من النوع الصغير، وقد كانت سلبياته مغطاة بالكلوديون الرطب ومساحة الواحدة منها لا تزيد عن البوصة المربعة. أما العدسة المستعملة في آلته فقد كانت خالية من العيوب تقريبا، وبعدها البؤري 13/ 4 بوصة وفتحتها 4.5. وبلغت براعة هذا المصور الفنان حدا رائعا؛ إذ إنه

_ 1 F. B. MORSE. 2 JOSEF & JOHANN NATTERER. 3 REISSER. 4 LINZ. 5 HERMANN BIOW. 6 GUSTAVE FLAUBERT. 7 MAXIME DU CAMPS. 8 PIAZZA SMITH.

ابتكر طريقة فذة تجعل القافل يعطي مدة تعريض سريعة للتصوير على غرار طريقة القافل الستاري الخلفي الحديث. وقد كانت محاكاة المصورين للوحات الزيتية التي رسمها كبار الفنانين التشكيليين مثلا أعلى يسعى إليه الجميع في كل المراحل السابقة. ومن الطريف أن هؤلاء المصورين التسجيليين والمحترفين كانوا يرسلون شعرهم طويلا ويلبسون ملابس زاهية الألوان، مقلدين في ذلك أهل الفن في زيهم كما كانوا يقلدونهم في فنهم. ويمكن القول بوجه عام أن الموضوعات الرئيسية التي كانت تدور حولها الصور الملتقطة في منتصف القرن التاسع عشر هي حوادث المصادمات بالسكك الحديدية وغيرها، وإطلاق البالونات، والحرائق الكبيرة وغيرها من الحوادث الهامة. ومن الجدير بالذكر أن المصور فنتون1 قام بالتقاط عدة صور عن حرب القرم، وقد نشرت هذه الصور في جريدة اللستريتيد لندن نيوز2، كما قام المصور الصحفي برادي3 بالتقاط عدة صور عن الحرب الأهلية في أمريكا وقد نشرت في مجلة هاربرز ويكلي4، في ستينات القرن الماضي. ثم كان لاكتشاف صناعة الأنماط أثره البالغ في التصوير الصحفي، فقد أصبح المصور كالمندوب يعنى بالسبق ويفضل التقاط الصور بنفس المقاسات الصالحة للنشر حتى لا يضيع الوقت في التكبير أو التصغير. وبدأت بذلك مرحلة جديدة تحول فيها الاهتمام من النواحي الجمالية الخالصة إلى النواحي الإعلامية، فتلاحظ مثلا أن مشكلات التكوين والإضاءة والنسب وغيرها من المعايير الجمالية كانت تأتي في المرتبة الثانية بعد القيمة الأخبارية للصورة. وهكذا نستطيع القول أن هذا العصر قد شهد مولد الإحساس الإعلامي والقيم الصحفية للتصوير، يضاف إلى ذلك اهتمام المصور بالسبق الصحفي، مما كان يتطلب يقظة تامة وانتباها مركزا. غير أننا إذا دققنا النظر في صور ذلك العصر المتقدم وجدنا

_ 1 FENTON. 2 ILLUSTRATED LONDON NEWS. 3 BRADY. 4 HARPER'S WEEKLY.

أنها كانت تفتقر إلى الحركة، اللهم إلا إذا ساعدت الطبيعة نفسها على تصوير مناظر تأتي فيها الحركة عفوا، أو أن يكون الموضوع مليئا بالحركة، بحكم الضرورة، كحوادث المصادمات والحريق والفيضانات والزلازل وغيرها. وفيما عدا ذلك كانت الصورة جامدة تعوزها الحركة. وثمة ملاحظة أخرى على فن التصوير الصحفي في ذلك العصر، فقد دأب الصحفيون على تقليد بعضهم البعض حتى إن الصور ظلت مكبلة بأغلال التقاليد المتوارثة عاما بعد عام، فإذا أراد الصحفي أن يلتقط صورة معبرة عن بداية العام الجديد لجأ إلى نفس الحيلة المعهودة وهي تصوير طفل وليد ينظر من خلال نتيجة العام الجديد. وإذا أراد التقاط صورة لفريق كرة القدم لجأ إلى حيلة أخرى معروفة وهي تصوير أعضاء الفريق جميعا وهم واقفون بين ساقي رئيس الفريق في وسط الملعب. أما صور المجموعات، فقد كانت مصطنعة ومليئة بالجمود، فترى الأشخاص محملقين إلى العدسة بطريقة غير طبيعية. فلا ينخدع إلا أشد القراء سذاجة بالصورة المفتعلة التي تمثل أحد المشاهير يحيي جمهورا من المسئولين، أو أحد الرياضيين وهو يمسك الكرة بينما يتطلع بملء وجهه إلى عدسة جهاز التصوير، والفتاة الجالسة على كتلة من الثلج للفرار من حر أغسطس. وما أشبه هذه الصور التقليدية بالمحسنات البديعة المألوفة في التعبير اللغوي التي كان لا بد للفن الصحفي أن يتجاوزها إلى التعبير الواقعي الحي الأصيل.

تطور فن التصوير الصحفي

تطور فن التصوير الصحفي: ولقد كانت ألمانيا على وجه التحديد هي المسرح الكبير الذي شهد نهضة فن التصوير الصحفي، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإذا كانت الحقبة الواقعة بين عامي 1880 و1890 قد شهدت حماسة الهواة الذين أولعوا ولعا شديدا بفن التصوير من حيث هو فن وليد، فإن الفترة المبتدئة بسنة 1920 قد شهدت حماسة أخرى جديدة لفن التصوير الأخباري. ومن الجدير بالذكر أن البيئة الثقافية والاجتماعية قد أتاحت لفن التصوير الضوئي فرص التقدم والنجاح، فقد انتشرت في فترة ما بين الحربين العالميتين اتجاهات متعددة من

عدم المبالاة والتنكر للقيم والسخرية من المثاليات والتهكم بالمبادئ والدعوة إلى المتعة، كما ظهرت المدارس الفنية الحديثة كالمستقبلية والتكعيبية والدادية والسيريالية وغيرها من المدارس التي بعدت عن الطبيعة ونأت عن الواقع، مما أتاح للمصور الفوتوغرافي فرص التشبت بالطبيعة وترجمة الواقع والتعلق بالموضوعية ونقل الصور الواقعية التي هجرها الفنانون. وهكذا نستطيع القول أن أعراض الفنانين عن الطبيعة والواقع قد ترك فراغا في عالم الفن، كان لا بد للمصورين الفوتوغرافيين أن يقوموا بملئه. فلم يكن غريبا، إذن، أن نرى معظم صور هذه الفترة تسجل الطبيعة بأشجارها وسحبها ومياهها وقد سبحت فوقها السفن، كما انتشرت صور الأطفال والحيوانات وغيرها. وفي هذه الحقبة نفسها اشتهر المصور الفرد إيزنشتات1 بصوره الرائعة التي سجلت موضوعات طبيعية بأسلوب جمالي يحاكي نفس الأسلوب الذي هجره الفنانون المحدثون إلى التجريد والسيريالية، ثم شهدت سنة 1925 مولد آلتين هامتين كان لهما أبعد الأثر في تطور التصوير وهما أرموناكس وليكا2، وقد كانت الأولى تتطلب استعمال الألواح الحساسة التي تركب على حامل معدني "شاسيه" داخل الحجرة المظلمة فلم تصلح للعمل الصحفي، في حين أن الآلة الأخرى التي اخترعها أوسكار بارناك قد فتحت لفن التصوير الصحفي آفاقا جديدة وأتاحت له فرصا ذهبية. وقد اشتهر في عالم ما بين الحربين عدد كبير من المصورين الذين يعتبرون الرواد الأوائل لفن التصوير الصحفي، ومن هؤلاء المصور بول ولف3 الذي التقط خمسة آلاف صورة في الفترة بين سنة 1925 وسنة 1943 وألف كتابا أسماه "سنواتي العشر مع آلة التصوير لايكا". ومن الرواد الأوائل أيضا الفرد إيزنشتات الذي عمل في مجلة درفلت شيجل4 وفي صحيفة تاجي بلات5. أما إيزيش سالومون6 فهو صاحب الفضل الأكبر في تطور فن

_ 1 ALFRED EISENSTADT. 2 ERMONAX & LEICA. 3 PAUL WOLF. 4 DER WELTSPIEGEL. 5 TAGEBLATT. 6 ERICH SALOMON.

التصوير الصحفي والوصول به إلى مرتبة المهن الرفيعة. وقد بدأ سالمون حياته محاميا، ثم انتقل في سنة 1928 إلى مهنة التصوير، وكان يتقن سبع لغات ويكثر الأسفار والرحلات بين برلين وباريس وجنيف. وتعد صوره الصحفية الناجحة والمليئة بالحركة والحياة حجر الأساس الذي بني عليه فن التصوير الصحفي الحديث. وقد علم سالمون في عدة مؤسسات صحفية أهمها مؤسسة أولشتاين1 الألمانية التي كانت تملك عدة صحف ومجلات في برلين أهمها ألوستريرته تزايتونج2 الأسبوعية المصورة التي بلغ توزيعها مليونين من النسخ، وكذلك مجلة دي دامي3 النسائية الشهرية. ومن الرواد الأوائل أيضا مصور مجري يدعى مارتن موناكزي4 الذي اشتهر في سنة 1926، وأقام معرضا لصوره الرائعة سنة 1934، وقد كان اهتمام هذا المصور موجها إلى عارضات الأزياء اللاتي التقط لهن صورا فنية بأسلوب صحفي جديد مليء بالواقعية والحيوية والحركة. وبفضل هؤلاء الرواد الأوائل استقل فن التصوير الصحفي عن فنون التصوير الجمالية والتسجيلية والتذكارية، على غرار أسلوب الكتابة الصحفية التي استقل عن الأسلوب الأدبي، واعترفت الصحافة بقيمة الصورة كعنصر أساسي لا يقل عن الخبر أو المقال أو التحقيق. وبينما كانت الصور من نوع اللقطات التقليدية الجامعة أو النوع الوضعي المدبر من قبل، فإن مزيدا من عنصر لقطات العدسة الواقعية الصادقة في النقل بدأ يظهر كذلك اتسع أفق الصورة بفضل ازدهار المجلات المصورة الكبرى مثل لايف ولوك وغيرهما في العقد الرابع من هذا القرن، فزاد عدد ما ينشر من صور حوادث الاصطدامات والمشاجرات وغير ذلك من المشاهد المماثلة التي كانت تعتبر غير لائقة في السابق. وقد اكتشفت الصحافة الحديثة أن الصورة تحقق وظائف الفن الصحفي من إعلام وتفسير وتوجيه وترفيه وتشويق وتنشئة اجتماعية، بمعنى أن المصور الناجح

_ 1 ullstein. 2 illustrierte zeitung. 3 die dame. 4 martin munacksi.

يستطيع أن يتخير لقطات معينة تكون بمثابة مقالات مصورة تتحدث بروح الفكاهة أحيانا فتثير الضحك، وبروح الجد والإصلاح فتنقد الأحوال الاجتماعية، أو بروح التهكم الساخر فتوقظ النائمين من سباتهم. وقد كان للصحافة المصرية أيضا روادها الأوائل في فن التصوير منذ بداية القرن العشرين عندما كانت الصحف تعتمد على أستوديوهات التصوير التجارية كما كانت تسند إلى بعض المصورين العاديين بعض المهام الصحفية. ولعل المصور النمساوي ديتريش الذي عمل مصورا للقصر في عهد عباس سنة 1905، هو من طليعة الرواد الأوائل في هذه الفن. وقد تتلمذ عليه طائفة من المصورين المصريين الذي نبغوا فيما بعد نبوغا عظيما، نذكر منهم المصور رياض شحاتة. ومن الطريف أن هؤلاء المصورين الأوائل من أمثال ديتريش النمساوي وبابازيان الأرمني ورياض شحاته المصري وغيرهم من المصريين والأجانب كانوا يستعملون في بداية الأمر آلات تصوير كبيرة من نوع المنفاخ مثل مقاس 30×40 سم و18×24 سم. واشتهر المصور هانزلمان السويسري بصوره الناجحة، وإن كانت تعوزها الحركة، كما اشتهر المصور كانتي الإسباني بصوره الناجحة في مجلة اللطائف المصورة وغيرها من صحف دار الهلال مثل مجلة الدنيا المصورة ومجلة النيل وغير ذلك من المجلات التي كانت تظهر في ذلك الوقت. وقد رأينا أن جريدة الأهرام كانت أولى الصحف التي عنيت بفن التصوير الصحفي والاهتمام بالصورة الصحفية، وكانت أول صورة تظهر في صحافتنا يوم 4 مايو سنة 1881 لفرديناند دي ليسبس ومعه طفلته على العمودين الأول والثاني من الصفحة الأولى من جريدة الأهرام. وتوسعت صحيفة الجريدة في نشر الصورة ابتداء من سنة 1908، ثم تنافست الصحف في نشر أخبار الحرب العالمية الأولى مدعمة بالخرائط والرسوم؛ وخاصة المقطم والأهرام. وأخذ فن التصوير يتطور تطورا عظيما فظهر من مشاهير المصورين زخاري وميشيل نظر ومصرف ورياض إبراهيم وغيرهم. وقد نجح المصور ميشيل نظر نجاحا باهرا لأول مرة في الكشاف حوالي سنة 1927 ثم انتقل إلى دار الهلال وظل يعمل بها حتى سنة 1931، كما اشتغل ابتداء من سنة 1932 بجريدة الأهرام حتى تركها سنة 1946 إلى شركة الإعلانات الشرقية. وقد كان

المصور صبحي رياض شحاته يمد الصحف والمجلات بالصور الصحفية الناجحة، كما حصل على توكيلات لمعظم الشركات الصحفية ووكالاتها في أوروبا وأمريكا لإمدادها بالصور الصحفية عن مصر. أما اليوم فقد أصبح فن التصوير الصحفي ركنا هاما من الصحافة المصرية الحديثة التي تعتمد على الصورة اعتمادا كبيرا، ولا تضن هذه الصحف بالمال الوفير للحصول على الأخبار والموضوعات المصورة، ومن المعروف أن المصورين المصريين يذهبون الآن في رحلات صحفية عالمية للحصول على الصور الصحفية اللازمة. كما تزود دور الصحف بمعامل فنية كاملة للتحميض والطبع والتكبير مجهزة على أحدث طراز يقترب كثيرا من نظائره في أوروبا وأمريكا. وقد اجتذب فن التصوير الصحفي طائفة من الشباب المثقف الذي يعمل في هذا الميدان الجديد تحت رعاية المصورين القدامى الناجحين وإشرافهم أمثال محمد يوسف الذي بدأ عمله منذ سنة 1934 بمجلة روزاليوسف ثم دار الهلال وانتقل إلى دار أخبار اليوم منذ إنشائها، وهو يعمل الآن كبيرا للمصورين بتلك المؤسسة. أما عبده خليل فقد عمل بدار الهلال مدة طويلة مع محمد يوسف قبل انتقاله إلى الجمهورية، كما افتتح إرشاك مصرف في بدء حياته مكتبا خاصا يمد الصحف بما تحتاجه من صور وموضوعات فنية، فكان بمثابة وكالة صور على نطاق محدود. ومن الجدير بالذكر أن الصحف المصرية تعنى عناية فائقة بأرشيف الصور وحفظ الأفلام التي تم تصويرها وفقا لأحدث أساليب الحفظ بحيث يتسنى للباحث أن يحصل على ما يطلبه من صور في الحال، والمتبع عادة أن تسجل الأفلام تحت أرقام خاصة ثم يتفرع عنها أرقام أخرى بالنسبة لعدد الصور المكونة للفيلم الواحد. وتستعين الهيئات المختلفة من حكومية وأهلية بأرشيف الصور الذي تنظمه الصحف والمجلات.

خصائص الصورة الصحفية

خصائص الصورة الصحفية: ولعل أهم ما يميز التصوير أنه فن هادف له أغراضه المحددة، كما أنه يرتبط بالواقع، ويرمي إلى الخوض في الحقائق والمجريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المحيطة بنا. وإذا كان الفنان ينظر إلى الصورة على أنها وسيلة من وسائل التعبير الجمالي، فإن الصحفي ينظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الإعلام، وهي على ذلك تدخل في نطاق الفن التطبيقي لا الفن الجميل. فالقيم الجمالية المجردة التي تهم الفنان وتجعل من الصورة لوحة متكاملة فنيا قد تصبح بالنسبة للصحفي تزيد لا داعي لوجود، بل لا بد من الاستغناء عنه، حتى تتركز الصورة في القيم الإخبارية الصحفية دون غيرها. فالمنظر الخلفي أو الأرضية كالسماء الزرقاء أو الأشجار تؤدي وظيفة فنية في التصوير الجميل، ولكنها تعوق الوظيفة الإخبارية، مما يجعل المخرج الصحفي يبادر إلى قص هذه الزيادات والاستغناء عنها، حتى لا تشوش على القارئ أو تشتت انتباهه إلى نواحي أخرى لا لزوم لها. فالمصور الصحفي يتأكد دائما من أن كل تفصيل يسهم في المعنى المحوري للصورة، وبالتالي ينبغي أن يحذف كل تفصيل ينتقص من هذا المعنى المحوري. فإذا كانت هناك حاملة معاطف وراء منضدة الاجتماع، وجب أن تزال من مكانها، وإذا كانت على المنضدة مجموعة من الأوراق مستقرة بإهمال على طرفها، وجب دفعها إلى وسط المنضدة لإعطائها ما يوحي بأن استعمالها فوري وشيك، وإذا ما كانت في خلفية الصورة نافذة تكشف عن تفصيل يصرف النظر عن الموضوع الرئيسي، وجبت إزاحة المنضدة فورا حتى لا تظهر النافذة. وذلك أن التفصيلات كلها يجب أن تنطق بلسان واحد هو الفكرة الأساسية المحورية أو الموضوع المراد نقله إلى الجماهير. وغالبا ما يطرح المتهم بالتصوير هذا السؤال: ما الذي يجعل الصورة الصحفية ناجحة؟ ولما كان التصوير فنا ابتكاريا خلاقا، فإنه من الصعب الإجابة عن هذا السؤال بمجرد وضع مجموعة قواعد أو إيراد قائمة ببعض الخصائص. ولكن مما لا شك فيه أن هناك معايير إيجابية وموضوعية للصورة الصحفية الناجحة يمكن الوصول إليها من دراسة الصور المؤثرة بشكل حقيقي صادق. فأولا يجب أن يكون لكل صورة سبب وجيه في وجودها؛ لأن فن التصوير الصحفي فن وظيفي هادف، بمعنى أن كل عنصر يمكن إلغاؤه دون مساس بالجوهر يجب حذفه، حتى لا تترك شكا في ذهن القارئ حيال وجاهة وجود الصورة في الجريدة. فالقارئ لا بد أن يشعر أن كل صورة قد اختيرت نتيجة

دراسة وفحص دقيق لكثير من اللقطات. ولا بد كذلك من جعله يشعر أن كل صورة تملأ في الجريدة مكانا بحث أمره بعناية. ويجب ألا يساوره إطلاقا الشعور بأن الصور هي لسد الفراغ ليس إلا، وإنها زرعت كيفما اتفق في مختلف الصفحات. وقد قلنا إن تفاصيل الصورة لا بد وأن تؤكد الفكرة المحورية، ولا يجوز التقاط التفاصيل التي تشتت الذهن، كما ينبغي الابتعاد عن الصورة الجامدة المصطنعة المتكلفة. ويراعى دائما أن يكون الموضوع الرئيسي للصورة في محورها البصري، وبهذه الطريقة تبقى عين القارئ مثبتة على موضوع التأكيد والإبراز؛ إذ إن شرود عين القارئ إلى جنبات الصفحة وتشتيت ذهنه إلى نواحي أخرى يعد ضعفا في التصوير. وتستخدم عوامل التباين في الحجم والضوء لإبراز الموضوع الرئيسي. فإذا كانت ربة البيت ذات الذوق السليم قلما تفرش غرفة ما بأثاث أحمر اللون كليا مع "ديكور" أحمر كليا، وإنما تبذل جهدها لتحقيق مجموعات لونية متناسقة جذابة، فإن هذا المبدأ ينطبق أيضا على التصوير حيث لا يمكن للستارة البيضاء أن تقدم تباينا يذكر لصورة رجل بملابس فاتحة اللون. والوضوح من خصائص الصورة الصحفية، كما هو من خصائص الأسلوب الصحفي، فيجب على الصحفي أن يبدد كل شك أو لبس في المعنى المقصود. وهذا الوضع ينطوي على صعوبة خاصة عندما يقتضي الأمر إظهار شخص في صورة ما ومعه شيء صغير الحجم كقطعة مجوهرات مثلا. فالموظف الكبير الذي يهدى في حفل تكريمه، بمناسبة إحالته إلى المعاش، دبوسا ذهبيا، يجب ألا يظهره المصور وهو يحمل الدبوس لأن حجمه ولونه يجعلان ظهوره شيئا يقرب من المستحيل. وهنا يجب على المصور أن يلتقط صورة لشخص آخر يعلق له الدبوس في رابطة عنقه مثلا أو يقوم بأي حركة تنفق بتقديم الدبوس إليه في علبة فاخرة. وينبغي على المصور أيضا أن يتجنب ظهور أشخاص ثانويين بوجوه جانبية أو بأجزاء من وجوههم. فالهاوي هو الذي يجعل رءوس الجالسين في الصف الثاني ظاهرة في الصورة، أما المصور المحترف فلا يمكن أن يرتكب مثل هذا الخطأ. ولتقدير الفرق بين التصوير الفني الرفيع وعمل الهواة العاديين،

يمكن مقارنة الصور في صحيفة بارزة كبرى بالصور في صحيفة مدرسية أو غيرها من المطبوعات التي يفتقر فيها المصورون إلى الخبرة والموهبة. والدقة من أهم خصائص الصورة الصحفية وأصعبها، فلقد ولت أيام اللقطات المصطنعة والصور الزائفة، أما الصورة الجيدة فهي التي تنطوي على الواقعية والصدق، ويجب أن تبدو كأنها التقطت دون إنذار مسبق، أي أن المصور التقطها في اللحظة المناسبة تماما. إلا أن خاصية الدقة والصدق عسيرة التحقيق في الحالات التي تقتضي تصوير المواطن العادي. ومن الأمثلة على ذلك حالة زوجين مغمورين ربحا خمسة آلاف جنيه من شهادات الاستثمار وأرادت الصحيفة أن تنشر لهما صورة على ثلاثة أعمدة تعبر عن فرحتهما، ففي هذه الحالة يضطر المصور إلى أن يمضي ساعات دون أن يحصل على لقطة صالحة للنشر الصحفي إذا لم يكن الزوجان من أصحاب المواهب التمثيلية -ونادرا ما يكونان كذلك. وهكذا كم يتمنى المصورون المحنكون المنتدبون للقيام بمثل هذه المهمة أن يكون يومهم ذاك يوم عطلتهم الأسبوعية1. وينبغي كذلك أن يكون الصورة متفقة مع سياسة الصحيفة، فهناك صحف تنشر أخبار الطلاق مثلا على الصفحات الأولى مدعمة بالصور. في حين أن صحفا أخرى لا تنشرها إلا في صفحاتها الداخلية أو لا تنشرها إطلاقا. والصورة الصحفية الناجحة هي التي تثير انتباه القارئ، وتجعله يهتم بمحتوياتها دون أن تؤذي الذوق السليم. فالصور الفاضحة، وصور القتلى والجرحى والمشوهين تبعث على الاشمئزاز والنفور، والصحفي الناجح هو الذي يشعر بمسئوليته الكبرى إزاء الرأي العام وسلامة المجتمع الذي يعيش فيه. وقصارى القول، أن فن التصوير الصحفي الحديث ينبذ الأخيلة والأحلام ويتشبث بالواقع، أما الصور الخيالية فقد يكون مكانها معارض الفنون دون الصحف؛ لأن الصحافة تهتم بأمور الحياة اليومية الواقعية، فالصورة الصحفية

_ 1 توماس بيري، الصحافة اليوم ترجمة مروان الجابري "1964" ص525-528.

تشبه الخبر والمقال والتحقيق، أما الصورة الجمالية فهي تشبه الشعر والقصة الأدبية والمسرحية. فالتصوير الصحفي إذن فن واقعي يتصل بالقيم الاجتماعية ويؤثر في أفكار الناس ومعتقداتهم. وما دام الإنسان يثور بطبيعته ضد الظلم، فإنه يجد في آله التصوير ما يجده الكاتب في قلمه والفنان في فرشاته والمحارب في سلاحه، فرصا سانحة ووسائل طيعة للكفاح ونصرة الإنسان وتقدم الحضارة.. فالقاعدة الهامة في فن التصوير الصحفي أنه لا يصور مجرد أشباح أو مناظر فحسب، ولكنه يقوم بمهمة هادفة. أما الصور عديمة المغزى فلا تدخل في نطاق فن التصوير الصحفي.

مميزات المصور الصحفي

مميزات المصور الصحفي: وقد رافق التغيرات التي أصابت التصوير الصحفي تغير في دور المصور. فلم يعد المصور ذلك الرجل الذي يلتقط الصور للصحيفة والذي كان ينظر إليه على أنه مخلوق يستأهل الحب ولكنه بطيء الفطنة والتفكير، كان خليقا بأن يكون مخبرا أو محررا لو كان يمتلك قسطا أكبر من الذكاء والموهبة والاقتدار. ومع أن هذا المفهوم كان له نصيب من الشعبية والانتشار يفوق نصيبه من الصحة، فإن الحقيقة الواقعية هي أن المصور قلما كان أكثر من عامل يعتمد على إدارة آلة التصوير. غير أن هذا المفهوم قد تغير تماما، وأصبح المصور الصحفي ليس مصورا فقط وإنما هو صحفي أيضا يتمتع بعدة مزايا أهمها الحس الفوتوغرافي والقدرة على التحليل والموازنة وإتقان فنون التصوير من تشغيل للآلات إلى استخدام للمعدات وكذلك عمليات التحميض والطبع والتكبير والتصغير وغيرها. هذا فضلا عن العناية بالقيم الأخبارية والدراية الواعية بأساليب معاملة الناس، مع إلمام بالنواحي القانونية المتصلة بالنشر وجرائم السب والقذف، ومقدرة فائقة على العمل في الظروف الصعبة. فليس المصور الصحفي مجرد صانع أو صاحب حرفة، ولكنه في حقيقة الأمر صحفي له رسالة فنان ينفعل بالأحداث ويتأثر بحسه المرهف، ويدرك المواقف ويقدرها تقديرا اجتماعيا بحسه الصادق. فإذا رأى منظرا مؤثرا

لا يكتفي بذرف الدموع، بل تتحرك يده إلى زناد آلته ليلتقط صورا صادقة يعلم بذكائه الصحفي أنها لا بد وأن تحرك مشاعر الناس كما حركت مشاعره. وقد يشاهد المصور منظرا مضحكا فلا يكتفي بالضحك بل تتحرك أصابعه لتلتقط صورا معينة من زوايا فنية تثير الضحك بين القراء. أما بليد الحس الذي لا ينفعل بالأحداث ولا تتحرك مشاعره بمآسي الحياة ومهازلها فإنه لا يصلح مصورا ولا صحفيا. فمما لا شك فيه أن قوة الخيال والحساسية وإدراك مزايا الصورة الجذابة وخصائصها هي أهم صفات المصور الصحفي. وإذا كان المصور يلتقط معظم الصور بموجب تعليمات من رئيس تحرير القسم المصور أو غيره من رؤسائه، فإن قراراته في ميدان العمل تظل هي القوة الحاسمة المقدرة للصورة الفعلية التي يلتقطها. وهذه هي المميزات التي تجعل مصورا صحفيا يمتاز على غيره، كما أن ذلك ما تشهده عندما نتوجه إلى معرض للصور الصحفية الناجحة. والحس الفوتوغرافي موهبة تصقلها الخبرة والدراسة بحيث تصبح الحياة بالنسبة للمصور سلسلة طويلة من الاحتمالات التي يمكن أن تلتقط بالعدسة. وهكذا ينظر إلى كل مجال وكل حدث وكل حركة من زاوية الصورة التي يمكن أن تعبر عنه. فمثلا يجب أن ينظر إلى الطفل الذي يحبو وراء أمه، والرجل المتكاسل على مقعده ينفث دخان سيجارته، والجمهور الذي يتدافع وراء أتوبيس مزدحم بالركاب، على أنها موضوعات قابلة للتصوير. وفي كل مناسبة يجب أن يفكر المصور في أفضل طريقة يلتقط بها الجوانب التصويرية التي تعبر عن جوهر المشهد. ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا إذا أسعفته مقدرته على معالجة جهازه التصويري في يسر وبساطة. فالمصور الصحفي كالجندي لا بد وأن يعرف قيمة سلاحه ومداه وطرق استعماله، وهو في نهاية الأمر يستطيع أن يعمل بآلة التصوير والمعدات الأخرى كالعدسات الملحقة والفلاش والأفلام وكأنها جزء من نفسه. ويعرف المصورون الصحفيون أنهم كثيرا ما تضطرهم الظروف إلى التقاط الصور في الظلام الدامس دون الاستعانة بعود ثقاب أو حتى ضوء سيجارة. ففي الغارات الجوية مثلا تحظر الإضاءة بجميع أنواعها. وفي ظروف أخرى كتصوير الحرائق والحوادث المماثلة يقوم المصور الصحفي بالعمل في الظلام.

والمصور لا يستطيع أن يحقق نتائج طيبة إلا بالعلم والمران حتى يصل إلى التلقائية في العمل؛ لأن عملية التصوير ينبغي أن تتركز على الموضوع نفسه، لا على الآلة وغيرها من المعدات. ولا بد للمصور الصحفي أن يتقن فن معاملة الناس. وعلى العموم فإن الأشخاص المرشحين للتصوير يصنفون في ثلاث فئات: فئة قابلة للتعاون وفئة غير قابلة للتعاون، وفئة غير قادرة على التعاون. والفئة الأولى تتمثل في ثلاثة أنواع من الشخصيات: الفرد المغمور الذي يسره أن يجد صورته منشورة في الصحيفة، ونجمة الشاشة أو المسرح الراغبة في الدعاية لنفسها، والشخص المسهم في حملة يريد أن يروج لها. أما فئة غير القابلين للتعاون فيمكن تمثيلها بالشخص الذي اعتقل لجريمة ارتكبها، والإنسان الخجول الذي تزعجه الدعاية الشخصية حقا، والفرد الذي يضبط في ظروف محرجة. ويمكن تمثيل فئة غير القادرين على التعاون بشخصية المشترك في أحداث مشاجرة أو مباراة رياضية أو مصارع الثيران وهو المعمعة، أو رجل المظلات وهو يهبط بمظلته. والمشكلة التي يواجهها المصور هي مع الفئة الثانية، وهي تحتاج إلى براعة وكياسة في المعاملة. ويحذر المصور الصحفي دائما من الوقوع في شرك جرائم القذف والسب أو التشهير، شأنه في ذلك شأن الصحفي الذي يستخدم الكلمة، ولذلك كان عليه أن يدرس شيئا من قوانين النشر وجرائمه.

أختيار الصورة الصحفية وإخراجها

اختيار الصورة الصحفية وإخراجها: ولا شك أن اختيار الصورة الصالحة للنشر من بين عشرات الصور تعد مشكلة هامة يواجهها المخرج الصحفي كل يوم. وهناك مقاييس وإرشادات يهتدي بها المخرج الصحفي عند اختياره للصورة. أما المقاييس الصحفية فهي نفس المقاييس التي يبنى عليها اختيار الخبر للنشر وقد تحدثنا عنها في الباب الرابع. وأما النواحي الفنية فأهمها الحركة والحيوية والوضوح والقابلية للطبع، ولا يمكن أن تتم عمليات التصوير والحفر بنجاح إلا إذا كانت تفاصيل الأصل واضحة دقيقة. ومن أهم الشروط الفنية التي يجب توفرها في الصورة أن يكون

سطحها لامعا وأن تمتاز بالتباين بين ظلالها. وليس المقصود بالتباين مجرد تجاور المساحات البيضاء والمساحات السوداء، وإنما المقصود هو تدرج الظلال تدرجا دقيقا مع قدر من التفاوت بين البياض والسواد لإبراز ملامح الوجه وتفاصيل الأشياء المختلفة كالأبنية والملابس وغيرها. أما التباين الشديد بين الأضواء والظلال فلا يمكن أن يؤدي إلى صور واضحة والمخرج الصحفي يفضل عادة الصور ذات الدرجات المتوسطة على الصور السوداء الداكنة. ومن المستحيل أن تكون نسخة الصورة المطبوعة مساوية للأصل في الإتقان إذ لا بد أن تفقد النسخة شيئا من القوة والإتقان اللذين يتوفران في الأصل. ولذلك فإن المخرج الصحفي يصر دائما على الصور الممتازة المتقنة، ولا يقنع بالحصول على نسخ شبكية لأن إعادة تصوير النسخ يزيد من ضعفها. وعملية التكبير تفسد الصورة وتعطي نتائج رديئة فيجب تجنبها بقدر الإمكان، أما عملية التصغير فهي على العكس من ذلك تعطي نتائج طيبة. ومعظم الصور التي ترد إلى الصحف تكون كبيرة الحجم مصقولة السطح واضحة المعالم والتفاصيل متباينة الظلال لكي تصلح للطبع. ولا شك أن تحديد حجم الصورة النهائية يتوقف على عدة عوامل أهمها مضمون الصورة ودلالته، فإذا كان المضمون قويا وله قيمته الأخبارية وجب أن تكون الصورة كبيرة، بل إنها قد تصل إلى نصف صفحة أو صفحة كاملة، عند تولية ملك أو رئيس جمهورية أو مقتل زعيم عالمي الشهرة أو نشوب حرب أو غير ذلك. ولكن هناك حدا أدنى لصغر الصورة. فإذا كان عرض الوجه لصورة شخص يقل عن سنتيمتر وجب الاستغناء عنها لأنها لا تعطي نتائج طيبة. ولا توضح معالم الوجه بأي حال. والقاعدة المتبعة عادة هي أن تكون الصورة كبيرة واضحة المعالم والتفاصيل ثم تصغر إلى المساحة المطلوبة. ويستطيع المخرج الصحفي أن يستنبط مساحة الصورة بعد التصغير بالطريقة الحسابية أو بالطريقة الهندسية. وفي الأولى يعتمد على النسبة الثابتة بين الطول والعرض، فإذا كان عرض الصورة 20 سنتيمترا ثم أراد تصغيرها بحيث يكون عرض الصورة على عمودين "حوالي سنتيمترات مثلا" فإن طول الصورة المصغرة

لا بد أن يكون 12.5 سنتيمترا. أما الطريقة الهندسية لإيجاد طول الصورة بعد تصغيرها فتتلخص في توصيل ركني الصورة ثم إسقاط عمود من النقطة التي تحدد العرض المصغر على الوتر الموصل بين ركني الصورة. فيكون طول العمود هو طول الصورة المصغرة المراد معرفته. وقد أصبحت الصورة مع العنوان من أهم العناصر الطباعية في الإخراج الصحفي، والصورة تتوازن مع العنوان وتتباين في نفس الوقت، ولذلك فإنها كثيرا ما تستخدم للفصل بين العناوين المتشابهة حتى لا يقتل أحدهما الآخر1. ومن الطريف أن سلسلة الصور المتتابعة أفقيا يمكن أن تحل محل العنوان المنتشر "المانشيت" في ظروف معينة. ومع أن الصور تعرض مرتبطة بالمادة المتصلة بها، فإنها لا توضع وسط الموضوع لأن ذلك يفسد سياق الكلام، ويقطع تسلسل الأسطر داخل الأعمدة؛ إذ يضطر القارئ إلى القفز ببصره عبر الصورة أو الصور ليتم قراءة الموضوع، وذلك يتنافى مع أصول فن الإخراج الصحفي السليم. فالصورة إما أن توضع قبل الموضوع أو بعده أو إلى جواره ويمكن أن يأتي العنوان أعلى الصورة أو أدناها. وعند تعدد الصور يمكن ترتيبها طوليا أو أفقيا بشرط ألا توضع وسط الموضوع. وعند نشر الصور الصغيرة التي لا يزيد عرضها عن نصف عمود، والتي يكون عرض الأسطر المجاورة لها عمود ونصف عمود أو نصف عمود فقط، يستحسن أن تعرض بالتبادل، فإذا كانت الصورة على يمين العمود والكلام إلى يسارها، فيجب أن تكون الصورة التالية إلى اليسار والكلام إلى يمينها وهكذا. ولكل صورة شرح أو بيان ينشر معها بالكلمات2 التي قد تأتي فوق الصورة أو تحتها أو إلى جوارها، أو أنها قد تحفر مع الصورة نفسها، والكلمات المصاحبة للصورة تكون عادة أكبر أو أثقل من حروف المتن. ويراعى عادة وضع الصورة في النصف الأعلى من الصفحة لأنها أكثر لفتا للأنظار من العناوين، ولا بأس من نشر الصور في أسفل الصفحة بحيث لا تطفي على النصف العلوي.

_ 1 tombstoning. 2 caption.

ولا شك أن التلازم المكاني والزماني بين الصور والألفاظ في التليفزيون هو الذي يؤدي إلى التصوير الواقعي الحي للأحداث، أما في الصحافة فلا يكون التلازم إلا في المكان فقط، أي في الحيز الذي يشغله الخبر والصورة مثلا. وهكذا يمكننا فهم صعوبة الصحافة إذا ما قورنت بالتليفزيون. ولكي ينجح المخرج الصحفي في هذا التعبير الشاق، ينبغي عليه أن يستغل التأثير الثالث أو العامل السيني الذي ينتج من تفاعل اللفظ والصورة. ففي هذه الحالة يمكن الاستفادة من القارئ نفسه وبما هو مختزن في ذاكرته ومخيلته ليكمل ما يعرض عليه من أخبار وصور. فإذا عرضنا على القارئ مجموعة من الصور مرتبة ترتيبا معينا أمكنه أن يفهم شيئا عن الحادث المراد تصويره، ولكننا إذا أضفنا إلى الصور شرحا لفظيا، فإن تصور القارئ للحادث يكون أنضج وأخصب؛ لأن الصور والألفاظ حين تتضافر لإثارة مخيلة القارئ وذاكرته تستطيع أن تستغل هذا التأثير الثالث أو العامل السيني الناتج من التزاوج الفني بين اللفظ والصورة، وهذا هو جوهر الفن الصحفي المصور الذي يتعاون فيه المندوب والمحرر والمصور والمخرج جميعا لتصوير الوقائع والحقائق تصويرا محكما متقنا مستساغا للجميع.

الباب التاسع: الكمبيوتر والفن الصحفي

الباب التاسع: الكمبيوتر والفن الصحفي مدخل ... الباب التاسع: الكمبيوتر والفن الصحفي يقوم العمل الصحفي بطبيعته العصرية على السبق ويعطي للسرعة قيمة كبيرة. فالصحفيون يعملون في مناخ من السباق مع الزمن، ولا يمكن لصحيفة أن تهمل عامل الوقت إلا وكان هذا الإهمال علامة على الترهل الإعلامي والتدهور الاقتصادي، ولذلك أصبح الكمبيوتر الذي يعتبر آخر أدوات التقدم التكنولوجي جزءا لا يتجزأ من الجهاز الصحفي الحديث الذي أطاح بأدوات العمل الصحفي التقليدية ووسائله العادية المألوفة لكي يفتح بابا واسعا عريضا يؤدي إلى مستقبل جديد كل الجدة باعتماده على الفنون الإلكترونية العصرية. وقد أصبحت الصيحة الجديدة في عالم الفنون الصحفية هي التحكم الذاتي، وهي صيحة تقوم على مرتكزات علمية تقرب من المعجزات لأنها تنقل الأخبار بسرعة الضوء، فقد أصبح النظام الصحفي الجديد يعتمد على تكنولوجيا إلكترونية شاملة تربط الأخبار بالتحرير، ووكالات الأنباء بأقسام المعلومات "الأرشيف" بأقسام الجمع ثم بأقسام الطباعة. وحجر الزاوية في كل هذه الارتباطات الشاملة هو التحكم الذاتي إلكترونيا، ولا ينبغي أن تخلط بين الميكنة الآلية والتحكم الإلكتروني، وذلك أن الميكنة هي أن تعمل الآلات ما كان يعمله الإنسان بيديه، وهو أمر شائع منذ الثورة الصناعية الأولى. أما التحكم الذاتي فمعناه قيام جهاز إلكتروني بالتحكم في العمل وتعديله ذاتيا. وفقا لبرامج محددة أو تعليمات تودع في صلب الجهاز الإلكتروني وتعتبر جزءا لا يتجزأ من النظام الإلكتروني.

الصحافة والكمبيوتر

الصحافة والكمبيوتر: وقد يوصف الصحفي الناجح على سبيل المثال بأنه كمبيوبر، والبرمجة هنا تكمن في دخيلة الشخص نفسه وتتكون نتيجة الخبرات والمعارف، فهو يستقبل المعطيات ويقوم بمعالجتها وتشغيلها فرزا واختيارا ومقارنة وتحليلا وتنظيما ثم تصدر عنه المخرجات في شكل جديد وفق البرامج المحددة له. ومن المعروف أن العقل البشري يستطيع أن يختزن 10 مليون معلومة في مخ لا يزيد وزنه عن كيلوجرام وربع، في حين أن العقل الإلكتروني يستطيع أن يخزن 16 مليون معلومة ويتم ذلك في حيز يصل إلى مائة ضعف وقد وزن وقت المخ البشري، ولكن التطورات العصرية والاكتشافات الجديدة ولا سيما في مجال الترانزستور قد جعلت الكمبيوتر صغير الحجم إلى درجة مذهلة. فالكمبيوتر الذي كان يعمل بالصمامات الكهربية التقليدية كان يشغل مساحة لا تقل عن 200 متر مربع، أما الآن فإن هذا الكمبيوتر في شكله الحديث لا يشغل مساحة أكبر من حجم رأس الدبوس. وقد رأينا في الصفحات الماضية أن الصحافة أخذت تستوعب منذ نشأتها كافة المبتكرات التكنولوجية لتحقيق أهدافها مثل الآلة الكاتبة والهاتف والبرق والراديو وآلات الجمع السطرية وآلات الجمع الحرفية على اختلاف أنواعها والمطابع السريعة الحديثة.

الصحافة بين التقليد والمعاصرة

الصحافة بين التقليد والمعاصرة: ومن الطريف أن بعض الصحفيين القدامى كانوا لا يرحبون بالكمبيوتر منذ قدومه في الخمسينات من هذا القرن العشرين، كما أنهم لا يرتاحون إلى عملية التحكم الذاتي في مجال الصحافة. ولعل ذلك يرجع إلى أن الأجهزة الإلكترونية المستخدمة في الصحف كانت من قبل مستخدمة في مجالات أخرى من أجل الاقتصاد في النفقات ثم طورت تطويرا جديدة لكي تعمل في مجال الصحافة. وأخذ الصحفيون المخضرمون يترحمون على الأيام الخوالي التي كان فيها العمل الصحفي يتم بأدوات بسيطة كالقلم والمقص والصمغ، كما راحت شائعات ساذجة تحكي عن موضوعات بكاملها ابتلعتها أجهزة الكمبيوتر ولم

يعثر على أثر لها بعد ذلك، وكان الكمبيوتر غول مخيف لا يمكن السيطرة عليه، وبات من المستحيل استرجاع المواد التي دخلت في تلافيف الكمبيوتر كما رويت حكايات طريفة عن رسائل مضحكة موجهة من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان تبدأ بعبارة: عزيزي السيد يونايتيد برس، وخطاب موجه إلى صحيفة نيويورك تيمس وقد جاء في ديباجته: السيدة نيويورك تيمس، وهي أقرب ما تكون إلى النكت المضحكة. وفي البداية كانت معظم التحولات مركزة في مجال الإنتاج، وبالذات في عملية تحويل النصوص المكتوبة إلى حروف طباعية، ولعل ذلك راجع إلى أن عملية الإنتاج هي أكثر العمليات تكلفة. وهناك أيضا عامل الاقتصاد في الوقت إلى جانب الاقتصاد في النفقات فكان لا بد من دخول الكمبيوتر في مجال استقاء الأخبار وتحريرها وإعداد الصحف وإخراجها أيضا. وتصدر الآن المؤلفات والمعلومات حول تطوير العمل الصحفي باستخدام الكمبيوتر بمعدل 200 صفحة في الدقيقة من جميع أوقات الليل والنهار. إنها الثورة الصناعية الثانية أو الثورة الإلكترونية التي تكتسح العالم الحديث مقدمته مجال الصحافة والإعلام، وقد أصبح لزاما على الصحفي الحديث أن يلم بخطوات العمل وطبيعة الأداء الإلكتروني، إلى جانب الدراية الكاملة بأجهزة الكمبيوتر واستخدامها وخصائصها وتطبيقاتها في أقسام الأخبار والتحرير والجمع والإخراج والطباعة حتى تخرج الصحيفة إلى السوق، بل إن الكمبيوتر يعطينا معلومات مهمة وجوهرية عن التوزيع والإعلان ومدى تقبل القراء للموضوعات الصحفية. التحكم الذاتي: إن عملية المعالجة الإلكترونية بالتحكم الذاتي أصبحت تشمل العمل الصحفي من بدايته إلى نهايته، ابتداء بجلب الأخبار وكتابتها وتحريرها، وإعداد الموضوعات والمقالات والصور والتحقيقات، وحتى عمليات التصحيح واختيار العناوين والعناوين الفرعية واختيار أحجام حروف الطباعة وعرض الأعمدة وضبط نهايات السطور.

فهناك مثلا الجهاز رقم 301 من طراز "د. س. أ." التي تستطيع أن تحول مساحة عمود صحفي بطول 52 سم إلى حروف مصححة ومضبوطة الهوامش في ظرف 17 ثانية. والمعروف أن آلة الجمع السطرية تنتج 900 سطر من الحروف الطباعية في الساعة. أما الكمبيوتر فيستطيع أن ينتج 12000 سطر في الساعة. وإذا كانت سرعة الكلام العادي في المحادثة 120 كلمة في الدقيقة، فإن الأجهزة الحديثة يمكن أن تنقل 4000 كلمة في الدقيقة، كما أن أساليب المسح الإلكتروني الحديثة تيسر قراءة النصوص بسرعة 28000 كلمة في الدقيقة. ومن أكثر الأجهزة شيوعا جهازان: الأول هو العين الفاحصة للحروف والآخر شاشة العرض التلفزيونية. والجهاز الأول يتطلب استخدام آلة كاتبة كهربية تنتج حروفا قابلة للمسح أي تقوم العين الفاحصة للحروف أو الماسحة لها بذلك عن طريق اثني عشر شعاعا تجعل الجهاز يتعرف على الحرف ويحوله إلى نبضة إلكترونية. ونتيجة لعملية المسح يحدث أحد شيئين: إما تخرين الحروف في ذاكرة الكمبيوتر، وإما إنتاج شريط مثقب يمكنه تشغيل آلة صب الحروف أو سبكها في الطباعة الساخنة أو تشغيل آلات الجمع الإلكتروني في الطباعة الباردة. التحرير والكمبيوتر: ويتطلب الوضع الأمثل توزيع نهايات طرفية ذات شاشات تلفزيونية على كافة الصحفيين، غير أن تزويد جميع المندوبين والمحررين بهذه الأجهزة أمسى باهظ التكاليف حتى بعد هبوط أسعار تلك الأجهزة وشيوعها، أما البديل فهو الاكتفاء بمجموعة محدودة من هذه الأجهزة التي ينتقل إليها الصحفيون والمحررون لتشغيلها. ويمكن تصور النهاية الطرفية ببساطة إذ إنها تتكون من جزأين الجزء الأول يشبه الآلة الكاتبة بمفاتيحها دون أن يستخدم أي ورق. فإذا ضغطت

مفاتيح الحروف ظهرت على شاشة شبيهة بشاشة التليفزيون، ويطلق على هذه الشاشة اسم أنبوبة أشعة المهبط الكاتودية. فالصحفي يطالع الحروف على الشاشة بنفس الطريقة التي يشاهد بها على الورق. ويمكن تحريك السفر إلى أعلى أو إلى أسفل باستخدام مفتاح معين، وبذلك يتسنى له مشاهدة ما يكتبه على الشاشة أولا بأول، كما يمكنه مشاهدة ما كتب أو بعضه إذا شاء ذلك. وإذا أراد الصحفي أن يحذف حرفا أو عبارة أو جملة أو فقرة فإنها تختفي من الشاشة ويتحول النص في الحال إلى الوضع الصحيح، وإذا أراد أن يضيف كلمة أو فقرة، فإن الجهاز يفتح أمامة مساحة كافية لذلك، كما أنه يعرض على الشاشة النص الكامل الجديد. وهكذا يظل النص دائما نظيفا وخاليا من علامات التصحيح والإضافة وغيرها. وعندما ينتهي الصحفي من عمله فإنه يرسله مباشرة إلى كمبيوتر آخر يقوم بعملية الجمع إما بالأحرف الساخنة أو بالأحرف الباردة. وفي الحالات المستحدثة يقوم الصحفي بتحويل مادته إلى ذاكرة الكمبيوتر الذي يختزن مواد الصحيفة المختلفة من أخبار وموضوعات ومقالات وإعلانات وصفحات منوعة وغيرها. ومن هذا الكمبيوتر المركزي استرجاع أي مادة على مكتب التحرير لمراجعتها وتزويدها بالعناوين ويكون النص النهائي منضبطا بمعنى أن تكون نهايات الأسطر متساوية تماما، كما تكون الهوامش متساوية تماما على اليمين وعلى اليسار. نظم التحرير الإلكتروني: وتختلف الأجهزة من نظم كاملة الاتصال سلكيا بمعنى أنها لا تستخدم أشرطة بالمرة. وذلك لأن المندوب يتصل بالكمبيوتر، ثم ينتقل من الكمبيوتر إلى المحرر. ومن المحرر إلى كمبيوتر مرة أخرى، ثم من الكمبيوتر إلى المطبعة. ويلاحظ أن الجهاز الطرفي الخاص بالمحرر أكثر تعقيدا من الجهاز البسيط الذي يستخدمه المندوب الصحفي لأن المحرر يقوم بعمليات كثيرة

لتصحيح النص وتحريره من كافة الأخطاء وإذا أرسل المندوب النص إلى الذاكرة فإن الكمبيوتر يعطي قائمة بالمواد المختزنة فيه. وإذا تطلب الأمر الحصول على صورة مطبوعة على الورق، تيسر ذلك باستخدام جهاز الطبع الملحق بالكمبيوتر. ويستطيع سكرتير التحرير أن يراجع قائمة الموضوعات ليسند إلى كل محرر الموضوع الخاص به ليقوم بتحريره على الجهاز المزود بالشاشة -التليفزيونية، وفي هذه الحالة يصبح النص النهائي نظيفا وخاليا من أية إشارات. وهناك علامات رمزية بمثابة تعليمات للكمبيوتر من أجل التحكم في عرض العمود أو حجم الحروف وأشكالها المختلفة وأحجامها. وإذا قام المندوب والمحرر بالعمل جيدا فإن النص النهائي يكون خاليا تماما من الأخطاء، ويمكن تحويله مباشرة إلى أقسام الجمع، ولا بد من التعاون بين الصحفي والكمبيوتر ليستطيع مراجعة المادة الصحفية في أي وقت يشاء باسترجاعها من الكمبيوتر. تكوين الصفحات: وقد أصبح الآن من الممكن تكون الصفحات وهي عملية تسمى التصحيف عن طريق الكمبيوتر الذي لا يقوم بإنتاج المادة الصحفية فحسب، بل يستطيع أيضا جمع الموضوعات والصور. فالمخرج الصحفي يجلس أمام الكمبيوتر ويستطيع أن يكون الصفحات عن طريق الشاشة التي أمامه، وهو يستطيع تحويل الصفات وتغييرها وتعديل أماكن المواد كما يشاء باستخدام الشاشة الإلكترونية التي تظهر عليها كافة المواد من حروف وصور وغيرها. وعند الانتهاء من عملية الإخراج على نحو ما يراه الصحفي ملائما فإنه يضغط على مفتاح معين فتصور الصفحة وتصبح جاهزة للطباعة. وهكذا يستطيع المخرج أن يرى الصفحات كاملة على نحو ما يراها القارئ تماما، دون استخدام الأوراق والصمغ ودون قص الأسطر فهذه العمليات التي كانت تتعرض للكثير من الأخطاء والنسيان وعدم الدقة قد ولى زمانها وأصبحت في خبر كان. وقد يسرت هذه الأجهزة الإلكترونية التحكم في المادة الصحفية وإخراجها في قاعة التحرير بعد أن كان الإخراج يتم داخل صالة الجمع.

التقدم التقني في الفن الصحفي

التقدم التقني في الفن الصحفي: وقد أصبح من الميسور حاليا إضافة المادة الواردة من وكالات الأنباء العالمية والمحلية إلى الكمبيوتر المركزي مباشرة دون استخدام للأشرطة المثقبة أو الأشرطة المكتوبة، ومن الممكن حاليا أن يقدم الكمبيوتر قائمة الموضوعات التي تظهر على شاشة العرض لكي يختار منها المحرر ما يشاء من موضوعات. كما أنه من الممكن أيضا تخزين الموضوعات الواردة من الوكالات المختلفة في ذاكرة الكمبيوتر بانتظار فرزها واختيار ما يناسب منها وتجميع بعضها إلى بعضها الآخر وإضافة عناصر أخرى لتكوين الأخبار المتكاملة. كما تتوفر التعليمات للكمبيوتر لتغيير شكل الإخراج أو عرض الأعمدة أو مقاسات الحروف وأشكالها وفقا لما يراه المخرج الصحفي أو سكرتير التحرير ملائما، وباختصار، يمكن للمحرر أن يطوع المادة الصحفية الواردة من الوكالات على النحو الذي يرغبه. وكذلك ترد إلى الصحيفة موضوعات مختلفة تقدمها الهيئات والمؤسسات بالإضافة إلى المقالات والتحقيقات وتختزن جميعها في الكمبيوتر المركزي بانتظار سكرتير التحرير الذي يسترجعها ويوزع مسئولياتها على المحررين لمراجعتها كل فيما يخصه. وهناك أجهزة إلكترونية حديثة يستطيع المحرر الصحفي أن يملي إليها الصحفي ما يشاء أن يمليه شفاهة فتتحول المحادثة الصوتية إلى حروف مدونة إما على شكل أشرطة مثقبة أو أشرطة مطبوع عليها الكلمات التي أملاها للجهاز.

ويلحق بالكمبيوتر آلة طابعة وذلك للحصول على مواد مطبوعة للحفظ في الأرشيف أو للفحص أو لوضع العناوين المناسبة، كما تستخدم عند الضرورة في قضايا القذف أو السب، وهي قضايا يمكن أن تؤدي إلى خسائر فادحة على سبيل التعريض، وحكى تاريخ الصحافة قصصا عجيبة عن الصحف التي لقيت حتفها في قضايا التعويضات. العين الفاحصة للحروف: والعين الفاحصة للحروف تشكل مصدرا آخر للمدخلات في الكمبيوتر، وفي هذه الحالة يجب على الصحفي أن يستخدم آلة كاتبة كهربية مزودة بحروف قابلة للمسح وشريط كربوني يستخدم لمرة واحدة فقط وذلك للتقليل ما أمكن من أخطاء القراءة المسحية. ويجب كذلك استخدام ورق من نوع جيد لأن ورق الصحف الخشن لا يصلح إذ إن العين الفاحصة "تقرأ" كل شيء على سطح الورق بما في ذلك العيوب السطحية، فتظهر الحروف مشوشة. لذلك ينبغي استخدام ورق بوند أبيض جيد لأن حساسية العين الفاحصة شديدة للغاية، لذا ينبغي ألا تستخدم أية خطوط أو أية علامات بالقلم؛ لأن استخدام هذه الخطوط يؤدي إلى أن تقوم العين الفاحصة بشطب المادة، وكل شيء تظهره العين الفاحصة بما في ذلك بصمات الأصابع أو بقع القهوة أو الشاي أو أي ثقوب أو علامات مهما صغر حجمها أو تضاءل شكلها. وتكتب المادة المعروضة للمسح وبين أسطرها ثلاث مسافات لإفساح المكان المناسب للتصحيح. كما يتطلب الأمر تحضير الصفحة تحضيرا جيدا بحيث تكون المادة خالية من الأخطاء ليتسنى تخزينها في ذاكرة الكمبيوتر المركزي عن طريق العين الفاحصة للحروف. أما بالنسبة لحذف أية مادة فيجب استخدام قلم أسود خاص لوضع خطوط على المادة المطلوب حذفها، وعلى سبيل التيسير تقوم بعض الهيئات الصحفية والوكالات العالمية بإرسال المادة الصحفية بحيث تكون قابلة للمسح مباشرة.

إعداد المادة القابلة للمسح: ويلاحظ عند إعداد المادة القابلة للمسح ما يلي: أولا: يجب أن تكون الأسطر على مستوى أفقي تماما؛ لأن الأسطر غير المستوية تماما أو غير الأفقية بدقة تجعل عملية المسح غير متقنة. ثانيا: يجب أن يكون الورق ناعما ويلاحظ ألا يكون منبعجا أو به فقاعات. ثالثا: تترك مساحة بوصة من أعلى الصفحة ونصف بوصة في أسفلها وعلى الجانبين. رابعا: تترك ثلاث مسافات بين السطر والآخر لإفساح المجال للتصحيح. خامسا: يستخدم الشريط الكربوني مرة واحدة فقط ثم يستبدل به آخر. سادسا: التعليمات للتعديل والتصحيح توضع بين خطين مائلين. ويمكن استخدام هذه المستحدثات تدريجيا على مراحل، وعادة تستخدم هذه التقنيات المستحدثة لبعض الصفحات ولا سيما صفحات الرأي والمقالات والموضوعات الثابتة والزوايا والأركان. وفيما يلي عرض يبين أسعار هذه المواد التكنولوجية الإلكترونية: العين الفاحصة للحروف 90.000 دولار شاشة العرض 16.000 دولار جهاز اختزان مركزي "2 مليون حرف" 140.000 دولار جهاز تكوين الإعلانات على الشاشة 30.000 دولار ومن الطبيعي أن تتحول طباعة الصحف من الطريقة الساخنة إلى الطريقة الباردة. أما جهاز الطبع السريع للمادة فثمنه 5000 دولار

إدماج مراحل الصحفي: وهكذا نرى أن النظام الإلكتروني الحديث يجمع كافة مراحل العمل الصحافي من كتابة ومراجعة وتصحيح في مرحلة أساسية واحدة. وبطبيعة الحال تصادف هذه الطرق الحديثة معارضة شديدة من الصحفيين التقليدين الذين يصفون العاملين في مجال الصحافة الحديثة بأنهم "عيال الكمبيوتر" كما يقال إن الشاشة تؤذي العين بالأشعة الضارة، مع أن نظام الجمع والتحرير والتصحيح في مرحلة واحدة يعد بلا شك تطويرا أساسيا في الإنتاج الصحفي. وفي بعض الدول التي تسمح بتكوين النقابات العمالية في مهنة الصحافة، يجد التحديث معارضة شديدة من النقابات لأن هذه التقنيات قد تؤدي إلى فصل العمال والاستغناء عنهم، ولكن هذه المشكلات تجد طرقا كثيرة لحلها مثل إعادة تدريب العمال على الأجهزة الجديدة، وكذلك إنهاء خدمات العمال بشكل عادي عند التقاعد. ومن الثابت أن النظام الإلكتروني الجديد يعطي للصحافة مجالا طيبا لرصد المعلومات ومعالجتها ووضعها في جداول مرتبة ترتيبا منطقيا. ولا سيما في ظروف الانتخابات والامتحانات، فقد انتهى عصر الأوراق والبطاقات والملفات، وحتى الأفلام الصغيرة للغاية "الميكروفيلم" ليحل محلها أسلوب الأشرطة والأسطوانات الحاملة للمعلومات. المكتبات والمعلومات: لقد كانت مكتبات الصحفي تتكون من صفوف فوق صفوف وأكوام فوق أكوام من المعلومات المرصوصة في دواليب مليئة بالملفات والمظاريف المكتظة بالقصاصات والصور والأكلشيهات الخاصة بالموضوعات والشخصيات، ومعظمها قديمة وغير مفهرسة فهرسة جيدة. ونتيجة لذلك تصبح الفائدة المرجوة من هذه الخزائن محدودة وبطيئة إذا ما قورنت باستخدام الأجهزة الإلكترونية التي تساعد على سرعة التخزين والمعالجة والاسترجاع للمواد الصحفية.

ولا شك أن الكمبيوتر قد جب الوسائل الأخرى مثل أجهزة الميكروفيلم التي تستطيع تخزين المواد الإعلامية في حيز صغير للغاية مثل ظفر الإصبع. وهذه الأفلام الصغيرة للغاية تركب على بطاقات ذات فتحات وهي قابلة للفهرسة والفرز والتصنيف بسهولة ويسر. وهناك تعليمات تدق على الآلة الكاتبة أو آلة الاسترجاع وبذلك يخرج الفيلم المراد مشاهدته، غير أن هذه الطريقة سرعان ما استبدلت بها طريقة أخرى هي التخزين على أسطوانات لتحل محل هذه البطاقات الكثيرة المتعددة. الحصول على المعلومات: وهناك طريقتان للاقتراب من المعلومات: إحداهما باستخدام مفاتيح النهاية الطرفية فتظهر المعلومات على شاشة أو الأنبوبة الكاتودية بدلا من الطريقة القديمة عند مخاطبة المكتبة تليفونيا لطلب المادة الصحفية، وذلك باستخدام كلمات معينة من الخبر أو العنوان أو الموضوع بحيث تكون كافية لاستدعاء الموضوعات والمعلومات المطلوبة، وهذه الكلمات الاستدعائية مسجلة على شريط واحد تكفي لتغطية معلومات العام بأكمله. فبالضغط على كلمات معينة تحتويها المادة المطلوبة يقوم الكمبيوتر بتقديم عدد الأخبار أو الموضوعات التي تحتويها هذه المادة، وإذا ما كانت المواد كثيرة للغاية أو أكثر مما يطلبه الصحفي، فإنه يضيف كلمات أخرى تقيد طلبه وتحدده وبذلك يحدد مجال ما يرغب في معرفته، وعندما يصل العدد إلى الحد المناسب فإن الكمبيوتر يصدر قائمة بالموضوعات المطلوبة. وقد وجد الباحثون أن استخراج المواد المطلوبة التي تحتويها أشرطة الميكروفيلم ثم قراءة المعلومات على تلك الأشرطة تستغرق وقتا يمكن اختصاره. ومن هنا جاءت الطريقة الأخرى التي تعتمد على أمناء مكتبات من نوع جديد. فهم متخصصون في علوم الكمبيوتر ولا سيما طرق تخزين المواد الصحفية واسترجاعها للصحفي مستعينين في ذلك بالمعلومات المختزنة إلكترونيا.

الكمبيوتر المركزي: الأفضل من ذلك كله استخدام الكمبيوتر المركزي الذي تتصل به الصحف المختلفة ووكالات الأنباء، وهي طريقة باهظة التكاليف ولكنها دقيقة وعملية، وذات فائدة كبيرة. ولا شك أن استخدام القمر الصناعي العربي للربط بين الصحف والوكالات وبين الكمبيوتر المركزي سوف يصبح من أهم تطورات الفن الصحفي في أواخر القرن العشرين. وهكذا يظهر لنا أن تلك الأيام التي كان فيها موظف الأرشيف مجرد إنسان لا عمل له، بل والذي كان فيه موضع سخرية وتندر قد ولت دون رجعة ليحل محله أشخاص على مستوى رفيع من التخصص. ولا شك أن توفير المادة التي تشكل خلفية الموضوعات "من حقائق وأرقام وصور ومعلومات سابقة، سوف يسهل تغذيتها للكمبيوتر، كما يصبح من اليسير استرجاعها. الثورة الإلكترونية: إن التطور في مجال الكمبيوتر يسير بإيقاع سريع للغاية حتى ليصدق ما يصفه البعض لهذا التطور بأنه ثورة إلكترونية وتفجر للمعلومات، وأصبحنا نسمع كل يوم عن تطورات جديدة، وتطبيقات إلكترونية مذهلة، ولكن ليس معنى ذلك أن التقدم التقني يعني تطور في الفن الصحفي، فالصحيفة المملة لا تحول صحيفة شيقة بمجرد استخدام التقنية الحديثة، والسخافات لا يمكن أن تتحول بالكمبيوتر إلى طرائق شيقة ومعلومات مفيدة. فسرعة الأداء والآلية الذاتية لا تعتبر بديلا للصحيفة الجيدة فأفكارها الرفيعة، وقيمها السامية بل إنها على العكس من ذلك قد تنحدر إلى ما هو أسوأ. خذ مثلا موضوعا جاهزا للمسح الإلكتروني من الناحية الآلية كاملا بلا عيب وخاليا من الأخطاء تماما، وسليما من كل نقص، وكل شيء جاهز بلا أخطاء طباعية أو هجائية أو لغوية، كما أن الورق أبيض وصقيل بحيث

يمكن للعين الفاحصة للحروف أن تحول الصفحة إلى لوح قابل للطبع في الحال. هنا يكون الإغراء شديدا للصحفي أو المحرر ألا يغير من الموضوع شيئا اللهم إلا بعض التحسينات التجميلية العابرة دون مساس بالموضوع تجنبا لإعادة كتابته وتحريره من جديد، وإلا كان هذا عودة إلى بدء، وتكرارا لعمليات الكتابة والتحرير وإعداد الموضوع من جديد. ولما كان العمل الصحفي اقتصاديا، فإن رؤساء التحرير والمديرين وغيرهم من المسئولين يفضلون عدم تغيير النص وإبقائه على ما هو عليه اقتصادا للجهد والنفقات والوقت، وقد يؤدي ذلك إلى تحقيق أرباح للمؤسسة الصحفية ولكن كله على حساب الفن الصحفي السليم والأصيل. وظائف الكمبيوتر: وقد رأينا كيف يساعد الكمبيوتر على ضبط السطور وتوزيع المسافات بين الكلمات بحيث تتساوى نهايات الأسطر وتكون الهوامش في الجوانب متساوية تماما، كما أن الكمبيوتر يعطي نتائج ممتازة في إعداد الإطارات والجداول الخاصة بالأسعار والسباقات الرياضية والأوراق المالية والسندات وتقلبات أسعار البورصة والانتخابات السياسية والانتخابات العامة والاستفتاءات على كافة الأصعدة المحلية والقومية وغيرها. كما أن الكمبيوتر يستوعب المدخلات المتنوعة الواردة من المندوبين والمراسلين ووكالات الأنباء والهيئات الصحفية والمؤسسات الأخبارية والإعلامية، وكلها تدخل إلى الكمبيوتر ويتم فهرستها وتلخيصها بطريقة تسهل عمل المحرر. فبضغطة واحدة على مفتاح معين يستطيع أن يسترجع أي مادة يريدها ويقرؤها على الشاشة الإلكترونية، وإذا كانت الصحيفة مشتركة في وكالة أنباء أو وكالتين أو أكثر فإنه يستطيع أن يستعرض على الشاشة كل خبر من الأخبار ليختار الأفضل بالنسبة لسياسة الصحيفة أو يدمج عناصر مختلفة من خبر إلى خبر ليكون خبرا مكتمل الأركان يظهر أمامه على الشاشة

الإلكترونية كما أنه يستطيع إجراء التعديلات اللازمة والتصحيح فتظهر النصوص النهائية على الشاشة بل إنه يستطيع بالضغط على مفتاح آخر الحصول على النص مطبوعا على الورق. وبإيجاز، يمكن القول أن سكرتير التحرير يعرف جميع الأخبار والموضوعات وشكل الصفحات قبل تحويلها للطبع كما يعرف المساحات الباقية بعد تركيب الصفحات ووضع الإعلانات والصور وغيرها. ويستطيع المخرج الصحفي تغيير أماكن الصور والموضوعات ليتبين الأشكال المناسبة، ويتم ذلك في قاعات التحرير. وهكذا ينتقل محور الإنتاج من قاعات التوضيب إلى صالات التحرير. وهكذا تصبح مراكز المعلومات أكثر مرونة وأفضل أداء للخدمة. أما بالنسبة للموضوعات المؤجلة ليوم قادم أو أسبوع قابل فإنه يحتفظ بها في ذاكرة الكمبيوتر لكي تظهر له في الوعد المحدد دون الحاجة إلى الأوراق والملفات التي تستخدم في الأحوال التقليدية. وفي حالة القضايا المنظورة أما المحاكم على اختلاف درجاتها أو التشريعات التي تصدرها المجالس النيابية والتشريعية، فإن جميع الأحكام تختزن أولا بأول مع تطوراتها وتعديلاتها. ويقوم الكمبيوتر بجميع العمليات الحسابية مهما كانت دقيقة، كما أنه يسجل جميع متطلبات الحسابات الضريبية وغيرها. سيطرة الكمبيوتر: ويقيس الكمبيوتر مدى انقرائية الموضوعات الصحفية وفقا لمعدلات الانقرائية، كما يمكنه تقديم المعلومات اللازمة عن أذواق الجماهير ومدى تقديرها للموضوعات المختلفة، وكذلك ما قد يطرأ على الأذواق من تحولات بالنسبة للإخراج الصحفي من تحقيقات وموضوعات وغيرها. ويحدد الكمبيوتر بدقة إنتاج كل صحفي، بل إن الجهد المتصل بعمليات التصحيح والمراجعة تتحول مباشرة إلى جهد إلكتروني يقوم به الكمبيوتر.

وهكذا يقوم الكمبيوتر بعدة وظائف بدقة متناهية، إلا أن الصحافة الإلكترونية قد تؤدي إلى المزيد من التركيز في العمل الصحفي وظهور صحف على المستوى القومي، واندماج الصحف المتعددة، مما يهدد بالمزيد من الاحتكار. والخطر كل الخطر هو الاندفاع الكامل في تيار الآلية الذاتية والوقوع في الفخ التكنولوجي، أما التعاون بين الإنسان والآلة فإنه يؤدي إلى كسب خير ما يقدمه الإنسان وأحسن ما تقدمه الآلة. فالمرونة في الاستخدام والتطبيق تحقق الطواعية المستمرة في الأداء الصحفي. فليست المهمة الأساسية للعمل الصحفي مجرد معرفة المفاتيح التي تضغط والموضوعات التي تختزن أو التي تسترجع، ولكن المهم حقا هو إتقان السيطرة على الآلة العملاقة السريعة.

إعداد الصحفيين في العصر الالكتروني

إعداد الصحفيين في العصر الإلكتروني: أما بالنسبة لإعداد الصحفيين فلا تزال القدرة الواعية على استخدام اللغة والأفكار والتحرير الجيد والأسلوب الصحفي السلس أهم بكثير من مجرد إتقان تشغيل الآلة. مع ملاحظة أن الآلات التي تعتبر حديثة اليوم قد تصبح قديمة بالية عفى عليها الزمن. ثم إن هناك طرازا مختلفة من الآلات فإذا ما دربنا الصحفي على واحدة منها فإنه قد يجد في الصحيفة التي يعمل بها طرزا آخر مختلف تماما على ما درب عليه. ولكن من الممكن بالدراسة والاطلاع وقراءة الكتب المتخصصة والزيارات والتعاون مع الكمبيوتر المركزي في الجامعة، وربما أيضا كلية الهندسة قسم الإلكترونات، ثم الزيارات المتعددة للصحف ودور النشر التي تستخدم النهائيات الطرفية والعيون الفاحصة للحروف تعلم الكثير من الفن الصحفي. ولا يمكن بحال من الأحوال الاستغناء عن المهارات الأساسية في الكتابة والتحرير والأداء الأسلوبي الناجح. فالموهبة الإنسانية هي حجر الزاوية ولا بد من تنميتها وتأتي عمليات التدريب الإلكتروني في المرتبة الثانية.

المراجع

المراجع: أولا: المراجع العربية د. إبراهيم إمام الإعلام والاتصال بالجماهير "الأنجلو المصرية" 1969 فن العلاقات العامة والإعلام "الأنجلو المصرية" 1967 العلاقات العامة والمجتمع "الأنجلو المصرية" 1968 تطور الصحافة الإنجليزية "الأنجلو المصرية" 1956 د. إبراهيم عبده تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية "الآداب" 1949 تاريخ الوقائع المصرية "الآداب" 1946 تطور الصحافة المصرية "الآداب" 1951 جريدة الأهرام "الآداب" 1951 الصحافة في الولايات المتحدة "سجل العرب" 1961 قصة الجريدة "سجل العرب" 1962 أحمد أمين زعماء الإصلاح في العصر الحديث "النهضة المصرية" 1948 جلال الدين الحمامصي هذه هي صحافتنا بين الأمس واليوم "دار الكتاب المصري" 1957 المندوب الصحفي "دار المعارف" 1963 من الخبر إلى الموضوع الصحفي "دار المعارف" 1965

د. عبد اللطيف حمزه أدب المقالة الصحفية، ثمانية أجزاء "دار الفكر العربي" 1950-1964 المدخل في فن التحرير الصحفي "دار الفكر العربي" 1958 مستقبل الصحافة في مصر "دار الفكر العربي" 1957 أزمة الضمير الصحفي "دار الفكر العربي" 1960 فيليب دي طرازي تاريخ الصحافة العربية، أربعة أجزاء "بيروت" 1913 د. محمود فهمي الفن الصحفي في العالم "دار المعارف" 1968 ثانيا: مراجع مترجمة توماس بيري ترجمة مروان الجبابري الصحافة اليوم "بيروت" 1964 ستانلي جونسون وجوليان هاريس ترجمة وديع فلسطين استقاء الأنباء فن "دار المعارف" 1969 إبفار سبكتور ترجمة صلاح الشبكشي خطر العقل الروسي "بدون تاريخ"

المراجع الأجنبية

المراجع الأجنبية: Addison, J. Works "ed. by Tickell" Vernor & Hood, 1804, ; Coverly Papers from the Spectator "ed, Deighton" Mcmillan, 1907 Aitken, G. A. Steele "Unwin, 1889". Allen, Eric W. Printing for the Journalist "Knopf, 1928"':*,. Allen, J. E. Newspaper Designing "Harper, 1947". Newspaper Makeup "Harper, 3963". ?-??.. The Modern Newspaper "Harper, 1940". Andrews A. History of British Journalism "London, 1859". Arnold, E. C. Functional Newsparer Design "Harper, 1956". Ashley, M. England in the Seventeenth Century "Pelican, 1950". Barnhart, T. F. Weekly Newspaper Writing and Editing "Dryden, 1949". Weekly Newspaper Makeup & Typography "U. M. P. 1949". Bastian, G, Leland., Floyd k, Editing the Day's News "Mcmillan. 1956". Bird, G & Frederic E." The Press and Society "Prentice - Hall 1949". Bleyer W., The History of American Journalism "Houghton, 1927V Bond, F, An Introduction to Journalism "Mcmillan, 1954".

Bourne, H. R., English Newspapers "Chatto & Windus, 1887". Bowman, W. D., The Story of the Times "Routledge, 1931". Brown, C, News Editing and Display "Harper, 1952". Brucker, H., Freedom of Information "Mcmillan, 1949". The Changing American Newspaper "Columbia, 1937". Bush, Chilton, The Art of News Communication "Appleton-Century Crofts, 1954". Campbell, L. & Wolsley p., Exploring Journalism, "Prentice-Hall, 1957". Charnley M., News by Kadio "Mcmillan, 1948". Cross, H., the People's Eight to Know "Columbia, 1953". Escot, T. H., Masters of Journalism "Unwin, 1911". Garst, E & Bernstein, T , Headlines & Deadlines "C. U. P., 1940". Harris, W., The Daily Press "C. U. P. 1954". Herd, H., The March of Journalism "Allen & Unwin, 1952". Hunt, F., The Fourth Estate "Lond. 1850". Hunt, L., Displaying the News "Harper, 1934". Hyde G., Journalistic Writing "Appleton - Century, 1948". Jackson H., Newspaper Typography "Columbia, 1942". Jespersen, 0., Mankind. Nation & the Individual "Allen & Unwin, 1946".

Johnson, G, What is News? "Knopf, 1923". Kidera,R., Fundamentals of Journalism "Milwaukee, 1951". Kobre, S., Backgrounding the News "Baltimore, 1909". Kobre, S. & Parks, J., Psychology and the News "Florida, 1955". Lundy M., Ed., Writing Up the News "Dodd, Mead, 1939". MacDougall. C, Covering the Courts, "Prentice - Hall, 1946". Marz, J., Die Moderne Zeitung. "Miinchen, 1951". Morrison, S., The English Newspaper "1622 - 1932" C. N. P. Mott, F.L., Interpretations of Journalism. "Crofts, 1987". Northrop, F. S., The Logic of Science.- md the Humanities "Mcmilhui 1946". Oswald, J. K. A History of Printing "Appleton 1928". Eadder, N. & Stempel, J., Newspaper Editing, Makeup & Headline-, "Mcgraw Hill, 1942". Siebert, F., The Bights and Priveleges of the Press. "Appleton, Century, 1934". Smithers, P., The Life of Joseph Addison "Oxford. 1954" Steed. H. W., The Press. "Penguin, 1938". Steele, E. Tracts and Pamphlets "0. U. P.. 1944". Straumann, H., Newspaper Headlines "Allen & L'nwin, 1935". Sunderland, J., Defoe ,'Methuen, 1950".

Sutton, A., Design and Makeup.htm'of the Newspaper "Prentice - Hall, 1955". Taylor, H. & Scher, J. Copy Reading and News Editing, "Prentice - Hall, 1951". Waldrop, AT, Editor and Editorial Writer ""Riuehart, 1950". Westley, B/News Editing "Houghton, 1953".

الفهرس

الفهرس صفحة الموضوع 3 المقدمة الباب الأول: 7 ماهية الفن الصحفي الباب الثاني: 31 لغة الفن الصحفي الباب الثالث: 57 وظائف الفن الصحفي الباب الرابع: 94 فن الخبر الصحفي الباب الخامس: 138 فن التحقيق الصحفي الباب السادس: 169 في المقال الصحفي الباب السابع: 221 فن الإخراج الصحفي الباب الثامن: 272 فن التصوير الصحفي الباب التاسع: 311 الكمبيوترر والفن الصحفي 327 المراجع العربية 327 المراجع الأجنبية

§1/1