دراسات في التصوف

إحسان إلهي ظهير

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له بيده الخير وهو على كل شيء قدير , له المر من قبل ومن بعد يفعل ما يشاء ويختار , وهو أعلم حيث يجعل من يشاء من عباده علم هدى وداعية فلاح , لا إله إلا هو الحكيم العليم. وبعد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. لقد كان الأستاذ الكاتب المعروف الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله رغب مني أن أكتب مقدمة لكتابه " دراسات في التصوف " الذي أراد له رحمه الله أن يكون القسم الثاني من كشف التصوف والصوفية ولبيان القنطرة التي درج عليها هذا المنهج ومن أي مبدأ ظهر. وليس بخاف أنه رحمه الله قد أسهم بقلمه وخطابته في مجال مكافحة البدع والمبتدعة أيما إسهام , وكان لحماسه واندفاعه في دفاعه عن العقيدة أثره في بلاد الباكستان وغيرها بما لا يجهله أحد من المهتمين برصد نشاط أهل البدع في العشر السنوات الماضية , وقد ألح عليَ بعد سفره الذي لم ألقه بعده إلا على سرير الانتقال إلى الآخرة. لقد كانت تربطني بالفقيد علاقة وطيدة ترسخت أصولها على مر الأيام , وكنت كثيرا ما ألح عليه بتوخي الحذر وأن لا يفرق نشاطه لئلا يكثر خصومه فيكيدوا له بكيد الشيطان إذ الشيطان للإنسان عدو مبين , وأعوانه في أنفاذ مقاصده وبث فساده ونشر غوايته أنشط من سواهم , ولكن طبعه رحمه الله ونفسه المندفعة للحق فيما يظهر لي وحبه في فضح نوايا أهل البغي والفساد واطلاعه على مقاصدهم الخبيثة جعله لا يتأثر بعذل عاذل أو دعوة إلى أناة في كفاح الباطل.

لقد كنت أخشى عليه كيد أعدائه ومكرهم لاسيما بعد تطور وسائل الشر والفتك وتفنن صانعي التدمير بإحداث أفتك الوسائل وأمضاها , غير أن خوفي عليه ونصحي له بالحذر لم تمنع من إنفاذ الله قضاءه , وإنما هي حاجة في النفس قضيتها , وقضاء الله وقدره أسبق من ذلك. كان رحمه الله يظهر لي إحساسه بالمرارة من نشاط أهل التشيع في نشر مذهبهم وشدة تدليسهم على العامة وتجنبهم إثارة المشاعر في بداية أمرهم حتى إذا استحوذوا على النفوس بالخديعة تارة والإغراء تارة أخرى كشروا عن أنيابهم في وجه خصومهم وخرجوا على سجيتهم في عدائهم لمخالفيهم متسترين في بداية الأمر بثوب النفاق , لابسين بعد التمكن ثوب الفاتك الشرس , وكان ينعي على أهل الحق كسلهم في سبيل نشر حقهم والدعوة إليه والدفاع عنه , وكنت أحرص على تعزيته وتسليته بمطالعة سير الدعاة إلى الله وأن العاقبة للمتقين وأن الغفلة والإخلاد إلى الدعة قد لا تطول بإذن الله وإن عليه الصبر ومعالجة الأمور على أساس الواقع وما هو كائن. لقد كان رحمه الله يحدثني كل مرة عن لقاءاته في سفراته وتقبل الناس للحق وحاجتهم إلى تضحية في سبيل توعيتهم , فأبدى له أن ما يراه من استحسان وقبول من أدلة توفيقه وأسباب تسليه , وأحثه على الصبر والأخذ بالحكمة والرفق رحمه الله رحمة واسعة. لقد كان أمله أن تكون كلماتي عن كتابه هذا وبيان ما فيه من حق وما يحذر فيه عن زيغ حيث أحس شدة نفرتي من البدع وأهلها , وما درى رحمه الله وما دريت أنا أن كتابتي ستكون بمثابة رثاء له وتألم للمصيبة بموته بأيدي أهل الغدر والحقد. ناولني رحمه الله أو أرسل إلي كتابه هذا وهو صورة لمسودة الكتاب لم تمسه يد المراجعة ولم يعد عليه نظر التعقيب بالتفقد والتعديل , بل فيه التعليقات وشطب الكلمات وخفاء كثير من الصفحات بالنسبة للتصوير مما جعل قراءة كثير من مواضعه متعسرة أو متعذرة , ولكني على كل حال قرأت كثيرا منه وفهمت مقصده رحمه الله من إعداده حيث رأى كثرة من انخدع بالتصوف رغم ما في طواياه من البلايا والرزايا

والعقائد الكفرية فأراد أن يجلي للناس بأسلوب عصري يعتمد على النقل لأدلة فضائح هذه المسالك من كتب دعاتها وأولياء زعامتها , وأبان بما نقل عن سفاهة أحلام القوم وطيش عقولهم , وأنا هنا لا أحب أن أتحدث عن الكتاب وما فيه من نقول يذوب القلب أسى لصدورها عمن ينتمي للإسلام فهذا شيء يتحدث عنه الكتاب نفسه , وأحب أن أعتذر عن إصلاح ما في الكتاب الذي قرأت أكثره لضيق وقتي ولأملي أن تكون مبيضة موجودة لدى ورثة الشيخ إحسان رحمه الله لأن بين استلامي لصورة المسودة وقتله رحمه الله بأيدي أهل الغدر والخيانة عدة أشهر , فعسى أن يكون قلمه قد عدل وبدل وأجال فيه فكره وبصيرته , فأقام الإعوجاج ووصل بين ما قد يكون موجودا من انفصال ولكني أقول أنه كتاب ينبغي أن يقرأ هو وسابقه لما فيهما من إيضاح ولما عرف عن الكاتب رحمه الله من حرص على الاعتماد على كتب من يرد عليهم من المبتدعة أنفسهم كما فعل في كتاباته عن التشيع في سلسلة كتبه المعروفة النافعة وكما كتب عن القاديانية والبريولية وسواهم. إن الفقيد رحمه الله قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية سلسلة ثمينة ينبغي أن يعتني بنشرها وما قد يوجد فيها من ملاحظات نادرة فهي مغمورة بما حوته من البحور الزاخرة من فيض بيان الحق , وكشف الباطل , وتعرية أهله أمام نظر متطلبي طريق الفلاح. لا أحب الإطالة في أسلوب إنشائي أو كلام عن الفقيد وآثاره لأني أرجو أن يكون لدى محبيه وذويه ومحبي الدعوة إلى الحق ما يغني عن القول , وإنما كتبت ما كتبت وفاء ببعض حق الفقيد رحمه الله وتحقيقا لشيء من رغبته أن يخلو بعض كتبه من كلمة لي تؤيد منحاه وتدعو إلى نصرة منهجه فوعدته بالاستجابة , وما كنت لأرضيه حيا وأتراجع عن ذلك بعد موته فقد رأيت حقا علي إجراء القلم بشيء من مراده , ولا يسعني وأنا أريد إيقاف شباة القلم أن أسأل الله أن يجعله من الشهداء عنده وأن يبارك في آثاره وأن ينفع بها وأن يصلح ذريته ويتولى حفظهم وأن يعطف عليهم قلوب من يستطيعون نفعهم وبث تراث والدهم , فالواجب على القادرين بجاههم أو مالهم أو

أقلامهم وأفكارهم أن ينصروا دين الله ويسعوا في أبعاد كل ما قد يشوه مظهره أو يصد عنه أو قد طمس ضياءه , وإذا كان أهل الحق أو كثير منهم قد أقعدهم حصول الدنيا والانجراف وراء بريقها واغترار الكثيرين بمظاهرها , فينبغي أن تكون للمسلم رجعة إلى الله وتأمل في مصيره واستحضار لسير المجاهدين ومواقفهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتركهم أموالهم وأهليهم من أجل دعوة الناس وإرشادهم وبيان الحق لهم رجاء المثوبة من الله واتقاء لعقابه عند الغفلة عن طاعته , والله المسئول أن يوقظ الضمائر وينبه الغافلين لحقهم ويشد عزائمهم وأن ينصر دينه وأن يذل أهل الزيغ والانحراف وان يرزق العلماء القيام بحق العلم وصيانته ونشره ليسير الناس على نور وهدى وأخيرا رحم الله إحسان إلهي ظهير وآنس وحشته وبارك في ذريته وأهل بيته , وأخلف الله على الأمة الإسلامية من يسعى جاهدا لبث الدعوة وفضح الباطل , وأكثر لنا من هذا الصنف المتذرع بالعلم والحكمة والصبر في سبيل قمع كل باطل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن إهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين. صالح بن محمد اللحيدان مجلس القضاء الأعلى المملكة العربية السعودية الطائف 21/ 10 / 1407هـ

مقدمة

بسم الله ارحمن الرحيم مقدمة الحمد لله منزل القرآن وجاعله هدى للمتقين وموعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد , وشفاء ورحمة للمؤمنين. والصلاة والسلام على رسول الله مبشر الناس ومنذرهم , وداعيهم إلى الله بإذنه وسراج منير , إمام العالمين وأشرف المرسلين , الذي به ختمت النبوة وكمل به الدين , وآله وصحبه ومتبعيه إلى يوم الدين. لقد وعدنا عندما كتبنا الكتاب الأول في هذا الموضوع , وهو (التصوف: المنشأ والمصادر) بأننا سنتبعه كتابا آخر في حجمه وضخامته , وها نحن نفي بالعهد , ونصدق الوعد , ونضع بين يدي القراء والباحثين كتابا آخر في موضوع التصوف أيضا مقرين معلنين بأنه لازال البحث جاريا , والتنقيب ماضيا في كتب الصوفية ورسائلهم , مصنفاتهم ومؤلفاتهم , ولم نستطع أن نمسك زمام القلم ونحول بينه وبين ما يسطر , مع حرصنا الشديد بأن لا يطول الكلام , وقلما سلم مكثار , ولكن الموضوع يتطلب المزيد ومع إصدار هذا الكتاب الثاني الذي ربما يزداد حجمه عن الكتاب الأول قليلا , نرى بأننا مطالبون بكتاب آخر , ولعلنا بذلك استطعنا إحاطة معظم جوانب هذه الطائفة وأفكارهم ومعتقداتهم وسلوكهم ومميزاتهم التي يمتازون عن الآخرين , أو يتميزون عما سواهم , ولكننا نعد القارئ بأن موعده لن يكون بعيدا , فإن أراد الله وشاء , ذلل الصعوبات , وسخر العقبات وغلبنا على النوازل والملمات , وأبعدنا عن المصائب والمكروبات - وهو كاشف الغم , فارج الهم , مجيب دعوات المضطرين - لن نأتي على آخر هذه السنة إلا ونكون قد وضعناه لطلبة العلم وقرائنا الأكارم , لأن الكتب موجودة , والنصوص والعبارات منها مأخوذة , وما بقي إلا وضعها في مكانها اللائق ,

وتنظيمها وترتيبها , ثم جمعها وتأليفها , وسيكون ذلك الجزء مشتملا على أهم ما نريد أن يشتمل على طرق التصوف ومنشئيها , أعيانها وأكابرها , ولا يعني هذا بأن هذا الكتاب خال عن ذلك المبحث , لا ولا. ولكننا لم نبحث فيه إلا أهم الطرق وأشهرها بين الناس , وببعض الاختصار والاقتضاب بدون الإفاضة والإطناب , كما لم نرد ذكر المغالين المشهورين من المتصوفة وأفكارهم وعقائدهم , آرائهم وتعاليمهم - ولو أنهم كلهم غلاة ولكن غير المشهورين بالغلو - كالحلاج وابن سبعين ومحيي الدين ابن عربي وعمر بن الفارض وجلال الدين الرومي والسهروردي المقتول والقونوي والبقلي الشيرازي وغيرهم الكثيرين الكثيرين. وكذلك بعض المواضيع التي لم نستطع التطرق إليها والإلمام بها في كتابينا هذين , ولها أهميتها في جلاء الفكر وتنوير الرأي وبيان الحكم , ونحاول قبل البدء في ذلك القسم من المبحث والكتاب , وأثناء هذه الفترة التي سنشتغل فيها حسب المخطط بفضل الله وتوفيقه في " المسيحية " , و " والبهرة والآغاخانية " , الجزء الثاني من كتابنا " الإسماعيلية " - نحاول أن نحصل على كتب ومصنفات الصوفية ووثائقهم ورسائلهم التي لم نحصل عليها بعد كي يجتمع للمعتنين بهذا الموضوع أكبر عدد ممكن من المراجع والمصادر فيه , وما ذلك على الله بعزيز. وبعد فإن هذا هو الكتاب الثاني في موضوع التصوف يشتمل على أبواب ثمانية , لكل باب منه جزء مقسوم , ويبحث في أهم الجوانب الفكرية والعقائدية لهذه الطائفة من الناس. فالباب الأول: " التطرف من لوازم التصوف " يشتمل على تعاليم الصوفية , التي لم تبن إلا على المغالاة والتطرف , وليست من الدين الوسط الذي قيل فيه على لسان من جاء به " إن الدين يسر " و " يسروا ولا تعسروا ". وإن الله أنزله لهداية البشر وتهذيب النفوس لا لتعذيبها وحملها على ما لا تطيق {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة الآية 286.

ولكن القوم قبلوا الأمور وجعلوها معكوسة , فبالغوا في الإنذار , وتطرفوا في التعسير , ولقد بينا كل هذا في هذا الباب مستندين إلى كتب القوم ورسائلهم , نصوصهم وعباراتهم حسب دأبنا المعهود. والباب الثاني: فيه زيادة على ما في الباب الأول حيث ذكرنا فيه أمورا خالف القوم فيها نصوص الكتاب والسنة , النصوص الصريحة والواضحة الجلية , والتي لا تحتمل التأويل , وبينا كيف جاوز القوم حدود الشرع , وتركوا العمل به مع ادعائهم الزهد والتقوى , مع الزهد والتقوى يمنع المتلبسين بهما الابتعاد عن الشريعة قيد شبر. والباب الثالث: وضعنا فيه النقاط على الحروف بأن التصوف ليس إلا مؤامرة ضد الإسلام ودستوره ومنهاجه , حيكت بمهارة , وأحكم نسيجها بالدهاء والمكر. والباب الرابع: بحثنا فيه عن البدع والمحدثات التي لزمت طريق القوم , وبها عرفوا وميزوا عن الآخرين , فصارت كالشعار لهم واللباس الذي يتزينون به في المجالس والمحافل. الباب الخامس: " طرق التصوف وأعيانها " فلقد ذكرنا فيه أهم الطرق الصوفية والمشهورة بين العرب , وهي " الشاذلية " و " الرفاعية " و " والقادرية " و " التيجانية " و " النقشبندية " , وأقتصرنا على هذه الخمسة مع وجود الأخرى الكثيرة , ذخرا لكتابنا القادم , وبما أنها ليست بتلك الشهرة والانتشار والقبول بين الناس , ولو أن بعضا منها مشهورة في جهة ومغمورة في جهة أخرى , مثل الجشتية والسهروردية فإن أكثر المتصوفة في شبه القارة الهندية الباكستانية ومنسلكون في إحداهما , خلاف الأخرى فإنها ليست بتلك الشهرة في هذه البلاد , ولعلنا في ترجمتنا هذا الكتاب هاتين السلسلتين إلى اللغة الأردية نضيف إلى هذا الكتاب هاتين السلسلتين. وسيجد القارئ متعة في هذا الباب ما لايجد في غير هذا الكتاب وهو يقرأ هذه السلاسل والطرق. والباب السادس: يتضمن مجموعة من المصطلحات الصوفية التي شاع استعمالها وكثر في الكلام الصوفي , وقد ضممنا إلى هذا الباب وهو آخر هذا الكتاب مباحث لم

نستطيع إدراجها في الأبواب السبعة لعدم مناسبتها وعلاقتها المباشرة لتلك الأبواب رغبة منا بأن لا يحس القارئ بالنقص والخلل في هذا الخصوص وهو يبحث عن التصوف , فحرصا منا على ذلك أدرجنا في هذا الباب تحت عنوان " مصطلحات الصوفية " ومثال ذلك قضية وحدة الشهود , ووحدة الوجود , وكذلك مسألة وحدة الأديان , فإننا لم نستطع ذكرها - مع أهميتها - في أحد الأبواب الستة المذكورة لعدم وجود المناسبة والداعي إليها , فذكرناها ههنا. فهذه هي الأبواب الستة لهذا الكتاب , ولو ضمت إلى الأبواب الثلاثة من الكتاب الأول لكفت القارئ والباحث فهم التصوف ومعرفة المتصوفة , ولا يعني ذلك أن هذا الكتاب متوقف الاستفادة منه على الكتاب الأول , فإن الأمر ليس كذلك لأنه كتاب مستقل , وليس كالجزء الأول منه , وكذلك هذا الكتاب , ولكن يحسن للقارئ أن يقتني هذا وذاك لأننا ذكرنا فذ هذا أشياء لم نذكرها في كتابنا الأول وكذلك العكس. فإن هذا الكتاب يشتمل على تعاليم الصوفية وعقائدهم , أفكارهم ومعتقداتهم , مميزاتهم وخصائصهم , بدعهم ومستحدثاتهم , طرقهم وأحوالهم زعمائهم , وغيرها من الأمور. حيث إن الكتاب الأول يخص بذكر منشأ التصوف ومصادره مع ذكر المعتقدات التي تربطه بالمذاهب والأديان القديمة منها والحديثة من المذاهب والحديثة من المذاهب الهندية والفارسية والأفلاطونية الحديثة والمسيحية والغنوصية إلى دين التشيع والشيعة. فالكتابان بينهما عموم وخصوص من وجه يجتمعان في قضية التصوف والمتصوفة , ويفترقان من حيث المبحث والموضوع. أما بعد فإننا نريد أن نذكر الباحث والقارئ أننا لم نسلك في هذا الكتاب إلا مسلكنا القديم. أولا: أنا لا نلوم الخصم إلا على ما يقوله ويتفوه به. ثانيا: ولا ننقل من كتاب ومؤلف غير معتمد وموثوق لدى القوم أنفسهم , بل

نثبت الحجة ونقيم البرهان مستندين إلى كتب القوم ونصوصهم وعباراتهم , فلا ننقل شيئا من كتب المخالفين والمناوئين اللهم إلا للإستشهاد وللاستدلال , وربما يعسر علينا وجود شيء في كتب من نكتب عنه ونرد عليه , فنجده في كتب المخالفين والمعادين نقلا عن أولئك ولكننا لا نعتمد عليه قبل أن نتحقق من وجوده عندهم وثبوته لديهم وإلا فقد أعرضنا الجانب عن إيراده ونقله مهما كانت أهميته وحيثية. ثالثا: سلكنا في كتبنا كلها أصعب المسالك وأشقها حيث لا نكتفي بإيراد رواية واحدة ولا روايتين لإلزام الخصم كي لا يحكم عليها بالشذوذ والندرة , بل نسرد روايات كثيرة ونوردها واحدة تلو الأخرى , ونضعها في جميع الجوانب كي لا يجد منها مخرجا ويستسلم إما بالاعتراف والإقرار أو التبرئ والاستنكار. رابعا: لا نجعل المحك والمعيار لمعرفة الصدق عن الكذب , والحق عن الباطل , وتمييز الطيب من الخبيث , والجيد من الرديء إلا الكتاب والسنة , فالقرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد , وق أتفق المسلمون على عدم وقوع أي تحريف وتغيير فيه وأن يأتيه خلل أو نقص فهو محفوظ بحفظ الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). والسنة سنة رسول الله المعصوم بعصمة الله والمحفوظ بحفظ الله والناطق بوحي الله والمضمون له في كلام الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} (¬2). فكل قول يخالف قول الله , وكل عمل يخالف عمل رسول الله فهو متروك مردود لا يعبأ به ولا يلتفت إليه , صدر عن كبير أو صغير , تقي أو شقي , لأن المؤمنين ليسوا ملزمين بإتباع أحد الرجال وآرائهم بل إنهم أمروا بإتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وهذا لا يحتاج إلى بيان فإنه واضح جلي , وقد ذكرنا الآيات والأحاديث في هذا المعنى في صميم الكتاب في مختلف المواضيع. فكل قول يوافق ¬

(¬1) سورة الحجر آية9. (¬2) سورة النجم آية 4.

الكتاب والسنة فهو قول حق وصدق وصواب مهما كان مصدره ومنشؤه، صميم مهما كان مصدره ومنشؤه , وكل قول وعمل يعارضه الكتاب أو السنة فهو قول باطل وعمل غير مقبول , من أي مصدر وأينما نشأ. فالشرع عبارة عن القرآن والسنة وهو الأصل , وعليه يعرض جميع الآراء والأفعال والعقائد والمعتقدات , ويحكم عليها بالصحة والسقم والحق والبطلان , ولا يلتفت إلى شيء غيره. خامسا: لم ننقل عن كبار الصوفية وأعيانهم , زعمائهم وقادتهم إلا ما نقله المتصوفة عنهم في كتبهم سواء كانت نسبة هذا القول وذلك العمل إلى ذلك الشخص صحيحة أم غير صحيحة لأن العهدة على الناقل والراوي ولو أننا لا نظن بأن من ينسب إليه المتصوفة تلك الأقوال والأعمال المخالفة المعارضة لصريح الكتاب والسنة والعقل كذلك يكون صحيحا نسبتها إليه حيث أننا نحسن الظن فيهم ونبرؤهم مما ينسب إليهم ويتهمون بها كمثل رابعة العدوية والجنيد البغدادي وعبد القادر الجيلاني وغيرهم من الأعيان , فقد ذكروا عنهم أشياء ونقلوا عنهم أقوالا ورووا عنهم أعمالا يأبى القلب قبولها عن أمثالهم ولكن مالنا وللقلب فإننا ننقل ما ننقل عن كتب المتصوفة الموثوقة المعتمدة لديهم , ومؤلفها أيضا من الأعيان والأكابر , لا الأجانب والأصاغر , وزيادة على ذلك لا نكتفي برواية وجدت فيها , بل ونجد لها شواهد ومتابعات , وهذا ما في وسعنا. ولا بد لنا أن نتكلم ههنا بكلمة ولو للتاريخ بأننا ما وجدنا قوما يكثرون الكذب على أئمتهم ومشائخهم مثل الصوفية والشيعة , فما أكثر ما نسبوه إليهم وهو منه براء والله أعلم. فالقصد من هذا كله أننا لم نتكلم على أحد إلا ما نقل عنه في كتب القوم أنفسهم , وليس علينا إلا عهدة النقل فإننا ملزمون بإثبات المنقول في كتب القوم ووأما ثبوته عمن ينقلونه فهذا ليس من شأننا لأن الإسناد من خصائص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبذلك سلمه الله وحفظه من كذب الكذابين وزور المبطلين المنتحلين , ونريد من قراء هذا الكتاب بالأخص أن لا ينسوا هذه النكتة الحساسة فإنها هامة ومهمة. ونرجو الله سبحانه وتبارك وتعالى أن ينفع الناس بهذا الكتاب ويجعل له قبولا

ورواجا مثل ما من علينا في الكتب الأخرى السابقة عليه , وأن يغفر لنا خطايانا المقصودة منها وغير المقصودة , ويجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم فإنه ما دعانا إلى كتابة هذا الكتاب والكتب الأخرى عن الفرق الباطلة المنحرفة إلا رغبتنا الصادقة بأن يسلك المؤمنون سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم , الخالية من شوائب الشرك وأدران الوثنية والبدع والزيغ والضلال ويتجنب عن السبل الملتوية والمعوجة التي لا تصل ولا توصل إلى الله ونعيمه ومرضاته في الدنيا والآخرة , وإلا ما لنا ولهذه المواضيع التي لا تشكل إلا خطرا , ولا تثير إلا شغبا من أصحاب تلك الفرق وأولئك الطوائف , وخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه المخلصون المناصرون لكتاب رب العالمين وسنة أشرف المرسلين , وكثر فيه النفاق والمداهنة والمداراة باسم السياسة والمصلحة , وحبب فيه المتملق والتشدخ اللهم إلا من رحم الرب , وما أقلهم , وإن الجنة حفت بالمكاره , كما أن النار حفت بالشهوات والملذات , فعلى الله توكلنا وهو عمدتنا وملجؤنا ومأوانا ومفزعنا , وهو حسبنا ونعم الوكيل , وصلى الله على رسوله خير الخلائق أجمعين وعلى صحبة ومن تمسك بسنته وأهتدى بهديه إلى يوم الدين. إحسان إلهي ظهير ابتسام كاتيج شادمان لاهور باكستان 9 - جمادى الأولى - 1407هـ 10 - يناير - 1987م

الباب الأول التطرف من لوازم التصوف

الباب الأول التطّرف مِن لَوازم التصَوُّف لقد ذكرنا فيما سبق في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (¬1) أن التطرف من لوازم التصوف وخصائصه , وأنه أمر زائد على الزهد المشروع المجب إليه , ولا يوجد صوفي لا يبالغ في التجوع والتعري وترك الحلال , ويفرط في التقشف والتعنت وتعذيب النفس وتكليفها ما لا يطاق , وجلب الأذى , والتجاوز في أوامر الله ونواهيه , والتقدم بين يدي الله ورسوله حتى يصل إلى اجتناب ما أمر الله به وتحريم ما أحل الله , وتحليل ما حرم الله وإتيان ما منع الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه , وأوردنا بعض الأمثلة هناك مناسبة للمقام تاركين التفصيل لهذا الكتاب , ونريد أن نذكر الباحث والقارئ قبل دخولنا في صميم الموضوع أن المشروع ما شرعه الله ورسوله , والمستحب ما استحبه الله ونبيه وصفيه خير الخلائق أجمعين , وكل أمر لم يأمر به الله ولم ينفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما حسن منظره , وعظم شأنه , وحبب إلى النفوس فهو مقبوح مردود في دين الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه , وشرك بالله وكفر به وبكتابه وبرسوله حيث إنه عبارة بعدم كمال الدين وتمام النعمة وختم نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليه بأن الله عز وجل قال في كتابه المحكم مخاطبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة نبيه وصفيه وفي أيامه الأخيرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬4). ¬

(¬1) انظر مقدمة الكتاب ص 9 ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. (¬2) سورة المائدة الآية 3. (¬3) سورة الحشر الآية 7. (¬4) سورة الأحزاب الآية 40.

وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬1). وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وقال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (¬4). وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬5). وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬6). وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬7). وقال: {إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (¬8). وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬9). وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬10). وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا ¬

(¬1) سورة سبأ الآية 28. (¬2) سورة الحجرات الآية 1. (¬3) سورة آل عمران الآية 31. (¬4) سورة الأنفال الآية 20. (¬5) سورة الشورى الآية 21. (¬6) سورة آل عمران الآية 19. (¬7) سورة آل عمران الآية 85. (¬8) سورة النور الآية 54. (¬9) سورة محمد الآية 33. (¬10) سورة الأحزاب الآية 21.

يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (¬1). وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬3). هذا وقد قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله) (¬4). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) (¬5). وقال: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) (¬6). وقال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام) (¬7). وقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قيل: ومن أبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) (¬8). هذا ولقد روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها , فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. ¬

(¬1) سورة الأحقاف الآية 9. (¬2) سورة النور الآية 63. (¬3) سورة الأنعام الآية 38. (¬4) رواه في الموطأ وله شاهد في الحكم. (¬5) رواه في شرح السنة وقال النووي: " هذا حديث صحيح ". (¬6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. (¬7) رواه البيهقي في شعب الإيمان. (¬8) رواه البخاري.

وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله , وأتقاكم له , لكني أصوم وأفطر , وأصلي وأرقد , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني) (¬1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله أني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية) (¬2). وقال الداودي شارحا هذا الحديث: " إن التنزه عما رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله وهذا إلحاد ". وعلق عليه ابن حجر بقوله: " لا شك في إلحاد من أعتقد ذلك " (¬3). وروى عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصينا. قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد. وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين , عضوا عليها النواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) (¬4). وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره , ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون , ويفعلون ما ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) أنظر فتح الباري لأبن حجر. (¬4) رواه أبو داود والترمذي.

لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن , ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن , ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن , وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (¬1). وعنه رضي الله عنه أيضا أنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: (هذا سبيل الله). ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله , وقال: (هذه سبل , على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه , وقرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه} الآية (¬2). ومثل ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم , فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم , فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) (¬3). وأخيرا ما ثبت في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬4). فالدين والشريعة عبارة عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما لم يرد ذكره فيهما فليس له من الأمر من شيء , فإن أسلاف هذه الأمة وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا الدين هكذا , ولم يكونوا يحيدون عنهما قيد شبر , وكل ما لم يثبت ولم يرد ذكره في كتاب ربهم وسنة نبيهم عدوه زيادة على الشرع وحدثا في الدين وبدعة مرفوضة وعملا مردودا , صغيرا كان أم كبيرا. وعلى ذلك قال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود لمن رآهم يسبحون بالحصا: " على الله تحصون؟ لقد سبقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علما , وقد ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه أحمد والنسائي والدارمي وحسنه الألباني. (¬3) رواه أبو داوود. (¬4) متفق عليه.

أحدثتم بدعة ظلما " (¬1). وروى أن عبد الله بن مسعود بلغة أن الناس يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون. قال: فلبس برنسا ثم أنطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه ثم قال ك (أنا أبو عبد الرحمن) ثم قال: (لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما , أو لقد جئتم ببدعة ظلما). قال: فقال عمر بن عتبة: نستغفر الله ثلاث مرات , ثم قال رجل من بني تميم: والله ما فضلنا أصحاب محمد علما ولا جئنا ببدعة ظلما ولكنا ربنا , فقال: (بلى والذي نفس ابن مسعود بيده , لقد فضلتم أصحاب محمد علما أو جئتم ببدعة ظلما , والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقا بعيدا , ولئن حرتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا) (¬2) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف) (¬3). وعنه نقل يعلى بن أميه أنه قال: " طفت مع عمر بن الخطاب , فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم , فقال: أما طفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى ... قال: فهل رأيته يستلمه؟ قلت: لا , قال: فأبعد عنه , فإن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة " (¬4). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (الإقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة) (¬5). ¬

(¬1) انظر " البدع والنهي عنها " لمحمد بن وضاح القرطبي الأندلسي المتوفي 286هـ , ص 11/ ط دار الرائد العربي ببيروت. (¬2) المصدر السابق ص 9. (¬3) رواه البخاري. (¬4) رواه أحمد والطبراني , ورجاله رجال الصحيح. (¬5) رواه الحاكم في المستدرك.

وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: " كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا , فاتقوا الله يا معشر القراء , وخذوا طريق من كان قبلكم " (¬1). ولقد نقل عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى أنه قال: " من أبتدع بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} , فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا " (¬2). وكان يردد أيضا: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (¬3) وذكر الشاطبي عن ابن رواح عن الحسن أنه قال: " صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا , صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعداً " (¬4). ومثل ذلك روى عن هشام بن حسان أنه قال: " لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا " (¬5). وأخيرا نذكر ما ذكره الشاطبي في اعتصامه تعريفا للبدعة , فيقول: " البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى ". ثم فصل قوله " تضاهي الشرعية " يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك , بل هي مضادة لها من أوجه متعددة. ¬

(¬1) رواه أبو داود. (¬2) سنن الدارمي ج 1 ص 60. (¬3) الإعتصام للشاطبي ج 1 ص 85. (¬4) أيضا ج 2 ص 82. (¬5) أيضا ص 84.

منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد , صاحيا لا يستظل , والاختصاص في الانقطاع للعبادة , والاقتصار في المأكل والملبس على صنف من غير علة. ومنها إلتزام الكيفيات والهيئات المعينة , كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد , واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا , وما أشبه ذلك. ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة , كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته. وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة , فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة , لأنها من باب الأفعال العادية (¬1). أما بعد فبعد هذا التمهيد والتوطئة المختصرة وذكر قول الله عز وجل حيث خاطب أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬2). نقول: أن أمور التصوف وأعمال المتصوفة كلها مبنية على مخالفة تلك الأسس والقواعد , وليس فيها إتباع ولا اعتدال بل كلها ابتداع وغلو وتطرف ورهبانية ابتدعوها , ما كتبها الله عليهم , ولا أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا عمل بها أصحابه ورفاقه , تلامذته الراشدون ومبلغوا تعاليمه إلى العالمين , الذين اقتفوا آثاره ,واهتدوا بهديه , واتبعوا سننه , وحملوا رايته , وجاهدوا في الله حق جهاده , ولم يكن واحد منهم معطلا نفسه , منزويا في الأربطة والتكايا , منعزلا في الخانقاوات والزوايا , متعطلا عن العمل , تاركا للجمعة والجماعة , مخترعا الطرق المخصوصة للوصول إلى الله , ومتخذا التعنت والتطرف تقربا وتزلفا إليه , ولم يكن يعد التجوع والتعري سببا للنجاة , ولا التسول والاستجداء وسيلة للنجاح , وكانوا تجارا زراعيا صناعا ورعاء للإبل والماشية , يكسبون الحلال ويرزقون به أولادهم , أهلهم وذويهم , ويطعمون الطعام على ¬

(¬1) الاعتصام للشاطبي ج1 ص 39. (¬2) سورة النساء الآية 171.

حبه مسكينا ويتيما وأسيرا , أصحاب الأهل والعيال , وأرباب البيوت والأموال , يبتغون فضلا من الله ورضوانا , اللهم إلا من لم يجد إليها سبيلا , مغلوبا على أمره مقهورا مجبورا , وكان يكد ويجد ويجتهد صابرا شكورا إلى أن يغنيه الرزاق ذو القوة المتين. خلافا للمتصوفة الذين جعلوا مسلكهم مبنيا على الغلو والتطرف , ومسلكهم على التعنت والتقشف , الذي لم ينزل الله به من سلطان , ولم يأت به في السنة من برهان , مخالفين طريقة نبي الله وصفيه وطريقة أصحابه خيار خلق الله وأوليائه , مخترعين مبتدعين غير مقتدين ولا متبعين , فقالوا: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات (¬1). وذكروا أن الجوع هو ركن من أركان التصوف وأساس من أسسه فقال قائلهم: " شأن المزيد كثرة الجوع بطريقة الشرعي , وهو معظم أركان الطريق , فكما أن الشارع جعل معظم الحج عرفة , كذلك أهل الله جعلوا الجوع هو الطريق " (¬2). ونقل النفزي الرندي أن الجوع أحد الأركان الأربعة للتصوف , والبقية هي: الصمت والخلوة والسهر , ومن حصل عليها فقد حصل على كلية الدواء والتحقق بزمرة الأولياء والبدلاء " (¬3). وقال الشعراني: " كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا , ليس له في طريق الفقراء نصيب " (¬4). وعلى ذلك نقل القشيري عن أبي علي الروذباري أنه قال: " إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أن جائع فألزموه السوق وأمروه بالكسب " (¬5). وذكر الكمشخانوي عن الجوع أنه أحد أركان المجاهدة , وبسببه تنفجر ينابيع ¬

(¬1) الرسالة القشيرية ج1 ص 117 بتحقيق عبد الحليم محمود. (¬2) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 55 ط دار أحياء التراث العربي بغداد. (¬3) انظر غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 92 ط القاهرة. (¬4) الأخلاق المتبولية للشعراني ج2 ص 94 بتحقيق الدكتور منيع عبد الحليم محمود ط مصر. (¬5) الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري ج1 ص 377.

الحكمة لأهل السلوك , وهو من صفات أهل الحقيقة. كما نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه كان يقول: جعل الله في الشبع الجهل والمعصية , وفي الجوع العلم والحكمة , قال أبو سليمان الداراني: " مفتاح الدنيا الشبع , ومفتاح الآخرة الجوع , وقال يحيى بن معاذ الرازي: الجوع نور والشبع نار " (¬1). والصفوري يمدح الجوع الصوفي بقول قائلهم: لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليل , والجوع في خزائن الله لا يعطيه إلا لمن أحبه (¬2). وحكى ابن الملقن عن يحيى بن معاذ الرازي المتوفي 258 هـ أنه قال: الزهد ثلاثة أشياء: الخلوة , والقلة , والجوع (¬3). وذكر صوفي قديم أبو عثمان الهجويري في شرف الجوع كلاما كثيرا مع ما ذكر فيه أحاديث واهية موضوعة , فيقول: " وقوله عليه السلام: بطن جائع أحب إلى الله من سبعين عابدا غافلا. أعلم أن للجوع شرفا كبيرا , وهو محمود عند الأمم والملل , لأن خاطر الجائع يكون أحدّ من وجهة الظاهر , وتكون قريحته أكثر تهذيبا , وجسده أصح ومن هيأوا أنفسهم بالرياضة لا يكون لهم شره كبير , لأن الجوع للنفس خضوع , وللقلب خشوع , فجسد الجائع خاضع وقلبه جائع لأن القوة النفسانية تتلاشى به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجيعوا بطونكم , واظمئوا أكبادكم , وأعروا أجسادكم , لعل قلوبكم ترى الله عيانا في الدنيا ". ¬

(¬1) جامع أصول الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 163 ط المطبعة الوهبية طرابلس 1289هـ , ومثله تذكرة الأولياء للعطار ص 134. (¬2) نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 177 ط ... بغداد. (¬3) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 322.

وإذا كان للجسد من الجوع بلاء , فإن للقلب به ضياء , وللروح به صفاء , وللسر لقاء. وحين يدرك السر اللقاء , وتجد الروح الصفاء , ويجد القلب الضياء , فأي ضير إذا لقي الجسد البلاء " (¬1). ونقل الشعراني عن الخراز أنه كان يقول: " الجوع طعام الزاهدين " (¬2). ونقل عن أحمد الرفاعي أنه قال: " أنا أحب للمريد الجوع والعري والفقر والذل " (¬3). وعلى هذا الأساس نقلوا حكايات وأكاذيب عديدة لتمجيد الجوع وتمجيد المتجوعين والثناء عليهم , أكاذيب واضحة صريحة. فقالوا: " إن سهل بن عبد الله التستري كان لا يأكل الطعام نيفا وعشرين يوما " (¬4). ومرة قالوا عنه أيضا أنه كان يأكل كل خمسة عشر يوما مرة , فإذا دخل رمضان لم يكن يأكل شيئا إلى يوم العيد (¬5). ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أيضا (¬6). وروى الطوسي أكثر من ذلك عن أبي عبيد البسري أنه " كان إذا دخل رمضان دخل البيت وسد عليه الباب ويقول لامرأته: " أطرحي كل ليلة رغيفا من كوة في البيت ولا يخرج منه حتى يخرج رمضان , فتدخل امرأته البيت فإذا الثلاثون رغيفا موضوعة في ناحية البيت " (¬7). وأغرب من ذلك أن الهجويري نقل هذه الحكاية عن الطوسي نفسه , وهذه هي ألفاضها: " إن الشيخ أبا نصر السراج الملقب بطاووس الفقراء وصاحب كتاب " اللمع " ورد ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 570 ترجمة عربية ط دار النهضة العربية بيروت 1980م. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 97. (¬3) الأنوار القدسية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 132 ط بغداد. (¬4) اللمع للطوسي أبي نصر السراج ص 269. (¬5) كشف المحجوب للهوجيري ص 567 ترجمة عربية دكتورة اسعاد عبد الهادي ط بيروت 1980م. (¬6) أيضا. (¬7) اللمع لأبي نصر السراج الطوسي ص 217.

بغداد في شهر رمضان , فأعطوه في مسجد الشونيزية وأسلموا إليه إمامه الدراويش , فأمهم حتى العيد , وكان يختم القرآن خمس مرات في التراويح , وكان الخادم كل ليلة يضع قرصا في الخلوة , فلما كان يوم العيد رحل رضي الله عنه , ونظر الخادم فكانت الثلاثون قرصا في مكانها " (¬1). ومن الغرائب أن هذه القصة البسرى بعينها بألفاظها ومدلولاتها , ولو كانت للطوسي نفسه لم يكن ليسردها للآخر. أو أن الحكايات واحدة من الأولين والآخرين. وعلى كل فإن المكي أبا طالب زاد عليهما حيث حكى عن أحد المتصوفة أنه وقف على راهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور , فكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: فإن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأنا معتقد إعجاز هذا , وأنه لا يكون إلا لنبي. فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوما ما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام , وتعلم أن ما نحن عليه حق وأنك على باطل؟ قال: نعم. فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلا من حيث يراه الراهب إلى أن طوى خمسين يوما. فقال: أزيدك أيضا , فطوى إلى تمام الستين فعجب الراهب منه وأعتقد فضله وفضل دينه وقال: ما كنت أظن أن أحدا يجاوز فعل المسيح عليه السلام ولكن هذه أمة تشبه بالأنبياء في العلم والفضل (¬2). وروى ابن الملقن عن أبي بكر الفرغاني: أنه دخل مصر على هذا الزي , فعرف بها , وأجتمع إليه الصوفية , فتكلم عليهم , فعرض له السفر , فقام من مجلسه , وخرج معه نحو من سبعين منهم , فمشى في يومه فراسخ , لا يعرج على أحد , فأنقطع من كان خلفه , وبقي منهم قليل , فألتفت إليهم وقال: " كأني بكم قد جعتم وعطشتم؟ " , فقالوا: " نعم! " فعدل بهم إلى دير فيه صومعة ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 567. (¬2) قوت القلوب في معاملة المحجوب لأبي طالب المكي ج2 ص 166 ط دار صادر بيروت.

راهب , فلما دخلوا أشرف الراهب على أصحابه , وناداهم: " أطعموا رهبان المسلمين! , فإن بهم قلة صبر على الجوع " فغضب من ذلك , ورفع رأسه إليه , وقال: " أيها الراهب هل لك إلى خصلة نتبين بها الصابر والجازع؟ " , قال: " وما ذاك؟ " قال: " تنزل من صومعتك , فتتناول من الطعام ما أحببت , ثم تدخل معي بيتا , ونغلق علينا الباب , ويُدَلّى لنا من الماء قدر ما نتطهر به , فأول من يظهر جزعه , ويستغيث من جوعه , ويستفتح الباب , يدخل في دين صاحبه كائنا من كان , على أنني منذ ثلاث لم أذق ذواقا ". قال الراهب: " لك ذلك ". فنزل من صومعته , وأكل ما أحب وشرب , ثم دخل مع أبي بكر بيتا , وغُلِّق الباب عليهما , والصوفية والرهبان يرصدونهما , لا يسمع لهما حس أربعين يوما. فلما كان في اليوم الحادي والأربعين سمعوا حسحسة الباب , وقد تعلق أحد به , ففتحوا , فإذا الراهب قد تلف جوعا وعطشا , وإذا هو يستغيث بهم إشارة , فأسقوه , وأتخذوا له حريرة , فصبوها في حلقه , والفرغاني ينظر إليهم (¬1). وروى أحدهم عن أبي محمد الباثغري أنه مضى عليه ثمانون يوما لم يطعم فيها شيئاً (¬2). وذكر أصحاب الطبقات الصوفية عن أحد المتصوفة في الهند شاه ميان جي بيغ أنه كان يعتكف من غرة رجب إلى العاشور من محرم مغلقا عليه أبواب الحجرة , وكان يمكث فيها ستة أشهر بلا ماء ولا طعام , وقد مات سنة 889هـ (¬3). ونقلوا مثل ذلك عن شاه كمال البغدادي الهندي المتوفى سنة 921 هـ (¬4). وحكى ابن الملقن عن مفرج الدماميني أنه لما أشترى - وكان عبدا - مكث ستة أشهر لا يأكل ولا يشرب (¬5). فاستقلوا هذه المدة أيضا فنقلوا عن البسطامي أنه قال: ¬

(¬1) طبقات الأولياء لأبن الملقن المتوفي 804 هـ ص 303 , 304 ط مكتبة الخانجي القاهرة. (¬2) كشف المحجوب ص 568. (¬3) انظر تذكرة أولياء بر صغير للميرزه محمد أختر الدهلوي أردو ج2 ص 42 ط لاهور باكستان. (¬4) أنظر تذكرة أولياء باك وهند للدكتور ظهور الحسن شارب ص 220 ط لاهور باكستان. (¬5) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 472.

" دعوت نفسي إلى شيء من الطاعات فلم تجبني , فمنعتها عن الماء سنة " (¬1). أين هذا من إبراهيم بن أدهم حيث ذكروا عنه أنه " أول دخوله الطريق سنة لا أكل ولا شرب ولا نام " (¬2). ومن الشيخ الجيلاني حيث نقل عنه الشعراني أنه " مكث بداية أمره سنة لا يأكل ولا يشرب ولا ينام " (¬3). ولم يكتفوا بهذه المدة أيضا حتى قال كبير القوم أبو القاسم القشيري رواية عن السلمي أنه قال بإسناده عن أبي عقال المغربي أنه أقام بمكة أربع سنين لم يأكل ولم يشرب إلى أن مات (¬4). فهل هذا معقول يا عباد الله؟ وهل هذا من الدين؟ وهل أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نأتي مثل هذه الشعبذات؟ أو كان أحد من أصحابه يأتي بمثل هذه النيرنجيات والطلمسات والمخاريق؟ ولكن القوم يعدونها من لوازم الولاية والكرامة , فيخترعون القصص ويبدعون في اختلاقها , وينسجون الأساطير ويسردون الأباطيل , ويحشونها بالكذب المحض ويغلون ويبالغون فيه. فمن الغرائب أن أبا النصر السراج الطوسي جاوز الحدود فقال: " رأيت إنسانا من الصوفية مكث سبع سنين لم يشرب الماء " (¬5). وقال واحد من هؤلاء: " إن الشيخ بديع المتوفى سنة 840 هـ الذي يعد من كبار المشائخ وأولياء الهند ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 115 ط دار صادر بيروت , ومثله في تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 93 ط باكستان. (¬2) كتاب الطبقات في خصوص الصالحين والأولياء لمحمد ضيف الله الجعلي ص 61 ط المكتبة الثقافية ببيروت. (¬3) الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 150. (¬4) أنظر الرسالة القشيرية ج1 ص 220 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط القاهرة 1972م. (¬5) كتاب اللمع للطوسي ص 408.

وحائزا على مقام الصمدية لم يذق طعاما مدة إثني عشر عاما " (¬1). وكتب الآخر وهو فريد الدين مسعود المتوفى 664هـ بأنه وقف على رجليه في عالم الاستغراق عشرين سنة لم يجلس فيها ولم يأكل شيئا (¬2). وأما عبد العزيز الدريني المتوفى 697هـ فلم يستكثر هذا , بل نقل عن أبي هند أنه صام أربعين سنة ولم يعلم الناس ولا أهل بيته , كان يأخذ الخبز ويخرج فيتصدق به فيظن الناس أنه يأكل في البيت , ويظن أهل بيته أنه يأكل مع الناس (¬3) هذا ورووا في فضل التجوع روايات كتلك الحكايات واهية باطلة , مختلقة مصطنعة , مثل ما ذكر الكمشخانوي أن عمر بن عبد العزيز أجاع صنفا من الطير أربعين صباحا ثم طاروا في الهواء ورجعوا رائحة المسك تفوح منها. قال القشيري: لا يبعد أنها وصلت إلى الجنة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عرف الله وعظمه منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام (¬4). كما روى الآخر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " بطن جائع أحب إلى الله من سبعين عابدا غافلا " (¬5). وروى الصفوري الشافعي عنه صلى الله عليه وسلم " أفضلكم عند الله منزلة أطولكم جوعا " (¬6). وأيضاً " من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه " (¬7). و" نوَروا قلوبكم بالجوع وخشن الثياب " (¬8). ¬

(¬1) أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 290 ترجمة أردية ط لاهور باكستان. (¬2) تذكرة أولياء باك وهند للدكتور شارب الدهلوي ص 55. (¬3) أنظر طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب لعبد العزيز الدريني ص 209 ط مصطفى البابي الحلبي مصر 1972م. (¬4) جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 164. (¬5) كشف المحجوب للهجويري ص 569. (¬6) نزهة المجالس للصفوري الشافعي ص 177. (¬7) إحياء علوم الدين للغزالي ج3 ص 80 ط دار القلم بيروت الطبعة الأولى. (¬8) نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 177 ط دار الكتب العلمية بيروت.

ونقل ابن عجيبة الحسني عن أبي سليمان الداراني أنه قال: " أحلى ما تكون العبادة إذا لصق ظهري ببطني " (¬1). ومثل هذا ورد عن القوم في ترك الماء البارد والعذب , واجتناب اللحم , والتحرز عن الطيبات , فيقولون: " من شرب الماء لم يشتق إلى الجنة " (¬2). وروى الكلاباذي والقشيري عن الجنيد أنه قال: " دخلت يوما على السري السقطي وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: جاءتني البارحة الصبية فقالت: يا أبتي , هذه ليلة حارة , وهذا الكوز أعلقه ها هنا. ثم أني حملتني عيناي فنمت , فرأيت جارية من أحسن الخلق الخلق قد نزلت من السماء , فقلت: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا أشرب الماء المبرد في الكيزان. فتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته. قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسه , حتى عفا عليه التراب (¬3). وأما الشعراني فروى عن بعض مشايخ الصوفية أنه كان يقول: " مثقال ذرة من لحم تقسي القلب أربعين صباحا " (¬4). وهناك حكايات أخرى سردها النفزي الرندي المتوفى 792 هـ , منها ما نقله عن إبراهيم الخواص أنه قال: " كنت في جبل " لكام " فرأيت رمانا (فاشتهيته , فدنوت منه فأخذت واحدة ¬

(¬1) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 154 ط القاهرة. (¬2) المعارضة والرد المنسوب إلى سهل بن عبد الله التستري ص 125 بتحقيق محمد كمال جعفر ط دار الإنسان القاهرة 1980م. (¬3) الرسالة القشيرية ج1 ص 72 , أيضا نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 245 ط بيروت , أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر الكلاباذي ص 184 ط مكتبة الكليات الأزهرية. (¬4) طبقات الشعراني ج1 ص 46.

فشققتها , فوجدتها حامضة قضيت وتركت الرمان , فرأيت رجلا مطروحا قد أجتمعت عليه الزنانير فقلت: السلام عليك , فقال: وعليك السلام يا إبراهيم , فقلت: كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله لم يخف عليه شيء وفقلت: أرى لك حالا مع الله تعالى , فلو سألته أن يحميك ويقيك من هذه الزنانير!! فقال: وأرى لك حالا مع الله تعالى , فلو سألته أن يحميك ويقيك من شهوة الرمان , فإن لذع (شهوة) الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة. ولدغ عن الزنانير يجد ألمه في الدنيا ". وقال السري رضي الله تعالى عنه: " إن نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة أن أغمس جزرة في دبس فما أطعمتها " , فلما كان ترك الشهوات والتنعمات من شأن المريد ومن مقتضى حاله لزمه الوفاء به وكان عمله على خلافه نقضا وفسخا , كما تقدم. قال جعفر بن نصير , رضي الله تعالى عنه: " دفع إليَّ الجنيد درهما وقال أشتر به التين الوزيري فاشتريته , فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فمه ثم ألقاها , وبكى , وقال: أحمله!! فقلت له في ذلك , فقال: هتف بي هاتف أما أستحي شهوة تركتها من أجله ثم تعود إليها! وقال عتبة الغلام لعبد الواحد بن زيد رضي الله عنهما: إن فلانا يصف من قلبه منزلة ما أعرفها. قال: لأنك تأكل مع خبزك تمرا وهو لا يزيد على الخبز شيئا. فقلت: إن كنتُ تركتُ أكل التمر عرفتُ تلك المنزلة؟ قال: نعم وغيرها. فأخذ يبكي , فقال له بعض أصحابه: لا أبكى الله عينيك , أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك , هو إذا ترك شيئا لم يعاود فيه أبداً ". وقال أحمد بن الجواري: " أشتهى أبو سليمان الداراني , رضي الله تعالى عنه , رغيفا حاراً بملح فجئت به إليه , فعض منه عضةً , ثم طرح الرغيف , وقال: عَجِلَت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي وشقوتي , قد عزمت على التوبة فأقبلني , قال أحمد: " فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى ". قال أبو تراب النخشبي , رضي الله عنه: " ما تمنت نفسي شهوة من الشهوات إلا مرة واحدة تمنت خبزا وبيضا وأنا على سفر , فعدلت إلى قرية , فقام واحد وتعلق بي وقال: هذا كان مع اللصوص , فضربوني سبعين دِرِّة , ثم عرفني رجل منهم , فقال:

هذا أبو تراب النخشبي , فأعتذروا إليَّ , فحملني رجل منهم منزله , وقدم إليَّ خبزا وبيضا , فقلت في نفسي: كلي بعد سبعين درة ". وقال بعضهم: أشتهى أبو الخير العسقلاني , رضي الله تعالى عنه , السمك سنين ثم ظهر له ذلك من موضع حلال , فلما مدّ يده إليه ليأكل دخلت شوكة من عظامه أصبعه , فذهبت في ذلك يده , فقال ك " يا رب , هذا لمن مد يده بشهوة إلى حلال فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟ ". كما رووا عن أبي الخير الأقطع أنه " عقد مع الله عقداً أن لا يمد يده إلى شيء مما تنبت الأرض بشهوة , فنسي وتناول عنقودا من شجرة البطم , فبينما هو يلوكه إذ تذكر العقد فرمى بالعنقود وبقي ما في فمه , فبصقه وجلس نادما , قال: فما أستقر بي الجلوس حتى دار بي فرسان ورجال وقالوا: قم. فساقوني إلى أن أخرجوني إلى ساحل بحر إسكندرية! فرأيت هناك أميرا وبين يديه سودان قد قطعوا الطريق فوجدوني أسود اللون ومعي ترس وحربة فقالوا: هذا منهم بلا شك , فقطع أيديهم وأرجلهم إلى أن وصل إليّ فقال لي: قدّم يدك , فمددتها ثم رفعت رأسي وقلت: إلهي وسيدي ومولاي , يدي جنت فرجلي ماذا صنعت؟ فدخل عليه فارس ورمى بنفسه على الأمير وقال: هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير التبناتي , فرمى الأمير نفسه إلى الأرض وأخذ يدي المقطوعة من الأرض يقبلها , وتعلق بي يبكي ويعتذر إلي , فقلت له: جعلتك في حل من أول ما قطعتها , وقلت: يد جنت فقطعت (¬1). فهكذا حرّم الصوفية على أنفسهم أكل الطيبات وابتعدوا عنها زعماً منهم أن هذا الصنيع سيرقبهم إلى الله تعالى , وأنى لهم ذلك. هذا وكتب السهروردي أن الصوفية عودوا أنفسهم بتقليل المطعم حتى رد بعضهم نفسه إلى أقلّ قوتها , فيقول: ¬

(¬1) أنظر طبقات الشعراني ج1 ص 109 , خزينة الأصفياء ص 110 ط باكستان.

" ومن الصالحين من كان يعير القوت بنوى التمر وينقص كل ليلة نواة. ومنهم من كان يعير بعود رطب , وينقص كل ليلة نواة. ومنهم من كان يعير بعود رطب وينقص كل ليلة بقدر نشاف العود. ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر (¬1). ونقل كذلك عن الزاهد خليفة أنه كان يأكل في كل شهر لوزة (¬2) وروى النفزي الرندي عن بعضهم أنه مكث خمسين سنة , لم يزد على زبيبة كل يوم (¬3). وحكى النبهاني في كتابه عن سهل أنه كان قوته في السنة بدرهم شعير بغير ملح ولا أدم (¬4). وهذا كله رغم ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يخالف صنيعهم ويعارض طريقهم حيث قال الرب تبارك وتعالى في كلامه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬5). وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل (¬6). وعن عبد الله بن جعفر أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء) (¬7). وعن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة في يده , فدعى إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها , ثم قام فصلى , ولم يتوضأ (¬8). وعن أنس , أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه , فذهبت مع ¬

(¬1) عوارف المعارف للسهروردي ص 223. (¬2) أيضا. (¬3) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 150. (¬4) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 115 ط دار صادر بيروت. (¬5) سورة الأعراف الآية 32. (¬6) رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها. (¬7) متفق عليه. (¬8) متفق عليه.

النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد , فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة , فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذ (¬1). وعن جابر , أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا خل , فدعا به , فجعل يأكل به ويقول: {نعم الإدام الخل , نعم الأدام الخل} (¬2). وعن أبي أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام أكل منه وبعث بفضله إلي ّ (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أتى رسول الله بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها " (¬4). وعن ابن عباس , قال: " كان أحبّ الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز , والثريد من الحيس " (¬5). وعن أبي أسيد الأنصاري , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {كلوا الزيت وأدهنوا به , فإنه من شجرة مباركة} (¬6). وعن عائشة , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب (¬7). وعن ابني بسر السلميين , قالا: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمنا زبدا وتمرا , وكان يحب الزبد والتمر (¬8). وعن عكراش بن ذؤيب , قال: أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر , فخبطت بيدي في نواحيها , وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه , فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال: يا عكراش , كل من موضع واحد فإنه طعام واحد , ثم أتينا بطبق ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه الترمذي وابن ماجه. (¬5) رواه أبو داوود. (¬6) رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي. (¬7) رواه الترمذي. (¬8) رواه أبو داود.

فيه ألوان التمر , فجعلت آكل من بين يديّ , وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق , فقال يا عكراش: كل من حيث شئت , فإنه غير لون واحد (¬1). وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار , ومعه صاحب له , فسلّم فردّ الرجل وهو يحوّل الماء في حائط , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان عندك ماء بات في شنّة وإلا كرعنا؟) فقال: عندي ماء بات في شنّ , فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء , ثم حلب عليه من داجن , فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه (¬2). وعن الزهري عن عروة عن عائشة , قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد (¬3). وعن عائشة , قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من السقيا , قيل هي عين بينها وبين المدينة يومان (¬4). وعن أنس , قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن (¬5). وعن عائشة , قالت: كنا نبيذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكأ أعلاه , وله عزلاه, ننبذ غدوة فيشربه عشاء , وننبذ عشاء فيشربه غدوة (¬6). وأخيرا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه الترمذي. (¬4) رواه أبو داود وصححه الألباني. (¬5) رواه مسلم. (¬6) رواه مسلم. (¬7) رواه مسلم وأبن ماجه.

وخير ما ورد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد أكل وشرب وشكر , وإذا لم يجد ما يأكله ويشربه فصبر , ولم يكن يرد موجودا كما لم يكن يتكلف مفقودا , وما أحسن ما كتبه الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله عن هدية صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام فقال: " كان هديه وسيرته في الطعام لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم وما عاب طعاما قط إن أشتهاه أكله وإلا تركه كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج ولحم الحبارى ولحم الوحش والأرنب وطعام البحر وأكل الشوي وأكل الرطب والتمر وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء وشرب نقيع التمر وأكل الخزيرة وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق وأكل القثاء بالرطب وأكل الإقط وأكل التمر بالخبز وأكل الخبز بالخل وأكل الثريد وهو الخبز باللحم وأكل الخبز بالأهالة وهي الودك وهو الشحم المذاب وأكل من الكبد المشوبة وأكل القديد وأكل الدباء المطبوخة وكان يحبها وأكل المسلوقة وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن وأكل الخبز بالزيت وأكل البطيخ بالرطب وأكل التمر بالزبد وكان يحبه ولم يكن يد طيبا ولا يتكلفه بل كان هديه أكل أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر حتى أنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفر وهي كانت مائدته وكان يأكل بأصبعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ , وهو أشرف ما يكون من الأكلة , فإن المتكبر يأكل بإصبع واحد , والجشع الحريص يأكل بالخمس ويدفع بالراحة , وكان لا يأكل متكئاً " (¬1). ولكن القوم عكسوا الموضوع فحرموا ما أحل الله , وتعنتوا وتطرفوا في ترك الطعام والشراب , وأسسوا أسسا وأصلوا قواعد لا وجود لها في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا في سيرة أصحابه خيار خلق الله وأبرار هذه الأمة المغفورة لها ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد لأبن قيم الجوزية ج1 ص 37.

, لم يأخذوها إلا من البراهمة ورهبنة النصارى (¬1). ومن تطرفات القوم وتعنتهم في هذا أيضا ما رواه الغزالي أن مالك بن دينار مرض مرضه الذي مات فيه , فأشتهى قدحاً من العسل واللبن ليثرد فيه رغيفا حارا , فمضى الخادم وحمل إليه , فأخذه مالك بن دينار ونظر فيه ساعة وقال: " يا نفس قد صبرت ثلاثين سنة , وقد بقي من عمرك ساعة , ورمى القدح من يديه , وصبر نفسه ومات " (¬2). فهل هذا من الدين يا ترى , وهل هذا هو الزهد الذي يدندنون حوله ويطبلون؟ ولقد روى القشيري مثل هذا عن بشر بن الحارث " أنه أشتهى الباقلاء سنين فلم يأكله فرؤي في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: فغفر لي , وقال (أي الرب): كل يا من لم يأكل , وأشرب يا من لم يشرب (¬3). وقبله السلمي روى طبقاته عن بشر هذا أنه قال: " إني لأشتهي الشواء منذ أربعين سنة , فما صفا لي درهمه. وقال له رجل: لا أدري بأي شيء آكل خبزي؟ فقال له: أذكر العافية وأجعلها أدامك " (¬4). وروى ابن الملقن ابن أبي عبد الله المغربي المتوفي 299هـ أنه مكث سنين كثيرة لا يأكل ما وصلت إليه أيدي بني آدم (¬5). وذكر الكمشخانوي أن أبا تراب النخشبي كان يأكل من البصرة إلى مكة أكلة واحدة (¬6). ¬

(¬1) أنظر تفصيل ذلك وأدلته في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " الباب الثاني ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. (¬2) مكاشفة القلوب إلى علام الغيوب لأبي حامد الغزالي ص 15 ط الشعب القاهرة. (¬3) الرسالة القشيرية ج1 ص 76 , أيضا روضة التعريف لل ن الدين بن الخطيب ص 539 ط دار الفكر العربي. (¬4) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 164. (¬5) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 403. (¬6) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 164.

وقال الشعراني: " راضى الصوفية أنفسهم بالجوع حتى صارت تصبر على الطعام أربعين يوما وأكثر , وبعضهم حجّ من مصر بأربعة أرغفة حملها معه أكل في كل ربع من الطريق رغيفا , وبعضهم حجّ برغيفين , رغيف أكله بمكة ورغيف أكله في العقبة , وبعضهم أكل في مصر من يوم خروج الحجاج فلم يأكل شيئا حتى رجع مصر " (¬1). والصوفي الفارسي الباخرزي المتوفى سنة 736 هـ كتب أن المشائخ قالوا: " لا تأكل ما تشتهي , وأن تأكل لا تطلبه , وأن تطلبه لا تتزين به , وقالوا: ما فوق الخبز فهو شهوة ولو كان ملحاً , ولكن البعض يقولون: أن الخبز من كبرى المشتهيات , وأعلاها اللحم والحلوى , وأدناها الملح والخلّ " (¬2). ونقل ابن عجيبة الحسنى عن سهل التستري أنه قال: " لأن أترك من عشائي لقمة أحب إليّ من قيام ليلة " (¬3). ونقل العطار عن سري السقطي أنه كان يقول: " منذ أربعين سنة تتمنى نفسي شرب العسل ولكني لم أجبها " (¬4). وعلى ذلك يتركون التكسب ويرونه من المبغضات بل المنكرات والمحرمات , ويأمرون بالتسول والاستجداء أو الكسل والخمول مع أنه من سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين المهديين بعده , الذين أمر المؤمنين بإقتدائه وأتباع سنتهم , وهو سنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة إلا من أعوز الفقر أو اقعدته الملمات. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا تعد ولا تحصى , نذكر منها ما رواه المقداد بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من ¬

(¬1) درر الغواص للشعراني ص 59 من هامش الإبريز للدباغ ط مصر. (¬2) أوراد الأحباب وفصوص الأدب (فارس) لأبي المفاخر يحيى الباخرزي بتحقيق أبرج أفشار ص 332 ط جامعة طهران 1966 م ,. (¬3) الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة الحسني ص 134. (¬4) تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 153 ط لاهور.

عمل يديه , وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يديه) (¬1). وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم , من كسبكم , وأن أولادكم من كسبكم) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه , وولده من كسبه) (¬3). وعن رافع بن خديج أنه قال: قيل يا رسول الله , أي الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده , وكل بيع مبرور) (¬4). وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) (¬5). وأخيرا ما رواه الزبير بن العوام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس , أعطوه أو منعوه) (¬6). وفي هذا المعنى ما رواه أبو داود وابن ماجة أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله , فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى , حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه , وقعب نشرت فيه من الماء , قال: أئتني بهما , فأتاه بهما , فأخذهما رسول الله بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم , قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا , قال ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه. (¬3) رواه أبو داود ومثله في الدارمي. (¬4) رواه أحمد. (¬5) رواه الترمذي والحاكم والدارمي واللفظ له. (¬6) رواه البخاري.

رجل: أنا آخذهما بدرهمين , فأعطاهما إياه. فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري , وقال: أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك , وأشتر بالآخر قدوما , فأتني به , فأتاه به , فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده , ثم قال: أذهب فاحتطب وبع , ولا أرينك خمسة عشر يوماً , فذهب الرجل يحتطب ويبيع , فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فأشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة , إن المسألة لاتصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع , أو لذي غرم مفظع , أو لذي دم موجع) (¬1). وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) (¬2). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في أثنتين: رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار , ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار) (¬3). وعن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة) (¬4). وعن أبي هريرة قال: يا رسول الله , أي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقل وأبدأ بمن تعول) (¬5). فهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه في فضل الكسب والمكتسب , وهو أزهد العالمين وأتقاهم لله , وقد أقر بذلك الطوسي حيث قال: ¬

(¬1) مشكاة المصابيح ج1 ص 581. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه. (¬4) متفق عليه. (¬5) رواه أبو داود.

" إن التكسب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , نقل عن سهل بن عبد الله أنه قال: من طعن على لاكتساب فقد طعن على السنة , كما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه كان يقول: لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب, وأيضا مكاسبك لا تمنعك عن التفويض والتوكل إذا لم تضيعها في كسبك " (¬1). ولكن المتصوفة يقولون عكس ما قاله الرسول وما أمر به وما ورد في كتاب الله , فيقولون: " من طلب معاشا فقد ركن إلى الدنيا " (¬2). وأبو نصر السراج الطوسي الذي أقر بكون التكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي نقل عن ذي النون المصري أنه قال: " إذا طلب العرف المعاش فهو لاشيء " (¬3). كما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بطلب المعاش (¬4). ظنا منه بأن " الكسب رخصة وأباحه لمن لم يطلق حال التوكل " (¬5). وهذا غلط وفاسد لأن التوكل ليس معناه الترك , بل معناه الجد والعزم , ثم الإعتماد على الله بأنه وحده يثمر الجهود ويقللها من النجاح , لا الإنسان , وهذا معنى قوله {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (¬6). ولكن ابن محمد الشطا الدمياطي يقول: " أترك الكسب حال كونك متجرداً عن الأهل والأولاد " (¬7). وذكروا عن ابن السماك أنه كان يقول: " لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض , وكن اليوم مشغولا بما أنت ¬

(¬1) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 259 ط دار الكتب الحديثة 1960 م. (¬2) عوراف المعارف للسهروردي ص 165. (¬3) كتاب اللمع للطوسي ص 162. (¬4) أيضا ص 184. (¬5) أيضا ص 524. (¬6) سورة آل عمران الآية 159. (¬7) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء لأبي بكر محمد الشطا الدمياطي ط دار الكتب العربية مصر.

عليه مسئول غدا , وإياك والفضول فإن حسابها يطول. إني علمت وخير العلم أنفعه ... إن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعديني (¬1). وحكوا في كتبهم عن أويس القرني أنه لقيه هرم بن حبان على شاطئ الفرات يغسل كسرا وخرقا قد التقطها من المنبوذ , وكان ذلك أكله ولباسه , قال: فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال: في أي شيء خرجت؟ قلت: أطلب المعاش , فقال: إذا وقع الطلب ذهب الزهد (¬2). وذكر السهروردي عن أبي يزيد البسطامي أنه قيل له: ما نراك تشتغل بالكسب؟ فمن أين معاشك؟ فقال: مولاي يرزق الكلب والخنزير تراه لا يرزق أبا يزيد (¬3). ويقول السهروردي أيضا: " إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه بحكم الوقت عليه بترك التسبّب (¬4). ونقل عبد الرحمن الجامي الصوفي الفارسي الكبير عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لشخص أتريد أن تكون وليا من أولياء الله؟ فقال: نعم. فقال له: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة (¬5). وذكر الفيتوري عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان من أهل التوكل ولا يكتسب من الدنيا شيئا , ولا قبضت يده منجلا يحصد به الزرع , ولا جعل محراثا يحرث في أرض ¬

(¬1) شرح كلمات الصوفية جمع وتأليف محمود الغراب ص 140 ط القاهرة 1402هـ. (¬2) قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 267. (¬3) عوارف المعارف للسهروردي ص 159 , أيضا كفاية الأتقياء للدمياطي ص 28. (¬4) عوارف المعارف للسهروردي ص 153. (¬5) نفحات الأنس للجامي ص 6 طبعة فارسية إيران 1337 هجري قمري.

بادية ولا حاضرة ولا وجبت عليه زكاة الفطر قط (¬1). وقال ابن عجيبة الحسني: " التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار , والتحقق بالبذل والإيثار , وترك التدبير والاختيار .... والصوفي الصادق علامته أن يفتقر بعد الغنى , ويذل بعد العز , ويخفى بعد شهرة " (¬2). ونقل الجامي عن إبراهيم الهروي أنه قال: " من أراد أن يبلغ كل الشرف فليختر سبعا على سبع: الفقر على الغنى , والجوع على الشبع , والدون على المرتفع , والذل على العز , والتواضع على الكبر , والحزن على الفرح , والموت على الحياة " (¬3). ومثله في غيث المواهب (¬4). وكتب فريد الدين عطار حكاية عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لأحد أثناء طوافه حول الكعبة لا تصلح أن تعد الصالحين ما لم تغلق على نفسك باب العز والغنى , وتفتح باب الذل والفقر (¬5). فهكذا أعرض الصوفية عن التكسب والأشغال بطلب الرزق بظن منهم أن هذه هي تعاليم الإسلام - وحاشاه من ذلك - وهكذا حثوا الناس على التمسك بالفقر والذل , واختيار الخمول والكسل. هذا , ومن تطرفات المتصوفة التعري وتعذيب النفس والجسم , ولقد ذكرنا منها روايات وحكايات عديدة في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (¬6). ونورد ههنا في بيان تقشفهم وتعنتهم وغلوهم في ترك الطيبات التي أحلها الله لعباده , ¬

(¬1) الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 74 ط مكتبة النجاح طرابلس 1976م. (¬2) إيقاظ الهمم في شرح الحكم لأبن عجيبة الحسني ص 4 ط البابي الحلبي القاهرة 1982م. (¬3) نفحات الأنس للجامي ص 45. (¬4) أنظر غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ص 200. (¬5) تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار أوردو ص 61 ط باكستان. (¬6) أنظر الباب الثاني.

وأخرجها للمؤمنين , وتزين بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتلامذته الراشدون فيذكر ابن الملقن: قال بعض المتصوفة: " دخلت على بشر في علته , فقلت: عظني. فقال: إن في هذه الدار نملة , تجمع الحبّ في الصيف لتأكله في الشتاء , فلما كان يوما أخذت حبة في فمها , فجاء عصفور فأخذها , فلا ما جمعت أكلت , ولا ما أملت نالت " (¬1). ونقل الكلاباذي عن أبي المغيث وهو يذكر مجاهدته , فيقول: " كان لا يستند ولا ينام على جنبه , وكان يقوم الليل , وإذا غلبته عينه قعد , ووضع جبينه على ركبتيه فيغفو غفوة " (¬2). وهذا مع ذكر الرب تعالى المؤمنين في قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (¬3). وأما نجم الدين الكبري المتوفى 618هـ فقد كذب على عيسى عليه السلام حيث قال: " أنه كان نائما متوسداً بلبنة , فهبّ من منامه فإذا اللعين عن رأسه , فقال له: ما جاء بك إليّ؟ فقال طمعت فيك , فقال: يا ملعون أنا روح الله كيف تطمع فيّ؟ قال: أنك أخذت قماشي فطمعت فيك , قال: وما ذاك القماش؟ قال: هذه اللبنة تحت رأسك , فرماها عيسى عليه السلام حتى فارقه " (¬4). وذكر الطوسي عن ابن الكريني - وكان أستاذ الجنيد - أنه أصابته جنابة ليلة من الليالي , وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة , فجاء إلى الشط ليلة , وكان برد شديد , فخزنت نفسه على الدخول في الماء لشدة البرد , قال: فطرح نفسه في الماء مع المرقعة , ولم ¬

(¬1) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 116 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1973م. (¬2) التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر الكلاباذي ص 175 ط مكتبة الكليات الأزهرية. (¬3) سورة آل عمران الآية 191. (¬4) فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبرى ص 15 ط بتصحيح المستشرق الألماني الدكتور فريتزمائر ط ويسبادن ألمانيا 1957م.

يزل يغوص في الماء مع مرقعته ثم خرج من الماء , وقال: أعتقدت أن لا أنزعها من بدني حتى تجفّ عليّ , قال فلم تجف عليه شهرا كاملا , وأراد بذلك تأييدا لنفسه (¬1). وهل هذا تأديب أو تعذيب؟. وذكر الصوفي الهندي اللاهوري عن يوسف الأسباط أنه كان من أولياء الله الكبار , قد مكث عريانا أربعين سنة لم يكن يضع على جسمه شيئا إلا قطعة من المسوح ما يستر بها عورته (¬2). ومنها ما ذكروه عن الشيخ الشرياني القصوري أنه تعرّى وتجرد عن الثياب ومكث متعريا صيفا وشتاء إلى أن أدركه الموت , وكان مع ذلك يصطلي نارا ليلا ونهارا في الصيف المحرق والشتاء المبرد (¬3). ومثله الآخر ذكره كل حسن القادري في التذكرة الغوثية (¬4). ونقل العطار عن الجنيد أن رجلا شكى إليه الجوع والتعري , فقال: أجاعك الله وعرّاك , لأن الجوع والتعري من نعم الله , لا يرزقها إلا لبعاده المقربين (¬5). وذكر الطوسي عن حسن القزاز الدينوري أنه حج إثنتي عشرة حجة حافيا , مكشوف الرأس , فكان إذا دخل في رجله شوك يمسح رجله بالأرض ويمشي (¬6). مع ورود النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حيث روى ابن عباس أنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله , إن أختي نذرت أن تحج ماشية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا , فلتحج راكبة , وتكفّر عن يمينها) (¬7). ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 198. (¬2) أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 36. (¬3) تذكرة أولياء بر ضغير لميرزه الدهلوي ج4 ص 102 ط باكستان. (¬4) أنظر تذكرة غوثية ص 291 ط تجلي برس دلهي. (¬5) تذكرة الأولياء للعطار ص 189. (¬6) كتاب اللمع للطوسي ص 223. (¬7) رواه أبو داود.

وفي هذا المعنى روى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنيه , فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يمشي , فقال: (إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه) وأمره أن يركب (¬1). هذا ويذكر الدريني عن صوفي مشهور ملقب بمسروق أنه حج فما نام قط إلا ساجدا (¬2). أهذه مفخرة أم زيادة على اكتاب والسنة؟ وأين هذا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكره النفزي أيضا في كتابه حيث روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري (¬3). وأما تطرفهم في سهر الليالي وقلة النوم فيذكر الهجويري عن أبي الفوارس شاء بن شجاع الكرماني أنه ورد في آثاره أنه لم ينم لأربعين عاما , وعندما نام رأى الله سبحانه وتعالى في النوم , فقال: يا إلهي , كنت أطلبك بسهر الليالي فرأيتك في النوم. فقال: يا شاه , لقد أدركت في النوم بغيتك بسهرك الليل , ولو كنت نمت هناك لما رأيت هنا (¬4). وحكى مثل ذلك الغزالي عن وهب بن منبه أنه دعا الله أن يرفع عنه النوم بالليل , فذهب عنه النوم أربعين سنة (¬5). مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام ويسهر , ويعمل ويستريح , وأصحابه كذلك , وأن الله عز وجل قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} (¬6). ¬

(¬1) رواه أبو داود. (¬2) أنظر طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 161 ط مصطفى البابي الحلبي. (¬3) أنظر غيث المواهب العلية ج2 ص 168. (¬4) كشف المحجوب للهجويري ص 350 ترجمة عربية ط بيروت , أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 169. (¬5) مكاشفة القلوب للغزالي ص 30 ط الشعب القاهرة. (¬6) سورة الفرقان الآية 47.

ولكن الصوفية يروون عن مشائخهم أنهم لم يكونوا ينامون الليل ويقطعونه في الذكر والتلاوة كما ذكر أبن عجيبة الحسني: " وقد كان منهم من يقطع الليل كله في ركعة , ويختم القرآن في كل ليلة " (¬1). ويحكي عبد السلام الفيتوري عن نفسه أنه يسبح سبعين ألفا وباسم الجلالة خمسمائة ألف في كل يوم وليلة , ويختم القرآن قبل أن يستقر الضيا " (¬2). وقطع النظر عن عدم وقوع هذا عقلا كره الرسول صلى الله عليه وسلم ختم القرآن في أقل من ثلاث حيث قال: (لم يفقه من قرأ في أقل من ثلاث) (¬3). ولكن القوم جعلوا الغلو والمغالاة من أصول الولاية والكرامة مسفهين العقل ومخالفين النقل , فينقل المنوفي الحسيني عن عبد الفتاح الشبلنجي الشاذلي أنه كان يصلي مائة وثمانين ركعة تهجدا كل ليلة , ويقرأ نصف القرآن كل نهار مع سبعين ألفا على المسبحة من أوراد وأذكار شتى (¬4). ونقل عن بعضهم أنه أدعى: " أنا منذ ثلاثين سنة أصوم وأقوم الليل " (¬5). ونقل الجامي عن الجنيد أنه قال: " ما رأيت أعبد من السري أتت عليه سبعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت " (¬6). ونقل القوم عن عطاء السلمي أنه كان إذا جنّه الليل يخرج إلى المقابر فلا يزال ¬

(¬1) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 460. (¬2) الوصية الكبرى للفيتوري ص 66. (¬3) رواه الترمذي وأبو داود والدارمي وصححه الألباني. (¬4) أنظر جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج2 ص 274 ط مؤسسة الحلبي القاهرة. (¬5) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة الحسني ص 36. (¬6) نفحات الأنس لأبن عجيبة الحسني ص 36.

يناجيهم إلى الفجر (¬1). وذكر الشعراني عن الربيع أنه كان يخرج إلى المقابر ويحي الليل كله هناك (¬2). ونقل الهجويري عن النوري أنه ظل يصرخ لمدة ثلاثة أيام وليال في بيته واقفا في مكان واحد (¬3). ولم يستحي الشعراني فيما نقل عن رابعة البصرية كانت تتوضأ كل ليلة وتتطيب وتقول لزوجها: ألك حاجة؟ فإن قال: لا , قامت إلى الصباح (¬4) وقال الدريني: " كان السلف الصالحون إذا بلغ أحدهم أربعين سنة طوى فراشة " (¬5). والحاصل أن الصوفية يفتخرون بكثرة التعبد وقيام الليل كله مع ورود النهي في محكم التنزيل لصفي الله ونجيّه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا {2} نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا {4} (¬6). وروى عبد الله بن عباس رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن , قال: (بت عند خالتي ميمونة ليلة , والنبي صلى الله عليه وسلم عندها , فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة , ثم رقد , فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد , فنظر إلى السماء فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} حتى ختم السورة , ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها , ثم صب في الجفنة , ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين , لم يكثر وقد أبلغ , فقام فصلى , ¬

(¬1) تنبيه المغتربين للشعراني ص 34 , 35 ط. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 28. (¬3) كشف المحجوب للهجويري ص 344. (¬4) تنبيه المغتربين للشعراني ص 35. (¬5) طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 161 ط مصطفى البابي الحلبي. (¬6) سورة المزمل الآية 1 إلى 4.

فقمت وتوضأت , فقمت عن يساره , فأخذ بأذني فأدراني عن يمينه , فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة , ثم أضطجع فنام حتى نفخ , وكان إذا نام نفخ , فآذنه بلال بالصلاة فصلى) (¬1). وعن عبد الله بن عمرو , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود , كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه , وينام سدسه) (¬2). وهذا ومن تطرفات الصوفية وغلوهم في التعبد والتحنث ما نقلوه عن الجنيد أنه " كان يدخل كل يوم حانوته ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يعود " (¬3). وحكوا عن الآخر أنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة (¬4). ونسب الشعراني إلى أويس القرني أنه قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة (¬5). وحكى العطار عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يصلي أربع ركعات للعشاء , وكان إذا فرغ قال: إن هذه الصلاة غير مقبولة عند الله , وكان يعيدها , ثم إذا فرغ يعيدها , وهكذا يفعل حتى ينقضي الليل كله (¬6). فهل يا ترى ألا يعد ذلك تجاوزا عما أمر الله به في كتابه وثبت عن رسول الله في سنته , أليس هذا هو معنى التقدم بين يدي الله ورسوله المنهي عنه في كتاب الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬7). وأليست هذه الفروض والواجبات التي فرضوها وأوجبوها على أنفسهم حسب ما ينقل القوم - والعهدة على من نقل , والكلام على ما نقل - مضاهاة للشارع والشرع أفلا يندرج كل هذا تحت وعيد الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) الرسالة القشيرية ج1 ص 119 , مكاشفة القلوب للغزالي ص 30 , غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 283. (¬4) تنبيه المغترين للشعراني ص 114 ط. (¬5) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 27. (¬6) تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 94. (¬7) سورة الحجرات الآية 1.

الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬1). أو تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ّ) (¬2). فالحاصل من الحكايات والأدعاءات التي سردناها آنفا أن الصوفية يريدون أن يثبتوا منها أن مشائخهم وأوليائهم ورؤسائهم كانوا قد وقفوا أنفسهم , ونذروا حياتهم للتعبد والتطوع ولم يكونوا يشتغلون بشيء من أمور الدنيا بل كان كل همهم الصيام والقيام , والذكر والسهر , والتسبيح والتهليل , والمجاهدات والرياضات , وأنها لرغبة عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم , وأعراض عن أسوته وقدوته وأتباع سيرته كما روى ذلك عن أبي بردة أنه قال: (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتها سيئة الهيئة فقلن لها: مالك؟ فما في قريش رجل أغنى من بعلك , قالت: ما لنا منه شيء , أما ليله فقائم , وأما نهاره فصائم فدخلن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له فلقيه فقال: يا عثمان , أما لك بي أسوة؟ فقال: بأبي وأمي أنت وما ذاك؟ قال: تصوم النهار وتقوم الليل , قال: إني لأفعل , قال: لا تفعل , إن لعينك عليك حقا , وإن لجسدك عليك حقا , وإن لأهلك عليك حقا , فصل ونم , وصم وأفطر) (¬3). وعن أبي قلابة بلغ به صلى الله عليه وسلم أن ناسا من أصحابه أحتموا النساء واللحم اجتمعوا , فذكرنا ترك النساء واللحم فأوعد فيه وعداً شديداً , وقال: (لو كنت تقدمت فيه لفعلت) , ثم قال: (إني لم أرسل بالرهبانية , إن خير الدين الحنيفية السمحة) (¬4). ¬

(¬1) سورة الشورى الآية 21. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري. (¬4) رواه الدارمي.

وأعترف بذلك أبن زروق أيضا حيث قال: " الأجر على قدر الإتباع , لا على أجر المشقة ... والتشديد في العبادة منهي عنه كالتراخي عنها " (¬1). ومن تطرفات الصوفية , وزيادتهم , وغلوهم وتعنتهم , ومبالغتهم في الخوف من الله تعالى كما ذكر صاحب " الأخلاق المتبولية " عن مشايخه أن كل واحد منهم يغلب عليه البكاء والخوف , فيصير يتمرغ في الأرض كالطير المذبوح (¬2). وأيضا " الصوفية دائما يخافون أن يمسخ الله صورهم صورة كلب أو خنزير " (¬3). وقالوا: " ومن أخلاق الصوفية خوفهم أن الله تعالى يخسف بهم الأرض " (¬4). وذكر الكلاباذي والنفزي الرندي والشعراني وغيرهم عن السري السقطي أنه قال: " إني لأنظر في المرآة كل يوم مراراً مخافة أن يكون قد أسود ّ وجهي " (¬5). ونقولوا عن الكرخي أنه قال: " خاف أن لا يقبلني فأفتضح " (¬6). وروى اليافعي عن أبي بكر الوراق أنه قال: " ربما أصلي لله تعالى ركعتين فأنصرف عنهما وأنا بمنزلة من ينصرف عن السرقة من الحياء " (¬7). والكلاباذي نقل عن الفضيل أنه قال: " الناس مغفورون كلهم لولا مكاني فيهم " (¬8). ¬

(¬1) قواعد التصوف لأحمد بن محمد زروق ص 55 , 56 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1396هـ. (¬2) أنظر الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 149. (¬3) أيضا ج 1 ص 442. (¬4) أيضا 442. (¬5) التعرف لمذهب أهل التصوف ص 70 , أيضا غيث المواهب ج1 ص 134 , أيضا الأنوار القدسية للشعراني ج2 ص 12. (¬6) الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 212 , 1 الأخلاق المتبولية ج 3 ص 153. (¬7) نشر المحاسن الغالية لليافعي ج 1 ص 383 بهامش جامع كرامات الأولياء ط دار رضا. (¬8) التعرف لمهذب أهل التصوف للكلاباذي ص 70.

وحكى العطار عن فتح الموصلي أنه كان يبكي كثيرا حتى جرى الدم من عينيه , فسئل: لماذا هذا البكاء الشديد؟ قال: خوفا من الله (¬1). ومثل ذلك نقل عنه ابن الملقن أيضا حكاية عن أبي إسماعيل أنه قال: " دخلت عليه يوما , وقد مدّ كفّه يبكي , حتى رأيت الدموع من بين أصحابه تتحدر , فدنوت منه لأنظر إليه , فإذا دموعه قد خالطها صفرة , فقلت: بالله يا فتح , بكيت الدم؟ فقال: نعم , ولولا أنك حلفتني بالله ما أخبرتك , فقلت: على ماذا بكيت الدموع ثم الدم؟ فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله , وبكيت الدم بعد الدموع حزنا ألا تكون قد صحت لي توبتي (¬2). وقال عماد الدين الأموي: " حكي أن الحسن البصري أقام ثلاثين سنة لم يضحك ". وقيل: " إن عطاء السلمي لم يضحك أربعين سنة , وهذا كان حال سائر عباد البصرة غلبت عليهم المخاوف فكان حالهم الحزن " (¬3). وقد عدّ المتصوفة الحزن الدائم وعدم الضحك من علائم الخشية والتقوى مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أتقى العالمين وأخشاهم لله - كان يضحك ويبستم , وقد روى عن عبد الله بن الحارث أنه قال: " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬4). ¬

(¬1) تذكرة الأولياء للعطار ص 157. (¬2) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 279. (¬3) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب لعماد الدين الأموي ص 15 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ط دار صادر بيروت. (¬4) رواه الترمذي.

وقد ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا , فأرسلني يوما لحاجة , فقلت: والله لا أذهب , وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم , فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق , فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قبض بقفاي من ورائي , قال: فنظرت إليه وهو يضحك , فقال: (يا أنيس , ذهبت حيث أمرتك؟) قلت: نعم , أنا أذهب يا رسول الله (¬1). وعنه أيضا , قال: " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية , فأدركه أعرابي , فحبذه بردائه جبذة شديدة , ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته , ثم قال: يا محمد , مر لي من مال الله الذي عندك , فألتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم ضحك , ثم أمر له بعطاء " (¬2). هذا ولقد حكى الصوفية عن أبي حفص أنه قال: " منذ أربعين سنة أعتقد في نفسي أن الله ينظر إليّ نظر السخط " (¬3). ومن أطرف وأعجب ما نقلوا في ذلك هو ما حكاه الشعراني عن العلاء بن زياد أنه ربما بكى سبعة أيام متوالية لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا (¬4). فهذه هي شدة الصوفية وزيادتهم , تطرفهم ومغالاتهم في الخوف من الله تعالى , وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الخصوص: " ومن خاف الله خوفا مقتصداً , يدعو إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله , من غير هذه الزيادة فحاله أكمل , وأفضل من حال هؤلاء , وهو حال الصحابة رضي الله عنهم ... ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 133 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط القاهرة. (¬4) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 35.

وأفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه , ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم , كما قال الله تعالى {فأتقوا الله ما أستطعتم} وقال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمرتكم فأتوا منه ما أستطعتم فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد العبّاد والنسّاك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع) (¬1). وإن الصوفية قد تطرفوا في التوكل على الله تعالى وقطع الأسباب , وإغلاق باب الوسائل , وترك التحرز والإحتياط , ففسروا التوكل بغير معناه الشرعي مما يخالف الكتاب والسنة , وعطّلوا الجوارح عن العمل , وظنوا أن الحركة تنافي اليقين والتوكل , فآثروا الخمول والكسل على الجد والعمل , ورجّحوا الراحة والسكون على الحركة والشغل كما نقل السلمي عن رويم بن أحمد البغدادي أنه قال: " التوكل إسقاط رؤية الوسائط , والتعلق بأعلى العلائق " (¬2). ونقل عن الخواجة عبد الله الأنصاري الهروي أنه قال: " التوكل هو إسقاط الطلب , وغض العين عن السبب إجتهادا في تصحيح التوكل " (¬3). ومثل ذلك قال ابن عجيبة الحسني موضحا للمصطلح الصوفي " التجريد ": الشغل دون الكسب بالعبادة ... محض التوكل , ورأي السادة ثم السؤال آخر المكاسب ... وهو بشرط الإضطرار واجب الاشتغال بالعبادة والتجريد عن الأسباب من أعظم القرب عند ذوي الألباب , إذ لا يصفو الباطن من الأعيار ويملأ بالمعارف والأسرار إلا إذا تخلص الظاهر من كثرة الأكدار , ولا يتخلص إلا إذا تجرد من الأسباب وأتكل على الملك الوهاب (¬4). ¬

(¬1) رسالة الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ص 20 ط دار الفتح القاهرة 1404 هـ. (¬2) طبقات السلمي ص 43 ط مطابع الشعب 1380 هـ. (¬3) منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري المتوفى 481 هـ ص 76 ط. (¬4) الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة الحسنى ص 234 , 235 ط عالم الفكر القاهرة.

ويشرح معنى التوكل الصوفي أحمد الكمشخانوي حيث يكتب: (وقال) الحسن أخو سنان حججت أربع عشرة حجة حافيا متوكلا وكان يدخل في رجلي الشوك فلا أخرجه لئلا ينقض توكلي (وقيل) من أدعى التوكل ثم شبع فقد حمل زادا وجاء جماعة من الشام إلى بشر الحافي فطلبوا منه أن يحج معهم فقال لهم نعم ولكن بثلاثة شروط أن لا نحمل معنا شيئا ولا نسأل أحدا شيئا ولا نقبل من أحد شيئا فقالوا أما الأول والثاني فنقدر عليه وأما الثالث فلا نقدر عليه فقال خرجتم تحجون متوكلين على زاد الحجاج (وقال) أبو حمزة الخراساني حججت سنة فبينما أنا في الطريق إذ وقعت في بئر فطلبت مني نفسي أن أستغيث فلم أفعل فما تم هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما لصاحبه تعال حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيها أحد فوافقه صاحبه فهممت أن أصبح ثم قلت في نفسي أصيح إلى من هو أقرب منهما ثم سكت حتى سدوا رأس البئر ومضوا فلما مضت ساعة سمعت حس شيء فتح رأس البئر ودلي رحلة وقال لي بلسان حاله تعلق برجلي فتعلقت بها فأخرجني فإذا هو سبع فتركني ومر فسمعت هاتفا يقول يا أبا حمزة كيف ترى نجيناك من الهلاك بالهلاك (وقال) أبو سعيد الخراز دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بالوصول ثم فكرت في نفسي أنني سكنت إلى غير الله في توكلي فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها (وقال) إبراهيم الخواص بينا أنا أسير في البادية إذ قال لي أعرابي يا إبراهيم التوكل عندنا فأقم عندنا حتى يصح توكلك أما تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة يحملك ويقويك أقطع رجاءك عن دخول البلدان وتوكل (¬1). وإليكم الآن نصا مهماً في هذا الخصوص ذكروه عن أبي مدين , يتضح منه مفهوم التوكل الصوفي وهو: الهروب عن طلب الحلال والتكسب , واللجوء إلى الراحة والتعطل , والنص بتمامه كما يلي: " الإمام أبو مدين عبد صالح إمام في التوحيد والتوكل كان ببجاية من بلاد ¬

(¬1) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 243 , 244.

المغرب , وكان يقول بترك الأسباب التي يرتزق بها الناس , وكان قوي اليقين ويدعو الناس إلى مقامه والإشتغال بالأهم من عبادة الله فترك الحرفة وجلس مع الله على ما يفتح الله له وكان طريقة عجيبة مع الله في ذلك الجلوس فإنه كان يرد شيئا يؤتى إليه به فقيل له يا أبن أبا مدين لم لا تحترف أو لم لا تقول بالحرفة أي في ترك الأسباب والأكل من الكسب وإنه الأفضل من غير الكسب فقال بها فقيل فلم لا تحترف فقال " الضيف عندكم إذا نزل بقوم وعزم على الإقامة كم تواقيت زمان وجوب ضيافته عليهم قالوا " ثلاثة أيام " قال " وبعد الثلاثة الأيام " قالوا " يحترف ولا يقعد عندهم حتى يحرجهم " فقال رضي الله عنه " ألستم تعلمون أن الضيف إذا نزل بقوم وجب بالنص عليهم القيام بحقه ثلاثة أيام إذا كان مقيما ولو أن الضيف في تلك الأيام أكل من كسبه أليس كان العار يلحق بالقوم الذين نزل بهم " فقالوا " نعم " قال الشيخ " الله أكبر أنصفونا إن أهل الله رحلوا عن الخلق ونزلوا بالله أضيافا عنده فهم في ضيافة الله فنحن أضياف ربنا تبارك وتعالى نزلنا عليه في حضرته على وجه الإقامة عنده إلى الأبد فتعينت الضيافة فإنه تعالى ما دام على كريم خلق لعبده إلا كان هو أولى بالأنصاف به فضيافتنا ثلاثة أيام " ثم قال " وأيام ربنا كما قال كل يوم كألف سنة مما تعدون فضيافته بحسب أيامه ونحن نأخذ ضيافته على قدر أيامه فإذا أقمنا عنده ثلاثة آلاف سنة وإذا أكملت الثلاثة أيام الله من نزلنا عليه وأنقضت لا نحترف ولا نأكل من كسبنا عند ذلك يتوجه اللوم وأعتراضكم علينا وإقامة مثل هذه الحجة علينا ونحن نموت وتنقضي الدنيا ويبقى لنا فضله عنده تعالى من ضيافتنا " (¬1). ثم علّق عليه المؤلف بقوله: " أنظر يا أخي ما أحسن نظر هذا وما أعظم موافقته للسنة فلقد نور الله قلب هذا الشيخ , فحق الضيف واجب ولذلك أستحسن ذلك منه المعترض وأنظر من هذا النَفَس إن كنت منهم. وأتفق للشيخ وكان وقته التجريد وعدم الإدخار أن نسي في جيبه دينارا وكان كثيرا ¬

(¬1) شرح كلمات الصوفية جمع محمود محمود الغراب ص 277 , 278 ط القاهرة 1402هـ.

ما يرتب منقطعا في جبل الكواكب وكانت هناك غزالة تأتي إليه فتدر عليه فيكون ذلك قوته فلما جاء إلى الجبل جاءت الغزالة وهو محتاج إلى الطعام فمد يده على عادته إليها ليشرب من لبنها فنفرت عنه وما زالت تنطحه بقرونها وكلما مد يده إليها نفرت منه ففكر في سبب ذلك فتذكر الدينار فأخرجه من جيبه ورمى به في موضع فقده ولا يجده فجاءت إليه الغزالة وآنست به ودرّت عليه (¬1). ونقل العطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: " خرجت إلى البرية متوكلا على الله تعالى فما وجدت فيها شيئا للأكل مدة طويلة فخطر على بالي أن أذهب إلى صديقي وآكل من عنده , فهتف بي هاتف: إن الله طهر الأرض من المتوكلين؟ قلت: ما هذا الصوت؟ ثم هتف هاتف: من أراد أن يأكل من بيت صديقه فليس بمتوكل (¬2). هذا وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على خلاف ذلك تماما , وفيه ردّ واف على الفكرة الصوفية الباطلة المخترعة التي تناقض أسوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته الطيبة المباركة فيروي أبو هريرة رضي الله عنه ويقول: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة , فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) قالا: الجوع. قال: (وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما , قوموا) , فقاموا معه , فأتى رجلاً من الأنصار , فإذا هو ليس في بيته , فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين فلان؟) قالت ذهب يستعذب لنا الماء , إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه , ثم قال: الحمد لله , ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني , قال: فأنطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب , فقال: كلوا من هذه , وأخذ المدية , فقال له رسول الله ¬

(¬1) أيضا ص 278 , 279. (¬2) تذكرة الأولياء للعطار ص 60.

صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) , فذبح لهم , فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا (¬1). فمن المتوكل؟ رسول هذه الأمة المجيدة , أم مشايخ الصوفية؟. وأعتمادا على توكلهم الغير الشرعي كانوا يخرجون للحج بدون زاد ولا راحلة كما يذكر أبن عجيبة الحسني عن إبراهيم الخواص أنه يقول: " لقيت فقيرا في البادية فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: الذي يمسك السموات والأرضين ويحفظهما لا يعجزه قوتي بلا سبب ولا علاقة. فقلت: صدقت " (¬2). وحكى أيضاً عن بعض مشايخه أنه " دخل برية الحجاز مع أصحابه بغير زاد , فلما طالت عليهم المدة وأجهدهم الجوع , أنحرف الشيخ عن طريق وهزّ شجرة , فأسقطت رطبا جنيا فأكلوا منها الاشابا , فقال له الشيخ: لم لم تأكل؟ قال: إني نويت التوكل على الله ورفضت الأسباب جملة , فيكف أجعلك عندي بمنزلة السبب حتى تكون النفس متشوقة لما علمت منك , ثم لم يصحبهم تصحيحا ليقينه وإتماما لعقده " (¬3). وكذلك ذكر الجعلي الفضلي في طبقاته كثيرا من الصوفية الذين خرجوا للحج لا زاد معهم ولا ماء (¬4). ونقل العطار عن إبراهيم بن أدهم أنه خرج إلى الحج مع أصحابه فقال له أصحابه في ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 316. (¬3) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 441. (¬4) أنظر كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 61 ط المكتبة الثقافية بيروت.

الطريق: ليس عندنا شيء من الزاد فقال: توكلوا على الله وأنظروا إلى تلك الشجرة التي صارت ذهبا , فنظروا فإذا الشجرة من ذهب (¬1). وروى ابن الملقن عن فتح الموصلي أنه قال: " رأيت غلاماً بالبادية لم يبلغ الحلم , وهو يمشي وحده ويحرك شفتيه , فسلّمت عليه , فرد علي السلام , فقلت: إلى أين؟ قال: إلى بيت ربي , فقلت: وبماذا تحرك شفتيك؟ فقال: أتلو كلام ربي. فقلت له: إنه لم يجر عليك قلم التكليف , فقال: رأيت الموت يأخذ من هو أصغر مني سناً. فقلت: خطوك قصير , وطريقك بعيد , فقال: إنما عليّ نقل الخطا وعليه الإبلاغ. فقلت: فأين الزاد والراحلة؟ قال: زادي يقيني , وراحلتي رجلاي " (¬2). وأما تعاليم الإسلام فهي بعكسها تماما كما روى عن أبن عباس رضي الله عنه قال: " كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون , فإذا قدموا مكة سألوا الناس , فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (¬3). ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ورفاقه البررة بهذا النوع من التعطيل بل أمرهم بالطلب والعمل حيث قال: (إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها , ألا فاتقوا الله , وأجملوا في الطلب) (¬4). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رجل: " يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: (أعقلها وتوكل) (¬5). وأما التوكل الصوفي فليس إلا إيثاراً للخمول والجلوس في الروابط والخانقاوات , وهروبا عن الجدّ والكدّ , والاجتهاد والجهاد كما يذكر السهروردي في عوارفه رواية ¬

(¬1) تذكرة الأولياء للعطار ص 64. (¬2) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 277 , 278. (¬3) رواه البخاري. (¬4) رواه في شرح السنة والبيهقي في شعب الإيمان. (¬5) رواه الترمذي.

عن داود بن صالح قال: " قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي , هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {أصبروا وصابروا ورابطوا}؟ قلت: لا , قال: يأبن أخي , لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يربط فيه الخيل , ولكنه إنتظار الصلاة بعد الصلاة , فالرباط لجهاد النفس والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه. قال الله تعالى {وجاهدوا في الله حق جهاده} قال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حق الجهاد , وهو الجهاد الأكبر , على ما روى في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر). وقيل: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب علي مردود , فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته أختلت أمور المسلمين وغلب الكفار , فلا بد من الغزو والجهاد وفكتب إليه: يا أخي , لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم على سجاداتهم: الله أكبر , أنهدم سور قسطنطينية " (¬1). هذا وأن هناك أنواعا أخرى من تطرفات المتصوفة في إظهار التواضع والذّل , والرضا بالدون والمسكنة وهوان النفس , والسقوط في أعين الناس , فمن الصوفية المصابين بهذا النوع من التطرف الذي سموه خشوعاً وتواضعاً ورياضة للنفس , أستاذ الجنيد أبو الحسن الكريني كما ينقل عنه أبو طالب المكي وابن عجيبة أنه قال: " نزلت في محله فعرفت فيها بالصلاح فتشتت قلبي فدخلت حماما في جوف المحلة وعنيت على ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها , ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت أمشي قليلا قليلاً ليفطن بي , فلحقوني فنزعوا مرقعتي واستخرجوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً , فصرت أعرف في الناحية بلص الحمام , فسكنت نفسي " (¬2). ويخرج نفسه عن حدّ الكرامة الإنسانية ويجعلها بمنزلة الكلب في حكاية ذكروها ¬

(¬1) عوارف المعارف للسهروردي ص 105 ط دار الكتاب العربي بيروت. (¬2) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج2 ص 74 , أيضا إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 405.

أن رجلا دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يردّه , فرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله المنزل في المرة الرابعة , فسأله عن ذلك , فقال: قد ريّضت نفسي على الذلّ عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد , ثم يدعى فيرمي له عظم فيجيء (¬1). وأغرب من هذا ما ذكره النفزي الرندي نقلا عن أبي الحسن علي بن عتيق بن يوسف القرطبي صاحب كتاب بغية الطالب ومنية الراغب أنه رأى أبا محمد بن عبد الله مفيد وهو يمشي في يوم شات كثير الطين , فأستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها , قال: فرأيته قد لصق بالحائط وعمل للكلب طريقاً ووقف ليجوز , وحينئذ يمشي هو , فلما قرب منه الكلب قال: فرأيته قد ترك مكانه الذي كان فيه ونزل أسفل , وترك الكلب يمشي فوقه , قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته وعليه كآبة , فقلت له: يا سيدي , إني رأيتك صنعت الآن شيئا استغربته , كيف بنفسك في الطين وتركت الكلب يمشي في الموضع النقي؟ فقال لي: بعد أن عملت له طريقا تحتي ففكرت , فقلت: ترفعت على الكلب , وجعلت نفسي أرفع منه , بل هو والله أرفع مني وأولى بالكرامة (¬2). فهذا هو التواضع والانكسار عند الصوفية , يظنون الترفع على الكلاب تكبرا موجباً لسخط الله تعالى ومقته , ولقد صرح بذلك ابن عجيبة الحسني حيث قال: " من رأى لنفسه قيمة على الكلب فهو متكبر ممقوت عند الله " (¬3). وقال الآخرون من الصوفية: " من ظنّ أن نفسه خير من نفس فرعون فقد أظهر الكبر " (¬4). وأما أحمد بن أبي الحسين الرفاعي فأكرم كلباً إظهارا لتواضعه وهو أنه وقلة شأنه وإذالالا لنفسه , فيذكرون عنه أنه وجد كلباً أجرب أخرجه أهل أم عبيدة إلى محل بعيد , ¬

(¬1) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 159 , أيضا قوت القلوب للمكي ج 2 ص 74. (¬2) غيث المواهب العلية للنفزي ج 2 ص 159 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود , أيضا إيقاظ الهمم ص 406. (¬3) إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 404. (¬4) أنظر الرسالة القشيرية ج 1 ص 115 , الأخلاق المتبولية للشعراني ج 3 ص 207 , أيضا الطبقات الكبرى له أيضا ج 1 ص 83.

فخرج معه إلى البرية وضرب عليه مظلة وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه ويحت الجرب منه بخرقة , فلما برئ حمل له ماء مسخناً وغسلّه (¬1). ثم علّق على صنيع الرفاعي هذا ساتراً إياه بقناع التقدس والتأله بقوله: " كان قد كلفه الله تعالى بالنظر في أمر الدواب والحيوانات " (¬2). وليس ذلك فحسب بل ذكر عنه أبو الهدى الرفاعي أنه كان يبتدئ من لقيه بالسلام حتى الأنعام والكلاب , وكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً (¬3). وحكوا عن عبد الرحيم القناوي أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف فقام له إجلالا. لا ندري من أين أخذ الصوفية هذه الآداب والطرق لرياضة النفس وإذلالها؟ ومن الذي أمر بالإنكسار والتخشع والتذلل بين يدي الكلاب والخنازير؟ وما معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (¬4). وقوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬5). ونذكر أخيراً في هذا المعنى ما نقلوه عن علي سيرجاني أنه دعا الله يوماً بضريح شجاع الدين الكرماني أن يرسل إليه ضيفاً يأكل معه إذ جاء كلب فطرده , فهتف هاتف: تطلب ضيفاً ثم تطرده , فحزن جداً وخرج للبحث عنه ووجده في برية , فقدم إليه طعاماً فلم يأكل , فتاب الشيخ إلى الله وأناب إليه. فنطق الكلب: أحسنت يا شيخ , لو عملت هذا الصنيع بموضع غير ضريح الشيخ شجاع الدين لعوقبت عقاباً شديداً (¬6). ¬

(¬1) قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 62 , أيضاً طبقات الشعراني ج 2 ص 112. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 112. (¬3) قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر لأبي الهدى بالرفاعي ص 62 , 63 , أيضا طبقات الشعراني ج 1 ص 112. (¬4) سورة الإسراء الآية 70. (¬5) سورة التين الآية 4. (¬6) تذكرة الأولياء للعطار ص 171.

ومن الحكايات التي يسردها الصوفية بياناً لتواضع مشايخهم ما ذكرها اليافعي نقلاً عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: " ما سررت بشيء كسروري يوماً كنت جالسا فجاء إنسان وبال عليّ " (¬1). ونقل السلمي عن أبي محمد الراسي أنه قال: " لا يكون الصوفي صوفياً حتى لا تقلّه أرض ولا تظله سماء , ولا يكون له قبول عند الخلق " (¬2). وقال آخر: " الصوفي كالأرض يطرح عليه كل قبيح ويطؤه البرّ والفاجر " (¬3). وذكر الشعراني في طبقاته حكاية أبي العباس أحمد بم مسروق بياناً لتواضعه وانسلاخه عن التكبر وتجرده عن الترفع , فيقول: " جاءه مرة شخص فدخل داره لوليمة كانت عند أبي العباس بلا دعوة , فقال أبو العباس: لله علي أن أدعه يمشي إلا على خدّي حتى لأجلس موضع الأكل فوضع خده على الأرض ومشى عليه الرجل إلى أن أبلغ إلى موضع جلوسه , وصار يقول: مثل هذا الرجل يتواضع لي ويحضر وليمتي , بأيّ شيء أكافئه؟ " (¬4). فبمثل هذه التفاهات كانوا يتصنعون التواضع , ويتكلفون به , ويتجاوزون إلى التهاون والتخاذل الغير معهود في السلف الصالح. وأحيانا يأمرون مريديهم بحلق اللحية وتعليق المخلاة في رقبته إذلالا لنفسه وإسقاطاً لجاهه (¬5). ويقول محمد بن أبي الحسن: مددت رجلي يوماً بعد صلاة المغرب , فهتف بي هاتف: ¬

(¬1) نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 97 بهامش جامع الكرامات للنبهاني , أيضا إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 412. (¬2) طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص 126. (¬3) إيقاظ الهمم ص 5. (¬4) طبقات الشعراني ج 1 ص 63. (¬5) أنظر النور من كلمات أبي طيفور ص 113 ضمن شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي ط الكويت , أيضاً إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 36.

أهكذا تجالس الملوك؟ (¬1). ولا شك أن هذا تدّين زائد على السنة , لا يعتبر تواضعاً إسلامياً. بل زّينه الشيطان وأما نسبة قول إلى هاتف فإنها كثيرة في كتبهم ومقولاتهم , يخترعون شيئاً وينسبونه إلى الهاتف ويعنون به ملكاً من الملائكة , وأحياناً يدّعون أن الله سبحانه جلّ شأنه هو الذي خاطبهم وهتف بهم كما بيّنا في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (¬2). ونختم الكلام في موضوع التطرف في التواضع على ما ذكره الشعراني كقاعدة عامة لجميع المتصوفة حيث قال: " لا يصلح هذا الأمر إلا لأقوام قد كنسوا بأرواحهم المزابل على رضا منهم وأختيار " (¬3). وهناك تطرفات صوفية أخرى في أمور الدين والدنيا نذكر بعضا منها إجمالا وفيقول السهروردي عبد القاهر: " من عرف عن يمينه وشماله في الصلاة متعمداً فلا صلاة له " (¬4). وينتقل الشعراني عن إبراهيم المتبولي أنه قال: " كل من رجع الذهب على التراب فصلاته باطلة " (¬5). وذكر أبو طالب المكي عن بعض الصوفية أنه قال: " العامة يتوبون من سيئاتهم , والصوفية يتوبون من حسناتهم " (¬6). وأيضاً " من تاب من تسعة وتسعين ذنباً لم يتب من ذنب واحد لم يكن عندنا من التائبين " (¬7). وقالوا: " التوبة فرض كل عبد في كل نفس " (¬8). ¬

(¬1) نفحات الأنس للجامي ص 128. (¬2) أنظر الباب الثالث التشيع والتصوف. (¬3) طبقات الشعراني ج 1 ص 88. (¬4) عوراف المعارف للسهروردي ص 320 دار الكتاب العربي بيروت. (¬5) الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1ص 156. (¬6) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 1 ص 189. (¬7) أيضا ص 191. (¬8) طبقات الشعراني ج 2 ص 93.

وحكى الكلاباذي عن التستري أنه قال: " من غمض عن الله طرفة عين فلا يهتدي طول عمره " (¬1). وقال الشبلي كما نقل عنه السلمي في طبقاته: " سهو طرفة عين عن الله لأهل المعرفة شرك بالله " (¬2). وحكى عماد الدين الأموي إبراهيم الخواص أنه كان يتكلم في العلم وحوله جماعة إلى أن طلعت عليه الشمس وحميت حتى وجدت حرها وهو جالس لا يعبأ بها. فلما أشتدت قلت له: يا سيدي , ما ترى أن تقوم إلى الظل؟ فقال: ويلك , ما تدلني إلا على الشرك (¬3). وقال الشاذلي: " لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين " (¬4). وقال إبراهيم المتبولي: " من رفع بصره إلى شيء بغير نية الاعتبار كتبت عليه خطيئة " (¬5). وأخيرا ننقل من القوم أنهم قالوا: " مبنى التصوف على أخلاق ثمانية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: السخاء وهو لإبراهيم , والرضا وهو لإسحاق , والصبر وهو لأيوب , الإشارة وهي لزكريا , والغربة وهي ليحيى , ولبس الصوف وهو لموسى , والسياحة وهي لعيسى , والفقر وهو لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين " (¬6). فهذه هي دعواهم , وتلك هي أقاويلهم وأفاعيلهم مبنية على مخالفة الكتاب والسنة ¬

(¬1) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 78. (¬2) طبقات الصوفية للسلمي ص 83. (¬3) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب لعماد الدين الأسوي. (¬4) الأخلاق المتبولية للشعراني. (¬5) الأخلاق المتبولية للشعراني. (¬6) المصدر السابق.

ومنافيه لما جاءت به الشريعة السماوية السمحة ومناقضة لأعتدال الإسلام وقصد السبيل , وتقدم بين يدي الله ورسوله , وتجاوز عليهما , وتعنت غير محبوب , وتقشف غير محمود , لم ينزل الله به من سلطان. وكذلك يدخل في مناقضة الصوفية تعاليم الدين ومخالفتهم شرع الله أمور أخرى كثيرة خالف فيها المتصوفة نصوص القرآن والسنة , فجمعوا بين الشيئين: الإتيان بما لم ينطق به كتاب الله وسنة رسول الله , والمخالفة لما ورد فيهما. كما جاؤوا ببدع وخرافات أخرى , جعلوها دينا وليست من الدين , نريد أن نذكرها في باب مستقل يلي هذا الباب لكي يعرف القارئ ويعلم الباحث بأن التصوف ليس إلا تطرفاً في السلوك والأحوال والمعاملات , ومخالفة المنطوق والمنصوص في المعاملات والعبادات , وليس إلا ترويجاً للخرافات والبدعات. وبالله التوفيق.

الباب الثاني التصوف ومخالفة الشريعة

الباب الثاني التصوف وَمخالفَة الشّريعَة إننا ذكرنا في الباب الذي سبق أن الشريعة عبارة عن الكتاب والسنة , والله أمر المؤمنين بالتمسك بهما فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬1). كما قال أيضاً: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). وقال رسوله صلوات الله وسلامه عليه: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله) (¬3). فالمؤمن ملزم بأن يأتي ما أمره الشرع بعمله وأن يترك ما أمره الشرع بتركه: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4). وأنه لمسلوب الخيار أمام أوامر الله ورسوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬5). فالطيب ما طيبه الله ونبيه , والحسن ما حسّنه الله ورسوله , والمسنون والمستحب ما أستحبه الله ومرسله , وكذلك القبيح والمذموم ما قبحه الله أو ذمّه رسول الله صلى الله ¬

(¬1) سورة النساء الآية 59. (¬2) سورة النساء الآية 115. (¬3) رواه مالك في الموطأ. (¬4) سورة الحشر الآية 7. (¬5) سورة الأحزاب الآية 36.

عليه وسلم , وليس للعقل فيه رأي ولا للرأي فيه دخل , والأصل في العبادات المنع , كما أن الأصل في المعاملات الإباحة مع مراعاة (الحلال بيّن والحرام بيّن , وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس , فمن أتقى الشبهات أستبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى , ألا وأن حمى الله محارمه) (¬1). وإن المتصوفة كما لم يقتدوا بأسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملاتهم من الأكل والشرب واللبس والراحة والكسب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا , ولو يتبعوا خطوات ذلك النبي الذي ذكره الرب جل مجده في قرآنه وفرقانه {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). كذلك لم ينهجوا منهجه , ولم يسلكوا مسلكه , وما اقتفوا أثره وأهتدوا بهديه , وما أتبعوا سنته في الطاعات والعبادات , فزادوا عليها أشياء من عند أنفسهم كما وكيفا , كما أضافوا إليها أشياء لم تكن معهودة منقولة عن النبي المختار وخلفائه الراشدين الأبرار وأصحابه الطيبين الأخيار , فضلّوا وأضلّوا , وحادوا عن الجادة المستقيمة والمحجة البيضاء التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عليها , ليلها كنهارها , لا يضّل سالكها ولا يهتدي تاركها , فضلّت مساعيهم بدل أن تكون مشكورة , وخسرت جهودهم وردت بدل أن تكون مقبولة , وحبطت أعمالهم بدل أن تكون نافعة محمودة , لتقدمهم بين يدي الله ورسوله , واستصغارهم وتقلّلهم عمل رسول الله في عباداته ضيعتهم في معاملاته , واستحقارهم سنة من كان أخشى الناس وأتقاهم لله , فصاروا كالذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً , فخالفوا أوامر ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) سورة الأعراف الآية 157.

النبي ومنهياته زيادة ونقصاناً مفرطين في أشياء ومفرّّطين في أخرى. كما تجاسروا على أنزالهم أنفسهم ومشائخهم على مرتبة التشريع والتقنين , فأوجدوا أشياء , وأبتدعوا أعمالا وجعلوها من الدين ناسين قول الخالق المتعال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬1). فابتعدوا عن الجادة , وتفرقت بهم السبل , وصلّ عنهم سواء السبيل التي هي سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين كما هو مبين في القرآن المجيد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). و {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬3). فخسروا خسرانا مبيناً. ونحن نذكر في هذا الباب مخالفات المتصوفة للقرآن والسنة وبعض بدعهم التي أخترعوها ومحدثاتهم التي أبتدعوها تقربا إلى الله ووصولا إلى معرفته وابتغاء لمرضاته حسب زعمهم كما ذكرنا في الباب الذي سبق تطرفاتهم وتقشفاتهم التي لم ير لها أثر فيهما ولا في سيرة المؤمنين الأولين الذين نزل القرآن بينهم والذين تتلمذوا على مبيّن القرآن صلوات الله وسلامه عليه. فنذكر في هذا الباب مخالفة المتصوفة لصريح القرآن والسنة ونصوصهما الظاهرة الصريحة. من المعلوم في القرآن والسنة أن الله خلق الخلق وأمرهم بعبادته , وأرسل إليهم الرسل تترى , وختمهم بمحمد خاتم النبيين وأشرف المرسلين صلى الله عليه وسلم لكي يهدوهم إلى وحدانيته وعبادته , وخلق الجنة لمن أطاعهم من خلقه وعبده وحده , ¬

(¬1) سورة الشورى الآية 21. (¬2) سورة الأنعام الآية 153. (¬3) سورة يوسف الآية 108.

وخلق النار لمن غوى وعصى أوامر ربهم وطغى إرشادات أنبيائهم , فرغبهم في الطاعة بالجنة , وأرهبهم عن المعصية بالنار , فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). كما قال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬2). {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬3). وذكر أهل الفوز من أهل الخسران بقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬4). فإن أهل السعادة من رغبوا في جنته ورهبوا من النار , فأطاعوه وأطاعوا رسله , وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم , وعملوا بما أمروا فدخلوا الجنة. وأهل الشقاء من لم يرغب في الجنة ولم يرهب من النار , فعصوا الله ورسله وكفروا بما أنزل إليهم من ربهم. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ {106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {107} وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ {108} (¬5). {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬6). ¬

(¬1) سورة آل عمران الآية 133. (¬2) سورة آل عمران الآية 131. (¬3) سورة التحريم الآية 6. (¬4) سورة آل عمران الآية 185. (¬5) سورة هود الآية 106 , إلى 108. (¬6) سورة النساء الآية 13.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬1). ووصف المؤمنين بأنهم يدعون ربهم جنته رغبة فيها ويستغفرون من النار رهبة منها {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2). {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬3). وبيّن أحوالهم بأنهم لا يستريحون خوفا من عذابه وطمعاً في ثوابه فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (¬4). {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (¬5). {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬6). وهناك الدنيا والآخرة , وهناك يوم الفصل ويوم الدين , وإن الدنيا لمزرعة للآخرة , ويوم الفصل يحكم بين العباد فينظر فيما أمروا في الدنيا , وعلى ذلك يحكم لهم بما يستحقونه في الآخرة , فقوم جعلوا نصب أعينهم الدنيا وحدها , وقوم تركوا دنياهم لآخرتهم فزهدوا فيها , وقوم جمعوا بين الحسنين ففازوا بنعيم الدنيا ونعيم الآخرة , وعن هذا كله أخبر الرب تبارك وتعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ {200} وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} (¬7). وقال: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬8). ¬

(¬1) سورة الجن الآية 23. (¬2) سورة البقرة آية 201. (¬3) سورة آل عمران آية 16. (¬4) سورة السجدة الآية 16. (¬5) سورة الإسراء آية 57. (¬6) سورة الأنبياء الآية 90. (¬7) سورة البقرة آية 200 إلى 202. (¬8) سورة الدخان آية 40.

و {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ {90} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ {91} (¬1). و {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} (¬2). والآيات في هذه المعاني كثيرة جداً. ومثلها بل أكثر منها بأضعاف أحاديث نبوية شريفة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحبُّ الخلائق إلى الله وأحبهم لله , الذي قال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬3). كان أكثر الناس سؤالاً لجنته واستعاذة من النار فكان يقول: (اللهم إني أعوذ أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل , وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل) (¬4). وروى الشيخان أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار) (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا , فعمّ وخصّ , فقال: (يا بني كعب بن لؤيّ , أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني مرة بن كعب , أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني عبد شمس , أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني عبد مناف , أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني هاشم , أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني عبد المطلب , أنقذوا أنفسكم من النار , يا فاطمة , أنقذي نفسك من النار , فإني لا أملك لكم من الله شيئا , غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) (¬6). فهذا هو منطوق القرآن والسنة. وأما المتصوفة فلا يرون الأمر كذلك , فلا الدنيا عندهم ولا الآخرة , ولا الخوف ¬

(¬1) سورة الشعراء آية 90 - 91. (¬2) سورة الإنفطار آية 13 - 14. (¬3) سورة الفتح آية 2. (¬4) أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. (¬5) متفق عليه. (¬6) رواه مسلم.

ولا الطمع , ولا الجنة ولا النار , بل كثيراً ما يستهزؤن بها ويسخرون بذكرها , فنقلوا عن رابعة العدوية البصرية أنها كانت تنشد: " يعبدون الله خوفاً من لظى ... فلظى قد عبدوا لا ربنا ولدار الخلد صلّوا , لا له ... شبه قوم يعبدون الوثنا " (¬1). وذكرها العطار فقال: " جاء إليها رجال من أهل الله فسألت أحدهم: لماذا تعبد الله؟ فقال: خوفاً من عقابه والجحيم التي برزت للغاوين. فسألت الآخر فقال: طمعاً في جنته التي أعدت للمتقين. فقالت: أما أنا فما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعا في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه " (¬2). وورد مثل هذا في روضة التعريف بالحب الشريف أيضاً (¬3). وروى الجلمي عنها أنها قالت: " وعزتك ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك , بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك " (¬4). وعلى ذلك قال المنوفي الحسيني بعد ذكر رابعة العدوية , وجويرية , ورابعة الدمشقية وغيرهن: " أولئك اللواتي طمعن في رحمة الله وأحببته لا رهبة من عقابه , ولا طمعاً في ثوابه " (¬5). وأنشدت أيضاً: أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حبّ الهوى ... فشغلي بذكرك عمّن سواكا (¬6) ¬

(¬1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 49 ط المطبعة العامرية 1301هـ. (¬2) تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 42. (¬3) أنظر روضة التعريف لوزير الدين بن الخطيب ص 427. (¬4) نفحات الأنس للجامي (فارس) ص 544 ط إيران. (¬5) جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج1 ص 270. (¬6) التعرف لمذهب أهل التصوف ص 131 , 132 , قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 57 أيضاً روضة التعريف ص 427 , أيضاً نشر المحاسن الغالية لليافي ج 1 ص بعاصر جامع كروان كرامات الأولياء للشعراني ط دار صادر بيروت.

وذكر ابن عجيبة الحسني أنها قالت: كلهم يعبدونه من خوف نار ... ويرون النجاة حظاً جزيلا أو بأن يسكنوا الجنان فيضحوا ... في رياض ويشربوا السلسلبيلا ليس لي في في الجنان والنار رأي ... أنا لا أبتغي بحبي بديلا (¬1) وأكثر من ذلك ما نقله كل من القشيري والعطار والكلاباذي والكمشخانوي وغيرهم: " مرضت رابعة العدوية فقيل لها: ما سبب علّتك؟ فقالت: نظرت إلى الجنة بقلبي فغار عليّ قلبي , فأدبني وقد آليت وحلفت أن لا أعود " (¬2). وليس هذا الإستغناء عن الجنة والخوف والرهبة , فحسب بل أكثر من ذلك نقل الشعراني استهزاءها بالجنة ونعيمها , والقرآن الكريم , فيقول: " سمعت رابعة العدوية رضي الله عنها شخصا يتلو قوله عز وجل {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ {20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير " (¬3). وليست رابعة العدوية وحدها من ينقلون عنها استغناءها عن الجنة واستحقار ذكرها , وعدم اهتمامها بالخوف والرجاء , والرهبة والرغبة , بل هذا هو موقفهم ومشربهم , فينقلون ذلك عن الآخرين أيضاّ , فيقول السلمي والهجويري والسهلجي والمنوفي الحسيني: " إن أبا يزيد البسطامي الذي قال فيه الجنيد البغدادي كما يروون: أبو يزيد منا بمنزلة ¬

(¬1) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 32 ط مصطفى الباب , أيضا هامش المعارضة والرد لمحمد كمال جعفر ص 137. (¬2) أنظر الرسالة القشيرية ج 2 ص 516 , أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 34 , أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف ص 184 , أيضا جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 119 واللفظ له. (¬3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71.

جبريل من الملائكة (¬1). فكان يقول: " الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة , وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم " (¬2). ونقل ابن العريف عنه أيضاً أنه كان يسخر بالثواب ولم يكن يبالي بالعقاب , وكان يقول مخاطبا للرب تعالى: " أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب " (¬3). وكان يستهزئ بالجنة بقوله: " لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضجّ أهل النار من النار " (¬4). وقال أيضاً في هذا المعنى: " من عرف الله صار للجنة ثواباً , وصارت الجنة عليه وبالا " (¬5). كما كان يستهزئ بالنار , فينقل عنه أنه كان يقول: " وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على باب جهنم. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد (¬6). وأخيراً ما ذكر عنه السهلجي في ازدرائه واستصغاره الجنة حيث يروي عن ابن أخي أبي يزيد أنه قال: " حدّثني أبي عن أبيه عن أبي يزيد أنه جاء حاتم الأصمّ زائراً له فقال حاتم: قد ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 313. (¬2) طبقات الصوفية للسلمي ص 19 , كشف المحجوب للهجويري ص 318 , جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 139 أنظر النور في كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 169 نشر الدكتور البدوي ط الكويت. (¬3) محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد الصوفي الصنهاجي بن العريف ط باريس 1933م أيضا شرح كلمات الصوفية جمع محمود محمد الغراب ص 180. (¬4) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 147. (¬5) أيضاً ص 118. (¬6) أيضاً ص 147.

قلت لتلامذتي: من لم يكن منكم يوم القيامة شفيعاً في أهل النار فيدخلهم الجنة لم يكن لي تلميذاً. فقال له أبو يزيد: ولكن قد قلت أنا لهم: ليس من تلاميذي إلا من وقف يوم القيامة , فكل من أمر من الموحدين إلى النار أخذ بيده وأدخله الجنة " (¬1). ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يستهزئ بنعيم الجنة بدعائه: " اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة " (¬2). والشبلي الذي قال عنه الجنيد: " لكل قوم تاج , وتاج هذا القوم الشبلي " (¬3). ينقلون عن تاج قومهم هذا أنه كان يدعو: " اللهم أخبأ الجنة والنار خبايا غيبك حتى تعبد بغير واسطة " (¬4). ومن استهزائهم بالجحيم ونيرانها أنه قال في مجلسه: " إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفوها " (¬5). وكذلك كان يقول: " لو خطر على بالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشركاً " (¬6). ومن استخفافه بوعيد أهل النار أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فقال الشبلي: " ليتني كنت واحداً منهم " (¬7). وأما معروف الكرخي فيروون عنه " أنه عبد الله لا خوفاً من ناره , ولا شوقاً إلى جنته , فلذلك رؤى في النوم في حظيرة القدس جالساً في سرادق العرش شاخصاً ببصره ¬

(¬1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 98 , 99. (¬2) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 130. (¬3) نفحات الأنس للجامي ص 180. (¬4) كشف المحجوب للهجويري ص 577 ط دار النهضة العربية بيروت. (¬5) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 491. (¬6) أيضاً ص 490. (¬7) اللمع للطوسي ص 490.

ينظر إلى الله " (¬1). ونقل ذلك عبد الغني الرافعي أيضاً فقال: " قال بعض إخوان معروف الكرخي رضي الله عنه: أخبرني يا أبا محفوظ , أيّ شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت , فقال له: ذكر الموت؟ فقال: أيّ شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ؟ فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأيّ شيء هذا؟ ثم قال: إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا " (¬2). ونقل النفزي الرندي وأبو طالب المكي عن أبي حازم المدني أنه كان يقول: " إني لأستحي من ربي أن أعبده خوفاً من العذاب فأكون مثل عبد السوء إن لم يخف لم يعمل , وأستحي أن أعبده لأجل الثواب فأكون كالأجير السوء إن لم يُعط لم يعمل , ولكن أعبده محبة له " (¬3). وكتب الجامي في نفحاته أن محمد بن سعيد الزنجي سئل عن الرذيل من هو؟ قال: الذي يعبد الله خوفاً ورجاء. قالوا: وأنت لم تعبد؟ قال: خدمة وطاعة (¬4). ويقول الأنصاري الهروي المتوفى 481هـ: " الحرمة هي التحرج عن المخالفات والمجاسرات , وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى تعظيم الأمر والنهي. لا خوفاً من العقوبة ... فيكون خصومه للنفس ولا ... طلبا ... للجدّ ... فيكون مسترقّا للأجرة ¬

(¬1) قوت القلوب لأبي المكي ج 2 ص 56. (¬2) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 107. (¬3) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 242 , أيضا قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 56. (¬4) نفحات الأنس للجامي (فارس) ص 38.

ولا شاهداً للجدّ ... فيكون متديناً ... بالمراياة فإن هذه الأوصاف كلها شعب من عبادة النفس (¬1). وقال أيضا تحت عنوان الرجاء: " الرجاء أضعف منازل المريد لأنه معارضة من وجه , واعتراض من وجه , وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة " (¬2). وحكى عماد الدين الأموي وغيره أن داود عليه السلام أوحى إليه الرب تبارك وتعالى أن أودّ الأولاد إليّ عبدني بغير نوال ... ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار , لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً لأن أطاع " (¬3). ومن احتقارهم وأزدرائهم بالجنة ما ذكروا عن الصوفي عثمان بن عاشوراء أنه قال: " خرجت من بغداد أريد الموصل فأنا أسير , وإذا أنا بالدنيا قد عرضت لي بعزّها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومزيّناتها ومشتهياتها فأعرضت عنها , فعرضت عليّ الجنة بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها فلم أشتغل بها , فقيل لي: ياعثمان , لو وقفت مع الأولى لجبناك عن الثانية , ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنا " (¬4). ومثل نقل عن البسطامي أنه قال: " الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة , وكل من سكن إلى سواه فهو محجوب " (¬5). وقال الأموي: " الخواص من الأولياء زهدوا في الحور العين وغيرهم من النعيم للنظر إلى وجه الله تعالى , ثم أعرضوا عن الحور العين والقصور والإتكاء على الفرش والأرائك واللحوم والفواكه إلى مشاهدة كمال إله الكل " (¬6). وفي هذا المعنى نقل الشعراني عن محمد الحنفي أنه دخل الحمام يوماً مع الفقراء , ¬

(¬1) منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري الهروي ص 68 ط إنتشارات مولى نشر أفغانستان 1350هـ. (¬2) أيضاً ص 60. (¬3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 215 بهامش قوت القلوب , أيضاً غيث المواهب العلية. (¬4) غيث المواهب العلية ج 1 ص 180. (¬5) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 163. (¬6) حياة القلوب للأموي ج 2 ص 129.

فأخذ ماء من الحوض ورشّه على أصحابه , وقال: النار التي يعذب بها العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الماء في سخونته , ففرح الفقراء بذلك (¬1). فليشاهد القراء إلى الاستهزاء والاستخفاف وما أسوأه وأشنعه بالإضافة إلى النيل من شأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم , قيل: يا رسول الله , إن كانت لكافية (¬2) , قال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزء كلّهن مثل حرّها) (¬3). هذا ويقول الإسكندري: " من عبده لشيء يرجوه منه أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه فما قام بحق أوصافة " (¬4). ومن أهم ما روي في ذلك ما رواه ابن الملقن في طبقاته عن أبي الحسن بن الموفق المتوفى 265 هـ أنه قال: " اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فعذّبني بها. وأن كنت تعلم أني أعبدك حبا مني لجنتك وشوقاً إليها فأحرمنيها " (¬5). ورووا عن شاب كان قلبه على قلب إبراهيم الخليل كما يقولون , فينقلون عنه أنه كان يقول: " يا سماء ويا أرض أشهدا عني ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قط مثل إبراهيم الخليل " (¬6). فأنظر ما أجرأهم على الكذب , قطع النظر عن استحقار الجنة ونعيمها , التي لم يكن ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 2 ص 100. (¬2) أي أن هذه النار الدنيوية كافية في العقبى لإحتراق الكفار , فهلا أكتفي بها ولأي شيء زيد في حرّها (الألباني). (¬3) متفق عليه. (¬4) أنظر غيث المواهب ج 1 ص 239. (¬5) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 342. (¬6) المصدر السابق.

نبي من الأنبياء إلا وقد سألها وطلبها من ربه مع ما فيهم سيد الأنبياء وأشرف المرسلين محمدنا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم , وجدّ نبينا إبراهيم الذي أتخذه الله خليلاً وأشتياقه إلى الجنة وطلبها من ربه مذكور محفوظ في كتاب ربه وربنا , الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , حيث حكى عنه الرب تبارك وتعالى إذ يقول: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {83} وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ {84} وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ {85} (¬1). هذا وقد ذكر السهلجي حكاية عن أبي موسى تدل على استخفاف الصوفية بالجنة ونيلهم من شأنها وعظمتها فيقول: " يؤتى يوم القيامة برجل من طريق النار على حالة أحسن ما يكون , فيراد أن يزداد الذي يؤتي من طريق النار ألما ووجعا فيقال له: ترى ذاك الذي يحمل إلى الجنة بتلك الزينة؟ وهو فلان. فيقول نعم , كنت سمعت أسمه في دار الدنيا. قال فيبلغ الله صوته ذلك الولي فيقف مكانه فيقال له: لم لا تذهب؟ فيقول: لا أبرح من مكاني حتى يكون معي من سمع باسمي , قال: فينادى: وهبناه منك , خذ بيده وأذهب به إلى الجنة - وكان الشيخ أبو عبد الله يقول إذا حكى هذه الحكاية: فيقول: هذا لمن سمع الإسم , فكيف لمن رأى وصحب " (¬2). فالمعنى أنهم استصغروا شأن الجنة ومقامها , وجعلوا دخولها من الأمور الهينة لا تحتاج إلى كثير عناء ومشقة , بل يكفي أن يسمع الإنسان أسم وليّ من أولياء الصوفية , وحسبه ذلك من دخول الجنة والبعد عن النار. وأكثر من ذلك أنهم نقلوا عنه أنه قال: " ما النار؟ لأستندن إليها , وأقول: اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ ¬

(¬1) سورة الشعراء الآية 83 إلى 85. (¬2) النور من كلمات أبي طيفور ص 68.

لعبة صبيان " (¬1). ومن احتقارهم الجنة ما رووه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول: " لو أتاني آت من ربي عز وجل فقال: أنت مخيّر بين الجنة والنار أو تصير تراباً لاخترت أن أصير تراباً " (¬2). وذكروا عن سليمان الداراني أنه قال: " إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة " (¬3). ومما يدّل على إظهار الرغبة عن الجنة وعدم الاهتمام بنعيمها أن الشعراني روى عن سيده أبي الفضل الأحمدي أنه كان يقول: " أرباب الأحوال تشتاق إليهم الجنة وهم لا يشتاقونها " (¬4). أفليس ترجيح كون التراب على دخول الجنة , وإظهار الرغبة عن نعيمها , عيشها وترفها , والزهد في حورها وقصورها وأنهارها وأثمارها , أليس كفرا بنعمة الله وجحوداً بها , وقد قال عز من قائل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬5). وقال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} (¬6). و {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (¬7). فهذه هي الجنة والنار , والثواب والعقاب , والرجاء والخوف عند الصوفية , وهذا هو ازدراؤهم واستحقارهم بها وبذكرها وبنعيمها خلافاً لسيرة المصطفين الأخيار وأحوال أصحاب خاتم النبيين الأبرار , ومنافيا لنصوص القرآن الصريحة , وأحاديث ¬

(¬1) مجموع نصوص غير منشورة عن أبي يزيد ص 31 نقلا عن " شطحات الصوفية " للدكتور عبد الرحمن بدوي ط الكويت. (¬2) طبقات الشعراني ج 1 ص 33. (¬3) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 107 ط. (¬4) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج2 ص 180. (¬5) سورة البقرة الآية 211. (¬6) سورة النحل الآية 83. (¬7) سورة العنكبوت الآية 67.

رسول الله الواضحة الجلية. وإن المتصوفة لا يأبهون بالدنيا والآخرة كما لا يأبهون بالجنة والنار والثواب والعقاب , فينقلون عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: " إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محباً فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما , وفرغ نفسك عنهما " (¬1). ومثل ذلك ذكر القشيري والشعراني عن الحسين بن منصور أنه قال: " علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة " (¬2). ونقلوا كذلك عن محمد المغربي الشاذلي أنه كان يقول: لا يصح لمريد قدم في طريق أهل الله عز وجل إلا بعد أن يزهد في الدنيا ونعيم الآخرة (¬3) ومثل ذلك ذكروا عن الجيلي أنه سئل عن الهمة فقال: " هي أن يتعرى العبد بنفسه عن حب الدنيا , وبروحه عن التعلق بالعقبى " (¬4). وروى عن الشبلي أنه سمع قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فصاح صيحة عظيمة وقال: فأين الذين يريدون الله تعالى (¬5). مع أن الله عز وجل ولم يفرّق بين إرادة الآخرة وإرادته هو سبحانه تعالى حيث قال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬6). فإرادة الآخرة نفس إرادة الله لا فرق بينهما. ومدح الله تعالى عباده الذين يريدون الآخرة ويسعون لها بقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬7). ¬

(¬1) كتاب المحبة للمحاسبي ضمن كتاب ختم الأولياء للترمذي ص 425 ط المكتبة الكاثوليكية بيروت. (¬2) الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري ج 2 ص 605 , أيضا طبقات الشعراني 1 ص 107. (¬3) الأخلاق المتبولية للشعراني تحقيق الدكتور منيع عبد الحليم محمود ج 1 ص 222. (¬4) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 127. (¬5) طبقات الشعراني ج 2 ص 72. (¬6) سورة الأنفال الآية 67. (¬7) سورة الإسراء الآية 19.

وجمع الله بين إرادته ورسوله والدار الآخرة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). فهذه هي بعض قواعد المتصوفة في الخوف والرجاء والثواب والعقاب والجنة والنار والدنيا والآخرة , وضعت لمخالفة منطوق القرآن وصريح السنة. وهناك مخالفات أخرى للقرآن والسنة في مختلف المجالات نورد بعضا منها مع ذكر الآيات والأحاديث التي يخالفونها. فمن المعروف أن الإسلام قلّما أكدّ وشدد في أكل الحلال وترك الحرام , وطلبه من المؤمنين كما قبل العبادات والطاعات لأنه من لم يكن طعامه ولحمه ودمه من حلال أنى تتأتى منه الحسنات , ويقبل عنه العبادات , ويستجاب له الدعوات. فأمر الله به المؤمنين كما أمر به الأنبياء والمرسلين , وقدمه على العمل الصالح والعبادة المقبولة فقال لأنبيائه وأصفيائه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬2). وقال مخاطبا للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬3). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكسب عبد مال حرام فيتصدق به فيقبل منه , ولا ينفق منه فيبارك له فيه , ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار , إن الله لا يمحو السيء بالسيء , ولكن يمحو السيء بالحسن , إن الخبيث لا يمحو الخبيث) (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت , وكل لحم نبت السحت كانت النار أولى به) (¬5). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيّب لا يقبل إلا ¬

(¬1) سورة الأحزاب الآية 29. (¬2) سورة المؤمنون الآية 51. (¬3) سورة البقرة الآية 172. (¬4) رواه أحمد وكذا في شرح السنة. (¬5) رواه أحمد وكذا في شرح السنة.

طيباً , وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين , فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا} , وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} , ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر , يمد يديه إلى السماء: يا رب , يا رب , ومطمعه حرام , ومشربه حرام , وملبسه حرام , وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) (¬1). ولكن الصوفية يرون عكس ذلك فإنهم يرون الكسب من الركون إلى الدنيا , ويبقون متعطلين عالة على الناس لا يعلمون , ويعيشون على عطيات الناس من هبّ منهم ودب , وقد مرّ بيان ذلك مفصلاَ (¬2). وليس هذا فحسب , بل ذكروا أن عديدا منهم كانوا يتعاطون الحرام فيشربون الخمر ويأكلون الأفيون والبنج والحشيش , ويتناولون المخدرات والمسكرات فواحداً منهم ذكرناه في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " الذي يقولون عنه: أنه كان مستجابا الدعوات , ومحللاً المشكلات , وما دعا شيئا قط إلا وقد أعطي , وكان يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات المسكرات , وصار مزاره مهبط الأنوار ومحطّ البركات مثل ما كان هو في حياته (¬3). ومثله الصوفي المشهور عين الدين المتوفي 822 هـ " كان يشرب الخمر ليلاً ونهاراً " (¬4). ومنهم الشيخ الشرياني القصوري المتوفى 1043 هـ " كان قبله الحاجات وكعبة السائلين والطالبين , ولم يكن يقضي لحظة بدون الخمر " (¬5). وليس هذا فحسب , بل أجتراء القوم وقالوا: " وحكي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه قال: كان بصحبتي رجل كثير الصوم والصلاة فعجبت من ذلك , ثم نظرت في مأكوله من موضع غير طيب , قال: فأمرته ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) أنظر الباب الأول من هذا الكتاب " التطرف من لوازم التصوف ". (¬3) تذكرة أولياء باكستان للدكتور شارب ج 2 ص 259 وما بعد. (¬4) أنظر تذكرة أولياء بر صغير للميرزه أختر الدهلوي ج 1 ص 203. (¬5) أيضاً ج 2 ص 103 , 104.

بالخروج من ملكه وأخرجته معي في سفر , فكنت أطعمه الحلال من موضع أعرفه وأرضاه , قال: فلما صحبني مدة كنت أحتاج أن أضربه بالدرة حتى يقوم فيؤدي الفرض " (¬1). وأما الملبس فنقل عنهم أنهم كانوا لا يراعون فيه الشرع , فأحياناً كانوا يتجردون منه ولا يلبسون شيئاً ولا يراعون ما أوجبه الشرع من الستر , وقد ذكرنا عديداً من الروايات في هذا الكتاب والكتاب الآخر , وأحياناً كانوا يلبسون لباس الشهرة الممنوع عنه في السنة , وأحياناً كانوا يستحلون الحرير كما ذكر الشعراني وأصحاب الطبقات متصوفة مشهورين وصوفية معروفين ما كانوا يلبسون إلا الحرير , فمنهم: " الشيخ أحمد المشهور بحب رمانتي , كان رضي الله عنه لا يلبس إلا الحرير ... وكانت له كرامات كثيرة " (¬2). ومنهم عون بن عبد الله بن عتبة فرووا عنه أنه كان يلبس الخز (¬3). وحثّ أبو العباس أحمد بن علي البوني المتوفى 622هـ على التختم بالذهب حيث قال: " ومن الأسرار العجيبة أن يوضع أسمه تعالى العلي العظيم في خاتم من ذهب , من تختم به كان مهابا عند الناس معظّماً مكّرماً عالي القدر مرفوع الذكر , ولا يزال كذلك طول حياته , وإذا بعث يوم القيامة أمن تزلزل قدمه على الصراط , وثقلت موازينه بالحسنات " (¬4). مع التحريم الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: حيث قال: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي , حرّم على ذكورها) (¬5). وروى عن عليّ رضي الله عنه قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 219. (¬2) الطبقات الشعراني ج 2 ص 134. (¬3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 41. (¬4) منبع أصول الحكمة للبوني ص 46 ط مصطفى البابي الحلبي مصر. (¬5) رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

يمينه , وأخذ ذهباً فجعله في شماله , ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) " (¬1). ومن العجائب أن المتصوفة المدعين التقرب إلى الله وأبتغاء مرضاته وطلب رضوانه لا يسلكون في ذلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا يبتغون خطاه , فإن المسلم يعلم أن أحسن شيء ما يتكرم به العبد إلى الله وهي الصلوات الخمس بأوقاتها والتنفلات والتطوعات. ولكن الصوفية لا يرون ذلك مع ما أشتهر عنهم بكثرة الصلوات والنوافل فالأمر عكس ذلك , نعم , هناك بعض المتصوفة هم قد عرفوا بكثرة التنفل ولكن البعض منهم أيضاً خالفوا أسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإفراطهم في ذلك , الإفراط المنهي عنه مثل قيام الليل كله من أوله إلى آخره , وقد ذكرنا أمثلة لذلك في باب " التطرف من لوازم التصوف ". ولكن الباحث والقارئ يتفحص أحوالهم وسيرهم في كتب الطبقات والسير ليرى العجب العجاب بأن القوم معظمهم لا يحضرون المساجد لأداء الصلوات الخمس ولا يحافظون عليها بل نقلوا عن كثير منهم بأنهم ما كانوا يخرجون من الروابط والزوايا , والصوامع والتكايا , والغيران والكهوف , والسراديب والخلوات أسابيع وشهوراً بل وسنوات أيضاً , لا للجمعة ولا للجماعة , مع ورود التشديد في الحضور لأداء الصلوات في المساجد ومع الجماعة بأوقاتها. فإن الله تبارك وتعالى حينما أمر المؤمنين بإقامة الصلوات , أمرهم بأدائها مع الجماعة , فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬2). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أفضل الأعمال , قال: (أفضلها الصلاة لأول وقتها) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى , فقال: يا رسول الله , إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد , فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته , فرخصّ له , فلما ولّى دعاه , فقال: (هل تسمع النداء ¬

(¬1) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الألباني. (¬2) سورة البقرة الآية 43. (¬3) رواه أحمد والترمذي وأبو داود.

بالصلاة؟) قال: نعم , قال: (فأجب) (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسه بيده , لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب , ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها , ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس , ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فيؤذن لها , ثم آمر رجلاً فيؤم الناس , ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم , والذي نفسي بيده , لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) (¬2). وحث المؤمنين على الحضور في المساجد لأداء الصلاة مع الجماعة حيث قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة) (¬3). وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون المنافق لعدم حضورهم للصلاة في المساجد مع الجماعة كما يروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , قال: " لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه , أو مريض , إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا الهدى , وإن من سرّه سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال: من سرّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس , حيث ينادى بهن , فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى , وإنهن من سنن الهدى , ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنة نبيكم , ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم , وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور , ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكلّ خطوة يخطوها حسنة , ورفعه بها درجة , وحطّ عنه بها سيئة , ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلاّ منافق معلوم النفاق , ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه مسلم.

فهذه نبذة يسيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , وإن الله أوجب الجمعة على المسلمين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم استماع الخطبة والحضور في العيدين. ولكن القوم الذين يعدّون التصوف من دين الله بل أصل الدين وأساسه وسبباً لقربه وولايته ولا يرون شيئاً من ذلك. فأولا لا يحضرون الصلوات إطلاقاً ولا يرون للمسجد قيمة وشأناً كما نقل الشعراني في طبقاته: " كان الإمام الحسن بن سمعون رضي الله عنه أماماً زاهداً ورعاً قلما يخرج من بيته إلا في أيام الجمع لأجل الصلاة , وطول نهاره في قعر بيته رضي الله عنه " (¬2). وذكر ظهير الدين القادري أيضاً صوفياً ما كان يخرج من منزله إلا للجمعات فيقول: " كان ورعاً متديناً كثير العبادة منقطعاً في منزله من الناس لا يخرج إلا في الجمعات " (¬3). وليس ترك الجماعة فقط , بل الجمعة أيضاً كما ذكر المنوفي الحسيني عن الصوفي المصري الذي قال فيه " هو الولي المجذوب العالم القطب الشريف الشاذلي " فيذكر عنه أنه " ما كان يخرج من بيته إلا كل أسبوع لزيارة المشهد الحسيني وكان يخرج في موكب يذكر الله هو وإخوانه حتى إذا وصل إلى المسجد الحسيني كثر أنضمام الناس إليه وتزاحموا فيدخل بهم إلى صحن المسجد فيذكرون الله جميعاً " (¬4). فلم يكن غرض خروج هذا الصوفي من بيته إلا زيارة المشهد الحسيني , فأين ¬

(¬1) سورة الجمعة الآية 9. (¬2) طبقات الشعراني ج 1 ص 68. (¬3) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 91 ط. (¬4) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 265 ط مؤسسة الحلبي القاهرة الطبعة الأولى 1387 هـ.

الجماعة وأين الجمعة؟ ثم ما الفائدة من هذا الذكر المقرون بالبدعات والخرافات مع ترك الجمعة والجماعة؟ وهناك صوفي آخر ذكره صاحب " تنبيه المغتربين " أنه كان يخلّي ولده على الخلوة أربعين يوماً فلا يفتح عليه " (¬1). ويروي الجعلي الفضلي عن شيخه بأن النقا أنه مكث في خلوته أربعين يوماً (¬2). وهذه الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية ويعتزلون خلالها عن الناس ويرتاحون في الأربطة والغارات فيفوتهم ثواب السعي إلى المساجد وأجر الصلاة بالجماعة والجمعة قد ذكر فتوحها وفوائدها السهروردي والباخرزي أيضاً فيقولان: " فإذا تمت الأربعون زالت الحجب , وأنصبت إليه العلوم والمعارف انصباباً ... فالعبد بنقطاعه إلى الله تعالى وأعتزال الناس يقطع مسافات وجوده , ويستنبط من معدن نفسه جواهر العلوم " (¬3). فيظنّ الصوفية بأن الله يفتح عليهم جواهر العلوم والمعارف , ويكشف لهم الغرائب والعجائب " تعويضاً عما تركوا لأجله " (¬4). ولا يدرون أن ترك الجمعة والجماعة لا ينتج المعارف والكرامات , وإنما ينتج سخط الله ومقته , وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلوة باليهودية والنصرانية في حديث رواه أبو أمامة حيث قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه وقال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال: فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه , وفيه شيء من ماء ويصيب ¬

(¬1) تنبيه المغرين للشعراني ص 8. (¬2) كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط بيروت. (¬3) عوارف المعارف للسهروردي ص 209 ط دار الكتاب العربي بيروت. (¬4) أيضا 212.

ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال: لو أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل , فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم وأخلّي من الدنيا. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفسي بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) (¬1). وأما الأشياء التي تحصل لهم في خلواتهم فليست كرامات رحمانية كما يظنون , وإنها أحوال شيطانية كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه: " وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس , مهجورة إما مساجد وإما غير مساجد , مثل الكهوف والغيران التي في الجبال , ومثل المقابر لاسيما قبر من يحسن به الظن ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي أو رجل صالح , ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنون أنها كرامات رحمانية " (¬2). هذا وقد ذكر الجامي عن الصوفي المشهور شمس الدين التبريزي أنه كان يمكث في خلوته ثلاثة شهور لا يخرج منها أصلا , كما أنه لم يكن يسمح أحداً بالدخول فيها (¬3). والشعراني يذكر صوفياً آخر مكث تسعة شهور في خلوته منقطعاً عن الخلق تاركاً للجمعة والجماعة فيقول: " أنقطع الشيخ عبد الحليم المنزلاوي في الخلوة تسعة شهور يقرأ في الليل ختماً وفي النهار ختماً , ثم خرج ينفق من الغيب إلى أن مات , وأقمت عنده في زاويته نحو سبعة وخمسين يوماً فما رأيت الفقراء احتاجوا إلى شيء إلا ويخرج لهم من كيس صغير كعقدة الإبهام جميع ما يطلبونه " (¬4). ¬

(¬1) أنظر لذلك تلبيس إبليس لأبن الجوزي ص 324 ط دار الوعي العربي بيروت. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام ج 0 ص 406. (¬3) نفحات الأنس للجامي ص 466. (¬4) أنظر تذكرة أولياء بر صغير لميرزه أختر الدهلوي ج 2 ص 42 ط باكستان.

ومما يدل على بعض الصوفية وكرههم للحضور في المساجد للجمعة والجماعة ما حكوه عن بركات الخياط نقلاً عن أبي السعود الجارحي أنه قال: " مدحت الشيخ بركات الخياط للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة , فقالوا: أمضوا بنا نزوره , وكان يوم جمعة , فسلّم المؤذّن على المنار فقالوا له: نصلّي الجمعة , فقال: مالي عادة بذلك (يعني أن الجمعة عادة وليست فرضاً) , فأنكروا عليه , فقال: نصلي اليوم لأجلكم (وليس لله) , فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها (أنظر الإستهزاء بالفرائض الإسلامية) , ثم وقع في مشحنة حمير , ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ عبد الواحد الذي جاء بهم إليه , وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول: أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً , والله يا ولدي , مسقاة الكلاب إنما هي مطعمهم ومشربهم , وكذلك مشنحة الحمير إنما هي صورة اعتقادهم النجس " (¬1). وهناك آخر كان يمكث في خلوته ستة شهور كل سنة , لا يطعم شيئاً ولا يشرب , وإذا أراد الخروج من خلوته بعد ستة أشهر صاح بصوت عال ليختفي الناس عنه ولا يقع نظره على أحد لو وقع على أحد لكان أعمى عليه ليومين (¬2). فهكذا أدّى بهم التصوف إلى الإستهزاء بفرائض الشريعة وشعائرها والجهر بهتكها ومخالفتها. وليس ترك الجمعة والجماعة فحسب , بل صلاة العيد أيضاً كما نقلوا عن أبي السعود الجارحي أنه كان كثير المجاهدات ... كان ينول في سرب تحت الأرض من أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام , وذلك بوضوء واحد من غير أكل (¬3). فهل هذه هي المجاهدات التي قالوا عنها " لو أن النبوة تنال بالمجاهدة لنالها عبد الكريم (¬4). ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 2 ص 135. (¬2) أيضا ج 2 ص 145. (¬3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 130. (¬4) أنظر قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 357.

وقال الشعراني: " لو أن النبوة تنال بالمجاهدة لنالها سيدي أبو السعود " (¬1). هذا والصوفي الهندي القديم علاء الدين صابر الكليري المتوفى 690 هـ لم يخرج من خلوته سنتين (¬2). وأما الجعلي الفضلي فقد ذكر عن حمد النحلان الذي يقول فيه: " اجتمع بالخضر عليه السلام وأخذ عليه " يقول: " أنه مكث في الخلوة إثنين وثلاثين شهراً , وأخذ معه ثلاث سلق قرظاً وسبع تمرات , والخلوة فيها طاقة يناولونه بها الماء , وكل ليلة مطالة قدر عين الجمل لفطوره , فلما خرج من الخلوة وجدوا القرظ والتمرات والمطاطيل على حالها , والركوة ملآنة ماء , فجميع من شرب منها وقع مغشياً عليه وصار ولياً من أولياء الله تعالى " (¬3). فهذا التارك للجمعة والجماعة والعيدين يرى فيه الصوفية أنه كان من كبار أولياء الله تعالى ومن أصحاب الفيوض والبركات. فهل تأتي الولاية بمخالفة الشريعة الإسلامية؟ وهل تحصل بشرب ماء من ركوة الفساق العصاة التاركين للجماعة والجمعات؟. ونقلوا عن الصوفي المشهور محمد الحنقي أنه أعتزل عن الناس وجلس في خلوة تحت الأرض سبع سنين , فيقول الشعراني نقلاً عن أبي العباس المرسي أنه قال: " لما خرج الشيخ محمد الحنقي من الكتاب جلس يبيع الكتب في سوقها , فمّر عليه بعض الرجال فقال: يا محمد , ما للدنيا خلقت , فنزل من الدكان وترك جميع ما فيه من الغلة والكتب ولم يسأل عن ذلك بعد , ثم حبّب إليه الخلوة فأختلى سبع سنين لم يخرج في خلوة تحت الأرض دخلها وهو ابن أربع عشرة سنة " (¬4). ونقل ابن الملقن عن فتح بن شخرف الكسي أنه قال: ¬

(¬1) أنظر طبقات الشعراني ج1 ص 140. (¬2) أنظر تذكرة أولياء برصغير لأختر الدهلوي ج 2 ص 2 ... ط باكستان. (¬3) كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط. (¬4) طبقات الشعراني ج 2 ص 90.

" تهت في الجبال سبع سنين " (¬1). وليس سبع سنين فحسب , بل ذكروا عن أبن عثمان الحيري من الصوفية القدامى المتوفي سنة 298 هـ أنه أختلى عشرين سنة لم ير أثناء هذه المدة الطويلة شبحاً من الناس , وبعد العشرين أمر بمخالطة الناس فخرج إليهم (¬2). ولم يكتفوا بالعشرين , فيذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض من كثرة إجتهاد وتعبّده , وكان إذا تكلّم بعلوم المعارف يدهش العالم (¬3). ولو أقتصر الأمر على هذا إلا أنه قد تجاوز عن ثلاثين سنة أيضاً فذكروا عن حسين أبي علي الذي يعتقدون فيه أنه " كان من كمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى , يناول الناس والفضة " يذكرون عن وليهم وعارفهم هذا أنه " مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء " (¬4). فالحاصل أن الصوفية قد زيّن لهم الشيطان العبادات البدعية , وبغض إليهم السبل الشرعية , وحبب إليهم الخلوة والاعتزال ليحرموا ثواب الجماعة والجمعة ولم يعرف الصوفية أنه لم يبق طريق إلى الله إلا بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه , وأن هذه العزلة والوحدة والاستغناء عن الأهل والولد وذوي الرحم وأصحاب القربى والأصدقاء والإخلاء , لمن الأعمال المخالفة للشريعة الإسلامية والموجبة للحرمان عن أجر السعي إلى ذكر الله وأداء الجمعة والاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم والإصغاء ومعاشرة المسلمين بالبّر والصلة وحسن الخلق وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة القبور وخدمة الوالدين وغيرها من الخلق الحسن , وفي الحديث أن رسول الله ¬

(¬1) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 274. (¬2) خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 91 ط باكستان. (¬3) كتاب اللمع للطوسي ص 500. (¬4) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 2 ص 88.

صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) (¬2). وقال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) (¬4). وقال عليه السلام: (ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم) (¬5). ولكن الصوفية المعتزلين المحبين للخلوة , المستمرين في الوحدة والعزلة شهوراً وسنين , يعتقدون عكس ما في السنن والأحاديث , فيروي كل من السلمي والسهروردي والباخرزي وابن عجيبة الحسني والشعراني قاعدة عامة للصوفية فيقولون: " لا يزال الصوفية بخير , ما تنافروا , فإن اصطلحوا هلكوا " (¬6). وينصح ابن عربي المريد لبركات التصوف بقوله: " لا يزار , ولا يتكلم أحداً في خير ولا في شر " (¬7). ويقول في كتاب آخر: " الصحبة أشرّ شيء على المريد , فإن الطريق مبني على قطع المألوفات وترك المستحسنات , ولما كانت الصحبة تؤدي إلى الألفة والأنس وتغيير المحلّ بوجود الألم ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه أبو داود والترمذي. (¬4) رواه مسلم. (¬5) أخرجه الحاكم من حديث حذيفة والطبراني عن أبي ذر. (¬6) طبقات السلمي ص 42 , عوارف المعارف للسهروردي ص 112 , أوراد الأحباب وفصوص الآداب لأبي المفاخر يحيى الباخرزي ص 110 ط إيران , الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة ص 61 , الطبقات الكبرى للشعراني ص 87. (¬7) الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط لابن عربي ص 272 المنشور مع ذخائر الأخلاق وكلاهما لابن عربي القاهرة.

عند وقوع المفارقة , لهذا كرهناها " (¬1). حتى أنه قال: " لا يقل المريد لأحد: كيف حالك؟ " (¬2). ورووا عن أويس القرني كذباً أنه قال: " لا ينال الناس هذا الأمر حتى يكون الرجل كأنه قتل الناس أجمعين " (¬3). ونقلوا كذلك عن الرفاعي أنه كان يقول: " مالي خير إلا في الوحدة , فيا ليتني لم أعرف أحداً " (¬4). وقد أوصى داود الطائي مريدة بترك صحبة الناس ومعاشرهم فقال: " فر من الناس كفرارك من السبع " (¬5). وأما الشاذلي فيروون عنه أنه دعا ربه " يا ربّ , أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم " (¬6). وقال الغزالي: " الخلوة أصل , والخلط عارض , فيلزم الأصل ولا يخالط " (¬7). ويقول أحمد الكمشخانوي: " وأعلم أن التوفيق للعزلة دليل سعادة الأبد , لأن من خالط الناس داراهم , ومن داراهم راآهم , ومن راآهم نافقهم , ومن نافقهم استحق الدرك الأسفل من النار " (¬8). ويكتب ابن عربي: " إن الحق سبحانه ولا يتجلى لقلب له أنس بغيره " (¬9). ورووا عن الشبلي أنه قال: ¬

(¬1) التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 234 ط مطبعة بريل ليدن 1336 هـ. (¬2) أيضاً ص 237. (¬3) طبقات الشعراني ج1 ص 27. (¬4) أيضا ج 1 ص 141. (¬5) الرسالة القشيرية ج 1 ص 84. (¬6) أنظر المدرسة الشاذلية وأمامها أبو الحسن الشاذلي للدكتور عد الحليم محمود ص 35 دار الكتب الحديثة القاهرة. (¬7) فرائد اللآلي من رسائل الغزالي ط فرج الله ذكي الكردي مصر بتحقيق محمد بخيت 1344 هـ. (¬8) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 174. (¬9) التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 235 ط ليدن 1336 هـ.

" علامة الإفلاس الاستئناس بالناس " (¬1) وهذا كلّه رغم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره السهروردي أيضاً في عوارفه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن بألف ويؤلف , ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " (¬2). وهل تأتي الألفة بالتنافر والوحدة والعزلة والفرار من الناس أم بالمعاشرة والمخالطة والالتقاء والمصاحبة؟. هذا وذكر الأموي عن الجنيد أنه قال: " من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس , فإن هذا زمان وحشة " (¬3). ولم يأمر الصوفية معتقديهم بالتنافر والفرار عن عامة الناس فحسب , بل عن الأقرباء وذوي الرحم أيضاً كما أنشد عجيبة الحسني: أستغن عن كل ذي قرب وذي رحم ... الغنيّ من استغنى عن الناس وأين يذهب بعد الاعتزال عن الناس والاستغناء عنهم , يبين ذلك صاحب " الأنوار القدسية " حيث يقول: " من شأن المريد الصادق محبة العزلة عن الناس , واستغناؤه الجلوس في البراري والمواضع الخربة حتى يتقوى ويصبر ولا يتدّنس بالأعيار " (¬4). ويقول: " المريد الصادق يحب الخلوة البعيدة عن مرور الناس كخلاوي السطوح ويجب أن تكون ضيقة حتى لا يصلح له مدّ رجله فيها , ويجب أن تكون مظلمة لا يدخلها نور الشمس " (¬5). ولماذا يعتزل؟ يصرح بذلك الدمياطي حيث يقول: ¬

(¬1) جامع الأصول للكمشخانوي ص 174. (¬2) أنظر عوراف المعارف للسهروردي ص 112. (¬3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي بهامش قوت القلوب للمكي ج 2 ص 93 ط ... دار صادر بيروت. (¬4) الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 140. (¬5) أيضاً ج 1 ص 141.

" من الوصايا: العزلة , وهي التفرد عن الخلق ... وليذهب المريد إلى موضع كالبرية والجبال لا تلزمه فيه الجمعة والجماعة " (¬1). فترك الجمعة والجماعة هو المقصود من الاعتزال والخلوة عندهم. وقد ذكر هذه الخلوة وآدابها وطرق الدخول فيها بحرق الحضرمي (¬2) أيضاً. وأيضاً عبد العزيز الدريني (¬3). وقد ذكر الشعراني عن بعض مشائخه أنه ما شهد جنازة قطّ (¬4). وينقل الفيتوري عبد السلام عن نصير الدين الأودهي العروس أنه لم يخرج قطّ إلى زيارة المريض إلى أن مات (¬5). مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شيع جنازة فله قيراط من الأجر , فإن وقف حتى فله قيراطان , وفي الخبر القيراط مثل جبل أحد) (¬6). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة) (¬7). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أتى أخاه المسلم المسلم عائداً مشى في خرفة الجنة حتى يجلس , فإذا جلس غمرته الرحمة , فإن كان غدوة صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي , وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) (¬8). فالحاصل أن الصوفية قد وضعوا بدعات الخلوة والعزلة فراراَ عن الصلاة بالجماعة , وهروباً عن أداء الجمعات , كما أنهم حرموا أنفسهم من أجور أخرى أيضاً. ¬

(¬1) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 35. (¬2) أنظر رسالة ترتيب السلوك إلى ملك الملوك لجمال الدين محمد بن عمر بحرق الحضرمي المتوفى 930 هـ جامعة ط بنجاب لاهور باكستان. (¬3) أنظر طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 250 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. (¬4) الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني طبعة قديمة مصر. (¬5) الوصية الكبرى للفيتوري ص 101 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا. (¬6) متفق عليه. (¬7) رواه مسلم. (¬8) رواه الترمذي وابن ماجة.

ولم يتركوا الجمعة والجماعة فحسب , بل أن بعضاً منهم قد تركوا الصلاة أصلاً كما نقل النبهاني عن عبد القادر الدشطوطي أنه كان يسمع الأذن ولكنه ما رؤي يصلي قط , فأعترض عليه الناس , فقال: " الناس معذورون , يقولون: عبد القادر ما يصلي ... ولكن لنا أماكن نصلي فيها " (¬1). وهذه خرافة لا أصل لها نقلاً ولا عقلاً , إنما أخترعت لتعطيل الشريعة وتركها , وعلى ذلك يقول النبهاني محجراً عقله ومسفهاً إياه: إياكم. إياكم أن تنكروا على أحد من الأولياء كونه لم يصل معكم في جماعة فإن لله تعالى رجالاً يصلون كل صلاة من الخمس في مكان غير بلدهم فبعضهم لا يصلي الجمعة دائماً إلا بمكة أو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم لا يصلي الظهر كل يوم إلا في الجامع الأبيض برملة لد ومنهم من لا يصلي المغرب كل يوم إلا على سد أسكندر ذي القرنين أو جبل قاف ومنهم من لا يصلي العصر كل يوم إلا ببيت المقدس ومنهم من لا يصلي الصبح كل يوم إلا بالجبل المقطم قال وكان سيدي إبراهيم المتبولي وجماعة يصلون الظهر كل يوم بالجامع الأبيض برملة لد ... قال الشعراني وممن كان بمثل هؤلاء أيضاً سيدي علي اخواص وسيدي عبد القادر الدشطوطي وسيدي يوسف الكردي وأخبرني الشيخ يوسف الكردي أنه صلى مع سيدي إبراهيم المتبولي الظهر مرات بالجامع الأبيض برملة لد وكان أمامه نحيف الجسم فأمرني الشيخ فسلمت عليه ومشينا خطوات فإذا نحن داخل الغيط ببركة الحاج وكان سيدي إبراهيم وقت الظهر يدخل الغيط دائماً فلا يراه أحد يصلي الظهر في مصر أبداً " (¬2). وذكر محمد غوثي الشطاري المتوفى في القرن العاشر من الهجرة شيخه شرف الباني بتّي أنه لم يكن يصلي , فأعترض عليه فقال: " إن الله أعفاني عن الفرض وقال لي: عينك عيني , أي ذاتك ذاتي " (¬3). ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 95 ط دار صادر بيروت , أيضاً طبقات الشعراني ج 2 ص 139. (¬2) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 245. (¬3) كلزار أبرار لمحمد غوثي شطاري 100 ط المعارف لاهور باكستان.

وهناك آخر أحمد المعشوق المتوفى 773هـ ذكروا عنه أنه كان تاركاً للصلاة فسأله الناس عن السبب فأجاب قائلاً: " إني امرأة حائضة , لا تجب الصلاة عليّ " (¬1). وكذلك ذكر العطار عن ذي النون المصري أنه قال له أحد مريديه: حججت أربعين حجة وقمت الليل أربعين سنة ولكني ما حظيت بمحادثة الله تعالى ومكاشفاته , فقال له ذو النون: كل شبعاً ولاتصلّ العشاء. ثم يعلق عليه العطار: لو سأل سائل ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ فالجواب أن الطريق أحياناً تخالف ظاهر الشريعة كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهري , فإذن لا إنكار في الطريقة على مثل هذه الأمور " (¬2). وحكى عنه العطار أيضاً أنه كان تاركاً للصلاة وكان يقول: " أن الله رفع عني فريضة الصلاة " (¬3). وهناك صوفي كان يبغض المؤذن للصلاة , فيقول الشعراني: " كان سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله عنه يتشوّش من قول المؤذن: " الله أكبر " فيرجمه ويقول: عليك يا كلب , نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكّبروا علينا " (¬4). وينقل ابن عجيبة الحسني عن أحد الصوفية أنه كان ينشد: تذلل له تحظى برؤيا جماله ... ففي وجه من تهوى الفرائض والنفل (¬5). وحكي عن الواسطي أنه لما دخل نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها: ¬

(¬1) تذكرة أولياء بر صغير للميرزه الدهلوي ج 3 ص 165. (¬2) تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 73 ط باكستان. (¬3) أيضاً ص 86. (¬4) طبقات الشعراني ج 2 ص 141. (¬5) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 507.

فقال: أمركم بالمجوسية المحضة. هلاّ أمركم بالغيبة عنها (أي عن الطاعة) بشهود مجريها ومنشيها (¬1). فإذا كان التزام الطاعة كالصلاة والصيام والحج من الفروض والسنن مجوسية محضة فما هو الإسلام؟ ومن أين استقى الصوفية فكرة الغيبة عن الطاعة بشهود منشيها ومجريها؟ وكذلك يخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم للصف الأول قصداً وعمداً مع أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها , وشرها آخرها) (¬3). وقال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) (¬4). وأما الصوفية فهم يكرهون ذلك كما قال الطوسي: " ومن آداب الصوفية أنهم يكرهون الصلاة في الصف الأول " (¬5). ويقول الشعراني: " وقد كان سيدي أحمد الزاهد , وسيدي محمد المغربي , وسيدي مدين , وسيدي أبو العباس الغمري يصلّون دائماً في آخر صف مساجدهم " (¬6). ثم يبين الشعراني علّة صنيعهم هذا , والعلّة أقبح من الصنيع , فيقول: " إن فعلهم هذا كان حياء من الله كما قال سيدي علي الخواص رحمه الله: حكم كمل ¬

(¬1) أيضا ص 117. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه أحمد. (¬5) كتاب اللمع للطوسي ص 208. (¬6) الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1 ص 332.

العارفين إذا وقف أحدهم بين يدي ربه في الصلاة حكم من كان فسق في حريم الوالي أتوا به إليه فهو يخاف من القرب من حضرته حتى يحصل رضى الوالي والعفو والمسامحة " (¬1). إن هذا تهاون بالسنة , وإلا فما هذا الخجل والحياء والخوف؟ وهل هؤلاء الصوفية كانوا أشدّ خوفاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم , وبالتالي هم الذين يقولون: لا نعبد ربنا خوفاً وطمعاً ورهبة ورغبة كما بينا ذلك بالتفصيل. ومن مخالفتهم في الصلاة أيضاً ما ذكره الطوسي من آداب الصوفية أنهم إذا دخلوا البادية يتمون الفرائض ولا يقصرون الصلاة , ولا يتركون شيئاً مما كانوا يعملون في أوطانهم وإن أباح لهم العلم ترك ذلك , لأن السفر والحضر عندهم سواء (¬2). هذا وقد روى عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} , فقد أمن الناس. قال عمر: " عجبت مما عجبت منه , فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته) (¬3). وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً , وفي السفر ركعتين , وفي الخوف ركعة (¬4). وأما الصوفية فيقولون: إن طريقهم طريق الشدة ويرون العمل بالرخص انحطاطاً عن الحقيقة كما يقول ابن عربي: " إن التصوف طريق الشدة ليس للرخاء فيه مدخل , لأن الرخص إنما هي للعامة " (¬5). ¬

(¬1) أيضاً ص 333. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 227. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه مسلم. (¬5) الأمر المربوط لأبن عربي ضمن ذخائر الأعلاق له أيضاً ص 268.

وقال النفزي الرندي: " إذا رأيت المريد انحطّ عن رتبة الحقيقة إلى رخص الشريعة فأعلم أنه قد نقض عهده من الله " (¬1). مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (¬2) فهذه بعض مخالفات الصوفية في أهم فرائض الإسلام الصلاة. وأما الصوم فهم خالفوا في ذلك أيضاً تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم سالكين في ذلك مسلك أهل الرياضيات الهندية ومجاهدات الرهبان النصارى , الذين يلتمسون الخوارق والبركات والتجليات والثمرات في التجوع ظنّا منهم بأن الجوع يورث الحكمة والمعرفة والأنوار الإلهية , فالصوفية أيضاً انتهجوا منهجهم واقتفوا سنتهم , فروى عن كثير منهم أنهم كانوا يصومون الدهر كما يقول السهروردي. " جمع من المشايخ الصوفية كانوا يديمون الصوم في السفر والحضر على الدوام حتى لحقوا بالله. وكان عبد الله بن جابار قد صام نيفاً وخمسين سنة لا يفطر في السفر والحضر " (¬3). وحكوا عن أبي رويم بن أحمد أنه قال: " اجتزيت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك , وأنا عطشان , فاستقيت من دار , ففتحت صبية بابها , ومعها كوز , فلما رأتني قالت: صوفيّ يشرب بالنهار. فما أفطرت بعد ذلك اليوم قط (¬4). ويقول الطوسي: ¬

(¬1) غيث المواهب العلية للنفزي ج 1 ص 199. (¬2) قد ذكر هذا الحديث ابن عربي أيضاً في كتابه " الجواب المستقيم " ص 148 من " ختم الأولياء ". (¬3) عوارف المعارف للسهروردي ص 331 , أيضاً اللمع للطوسي ص 220. (¬4) الرسالة القشيرية ج 1 ص 127 , اللمع للطوسي ص 217 , 218 , روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 673 , تذكرة الأولياء للعطار ص 209 , طبقات الأولياء لابن الملقن ص 229.

" حكي عن الجنيد أنه كان يصوم على الدوام ... وحكى عن بعض المشايخ الأجلة أنه قال: صمت كذا وكذا سنة لغير الله , وذلك أن شابا كان يصحبه , فكان يصوم حتى ينظر إليه ذلك الشاب فيتأدب به ويصوم بصيامه. ورأيت أبا الحسن المكي بالبصرة رحمه الله , فكان يصوم الدهر ولا يأكل الخبز إلا كل ليلة جمعة (¬1). ونقل المنوفي الحسيني عن إبراهيم بن أدهم أيضاً أنه كان يصوم في السفر والحضر (¬2). ورووا عن أحد أصحاب البسطامي أنه قام الليل وصام الدهر ثلاثين سنة (¬3). وذكر الدريني المتوفى 697 هـ عن داود بن أبي هند أنه صام أربعين سنة لم يعلم الناس ولا أهل بيته , وكان يأخذ الخبز ويخرج فيتصدق به فيظن الناس أنه يأكل غي البيت , ويظن أهل بيته أنه يأكل مع الناس (¬4). وأما الشعراني فيذكر عن أحمد السطحية أنه: " كان رضي الله عنه يعرف سريان القلوب , وكان رضي الله عنه صائم الدهر " (¬5). وصوم الدهر هذا مخالف تماماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفضل الصيام صيام أخي داود عليه السلام , كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) (¬6). وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألم أحدّث عنك أنك تقوم الليل وأنت الذي تقول لأقومن الليل وأصومن النهار) , ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 220. (¬2) جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج 2 ص 127. (¬3) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 112. (¬4) طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب لعبد العزيز الدريني ص 209 ط البابي الحلبي. (¬5) طبقات الشعراني ج 2 ص 138. (¬6) متفق عليه.

قال: أحسبه قال: نعم يا رسول الله قد قلت ذلك , فقال: (فقم ونم , وصم وأفطر , وصم من كل شهر ثلاثة أيام , ولك مثل صيام الدهر) , قال: قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك , قال: (فصم يوما وأفطر يومين) , قلت: إني أطيق أفضل من ذلك , قال: (فصم يوماً وأفطر يوماً وهو أعدل الصيام , وهو صيام داود عليه السلام). قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أفضل من ذلك) (¬1). وخالفوا الشريعة في الزكاة أيضاً كما روى ابن زروق والجامي وابن عجيبة والمنوفي أن واحداً من علماء الفقه سأل الشبلي: كم في خمس من الإبل؟ فسكت الشبلي , فأكثر ابن بشار. فقال له الشبلي: في واجب الشرع شاة , وفيما يجب على أمثالنا كلها لله (¬2). وأما الهجويري فيروي عنه أيضاً مثل ذلك فيقول: " ووجدت في الحكايات أن واحداً من علماء الظاهر سأل الشبلي على سبيل التجربة عن الزكاة قائلاً: ما الذي يجب أن يعطي من الزكاة؟ قال: حين يكون البخل موجوداً ويحصل المال فيجب أن يعطي خمسة دراهم عن كل مائتي درهم , ونصف دينار عن كل عشرين ديناراً , هذا في مذهبك , أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئاً حتى تتخلص من مشغلة الزكاة (¬3). وعلى ذلك نقل الطوسي والقشيري والسهرودي وغيرهم عن السري السقطي أنه قال: " لا تسأل من أحد شيئاً , ولا تأخذ من أحد شيئاً , ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً " (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) قواعد التصوف لابن زروق ص 20 , نفحات الأنس للجامي ص 139 , الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 51 , جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 153. (¬3) كشف المحجوب للهجويري ص 558. (¬4) اللمع للطوسي ص 262 , الرسالة القشيرية ج 1 ص 71 , عوارف المعارف للسهرودي ص 92.

ويقول سمنون المحب: الفقير الصادق هو الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجاهل بالغنى (¬1). ومن إحدى خرافات النفري في مواقفه أنه قال: " قال لي الله: إن كنت ذا مال فما أنا منك , ولا أنت مني " (¬2). وحكى ابن الملقن في هذا المعنى عن الجنيد أنه قال: " جاء إبراهيم الصياد يوماً إلى سرى وهو متزر بقطعة حصير , فأمر السري فجيء بجبّة فأمتنع من لبسها , فقال له سرى: ألبسها , فإنه كان معي مقدار عشرة دراهم من موضع حلال فأشتريها به ,فنظر إليه شزرا , وقال: أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم , وأمتنع من أخذها " (¬3). ولذلك لا يشتغلون بالكسب وطلب المعاش , بل يظنونه ركوناً إلى الدنيا (¬4). وأما الحج فأحياناً يستهزؤن به , وأحياناً كانوا يخرجون له بدون زاد وراحلة يتكففون الناس ويستجدون منهم , ويمدون الأيدي إليهم , وقد مر بيان هذا فيما سبق عند ذكر تطرفهم في التوكل. وأما تركه والإستهزاء به فيذكر العطار عن أبي يزيد البسطامي أنه خرج مرة للحج , فرجع من الطريق فسألوه عن السبب , فقال: لقيني في الطريق رجل حبشي وقال لي: لماذا تركت الله ببسطام فرجعت (¬5). ونقل السهلجي والعطار عن البسطامي أيضاً أنه قال: " خرجت إلى الحج , فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحج , فقال: كم معك من الدراهم؟ ¬

(¬1) طبقات الصوفية لعبد الرحمن السلمي ص 47. (¬2) كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار النفري ص 54 ط ... مطبعة دار الكتب المصرية 1934 هـ. (¬3) طبقات الأولياء لابن ملقن ص 25. (¬4) أنظر لذلك قوت القلوب ج 1 ص 252 , أيضاً كتاب اللمع للطوسي ص 261 , أيضا غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 208. (¬5) تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 82.

قلت: معي مائتا درهم: فقال: طف حولي سبع مرات , وناولني المائتي درهم فإن لي عيالاً , فطفت حوله وناولته المائتي درهم (¬1). ونقل عنه الهجويري أنه قال: " صرت إلى مكة , فرأيت البيت مفرداً , فقلت: حجي غير مقبول , لأني رأيت أحجاراً كثيرة من هذا الجنس. وذهبت مرة أخرى فرأيت البيت ورب البيت , قلت: لا حقيقة التوحيد بعد. وذهبت مرة ثالثة فرأيت الكل رب البيت , ولا بيت " (¬2). ومذل ذلك حكى سبط ابن الجوزي نقلاً عن ابن خميس أنه قال: قال أبو يزيد: حججت أول حجة فرأيت البيت ولم أر صاحب البيت , وحججت ثالثاً فلم أر البيت ولا صاحب البيت ولا الناس (¬3). ومما يدلّ كذلك على استهزاء القوم بالكعبة وإهانتهم لها وللطواف حولها ما ذكر النبهاني نقلاً عن إبراهيم الخواص أنه قال: " إن الكعبة طافت بالشيخ إبراهيم المتبولي حجراً حجراً , ثم رجع كل حجر إلى مكانه. قال اليافعي رحمه الله تعالى: وقد سمعنا سماعاً محققاً أن جماعة من القوم شوهدت الكعبة وهي تطوف بهم طوافاً محققاً (¬4). وذكروا مثل ذلك عن رابعة البصرية أيضاً فقالوا: " سافرت رابعة إلى مكة فرأت أثناء الطريق كعبة الله تمشي إليها - عياذاً بالله - فقالت: لا أريد الكعبة , بل أريد ربها " (¬5). وذكر السهلجي مثل ذلك عن البسطامي حيث روى عنه أنه قال: ¬

(¬1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 164 من شطحات الصوفية للدكتور بدوي , تذكرة الأولياء للعطار ص 82. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 319. (¬3) مرآة الزمان لسبط بن الجوزي ص 214 ضمن شطحات الصوفية للبدوي ز (¬4) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 245. (¬5) أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 413 ط باكستان.

" كنت أطوف حول بيت الله الحرام , فلما أن وصلت إليه رأيت البيت يطوف حولي " (¬1) وليس هذا فحسب , بل قال الحسن بن علوية: " ذهب أبو يزيد إلى مكة مع واحد من تلامذته , فلما دخل المدينة جاءت مكة إلى المدينة فطافت حوالي أبي يزيد , فغشي على تلميذه وقع على الأرض. فلما أفاق مسح رأسه وقال: تعجبت؟ فقال: نعم , قال: والله إن جاءت إليّ بسطام لكانت مقصرة في حقي - عياذاً بالله - (¬2). هل هناك استهزاء واستخفاف بالكعبة والطواف حولها أكبر وأشدّ من هذا؟ أليس هذه الهذيانات إهانة ونيلا من شأن ركن من أركان الإسلام الخمسة؟ ومن إهانتهم كذلك للكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً وتكريماً رغم أنوف الصوفية - أن أحد الصوفية بالهند الشيخ محمد يعقوب سئل: ما الفرق بين معبد السيخ (طائفة من كفار الهند) وبين بيت الله الحرام؟ فأجاب بقوله: ليس بينهما أيّ فرق (¬3). وأما الشعراني فقال: " لا ينبغي للمريد أن يستدبر شيخه أبداً إلا بإذن , ويكون ذلك مع استشعار المريد الخجل والحياء حتى كأنه يمشي على الجمر , فإن شيخه أعظم حرمة من الكعبة " (¬4). ويجعل شأن زاوية محمد الغمري مثل شأن بيت الله الحرام , فيقول: " إن جماعة تراهنوا على أنهم يجدون زاوية سيدي محمد الغمري في المحلّة الكبرى ساكتة عن الذكر في ليل أو نهار فلم يجدوها فكانت كالكعبة بالنسبة للطائفين " (¬5). ولم يستخفوا بالكعبة فقط بل الحجر الأسود أيضاً كما ذكر النبهاني عن ابن عربي أن: " الكعبة كلّمته , وكذلك الحجر الأسود , وأنها طافت به , ثم تلمذت له وطلبت منه ¬

(¬1) النور من كلمات أبي يظفور للسهلجي ص 139. (¬2) أيضا ص 185. (¬3) تذكرة غوثية للشطاري الماندوني ص 96 ط ... باكستان. (¬4) الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 54 دار إحياء التراث العربي بغداد. (¬5) أيضاً ج 2 ص 140.

ترقيتها إلى مقامات في طريق القوم , فرقاها لها وناشدها أشعاراً وناشدته فراجعه وحاشاً أولياء الله أن يخبروا خلاف الواقع " (¬1). وتجاوزوا في إهانتها جميع الحدود وبلغوا أقصاها حيث نقلوا عن الشبلي أنه رأى الناس شعلة من نار في يده فسألوه السبب؟ فأجاب: أريد أن أحرق بها الكعبة ليتوجه الناس إلى ربها (¬2). وأخيراً ننقل من الصوفي المصري عبد الرحمن الصفوري حكاية تدل على السخرية بالكعبة المشرفة والمدينة المنورة وبيت المقدس فيذكر عن الخواص أنه قال: " زرت ولية من أولياء الله فقلت لها: هل لك في بلادنا؟ فقالت: وما أصنع في بلادك؟ فقلت لها: فيها مكة والمدينة وبيت المقدس. فقالت: أرفع رأسك , فرفعت رأسي , فإذا بالكعبة والمدينة وبيت المقدس يحومون على رأسي في الهواء " (¬3). فهذه هي حقيقة الحج والكعبة والطواف حولها لدى المتصوفة , وتلك هي مخالفتهم للشريعة الإسلامية وإهانتهم لأركانها - أعاذنا الله من ذلك. ومن أعمالهم المخالفة للشريعة الإسلامية عدم اعتنائهم بالنظافة والطهارة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الإيمان (¬4). وروي عنه عليه الصلاة والسلام في فضل الطيب والنظافة أنه قال: " إن الله طيب يحب الطيب , نظيف يحب النظافة , كريم يحب الكرم , جواد يحب الجود , فنظفوا ولا تشبّهوا باليهود " (¬5). ولكن الصوفية ينصحون مريديهم عكس ذلك , فيكتب عبد الغني الرافعي: ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ص 120. (¬2) تذكرة الأولياء للعطار ص 304. (¬3) نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 18 ط ... دار الكتب العلمية بيروت. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه الترمذي.

" كل مريد غسل ثوبه بغير نجاسة , أو أكتحل , أو رجّل شعره , أو حسن شيئاً من زينة ظاهرة لغير ضرورة أو أمر شيخ فهو عامل لنفسه , وقالوا لبعضهم: لم لا تمشّط لحيتك؟ فقال: إني إذن فارغ (¬1). مع أنه روى عن أنس رضي الله عنه أنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته " (¬2). وروى عن عطاء بن يسار قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية , فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده , كأنه يأمر بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم وهو ثائر الرأس كأنه شيطان) (¬3). وأما الشعراني فيروي عن الصوفي الشيخ محمد السروي أنه " جاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق فرآه ملتفتاً لنظافة ثيابه فقال: إن كنت تطلب الطريق فأجعل ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء , فكان كلّ من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور حتى صارت ثيابه كثياب الزياتين أو المساكين , فلما رأى ثيابه لقنه الذكر (¬4). وذكر أيضاً صوفياً آخر أنجس وأقذر بكثير , فقال: " كان سيدي بركات الخياط رضي الله عنه يخيط المضربات المثمنة , وكان رضي الله عنه يقول لمن يخيط له: هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابي. وكان دكانه منتنا قذرا لأن كل كلب وجد ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه ¬

(¬1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 36 ط المطبعة العامرية الشرفية مصر 1301 هـ , ومثله في تذكرة الأولياء للعطار ص 129. (¬2) رواه في شرح السنة. (¬3) رواه مالك. (¬4) طبقات الشعراني ج 2 ص 128.

داخل الدكان , فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده " (¬1). وقد ذكر صاحب " الأنوار القدسية " عدم الاعتناء بالنظافة كقاعدة عامة لجميع المتصوفة حيث قال: " يجب على المريد الصبر على وسخ الثياب وتخريقها حتى يزول وسخ قلبه " (¬2). وروى الشيخ نور الدين السمهودي أنه كان له فروة كبش مغشاة بثوب طرح يلبسها صيفا وشتاء , وكانت عمامته من غليظ المحلاوي , يغسلها مرة في السنة (¬3). وذكر ابن الملقن أن امرأة كانت تخدم الجنيد قالت: " جئت يوماً إلى النوري , كان يوماً شديد البرد والريح , فوجدته في المسجد وحده جالساً , فأمرني بإحضار خبز ولبن , فأحضرته. وكان بين يديه قصعة فيها فحم , فقلّبه بيده وهو مشتعل , ثم أخذ الخبز واللبن , فجعل اللبن يسيل على يديه , وفيها سواد الفحم , فقلت: يا ربّ , ما أقذر أولياء , ما فيهم أحد نظيف. قالت: ثم خرجت من عنده , فتعلقت بي امرأة وقالت: سرقت رزمة ثياب , وجرّوني إلى الشرطي , فأخبرني النوري بذلك , فخرج وقال: لا تتعرض لها , فإنها ولية , فقال الشرطي: كيف أصنع المرأة تدّعي ذلك؟ قالت: فجاءت جارية ومعها الرزمة المطلوبة. وأنطلق النوري بزيتونة , وقال لها: تقولين بعد هذا: يا رب ما أقذر أولياءك؟ فقالت: تبت (¬4). فالمعنى أنه لا يحق لأحد أن يتعرض على قذارة الصوفية ونجاستهم , ولا يجوز أن ينصح أحد هؤلاء المنتنين المتشبهين باليهود الأقذار المهتمين بوضع الكلاب والقطط الميتة في مساكنهم , لا ينصحهم أحد باعتناء النظافة والطهارة , وإلاّ فيصيبهم عقاب من عند الله وعذاب أليم. ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 2 ص 145. (¬2) الأنوار القدسية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 90. (¬3) الطبقات الصغرى لعبد الوهاب الشعراني ص 62 تحقيق عبد القادر عطا ط مكتبة القاهرة 1390هـ. (¬4) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 66.

هذا وأن هناك مخالفة أخرى لنص الشريعة الإسلامية , يرتكبها الصوفية , وهي: إضاعة المال وإتلافه , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال: (إن الله كره لكم قيل وقال , وكثرة السؤال , وإضاعة المال) (¬1). وأما الصوفية فيروون عن الشبلي أنه ألقى بأربعة آلاف دينار جملة في دجلة , فقالوا له: ما تفعل؟ قال: الحجر أولى بالماء , قالوا: لم لا تعطيها للخلق؟ قال: سبحان الله , بم أحتجّ إلى الله في أني رفعت الحجاب عن قلبي , وجعلته على قلوب أخوتي المسلمين (¬2). وروى الطوسي عن الحسين النوري أنه حمل إليه ثلثمائة دينار , قد باعوا عقاراً له , فجلس على قنطرة الصراط وهو يحذف بواحد منها إلى الماء , ويقول: سيدي تريد أن تخدعني بهذا؟ (¬3). ومن الحكايات في هذا المعنى ما ذكرها النفزي الرندي عن أبي عبد الله الرازي أنه قال: كساني ابن الأنباري صوفاً , ورأيت على رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بذلك الصوف , فتمنيت في نفسي أن يكونا جميعاً لي , فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إليّ , فتبعته وكان من عاداته إذا أراد أن أتبعه أن يلتفت إليّ. فلما دخل داره دخلت , فقال: أنزع الصوف , فنزعه , فلفّه , وطرح عليه القلنسوة , ودعا بنار فأحرقهما (¬4). وعلى ذلك ذكر عنه الشعراني أنه كان إذا أعجبه شيء من ثيابه يذهب إلى التنور فيحرقه , فيقال له: هلاّ تصدقت به؟ فيقول: ما أشغل قلبي كذلك يشغل قلب غيري (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 462. (¬3) كتاب اللمع للطوسي ص 257. (¬4) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج2 ص 99. (¬5) الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 90 , أيضاً الطبقات الكبرى له ج 1 ص 104.

وقال الطوسي: " دخل بعضهم عليه فرأى بين يديه اللوز والسكر وهو يحرقهما بالنار " (¬1). هذا ومثل هذا كثير. ومن مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق اللحية حيث أمر بإعفائها , وعدّها من الفطرة حيث قال: (عشر من الفطرة: قص الشارب , وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم (¬2) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء وقال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) (¬3). وأما الصوفية فثبت منهم خلاف ذلك , فيقول الشعراني: " وبعضهم (الصوفية) يحلّق رأسه وحواجبه ولحيته " (¬4). وبهذا صرح أبو نعيم الأصفهاني والعطار عن أبي بكر الشبلي نقلاً عن أحمد بن محمد النهاوندي أنه قال: " مات للشبلي ابن كان أسمه غالبا , فجزّت أمه شعرها عليه , وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلق الجميع , فقيل له: يا أستاذ , ما حملك على هذا؟ فقال: جزّت هذه شعرها على مفقود , فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود؟ " (¬5). وإلى ذلك أشار ابن زروق في كتابه (¬6). وورد عن أبي يزيد البسطامي أيضاً أنه أمر مريده بحلق اللحية , والحكاية بكاملها ذكرها السهلجي , وأبن عجيبة , وعبد الغني الرافعي , فينقلون عن الحسن بن علي الدامغاني أنه قال: " كان رجل من أهل يسطام لا ينقطع عن مجلس أبي يزيد ولا يفارقه. فقال له ذات ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 483. (¬2) أي العقد التي على ظهر مفاصل الأصابع. (¬3) رواه مسلم. (¬4) الأخلاق المتبولية للشعراني ج1 ص 276. (¬5) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ج 10 ص 370 , أيضاً تذكرة الأولياء للعطار ص 282. (¬6) انظر قواعد التصوف لابن زروق ص 87 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1396 هـ.

يوم: أستاذ! أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل , وقد تركت الشهوات وليس أجد في قلبي من هذا الذي تذكره شيئاً بتة. وأنا أؤمن بكل شيء , تقول وأصدّق به , فقال له أبو يزيد: لو صُمْتَ ثلثمائة سنة وأنت على ما أراك لا تجد من هذا العلم ذرة. قال: ولم يا أستاذ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال له: فلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب؟ قال: نعم! ولكنك لا تقبل ولا تعمل. قال: بلى! أنا أقبل وأعمل ما تقول. فقال له أبو يزيد: إذهب الساعة إلى الحجام وأحلق رأسك ولحيتك وانزع منك هذا اللباس وأتزر بعباء وعلق في عنقك مخلاة وأملأها جوزاً واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من صفعني صفعة أعطيته جوزة. وأدخل إلى سوقك التي تعظم فيه وينظر إليك كلُّ من عرفك على هذه الحالة. فقال: يا أبا يزيد! سبحان الله! تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك: " سبحان الله " شرك. قال: وكيف؟ قال أبو يزيد: لأنك عظمت نفسك فسبّحتها. فقال: يا أبا يزيد! هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله , ولكن دُلّني على غير هذا حتى أفعله. فقال له أبو يزيد: ابتدأ بهذا قبل كل شيء حتى تّسقط جاهك وتّذل نفسك , ثم بعد ذلك أعرّفك ما يصلح لك. فقال: لا أطيق هذا. قال: قلت إنك لا تقبل وأنا لا أعلم " (¬1). فإذن لا يصلح أمر التصوف إلا لمن بادر إلى مخالفة الشرع بأمر شيخه ولم ينكر عليه , ولذلك كتب الشعراني: " لا ينبغي لأحد أن يبادر إلى الإنكار على أمر شيخه بحلق لحيته , فربما كان ذلك من شيخه ليدفع به عنه الكبر والفخر " (¬2). فهل يندفع الكبر والفخر , وتتأتى اللذة في الصوم والصلاة والتلاوة بالخروج على الكتاب والسنة؟ وبالمناسبة ننقل هنا ما قاله الأفلاكي نقلاً عن بعض مشايخه أنه قال: ¬

(¬1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 112 , 113 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 36 , ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 22. (¬2) الأخلاق المتبولية للشعراني ج1 ص 412.

" من سعادة المرء خفة لحيته , لأن اللحية حلية المرء , وفي كثرتها إعجاب المرء بنفسه , وهو من المهلكات " (¬1). وهذا كله رغم إدعائهم " من لم يتقيد بالكتاب والسنة فلا يمشي في ركابنا " (¬2). وقال الدسوقي: " كل من خالف السنة فهو عدوي " (¬3). ويقول الأسمر الفيتوري: " من لم يتبع السنة فليس منّا ولا نأخذ بيده " (¬4). على كل فإن الصوفية مع ادعائهم بأن طريقتهم مبنية على الكتاب والسنة ومتقيدة بهما لا يبالون بمخالفة أوامر الشرع ونواهيه , وبل وأنهم يحكمون بما يخالف الشريعة التي جاء بها محمد صلوات الله وسلامه عليه , وستأتي أمثلة ذلك في الباب التالي , ادعاء بأنهم لا يفعلون شيئا إلاّ إذا أمروا كما قال ظهير الدين القادري: " أنا لا أفعل شيئا إلا إذا أمرت " (¬5). والأمر من الله يكون أحياناً بالمخاطبة على لسان الهاتف كما يصرّح بذلك ابن عجيبة الحسني حيث يقول: " وتكون أيضاً مخاطبات على ألسنة الهواتف الكونية , فيسمع العارف منها كل ما يحتاج إليه , وهذا أمر مجرب لمن ذاق الفهم عن الله وفي ذلك يقول القشيري: أنا بالله أنطق ومن الله أسمع (¬6) وأحيانا يكون الأمر والنهي بنزول الملك كما يبين ذلك عبد العزيز الدباغ بقوله: " إن الولي ينزل عليه الملك بالأمر والنهي " (¬7). ¬

(¬1) مناقب العارفين (فارس) لشمس الدين أحمد الأفلاكي العارفي ج 1 ص 412 طهران 1362 هـ. (¬2) الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1 ص 258. (¬3) أيضاً. (¬4) الوصية الكبرى للأسمر الفيتوري ص 55. (¬5) أنظر الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 40 ط. (¬6) الفتوحات الإلهية لأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني ص 255 ط عالم الفكر القاهرة. (¬7) الإبريز للدباغ ص 151 طبعة قديمة مصر.

وقد بسطنا القول في مسألة نزول الوحي وإتيان الملائكة في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " فليراجع إلى ذلك (¬1). وعلى ذلك أدعى الصوفية أخذ العلم عن الله بلا واسطة , أي بلا واسطة الرسول صلى الله عليه وسلم , وسيأتي بيان ذلك أيضا في الباب التالي إن شاء الله. وإن القوم ليخالفون شرع الله , كتاب الرب وسنة النبي لأنهم لا يبالون بأوامرهما ومنهياتهما , وإن بعضاً منهم ليستخفّ بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم مثلما نقل السهلجي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: " أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى , وأنا ما أردت أن أرى الله , هو أراد أن يراني " (¬2). وحكى العطار وأبو طالب المكي وسبط ابن الجوزي عن بعض أصحاب أبي يزيد أنه قال: " كان عندي شاب صغير ملازم للخلوة فقلت له: هل رأيت أبا يزيد؟ قال: لا. فتركته أياماً وأعدت عليه القول. قال: لا. فلما أكثرت عليه قال: رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد. قال: فكررت عليه القول وهو لا يزيد على هذا. فغاظني. فقلت: لو رأيت أبا يزيد مرة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة. فقال: قم بنا إليه. فخرجنا نطلب أبا يزيد. وإذا به قد خرج من النهر وفروته مقلوبة على كتفه. فلما رآه الشاب صاح ومات. فقلت لأبي يزيد: ما هذا؟ فإنه ذكر أنه يرى الله وما مات. يراك فيموت؟ فقال: نعم! كان يرى الله على قدر حاله. فلما نظر إليّ. رأى الله على قدر حالي فلم يثبت فمات. قال: ثم داريناه فغسلناه وكفّنّاه وصلى عليه ودفنه وبكى " (¬3). وحكى السهلجي والعطار عنه أيضاً أنه جاءه رجل فقرأ عنده: " إن بطش ربك لشديد " قال أبو يزيد: وحياته إن بطشي أشد من بطشه (¬4). ¬

(¬1) أنظر " التصوف: المنشأ والمصادر " للمؤلف ص 159 وما بعد ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. (¬2) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 185 من شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي ط وكالة المطبوعات الكويت. (¬3) تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 84 ط باكستان , أيضاً مرآة الزمان لسبط بن الجوزي ص 213 , 214 من شطحات الصوفية للدكتور بدوي , أيضاً قوت القلوب لأبي طالب المكي ط صادر بيروت. (¬4) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 143 , أيضاً تذكرة الأولياء للعطار 288 , شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي ص 129 ط طهران 1360 هـ.

ونقل روزبهان بقلي شيرازي عن أبي موسى أنه قال: " سمع أبو يزيد مؤذناً يقول: الله أكبر , فقال: " وأنا أكبر من الله " - عياذاً بالله - (¬1). ويروون في كتبهم حديثاً موضوعاً حيث يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيت ربي في سكك المدينة على صورة شابّ أمرد " (¬2). ونقل العراقي المتوفى 688هـ عن الوراق أنه قال: " ليس بيني وبين ربي فرق إلاّ أني تقدّمت بالعبودية " (¬3). ومن إهانتهم لله سبحانه عز وجل أنهم نقلوا عن البسطامي أنه قال له الحق أخرج إلى خلقي بصفتي (وفي رواية بصورتي) فمن رآك رآني , ومن عظمك عظمني , فلم يسعني إلا امتثال أمر ربي , فخطوت خطوة إلى نفسي من ربي فغشي عليه , فإذا النداء " ردّوا عليّ حبيبي فلا صبر له عني " (¬4). ونقلوا عن بعض المشايخ أنه قال لتلميذه: " هل رأيت أبا يزيد "؟ فقال التلميذ: رأيت الله فأغناني عن أب يزيد , فقال له العارف: لأن ترى أبا يزيد مرة كان خيراً لك من أن ترى الله ألف مرة. فلما سمع ذلك منه رحل إليه فقعد مع العارف على طريقة , فعبر أبو يزيد وفروته على كتفه وفقال العارف للتلميذ: هذا أبو يزيد , فنظر إليه فمات من ساعته (¬5). ¬

(¬1) شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي (فارسي) ص 101 ط طهران 1360هـ. (¬2) حضرات القدس (فارسي) لبدر الدين السرهندي ط وزارة الأوقاف لاهور 1971. (¬3) لمعات (فارسي) لفخر الدين العراقي ص 102 بتصحيح محمد خواجوي ط انتشارات مولى إيران 1363هـ. (¬4) شرح كلمات الصوفية جمع وتأليف محمود محمود الغراب ص 156 ط مطبعة زيد بن ثابت القاهرة 1402هـ. (¬5) أيضاً ص 151.

وتجاوز أبو الحسن الخرقاني جميع الحدود وقال: " صارعت الله وصارعني , فغلب عليّ " (¬1). " لأني أقلّ من ربي سنتين " (¬2). والعجب كل العجب على الصوفية الذين يسمون هذه الإهانات والهفوات شطحيات المشايخ ويتأولونها بتأويلات لا يقرّها العقل ولا النقل , ويخترعون لهم أعذارا لا تؤيدها الشريعة الإسلامية , ويقولون: لا إنكار عليهم في أقوالهم وأفعالهم لأنهم محفوظون عن الخطأ والزلل (¬3). فدين الصوفية دين السخرية والاستهزاء , لا يخافون في ذلك لومة لائم , فنقلوا عن البسطامي أنه قال: " غبت في الجبروت , وخضت بحار الملكوت وحجب اللاهوت حتى وصلت إلى العرش فإذا هو خال , فألقيت نفسي عليه وقلت: سيدي , أين طلبك؟ فكشفت , فرأيت أني أنا , فأنا أنا (¬4). وحكوا عنه أيضاً أنه قال: " ضربت خيمتي بإزاء العرش " (¬5). وحكوا عن الشبلي أنه سئل: متى تستريح؟ فقال: إذا لم أر الله ذاكراً (¬6). كما نقلوا عن الخرقاني حكاية قالوا فيها: " نزل صوفي من الهواء يوماً وقال لأبي الحسن الخرقاني: ¬

(¬1) شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي (فارس ص طهران 1360 هـ). (¬2) لمعات لفخر الدين العراقي ص 102 بتصحيح محمد خواجوي ط انتشارات مولى إيران 1363هـ. (¬3) أنظر لذلك كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " ص 201 وما بعد. (¬4) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 164. (¬5) شرح شطحيات لروزبهان ص 86. (¬6) شرح كلمات الصوفية لمحمود الغراب ص 230.

أنا جنيد الوقت وشبلي العصر , فقام الخرقاني وضرب بقدمه الأرض وقال: أنا أيضاً إله الوقت ورسول العصر " (¬1). وأما إهانتهم واستخفافهم بخاتم الرسل والأنبياء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكي الكمشخانوي عن الشبلي أنه: " أذن مرة , فلما أنتهى إلى شهادة النبي عليه السلام قال: إلهي , لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك " (¬2). وذكروا عن أبي يزيد أنه قيل له: " أن الخلق كلهم لواء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة , فقال أبو يزيد: تالله , إن لوائي أعظم من لواء محمد عليه السلام , لوائي من نور تحته الجان والأنس كلهم من النبيين " (¬3). ويكتب الفيتوري: " قال الشيخ أحمد بن عروس لأهل تونس: لولا ما سبق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لشفعت في الأمم يوم القيامة , وكلّ إصبع من أصابعي يشفع في سبعين ألفاً " (¬4). فهؤلاء الصوفية ومشايخهم , جعلوا الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم هدف استخفافهم وموضع استهزائهم - حسب ما روى عنهم في كتب القوم أنفسهم - كأنهم لا يؤمنون بتوحيد الله وعظمته , وجلاله وكماله , وبرسالة النبي وعلو شأنه صلى الله عليه وسلم. وما دام الأمر كذلك فكيف يستبعد عنهم مخالفة أوامر الله ورسوله ونواهيهما واستهزاء الشريعة والنيل من شأنها. أعاذ الله جميع المسلمين من الزيغ بعد الهدى {رَبَّنَا ¬

(¬1) تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 282 ط باكستان. (¬2) جامع الأصول في أولياء لأحمد الكمشخانوي ط ... المطبعة الوهبية 1298هـ. (¬3) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 143 , شرح شطحيات لروزبهان ص 132. (¬4) الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 85 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.

لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬1). وأخيراً نذكر أن القرآن الكريم أيضاً لم يبق محفوظا عن أيدي المتصوفة , فلقد حاولوا أن يصرفوا الناس عن تلاوته والتذكير بآياته , فأنظر إلى النفري كيف يستخف بالقرآن الكريم ويستهين بآياته التي ذكر فيها الجنة والنار والثواب والعقاب والقيامة وأهوالها , فيكذب على الله سبحانه وتعالى حيث يقول: " قال الله تعالى " الليل لي لا للقرآن يتلى , الليل لي لا للمحمدة والثناء " يقول تعالى " إن لك في النهار سبحاً طويلا " فاجعل الليل لي كما هو لي ... وما طلبتك لتتلو القرآن فتقف مع معانيه فإن معانيه تفرقك عني فآية تمشي بك في جنتي وما أعددت لأوليائي فيها فأين أنا إذا كنت أنت في جنتي مع الحور المقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان متكئاً على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان , تسقى من رحيق مختوم مزاجه من تسنيم , وآية توقفك مع ملائكتي وهم يدخلون عليك من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار , وآية تستشرف بك على جهنم فتعاين ما أعددت فيها لمن عصاني وأشرك بي من سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم , وترى الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة , أين أنا يا عبدي إذا تلوت هذه الآية وأنت بخاطرك وهمتك في الجنة تارة وفي جهنم تارة , ثم تتلو آية فتمشي بك في القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد , وترى في ذلك اليوم من هذه الآية يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه , وترى العرش في ذلك اليوم تحمله ثمانية أملاك وفي ذلك اليوم تعرضون , فها أنت يا عبدي في النهار في معاشك وفي الليل فيما تعطيه تلاوتك من جنة ونار وعرض , فأنت بين آخرة ودنيا وبرزخ , فما تركت لي وقتاً تخلو بي فيه إلا جعلته لنفسك , والليل لي يا عبدي لا ¬

(¬1) سورة آل عمران الآية 8.

للمحمدة والثناء " (¬1). هذا ما قاله كبير القوم , وأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيروي ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار , ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سيد بن حضير قال: (بينما هو يقرا من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت , فقرأ فجالت فسكت فسكنت , ثم قرأ فجالت الفرس فأنصرف , وكان أبنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه , ولما أخره رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح , فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وتدري وما ذاك؟ قال: لا , قال: (تلك الملائكة ونت لصوتك , ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) (¬3). هذا وقد حكى الشعراني عن أبي عبد الله عمرو بن عثمان المكي أنه رأى الحسين بن منصور يوماً وهو يكتب شيئاً فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن (¬4). ¬

(¬1) شرح كلمات الصوفية لمحمود الغراب ص 256 , 257. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه واللفظ للبخاري. (¬4) طبقات الشعراني ج 1 ص 88.

الباب الثالث التصوف مؤامرة ضد الإسلام

الباب الثالث التصوف مؤامرة ضد الإسلام إن التصوف ليس عبارة عن الغلو والمغالاة والتطرف في الدين فحسب , بل هو مؤامرة حيكت وأحكم نسيجها ضد الإسلام والمسلمين , وشارك في تخطيطها وتشكيلها وبث سمومها ونشر أنفاثها خليط من الناس وعديد من الفئات لأغراضهم وأهدافهم , وقد ذكرنا هؤلاء الناس وأولئك الفئات في كتابنا ((التصوف .. المنشأ والمصادر)) عند ذكر مراجع التصوف ومصادره , منشئه ومنشئيه (¬1). أما الأغراض والأهداف فنذكرها هنا في هذا الباب وما بعده من الأبواب. فكان من أهم تلك الأهداف لأولئك الناس والجماعات إبعاد المسلمين عن الإسلام الحقيقي وتعاليمه الصافية النقية المعتدلة وباسم الإسلام , وترويج العقائد اليهودية والمسيحية , والمذاهب الهندية والفارسية , كالبوذية والهندوكية والزرادشتية والمانوية الأفلاطونية الحديثة , وغيرها من التيارات التي ليس لها أية صلة بالإسلام وبتعاليم الشريعة الحنيفية السمحاء الغراء لقتل روح الجهاد وفكرة إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله , وتبليغ رسالات الله وأدائها إلى الأمم والملل كافة في أنحاء المعمورة كلها. وأيضا تمكين الذل والاستكانة والهوان وإفشاء الجهل والكسل والخمول بينهم , وإزاحتهم عن الحكم والسلطة والاختيار , ولم يتمكنوا من هذا كله , ولم ينجحوا في مهمتهم إلا بوضع الأسس والقواعد المختلفة عن قواعد الإسلام وأسسه وأصوله لأنه بدون ذلك لم يكن يرجى فصلهم وقطعهم عن إرشاداته وتوجيهاته كلية , بل كان يتوقع الجوع إلى حظيرته بالرجوع إلى منابعه الأصلية ومصادره الحقيقية , ففرقوهم عن الجمع , وأبعدوهم عن الجماعات بوضع الأصول المنافية لأصول الجماعة وأسسها , فجماعة المسلمين كان مذهبهم ومسلكهم مبنيّا على الإسلام المعبر عنه بالقرآن والسنة , ومذهب القوم ومشربهم مبني على التصوف المعبر عنه بالكشف والإلهام , ليس ¬

(¬1) ومن أراد التثبت والتفصيل فليرجع إلى ذلك.

لشخص مخصوص ولا لرجل معين , بل لكلِّ كشفه وإلهامه , والكل منهم نبي صغير , وله شرعته ومنهاجه , وارتقى البعض إلى الإلوهية والربوبية كما سنبين كل ذلك بالدليل والبرهان , وبوضع النقاط على الحروف , فسوغوا شرائع جديدة ومذاهب بديعة , ومسالك طريفة , ومشارب غريبة , ثم دونت هذه الشرائع وهذه المذاهب والمسالك والمشارب , وسكبت في قوالب مختلفة , وسميت بسلاسل وطرق في عرف التصوف. فاخترع أهل كل سلسة قرآنًا لها بصورة مواجيد وترانيم , وقصائد وأناشيد وأوراد عجيبة , وأذكار مختلفة غريبة , وجعلوا السنة أحاديث المشايخ وقصصهم والأساطير المضحكة والحكايات المبكية , كما جعلوا صلواتهم الرقص والوجد وتحريك الرأس وتدويره آليًّا , وحجهم زيارة المشاهد والقبور والطواف حولها , وأكل ترابها والتمسح بجدرانها , وجعلوا صومهم ترك الطيبات , وتحريم ما أحل الله , والتجوع المحض طيلة شهور وأعوام , واعتكافهم الأنزواء في الخانقاهات والتكايا والربط والزوايا , والدخول في سراديب الأرض وكهوف الجبال وغيرانها , والسياحة التيه في الصحاري والبراري والقفار والمقابر , كما عكسوا مفهوم الزكاة وقلبوه , فجعلوها التسول والاستجداء والاسترزاق والاستعطاف , وجعلوا اليد السفلى خيرًا من اليد العليا , فأعرضوا عن العلم والعلماء , ولقنوا مريديهم ومن وقع في فخهم وحبائلهم بالاجتناب والإعراض عنه وعنهم كيلا يهرب صيدهم وينجو فريستهم من مخالب هؤلاء وأشواكهم بنور العلم وبصحبة العلماء , ولا يوجد في كتب الأولين منهم والآخرين , القديمين منهم والحديثين مخالفة أكثر من مخالفة العلم وأهله , وهذه وحدها كافية لمعرفة حقيقة التصوف والمتصوفة , فقالوا: " العلم حجاب الله الأكبر " (¬1). وفسره كبير مشايخ الصوفية في الهند نظام الدين الدهلوي المتوفى 725هـ بقوله: " إن العلم دون الحق , وكل ما هو دونه فهو يحجب عنه " (¬2). ¬

(¬1) ((سيرة الأقطاب والأولياء)) لمحمود بن المبارك علوي كرماني ص516 ط لاهور. (¬2) انظر ((سير الأولياء في أحوال ملفوظات مشايخ جشت)) بالفارسية لمحمد بن مبارك العلي الكرماني المتوفى 770هـ ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان لاهور , أيضا ((تذكرة أولياء باك وهند)) أردو للدكتور ظهور الحسن شارب ص 84 ط لاهور باكستان.

ومن تخريفات النفري أنه قال: " أوقفني الله في مقام الوقفة , وقال لي ": العلم حجابي. وقال: العالم يخبر عن الأمر والنهي , وفيها علمه , والواقف يخبر عن حقي وفيه معرفته. وقال: العلم في الرقّ , والواقف حرّ (¬1). وكذبوا على سفيان الثوري أنه قال: " لولا أن للشيطان فيه حظًّا ما ازدحمتم عليه يعني العلم " (¬2). وأيضًا " طلب هذا ليس من زاد الآخرة " (¬3). ونقل الطوسي عن بعضهم أنه قال: " إذا رأيت الفقير قد انحطّ من الحقيقة إلى العلم , فاعلم أنه قد فسخ عزمه , وحل عقده " (¬4). ويحكي الشعراني حكاية عن أحد الفقهاء , يستدل منها على أفضلية المتصوفة على العلماء بالشريعة , فيقول: " جاء مرة قاض من المالكية يريد امتحان الشيخ محمد الحنفي , فأعلموا الشيخ أنه جاء ممتحنًا فقال الشيخ رضي الله عنه: إن استطاع يسألني ماعدت أقعد على سجادة الفقراء , فلما جاء القاضي يسأل , قال: ما تقول في ... وتوقف. فقال له الشيخ رضي الله عنه: نعم , فقال: ما تقول في , وتوقف , له الشيخ رضي الله عنه: نعم , حتى قال ذلك مرارًا عديدة , فلم يفتح بشيء " (¬5). ويفرق كذلك بين المعرفة الصوفية وفقه الشريعة حيث يقول: ¬

(¬1) كتاب ((المواقف)) لمحمود بن عبد الجبار النفري ص 10 - 11 ط مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1934. (¬2) انظر ((غيث المواهب العلية)) للنفري الرندي ج 2 ص 147. (¬3) أيضًا. (¬4) كتاب ((اللمع)) للطوسي ص 233. (¬5) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني ج2 ص 94.

" كان الشيخ زكريا من العارفين , ولكنه تستر بالفقه " (¬1). ويفضّل الصقلي والدمياطي الصوفية على علماء الشريعة حيث يكتب: فلركعة من عارف هي أفضل ... من ألفها من عالم فتقبلا هذا دليل على أن العارف أفضل من غيره لأن ركعة من عارف أفضل من ألف ركعة من عالم غير عارف (أي غير صوفي). قال الشيخ أبو القاسم الصقلي في كتاب ((الأنوار)): ركعة من عارف أفضل من ألف ركعة من عالم (¬2). ونقلوا عن الجنيد أنه كان يقول: " المريد الصادق غني عن علم العلماء , وإذا أراد الله بالمريد خيرًا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء " (¬3). ومن الوقائع التي تترشح منها مخالفة طلب العلم , ويتدفق البغض والحقد على العلماء والطلاب ما ذكر ابن عجيبة الحسني حيث قال: " وقد عقد بعض الشيوخ حلقة الذكر في بيت مظلم , فلم يجدوا قلوبهم , فقال لهم: ائتوني بالمصباح , فلما أتوا به وجدوا معهم طالبًا من طلبة المدرسة , فأخرجوه فحينئذ , وجدوا قلوبهم " (¬4). ولذلك منعوه من الفكر والنظر في الأدلة واستعمال العقل , كما ذكر كل ذلك الشيخ الأكبر للصوفية في رسالته: " إن المريد لا ينبغي له الكلام إلا بما شاهده وعاينه , والصمت عليه واجب , والفكر عليه حرام , والنظر عليه في الأدلة محظور .... والأَوْلى بالشيخ إذا رأى المريد يجنح ¬

(¬1) أيضًا ج2 ص 128. (¬2) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 106 ط أيضًا كتاب ((الأنوار)) لأبي القاسم الصقلي نقلا عن الكفاية ص 106. (¬3) ((طبقات الشعراني)) ج1 ص84 طبعة قديمة 1305هـ. (¬4) ((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة الحسني ص 119 ط عالم الفكر القاهرة.

إلى استعمال عقله في النظريات ولا يرجع إلى رأيه فيما يدله عليه فليطرده إلى منزله " (¬1). ومثل ذلك بل أصرح وأوضح ما 1كره عبد الغني الرافعي حيث قال: " إذا طلب المريد من شيخه دليلا شرعيًّا أو عقليًّا على ما ذكره من المعارف الإلهية والإشارات الربانية فليزجره ويهجره , وإن لم يفعل فقد خانه في التربية ... وذلك لأن الواجب في هذا الطريق التصديق للمرشد والتسليم لغيره , ويحرم على المريد الفكر والنظر في الأدلة , ويجب عليه الصمت وعدم التكلّم. وإذا أصر المريد على الفكر والنظر في الأدلة , فليطرده , لئلا يفسد عليه بقية أصحابه , كما يجب عليه طرده إذا علم أن حرمته سقطت من قلبه (¬2). وسبب ذلك أن " طريق القوم أمر خاص زائد على علوم الظاهر " (¬3). والعلم الظاهر المقصود منه علم القرآن والسنة , فإن المتصوفة يريدون أن يترك المسلون تعلم كتاب الله ودراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعون خرافاتهم وخزعبلاتهم وأوهامهم التي يسمونها إلهامًا , وتخيلاتهم التي يسمونها كشفًا كما ذكر ذلك ابن عجيبة الحسني: " كان طريق التصوف مؤسسة على الكتاب والسنة , وإلهامات العارفين الذين تنورت عقولهم, وانصقلت مرآة قلوبهم فيها فتجلى فيها ما كان حقًّا , وزهق منها ما كان باطلا , فكانت طريقتهم مبنية على التحقيق " (¬4). فأضاف القوم إلى الكتاب والسنة أوهامهم وخرافاتهم أيضًا باسم الإلهامات , وهي الأصل والمحك عندهم , وعلى هذا الأساس خالفوا نصوص الكتاب والسنة ولم يسمحوا مجال الاعتراض لمريديهم التجاء إلى هذه القاعدة الصوفية كما سنبِّين ذلك في هذا الباب إن شاء الله. ¬

(¬1) ((الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط)) لابن العربي , المنشور مع ((ذخائر الأعلاق)) له أيضًا ص 269 - 270 ط مطبعة السعادة القاهرة. (¬2) ((ترصيع الجواهر المكية)) لعبد الغني الرافعي ص 129. (¬3) ((الأنوار القدسية)) للشعراني نقلا عن علي بن وفا , ج1 ص 194 ط بغداد العراق. (¬4) ((الفتوحات الإلهية)) في شرح المباحث الأصلية لابن عجيبة ص 344 ط عالم الفكر القاهرة 1983م.

هذا , ولم يكتم بعض منهم , حيث صرحوا بمخالفة طلب ذلك العلم الشريف, علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في الدين, حتى إنهم نقلوا عن أبي سليمان الداراني أنه قال: " من طلب الحديث فقد ركن إلى الدنيا " (¬1). وروي عن رابعة البصرية أنها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا (¬2). ورووا عن بشر بن الحارث الحافي أن سبب تركه طلب الحديث أنه سمع أبا داود الطيالسي يحدث عن شعبة أنه كان يقول: " الإكثار من طلب الحديث يصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون؟! فلما سمعه منه قال: انتهينا انتهينا. ثم ترك الرحلة في طلب الحديث , وأقبل على العبادة (¬3). ونقلوا عن الجنيد أنه كان يقول: " أحب للصوفي أن لا يقرأ ولا يكتب , لأنه أجمع لهمّه وأحبّ للمريد المبتدي أن لا يَشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حاله: التكسب , وطلب الحديث , والتزوّج " (¬4). ومثل ذلك نقلوا عن أبي بكر نصر بن أحمد الدقاق - وكان من أقران الجنيد - أنه قال: " آفة المريد ثلاثة أشياء: التزويج , وكتابة الحديث , ومعاشرة الضد " (¬5). وروى الصوفية عن سفيان الثوري أنه كان يقول: " ليس طلب الحديث من عدة الموت , لكنه علة يتشاغل بها الرجل " (¬6). كما رووا عن بشر بن الحارث أنه سأله رجل أن يحدثه فأبى عليه , فجعل يرغبه ¬

(¬1) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 2 ص 152. (¬2) انظر أيضًا ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 2 ص 57. (¬3) ((غيث المواهب العلية)) في شرح الحكم العطائية للنفري الرندي ج2 ص 145. (¬4) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 1 ص 267 ط دار صادر بيروت. (¬5) ((الطبقات الكبرى)) لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص88. (¬6) ((غيث المواهب العلية)) ج 2 ص 147.

ويكلمه وهو يأبى عليه , قال فلما أيس منه قال له: يا أبا نصر ما تقول لله غدًا إذا لقيته وسألك لِمَ لا تحدث؟ قال: فقال له بشر , أقول: يا رب كانت نفسي تشتهي أن تحدث , فامتنعت من أن أحدث ولم أعطها شهوتها (¬1). وزاد الخطيب: قال بشر: " إني وإن أذنت للرجل وهو يحدث. فإنه عندي قبل أن يحدث أفضل كثيرًا من كائن من الناس , وإنما الحديث اليوم طرق من طلب الدنيا , ولذة , وما أدري كيف يسلم صاحبه؟! وكيف يسلم من يحفظه , لأي شيء يحفظه , قال بشر: وإني لأدعو الله أن يذهب به من قلبي , ويذهب بحفظه من قلبي , وإن لي كتبًا كثيرة قد ذهبت , وأراها توطأ ويرمى بها فما آخذها , وإني لأهم بدفنها وأنا حي صحيح , وما أكره ترك ذاك خير عندي. وما هو من سلاح الآخرة , ولا من عدد الموت " (¬2). ويروي العطار في تذكرته أن بشرًا الحافي درس الحديث , ثم دفن جميع كتبه في الأرض , ولم يحدث قط (¬3). ويذكر الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه انقطعت عنه رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشتغاله بفقه الكتاب والسنة , فيقول: " كان سيدي أبو المواهب الشاذلي رضي الله عنه يقول: انقطعت عني رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة , فحصل لي غمّ بذلك , فتوجهت بقلبي إلى شيخي يشفع فيَّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ها أنا - أنظر التعبير- فنظرت فلم أره. فقلت: ما رأيته , فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! غلبت عليه الظلمة , وكنت قد أشتغلت بقراءة جماعة في الفقه .... فتركت الاشتغال بالفقه فرأيته " (¬4). ¬

(¬1) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) للأصبهاني ج8 ص 355 ط دار الكتاب العربي بيروت. (¬2) ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي ج7 ص 71 ط دار الكتاب العربي بيروت. (¬3) ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين عطار ص66 ط باكستان. (¬4) ((طبقات الشعراني)) ج2 ص 75.

وبلغت بهم الجرأة والكراهة للحديث وأهلة إلى أن قالوا: إن رجلا استشار معروفًا الكرخي في صحبة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقال له جوابه: " لا تصحبه , فإن أحمد صاحب حديث , وفي الحديث اشتغال بالناس , فإن صحبته ذهب ما تجد في قلبك من حلاوة الذكر وحب الخلوة (¬1). وابن عجيبة الحسني يحذر من مجالسة العلماء والاستماع إليهم بقوله: " الجلوس معهم اليوم أقبح من سبعين عاميًّا غافلا وفقيرًا جاهلا , لأنهم لا يعرفون إلا ظاهر الشريعة , ويرون أن من خالفهم في هذا الظاهر مخطئ أو ضال , فيجهدون في رد من خالفهم , يعتقدون أنهم ينصحون وهم يغشون. فليحذر المريد من صحبهم والقرب منهم ما استطاع. فإن توقف في مسألة ولم يجد من يسأل عنها من أهل الباطن فليسأله على حذر , ويكون معه كالجالس مع العقرب والحية. والله ما رأيت أحدًا من الفقراء قرب منهم وصحبهم فأفلح أبدًا في طريق الخصوص " (¬2). وهذا مع إدعائهم " علمنا هذا مؤيد بالكتاب والسنة " (¬3). والجدير بالذكر أن المتصوفة كما يخالفون العلم والعلماء وطلب الحديث , يخالفون كذلك إسناد الحديث الذي ليس هو إلا من قوائمه , فلا يقوم إلا به , رغبة في ترويج أباطيلهم وأضاليلهم , وزيغهم وضلالهم كذبًا على نبي الله , وزورًا على رسوله صلوات الله وسلامه عليه كيلا يعرف الحق من الباطل , والصدق من الكذب , ويميز الصحيح من السقيم , وعلى ذلك نرى أن كتب أكثرهم مليئة بالأحاديث الموضوعة والروايات المختلقة المزورة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كُتُب الغزالي فيلسوف الإسلام وفقيه المسلمين , ولما سئلوا عنها وعن مواردها ورواتها قالوا: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أو في اليقظة , مدَّعين تصحيحها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ¬

(¬1) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج2 ص236. (¬2) ((ايقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني ص 97 ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة 1402هـ. (¬3) انظر ((الرسالة القشيرية)) ج1 ص118 , ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن ص127 , ((حياة القلوب)) للأموي ص 292 , ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج2 ص93 , ((تنبيه المغتربين)) للشعراني ص6 , ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي ج2 ص 149 , ((شرح كلمات الصوفية)) لمحمد الغراب ص 207.

عن الله رأساً دون النظر إلى إسنادها , ورواتها مثل ما ذكر الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن الحديث المشهور , ((واذكروا حتى يقولوا مجنون)) , وفي ((صحيح ابن حبان)): ((أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق ابن حبان في روايته, وصدق راوي " اذكروا الله " فإني قلتهما معًا , مرة قلت هذا, ومرة قلت هذا (¬1). ويقول نجم الدين الكبرى المقتول 618هـ: " غيث فأبصرت النبي - عليه السلام- ومعه علي , فبادرت إلى علي فأخذت بيده وصافحته , وألهمت كأني سمعت في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صافح عليًّا دخل الجنة , فجعلت أسأل عليًّا عن هذا الحديث أصحيح هو؟ فكان يقول: نعم , صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من صافحني دخل الجنة " (¬2). وفي هذا المعنى ذكر الصوفي المشهور أبو طالب المكي قصة مكذوبة على الإمام احمد بن حنبل , أن داود المحبر لما صنّف كتاب ((العمل)) جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه , فنظر فيه أحمد صفحًا , ثم رده إليه. فقال: ما لك؟ قال: أسانيد ضعفاء. فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد , فانظر فيه بعين الخبر " (¬3). وما أكثر ما يقوله المتصوفة ردّا على أهل الحديث لتمسكهم بالإسناد تصحيحًا لرواية وتضعيفًا لها: " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت , وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت " (¬4). ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني ج2 ص 76. (¬2) ((فواتح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبرى ص12 بتصحيح الدكتور رفريتز مائر , ط ألمانيا 1957م. (¬3) ((قوت القلوب في معاملة المحبوب)) لأبي طالب المكي ج2 ص152. (¬4) ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي ص153 , ((الجواهر والدرر)) للشعراني ص 286 , هامش الرسالة القشيرية ج1 ص88 وغيرها من الكتب الكثيرة.

كما نقلوا ذلك عن أبي يزيد البسطامي , وسيأتي بيان ذلك مفصلاّ - إن شاء الله - في هذا الباب. ويعلق على قول البسطامي هذا أحد المتصوفة المعاصرين: " أقام الله أولياءه مقام الرسول في التفقه في الدين والإنذار, وهو الذي يدعو إلى الله عل بصيرة , كما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة لا على غلبة ظن , كما يحكم عالم الرسوم , فشتان بين من هو فيما يفتي به ويقوله على بصيرة منه في دعائه , إلى الله وهو على بينة من ربه , وبين من يفتي في دين الله بغلبة ظنه , ثم إن من شأن عالم الرسوم عن الذب عن نفسه أنه يُجَهِل من يقول فهمني ربي , ويرى أنه أفضل منه وأنه صاحب العلم , إذ يقول من هو أهل الله إن الله ألقى في سري مراده بهذا الحكم في هذه الآية , أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعتي فأعلمني بصحة هذا الخبر المروي عنه وبحكمه عنده , فمن ورث محمدًا في جمعيته كان له من الله تعريف بالحكم وهو من مقام أعلى من الاجتهاد, وهو أن يعطيه الله التعريف الإلهي أن حكم الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسالة هو كذا, فيكون في ذلك الحكم بمنزلة من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الله فيه فيعرف صحة الحديث من سِقَمه سواء كان الحديث عند أهل النقل من الصحيح أو مما تُكُلِّم فيه , فإذا عرف فقد أخذ حكمه من الأصل, لذلك قال أبو يزيد البسطامي في هذا المقام, وصحته تخاطب علماء زمانه علماء الرسوم: " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت , وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت, يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي. وأنتم تقولون: حدثنا فلان , وأين هو؟ قالوا: مات , عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات " فلا حجاب بين الله وبين عبده أعظم من نظره إلى نفسه وأخذه العلم عن فكره ونظره , وإن وافق العلم فالأخذ عن الله أشرف " (¬1)؟ ويقول الشعراني: " أخبرني الشيخ محمد الشناوي أن ثم جماعة ببلاد اليمن لهم سند بتلقين الصلاة ¬

(¬1) ((شرح كلمات الصوفية)) لمحمود الغراب ص 154 ط مطبعة زيد بن ثابت 1402هـ.

والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلقنون المريد بذلك , ويشغلونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزال يكثر منها حتى يصير يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة , ويسأله عن وقائعه كما يسأل المريد شيخه من الصوفية, وأن مريدهم يترقى بذلك في أيام قلائل, ويستغني عن جميع الأشياخ بتربيته صلى الله عليه وسلم " (¬1). وذكر أيضا عن سليمان الحضيري الصوفي أنه قال: " بينما أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ رأيت جماعة عليهم ثياب بياض , وعلى رؤوسهم غمامة من نور , يقصدونني من ناحية الجبل , فلما قربوا مني فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فقبلت يده, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمض معنا إلى الروضة , فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الشيخ جلال الدين (السيوطي) فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقبّل يدَه وسلم على أصحابه , ثم أدخله الدار, وأجلسه وجلس بين يديه, فصار الشيخ جلال الدين (السيوطي) يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأحاديث , وهو صلى الله عليه وسلم يقول: هات يا شيخ السنة " (¬2). ومثله في ((كتاب قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) (¬3). ونقل النبهاني مثل ذلك عن أبي محمد بن الخطيب (¬4). وأما فريد الدين العطار فينقل عن أبي الحسن الخرقاني أنه قال: " وهبني الله جميع العلوم والمعارف مع كوني أميًّا , وقرأت الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدقه مريده , فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه يقول: صدق الرجل , صدق الرجل - ثم يقول المريد: بدأت أتردد إليه وأقرأ ¬

(¬1) ((الأنوار القدسية)) للشعراني ج 1 ص32 ط العراق. (¬2) ((الطبقات الصغرى)) لعبد الوهاب الشعراني ص28 - 29 الطبعة الأولى , القاهرة 1970م. (¬3) ((قلادة الجواهر)) لأبي الهدى الرفاعي ص 422. (¬4) انظر ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني ج2 ص 215.

الحديث , فأحيانًا كان يقول: هذا الحديث ليس بصحيح , ولما سألته كيف عرفت ذلك؟ قال: لما تقرأ الحديث اشتغل بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكلما قرأت الحديث الصحيح تبسم النبي صلى الله عليه وسلم وتنورت جبهته, وإذا مررت بحديث موضوع ظهرت كآبة على وجهه - عليه الصلاة والسلام - فبذلك أُمَيِّز الصحيح من الضعيف " (¬1). ويصرح الدباغ قائلا: " قد ينزل الملك على الولي , ويخبره بصحة حديث ضعفه العلماء " (¬2). فمن الغريب أن الصوفية إذا لم يجدوا السند في مسألة يدعون أنهم أخذوا عن الملك ,أو عن الخضر كما يقول الشعراني في مسألة اتصال السند بلبس الخرقة: " فلا تستغرب يا أخي توقُّفَ بعض المحدثين في اتصال السند بلبس الخرقة , فإنه معذور في ذلك , لعسر استخراج ذلك من كتب المحدثين على غالب الصوفية , فرحم الله الحافظ بن حجر والجلال السيوطي في تبيينهما اتصال السند بذلك. وإن الشيخ محي الدين بن عربي لم يطلع على اتصال سندهما من طريق النقل الظاهر, فأخذها من طريق الخضر - عليه السلام - لما اجتمع به حتى اعتمد عليه في السند " (¬3). وعبد الله الأنصاري الهروي أيضًا أنكر ضرورة الإسناد للعلم الصوفي حيث كتب: " العلم اللدني إسناده وجوده , وإدراكه عيانه , ونعته حكمه , ليس بينه وبين الغيب حجاب " (¬4). فالمعنى أن العلم اللدني لا يحتاج إلى إسناد , فوجوده إسناده. فهكذا أرادوا نشر الجهل ومحو العلم بهدم القواعد وتحطيمها , التي لم تؤسس ولم ¬

(¬1) ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار ص 277. (¬2) ((الإبريز)) للدباغ ص 151 طبعة قديمة مصر. (¬3) ((الأنوار القدسية)) للشعراني ج1 ص 30. (¬4) ((منازل السائرين)) للخواجه عبد الله الأنصاري الهروي ص132 نشر أفغانستان 1350.

تخطط إلا للمراعاة والمحافظة على العلوم والفنون , كيلا تلعب بها يد المحتالين المنتحلين والعابثين المبطلين. وما الله بغافل عما يعملون , ... وهذا مع أهمية الإسناد واهتمام المسلمين به لكونه عمدة ومعيارًا للقوي والضعيف والصحيح والسقيم, وعلى ذلك بوَّب الإمام مسلم بن حجاج القشيري بابًا في ((صحيحه)) لبيان أن الإسناد من الدين , ونقل فيه عن محمد بن سيرين أنه قال: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " (¬1). وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: " الإسناد من الدين , ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " (¬2). وروي عنه أيضا أنه قال: " بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد " (¬3). فهذه هي منزلة الإسناد عند أهل السنة وأئمتهم , ولماذا لا يكون؟ لأن الإسناد يعرِّف أسماء الرواة , وبأسمائهم تفتش عن أحوالهم , وبأحوالهم تحكم على مروياتهم , وإذا لم يكن ذلك لم يتأت الخبر , ولم يحصل اليقين , ولكن المتصوفة جعلوا الحديث لعبة يلعبون بها لإثبات مزاعمهم ونظرياتهم , فحديث الناس جعلوه حديثًا للنبي المعصوم - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على كشفهم إلهامهم , فجعلوا الموضوع ثابتًا, والضعيف قويًا , والسقيم صحيحًا دون النظر إلى روايته ومصدره , قائلين بأنهم سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم رأسًا , أو علموا تصحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة , أو بواسطة الملك , أو بتعليم الخضر , وهذه إحدى وجوه مخالفة العلم وطرقها. وقبل أن نتقدم إلى فكرة أخرى نريد أن نذكّر الباحث والقارئ أن مخالفة العلم منافية لتعاليم القرآن والسنة , لأن العلم نور وضياء تستنير به الأمم طريقهم إلى الهدى , ويستضيئون به في ظلمات الطريق , ويصلون به إلى المقصود والمرام , ولا يخالف النور ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) أيضا رواه مسلم. (¬3) أيضًا.

والضياء إلا الذين يحبون الجهل والظلام , لا يتمنون إلا الظلام الدامس , لأن النور يذهب بأبصارهم , ويقضي على رغباتهم وشهواتهم , وما أحسن ما قاله ابن الجوزي ردَّا على الصوفية في تركهم التشاغل بالعلم: " أعلم أن أول تلبيس على الناس صدُّهم عن العلم , لأن العلم نور فإذا أطفأ مصابيحهم , خبطهم في الظلم كيف شاء ... وروي عن ضرار بن عمرو قال: إنّ أقواما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم , وأخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه , وخالفوا السنة فهلكوا , فو الله الذي لا إله غيره ما عمل عامل على جهل إلا كان ما يُفسد أكثر مما يصلح .... كما روي عن أبي الحسن بن سالم أنه قال: جاء رجل إلى سهل بن عبد الله (التُّسْتَرِيُّ) وبيده محبرة وكتاب. فقال لسهل: جئت أن أكتب شيئًا ينفعني الله به. فقال: اكتب, إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة والكتاب فافعل. قال: يا أبا محمد أفدني فائدة. فقال: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علمًا , والعلم كله حجة إلا ما كان عملا , والعمل كله موقوف إلا ما كان منه على الكتاب والسنة , وتقوم السنة على التقوى. وعن سهل بن عبد الله أنه قال: احفظوا السواد على البياض, فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق. وعن سهل بن عبد الله أنه قال: احفظوا السواد على البياض , فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق , وعن سهل بن عبد الله أنه قال: ما من طريق إلى الله أفضل من العلم , فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلام أربعين صباحًا ... وروي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل أنه كان يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول: هذه سرج الإسلام , وكان هو يحمل المحبرة على كبر سنة , فقال له رجل: إلى متى يا أبا عبد الله؟ فقال: المحبرة إلى المقبرة (¬1). ¬

(¬1) انظر ((تلبيس إبليس)) للإمام ابن الجوزي البغدادي المتوفى 597هـ ص 310 وما بعد تحت عنوان ((تلبيس إبليس على الصوفية في ترك تشاغلهم بالعلم)) , ط دار القلم بيروت 1403 هـ.

هذا , وقد ذكر الرب - تبارك وتعالى - العلم في موضع المدح والثناء , وحلّى به أنبياءه وأصفياءه , وجعله مفخرة يعتز ويفتخر به , كما جعل الجهل وعدم العلم عيبًا يعاب وينتقص عليه ويزدري به , فقال جل من قائل: {يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬1). ومدح أهل العلم بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (¬2). كما أدرجهم ضمن من يشهد بألوهيته ووحدانيته , حيث قال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} (¬3). لأنهم هم المؤمنون حقيقيًا , ويؤمنون بكل ما ينزل من عنده: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (¬4). ومدح طالوت , وبين سبب اختياره , واصطفائه من بين الناس , لأنه صاحب علم , فقال: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (¬5). هذا , وقد زين نبيه يوسف بالعلم , حيث قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} (¬6). وأباه من قبل أيضًا: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬7). وكذلك الخضر: ¬

(¬1) سورة المجادلة الآية 11. (¬2) سورة فاطر الآية 28. (¬3) سورة آل عمران الآية 18. (¬4) سورة آل عمران الآية 7. (¬5) سورة البقرة الآية 247. (¬6) سورة يوسف الآية 22. (¬7) سورة يوسف الآية 68.

{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} (¬1). ولوطًا كذلك: {آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (¬2). وكذلك موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} (¬3). وداود وسليمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} (¬4). وذكر مَنَّهُ وإحسانه على أفضل البشر وسيد الخلق بقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (¬5). وأمهر بطلب المزيد منه بقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (¬6). وأما الجهل , فوصف به قوم موسى الذين: {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬7). وقوم لوط أيضًا: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬8). وقوم هود الذين قال لهم نبيهم: {وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} (¬9). ¬

(¬1) سورة الكهف الآية 65. (¬2) سورة الأنبياء الآية 79. (¬3) سورة القصص الاية 14. (¬4) سورة النمل الآية 15. (¬5) سورة النساء الآية 113. (¬6) سورة طه الآية 114. (¬7) سورة الأعراف الآية 138. (¬8) سورة النمل الآية 55. (¬9) سورة الأحقاف الآية 23.

ومشركي الجزيرة الذين حاجوا خاتم النبيين ورسول الله إلى العالمين صلى الله عليه وسلم في دعوته , وعارضوه فأمر أن يخاطبهم: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (¬1). وأمر المؤمنين عامة أن يعرضوا عن الجهال بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} (¬2). والآيات في هذه المعاني لا تعد ولا تحصى. ومثل ذلك وردت أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح العلم والتحريض على اكتسابه , والثناء على العلماء , وذم الجهل وأهله , فقال عليه الصلاة والسلام: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا , سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , حتى إذا لم يبقَ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالا , فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)) (¬4). وقال: ((من دل على خير , فله مثل أجر فاعله)) (¬5). والحديث المشهور: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا , سهل الله به طريقًا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لرضًى لطالب العلم. وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا , وإنما ورِّثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (¬6). ¬

(¬1) سورة الزمر الآية 64. (¬2) سورة الفرقان الآية 63. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه. (¬5) رواه مسلم. (¬6) رواه أحمد والترمزي وأبو داود وابن ماجه والدارمي.

وعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين, فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا) (¬2). وقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) (¬3). وقال: (من خرج في طلب العلم , فهو في سبيل الله حتى يرجع) (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها, فرب حامل فقه غير فقيه , ورب حامل فقه إلا من هو أفقه منه) (¬5). و (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله, ينفون عنه تحريف الغالين , وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين) (¬6). وأيضًا: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالمًا يصلي المكتوبة, ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة, ثم يجلس فيعلّم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي. (¬2) رواه الترمذي. (¬3) رواه ابن ماجه والبيهقي. (¬4) رواه الترمذي والدارمي. (¬5) رواه الشافعي والبيهقي في ((المدخل)). (¬6) رواه البيهقي. (¬7) رواه الدارمي , وصححه الألباني.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا. ولكن القوم أحبوا الجهل وكرهوا العلم , واشتروا الضلالة بالهدى والغي بالبصيرة, وتفننوا في مخالفة العلم وذويه, وتقريب الجهل وترويجه, فاحتالوا واخترعوا طريقًا آخر , وجاءوا وسموه كشفًا وإلهامًا, وبذلك أرادوا القضاء عليه إطفاء نور الهداية والرشد بمنع الناس عن القرآن , وصدهم عن السنة زاعمين أن السنة منقولة من ميت عن ميت, وكشفهم وإلهامهم عن الحي الذي لا يموت, فلا حجة لها عليهم, ولهم ولكلامهم حجة عليها وعلى الخلق , وهذا ضرب من ضروب الجهل, وإغراق وانغماس فيه , ولا شك في أنه مؤامرة خطيرة ضد شريعة الله التي جاء بها محمد بن عبد الله خاتم أنبياء الله وسيد رسله صلى الله عليه وسلم وليس هناك مؤامرة أكبر وأخطر من هذه, لأنها تتضمن نسخ شريعة الله الأخيرة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم , لأنها ما دام أوامر الرب تنزل , وأحكامه تتنزل, وإرشاداته تلهم, وتعليماته تعرف بالكشف, فلا معنى لانقطاع النبوة وختم لرسالة وكمال الدين وتمام النعمة. ولو كان القرآن كافيًا لهداية الأمة وإرشاد الناس , لما احتيج إلى إنزال الأمور بعده. ولو كانت السنة النبوية شافية, لما اضطر إلى تنزيل السنن الجديدة وتقنينها , وإن كانت تلك السنن سنن رسول الله لم يبينها هو - عليه السلام- لتلاميذه الراشدين وأصحابه الطيبين, فكيف أدى الأمانة وبلغ الرسالة, ولماذا شهد الله عنه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (¬1)؟ أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين القرآن, فاحتيج إلى أن يبينه الله بعد وفاته بواسطة صوفي أو متصوفة , فما معنى قوله إذن: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2) وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3). ¬

(¬1) سورة التكوير الآية 24. (¬2) سورة النحل الآية 44. (¬3) سورة آل عمران الأية 164.

فدعوى الكشف والإلهام ليس إلا تعطيلا للعلم والقواعد الشرعية بدون أصول ثابتة وأسس مطردة , وكذلك نشر الفوضوية والهمجية, حيث لا يلزم أحد بشيء , ولا يطلب منه شيء لإمكان وجود الكشف والإلهام خلافه, زيادة على ذلك إمكان الإلهامات المختلفة, والمكاشفات المتناقضة المتضاربة , في وقت واحد باختلاف الأشخاص وتعدد الملهمين وأهل الكشف, لأنه لا مدخل للعقل , ولا مقام للفكر فيها كما قال الشيخ الأكبر للمتصوفة محيي الدين بن عربي في ((فتوحاته)): " اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر, وإنما هي من الفيض الإلهي " ... (¬1). ويقول: " إن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس هو عن رؤيَّة وفكر , وإنما هو عن نفث في رُوعي على يد ملك الإلهام " (¬2). و" جميع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتاب إنما هو إملاء إلهي , ولقاء رباني , أو نفث رُوحاني في روح كِياني , كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم , لا بحكم الاستقلال ... وإن ترتيب أبواب ((الفتوحات)) لم يكن عن اختيار ولا عن نظر فكري , وإنما الحق أملى علينا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره , وقد نذكر كلامًا بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بعده , وذلك شبيه بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} بين آيات طلاق ونكاح وعدة وفاة تتقدمها وتتأخرها. وإن العارفين إنما كانوا لا يتقيدون بالكلام على ما بوبوا عليه فقط , لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز منها, فمهما برز لها أمر بادرت لامتثاله, وألفته على حسب ما حد لها, فقد تلقى الشيء إلى ما ليس من جنسه امتثالا لأمر ربها " (¬3). ¬

(¬1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي ,الباب السابع والأربعون نقلا عن كتاب ((الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر)) للشعراني ج1 ص5 بهامش ((اليواقيت والجواهر)). (¬2) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي , الباب السادس والسون وثلاثمائة. (¬3) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي من أبواب شتى نقلا عن كتاب ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ص8.

وعلى ذلك يقول في بداية فصوصه: " إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق , وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب, فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم, خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا. فحققت الأمنية, وأخلصت النية, وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة (2 - 1) ولا نقصان , وسألت الله تعلى أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان , وان يخصني في جميع ما يرقمه بناني, وينطق به لساني , وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الرُّوع النفسي بالتأييد الاعتصامي, حتى أكون مترجمًا لا متحكمًا, ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس. وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي , فما ألقى إلا ما يلقى إليَّ, ولا أنزل في هذا المسطور إلا ينزل به علي. ولست بنبي ولا رسول , ولكني وارث , ولآخرتي حارث. فمن الله فاسمعوا ... وإلى الله فارجعوا فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به ... فعوا (¬1) وبعدئذ لا يبقى لأحد أن يعترض على صوفي , أو ينتقد فعلا من أفعاله , أو يطعن في أمر من أوامره, أو يتكلم في تعليم من تعاليمه, مهما كان مخالفًا للعقل والنقل , لأن النقل مأخوذ ميتًا عن ميت كما روى السهلجي عن أستاذه أنه قال: " حضرت مجلس أبي يزيد البسطامي والناس يقولون: فلان لقي فلانًا. قال أبو يزيد: مساكين أخذوا ميتًا عن ميت, وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت. ¬

(¬1) ((فصوص الحكم)) لابن عربي ص47 - 48 مقدمة الكتاب, ط دار الكتاب العربي بيروت بتعليق أبي العلا عفيفي.

وقال أيضًا: الناس يقولون له , وأن أقول منه (¬1). وأيضًا قال ردًّا على رجل فقيه: " علمك يا شيخ نقل عن لسان التعليم , لا للعمل , وعلمي من الله إلهامات من عنده " (¬2). ونقلوا عن أصحاب الجنيد أنه قال: " مدارج العلوم تكون بالوسائط , وأما مدارج الحقائق , فلا تكون إلا بالمكاشفة " (¬3). ويقول ابن عربي: " علماء الرسوم يأخذون خلفًا عن سلف إلى يوم القيامة , فيبعد النسب , والأولياء يأخذون عن الله ألقاه في صدورهم " (¬4). ونقل النفزي الرندي عن المتصوفة أنه دخل عليه إنسان وهو يبكي, فقال: ما يبكيك؟ قال: مات أستاذي. فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟ (¬5). ونقل الشعراني عن مشايخه أنه صرح بكل وضوح وجلاء: " لا يكمل الرجل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله - عز وجل - بلا واسطة من نقل أو شيخ , فإن من كان علمه مستفادًا من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات , وذلك معلول عند أهل الله عز وجل. ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها, فاته حظه من ربه - عز وجل - لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفنى الرجل عمره فيها ولا يبلغ حقيقتها, ولو أنك يا أخي سلكت على يد شيخ من أهل الله - عز وجل- لأوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى, فتأخذ عنه العلم بالأمور من طريق ¬

(¬1) ((النور من كلمات أبي طيفور)) للسهلجي ص 100 المنشور في ((شطحات الصوفية)) للبدوي. أيضًا ((الفوحات المكية)) لابن عربي ج 1 ص139 مقدمة الكتاب. أيضًا ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي ص 153 ط مطبعة السعادة القاهرة. أيضًا ((الجواهر والدرر)) للشعراني ص286 بهامش (الإبريز) للدباغ, أيضًا ((الطبقات الكبرى)) له ص5. أيضًا هامش ((الرسالة القشيرية)) ج1 ص88. أيضًا ((شرح كلمات الصوفية)) لمحمود الغراب ص 153. (¬2) ((النور من كلمات أبي طيفور)) للسهلجي ص100. (¬3) ((طبقات الشعراني)) ج1 ص117. (¬4) مصرع التصوف هامش للوكيل نقلا عن المناوي. (¬5) ((غيث المواهب العلية)) للنفري ج1 ص237 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر كما أخذه الخضر عليه السلام. فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر, وظن وتخمين (¬1). فهذا النص يرشح كل ما في إناء الديانة الصوفية من مخالفة طلب العلم والسعي لاكتسابه , والرحلة في سبيله , فلا يخرج أحد لطلب علوم القرآن والحديث, وليجلس في دير من دور القوم أو خلوة من الخلوات ويشتغل فيها بالعبادة والتحنث فيفتح الله عليه جميع العلوم بالتجلي على قلبه - عياذًا الله - كما ذكر الشعراني مبينًا نزول صورة العلوم والإلهام عليه ردًا على سؤال سأله: ((ما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء؟)) فأجاب: " صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما, تجلى إلى قلب ذلك الولي في صورة الأمر, فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم فهناك يجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم من الشريعة " (¬2). هذا بالنسبة للعقل, وأما النقل , فلقد صرح ابن عربي أنه لا علاقة له بعلمهم الذوقي والكشفي والإلهامي كما قال: " وتختلف الطريق في تحصيل العلوم بين الفكر والوهب وهو الفيض الإلهي , وعليه طريقة أصحابنا , ليس لهم في الفكر دخول لما يتطرق إليه من الفساد, والصحة فيه مظنونة , فلا يوثق بما يعطيه ... ولهذا يقال في علوم النبوة والولاية: إنها وراء طور العقل , ليس للعقل فيها دخول بفكر, لكن له القبول , خاصة عند السليم العقل الذي لم تغلب عليه شبهة خيالية فكرية, يكون من ذلك فساد نظره " (¬3). وأيضًا: " إن علوم الأنبياء والأولياء أذواق لا عن فكر ونظر " (¬4). وقال محمد الاستنبولي: " لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني ص5. (¬2) ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج2 ص 84 ط مصطفى البابي الحلبي 1378هـ. (¬3) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي , الجزء الرابع والعشرون, الباب السابع والأربعون , السفر ص 162 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975م. (¬4) ((ختم الأولياء)) للحكيم الترمذي ص239 هامش ط المطبعة الكاثوليكية بيروت.

بشرِّ , لأن دائرة الولاية تبدأ من وراء طور العقل , لبنائها على الكشف " (¬1). ويعرف الخواجة عبد الله الأنصاري الهروي الكشف بقوله: " هو بلوغ ما وراء الحجاب وجودًا " (¬2). فإذن لا إنكار على ما يقوله مشايخهم ويتفوهون به مخالفًا للعقل والنقل , ولا رد على ما يعملون ويأتون به منافيًا للدليل الشرعي والبرهان النظري. وأقطع النصوص في ذلك هو ما صرح به عبد الغني الرافعي حيث قال: " ومن آداب الطريق أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه وبينة منه , فلا يزن أحواله ميزانه , فقد يصدر من الشيخ ما صورته مذمومة وهو محمود في الباطن , ومنهم من يجسد روحانيته على صورته ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون , فيقولون: رأينا فلانًا يفعل كذا. وهو بمعزل من ذلك الفعل ... وكأنما إنما يفعلون ذلك ليصرفوا الناس عنهم " (¬3). فالمعنى أن الصوفية لا إنكار عليهم , ولو رآهم أحد يزني , ويشرب الخمر, ويعمل الخبائث , ويرتكب المحرمات , لأنه من الممكن أن تتجسد روحانيته في صورة مثل صورته ويرتكب حرامًا , وهو " بمعزل من ذلك ". فوا أسفي على مؤامرة الصوفية ضد الإسلام والشريعة الإسلامية النقية الزكية النزيهة عن مثل هذه الفلسفات الشيطانية, فإنها لا تعرف شيئًا من هذه الحيل والعلل التي اخترعها الصوفية بالشريعة وأوامرها وهتك حرمتها. وإلا فما المراد من تحريم الفكر والنظر في الأدلة على المريد وتحريم موازنة أفعال وأحوال شيخه بميزان الشريعة , وإيجاب التسليم لمرشده وهاديه الذي لا يهديه إلا إلى الزيغ والضلال وإلى طريق الجحيم. فهذا جزاء لمن أراد أن يحافظ على الشريعة ولا يتركها بأمر من يريدون القضاء ¬

(¬1) ((الطبقات الصغرى)) للشعراني ص 38. (¬2) ((منازل السائرين)) للخواجة عبد الله الإنصاري الهروي ص 192. (¬3) ((ترصيع الجواهر المكية)) لعبد الغني الرافعي ص 34.

عليها من المتصوفة. ورواية أخرى رواها الجعلي الفضلي عن صوفي سوداني أنه كان " يرد المطلقة ثلاثًا من غير زوج ينكحها , وكان الشيخ عبد القادر ابن الشيخ إدريس ينكر عليه في ذلك , ويقول له: جميع الناس تسويهم أولاد الزنا. فيقول له: متى ما أنكر عليه: اسأل أمك. فسأل أمه طاهرة عن ذلك, فقالت: أبوك طلقني ثلاثًا , مكثت عزبة ثماني سنين , فردّني له , فحملت بك. فقال له الشيخ: يا عبد القادر , رجعنا لك " (¬1). وذكر الجعلي هذا واحدًا من مشايخه ومتصوفيه محمد الحميم بن عبد الصادق أنه تزوج من تسعين امرأة , وجمع بين العشرات , كما جمع بين بنات الشيخ بان النقا , وبين بنات أبي لدودة اثنتين اثنتين , فأنكر عليه القاضي , وقال له: يا شيخ محمد , خمست , وسدست , وعشرت حتى جمعت الآن بين أختين, تخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لي بذلك ... فقال له القاضي: جميع هذه الأنكحة فسختها , فدعا عليه وقال له: الله يفسخ جلدك. فمرض القاضي, وانفسخ جلده ... وقال في رده أبياتًا منها: فإن كنت يا قاضي قرأت مذاهبًا ... فلم تدرك يا قاضي رموز مذاهبنا فمذهبكم نصلح به بعض ديننا ... ومذهبنا يعجم عليكم إذا قلنا قطعنا البحار الزاخرات وراعنا ... فلم يدر الفقهاء أين توجهنا حللنا بواد عندنا اسمه الفضا ... فضاق بنا الوادي ونحن ما ضقنا حللنا بقرب القاب روحًا من الدنا ... عجنا شموسًا أخجلت شمس نورنا (¬2) ومثل ذلك رووا عن عبد الرحمن الجامي الصوفي الخراساني الفارسي المشهور انه قدم سيف الدين أحمد ومعه جملة من المدرسين , فعمل لهم الضيافة , ثم أقام لهم الغناء والرقص , فقال بعض الحاضرين للشيخ: ¬

(¬1) كتاب ((الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين)) للجعلي الفضلي ص103 ط المكتبة الثقافية بيروت لبنان. (¬2) أيضا ص 150 - 151.

يا مولانا , كيف استماع الغناء والضرب بالدفوف والرقص , ما هو خلاف الشرع؟ فحول الشيخ وجهه إليه , وتكلم في أذنه خفية, فظهر منه صوت عجيب , وحصل له وجد بالسماع وضرب الدف, ولما أفاق اعتذر للشيخ (¬1). وأشنع منها الحكاية التي ذكرها اليافعي أن بعض الأمراء " استأذنته امرأته ذات ليلة في الخروج من بيته فأذن لها ثم تبعها , ولم يزل يمشي بعدها إلى أن جاءت إلى موضع سماع الشيخ وفقرائه , فرأى النساء وقربها من الفقراء , فأنكر عليه بقلبه , وقال: هؤلاء الفاعلون التاركون يسمعون والنساء عندهم. ثم إنه أخذه حرقان بول , فتنحى إلى مكان ليبول فيه , فوجد فرج امرأة , فعرفه من أين أتى, ثم وقف حتى تفرق الناس وهو محزون متحير في أمره , فوقف على الشيخ وقال له: هكذا يكون الفقراء إذا جلس عندهم النساء , فاستغفر الله تعالى من ذلك الخاطر, ودعا له الشيخ فعاد إلى حالة الأول " (¬2). ومن الغرائب أن الهجويري المعروف بالاعتدال يحكي عن إحدى الصوفيات فاطمة البلخية أنها ذهبت مع زوجها الصوفي المشهور أحمد بن خضرويه البلخي إلى با يزيد, فلما أقبلت على با يزيد ورفعت البرقعة عن وجهها وكانت تتحدث معه بجرأة, فتعجب أحمد من ذلك , واستولت الغيرة على قلبه , فقال: يا فاطمة , أيّ جرأة تلك التي كانت لك مع با يزيد؟ فقالت: لأنك أنت محرم طبيعتي , وهو محرم طريقتي (¬3). هذا , والوقائع مثل هذه أكثر من أن تعد وتحصى , وأن يسعها باب أو كتاب , إن دلت على شيء دلت على أنه لا استنكار ولا نكير على الصوفية فيما يأمرون ويفعلون , ويقولون ويعلمون , لأن لهم علاقة رابطة واتصالا مع الله بطريق الكشف والإلهام ¬

(¬1) ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني ج2 ص61. (¬2) ((نشر المحاسن الغالية)) في فضل مشايخ الصوفية لعبد الله اليافعي ص87 بهامش ((جامع كرامات الأولياء)) ط دار صادر بيروت. (¬3) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية للدكتورة إسعاد عبد الهادي قنديل ص 332 ط بيروت , أيضًا ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار ص 169 ط باكستان , أيضًا النور ص170.

غير مسطور في القرآن ولا مذكور في السنة , فهم يعملون حسب ما يلهمون , ويقولون حسب ما يكشف لهم مثل ما ينقل عبد القادر أحمد عطا عن الشعراني أن " الأولياء لهم علوم يتداولونها فيما بينهم لم يسطر في الكتاب , ولم يطرق سمع أحد علم منها, وهي كثيرة " (¬1). وبمثل ذلك قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق المتعاطف على التصوف والمتصوفة: " وأهل التصوف يؤثرون العلوم الإلهامية دون التعليمية , ويعدونها المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية التي يستحيل معها إمكان الخطأ. ولذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون , والبحث عن الأقاويل والأدلة , بل قالوا: إن الطريق إلى تحصيل تلك الدرجة بتقديم المجاهدة , ومحو الصفات المذمومة, وقطع العلائق كلها , والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فطريق الصوفية يرجع إلى تطهيرٍ محضٍ وجلاء ومحاسبة للنفس , ثم استعداد وانتظار للتجلي " (¬2). وعلى ذلك قال الشعراني: " لا ينبغي لأحد أن يبادر إلى الإنكار على من أمره شيخه بحلق اللحية - بعد ما ذكر حكاية غريبة عن الشيخ عبد الغفار القوصي - أن بعض الأولياء كان جالسا يعظ الناس , فنزل من الكرسي وضرب شخصًا على رأسه من السامعين , ثم رجع إلى الكرسي فقال فقيه: هذا حرام عليك , أيش عمل هذا حتى تضربه؟ فقال المضروب: أنا أستحق ذلك , لأني اغتبت في نفسي وليًا من الأولياء المدفونين فضربني تعزيرًا , فخجل ذلك الفقيه من الشيخ , ثم إنه نزل وضرب شخصًا آخر, فسألوه عن ذلك. فقال: إنه خطر في نفسه أنه أفضل من العلماء الحاضرين. وقال له: كيف تفضل نفسك؟ أما علمت أن ذلك ذنب إبليس الذي أخرج به من الجنة؟ فقال ¬

(¬1) انظر مقدمة كتاب ((الطبقات الصغرى)) لعبد الوهاب الشعراني عبد القادر أحمد عطا ص 10 الطبعة الأولى القاهرة 1970. (¬2) ((التصوف)) مقال مصطفى عبد الرزاق عن التصوف ص69 بيروت 1984م.

الشخص: أستغفر الله نعالى! وتاب من ذلك " (¬1). ومثل ذلك قال في أخلاقه بعد ما ذكر عن المتبولي أنه قال: " علمت من كان في ظهر آدم من السعداء حال كونهم ذرات , فلا يزيدون على ما علمت ولا شخصًا واحدا , وكذلك أطلعني الله تعالى على جميع ما يفعله كل عبد حين أرى أنفه فأعرف ما وقع فيه في الماضي , وما يقع فيه في المستقبل من خير وشر- ثم قال -: وقلت: وينبغي التسليم لكل من ادعى أن الله أطلعه على ذلك , لأنه ادعى ممكنًا " (¬2). وابن عجيبة الحسني لم ير أن يتأخر عن الجماعة ترويجًا لهذا الباطل , فقال بعد ما نقل عن أبي بكر الشبلي أنه كان له تلميذ, فكساه رجل يومًا جبة , وكان على رأس الشبلي قلنسوة , فخطر على قلب التلميذ محبة القلنسوة ليجمعها مع الجبة , فكاشفه الشيخ فأزال له الجبة وجمعها مع القلنسوة , ورمى بهما في النار , وقال له: لا تبق في قلبك التفاتًا لغير الله - قال بعد ذكر هذه الحكاية -: وأنكر عليه بعض أهل الظاهر المتجمدون على ظاهر الشريعة جهلا بالمقصود , لأن أعمال الصوفية مبينة على العبادة القلبية (¬3). فهكذا خالف القوم الشريعة, ونقضوها وعطّلوها, وهدموا قواعدها بدعوى الكشف والإلهام , فادعى بعض منهم بعدم التفريق بين النبي والولي من حيث الوحي والإلهام , وزاد بعضهم في غلوائه , فرجحوا الولاية على النبوة , وزعموا بعدم ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإتيان النبي (¬4). وارتقى البعض الآخر إلى أن وصل إلى مرتبة الألوهية والربوبية , فقالوا في ذلك ما قالوا (¬5). والجدير بالذكر أن جل إلهامات القوم وأكثر مكاشفاتهم ليست من الرب - عز اسمه ¬

(¬1) انظر ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني ج1 ص411 - 412. (¬2) ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني ج1 ص124 ط القاهرة. (¬3) ((ايقاظ الهمم)) لابن عجيبة ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة 1402هـ. (¬4) انظر كتابنا ((التصوف: المنشأ والمصادر)) الباب الثالث منه. (¬5) انظر لذلك كتابنا ((أولياء أم آلهة)) الباب الأول.

وجل مجده , - بل إنها خبالات نفسانية أو بخارات صعدت إلى مفكراتهم وأذهانهم من سوء الهضم , والتجوع , والسهر, أو تخيلات المهووسين والمجانين أو إلقاءات وإيحاءات شيطانية , لاختلافها وتناقضها وتعارضها وتبيانها باختلاف الأشخاص والبيئات. فوجود الاختلاف دليل على أن مصدرها ومنبعها ليس بواحد , وهذا واضح وجلي لمن عرف مكاشفات القوم, واطلع على إلهاماتهم, وقرأ في كتبهم , فمكاشفات ابن عربي تختلف عن مكاشفات ابن سبعين , وإلهامات أبي البسطامي عن با يزيد الأنصاري وذي النون المصري , والرفاعي عن الشاذلي والنقشبندي عن السهروردي, والجشتي عن القادري, والبكتاشي عن النوربشتي , والتيجاني عن العروسي ... {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (¬1). وعلى ذلك انتبه لهم علماء الإسلام وفقهاء الأمة, وتصدوا لهم بالرد على أفكارهم وخيالاتهم , ففسّقوا البعض وكفّروا الآخرين , وافتوا بالزندقة على قسم منهم, ولم يكن ردهم عليهم إلا أن قالوا كما نطق به شيخهم الأكبر: " ويزيل رجل الطريق التفكر عن نفسه جملة واحدة , فإنه مفرّق لهمّه , ويعتكف على مراقبة قلبه عند ربه , عسى الله أن يفتح له الباب إليه , ويعلم ما لم يكن يعلم , مما علمته الرسل وأهل الله , مما لم تستقل العقول بإدراكه , وإحالته. فإذا فتح الله لصاحب هذا القلب هذا " الباب " حصل له تجلِّ إلهي , أعطاه ذلك التجلي بحسب ما يكون حكمه , فينسب إلى الله منه أمرًا لم يكن قبل ذلك يجرأ على نسبته إلى الله - سبحانه - ... غير أن أصحابنا اليوم يجدون غاية الألم , حيث لا يقدرون يرسلون ما ينبغي أن يرسل عليه سبحانه كما أرسلت الأنبياء - عليهم السلام - فما أعظم تلك التجليات! وإنما منعهم أن يطلقوا عليه ما أطلقت الكتب المنزلة والرسل - عليهم السلام - عدم إنصاف السامعين من الفقهاء وأولي الأمر, لما يسارعون إليه في تفكير من يأتي بمثل ما جاءت به الأنبياء - عليهم السلام - في جنب الله, وتركوا - أعني ¬

(¬1) سورة النساء الآية 82.

هؤلاء الفقهاء - معنى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} كما قال له صلى الله عليه وسلم ربه - عز وجل - عند ذكره الأنبياء والرسل عليهم السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. فأغلق الفقهاء هذا الباب من أجل المدعين الكاذبين في دعواهم. ونعم ما فعلوا , وما على الصادقين في هذا من ضرر, لأن الكلام والعبارة عن مثل هذا ما هو ضربة لازب. وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كفاية لهم. فيوردونها, يستريحون إليها: من تعجب , وفرح , وضحك وتبشبش , ونزول , ومعية , ومحبة , وشوق , وما أشبه ذلك مما لو انفرد بالعبارة عنه الولي كفر, وربما قُتل. (303) وأكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقًا وشربًا. فأنكروا مثل هذا من العارفين , حسدًا من عند أنفسهم. إذ لو استحال إطلاق مثل هذا على الله تعالى , ما أطلقه على نفسه , ولا أطلقته رسله - عليهم السلام - عليه. ومنعهم الحسد أن يعلموا أن ذلك رد على كتاب الله, وتحجير على رحمة الله أن تنال بعض عباد الله, وأكثر العامة تابعون للفقهاء في هذا الإنكار , تقليدًا لهم , بل بحمد الله أقل العامة ... فانظر ما يقاسيه في نفسه العالم بالله. فسبحان من أعمى بصائرهم علماء الرسوم , حيث أسلموا وسلموا , وآمنوا بما به كفروا, فالله يجعلنا ممن عرف الرجال بالحق , لا ممن عرف الحق بالرجال (¬1). " إنما كان الناس ينكرون على أهل الله تعالى علومهم لأنها جاءت أصحابها من طرق غريبة غير مألوفة, وهي طرق الكشف, وأكثر علوم الناس إنما جاءتهم من طريق الفكر, فلذلك كانوا ينكرون كل ما جاءهم من غير هذا الطريق , وما كل أحد يقدر على جلاد مرآة قلبه بالمجاهدة والرياضة حتى يصير يفهم كلام أهل الله, ويدخل دائرتهم , ولكن لله في ذلك حكم وأسرار (¬2). وأيضًا " لقد وقع لنا وللعارفين أمور ومحن بواسطة إظهارنا المعارف والأسرار, ¬

(¬1) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي السفر الرابع ص221 إلى 227 ط الهيئة المصرية العامة ايضًا. (¬2) أيضًا الباب الثامن والثلاثون والأربعمائة نقلا عن ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج1 ص25.

وشهدوا فينا بالزندقة , وآذونا الأذى, وصرنا كرسول كذبه قومه وما آمن معه إلا قليل , وأعدى عدو لنا المقلدون لأفكارهم , وأما الفلاسفة فيقولون عنا: هؤلاء قوم أهل هوس, قد فسدت خزانة خيالهم , فضعفت عقولهم , ويا ليتهم إذ لم يصدقونا جعلونا كأهل الكتاب لا يكذبونا فيما لم يخالف شرعنا , مع أنا لا يضرنا بحمد الله إنكارهم علينا لجهلهم " (¬1). ونقل الشعراني مثل ذلك عن الجنيد سيد الطائفة أنه قال: " لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق, وذلك , لأنه إذا نطق بعلوم الأسرار لا يسع الصديقين إلا أن ينكروا عليه " (¬2). وذكر الشعراني في مقدمة كتابه ((الطبقات الكبرى)) الكثيرين من المشايخ الصوفية الكبار الذين أخرجوا من بلادهم , وفُسّقوا وكُفّروا مثل أبي يزيد البسطامي , وذي النون المصري , وسمنون , وسيد الطائفة الجنيد , والحكيم الترمذي, وأبي مدين المغربي, وغيرهم الكثيرين الكثيرين (¬3). وذكر ماسنيون سبب سخط الفقهاء وغضبهم على المتصوفة حيث قال: " ولكن الفقهاء والمتكلمين أسخطهم أن يروا أناسًا يتحدثون عن نشدان الضمير, ويحتكمون إلى قصائد الباطن, في حين أن شريعة القرآن تحاسب على الأعمال الظاهرة , وتعاقب الناس على آثامهم, ولا حيلة لها مع النفاق في الدين , ولذلك حاولوا أن يبينوا أن حياة الصوفية لا محالة مفضية بهم إلى الزيغ ". وعن مثل هؤلاء قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ¬

(¬1) ((التدبيرات الإلهية)) لابن عربي ص113 ط مطبعة بريل ليدن 1336هـ , أيضًا ((درر الغواص)) للشعراني ص320 بهامش ((الإبريز)) للدباغ طبعة قديمة مصر, أيضًا ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ص25 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. (¬2) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني. (¬3) المصدر السابق.

ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (¬1). و {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). ¬

(¬1) آية رقم 79 سورة البقرة. (¬2) آية رقم 78 سورة آل عمران.

الباب الرابع التصوف .. بدعه وخصائصه

الباب الرابع التَصُّوف .. بدعه وَخصَائِصه إن المصنف لما يتعمق في كتب المتصوفة ورسائلهم وصحفهم , في سيرهم وسلكوهم , أحوالهم وطبقاتهم , أسسهم وقواعدهم , ليرى أن أمرهم مبني إما على التطرف أو مخالفة الشريعة , أو مكوّن من البدع والزيغ والضلال. فأما تطرفهم ومخالفتهم للشريعة فلقد ذكرناها فيما سبق , ونورد ههنا ما أبتدعوه واستحدثوه باسم الدين في التصوف , ولو أن كل هذا من حيث المبدأ والمال من قسم واحد لأن التطرف أيضا بدعة في الدين , ومخالفات الشرع منهي عنها في الإسلام , ولكننا خصصنا هذا الباب لبيان أشياء أختصّ بها المتصوفة , وجعلوها من ميزاتهم وشعاراتهم , بل أنها من لوازمهم وخصائصهم , قلّما يتصور صوفي ولا يتصور هذه الأشياء معه أو يتصور هذه الأشياء ولا يحضر في الذهن التصوف والمتصوفة من قديم الزمان وحديثه باختلاف الكّم والكيف مثل الرقص والغناء , والوجد والتواجد , والأناشيد والمواجيد ووالقصائد والترانيم , والأذكار والأوراد بألفاظها المخصوصة وآدابها الخاصة , وتصور الشيخ , وصحبة المريد , والخلوات والخانقاوات وآداب المكوث فيها وغيرها من الأمور التي خصصوا لبيانها أبواباً وفصولا في كتبهم. ويلاحظ الباحث أن للقوم نظاماً خاصاً , ومميزاً عن نظام الإسلام , وآداباً ومناهج لم يرد ذكرها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم تعرف في القرون الأولى للشهود لها بالخير , بل أخذوها من غير المسلمين , والبعيدين عن الإسلام وعقائده , أفكاره ومعتقداته , بل هي تخالف في شكلها وصورتها , وبحروفها وألفاظها , وكلماتها ومنطوقها , ومعانيها ومدلولاتها , وأسمها ورسمها , وسيرتها وتشكيلها , وأدائها وأسلوبها من الإسلام الساذج , غير المتكلف والمصطنع , دين الفطرة ودين البساطة , فأين هو وتعاليمه من الرقص والتمايل وجداً وطرباً , والذكر وحلقاته ,

والحركات على التصفيق والبكاء والتصدية , وضربات الذكر , وتحريك الرأس والجسم آلياً وبهلوانياً , والجلوس بين يدي الشيخ كالجلسة بين يدي الربّ الخشوع والخضوع , وعدم التنفس أمامه والسؤال منه والاعتراض عليه وعلى كل ما يفعله ويأمر به , والمكوث في سراديب الأرض واللبث في كهوف الجبال وغيرانها , وغير ذلك من الخرافات والخزعبلات. فالإسلام دين يشمل الدنيا والآخرة , ويعامل الإنسان كما خلق في أحسن تقويم , مكرم ومعظم , وله حقوق , وعليه فرائض , وله إخوان وخلاّن وأهل وعيال , ووالد وما ولد , وأقارب وجيران , وأسرة وبيئة يعيش فيها ومجتمع يحيطه , فلا يستغني عنهم ولا يستغني عنه , وعلى ذلك يقال: إن الإنسان مدني الطبع , وهو كذلك , ولذلك بعث الله النبيين وأرسل الرسل ليهدوه ويسلكوا سبيل المؤمنين المتقين والمعتدلين يراعون الذمم , ويصلون الرحم ويوفون بالعهود , ويرحمون الصغير , ويوقرون الكبير , ويداوون المريض , ويواسون الجريح , ويجبرون المكسور , ويقرون الضيف , ويراعون اليتيم , ويعطون المسكين , ويحافظون على ما أمر الله بحفظه , ويراعون الله فيما أمرهم برعايته , ويخافونه ويتقونه حق تقاته. ولكن التصوف ليس هكذا , فهو إنزواء وحشة وتنافر من الناس وأعتزال عنهم , ثم رقص وسماع , وأكل وشرب على الإستجداء , ونوم في الروابط , لا الكسب ولا الطلب , ولا الزواج ولا المعاشرة , ومخالفة فطرة الله التي فطر الناس عليها. وقد ذكرنا أشياء منها , نذكر ههنا من بدع القوم ومحدثاتهم التي علقت بهم ولزمتهم , أو عرفت بهم وعرفوا بها. فمن بدعهم ما يسمونه سماعاً , وهو: سماع أناشيد وأبيات غزلية فيها ذكر الهجر والوصل , والقرب والبعد , والعذاب الملامة , والعذل واللوم , والقطيعة والشوق , والحب والعشق , والحبيب والمعشوق , والقدود والخدود , والحسن والجمال , والغنج والدلال , والخمر والكؤوس , والساقي والسيقان , مع الآلات وبدونها مكاء وتصدية ,

دون سماع القرآن وأحاديث سيد الأنام. كما يقول ابن عجيبة الحسني: " السماع هو استماع الأشعار بالنغم والموسيقى " (¬1). وجعلوا هذا السماع من لوازم التصوف حيث نقلوا عن علم من الأعلام المتصوفة الحسين النوري أنه سئل عن الصوفي فقال: " الصوفي الذي سمع السماع وآثر على الأسباب " (¬2). وقال أبن البنا السرقسطي: وللأنام في السماع خوض ... لكن لهذا الحزب فيه روض وإن للشيوخ ... فنّا ... إذ جعلوه للطريق ركناً (¬3). ونقل الشعراني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: " مما يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن " (¬4). و" أنه من أسرار الله تعالى في الوجود " (¬5). وقالوا: " السماع لصف غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدّق عن سائر الأعمال , ويدرك برقه الطبع لرقته , ويدرك بصفاء السر عند صفاء السر لأهله " (¬6). ونقلوا عن الجنيد أنه قال: " الرحمة تنزل على الفقير في ثلاثة مواضع: عند الأكل فإنه لا يأكل إلا عند الحاجة , وعند الكلام فإنه لا يتكلم إلا لضرورة , وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد " (¬7). ¬

(¬1) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 183 ط عالم الفكر القاهرة. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 343 , أيضاً الرسالة القشيرية ج 2 ص 644. (¬3) المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 183. (¬4) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية للشعراني ج 2 ص 179 ط دار إحياء التراث العربي بغداد. (¬5) التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 223 ط ليدن. (¬6) كتاب اللمع للطوسي ص 342 , الرسالة القشيرية ج 2 ص 646. (¬7) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 191 , ومثله في كتاب اللمع للطوسي ص 343 , وفي الرسالة القشيرية ج 2 ص 645 , وفي أحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247 , وفي قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 61 , وفي عوارف المعارف للسهروردي ص 176.

ويذكر الهجويري واحد من المشايخ أنه كان يقول: " السماع تنبيه الأسرار لما فيها من المغيبات " (¬1). وأما الكلاباذي فيقول: " السماع استجمام من تعب الوقت , وتنفس لأرباب الأحوال , واستحضار الأسرار لذوي الأشغال. وإنما اختير على غيره مما يستروح - هكذا - إليه الطباع , لبعد النفوس عن التشبث به والسكون إليه , فإنه من القضاء يبدو , وإلى القضاء يعود " (¬2). ونقل الغزالي وأبو طالب المكي عن بعض المشائخ أنه قال: " رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له: ما تقول في هذا السماع الذي أختلف فيه أصحابنا؟ فقال له: الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام الفقهاء " (¬3). وأما ابن عجيبة فنقل هذا عن رسول الله حيث قال: " حكى عن بعض الأبدال أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم , فقلت: ما تقول في السماع الذي عليه أصحابنا؟ فقال: هو الصفاء الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء " (¬4). ونقل الشعراني عن سهل بن عبد الله أنه كان يقول: " معنى السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو , والعبارات تقصر عنه ولكن الصادقون - كذا - تشير إليهم المعاني فيستريحون بذلك من تعب الحجاب " (¬5). ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 653 طبعة عربية. (¬2) التعرف للكلاباذي ص 190. (¬3) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247 , أيضاً قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 63. (¬4) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 185. (¬5) الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 182 , ومثله في الرسالة القشيرية ج 2 ص 650.

ونقل الوزير لسان الدين بن الخطيب عن أبي علي الروذباري أنه سئل عن حقيقة السماع فقال: " المنطق الذي ظهر الحق به , ونطق به في الأزل " (¬1). والقشيري ذكر عنه أنه سئل عن السماع فقال: " مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب " (¬2). ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال: " السماع وارد حق يزعج القلوب إلى الله " (¬3). ونقل القشيري عنه أنه سئل عن الصوت الحسن فقال: " مخاطبات وإشارات أودعها الله تعالى كل طيب وكل طيبة " (¬4). وهو الذي روى عن بعض المتصوفة أنه سئل عن السماع فقال: " بروق تلمع ثم تخمد , وأنوار تبدو ثم تخفى , ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين , ثم أنشأ يقول: خطرة في السر منه خطرت ... خطرة البرق ابتدى ثم أضمحل أيّ زور لك لو قصداً سرى ... ومسلم بك لو حقاً فعل (¬5). ونقلوا عن السري السقطي أنه قال: " تطرب قلوب المحبين إلى السماع , وتخاف قلوب التائبين , وتكاب قلوب المشتاقين " (¬6). ونقل الغزالي عن أبي الحسين الدراج أنه قال: " جاء بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجود الحق عند العطاء , فسقاني بكأس ¬

(¬1) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 270. (¬2) الرسالة القشيرية ج 2 ص 649. (¬3) كشف المحجوب للهجويري ص 652. (¬4) أنظر الرسالة القشيرية ج 2 ص 645. (¬5) أيضاً ص 657. (¬6) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 184.

الصفاء فأدركت به منازل الرضاء , وأخرجني إلى رياض التنزه والفضاء " (¬1). وهناك كلام القشيري في رسائلة كاد أن يكون جامعاً وشاملاً لهذه المعاني كلها حيث يقول تحت عنوان " ما السماع ": " السماع إدراك الغيوب بسمع القلوب بفهم الفؤاد لحقائق المراد , الوقوف على إشارات الحق عند وجود عبارات الخلق , الترقي مما يقرع سمع الظاهر إلى ما يوجب جمع السرائر إصغاء القلب إلى خطاب الغيب , إشارات ترد على الأسرار عند عبارات تسمع من الأغبار إنطلاق لسان السرائر إذا سكت لسان الظواهر , جريان لسان الفؤاد والعبد ساكت بين العباد , مفاوضة الأحباب وسكوت اللسان عن الخطاب. السماع من موجبات الرأفة ومذهبات الكلفة , السماع سفير يؤدي إليكم رسائل الغيب بحسن التولي , غذاء الأرواح وشفاءها , روح القلوب وصفاءها , لطائف الغيب وزوائده , نتائج القرب وعوائده. السماع يبرز كل وجد كامن ويزعج كل قلب ساكن , السماع مبهج لقوم ومزعج لقوم لأنه يفيد قوماً وبيد قوماً من إفادة أبهجة وأصحاه ومن إبادة أزعجه - أو لأم محاه - السماع غريم لا يرضى من الفقير إلا ببذل الروح لكنه يغنيه عن نيل كل ممنوع , السماع يقضي ويقتضي , يقضي كل كاتم ويملك السمع حتى لا يدخله لوم لائم , السماع تذكير ما سلف لك يوم الميثاق فيثير منك كوامن الاشتياق السماع معنى يصادفك بغتة ثم يفارقك فلتة فلا لوروده سبب ولا لزواله موجب يحتسب , السماع غيور لا يرضى بدون قتلك لكنه يتلطف في اقتاصك بخلتك " (¬2). فهذا هو السماع عند القوم , لخصناه من الكتب الموثوقة المعتمدة لديهم. ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 267. (¬2) رسالة في السماع ضمن الرسائل القشيرية ص 50 وما بعد - نشر المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية إسلام آباد باكستان.

وقبل أن نذكر آداب السماع التي اختلقها المتصوفة وأوجدوها بياناً بأن له مقاماً وشأناً ومنزلة ومرتبة تضاهي القرآن الكريم الذي أنزله الله هدى للناس ورحمة وشفاء للمؤمنين , نريد أن نذكر بعض سماعاتهم التي كلف بها القوم وشغفوا بها , وطالما يجعلون تأثيرها أوقع في النفوس من آيات الذكر الحكيم لكي يعرف القارئ من أيّ نوع هؤلاء الناس؟ فيذكر ابن الملقن عن صوفي مشهور عمرو بن عثمان المكي المتوفى 297هـ أنه دخل أصبهان , فصحبه حدث وكان والده يمنعه من صحبته , فمرض الصبي , فدخل عليه عمرو مع قوّال , فنظر الحدث إلى عمرو , قال: قل له يقول شيئاً , فقال: مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض عبدكم فأعود؟ فتمطى الحدث على فراشه وقعد , وقال للقوال: زدني بحبك لله. فقال: وأشدّ من مرضي على صدودكم ... وصدود عبدكم عليّ شديد أقسمت لا عَلِق الفؤاد بغيركم ... ولكم عليَ بما أقول عهود فزاد به البر حتى قام وخرج معهم (¬1). وذكر السلمي واحداً من أصحاب الجنيد وأحد مشائخ العراق وأئمتهم أبا محمد المرتعش النيسابوري والذي قال فيه أبو عبد الله الرازي " كان مشائخ العراق يقولون: عجائب بغداد في التصوف ثلاث: إشارات الشبلي , ونكت المرتعش , وحكايات جعفر الخلدي " يذكر عنه برواية أحمد بن علي: " كنت عند المرتعش قاعداً , فقال رجل: قد طال الليل وطاب الهواء , فنظر إليه المرتعش وسكت ساعة ثم قال: لا أدري ما تقول , غير أني أقول ما سمعت بعض القوالين في بعض هذه الليالي يغني ويقول: ¬

(¬1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 344 مكتبة الخانجي القاهرة.

لست أدري أطال ليلي أم لا ... وكيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت محلي إن للعاشقين عن قصر الليـ ... ـل وعن طوله من الوجد شغلا قال: فبكى من حضره (¬1). وعنه ذكر ابن الملقن أنه قال لبعض جلسائه: " أنشدني الأبيات التي كنت تنشد بالأمس , فأنشأ يقول: وقف الهوى بي حيث أنت فليـ ... س لي متأخر عنه ولا متقدّم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليملني اللوم أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم (¬2). ونقل السهروردي في عوارفه عن ذي النون أنه لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوال , فاستأذنوه أن يقول شيئاً , فأذن له فأنشد القوال: صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا ... احتنكا وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركاً أما ... ترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخلي بكى فطاب قلبه , قلبه وقام وتواجد وسقط على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض (¬3). ويذكر السراج الطوسي والهجويري عن الدراج أنه قال: " كنت أنا وابن الفوطي مارّين على الدجلة بين البصرة والأبلّة وإذا بقصر حسن , له منظر وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول: ¬

(¬1) طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ترتيب أحمد الشرباصي ط مطابع الشعب القاهرة 1380هـ. (¬2) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 143. (¬3) عوارف المعارف للسهروردي ص 179 , الرسالة القشيرية ج 2 ص 650 , أحياء علوم الدين للغزالي ص 269 , نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 205 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني.

كل ... يوم ... تتلوّن ... غير هذا بك أجمل في سبيل الله ود ... كان مني ... لك يبذل قال: , وإذا شاب تحت المنظر , بيده ركوة وعليه مرقعة يتسمّع , فقال: يا جارية بالله وبحياة مولاك إلاّ إذا أعدت هذا البيت , قال: فأقبلت الجارية عليه وهي تقول هذا البيت: كل ... يوم ... تتلوّن ... غير هذا بك أجمل .... قال: فشهق شهقة وحمّد , شهقة وحمّد , فتأملناه فإذا هو ميت (¬1). ونقل الهجويري عن أحد مشائخه أنه قال: سمعت مع درويش في بغداد صوت مغنّ كان يغنّي: مني إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغداً فصرخ ذلك الدرويش وفارق الدنيا. ومثل هذا , يقول أبو الرودباري رضي الله عنه: رأيت درويشاً كان قد شغل بغناء مغنّ , فأصغيت أنا أيضاً لأرى ما يقول , فكان ذلك المغنّي يقول بصوت حزين: أمد كفى بالخضوع إلى الذي جاد بالصنيع فصرخ الدرويش ووقع , فلما اقتربت منه وجدته ميّتاً (¬2). وأنشد أبو طالب المكي نقلاً عن بعض الصوفية أنه كان يقول: يا حبيباً بذكره نتداوى ... وصفوة لكل داء عجيب من أراد الطبيب سرّا إذا ... اشتياقاً إلى لقاء الطبيب من أراد الحبيب سار إليه ... وجفا الأهل دونه والقريب ليس داء المحب داء يداوي ... إنما برؤه لقاء الحبيب (¬3). ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 358 , أيضاً كشف المحجوب للهجويري ص 657 , أيضاً إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 264 ط دار القلم بيروت. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 658. (¬3) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 43.

وأيضاً روى عن أبي تراب أنه كان ينشد: لا تخدعن فللمحبّ دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه يمرّ بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام ولطف عاجل ومن اللطائف أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإن ألح العاذل ومن الدلائل أن يرى مبتسما ... والقلب من الحبيب بلابل ومن الدلائل أن يرى متفهماً ... لكلام من يحظى لذيه السائل ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً من كل ما هو قائل (¬1). وذكر ابن عربي في كتابه " محاضرة الأبرار " كثيراً من الأبيات الغزلية التي يتهمّ الصوفية بالاستماع إليها , فمنها ما ذكرها تحت عنوان " من السماع الصوفي " فيقول: " وسماعنا على قول كثّير عزّة ": لقد حلفت جهداً بما حلفت له ... قريش غداه المأزمين وصلّت وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذاراً فأوفت وحلّت فقلت لها يا عز كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوماً لها النفس ذلت (¬2). وقال أيضاً: " وسماعنا على قول ابن الدمنية: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداّ على وجد لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غضّ النبات من الزند بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جليداً وأبديت الذي لم يكن يبدي وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يملّ وأن النأي يشفي من الوجد بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ (¬3). ¬

(¬1) أيضاً ص 63. (¬2) محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار لابن عربي ج 1 ص 360 ط دار الكتاب الجديد القاهرة 1972 م. (¬3) أيضا ص 361.

ويقول: " وسماعنا على قول قيس المجنون أيضاً: ألا يا حبذا نجد وطيب ترابه ... وأرواحه إن كان نجد على العهد ألا ليت شعري من عوارضتي قبا ... بطول التنائي هل تغيرتا بعدي وعن جارتينا بالأثيل إلى الحمى ... على عهدنا أم لم يدوسا على عهد (¬1). وأما كتابه " ذخائر الأعلاق " فكله ممتلئ بالتشبيب والتغزل والأبيات العشقية الداعية إلى الهزل والمجون والخلاعة , ذكرنا نبذة منها في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (¬2). وقد ذكر الجامي في نفحاته أن هناك طائفة من الصوفية كثيراً ما ينشدون هذه الأبيات: " قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبة حسرة وتشوقاً كم قد وقفت بها أسأل مخبراً ... عن أهلها أو صادقاً أو مشفقاً فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى تعز الملتقى " (¬3). وذكر أيضاً أن مشائخ الصوفية ينشدون أشعاراً يصفون فيها راح المحبة وشوق وصل المحبوب , ومن ذلك البيت المشهور: " هنيئاً لأهل الدير كم سكروا بها ... وما شربوا منها ولكنهم همو على نفسه فلبيك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم " (¬4). ونذكر بعض الأبيات التي ذكرها الغزالي من كبار المتصوفة فينقل عن النوري أنه كان مع جماعة في دعوى , فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين النوري ساكت , ثم رفع رأسه وأنشدهم: ¬

(¬1) أيضاً ص 339 , 340. (¬2) أنظر الباب الثالث من كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر ". (¬3) نفحات الأنس للجامي ص 141 ط كتاب فروشي محمودي إيران 1337 هجري قمري. (¬4) نفحات الأنس للجامي ص 543.

"رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صلحت في فنن ذكرت ألفاً ودهراً صالحا ... وبكت حزناً فهاجت حزني فبكائي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني وبقد أشكو فما أفهمها ... ولقد تشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني " (¬1). وذكر: " وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها " (¬2). وأيضاً: رقّ الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر (¬3). ومن تلك الأبيات ما نقلها أبو المفاخر يحيى الباخرزي عن ابن الفارض أنه كان ينشد: " شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم " (¬4). فهذه نماذج للسماع الصوفي وأناشيد المتصوفة , وهناك كثير من الأبيات الغزلية باللغة الفارسية والأردية لدى المتصوفة أراد منها وأقبح , فيها الفسوق البيّن والفجور الظاهر , نعرض عن إيرادها تجنباً عن الإطالة. ويقول أبو طالب المكي عن هذا السماع: " تعرف مواجيد أصحابنا عند السماع " (¬5). ويكتب عن السماع أيضاً: ¬

(¬1) أنظر إحياء علوم الدين ج 2 ص 273 , 274. (¬2) أيضاً ص 269. (¬3) إحياء علوم الدين ج 2 ص 267. (¬4) أوراد الأحباب وفصوص الآداب للباخرزي ص 242 ط إيران. (¬5) أنظر قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 61.

" وإنما ذكرنا هذا لأنه كان طريقاً لبعض المحبين , وحالاً لبعض المشتاقين , فإن أنكرناه مجملاً أنكرنا على سبعين صادقاً من خيار الأمة " (¬1). ويقول الأنصاري الهروي أن الأنس يتأتى من ثلاثة أشياء , منها: التغذي بالسماع (¬2). وهذه الأبيات والأناشيد والترانيم والقصائد والأشعار الغزلية المليئة بذكرها ما يذكره الغاوون لا تقرأ ولا تنشد بصوت طيب , بل تغنّى على ألحان وأنغام ومع آلات الطرب واللهو والغناء , كما أنه ليس من الضروري أن يكون القوال والمنشد رجلاً مسناً , بل ومن النبات والجواري تسمع ويصغي إليهن كما ذكر الجعلي الفضلي عن سيده إسماعيل الصوفي أنه: " أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه , ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقص , ويضرب الربابة , كل ضربة لها نغمة يفيق منها المجنون , وتذهل منها العقول , وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى إن الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أن يضربها أحد , وفرسة بنت بكر يشدونها له ويلبسونها الحرحر والجرس وقوادها ماسكها أول ما تسمع ترنمه في كلام الحرب وهو يقول: بنت بكر المراد ويوا ويوا ... سلطية العرضة ويوا ويوا فإن الفرس تقوم وتومئ برأسها وتتأتى بيديها والعقد فيها شلو شلو (حكاية لصوت العقد) (¬3). وذكر عن سليمان الطوالي الزغرات أنه " كانت له جارية تضرب له الدلوكة إسمها ¬

(¬1) أيضاً ص 61 , كذلك أوراد الأحباب وفصوص الآداب للباخرزي ص 227 , أيضاً عوارف المعارف للسهروردي ص 184. (¬2) منازل السائرين للخواجه عبد الله الأنصاري الهروي ص 116 مع الشرح الفارسي ط انتشارات مولى إيران 1341 هجري قمري. (¬3) كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي ص 28 ط المكتبة الثقافية بيروت لبنان.

منانة , كانت ضرابة لها بجميع أنواع الضرب يقول لها: يا منانة دقّ الدلوكة ... خادم الله الماك مملوكة " (¬1). وقد ذكر الشعراني أيضاً صوفية كانوا يضربون آلآت (¬2). والدباغ أيضاً ذكر صوفياً طبّالاً كن يضرب بالطبل ففتح الله عليه فبقي على حالته ولم يرجع عنها (¬3). وكتب الشعراني عن عمر بن الفارض أنه " كانت له جواري يغّنين له , فيقوم ويتواجد , وكان يتغالى في شرائهن لأجل حسن أصواتهن (¬4). وأتهموا عطاء أنه " كانت له جاريتان يلحنان , فكان إخوانه يستمعون إليهما " (¬5). وعلى ذلك قال الفيتوري: " يجوز ضرب البندير (من آلات الغناء) والرقص كذلك إذا كان من تواجد " (¬6). وقال عماد الدين الأموي: " لا بأس إذا كان في السماع آلة من دف أو شبابة , ولا بأس بالرقص في السماع " (¬7). ثم ذكروا آداباً لهذا السماع أو الغناء لا تقّل عن آداب سماع القرآن , بل وتفوقها كما يكتب القشيري في رسالته تحت عنوان " ما آداب السماع "؟ فيقول: القعود بالهيبة عند صحوك إلى أن تصل إلى الخمود والغيبة لمحوك ثم الأناخة بحقوة الخضوع بقلبك ناسياً أو متناسياً لخطاب من ربك ثم استشعار الخجل فيما يرقيك إليه الحق أو يلقيك به من وجود حال أو شهود مقام أو رويّة وصال أو توهم ¬

(¬1) أيضاً ص 93. (¬2) أنظر طبقات الشعراني ج 2 ص 100. (¬3) أنظر الإبريز للدباغ ص 235 طبعة قديمة مصر. (¬4) الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 186. (¬5) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 62 , عوارف المعارف للسهروردي ص 177 , مكاشفة القلوب للغزالي ص 239. (¬6) الوصية الكبرى لعبد السلام الفيتوري ص 19 و 68. (¬7) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 179 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي.

إكرام ثم ملاحظة ما يناغيك به من التقريب بعين السكر والنسيب ثم ترك المساكنة إلى ما يثني به الحق سبحانه عليك في سرك باستصغار حالك بل باستقذار قلك وكثرك ثم إخفاء حالك عن سقوط أحكام البشرية من تغيرك وتكدرك فيما تسامر فيه من غير إظهار فضل لك بكل وجه تدعيه أو حق من أحد تقتضيه ثم مراعاة حقوق الأكابر إذا حضروا موضع السماع بدوام السكون إلا عن غلبة الاختيار مسقطة ونازلة في الإزعاج مفرطة ثم كتمان ما تكاشف به من الأشراف على أحوال من هو دونك في الشرف والحال " (¬1). ويقول: " وللسماع شروط أخر , فمنها أن لا يتخير فيما يسمع على القوال , ولا يصح عليه خطأه في الأقوال لأن ذلك سوء أدب في أحكام الحضرة " (¬2). وأما الباخرزي فيقول: " من آداب الصوفية في السماعأن يصلّوا قبل الحضور في مجلس السماع , ويسألوا البركة من الربّ عز وجل , وأن يقعدوا فيه بالهيبة والوقار , ويلازموا السكينة والإخلاص " (¬3). وينقل كذلك عن روزبهان بقلي أنه قال في كتابه " الأنوار في كشف الأسرار ": " من آداب السماع كذلك أن يكون القوال حسن الوجه لأن العارفين يحتاجون لاستجمام قلوبهم إلى ثلاثة أشياء: روائح طيبة , ووجه صبيح , وصوت حسن مليح كما قال عليه السلام: حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء , وقرة عيني في الصلاة " (¬4). ¬

(¬1) الرسائل القشيرية ص 54 , 55 ط إسلام آباد باكستان. (¬2) أيضاً ص 53. (¬3) أوراد الأحباب وفصوص الآداب ليحيى الباخرزي (فارسي) ص 202 ط إيران. (¬4) أرواد الأحباب للباخرزي ص 207.

ومن تلك الآداب ما ذكرها عبد السلام الأسمر في وصيته فيقول: " أخواني: تأدبوا معها أي حضرة السماع وأحسنوها واخشعوا فيها كما تخشعون في الصلاة اللهم إلا إذا نزل بكم أمر غالب من وجد أو شوق أو ذوق أو حال أو جدب. فإذا أغمي على أحد منكم في الحضرة فقد سقط عليه التكليف فسقطوا له , وإذا شق بكم من ضرب أو مزاحمة أو صراخ يفسد عليكم ذكركم أو صوت قوي يخلط عليكم أو يشتتكم أو يضرّبكم ضرراً فأخرجوه من الحلقة برفق ولين ولا تضروه ولا تنازعوه ولا تهددوه ولا تفتحوا عليه , ولو غير الاسم الأعظم ولو كان يقول خا خاخا أو حاحاحا أو لالالا أو هاهاها أو كاكاكا أو فافافا أو أي حرف من الحروف الهجائية. فإذا لم يشق بكم ولا يضرّ بكم فلا تخرجوه من الحضرة إلى أن يشبع واجعلوه في وسطها وأحسنوا له الذكر وصوتوا فيه بالقوة إلى أن يلقي على الأرض أو يطيب. فإذا سقط على وجه الأرض فانقلوه بظرافة وتلقوه حين سقوطه على الأرض لئلا يتضرّر جسده. إخواني: فاخرجوه بينكم بأدب وظرافة وألقوه على الأرض النظيفة واطرحوه عليها وغطوه بالإزار إلى أن يفيق ويرجع على ما كان عليه. إخواني: وغمضوا أعينكم في الحضرة ولا يلتفت منكم أحد , وأحفظوا الحلقة لئلا يدخلكم الجان , وحفظ الحلقة هو الفاهق الذي هو في دائرة الحضرة ما بين الرجل والرجل ولا يدخل في وسط الحضرة منكم أحد إلا من غلب عليه , ما ذكرناه من جذب ونحوه. إخواني: ومن أصابه الضراط فليخرج منها ويقضيه ويرجع إلى الحضرة " (¬1). ولم يكتف بهذا بل صرح بأشياء أخرى , فيها إهانات وخرافات , فيقول: " وعند إنشاد كلامي إياكم والعبث والسخرية وكذلك حين الذكر والإنشاد وحين تنشدون كلامي فإن روحي تحضر بين أيديكم سواء حياً أو ميتاً. إخواني: وحين ينشد أحدكم كلامي فأنصتوا له واستمعوا وحضروا قلوبكم معه وتأملوه. ¬

(¬1) الوصية الكبرى السلام الأسمر ص 50 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.

إخواني: وعند قولكم لكلامي فلا تتحدثوا ولا تعيشوا وأخشوا فيه فإن روحي بين أيديكم ومعها ملكان صالحان. إخواني: ولا تقطعوا كلامي وأتقنوه وأحسنوه واحفظوه حفظاً فائقاً. إخواني: وإذا قلتم من كلامي قصيدة فلا تبطلوا في أثنائها إلى أن تتموها ولا نظروا , ولا تبتروها ولا تقطعوها ولو سمعتم الأذان المهم إلا إذا كنتم تشوشون على المؤذن أو تخلطوا عليه الآذان فأتموا سراً. إخواني: من لا يهزه إنشادي ودفي فقد تغلظ طبعه وفسد مزاجه وفيه نزعة يهودية " (¬1). وحكى القشيري عن الجنيد أنه قال: " السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان والمكان والأخوان " (¬2). وقال الكمشخانوي: " آداب الحضرة ثلاثة: دوام النظر , وإلقاء السمع , والتوطين لما يرد من الحكم " (¬3). وقد أطال الغزالي في ذكر آداب السماع: " الأول: مراعاة الزمان والمكان والإخوان: قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الإشتغال به في وقت حضور طعام أو حصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له. وإما المكان: فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك. وإما الإخوان: فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستقلا في المجلس واشتغل القلب به ... الأدب الثاني: هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع ¬

(¬1) أيضاً ص 52 , 53. (¬2) الرسالة القشيرية ج 2 ص 645. (¬3) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 40.

فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر ... الأدب الثالث: إن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل , حاضر القلب , قليل الالتفات إلى الجوانب , متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد. مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره , متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب , ويجلس مطرقاً رأسه , كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه , متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة , ساكتاً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ فإن غلبه الوجد وحركة بغير اختيار فهو معذور غير ملوم ... الأدب الرابع: أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة لأن التباكي إستجلاب للحزن , والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط , فكل مسرور مباح فيجوز تحريكه ... الأدب الخامس: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف , أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة , فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة تنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوب بالتمزيق فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة , إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم , ولا بد من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر , لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطيب القلب بالمساعدة " (¬1). فيا لهفتي ووا أسفي على فقيه مثل الغزالي الذي ذهب به التصوف إلى هذه المذاهب والمقالات التي لا تتصور عن عاقل ذي شعور أن يقولها أو يتلفظ بها دون أن تصدر من شخص فقيه متكلّم أصولي مناظر , ولله في خلقه شأن يهدي من يشاء ويضل من يريد , وبهذا يعرف قدرته واختياره , وعظمته وجلالته. ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 276 وما بعد.

والهجويري أيضا بوب باباً في ذكر آداب السماع , وعد آداباً كثيرة , منها: " إذا استولى السماع على جماعة ولم يكن له منه نصيب فينظر إلى سكرهم بصحوة فيجب أن يكون محتاجاً إلى الوقت ويمكن لسلطان الوقت لتصل إليه بركاته " (¬1). والسرقسطي أيضاً ذكر آداب السماع , ومن جملتها: " ولا يجوز عنده التكلم ... ولا التلاهي لا ولا التبسم " (¬2). ثم يشرح ابن عجيبة الحسني هذا البيت بقوله: " إنما لا يجوز التكلم عنده (أي عند السماع) لأنه عند العارفين محل الوجد والخمرة , والكلام يشوش القلب ويبعده من الحضرة , ويتلف عن الحقيقة , فالواجب تركه لمن أراد جبر قلبه ... وأما التبسم فإن فيه إساءة الأدب , فإن غلبه خرج , وإلاّ أُخرج وزُجر. قال السلمي رحمه الله: ولا يحضر مجلس السماع من يبتسم أو يتلاهى " (¬3). والشعراني نقل عن ابن عربي أن من آداب القوم في السماع أن لا يكون هناك من ليس من أهل طريقة أو من أهل طريقهم لكنه ينكر السماع ولا يقول به " (¬4). ويقول: " وإذا سقطت عمامة الشيخ عن رأسه أو وضعها هو اختياراً لثقلها أو لشدة حر ونحو ذلك , فمن الأدب موافقة الفقراء له في ذلك , فيضعون كلهم عمائمهم كذلك , وإن رمى الشيخ عمامته إلى القوال أو رداءه فلهم أن يوافقوه بصدق , وليحذر أحدهم أن يرمي خرفته للقوال من غير إشارة الشيخ فإنه ترك الأدب , وإذا وقع من أحد من الفقراء خرفة أو عمامة في غير وجد , فيستحب للنقيب رفعها عن مواقع الأقدام إكراماً لها , وإن كانت عمامة الشيخ رفعها كذلك وصار قائماً بها إلى أن يطلبها الشيخ بالقرينة أو الإشارة , فهناك يتقدم النقيب ويضعها على رأس الشيخ قائلاً بسم الله الرحمن الرحيم ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 668. (¬2) المباحث الأصلية للسرقسطي ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 190. (¬3) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 190 , 191 ط عالم الفكر القاهرة. (¬4) الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 187.

مع اسشعار الحياء والأدب " (¬1). فهذه هي آداب السماع عند الصوفية. ومن أشنع ما استحدثوه وابتدعوه في السماع هو الوجد والتواجد والرقص , وقد بوّبوا لبيانها أبواباً مستقلة , وفصّلوا الفصول , وما هي إلا خرافات وخرافات , وسخافات وسخافات , واستخفاف العقل والاستهزاء بالفكر ولكن أنّى للقوم أن يتعقلوا ويتفكروا , فقال السراج الطوسي مبيناً للوجد في باب مستقل من لمعه تحت عنوان " في ذكر اختلافهم في ماهية الوجد " قال: " اختلف أهل التصوف في الوجد ما هو؟ فقال عمرو بن عثمان المكي رحمه الله: لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين " (¬2). ونقل عن أحد المتصوفة أنه قال: " إن الوجد مكاشفات من الحق , ألا ترى أن أحدهم يكون ساكناً فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق ... وقال أبو سعيد أحمد بن بشر بن زياد الأعرابي رحمه الله: " أول الوجد رفع الحجاب , ومشاهدة الرقيب الفهم , وملاحظة السبب , ومحادثة السر , وإيناس المفقود , وهو فناؤك أنت من حيث أنت. قال أبو سعيد رحمه الله: الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب , فلما ذاقوها وسطع في قلوبهم نورها , زال عنهم كل شك وريب. وقال أيضاً: الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب , لأن النفس محجوبة بأسبابها , فإذا انقطعت الأسباب , وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفاً , وتجعت فيه الموعظة والذكر وحل من المناجاة في محل غريب وخوطب وسمع الخطاب بأذنه واعية وقلب شاهد وسر طاهر , فشاهد ما كان منه خالياً , فذلك هو الوجد , لأنه وجد ما كان عنده عدماً معدوماً " (¬3). ¬

(¬1) أيضاً ص 190. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 375 ط ... دار الكتب الحديثة مصر. (¬3) أيضاً ص 375 , 376.

وقال الهجويري: " أعلم أن الوجد والوجود مصدران: أحدهما بمعنى الحزن , والثاني بمعنى الوجد , وفعل كلاهما كأنه واحد , ولا يمكن التفرقة بينهما إلا بالمصدر , كما يقال: وجد يجد وجوداً ووجداناً: إذا صار محزوناً , وأيضاً: وجد يجد جدة: إذا صار غنياً , ووجد يجد موجدة: إذا غضب , والفرق بين هذه كلها يكون بالمصادر لا بالأفعال. ومراد هذه الطائفة من الوجد والوجود إثبات حالين يظهران لهما في السماع , أحدهما مقرون بالحزن , والآخر موصول بالوجد والمراد. وحقيقة الحزن: فقد المحبوب , ومنع المراد , وحقيقة الوجد: حصول المراد. والفرق بين الحزن والوجد هو أن الحزن اسم الغم الذي يكون في نصيب النفس , والوجد اسم الغم الذي يكون في نصيب الغير على وجه المحبة. وتغير هذا جملة صفة الطالب " والحق لا يغير ". ولا تدخل كيفية الوجد تحت العبارة لأنها ألم في المغايبة , ولا يمكن بيان الألم بالقلم , فالوجد سر بين الطالب والمطلوب يكون بيانه في كشف تلك الغيبة , ولا تصح العلامة والإشارة إلى كيفية الوجود , لأنه طرب في المشاهدة , ولا يمكن إدراك الطرب بالطلب , فالوجود فضل من المحبوب إلى المحب , والإشارة معزولة عن حقيقته. وعندي أن الوجد ألم للقلب , أما من الفرح أو الترح أو الطرب أو التعب. والوجود إزالة غم عن القلب ومصادقته لمراده. وصفة الواجد: أما حركة في غليان الشوق في حال الحجاب , وأما سكون في حال المشاهدة في حال الكشف: " أما زفير وإما نفير , أما أنبن وأما حنين , أما عيش وأما طيش , أما كرب وإما طرب " (¬1). وقال الكلاباذي: " الوجد هو ما صادف القلب من فزع أو غم أو رؤية معنى من أحوال الآخرة أو كشف حالة بين العبد وبين الله عز وجل ... وقال النوري: الوجد لهيب ينشأ في ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ترجمة عربية ص 661 ط دار النهضة العربية بيروت.

الأشرار , ويسنح عن الشوق فتضطرب الجوارح طرباً أو حزناً عند ذلك الوارد ... وقال بعضهم: الوجد بشارات الحق بالترقي إلى مقامات مشاهداته " (¬1). وأما الغزالي فقد أطال فيه الكلام فيه بعد ذكر الأقاويل الكثيرة عن المتصوفة والحكماء: " أنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " (¬2). وأما القشيري فنقل عن محمد بن الحسيني أنه قال: " سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: " سمعت عبد الله بن عبد المجيد الصوفي يقول: سئل رويم عن وجود الصوفية (أي عما يجدونه) عند السماع , فقال: يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم: إليّ إليّ , فيتنعمون بذلك من الفرح ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء , فمنهم من يخرق ثيابه , ومنهم من يصيح , ومنهم من يبكي , كلّ إنسان على قدره " (¬3). وشرح عبد الله الأنصاري الهروي الوجد بقوله: " الوجد لهب يتأجج من شهود عارض مقلق - ثم ذكر له درجات - فقال: الدرجة الأولى وجد عارض. والدرجة الثانية: يستفيق له الروح بلمع نور أزليّ أو سماع نداء أوّلي أو جذب حقيقي. والدرجة الثالثة وجد يخطف العبد من يد الكونين , ويمحص معناه من درن الحظ , ويسلبه من رقّ الماء والطين (¬4). وأما النداء الأولي الذي أشار إليه الهروي في هذا النص قد ذكره كثير من المتصوفة ¬

(¬1) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 134. (¬2) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 268. (¬3) الرسالة القشيرية ج 2 ص 647. (¬4) منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري الهروي ص 162.

في كتبهم , فيروي القشيري والسيد محمد ماضي أبو العزائم وغيرهما عن الجنيد أنه سئل: " ما بال الإنسان يكون هادئاً , فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذّر في الميثاق الأول بقوله: ألست بربكم قالوا بلى , استفرغت عذوبة سماع الكلام والأرواح , فلما سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك " (¬1). فهكذا حاول الصوفية ربط سماعهم للأناشيد والأبيات الغزلية مع سماع نداء أولى. وهناك أمثلة لتواجد المتصوفة وكيفيته , نذكر نبذة منها , فيذكر الطوسي: " حكى عن الشبلي أنه تواجد يوماً في مجلسه فقال: آه ليس يدري ما بقلبي سواه , فقيل له: آه من أي شيء؟ فقال: من كل شيء وذكر عنه أيضاً تواجد يوماً فضرب يده على الحائط حتى علمت عليه يده قال: فعمدوا إلى بعض الأطباء , فلما أتاه قال للطبيب: ويلك! بأي شاهد جئني؟ قال: ألطف منه فلما أتاه قال له: ويلك , بأي شاهد جئتني؟ قال: بشاهده قال: فأعطاه يده فبسطها وهو ساكت , فلما أخرج الدواء يجعله عليها , صاح وتواجد وترك إصبعه على موضع الداء وهو يقول: أنْبَتَتْ ... صَبَابتْكُم ... فَرْحَةٍ عَلَى كَبِدِي بتُّ مِن تَفجُعِكُمْ ... كالأسيِر في الصفدِ " (¬2). ونقلوا عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت علي بن الموقف في السماع يقول: أقيموني , فأقاموه , فقام وتواجد , ثم قال: أنا الشيخ الزفان " (¬3). ¬

(¬1) معارج المقربين لمحمد ماضي أبو العزائم ص 323 ط دار الثقافة العربية للطباعة مصر , أيضاً الرسالة القشيرية واللفظ له ص 644. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 379. (¬3) الرسالة القشيرية ج 2 ص 645.

وحكى السهروردي عن الشبلي أنه سمع قائلاً يقول: أسائل عن سلمي فهل من مخبر يكون له علم بها أين تنزل فزعق الشبلي وقال: لا والله , ما في الدارين عنه مخبر " (¬1). وذكروا عن عبد الله بن علي أنه قال: " اجتمعت ليلة مع الشبلي رحمه الله , فقال القوال: شيئاً , فصاح الشبلي وتواجد قاعداً , فقيل له: يا أبا بكر , مالك من بين الجماعة قاعداً؟ فقام وتواجد وقال: لي سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي (¬2). ويذكر الطوسي والغزالي: " وكان الشبلي رحمة الله يتواجد كثيراً إذا سمع هذا البيت ": ودادكم هجر , وحبكم قلي ووصلكم صرم , وسلمكم حرب. وقام الدقي ليلة إلى شطر الليل وهو يتخبط ويسقط على رأسه ويقوم , والخلق يبكون , والقوالون يقولون هذا البيت: بالله فاردد فؤاد مكتئب ليس له من حبيبه خلف (¬3) ونقلوا عن أبي علي الرودباري أنه قال: " جزت بقصر يوماً , فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً وحوله ناس مجتمعون , فسألت عنه فقالوا: أنه جاز بهذا القصر فسمع جارية تغني: ¬

(¬1) عوراف المعارف للسهروردي ص 184. (¬2) الرسالة القشيرية ج 2 ص 659. (¬3) كتاب اللمع للطوسي ص 364 , أيضاً إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 265 , ومثله في الرسالة القشيرية ج 2 ص 654.

كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراكاً أو ما حسب لعين ... أن ترى من قد رآك فشهق شهقة ومات " (¬1). ويقول اليافعي: " وقد مات بالسماع من الفقراء خلق كثير من ذلك موت بعضهم بسماع هذا البيت: تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامع وموت آخر بسماع هذا البيت: ما كنت أعرف ما مقدار وصلكم حتى هجرت وبعض الهجر تأديب " (¬2). وذكر ابن الملقن وصاحب " الكواكب الدرية " والغزالي عن أبي الحسين النوري أنه: " اجتمع الجُنيد والنوري ورويم وابن وهب وغيرهم في سماع , فمضى بعض الليل وأكثره , فلم يتحرك أحد منهم , ولا أثر فيه القول , فقال النوري للجنيد: يا ابا القاسم! هذا السماع يمر مراً , ولا أرى وجداً يظهر! , فقال الجنيد: يا أبا الحسين! وترى الجبال وتحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب) فأنت يا أبا الحسين , ما أثر عليك؟! ". فقال النوري: " ما بلغت مقامي في السماع ". فقال الجنيد: " وما مقامك فيه؟ " فقال: " الرمز بالإشارة دون الإفصاح , والكتابة دون الإيضاح ". ثم وثب وصفق بيديه , فقام جميع من حضر بقيامه ساعة. 15 - وكان سبب وفاته أنه سمع هذا البيت: لا زلت أنزل من ودادك منزلاً ... تتحير الألباب دون نزوله فتواجد وهام في الصحراء , فوقع في أجمة قصب قد قطع , وبقيت أصوله مثل السيوف , وكان يمشي عليها ويعيد البيت إلى الغداة , والدم يسيل من رجليه , ثم وقع ¬

(¬1) نشر المحاسن الغالية لليافعي ج 2ص 204 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني ط ... دار صادر بيروت , أيضاً الرسالة القشيرية ج 2 ص 659. (¬2) نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 204.

مثل السكران , فورمت قدماه ومات " (¬1). وذكر الهجويري وقائع عديدة في وجد المتصوفة وتواجدهم , وقوة سلطانه وهيجانه وغليانه , فقال: " ويقول واحد من كبار المشايخ: سمعت مع درويش في بغداد صوت مغن كان يغني. (شعر عربي) مني أن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً فصرخ ذلك الدرويش وفارق الدنيا. ومثل هذا , يقول أبو علي الرودباري رضي الله عنه: رأيت درويشاً كان قد شغل بغناء مغن , فأصغيت أنا أيضاً لأرى ما يقول , فكان ذلك المغني يقول بصوت حزين: " أمد كفى بالخضوع إلى الذي جاد بالصنيع " فصرخ الدرويش ووقع , فلما اقتربت منه وجدته ميتاً. ويقول قائل كنت أسير مع إبراهيم الخواص رحمه الله في طريق , فظهر طرب في قلبي , فغنيت هذا الشعر: (شعر عربي) صح عند الناس إني عاشق ... غير أن لم يعلموا عشقي لمن ليس في الإنسان شيء حسن ... إلا وأحسن منه صوت حسن فقال لي: أعد هذا الشعر , فأعدته , فضرب الأرض عدة ضربات من الوجد , فلما نظرت كانت أقدامه تغوص في الحجر كما لو كانت تغوص في شمع , ثم وقع مغشياً عليه. فلما أفاق قال لي: كنت في روضة الجنة وأنت لم تر. ومن هذا الجنس حكايات أكثر من أن يحتملها هذا الكتاب. وقد رأيت معاينة درويشاً كان يسير في جبال أذربيجان , ويقول هذه الأبيات ¬

(¬1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 68 , 69 , أيضا الكواكب الدرية ج 1 ص 96 وأيضا إحياء ج 2 ص 266.

متعجلا: (شعر عربي) والله ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا وأنت منى قلبي ووسواسي ولا تنفست محزوناً ولا فرحاً ... إلا وذكرك مقرون بأنفاس ولا جلست إلى قوم أحدثهم ... إلا وأنت حديثي بين جلاسي ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالا منك في الكاس وتغيّر من السماع وأسند ظهره إلى حجر وأسلم الروح " (¬1). وقد ذكر الطوسي أيضاً فيه بعض وقائع , فيقول: " إن سهل بن عبد الله كان يقوى عليه الوجد حتى يبقى خمسة وعشرين يوماً أو أربعة وعشرين يوماً لا يأكل فيه طعاماً , كان يعرق عند البرد الشديد وعليه قميص واحد , وكانوا إذا سألوه عن شيء من العلم يقول: لا تسألوني فإنكم لا تنتفعون في هذا الوقت بكلامي " (¬2). كما نقلوا عن السري السقطي أنه ذكر يوماً عنده المواجيد الحادة في الأذكار القوية وما جانس هذا مما يقوي على العبد , فقال سري رحمه الله: وقد سألته فيه فقال: نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يحسه (¬3). وعلى ذلك قالوا عن الوجد عند السماع حكاية عن رويم أنه قال في جواب سائل سأله عن وجد المشائخ عند السماع , فقال: " مثل قطيع الغنم إذا وقع في وسطه الذئاب " (¬4). وذكر بعض كيفيات الوجد والتواجد السهروردي في عوارفه , فقال: " وحكى بعض المشائخ قال: رأينا جماعة ممن يمشي على الماء والهواء يسمعون ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 658 , 659. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 381. (¬3) أيضاً. (¬4) الرسالة القشيرية ج 2 ص 654 ¸كتاب اللمع للطوسي ص 361.

السماع ويجدون به وتولهون عنده. وقال بعضهم كنّا على الساحل فسمع بعض إخواننا فجعل يتقلب على الماء يمر ويجيء , حتى رجع إلى مكانه. ونقل أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع , ولا يحس بها. ونقل أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع فأخذ شمعة فجعلها في عينه , قال الناقل: قربت من عينه , أنظر , فرأيت ناراً أو نوراً يخرج من عينه يردّ نار الشمعة وحكى عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع من الأرض في الهواء أذرعاً يمر ويجيء فيه " (¬1). وذكر مثل هذه الشعبذات اليافعي أيضاً حيث يقول: " ومن حكايات أرباب الأحوال في السماع وأصحاب المواجيد فيه (ما حكى) عن بعضهم أنه سمع على ساحل البحر فجعل يتقلب على الماء ويمر ويجيء حتى رجع إلى مكانه (وحكى) عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع أرتفع من الأرض في الهواء أذرعاً ويجيء فيه (وقلت) ومثل هذا رويناه عن الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبي عبد الله القرشي رضي الله عنه (قلت) وقد تقدمت حكاية عن بعض المشائخ أنه قطعت رجله حال السماع من أجل أكلة فيها ولم يشعر ومن المشهور (ما حكي) عن بعضهم إنه كان مقعداً وكان إذا ظهر به السماع يقوم (وحكى) عن بعضهم أنه كان يتقلب على النار عند السماع ولا يحس بها (قلت) وقد دخل كثير منهم في النار في حال السماع وقد تقدم في الفصل الثالث أن امتحن بعض الملوك بعض المشائخ بذلك بعد ما أمر بإيقاد نار عظيمة فأمر الشيخ أصحابها السماع فلما عمل فيهم الوجود دخل بهم فيها ثم اختطف إبناً للملك ودار به فيها ثم غابا ففزع الملك على ولده فزعاً شديداً ثم ظهرا وإذا في إحدى يدي ابن الملك تفاحة وفي الأخرى رمانة فقال أبوه أين كنت قال كنت في بستان فأخذت منه هاتين الحبتين فأحضر الملك كأساً مملوءة سما تقتل القطرة منه في الحال وقال للشيخ اشربه إن كنت صادقاً وكان مذهبكم حقاً فشربه الشيخ في حال السماع فتمزقت ثيابه فألقى عليه ثياب أخرى فتمزقت أيضاً ثم أخرى كذلك مراراً ثم ثبتت عليه الثياب بعد ذلك صحيحة ولم يمسه سوء " (¬2). ¬

(¬1) عوارف المعارف للسهروردي ص 184. (¬2) نشر المحاسن الغالية لعبد الله بن أسعد اليافعي ج 2 ص 202 , 203 بهامش جامع كرامات الأولياء.

وأما النبهاني فيكتب: " كان عبد الله بن محمد المعروف بالعفيف من كبار الصالحين أهل الكرامات والأحوال , وكان إذا حضر السماع يأخذه وجد غالب وجد حتى أنه ألقى نفسه مرة من سطح عال عند غلبة الوجد عليه ولم يضره شيء. ومنها أنه أخرج مرة عين بعض القوال في حال غلبة الوجد عليه , ثم ردها بعد أن سالت على خدّه فرجعت كأن لم يكن بها شيء " (¬1). هذا وقد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثباتاً للوجد فقالوا: عن أنس كنا عند النبي إذا نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله وفقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام , وهو نصف يوم , ففرح , فقال: أفيكم من ينشدنا؟ فقال بدري: نعم يا رسول الله , فقال: هات , فأنشد البدري يقول: قد لسعت حبّ الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق إلا الحبيب الذي قد شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي فتواجد عليه السلام , وتواجد أصحابه معه , حتى سقط رداؤه عن منكبه , فلما فرغوا أوى كل أحد مكانه فقال معاوية: ما أحسن لعبكم يا رسول الله؟ (عياذاً بالله). فقال: مه مه يا معاوية ليس بكريم من لم يهتزّ عند ذكر الحبيب , ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة " (¬2). ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 119. (¬2) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 185 , أيضاً عوارف المعارف للسهروردي ص 204 , 205 , ولكن السهروردي قال بعد ذكر هذه الرواية: " وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث , وما وجدنا شيئا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاكل وجد أهل الزمان وسماعهم واجتماعهم إلا هذا , وما أحسنه من حجة للصوفية وأهل الزمان في سماعهم وتمزيقهم الخرق وقسمتها إن لو صح والله أعلم. ويخالج سري أنه غير صحيح ولم أجد فيه ذوق اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وما كانوا يعتمدونه على ما بُلغنا في هذا الحديث , ويأبى القلب قبوله " (عوارف المعارف ص 205). فهو كما قال: لأن الحديث موضوع باطل لا أصل له إطلاقاً باتفاق أهل العلم كما ذكر السيوطي أيضاً (أنظر هامش الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 185).

والغزالي كذلك استدلّ على السماع والوجد من رؤيا ممشاد الدينوري أنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئاً فقال: ما أنكر منه شيئاً ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن. وحكى عن طاهر بن بلال الهمداني الوراق - وكان من أهل العلم - أنه قال: كنت معتكفا في جامع جدّة على البحر فرأيت يوماً طائفة يقولون في جانب منه قولاً ويستمعون , فأنكرت ذلك بقلبي وقلت: في بيت من بيوت الله يقولون الشعر؟ قال: فرأيت النبي تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية وإلى جنبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإذا أبو بكر يقول شيئاً من القول والنبي يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك , فقلت في نفسي: ما أن ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يستمعون وهذا رسول الله يستمع وأبو بكر يقول؟ فالتفت إلى رسول الله وقال: هذا حق بحق - أو قال حق من حق - أنا أشك فيه " (¬1). ويقولون: إن هذه الأبيات الغزلية والأشعار العشقية أكثر تأثيراً ووقعاً في النفوس , وأثارة للوجد والتواجد من القرآن الكريم كما ذكروا عن يوسف بن الحسين الرازي الذي قال فيه الأصبهاني: " المتخلّي من رؤية الناس , المتحلي بالإخلاص خيفة رب الناس , تارك للتزين والتصنع , مفارق للتلّون والتمتع , أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي. كان وحيداً فريداً , وعلى المتنطعين شديداً , صحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي , وأبا سعيد الخراز " (¬2). يذكرون عنه نقلاً عن أبي الحسين الدراج أنه قال: " قصدت زيادة يوسف بن الحسين الرازي , من بغداد , دخلت الري سألت الناس عن منزله , فكل من أسأله عنه يقول: " أيش تعمل بذلك الزنديق؟! " , فضيقوا صدري , ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي ص 247. (¬2) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ج 10 ص 238 , 239.

حتى عزمت على الانصراف. فبتُّ تلك الليلة في مسجد , ثم قلت في نفسي: جئت هذا البلد , فلا أقل من زيارته!. فلم أزل أسأل عنه , حتى دفعت إلى مسجد , فوجدته جالساً في المحراب , وبين يديه , مصحف يقرأ فيه , إذا هو شيخ بهي , حسن الوجه واللحية. فدنوت منه , وسلمت عليه , فرد علي السلام , وقال: من أين أنت؟ قلت من بغداد , قال: لأي شيء جئت؟ , قلت زائر لك! , قال: أرأيت لو أن إنساناً - في بعض البلدان التي جزت بها قال لك: أقم عندي , وسأشتري لك داراً أو جارية! , أكان ذلك يمنعك من زيارتي! , قلت: يا سيدي! , ما امتحنني الله بشيء من ذلك! , ولو كان , فلا أدري كيف كنت أكون , فقال: أتحسن تقول شيئاً؟ , قلت: نعم!. وأنشدت: رأيتك تبني دائباً في قطيعتي ... ولو كنت ذا رحم لهدمت ما تبني كأني بكم , والليث أفضل قولكم ... ألا ليتنا كنا إذ الليثُ لا تغني فأطبق المصحف , " ولم يزل يبكي , حتى بل لحيته وثوبه , ورحمته من كثرة بكائه. ثم ألتفت إليً , وقال: يا بني أتلوم أهل الريً على قولهم: يوسف بن الحسين الزنديق , وهو ذا من وقت صلاة الصبح أتلو القرآن , لم تقطر من عيني قطرة , وقد قامت عليً القيامة بهذا البيت " (¬1). ومثل هذه الحكاية روى ابن الجوزي في كتابه نقلاً عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: " أخرجت إلى مرو في حياة الأستاذ أبي سهل الصعلوكي وكان له قبل خروجي أيام الجمع بالغدوات مجلس درس القرآن والختمات , فوجدته عند خروجي قد رفع ذلك المجلس وعقد لابن الفرغاني في ذلك الوقت مجلس القوال يعني المغني , فتداخلني من ذلك شيء فكنت أقول: قد استبدل مجلس الختمات بمجلس القوّال , فقال لي يوماً: أي شيء تقول الناس؟ ¬

(¬1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 380 , 381 , 382 , أيضاً حلية الأولياء ج 10 ص 240 , أيضاً اللمع للطوسي ص 364 , أيضا إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 275 , 276 , أيضا الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 184 , أيضاً الطبقات الكبرى له أيضاً ج1 ص 89 , 90.

فقلت: يقولون: رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القوال , فقال: من قال لأستاذه: لِمَ؟ لايفلح؟ (¬1). وبذلك صرح القوم أن " السباع أدعى للوجد من التلاوة , وأظهر تأثيراً , والحجة على ذلك أن جلال القرآن لا تحتمله القوة البشرية المحدثة , ولا تحمله صفاتها المخلوقة , ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت , والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ , وإذا علقت الألحان بالشعر كانت خفيفة على الطباع , لمشاكلة المخلوق بالمخلوق , ما دامت البشرية باقية " (¬2). ويصرح الصفوري: " فإن قيل: يتواجد المتواجد عند سماع الشعر دون سماع القرآن حتى انفتح لبعض المتفقهة باب الإنكار بهذا؟ فالجواب: أن القرآن كلام ثقيل لا يليق مع وجوده إلى السكون والإنصات , ولأنه يتكرر في الأسماع , ولأن الشعر كلام البشر فبينهما مناسبة , وأما كلام الله تعالى فلا مناسبة بينه وبين البشر " (¬3). وقال الكمشخانوي: " سئل إبراهيم الخواص: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع الألحان ولا يجد ذلك عند سماع القرآن؟ فقال: لأن سماع القرآن صدقة لا يمكن أحداً أن يتحرك فيه لشدة غلبته عليه , وسماع الألحان ترويح فيتحرّك فيه " (¬4). وقد صرح الغزالي ذلك بكل وضوح وجلاء , وبكلّ جرأة ويسأله بقوله: " فإن كان سماع القرآن مفيداً للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين ¬

(¬1) أنظر تلبس إبليس لابن الجوزي ص 240 ط دار القلم بيروت. (¬2) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 271 , 272 ط دار الفكر العربي. (¬3) نزهة المجالس ومنتخب النفائس لعبد الرحمن الصفوري ج 1 ص 61 ط مطبعة منبر بغداد. (¬4) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 245.

دون القارئين؟ فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين؟ وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قوال؟ فإن كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة , فأعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه: الوجه الأول: إن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له ... الوجه الثاني: إن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب , وكلّما سمع أولاً عظم أثره في القلوب , وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره. الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون , وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات ... الوجه الرابع: إن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والاستانات , وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر الممدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها. وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل , ومدّ الوقف والوصل والقطع به على خلاف ما تقتضيه التلاوة حرام ومكروه , وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوماً , كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي تفهم. الوجه الخامس: أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره , لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي , وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب , ولكل واحد منها حظ في التأثير ... الوجه السادس: إن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل موافقاً لكل حال - والقرآن ليس كذلك -. وههنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج الطوسي في الاعتذار عن ذلك - وسنذكر

ذلك عن الطوسي نفسه أيضاً - أن القرآن كلام الله وكلامه صفته , وهو حق لا يطيقه البشر إذا بدا , لأنه غير مخلوق لا تطيقه الصفات المخلوقة ولو كشف للقول ذرة من معناه وهيبته لتصدّعت ودهشت وتحيّرت ... نفس الرواية التي حكيناها من قبل عن يوسف الرازي - ثم قال: فإذن القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن " (¬1). وأما ما قاله السراج فهو: " إن القرآن كلام الله وكلامه صفته لا تطيقه البشرية ... والنغمات الطيبة موافقة للطبائع , ونسبته نسبة الحظوظ ولا نسبة الحقوق , والقرآن كلام الله , ونسبته نسبة الحقوق , لا نسبة الحظوظ , وهذه الأبيات والقصائد أيضاً نسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق , وهذا السماع وإن كان أهله متفاوتين في درجاتهم وتخصيصهم فإن موافقة للطبع , وحظاً للنفس , وتنعماً للروح , لتشاكله بتلك اللطيفة التي جُعلت في الأصوات الحسنة , والنغمات الطيبة وكذلك الأشعار فيها معادن دقيقة , ورقة وفصاحة ولطافة وإشارات , فإذا عُلقت هذه الأصوات والنغمات على هذه القصائد والأبيات يشاكل بعضها بعضاً بموافقتها ومجانستها , ويكون أقرب إلى الحظوظ , وأخف محملاً على السرائر والقلوب , وأقل خطراً لتشاكل المخلوق بالمخلوق. فمن أختار استماع القصائد على استماع القرآن اختار لحرمة القرآن , وتعظيم ما فيه من الخطر: لأنه حقٌ , والنفوس تحسن عندها , وتموت عن حركاتها , وتغني عن حظوظها وتنعمها إذا أشرقت عيبها أنوار الحقوق بتشعشعها وأبدت بها عن معانيها , فقالوا: ما دامت البشرية باقية ونحن بصقاتنا وحظوظنا وأرواحنا متنعمة بالنغمات الشجية والأصوات الطبية فانبساطها بمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطها بذلك إلى كلام الله عز وجل الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 273 إلى 276 ملخصاً بألفاظه.

يعود " (¬1). والبدعة تفضي إلى بدعة , بل إلى بدع ومستحدثات , وليس لها نهاية , كما أن السيئة تفضي وتؤدي إلى سيئة وسيئات أخرى. فمن ثمار الوجد ولواحقه: الرقص , فيقول السهروردي: " ربما صار الرقص عبادة بحسن النية إذا نوى به استجمام النفس " (¬2). ويقول عماد الدين الأموي: " لا بأس بالرقص في السماع إذا لم يكن فيه تكسّر " (¬3). ويكتب الفيتوري: " يجوز الرقص في السماع إذا كان من تواجد وحالة " (¬4). ويصرح ابن عجيبة الحسني: " والأصل في الرقص هو الإباحة. . . وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر والسماع عن جماعة من أكابر الأئمة. وقد تواتر النقل عن الصوفية قديماً وحديثاً , شرقاً وغرباً , أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله ويقولون ويرقصون , ولم يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم. وقد رأيت بفاس بزاوية الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب , مع توفر العلماء , فلم ينكر أحد عليهم " (¬5). وقد أحل الرقص أبو حامد الغزالي أيضاً في إحيائه (¬6). وأما أبو الحسن الخرقاني فيعرّف ويمدح الرقص بقوله: " الرقص هو مشاهدة ما تحت الثرى بوقوع القدم على الأرض , ومشاهدة العرش ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 356 , 357. (¬2) عوراف المعارف للسهروردي ص 180. (¬3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ص 179 بهامش قوت القلوب. (¬4) الوصية الكبرى للفيتوري ص 19. (¬5) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 192 , 193. (¬6) أنظر إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 278.

بتحريك الأيدي في الهواء " (¬1). وأخيراً ننقل ما قاله ابن عجيبة ردّاً على الذين يعترضون على السماع والرقص , فيقول: أعلم أن اعتراض أهل الظاهرة على الصوفية لا ينقطع أبداً , هذه سنة ماضية , وخصوصاً في السماع والرقص , وهم معذورون لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتاً ترقص وتشطح , ولا يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح , فيحملون ذلك على حفة العقل والطيش , فيقعون فيهم إلا من عصمة الله بالتسليم ولذلك كان التصديق بطريقة القوم ولاية , والاعتراض جناية. . . وقد رأيت للطرطوشي اعتراضاً كبيراً على الصوفية في الرقص حتى قال فيه: إنه ضلالة وجهالة , وذلك لما قلناه , قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}. وكان الشيخ ابن عباد رضي الله عنه يقول: لا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على أهل الباطن أي لأنهم لم يدركوا ما أدركه أهل الباطن , فلا تقوم الحجة عليهم بمجرد سوء الظن , ولله دّر أبي مدين حيث يقول: إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى فلله يا خالي الحشا لا تعنفنا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللّقا نعم ترقصت الأشباح يا جاهل المعنى " (¬2). وأما حكاياتهم في الرقص فيذكر نجم الدين الكبري عن بعض المتصوفين أنهم كانوا يوماً في سماع لبعض الأخوان وقد طاب لهم الوقت وقاموا للرقص " (¬3). وذكر النفزي الرندي عن بعضهم أنه قال: " كنت مسافراً إلى مكة , فبينما أنا أمشي إذ رأيت شيخاً بيده مصحف وهو ينظر فيه ويرقص , فتقدمت إليه فقلت: يا شيخ , ما هذا الرقص؟. ¬

(¬1) المنتخب من كتاب نور العلوم من كلام الشيخ أبو الحسن الخرقاني (بالفارسية) للأستاذ مجتبى مينوي ص 112 ط بخانه طهوري إيران. (¬2) الفتوحات الإلهية ص 201. (¬3) فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ ص 45.

قال: دعني عنك , قلت في نفسي: عبد من أنا , وكلام من أتلو , وبيت من أنا قاصد , فاستفزّني الوجد فرقصت (¬1). ونقل الجعلي الفضلي عن سلمان العوضي أن أصحابه كانوا يقرشون الجمر والواحد يملأ عمامته حجراً ويضعها على رأسه ويرقص (¬2). ويضيف بعض الصوفية إلى الرقص في السماع تمزيق الثياب وخرقها أيضاً كما ينقل الوزير لسان الدين بن الخطيب عن بعض الشيوخ: " مرّ على خانقاه بالمشرق , فخرج إليه فقراء استدعوه إلى شيخها , فوجد جمعاً , فقال الشيخ: يا مغربي , حسن الظن بسمتك. وحكمناك في هذه الأحدوثة التي اجتمع لها الفقراء. وهي: أن هذا الفقير رقص وغلبه الوجد , وخطر له تمزيق ثيابه , فعدل عن عن جديد قريب عن ظاهره , إلى خلق كان باشر جسده فمزقه , فطالبه لمكان هذه البقية , قال: فقلت: يا مولانا. هذا الفقير لما طلب قلبه ولم يجده ليمزقه مزق أقرب الأشياء إليه وأشبهها به في الأخلاق والرقة , وفي مثل ذلك يقول الشاعر: يفل غداّ جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سمح الدموع موفقاً وخد جرى عن كون جسمي سالماً ... وذرعي , ومن حقيهما أن يشققا يدي لم تطق تمزيق جسمي لضعفها ... ولم يك قلبي حاضراً فيمزقا فصاح الشيخ , وعاد الوجد , وقاموا إلى رقصهم (¬3). وحكى الشعراني عن أبي حفص الحداد النيسابوري أنه قيل له: " إن فلاناً من أصحابك يدور حول السماع فإذا سمع بكى وصاح ومزّق ثيابه فقال: أيش يعمل الغريق؟ يتعلق بكل شيء يظن فيه نجاته (¬4). ¬

(¬1) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 221. (¬2) كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 94 ط المكتبة الثقافية بيروت. (¬3) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ... ص 371 , 372. (¬4) طبقات الشعراني ج 1 ص 81.

وذكر الشعراني أيضاً جمعاً من الصوفية مزقوا ثيابهم وخرجوا عرايا إلى الصحراء , فينقل عن الجيلي أنه رفع له شخص أدعى أنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه , فقال: أحق ما يقولون عنك؟ فقال: نعم , فانتهره ونهاه عن هذا القول وأخذ عليه أن لا يعود إليه , فقيل للشيخ: أمحقّ هذا أم مبطل؟ فقال: هذا محق ملبس عليه , وذلك شهد ببصيرته نور الجمال ثم خرق من بصيرته إلى بصره لمعة فرأى بصره ببصيرته , وبصيرته يتصل شعاعها بنور شهوده فيظن أن بصره رأى ما شهده ببصيرته , وإنما رأى بصره ببصيرته فقط وهو لا يدري. وكان جمع من المشايخ وأكابر العلماء حاضرين هذه الوقعة فأطربهم سماع هذا الكلام ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال الرجل , ومزّق جماعة ثيابهم وخرجوا عرايا إلى الصحراء (¬1). وعلى ذلك كتب الهجويري: " أعلم أن تخريق الثياب بين هذه الطائفة أمر معتاد , وقد فعلوا هذا في المجامع الكبرى التي كان المشايخ الكبار رضي الله عنهم حاضرين فيها " (¬2). وقد أباح الغزالي أيضاً تمزيق الثياب وتقطيعها حيث يقول: " فإن قلت: فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة؟ فأعلم أن ذلك مباح " (¬3). وأخيراً ننقل ما قاله الإمام ابن الجوزي في بيان الخرقة الصوفية فيقول: " فإذا اشتد طربهم رموا ثيابهم على المغني فمنهم من يرمي بها صحاحاً ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها وقد احتج لهم بعض الجهال فقال هؤلاء فقال هؤلاء في غيبة فلا يلامون فإن ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 1 ص 126 , 127. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 665. (¬3) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 279.

موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل رمى الألواح فكسرها ولم يدر ما صنع: والجواب أن نقول من يصحح عن موسى بأن رماها رمي كاسر والذي ذكر في القرآن ألقاها فحسب أين لنا أنها تكسرت , ثم ولو قيل تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا: كان في غيبة حتى لو كان بين يديه حينئذ بحر من نار لخاضه ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغني من غيره ويحذرون من بئر إن كانت عندهم , ثم كيف يقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء ولقد رأيت شاباً من الصوفية يمشي في الأسواق ويصيح والغلمان يمشون خلفه وهو يبربر ويخرج إلى الجمعة فيصيح صيحات وهو يصلي الجمعة فسئلت عن صلاته , فقلت: إن كان وقت صياحه غائباً فقد بطل وضوءه وإن كان حاضراً فهو متصنع وكان هذا الرجل جلداً لا يعمل شيئاً. بل يدار له بزنبيل في كل يوم فيجمع له ما يأكل هو وأصحابه فهذه حالة المتأكلين لا المتوكلين. ثم لو قدرنا أن القوم يصيحون عن غيبة فإن تعرضهم لما يغطي على العقول من سماع ما يطرب منهي عنه كالتعرض لكل ما غالبه الأذى وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال خطأ وحرام وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال عن شق الجيوب فقال له قائل , فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. قال إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما يدخل عليهم من التخريق وغيره مما يفسد ولا يسقط عنهم خطاب الشرع لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذه المواضع التي تفضي إلى ذلك كما هم منهيون عن شرب المساكر فإذا سكروا وجرى منهم إفساد الأموال لم يسقط الخطاب لسكرهم كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجداً إن صدقوا فيه فسكر طبع وإن كذبوا فتبيد ومع الصحو فلا سلامة فيه مع الحالين وتجنب مواضع الريب واجب. وأحتج لهم ابن طاهر في تخريقهم الثياب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: نصبت حجلة لي فيها رقم فمدها النبي صلى الله عليه وسلم فشقها. فانظر إلى فقه هذا الرجل المسكين كيف يقيس حال من يمزق ثيابه فيفسدها وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال على مد ستر ليحط فانشق لا عن

قصد , أو كان عن قصد لأجل الصور التي كانت فيه: وهذا من الشديد في حق الشارع عن المنهيات كما أمر يكسر الدنان في الخمور فإن أدعى مخرق ثيابه أنه غائب قلنا الشيطان غيبك لأنك لو كنت مع الحق لحفظك فإن الحق لا يفسد " (¬1). وليس تمزيق الثياب فقط , بل القرآن الكريم أيضاً - وعياذاً بالله - كما نقل الجعلي الفضلي عن الصوفي السوداني مكي الدقلاشي " كان ولياً من أولياء الله تعالى وسافر إلى بلده وسلك الناس الطريق وأرشدهم , وظهرت على يديه الكرامات وخوارق العادات , جاء لزيارة شيخه فلم يجد المركب فمشى هو وجيرانه على الماء حتى خرجوا إلى الشاطئ الشرقي أبي حراز وظلم جيرانه رجل أسمه أزرق من جماعة شيخ أليس أدلى سنار ودخل في مسجد الملك قائمة عليه الحالة فمزّق مصحفاً وجده في طاقة فدخل الخطيب والقاضي على الملك فسألهما عن ذلك , فقالا له: رجل مجذوب , وحين سأله الملك عن ذلك قال شعراً: أما من يوم قمت سموني الهائم ... مأذوناً لي لب أب جنا قائم يا كاشر جيب الصلطية ... نطعن بها أهل الجبرية وأومأ إلى الملك بإصبعه فزاغ , فقال لأصحابه: إن كان ما زغت فإن إصبعه يقدّ رأسي , قال الناس: هذا مكي الدقلاشي ظلمة زول لشيخ أليس , فأرسل الملك لشيخ أليس بردّ مظلمته وأهداه " (¬2). فهذه هي بدعات المتصوفة الشنيعة ومحدثاتهم القبيحة التي لزمتهم , وبها عرفوا وميّزوا عن الآخرين , ولبسئ ما ميزوا وخصوا بها , وامتازوا عن المؤمنين الذين {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬3). {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬4). ¬

(¬1) أنظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 252 , 253 ط ... دار القلم بيروت. (¬2) كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 157. (¬3) سورة الأنفال الآية 2. (¬4) سورة مريم الآية 58.

{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا {108} وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {109} (¬1). والذين {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬2). وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله يجتمعون , ولا على ذلك كما قال شيخ الإسلام بن تيمية: " فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده , وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم فهو سماع آيات الله , وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم وأهل المعرفة ... وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون , وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: يا أبا موسى: ذكرنا ربنا , فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه , ويستدعيه منهم , كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأ عليّ القرآن) , قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل؟ فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) , فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: (حسبك) فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان " وأما سماع المكاء والتصدية وهو التصفيق بالأيدي , والمكاء مثل الصفير ونحوه , فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد. والتصويت بالفم قربة وديناً. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه قط ... ¬

(¬1) سورة الإسراء الآية 107 , 108 , 109. (¬2) سورة المائدة الآية 83.

وبالجملة قد عرف بالإضطرار من دين الإسلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أيجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة , مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب , أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج من متابعته , وأتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة , لا في باطن الأمر , ولا في ظاهره , ولعامي ولخاصي , ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه , كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح. وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف , ولا يصفق بكف , بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) , ولعن المتشبهات من النساء بالرجال , والمتشبهين من الرجال بالنساء). ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء , كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثاً , ويسمون الرجال المغنين مخانيثاً , وهذا مشهور في كلامهم ... وتكلم كثير من المتأخرين في السماع: هو هو محظور؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج , بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقاً إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب , والتشويق إلى المحبوب , والتخويف من المرهوب , والتخزين على فوات المطلوب , فستنزل به الرحمة. ونستجلب به النعمة , وتحرك به مواجيد أهل الإيمان , وتستجلي به مشاهد أهل العرفان , حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه: حتى يجعلونه قوتاً للقلوب. وغذاءاً للأرواح , وحادياً للنفوس , يحدوها إلى السير إلى الله , ويحثها على الإقبال عليه. ولهذا يوجد من اعتاده , واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به , ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات: بل إذا سمعوا القرآن سمعوه , بقلوب لاهية , وألسن لاغية , وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات , وسكنت الحركات , وأصغت القلوب , وتعاطت المشروب " (¬1). ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 11 ص 599 وما بعد.

هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية , وأما الإمام ابن الجوزي فأيضاً قد فصل القول في تحريم الغناء والمنع منه مستدلاً من الكتاب والسنة , وذكر في آخر الكلام قول أبي عبد الله بن بطة العكبري قال: " سألني سائل عن استماع الغناء , فنهيته عن ذلك وأعلمته أنه مما أنكرته العلماء واستحسنه السفهاء , وإنما تفعله طائفة سمّوا بالصوفية , وسماهم المحققون الجبرية , أهل همم دنيئة وشرائع بدعية يظهرون الزهد وكل أسبابهم ظلمة , ويدعون الشوق والمحبة بإسقاط الخوف والرجاء , يسمعونه من الأحداث والنساء ويطربون ويصعقون ويتغاشون ويتماوتون , ويزعمون أن ذلك من شدة حبهم لربهم وشوقهم إليه , تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً " (¬1). وقال هو نفسه: " إن الغناء يخرج الإنسان عن الإعتدال ويغيّر العقل , وبيان هذا أن الإنسان إذا طرب فعل ما يستقبحه في حال صحته من غيرة من تحريك رأسه , وتصفيق يديه , ودقّ الأرض برجليه إلى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة , والغناء يوجب ذلك بل يقارب فعله فعل الخمر في تغطية العقل , فينبغي أن يقع المنع منه " (¬2). هذا وقد ذمّ الغناء الصوفي المشهور ابن زروق في كتابه (قواعد التصوف) وبيّن مساويه وجعله موجباً للزنا (¬3). والسهروردي أيضاً قد أحسن وأجاد في هذا حيث كتب: " وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى) وروى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين فاجرين صوت عند نعمة , وصوت عند مصيبة) , وقد روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما غنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ¬

(¬1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 229. (¬2) أيضاً. (¬3) أنظر قواعد التصوف لابن زروق ص 70.

الغناء ينبت النفاق في القلب , وروى أن ابن عمر رضي الله عنه مر على قوم وهم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا سمع الله لكم , ألا لا سمع الله لكم , وروى أن إنساناً سأل القاسم بن محمد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك , قال: أحرام هو؟ قال: أنظر يا ابن أخي إذا ميز الله الحق والباطل في أيهما يجعل الغناء؟ وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا , وعن الضحاك: الغناء مفسدة للقلب ومسخطة للرب , وقال بعضهم: إياكم والغناء فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة , وأنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر , وهذا الذي ذكره هذا القائل صحيح لأن الطبع الموزون يفيق بالغناء والأوزان , ويستحسن صاحب الطبع عند السماع ما لم يكن يستحسنه من الفرقعة بالأصابع والتصفيق والرقص وتصدر منه أفعال تدل على سخافة العقل , وروى عن الحسن أنه قال: ليس الدف من سنة المسلمين , والذي نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سمع الشعر , لا يدل على إباحة الغناء فإن الشعر كلام منظوم وغيره منثور فحسنه حسن وقبيحه قبيح , وإنما يصير غناء بالألحان وإن أنصف المنصف وتفكر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغني بدفه والمشبب بشبابته وتصور في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهل استحضروا أقوالا وقعدوا مجتمعين لاستماعه لا شك بأنه ينكر ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ولو كان في ذلك فضيلة نطلب ما أهملوها , فمن يشير بأنه فضيلة تطلب ويجتمع لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين , واستروح إلى استحسان بعض المتأخرين ذلك. وكثيراً ما يغلط الناس في هذا , وكلما احتج عليهم بالسلف الماضين يحتجون بالمتأخرين. وكان السلف أقرب إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهديهم أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكثيراً من الفقراء يتسمح عند قراء القرآن بأشياء من غير غلبة " (¬1). أنشد ابن البنا السرقسطي: وليس يحتاج إلى السماع ... إلاّ أخو الضعف القصير الباع والزعقات فيه والتمزيق ... ضعف وهزّ الرأس والتصفيق (¬2). ¬

(¬1) عوارف المعارف للسهروردي ص 188 , 189 ط دار الكتاب العربي بيروت. (¬2) المباحث الأصلية للسرقسطي ص 195 , 196 ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني.

وهناك بدع أخرى اختص بها المتصوفة أو هم الذين اخترعوها وأحدثوها وأوجدوها وابتدعوها , فمنها أورادهم وأذكارهم التي لم ترد , لا في كتاب ربنا , ولا سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه , وكذلك حلق الذكر وآدابها والشرائط التي اشترطوها , وفضائلها المزيفة ومناقبها المزوّرة. ومن المعلوم أن أفضل الذكر لا إله إلا الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبل (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (¬2). وهناك أذكار أخرى وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت عنه ورويت في كتب السنة , وتلقتها الأمة , وعلى رأسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكروا الله بتلك الأذكار المخصوصة في أوقات معلومة عملاً بقول الله عز وجل: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬3). وقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (¬4). وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬5). وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬6). وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا عند ظن عبدي وأنا معه إذا ذكرني , فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي , وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه , , وإن تقرب إليّ شبراً أقتربت منه ذراعاً وإن اقترب إليّ ¬

(¬1) رواه؟ (¬2) رواه مالك في الموطأ. (¬3) سورة الرعد الآية 28. (¬4) سورة البقرة الآية 152. (¬5) سورة آل عمران الآية 41.طريقة ولا سنة (¬6) سورة الجمعة الآية 10.

ذراعاً أقتربت إليه باعاً , وإن أتاني مشياً أتيته هرولة) (¬1). وإن الأذكار والأوراد سبب قربة الله ورضائه , ورضوانه ولا يتقرب الإنسان إلى ربه بمثل ما يتقرب إليه بتلك الطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبالألفاظ والكلمات والصيغ التي تلفظ بها عليه الصلاة والسلام , ولقن بها تلامذته الراشدين ورفاقه المهديين لأن على تلك الألفاظ والكلمات والصيغ مسحة من مسحات الوحي , ونفحة من نفحات الرب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق إلا بما يوحى إليه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} (¬2). فلا تكون الكلمات أرضى لله وأحب إليه من تلك الكلمات التي أختارها هو سبحانه وتعالى لإلقائها إلى نبيه وصفيه ليدعو بها , ويتقرب إليه , ويبتغي مرضاته , فعلى ذلك لم يقبل توبة آدم إلا بتلك الكلمات التي ألقاها إليه هو نفسه جل جلاله وعمّ نواله كما ذكر في محكم كتابه: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (¬3). وأما كلمات الآخرين وكلامهم فمن يدري أنها تصل إلى جنابة وتجد القبول عنده أم لا , وفي استعمالها وصياغتها نوع من الإزدراء والاستهجان والاستسخار بتلك الكلمات التي دعا بها نبي الرب ربه أو ذكره بها , حيث ظنّ المخترع والمبتدع بأن أذكاره وأوراده التي ركّبها من عند نفسه هي أحسن وأجمل وألطف وأسرع وصولا إلى الله من تلك الكلمات الربانية التي أوحى بها إلى صفيه ونجيّه أتقى الناس وأخشاهم لله وأعلمهم به وما يرضيه , وأفصح العرب ومن نطق بالضاد , وأبلغ الخلائق وأعرفهم بمدلولات الألفاظ ومنطوقات الحروف والكلمات , فترك ألفاظه وكلماته وصيغه في الذكر والدعاء والصلوات مضاهاة به وبفصاحته وبلاغته , ومنقصة بمقامه وشأنه ورتبته ومنزلته , علاوة على تكذيبه فيما يقوله ويبينه من المزية والفضيلة لذكر دون ذكر , ومخالفته وشقاقه ومعصيته , وتشريع جديد مع إقرار ختم النبوة به , وكمال الدين وتمام النعمة عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) سورة النجم الآية 3 و 4. (¬3) سورة البقرة الآية 37.

وأنّى لأحد من الأمة هذا الخيار في حق من قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي) (¬1). فالمتأدب والمُتّبع لا يخطو إلا على خطواته , ولا يقفوا إلاَ أثره , ولا يمشي إلا خلفه , لا يتقدم بين يديه ولا يرفع صوته فوق صوته , ولا يجهر له بالقول خوفاً من أن يحبط عمله وهو لا يشعر , فكلامه حق , وأمره مسلّم , وقضاؤه محكم , وإرشاده ملزم , فلا ذكر أفضل من ذكره , ولا دعاء أحسن من دعائه , ولا التسبيح ألطف من تسبيحه , ولا التحميد أروع من تحميده , فلا طريقة , ولا سنة دون سنته , ولا ورد غير ورده , ولا صلاة ولا سلام أفضل من صلاته الذي نطق بهما وعلّمها أصحابه. وإن توظيف الوظائف والأوراد من حقه واختصاصه كما صرح بذلك الصوفي المشهور وشيخ الطريقة المشهورة , أبو الحسن الشاذلي كما نقل عنه المشخانوي , فقال: " دخل رجل على أستاذي (عبد السلام بن مشيش) فقال له: وظف لي وظائف وأوراداً , فغضب الشيخ منه وقال له: أرسول أنا أوجب الواجبات " (¬2). وبذلك قال ابن زروق في قواعده: " تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدد كل شيء ولا يجوز التجاوز عنه " (¬3). ولكن الصوفية يخالفون رسول الله في هذا كما يخالفونه وأوامر ربه في أشياء أخرى عديدة , فاختلقوا أوراداً , وأخترعوا وظائف , وبينوا لها ثواباً من عند أنفسهم كأنهم مشرعون , والموحى إليهم , وأنشئوا لها هيئات , وأحدثوا لها آداباً , وأوجبوا لها حلقاً كأنهم علموا شيئاً لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو علمه فكتمه ولم يخبر ¬

(¬1) رواه؟ (¬2) جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 42 , أيضاً المدرسة الشاذلية وإمامها أبو الحسن للدكتور عبد الحليم محمود ص 28 ط ... دار الكتب الحديثة القاهرة واللفظ له. (¬3) قواعد التصوف لأبي العباس أحمد بن زروق ص 56 ط مكتبة الكليات الأزهرية مصر.

أحداً من أصحابه فجاء هؤلاء فأخبروا الناس به , وهذه أمثلة لذلك , فيقول با يزيد الأنصاري المتوفى 980هـ وهو يقسم الذكر إلى أقسام , فيقول: " أما ذكر (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهو ذكر اللسان , وهو يجوز في الشريعة , وذكر (لا إله إلا الله) هو ذكر القلب , وهو يجوز في الطريقة , وذكر (إلا الله) هو ذكر الروح وترك الظن , وهو يجوز في الحقيقة , وذكر (الله) هو ذكر السر , وهو يجوز في المعرفة , وذكر (هو) هو ذكر المذكور وهو يجوز في الوحدة " (¬1). والشيخ نور الدين البرفكاني حدد ذكر لفظ الجلالة تحديدا غير وارد في الشرع فقال: " ليواظب المريد على ورد " لا إله إلا الله " مائة مرة مع حضور القلب باستحضار معناها وتغميض العينين , وملاحظة أنه بمرأى من الله تعالى وأنه يراه ويقول: " الله الله " مائة مرة صباحاً ومساءاً " (¬2). وحكوا عن الشبلي أنه قيل له: " لم تقول " الله "؟ ولا تقول " لا إله إلا الله "؟ فقال: أستحي أن أوجّه إثباتاً بعد نفي. . . أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار " (¬3). وفي ذلك قال شيخ الإسلام: " إن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان تاماً مفيداً مثل " لا إله إلا الله " ومثل " الله أكبر " ومثل " سبحان الله والحمد لله " ومثل " لا حول ولا قوة إلا بالله ". فأما الاسم المفرد مظهراً مثل: " الله , الله " أو مضمراً مثل " هو , هو " فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة , ولا هو مأثور أيضاً عن أحد من سلف الأمة , ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم , وإنما نهج به قوم من ضلال المتأخرين ... ¬

(¬1) مقصود المؤمنين لبا يزيد الأنصاري ص 306 ط إسلام آباد باكستان. (¬2) اللطف الداني من مناقب الشيخ نور الدين البرفكاني لبعد الوهاب محمد أمين ط مطبعة الجمهور الموصل. (¬3) أنظر شطحات الصوفية للدكتور بدوي ص 44 ط ... الكويت.

وربما غلا بعضهم في ذلك حتى جعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة وذكر الكلمة التامة للعامة , وربما قال بعضهم: " لا إله إلا الله " للمؤمنين , و" الله " للعارفين , و " هو " للمحققين , وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعة على " الله , الله , الله " أو على " يا هو " أو " لا هو إلا هو " " (¬1). ويقول في موضع آخر: " أما ذكر الاسم المفرد فبدعة لم يشرع , وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان. . . ومن العجب أن الصوفية يقولون: ذكر العامة " لا إله إلا الله " وذكر الخاصة " الله , الله " وذكر خاصة الخاصة " هو , هو " وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع , وهن من القرآن: سبحان الله , والحمد لله , ولا إله إلا الله والله أكبر) وفي حديث آخر (أفضل الذكر لا إله إلا الله) , والأحاديث في هذا المعنى كثيرة " (¬2). هذا ويقول الصوفي المشهور عبد الغني الرافعي: " وأجمعوا على أنه ينبغي للمريد إذا ذكر الله تعالى أن يهتز من فوق رأسه إلى أسفل قدميه , وهذه حالة يستدل بها على أنه صاحب همة ويرجى له الفتح عن قريب , ويبتدئ بلا إله من جهة اليمين وإلا الله من جهة الشمال , ويخيط بإلاّ على القلب , وإذا ذكر بالأسماء الستة الباقية ضرب بذقنه على صدره ويخيط بالاسم على القلب ولا يميل يميناً ولا شمالاً " (¬3). ويقول الصوفي الهندي إمداد الله الجشتي: " على المريد أن يتصور مثال محمد صلى الله عليه وسلم في قلبه , ويوجه رأسه إلى اليمين ثم يقول: يا أحمد , ثم يتوجه لليسار ويقول: يا محمد , ثم يقول: يا رسول الله , ويضرب ذقنه على صدره " (¬4). ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 10 ص 556. (¬2) أيضاً ج 10 ص 396. (¬3) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 43 مطبعة شرف موسى مصر 1301 هـ. (¬4) ضياء القلوب لإمداد الله الجشتي ص 34 ط مطبع مجتبائي دهلي الهند.

وابن الحاج التلمساني المغربي المتوفى 737هـ قد ذكر خواص بعض أسماء الله الحسني في كتابه " شموس الأنوار " , وذكر شروطاً وطرقاً , آداباً وسنناً , أنواراً وأسراراً , علوماً وتصرفات , نتائج وثمرات , وحكماً وإشارات من عند نفسه , لا يقوم لها برهان من الكتاب والسنة , فيقول: (أسمه تعالى الله الحي القيوم) من داوم على ذكره كل يوم عدد الأعداد الواقعة عليه إلى أن يغلب عليه منه حال الأسماء بعد الطهارة الكاملة والشروط التي منها , الأول من الشروط أن يكون الإنسان في خلوة بعيدة عن العمارة , الثاني أن يكون لباسه حلالاً. الثالث أن يكون طعامه حلالاً. الرابع أن يكون صائماً. الخامس أن لا يأكل إلا قليلاً من الطعام فإن حاد عن هذا النمط فسد. السادس أن يغتسل كل يوم. السابع أن لا يأكل ما فيه روح. الثامن أن لا ينام إلا عن غلبة. التاسع أن لا يشتغل إلا بذلك. العاشر أن لا يجلس إلا على حصى أو تراب وهو مستقبل القبلة. الحادي عشر أن يكون خاضع الرأس. الثاني عشر أن ينوي العبودية لله ولا ينوي بها كشف الحجاب. الثالث عشر مهما انتقض وضوؤه أعاده. الرابع عشر إن وجد أن يبخر كل ليلة جمعة أو ليلة الإثنين أو يوم الخميس بالبخور الطيب وكذلك يوم الإثنين ويوم الجمعة عند الزوال فإن الأرواح العلوية الذين يردون عليه يحبون الرائحة الطيبة. الخامس عشر أن لا يتكلم مع أحد في تلك المدة. السادس عشر أن يباشر كل ما يحتاجه بيده. السابع عشر أن يكثر من البكاء والندامة. الثامن عشر أن لا يلبس ثياباً رفيعة في تلك المدة. التاسع عشر أن يكون لباسه أبيض لا سواد فيه , وفي عشرين أن يكون على يقين أن الله تعالى يستجيب له فأعرف قدر هذه الشروط فإنك لا تجنيها من ديوان ولا من أحد من الأعيان - وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب - ولنرجع إلى ما نحن بسيله من الأسماء أعني إسم الجلالة وهو اسمه تعالى الحيّ القيوم إذا وصل المسالك بهذه الأسماء المقامات العلية في الحال وامتزج الذكر مع عوالمه الحسية سمع الهواتف يخاطبونه من كل جهة بكل لغة عجيبة وأقوال قدسية لحينئذ يترك اسمين من هذا الذكر ويبقى ذاكراً ليلاً ونهاراً اسمه تعالى القيوم فقط ثم يذهب عنه

النوم وهو في سلوكه قد امتدّ بالقوة الصمدانية فإنه يسمع الهاتف الرباني يخاطبه بقوله فامنن أو أمسك بغير حساب ثم تتقدم بين يديه الأكوان قائلة له نحن بأمر الله عند أمرك فافعل بنا ما شئت وخذت ما شئت فهذا المقام مقام القطب الفرد الذي به يرزق الله ويعطي ويمنح لأهل الدنيا وقد يمتد من أنواره وعلومه الوتد الذي هو قائم بإقليم من أقاليم الدنيا فأعرف قدر هذه الأسماء فلا شك أنها أسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. [فصل أسمه تعالى القدوس] من داوم عليه بالشروط المتقدمة إلى أن يغلب عليه منه حال شاهد أنواراً تخرج من فيه وسمع صرير القلم وفهم لغة العالم العلوي وهو مقام الأوتاد من أهل الدائرة الربانية فإذا شاهد هذه الحالة فليقطع ذلك الذكر وليشرع في أسم الجلالة وهو الله الله فإنه يثبت في تلك المرتبة. [فصل أسمه تعالى السريع] من داوم عليه بالشروط المعلومة إلى أن يغلب عليه حال شاهد عالم الملكوت وكان مجاب الدعوة في كل أمر يحضر له وكشف له عن عالم الروحانية فيسألهم عن كلّ خير يريده. [فصل في أسمه تعالى الوهاب] من داوم عليه كما رسمناه في أول الكتاب إلى أن يغلب عليه حال خدمته الروحانية وملوك الجن وتبعته الدنيا بحذافيرها وهو مقام العطاء فليعامل خلقه بهذه الصفة ولا يحتقر وضيعهم ولا رفيعهم وهذه المرتبة مقام النجباء أهل الكمال. [فصل في اسمه تعالى الجواد] من داوم عليه إلى أن يغلب عليه من حال انفعلت له المكونات بأسرها ثم يتشكل بكل رهط أراد فإنه مقام البدلاء ولا يفتر عن ذلك الذكر إلى أن يأتيه اليقين. [فصل اسمه تعالى الكافي المغني] من داوم عليهما بلا فتور إلى أن يغلب عليه منهما حال وامتزجت الأذكار مع عوالمه الحسية شاهد حسن الألوهية حتى إنه لو حبس السالك التراب بيده وذكر عليه تلك الأذكار صار ذهباً في أسرع وقت وهو مقام الأخيار من أهل الدائرة.

[فصل اسمه تعالى ذو الجلال والإكرام] من داوم عليه بالشروط المتقدّمة إلى أن يصير مغلوباً في الحال وامتزج الإسم الأعظم من عوالمه الحسية شاهد أسراراً لا يمكن التعبير عن ماهيتها حتى إن صاحبه إذا أراد أمراً من ألأمور يكون في أسرع وقت ولولا مخافة أن يقع هذا الكتاب في يد من لا يستحقه من أهل الضلالة والمعصية لتكلمت على هذا الاسم وجعلت خواصه وفوائده كلها مرسومة هنا لينتفع بها كل داخل وارد لهذا الكتاب فهو الاسم الأعظم الذي به السفينة تجري والطيور تجيبك فإن دعوتها حضرت بين يديك وكذلك كل مكوّن من المكونات. [فصل اسمه تعالى الخبير] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يمتزج الذكر مع عوالمه صار صاحب كشف إيماني وأخبر بما في الظاهر والباطن وكذا الذكر يليق بأهل المكاشفة من أهل الله. [فصل اسمه تعالى العزيز] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يغلب عليه حال منه تسخر له العالم العلوي والسفلي وجمع الله شمله بما يريد حتى إن ذاكره لو أراد أن يشير إلى جبل لانفتح أو حائط كذلك وهو الذكر النقباء من أهل الدائرة. [فصل اسمه تعالى المقتدر القادر] إذا داوم عليهما السالك بعلو همة على الشروط المعدودة إلى أن يغلب عليه منهما حال قلّده الله بثوب الغلبة والنقمة حتى إنه لو نظر إلى طير في جو السماء بأقلّ نظرة كأنه مرمي بسهم أو قرب إليه أحد من الخلق بضر أخذ لوقته وهذا الذكر هو لأرباب القبض من أهل الدائرة فافهم. [فصل اسمه تعالى الكبير] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يغلب عليه منه حال ارتقى في درجة الخلافة الربانية المعلومة لأهل الحضرة الصمدانية , وقد أتيت هنا في هذا الباب بفتح رباني فعليك أيها الراغب بالإجتهاد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) " (¬1). ومثل ذلك ذكر الوزير لسان الدين بن الخطيب في روضته طرق التقرب إلى أسماء الله الحسنى وشروط التقرب وآدابه وأسرار هذه الأسماء , فيقول: ¬

(¬1) شموس الأنوار وكنوز الأسرار لابن الحاج التلمساني ص 128 وما بعد ط مصطفى البابي 1357 هـ.

" أسمه " الحق " وهو الواجب بذاته , والتقرب إليه به أن يردّ إليه الأشياء من صوت ونطق وحركة. . . وشرطة أن لا يأكل من الأسباب , ومجاهدته الصمت. . . واسمه " الودود " والتقرب إليه باستدامة الجوع والخلوة. . . واسمه " الشهيد " ومعناه راجع إلى العلم , والمتقرب إليه به يلزم التجوعات والرياضة , والخشوع والمراقبة , وملازمة اسمه الشهيد وتبدو له المحاضرة , ثم المكاشفة , ثم المشاهدة " (¬1). ويقول أحمد بن علي البوني المتوفى 622 هـ: " وأما اسمه تعالى " الفتاح العليم " فخواصهما تقرب من الاسمين المتقدمين , وهو من أراد الوصول إلى علم الحقيقة فليأخذ بشروطها , وليداوم على هذين الاسمين الشريفين عقب أوراده التي اعتادها بعد الصلوات الخمس فلا يمضي عليه أربعون يوماً إلا فتح الله عليه بالفتح الغيبي الذي لا يطلع عليه أحد إلا الأولياء أرباب المقامات والأحوال " (¬2). هذا وقد وضع الصوفية صنيعاً وكلمات لصلاة الحاجة مخالفين فيها الصيغ والألفاظ التي وردت في الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصلي ركعتين ثم ليثني على الله وليصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم , سبحان الله رب العرش الكريم , الحمد لله رب العالمين , أسألك موجبات رحمتك , وعزائم مغفرتك , والغنيمة من كل بر , والسلامة من كل أثم , لا تدع لي ذنب إلا غفرته , ولا هماً إلا فرجته , ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الرحمين). ولكن الصوفية يقولون: " من كانت له إلى الله حاجة فليصل أربع ركعات يقرأ في الأولى: الفاتحة وسورة الإخلاص عشر مرات , وفي الثانية: الفاتحة وسورة الإخلاص عشرين مرة , وفي الثالثة: الفاتحة وسورة الإخلاص ثلاثين , وفي الرابعة: الفاتحة وسورة الإخلاص أربعين. وبعد ¬

(¬1) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 307 ط دار الفكر العربي. (¬2) الأصول والضوابط المحكمة للبوني ص 45 ضمن منبع أصول الحكمة ط مصطفى البابي الطبعة الأخيرة.

الفراغ يقول: اللهم بنورك وجلالك وبحق هذا الإسم الأعظم وبحق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أسألك أن تقضي حاجتي وتبلغني سؤلي وأملي , ويدعو بهذا الدعاء يستجاب له , وهو هذا: بسم الله الرحمن الرحيم الله الله الله لا إله إلا الله الأحد الصمد , الله الله الله لا إله إلا الله بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام , اللهم إني أسألك بحق أسمائك المطهرات المعروفات المكرومات الميمونات المقدسات التي هي: نور على نور ونرو فوق نور ونور في السموات والأرض , وأسألك بنورك العزيز العظيم , وبنور وجهك الكريم , وبقوة سلطانك المبين وجبروتك المتين , الحمد لله الذي لا إله إلا هو بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام , يا الله يا الله يا الله , يا رب يا رب يا رب , يا رباه يا رباه يا رباه , اغفر لي ذنوبي , وانصرني على أعدائي , واقض حوائجي في الدنيا والآخرة ووالدي وجميع المسلمين , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم " (¬1). وكذلك ابتدعوا أحزاناً سبعة ووزعوها على أيام الأسبوع , يكررها الصوفية معرضين عن الأوراد والأذكار المأثورة الواردة في كتب السنة النبوية اخترعوها لها فضائل ومناقب , منها ما ذكروه في فضائل الحزب الخامس في يوم الجمعة , فقالوا بعد ذكر ألفاظ الذكر: " من قرأه مرة واحدة كتب الله له ثواب حجة مقبولة وثواب من أعتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام فيقول الله تعالى: يا ملائكتي هذا عبد من عبادي أكثر الصلاة على حبيبي محمد , فو عزتي وجلالي ووجودي ومجدي وارتفاعي لأعطينه بكل حرف صلى قصراً في الجنة وليأتني يوم القيامة تحت لواء الحمد نور وجهه كالقمر ليلة البدر وكفه في كف حبيبي محمداً هذا لمن قالها كل يوم جمعة له هذا الفضل والله ذو الفضل العظيم " (¬2). ¬

(¬1) الفوائد في الصلات والعوائد لشهاب الدين حمد بن عبد اللطيف الشرجي ص 55 ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية 1388 هـ. (¬2) أنظر دلائل الخيرات ص 112 , 113 ط ... مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1346 هـ.

وهناك اسم الله الأعظم ذكره أبو العباس أحمد بن علي البوني المتوفى 622 هـ , وبيّن طريقة استعماله , وفيها ألفاظ وكلمات ليس لها معنى ومفهوم , لا ينطق بها أحد من الناس , فلا ندري هي لغة الجن أو لغة السحر والكهانة يستخدمها الصوفية للتقرب إلى الله عز وجل - وعياذاً بالله من هذا الهذيان - فيقول البوني: " اسم الله الأعظم الذي لا يوفق لاستعماله إلا من سبقت له العناية هو الله وله من الحروف ج ب أووللجيم جينج أسم هوائي والباء بكمد أسم ترابي وللألف أهلل أسم ناري وللواو وكيل أسم مائي: وكيفية الذكر بهذه الأسماء أن تتلو في الثلث الأخير من الليل هذه الأسماء الأربعة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين مرة ثم ركعتين وبعد السلام تقرأ (الله نور السموات والأرض) الآية سبعين مرة وتقول أستغفر الله العظيم سبعين مرة وتذكر البسملة سبعمائة وستاً وثمانين مرة ثم تقول اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم مائة واثنين وثلاثين مرة وتقول الله الجليل القديم الأزلي أربعمائة وثمانياً وثمانين مرة ثم بعد صلاة الصبح تستغفر الله سبعين مرة وتذكر البسملة سبعين مرة وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة ثم تقول: اللهم أهلل بكمد جينج وكيل الله يامور شطيئاً ياطهوج يا مبططروش أجب يازهزيائيل وأنت يا أهدكيل بحق الهاء الدائرة , اللهم يا من هو أحون قاف آدم حم هاء آمين سبعين مرة ونكتب هذا الخاتم وقت شروق الشمس , وهذه صفته: C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\5.jpg وتحمله معك , ثم إذا عرض لك أمر وأردت قضاءه فاكتب الخاتم , وأدخل مقصودك في الخانة الخيالية منه , ثم قل عليه: يا جنيح يابكمد يا أهلل يا وكيل 6666

مرة فإنك تجاب في أسرع وقت " (¬1). وأيضاً الوظيفة التي ذكرها لقضاء المهمات وتسيير الأمور , وهذه ألفاظها: " اللهم إني أسألك بعظيم قديم كريم مكنون مخزون أسمائك وبأنواع أجناس رقوم نقوش أنوارك , وبعزيز إعزاز عز عزتك , وبحول طول جول شديد قوتك , وبقدرة مقدار اقتدار قدرتك , وبتأييد تحميد وتمجيد عظمتك , وبسمو نمو علو رفعتك , وبقيوم ديوم دوام أبديتك , وبرضوان غفران آل مغفرتك , وبرفيع بديع منبع سلطانك وبصلات سعات بساط رحمتك , وبلوامع بوارق صواعق عجيج وهيج بهيج رهيج نور ذاتك , وببهر جهر قهر ميمون ارتباط وحدانيتك , وبهدير تيار أمواج بحرك المحيط بملكوتك , وباتساع انفساح ميادين برازيخ كرسيك , وبهيكليات علويات روحانيات أملاك عرشك , وبأملاك الروحانيين المدبرين لكواكب أفلاك , وبحنين أنين تسكين المريدين لقربك وبحرقات زفرات خضعات الخائفين من سطوتك , وآمال؟ أقوال المجتهدين في مرضاتك وبتحمد تمجد تهجد تجلد العابدين على طاعتك يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا قديم يا مغيث أطمس بطلسم " (¬2). وقد ذكر الشيخ علي بن محمد الطندتائي في رسالته وظيفة محتوية على كلمات غريبة على اللغة العربية , وصّور شخصين , وكتب عليهما أحرفاً ورموزاً لا معنى لها , نثبت هنا كل ذلك فيقول: " وإذا أردت جلب الهارب والسارق فقصّ شخصين من ورق وأكتب على شخص المطلوب هكذا: أبارخ 2 يورخ انوش 2 صورخ بارخ 3 باروخ 2 كر 25 255 ان وس ل ك ق د وج ب C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\7.jpg وعلى شخص الطلب هكذا: C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\8.jpg ¬

(¬1) شرح الجلجوتية الكبرى لأبي العباس أحمد بن علي البوني ص 110 ط مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الأخيرة. (¬2) منبع أصول الحكمة للبوني ص 111 ط مصطفى البابي مصر.

جالوش عبروش عراش جواش هيهوش فهروش شلموش يعروش يعروش يعوش د ... ف ... ر أ ... 85 ... 255 ثم أجعل وجه الطالب على وجه المطلوب وعلقهما في سيبة وأقرأ عليهما هذه الأسماء. أيه بقطريال جليش دميال هططوش وهيم زنقطا حداية طغيال 45 مرة ثم العهد القديم 7 مرات , فإن أحسست بثقل في عضو من أعضائك فهي علامة الإجابة وإلا فكرر سبعة ثانياً أو ثالثة وهكذا إلى تمام 49 مرة فإن المقصود يتم لا محالة بإذن الله تعالى والبخور لبان ذكر وكزبرة وجماجم تمر حنا " (¬1). اخترع الصوفية هذه الألفاظ الغريبة وزعموا أن للحروف أسرارا ورموزاً وإضمارات وطبائع وإشارات , متأثرين في ذلك بالعلوم السحرية الطلسمية فيها كفر وضلال , وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (¬2). والصوفية اشتغلوا بترديد الكلمات السحرية الكفرية على ألسنتهم وألفوا في ذلك كتباً ورسائل ذكروا فيها أسرار الحروف ورموزها , فنثبت هنا الجدول الذي هو أساس للأوراد الصوفية ووظائفهم: " أول الحروف حرف الألف وخادمه الرئيس الأكبر رئيس ملائكة الحروف: هَطْمَهْطَلْقِيائيل وإضماره هَدْهَيُون شَلْهَميدٍ طَمْخَلَلَشٍ بُهْلَميْلَخٍ. حرف الباء وخادمه الملك جَرَمْهَيَائيل وإضماره كَشَمْشَخٍ هَيْلَخٍٍ مَهَلْشَطٍ. حرف الجيم وخادمه الملك طلقطيائيل وإضماره هَدْمَخٍ هَلَشْلخَخٍ. حرف الدال وخادمه الملك سكمهيائيل وإضماره هَلْطَفٍ مَهْللخٍ شَوييدٍ شئلْطَطٍ. ¬

(¬1) الدرة البهية في جوامع الأسرار الروحانية للشيخ علي بن محمد الطندتائي ص 31 ط ... مصطفى البابي الحلبي 1370 هـ. (¬2) سورة البقرة الآية 102.

حرف الهاء وخادمه الملك عَفْرَيائيل وإضماره ذَبْحطٍ هَمَكِيكٍ هَشْطيطعٍ. حرف الواو وخادمه الملك طُونَيائيل وإضماره مَهْدَدُوةٍ شَلْتَمُوخٍ بَرَاخٍ. حرف الزاي وخادمه الملك عَلمَشيائيل وإضماره مَعَدرْشٍ هَطَاطِمٍ مَهَطٍ. حرف الحاء وخادمه الملك طَفيائيل وإضماره دَهْلِيخٍ كَمشَلاطَخٍ. حرف الطاء وخادمه الملك عَصْطيائيل وإضماره شَمْهَطٍ مَبلْشَخٍ مَلْخشٍ طمهٍ. ٍ حرف الياء وخادمه الملك هَرْدَقيلٍ وإضماره دَمْغيغ هَلهَفٍ شُوييدخٍ. حرف الكاف وخادمه الملك شَمْهَائيل وإضماره شَفْرُودٍ هَمِيطا خَطشٍ. حرف اللام وخادمه الملك طَهْطَيائيل وإضماره غَغِيطٍ طَهْمَشٍ خلشَدَمٍ. حرف الميم وخادمه الملك شَرَاخيل وإضماره حَجَمُشَطٍ كَلِتْياطٍ مَدْمَخٍ. حرف النون وخادمه الملك صَعْرِيائيل وإضماره شَغيغٍ دَلْحمٍ بَهِيط. حرف السين وخادمه الملك هَطْغِيل وإضماره مَسْطَعٍ عَطْلَدٍ خييمٍ عَلْطلٍ. حرف العين وخادمه الملك شَرْهِيل وإضماره لخطَمٍ غَدِيفٍ أرْزَدٍ. حرف الفاء وخادمه الملك شطاطيلٍ وإضماره كَبْطَمٍ رَزْطَشٍ هَخَيطٍ. حرف الصاد وخادمه الملك هَرْدَبالٍ وإضماره شَرُوخٍ هَمْشٍ. حرف القاف وخادمه الملك عَزْقيل وإضماره غَدْغَصٍ طَلْحِياش. حرف الراء وخادمه الملك دَهْرَابيل وإضماره عَللْطَفٍ عَلْميخٍ دَبْعومٍ. حرف الشين وخادمه الملك خَرْدٍيائيل وإضماره شَظيفٍ كَهْييلٍ. حرف الخاء وخادمه الملك خَمْليل وإضماره عَمُطْيارٍ واكِشٍ راكِشٍ دَهوطٍ. حرف الذال وخادمه الملك رَفَعَيائيل وإضماره عَلَلمَهَصٍ صَهْدعٍ شَهْلَطٍ. حرف الضاد وخادمه الملك رَفَعَيائيل وإضماره يوخٍ روخٍ أموشٍ طَمْلَشيطٍ عَبْصوعٍ. حرف الظاء وخادمه الملك طَرْخَبائيل وإضماره هَمْيَطُيواشٍ مَعَدٍ مَشَطٍ. حرف الغين وخادمه الملك سَلْكفيل وإضماره أشْعطلفٍ هيوطٍ شَطَطَفٍ كَلكَففَ " (¬1). ¬

(¬1) منبع أصول الحكمة ص 222 , 223.

كما أنهم وضعوا وظائف مختلفة للتأليف والتفريق وقضاء حوائج الناس وما يحتاج إليه الإنسان في كل وقت , وللتسخير , وإلقاء البغضاء والفرقة , وخراب الأمكنة والدور , وتسليط العذاب على الأعداء , وجلب الغائب , وتغييب الحاضر وغيرها من الأمور السحرية الطلسمية , فتعاهدوا الأربعينات وغيرها , واعتزلوا في الخلوات والجبال للحصول على أسرار الحروف , ولتسخير الأرواح والملائكة , فيقول الشيخ محمد الشافعي الخلوتي: " إذا أردت ألفة بين أثنين مثلاً أو فرقة أو غير ذلك فابدأ بعون الله باسم ملك أرضي ثم المطلوب ثم الطالب أجرفاً متفرقة. . . وأعلم أن ذلك الملك يصير ملازماً لذلك الشخص مشتحوذاً عليه لا يفارقه أبداً من محبة وعقد شهوة ومرض عضو مخصوص وابطاله , ولو وكلته بنقل الجبال لنقلها , وبالبحار لنسفها فإنه عمل صحيح معمول به لا يتغير ولا يتبدل ... . ثم يقول بعد ذكره: إني كشفت لك السر المكتوم عن كثير من الناس لا يصل إليه إلا آحاد العلماء الراسخون وأفراد الحكماء الحاذقون " (¬1). وأما علي أبو حي الله المرزوقي صاحب " الجواهر اللماعة " فأيضاً أورد في كتابه أوراداً نادى فيها أسماء لم ينزل الله بها من سلطان , فطلب منها قضاء الحاجة والشفاء والنصر وغيرها , فيقول: " تصوم لله سبعة أيام برياضة تامة. . . وتقول: اللهم إني أسألك يا لهويش ويا طهبوش ويا يوش ويا فهليوش أسألك اللهم بحق هذه الأسماء والأسرار التي ألقيتها في قلب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وكسيته من جلال لطفك وهديته بطهارة قدسك أن تسخر لي روحانية خدام أسمك اللطيف المبارك العلوية والسلفية يكونون عوناً لي على ما أريد وهو كذا وكذا , أجب يا عبد اللطيف وأنت يا شعاع يا شعضوض بحق ما تعرفونه من سرّ هذا الاسم اللطيف وشريف علمه الأعظم وذكر جلاله: وأذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيرا , أقضوا ¬

(¬1) السر الظروف في علم بسط الحروف للشيخ محمد الشافعي الخلوتي ص 45 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1370هـ.

حاجتي وامتثلوا مرضاتي وأسعفوني بالطاعة لخدمة الله والرسول وأئتوني من مال الله الذي مع خلق الله , بحقك يا الله يا لطيف إني أسألك بلام لطفك وطاء طولك وياء يقظتك وفاء فردانيتك أسألك أن تسخر لي سرّاً من سرّك ونوراً من نورك ولطفاً من لطفك وهيبة من هيبتك تسخر لي بها جميع خلقك وتخضع لي قلوبهم بالألفة والمودة وتودع في قلوبهم محبتي سراً ونوراً وبهجة , أجب يا عبد اللطيف ويا عبد الطالب ويا عبد البارئ ويا عبد الفتاح ويا شعاع ويا نور ويا صالح ويا شعضوض ويا حفيال " (¬1). فهل هذه هي الأوراد والوظائف التي قالوا فيها: " حكم أوراد السلف حكم الفرائض لأنها فرائض بالإلتزام والعهود والنذور فيجب إعادتها كالفريضة " (¬2). هذا وذكر أحمد الرفاعي في مجالسه أوراداً وأدعية فيها كلمات فلسفية مغلقة مثل: " يا كافي المهمات , يا رب الأرض والسموات أسألك بالحقيقة المحمدية وبما انطوى في مضمونها من عظائم الأسرار الربانية بالميم المتدالي ببحبوحة مرج البحرين يلتقيان مادة المظاهر الطالعة والمشارق اللامعة ميزاب الفيوضات الهاطلة منبع العوارف المتواصلة , ماهية المعرفة المطلوبة محراب جامع البداية الإبداعية , منبر بيت النهاية الإمكانية. وأسألك اللهم بحاء الحسن الأعم والحمد الأتم حد النهايات الصاعدة في أدراج السمو الملكوتي حيطة الغايات المتقبلة على بساط الإحسان الرحموتي. وأسألك اللهم بميم المدد المعقود على مجمل أسرار الوجود. . . أسألك اللهم بالنور اللامع والقمر الساطع والبدر الطالع والفيض الهامع والمدد الواسع نقطة مركز الباء الدائرة الأولية وسر أسرار الألف القطبانية - إلى آخر الهذيان " (¬3). وعبد السلام الأسمر الفيتوري أيضاً قد حشد كتابه بوظائف وأحزاب موضوعة , وسماها بالحزب الكبير وحزب الخوف وحزب الفلاح ووظيفة الحضرة , ثم قال بعد ¬

(¬1) الجواهر اللماعة لعلي المرزوقي ص 54 ط مصطفى البابي الطبعة الأخيرة 1360 هـ. (¬2) الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التيجاني لمحمد بن عبد الله بن حسنين ص 65 ط مصطفى البابي الحلبي مصر. (¬3) المجالس الرفاعية لأحمد الرفاعي المجلس الثاني ص 46 وما بعد ط ... مطبعة الإرشاد بغداد.

ذكر هذه الأحزاب: " إخواني , فعليكم بحفظ هذه الأحزاب وتلاوتها على الدوام إن قدرتم. إخواني , والصواب أن تقرؤها جماعة في كل يوم بعد صلاة العصر استحباباً , وقد جرى الأمر والعمل بذلك على أيدي المتصوفة وصالحي الأمة كالشاذلي وتلامذته وغيرهم " (¬1). ولكل طائفة أذكار وأوراد مختصة بها , ستذكر نبذة منها عند بيان الطرق الصوفية أن شاء الله في كتاب مستقل , ونكتفي بهذا القدر من نماذج الذكر الصوفي ونعرض الجانب عن الكثير الكثير الذي هو منثور في كتبهم ومؤلفاتهم. هذا وإن الصوفية يدّعون أحياناَ أن هذه الأذكار والأوراد والوظائف والأحزاب قد تعلّموها من عليّ رضي الله عنه كما ذكر ذلك الجعلي الفضلي عن حسن بن حسونة أنه قال: " اختليت في باعوضة للذكر والعبادة فجاءني عليّ فلقنني الذكر " (¬2). وأحياناً فيي يدّعون تلقّنها من الخضر كما يحكي شهاب الدين الشرجي اليمني عن بعضهم أنه " حصل له عطش شديد في بعض المفاوز , قال: حتى خفت التلف , فقعدت مستعداً للموت فغلبتني عيني وأنا جالس , فقال قائل: قل يا لطيفاً بخلقه , يا عليماً بخلقه! يا خبيراً بخلقه! ألطف بي يا لطيف يا عليم! يا خبير , ثلاث مرات , وهذه تحفة الأبد , فإذا لحقتك ضائقة أو نزلت بك نازلة فقلها تكفي وتشفي , فقلت: من أنت؟ قال: أنا الخضر " (¬3). ونقل الهجويري عن إبراهيم بن آدم أنه قال: " كان الحق تعالى يبعث إليّ بالرزق عند الحاجة دون عناء , وأنفق لي في ذلك الوقت صحبة الخضر عليه السلام , وعلمني اسم الله الأعظم " (¬4). ويحكي الشعراني عن أحمد بن أبي الحواري أنه كان يقول: " علّمني الخضر عليه السلام رقية للوجع , فقال: إذا أصابك وجع فضع يدك على ¬

(¬1) أنظر الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 97 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا. (¬2) كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 47 ط بيروت. (¬3) الفوائد في الصلات والعوائد ص 32 , 33 ط مصطفى البابي الحلبي مصر. (¬4) كشف المحجوب للهجويري ص 316 , ومثله في الرسالة القشيرية ج 1 ص 55.

الموضع وقل: " وبالحق أنزلنا وبالحق نزل " , فلم أزل أقولهما على الوجع فيذهب بساعته " (¬1). والدباغ أيضاً نقل حكاية عن بعض الصوفية أنه قال: " وبقيت عند قبر شيخي إلى الليل وأنا أبكي من حبّه ووحشة فراقه , ثم بتّ على قبره والحال يتزايد إلى أن طلع الفجر , فجاءني سيدنا الخضر عليه السلام فلقنني الذكر " (¬2). وأحياناً يخرّفون بأنهم أخذوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم كحزب أبي الحسن الشاذلي , الذي سماه بحزب البحر , وكلماته " رب سهل ويسر ولا تعسر علينا يا ميسر كل عسير بحق أب ت ث ......... هـ ولا ي .... بسم الله بابنا , تبارك حيطاننا , يس سقفنا , كهيعص كفايتنا , حمعسق حمايتنا , ستر العرش مسبول علينا إلخ " (¬3). فيقولون في هذا الحزب أنه " لما اعترض الفقهاء على حزب الشاذلي المسمى بحزب البحر , قال الشيخ: " والله لقد أخذته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً بحرف " (¬4). وأحياناً يهذون أنهم تعلّموها من بعض الطيور كما يحكى الصفوري عن بعضهم أنه قال: " كنت أسيراً في قسطنطينية بلاد الروم فنذرت إذا خلصني الله أن أحج ماشياً فجاءني طائر إلى حائط السجن وقال اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا تصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث والدهور يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار يا من يعلم عدد قطر الأمطار وورق الأشجار ولا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً ولا جبال ما في وعرها ولا بحار ما في قعرها أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار ونور القمر وشعاع الشمس ودوي الماء وحفيف الأشجار وأنت الذي نجيت نوحاً من الغرق وغفرت لداود ذنبه وكشفت الضر عن أيوب ورددت موسى إلى أمه وصرفت ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 1 ص 81. (¬2) الإبريز للدباغ ص 13 طبعة قديمة. (¬3) أنظر النفحة العلية في أوراد الشاذلية ص 12 ط مكتبة المتنبي القاهرة. (¬4) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 176.

عن يوسف السوء والفحشاء وأنت الذي فلقت البحر لموسى حي ن ضربه لبني إسرائيل بعصاه فكان كل فرق كالطود العظيم حتى مشى عليه موسى وشيعته وأنت الذي جعلت النار على إبراهيم برداً وسلاماً وأنت الذي صرفت قلوب سحرة فرعون إلى الإيمان بنبوة موسى يا شفيق يا رفيق يا جالي الضيق يا ركني الوثيق يا مولاي الحقيق خلصني من كل كرب وضيق ولا تحملني ما لا أطيق أنت منقذ الغرقى ومنجي الهلكى وجليس كل غريب وأنيس كل وحيد ومغيث كل مستغيث فرج عن الساعة الساعة فلا صبر لي على حلمك لا إله إلا أنت ليس كمثلك شيء وأنت على كل شيء قدير فلما دعا به في الليلة الثانية أرسل الله ملكاً فحمله إلى منزله فحج من سنته ما شياً فحدث به رجلاً فقال له من أين لك هذا الدعاء قال حفظته من طائر بقسطنطينية ببلاد الروم فقال حدثني أبي عن جدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعاء الفرج " (¬1). وأما كيفية تلقين الذكر فذكرها أيضاً كثير من الصوفية في كتبهم , ننقلها عن عبد الغني الرافعي , فيقول: " وكيفية تلقين الذكر أن يضع الشيخ يده اليمنى في يد المريد اليمني بعد طهارة كل منهما ويجعل راحة كفه على راحته ويقبض إبهامه ويقول له غمض عينيك وأستغفر الله ثلاثاً ثم يقرأ الشيخ قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً إلى قدير وإن الذين يبايعونك الله عظيماً وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم الآية ثم يطرق رأسه ويدعو سراً للمريد بنحو اللهم أعنه وأحفظه وتقبل منه وأفتح عليه باب كل خير كما فتحته على أنبيائك وأوليائك اللهم فرغنا لما خلقتنا له ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به ولا تحرمنا ونحن نسألك ولا تعذبنا ونحن نستغفرك برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يقول وكل منهما غاض بصره اسمع مني الذكر ثلاث مرات وقله بعدي ثلاثاً وأنا أسمع منك ثم يستأذن الشيخ بقوله دستور يا رسول الله دستور يا أهل الطريق دستور يا أستاذ الأذن لي بتلقين الذكر ويطلب بقلبه المدد من أهل السلسلة وذلك بعد أن يكون قدم قراءة الفاتحة له صلى الله عليه وسلم وفاتحة ثانية لأهل السلسلة وفاتحة ثالثة لقطب الكون والأولياء جميعاً عندما ¬

(¬1) نزهة المجالس للصفوري ص 9 ط دار الكتب العلمية بيروت ومكتبة الشرق الجديد بغداد العراق.

يجلس المريد بين يديه " (¬1). وأما اللغة السحرية الطلسمية التي يستعملها الصوفية في وضع الأذكار والأوراد , فيدّعي الصوفية عنها أنها لغة الملائكة والأرواح ولغة أهل الجنة , وبهذه اللغة فواتح سور القرآن الكريم (¬2). وأما الشعراني فأدعى عن إبراهيم الدسوقي أنه كان له إلمام تام بهذه اللغة , فكان يتكلّم بها ويكتب فيها , نقدّم نموذجاً من هذه اللغة إلى القراء لمعرفة مدى تخريفات القوم وترهاتهم , فينقل الشعراني عنه أنه كتب إلى بعض مريديه: " بع السلام وإنني أحب الولد وباطني خلي من الحقد والحسد ولا بباطني شظا ولا حريق لظى ولا لوى لظى ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصاً ولا سقط نطاً ولا نطب غظاً ولا عطل حظاً ولا شنب سرى ولا سلب سباً ولا عتب فجا ولا بدع رضا ولا شطف جوا ولا عنف سرا ولا خمش خبش ولا حفس عفس ولا خفض خنس ولا حولد كنس ولا عنس كنس ولا عسعس خدس ولا جيقل خندس ولا سطاريس ولا عيطافيس ولا هطامرش ولا سطامريش ولا شوش اريش ولا ركاش قوش ولا " هلا دنوس ولا كنبا " سمطلول الروي ولا بوس عكموس ولا فنفاد أفاد ولا قداد أنكاد ولا بهداد ولا شهداد ولابد من العون وما لنا فعل إلا في الخير والنوال انتهى وكتب إلى بعض مريديه أيضاً سلام على العرائس المحشورة في ظل وابل الرحمة وبعد فإن شجرة القلوب إذا هزت فاح منها شذا يغذي الروح فينتشق من لاعنده زكم وله أنوار وعلوم مختلفة مانعة محجوبة معلومة لا معلومة معروفة لا معروفة غريبة عجيبة سهلة شظة وتفة طعم ورائحة وسم ميم محل جميل جهد راب ملوب نغط نبوط هوبط سهبط حره واغميط عمن عسب غلب عرماد علمود على عروس علماص مسرود قدقد فرصم صباع صبع صبوغ نبوب جهمل جمايد حربوعسس قنبود سماع بناغ مرنوع ختلوف كداف كروب كبنوف شعدا سعندبل ختلولف ختوف رصص ما ¬

(¬1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 16 ط مصر 1301 هـ. (¬2) أنظر لذلك الإبريز للدباغ ص 128 وما بعد.

من قمن قرقنبود سعي طبوطا طابرطا كما كهرحه جهدبيد نيلودات كهلودات كلوب فانهم مبرم واقرم منهم وأخبر يهدم سوس سفيوس كلافيد لا تهترعن عتبلا سعد سبح تزبد ولا تتكوكع زند حدام هدام سكهدل وقد سطرنا لك يا ولدي تحفة سنية ودرة مضية ربانية صريانية " (¬1). هذا ونعود إلى موضوعنا ونقول: إن الصوفية قد أوجدوا صيغاً وألفاظاً في أورادهم ووظائفهم لم يعلّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه , ولم يدع واحد من السلف الصالح بتلك الكلمات والألفاظ , وزعموا لها فضائل ومناقب , وفضّلوها على تلاوة القرآن الكريم وعلى التسبيح والتهليل والتحميد , وحملوا الناس على الإشتعال بترديد كلمات السحر والكهانة والتنجّم على ألسنتهم , ثم اختلقوا لها آداباً وتجليات وأحوالاً ودرجات لم يأت بها كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول القشيري: " إذا قبل المريد طريق التصوف يقول له الأستاذ: قبلتك لأوصلك إلى طريق الله بقدر ما أعرف أني لا أبخل عليك بقدرها ما عرفته ثم يعرفه ويوصيه أن لا يسمعه من الأستاذ ويرى جميع أحواله من الله ويرى التوفيق منه ويقول له: قل: الله الله الله ثم يوصيه أن يواظب على قول هذا الذكر وأن لايشهد غيره وأن لا يفكر في غيره وإن أشغله عن هذا الذكر أمر من الأمور فطرح ذلك الأمور وإن كان موت والديه ولا يفعل من الطاعات إلا الفرائض والسنن وركعتي الضحى وبعد كل وضوء ركعتين فأما سواه من النوافل وقراءة القرآن فلا يشتغل إلا بهذا الذكر إلى أن يغيب بالذكر عن جميع ألأشياء بتوفيق الله لقوة إراداته ثم يغيب بالذكر وبين حضور الذكر ثم لا يزال يرتقي في الذكر يردد مدة طويلة بين غيبة عن الذكر بالذكر وبين حضور الذكر ثم لا يزال يرتقي في كل غيبة وحضور إلى رتبة أخرى ثم يرد ورود آخر عليه أعلى من هذا فيفنى العبد عن الذكر وعن هذه الأحوال فإذا رد إلى حال البقاء بعد هذه الغيبة يسلب عنه لسانه وسمعه وبصره إلا شهادة القلب ولا يمكنه أن يقول باللسان ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 1 ص 167.

ويقول بالقلب نطقاً لا علماً ومشاهدة بل كما كان ينطق بلسانه قبله يذكر بقلبه حتى يرد ورود آخر عليه بعد مدة ما شاء الله أعلى من ذلك من حيث الهيبة فيبدو على العبد من الهيبة ورود يظن أنه قريب من الحق فيفنى العبد فيه ثم يتردد بين البقاء والفناء وكل مرة يرد إلى البقاء تزداد عبارات قلبه حتى ينتهي إلى أذكار يجدها مرة قلبه بألسنة مختلفة وعبارات لم يسمعها قبله ولا خطرت بباله قبله يجد ذلك " الله " في قلبه حتى يتوهم إن جملة الكون يذكر الله بعبارات مختلفة أحياناً ويصير بحيث لا يميز بين ذكره الذي يبدو قلبه وذكر الكون من غلبات الذكر عليه فليستمع جميع هذه الأذكار ثم بعده يرد ورود آخر بحيث لو ذاق هذا الورود غير من سلك هذه الطريقة على سبيل الوهلة لمات من هيبة الله سبحانه حتى يفنى هذا العبد ولا يبقى منه شيء ". ثم يرد إلى حالة البقاء فيسلب عنه أحوال القلب من الشهادة وغيرها فيبدو له سر الغيب يبقى للعبد شيء وليس إلا الله " (¬1). ويقول: " إذا تحقق الذاكر في ذكر اللسان رجع ذكر لسانه إلى ذكر القلب فإذا ذكر القلب يرد عليه في الذكر أحوال يجد من نفسه بل يسمع من قلبه " الله " سبحانه اسماً وأذكاراً لم يسمعها قط ولا قرأها في كتاب بعبارات مختلفة والسنة متباينة لم يسمعها ملك ولا آدمي فإن لازم همته ولم يلتفت ولم يلاحظ هذه الواردات نال المريد الزيادة إلى أن ينتهي إلى ذكر السر وإن التفت إلى ما يجري عليه من هذه الأحوال ولاحظ هذه التسميات وهذه الأذكار ونظر إليها واشتغل بها فقد أساء الأدب فيعاقب في الوقت وعقوبته انقطاع المزيد عنه ثم يعاقب ثانياً إن صبر عليه بأن يرد إلى حال العلم هذه الأحوال ويرد عليه علوم حتى يظن أنه فتح عليه علوم الأولين والآخرين. في ابتداء الذكر في الجوارح أن يجد حركة في جوارحه حتى لا يبقى عليه جزء من لحمه وعظمه إلا يجد فيه حركة واختلاجاً ثم تقوى تلك الحركات وتلك الاختلاجات. ¬

(¬1) رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 65 - 67 من الرسائل القشيرية ط إسلام آباد ر باكستان.

حتى تصير أصواتاً وكلاماً حتى يسمع من جميع جوارحه وأجزائه أصواتاً إلا من لسانه فإن اللسان لا ينطق في هذه الأحوال والعبد ملازم لهمته لأنه يتيقن أنه لولا حظ وطلب علم هذه الأذكار نفى عنها إلى غيرها وهذا بعد أن وقع الذكر على القلب فأما في حال ذكر اللسان فيكون هذه الحركات والاختلاجات للجوارح لكن لا بهذه القوة " (¬1). ثم يبيّن الخواطر والأحوال التي ترد على البعد يسمع العبد أصواتاً أحلى ما يكون , وأحسن ما يكون حتى كأنها ألذ وأطرب وأشهى من أصوات الأوتار والمزامير والرابط , وكل صوت حلو حسن. ثم هذا الخاطر من الشيطان يكون بهذه الحالة , وربما يكون أتمّ حلاوة من هذا الذي من الحق في الصورة (¬2). ومن تلك الآداب " أن يستمدّ عند شروعه في الذكر بهمة شيخه بأن يشخصه بين عينيه , ويستمدّ من همته ليكون رفيقه في السير. ومنها أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده حقيقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه واسطة بينه وبينه. . . ومنها اختيار الموضع المظلم من خلوة أو سرداب. . . ومنها أن يخيل شخص شيخه بين عينيه ما دام ذاكراً , وهذا عندهم ما آكد الآداب. . . وأجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر بقوة تامة وأن ذكر السر والهوينا لا يفيده رقياً (¬3). هذا وإن الله تعالى يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (¬4). ¬

(¬1) الرسائل القشيرية ص 68 وما بعد. (¬2) يضا ص 75. (¬3) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 41 , 42 أيضاً الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 36 , 37. (¬4) سورة الأعراف الآية 205.

ويروي با يزيد الأنصاري الصوفي المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الذكر الذكر الخفي) (¬1). والشعراني يذكر من جملة آداب الذكر " محلّة في الذاكر الواعي المختار , أما المسلوب الاختيار فهو ما يرد عليه من الأسرار , فقد يجري على لسانه الله الله الله الله أو هو هو هو , أو لا لا لا أو عا عا عا أو آآ آأو هـ هـ هـ أو ها ها ها أو صوت بغير حرف أو تخبيط , وأدبه عند ذلك التسليم للوارد , فإذا أنقضى الوارد فأدبه السكون من غير تقوّل " (¬2). ومن جملتها ما ذكرها أحمد محمود زين الدين الحسيني حيث كتب: " ويجب على الذاكر أن يستعد للذكر استعداده للصلاة , فيجلس جلوس المتأدب المتواضع , والمتذلل الخاشع , جامعا حواسه , مسبلاً عينيه كأن على رأسه الطير , ماحياً من قلبه الغير , متابعاً شيخه في حركاته وسكناته , موافقاً له ولإخوانه في ذكر الجماعة , عاملاً على مساواتهم في أصواتهم بطريقة موزونة تجمع القلوب حتى كأنهم صوت واحد , والجهر في حقهم أنفع , ولقولبهم أجمع , وأشد في التأثير , وأعظم في التذكير , لاسيما في القلوب القاسية , وإن من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة ولا ينكسر إلا بالذكر القوي , أما الكل والخواص فالأولى لهم الإسرار. وعليه أن يعمل بكل ما يأمره به شيخه , وليعلم أن شيخه كالطبيب فلا يقال له لم وليفهم عبارته وإشارته , وليتمسك بعلمه وعمله وطريقته , وليراقبه عند كل إرادة وعمل لأن شيخه يطالبه بما أمر الله وينهاه عن كل مانهاه , فيجب عليه أن يعرض كل أموره على شيخه في القرب والبعد لألا يكون للشيطان عليه سبيل , ولذلك قيل: من لا شيخ له فشيخه الشيطان. وليرتبط بشيخه ارتباط الحلقة بسلسلتها حتى تبدل أو صافه بأوصافه , وأخلاقه بأخلاقه ويفوز بالوراثة التي جازها شيخه بسر المتابعة , وليتغلغل في مذهبه , قال الإمام ¬

(¬1) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 330 ط باكستان. (¬2) الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 39.

أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه من لم يتغلغل في مذهبنا مات مصراً على الكبائر وهو لم يشعر " (¬1). ومنها استيذان الشيخ كما يقول الرافعي: " لا ينبغي للمريد الذي هو تحت تربية المرشد أن يشتغل بشيء من الأوراد والأدعية إلاّ إذا أمره به أستاذه " (¬2). وبمناسبة المقام ننقل هنا من الأفلاكي أنه قال: " أنه لا يجوز الاستماع إلى كلام الإمام غير أمامه وإن كان كلاماً واضحاً " (¬3). وأما الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقاً فيقول: " ومن آداب الذكر ألا يتلو ورداً إلا بإذن من شيخه , أو يلقنه إياه , وأن يجلس في الذكر على هيئة المتشهد , متوضئاً مستقبل القبلة ما أمكن مغمضاً عينيه , وألا يشغل قلبه حال الذكر إلا بالمذكور , وأن يراقب صورة شيخه في جميع عباداته , وأن يستمد بقلبه من شيخه وأن يلاحظ أن استمداده من شيخه هو الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم , لأن الشيخ الصادق نائب عنه. وألا يشرب عقب الذكر مباشرة , ولينتظر قليلاً في مكانه بعد الذكر الذكر صامتاً مستحضراً لتلقي ما يرد عليه من وارد الذكر , وليؤد أوراده كاملة في أوقاتها وإلا حرم المدد وينبغي ألا يتقدم أحد للمريدين في بدء ذكر ولا حزب ولا ورد على من قدمه شيخهم مادام حاضراً " (¬4). ويذكر القشيري في بيان آداب الذكر: " المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه ولا يحرّك جزءاً منه ولا يردد طرفه ولا شيئاً ويكون مراعياً لهمته ولا يحرك البتة جزءاً من نفسه ولا من بدنه ولا من باطنه - إلى أن قال -: كنت أحياناً في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني من في السماء لكان الستر عليّ أهون من أن أقوم للأكل وأتحرك للوضوء ¬

(¬1) كتاب الاستبصار لأهل الأذكار لأحمد محمود زين الدين الحسيني ص 87 , 88 ط مطبعة الأنوار القاهرة 1359 هـ. (¬2) ترصيع الجواهر المكية للرافعي ص 65. (¬3) مناقب العارفين للأفلاكي (فارسي) ج 1 ص 271 ط طهران إيران. (¬4) أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبد الحليم محمود ص 387.

والفرض لأنه كان يغيب عن الذكر " (¬1). فهذه شعبذات الذكر الصوفي ما يدّعون أن السيف لا يؤثر في الذاكر الواجد كما يقول القشيري والسهروردي: " يبلغ العبد إلى حدّ لو ضرب وجهة بالسيف لم يشعر ". ومن بعدهم في الذكر ما نقله الشعراني عن محمد الحنفي أنه كان يأمر أصحابه برفع الصوت بالذكر في الأسواق والشوراع. . . وكان إذا ركب يذكر الله تعالى بين يديه جماعة كطريقة مشائخ العجم , وكان يجعل من خلفه جماعة كذلك يذكرون الله تعالى بالنوبة , فكان الناس إذا سمعوا حسهم من المساجد أو الدور يخرجون ينظرون إليه ". وأحياناً يذهب الصوفية للذكر إلى مساكن الحيات والعقارب كما يحكي اليافعي عن حامد الأسود أنه قال: " كنت مع إبراهيم الخواص رضي الله تعالى عنه في سفر فجئنا إلى موضع به حيات كثيرة فوضع ركوته وجلس , وجلست , فلما برد الليل وبرد الهواء خرجت الحيات فصحت بالشيخ , فقال: أذكر الله , فذكرت فرجعت , ثم عادت فصحت به , فقال مثل ذلك , فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة , فلما أصبحنا قام ومشى ومشيت معه , فسقطت من وطائه حية عظيمة قد تطوقت , فقلت: ما أحسست بها؟ قال: لا , منذ زمان ما بتّ أطيب من البارحة. فهذه هي طرق الذكر وكيفيات تلقينه وآدابه وشروطه وثمراته وبدعه الأخرى التي لا نجد ذكر شيء منها في كتاب الله المنزل من السماء ولا في سنة أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه , إنها عادات وتقاليد وسنن تسرّبت من الحضارة الهندية الغريبة على الشريعة الإسلامية إلى الملّة الصوفية , وقد تلقاها زعماء الصوفية وكبراؤها ¬

(¬1) رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 76 , 77.

وتغلغلوا فيها واستنّوا بها معرضين عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , نسأل الله الرشد والهدى ونعوذ بالله من أن نضِلّ ونُضِلّ والله الهادي إلى سواء السبيل.

الباب الخامس طرق التصوف وأعيانها

الباب الخامس طُرق التصَوُّف وَأعيَانها الطريقة الرفاعية من السلاسل المنتشرة في العراق وبلاد الشام وغيرها الرفاعية، نسبة إلى أبي العباس أحمد بن الحسين الرفاعي، منسوب إلى بني رفاعة قبيلة من العرب، كما صرح بذلك الشعراني في طبقاته (¬1). ولو أن الرفاعية يدعون نسبته إلى بني فاطمة كعادة الصوفية الآخرين بأن كل جماعة وحزب منهم يريد نسبة شيخهم إلى الإشراف والسادات، فقالوا كما قاله الآخرون: "أنه سيد حسيني" (¬2). وعد مقدم كتابه (المجالس الرفاعية) السيد خاشع الراوي الرفاعي أنه: " الإمام الثالث عشر من أئمة آل البيت سلام الله عليه وعليهم أجمعين (¬3). ولكن المحققين أنكروا عليهم نسبته هذه، ونسبه ذاك. ولأهل الطريقة القادرية من الصوفية رسائل وكتب، كتبت لبيان أن نسبه إلى الأشراف ليس بصحيح، ولقد ذكر ظهير الدين القادري الحسني الحسيني فصلاً مستقلاً وباباً خاصاً في كتابه (الفتح المبين في ما يتعلق بترياق المحبين) لبيان هذا (¬4). كما أن الرفاعيين ألّفوا عديداً من الرسائل والكتب لإثبات نسبته إلى السادات ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أسماء آبائه، وعددهم إلى موسى بن جعفر بن محمد الباقر، وهذا أحد الأدلّة لعدم ثبوت النسب، وقد صرح ابن عنبة نسابة الأشراف المشهور في ¬

(¬1) أنظر الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 139. (¬2) أنظر قلادة الجواهر في ذكر الغوّث الرفاعي وأتباعه الأكابر لمحمد أبي الهدى الرفاعي الخالدي الصيادي ص 12 وما بعد ط دار الكتب العلمية بيروت 1980م. (¬3) أنظر مقدمة المجالس الرفاعية ص 6 مطبعة الإرشاد بغداد. (¬4) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 102وما بعد ط الطبعة الخيرية القاهرة 1306هـ.

عمدته أن الذي ينسبون إليه الرفاعي ليس بثابت، وإن الرفاعي نفسه لم يدّع ذلك، وهذا نصه: " وقد نسب بعضهم الشيخ الجليل سيدي أحمد الرفاعي إلى حسين بن أحمد الأكبر فقال: هو أحمد بن يحيى بن ثابت بن حازم بن علي بن الحسين بن المهدي بن القاسم بن محمد بن الحسين المذكور، ولم يذكر أحد من علماء النسب للحسين ولداً اسمه محمد، وحكى لي الشيخ النقيب تاج الدين أن سيدي أحمد بن الرفاعي لم يدّع هذا النسب، وإنما أدعاه أولاد أولاده" (¬1). وقد ذكر ظهير الدين القادري نقلاً عن العلامة شمس الدين ناصر الدمشقي أنه قال: " إن الرفاعي لم يبلغنا أنه أعقب كما جزم غير واحد من الأئمة المرضية، ولم أعلم له نسباً صحيحاً إلى علي بن أبي طالب ولا إلى أحد ذريته الأطياب، وإنما الذي وصل إلينا وساقه الحافظ وصح لدينا أن أبو العباس أحمد بن الشيخ أبي الحسن علي بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة المغربي الأصل البطائحي الرفاعي نسبة إلى جده الأعلى رفاعة، قدم والده أبو الحسن رحمة الله عليه من بلاد المغرب، فسكن بطائح" (¬2). فلم يكن عند الرفاعيين شيء لحل هذه المعضلة، ورفع هذه المشكلة إلى أن يلتجؤا إلى ما التجأ إليه الآخرون من بني جلدتهم وأهل مشربهم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبره بصحة نسبه إليه كما يذكر ذلك صاحب القلادة " كيف لا، وقد شهد له نبينا سيد العرب والعجم بصحة الوصلة والنسب، وذلك عام حجه رضي الله عنه حين وقف تجاه الحجرة العطرة النبوية قال: السلام عليك يا جدي، فقال له عليه أفضل صلوات الله: وعليك السلام يا ولدي" (¬3). ¬

(¬1) عمدة الطالب في أنساب أبي طالب لجمال الدين بن عنبة الحسيني المتوفى 828هـ ص 213، 214 ط قم والنجف 1961م. (¬2) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 105 ط. (¬3) أنظر قلادة الجواهر ص 20.

وإنني لأرى بأن هذا دليل آخر على عدم ثبوت النسب وإلا لما احتيج لإثباته إلى مثل هذه الحكايات الباردة والروايات المختلفة المخترعة التي هي في احتياج إلى ثبوتها وإثباتها وإقامة البرهان على تحققها ووقوعها، فالمتشابهات والمظنونات لا يحصل بها اليقين والله أعلم. وأما عندنا فإن النسب لا يرفع الوضيع ولا يضع الرفيع، فقد قال جل وعلا: {يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (¬1). وقال عز من قائل: {يا أيها الناس اتقوا الله ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: (الناس بنو آدم وآدم من تراب) (¬3). وقال في خطبته- أيام التشريق-: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث) (¬4). ومن المعلوم أن ولد نوح ووالد إبراهيم وزوجي نوح ولوط وعمّ رسول الله الكريم لم ينفعهم حسبهم ونسبهم من عذاب الله وبطشه، وقد نفع بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي إيمانهم وعملهم، ما لم ينفع أبا لهب وزوجته وهو عم رسول الله أخو والده، وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام مخاطباً عمته صفية وابنته الزهراء زوج علي بن أبي طالب وأمّ الحسنين: (يا صفية، عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً وفي رواية: يا فاطمة بنت ¬

(¬1) سورة الحجرات الآية 13. (¬2) سورة النساء آية 1. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. (¬4) رواه أحمد.

محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغنى من الله شيئاً) (¬1). فإن الأحساب والأنساب المجردة، لا قيمة لها عند الله، فمدار النجاة ليس إلا على الإيمان والعمل الصالح ولكننا ذكرنا هذا كله عند ذكر الرفاعي والآخرين لما له أهمية عند القوم، وعلى ذلك يحاولون أن يثبتوا لكل كبير لهم نسبه إلى السادة والأشراف، مع تصريح أبي العباس المرسي وهو من كبار المتصوفة والحائز عندهم على مقام القطبية: " لا يلزم أن يكون القطب شريفاً حسينياً؛ بل قد يكون من غير هذا القبيل" (¬2). وآخر ما يزيد أن نثبته في مسألة نسب الرفاعي لطرافته ما ذكره محمد أبو الهدى الرفاعي، فيقول: " وقال رجل موصلي لشيخنا الشيخ عبد الرحمن جمال الدين الحدادي يا سيدي إن رأيت بعضاً من كتب التاريخ ذكر نسبة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسكت عن نسبة السيد أحمد الرفاعي مع أنه عربي الأصل وأشهر منه بالسيادة وقد قال بعض علماء فارس أن الشيخ عبد القادر بشتبري النسب وهكذا يقول بعض أهل بيته فقال شيخنا قدس الله سره أكفف يا ولدي عن الخوض وأعلم أن من كتب التاريخ سكت عن نسبة الاثنين إلا أن بعض لصوفية ذكر نسبه الشيخ عبد القادر حرصاً عليه حتى لا يطعن في نسبه من لا علم له لما أشتهر أنه من العجم، ولما قيل أنه بشتبري النسب والأصل الصحيح أنما هو رجل فاطمي لا ريب في نسبته إلى الجد الأعظم صلى الله عليه وسلم سكن أجداده فارس إلى زمانه قدس سره ورضي الله عنه. وهكذا ما يجب علينا اعتقاده فإن الأولياء أعلم منا بالأدب الديني والوجه الشرعي ولو لم تكن نسبته ثابتة الوصول إلى الرسول لما أدعاه قط. وأما ما ذكرته من شهرة السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه بالسيادة وكونه غربي الأصل والمنشأ فهو السبب الذي اعتمد عليه الصوفية وسكت عن ذكر سلسلته نسبه" (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) لطائف المنن لابن عطاء الله الأسكندري ص 179 ط. (¬3) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 206 ط القاهرة، أيضاً قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 20.

فولد أحمد الرفاعي هذا في " قرية من قرى البطائح، يقال لها أم عبيدة بفتح العين" (¬1). والبطائح قرى متجمعة في الماء بين واسطة والبصرة مشهورة بالعراق (¬2). وعليه الأكثر. وقيل: كانت ولادته في قرية من أعمال البصرة وولد سنة 500 من الهجرة على قول الأكثر (¬3). وقيل: كانت ولادته سنة 512 في شهر رجب (¬4). وكان أبوه علي بن أحمد قد نزل البطائح من المغرب، وتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد وعلى ذلك كان يقال له المغربي أيضاً (¬5). وقيل: إن الرفاعي هذا ولد بعد وفاة أبيه بأشهر (¬6). وقيل: بل ولد في حياته في بغداد سنة 519هـ وكان عمر أحمد الرفاعي آنذاك سبع سنين، وبعدئذ نقله خاله الشيخ المنصور البطائحي هو وإخوته وأمه فاطمة إلى قريته (¬7). فنشأ هناك وتربى في بيت خاله الذي كان يعد من كبار المتصوفة وصاحب المشيخة هناك، فبعد وفاته سنة 540هـ أخذ مشيخته وقام بمقامه. ¬

(¬1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 94، 95 ط. (¬2) قلادة الجواهر ص 32، أيضاً دائرة المعارف الإسلامية مقال مارجليوت ج 10 ص 316 ط جامعة بنجاب لاهور باكستان. (¬3) انظر طبقات الأولياء لابن الملقن ص 93، شذرات الذهب ج 4 ص 259، العبر في خبر من غبر للحافظ الذهبي ج 3 ص 75. (¬4) قلادة الجواهر ص 32، دائرة المعارف الإسلامية ج 10 ص 316. (¬5) العبر ج 3 ص 69. (¬6) قلادة الجواهر ص 32. (¬7) انظر ترجمة الرفاعي في المجالس الرفاعية مقدمة الكتاب ص 20، أيضاً قلادة الجواهر، كذلك دائرة المعارف ص 16.

ولقد حكى الرفاعيون حكايات عديدة، وأحاطوه بأساطير طريفة منذ ولادته؛ بل وما قبل الولادة وبعدها كعادتهم والآخرين منهم، وحكايات تنبأ وتخبر بأصالة الاختلاق والاختراع والزور والكذب حيث أنها واحدة في معناها ومغزاها لكل واحد من كبارهم مع تعدد الأشخاص وتنوع البيئات واختلاف الزمان والمكان. فمثلاً يقول محمد أبو الهدى الرفاعي في قلادته: " ولد [أحمد الرفاعي] في شهر رجب ... وكان يشرب اللبن إلى أن قدم رمضان فتقيد عن شرب اللبن نهاراً إلى أن جاء العيد فشرب اللبن" (¬1). وهذا عين ما يحكيه القادريون عن الشيخ عبد القادر الجيلاني، وغيرهم عن غيره (¬2). وأيضاً ما يروون عنه أنه كان يتكلم وهو في المهد صبياً، وقد تكلم يوم ولدته (¬3). وكذلك ما يروون عن البشائر التي سبقت ولادته منها ما اختلقه منصور البطائحي حيث قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول: يا منصور أبشرك أن الله تعالى يعطي إلى أختك بعد أربعين يوماً يكون اسمه أحمد الرفاعي، مثل ما أنا رأس الأنبياء كذلك هو رأس الأولياء" (¬4). وأيضاً " هو ذا يظهر في أم عبيدة وتشد إليه الرحال، وتتحير فيه أهل الأحوال، وتذل له رقاب الرجال، يتعجب من طريقته وإنه صاحب شأن عظيم ومحل جسيم، وهو آخر القوم مشرباً وأولهم قدماً ... وهو رجل عظيم المنزلة عند الله، فإذا هو ظهر غلق أبواب جميع المشايخ والصالحين، يظهر عن قريب، وله سر عجيب، وسير غريب، ويصير الوقت له ولأهله وتهكمه وتصرفه، يصل إلى مرتبة عظيمة، يضرب دأبه إلى ¬

(¬1) قلادة الجواهر ص 32. (¬2) الفتح المبين ص 5. (¬3) قلادة الجواهر ص 30. (¬4) أيضاً ص 29.

الذراري في ظهور الرجال، يسلك طريقاً لم يسلكها أحد قبله ولا بعده" (¬1). ولما ولد هذا واطلع على مقامه وشأنه الشيخ منصور البطائحي أخذته الغيرة، فأنب أنّب من قبل الله تبارك وتعالى- " عياذاً بالله من نقل مثل هذه الخرافات ولا يؤاخذنا الله عليها- كما ذكر قاسم بن الحاج في كتابه (أم البراهين): إن الشيخ منصور البطايحي الرباني رضي الله عنه لما أخذته الغيرة حالة اطلاعه على مقام سيدنا السيد أحمد الكبير رضي الله عنه نودي من العلى أي منصور تأدب هذا السيد أحمد حبيبنا نظهره على غوامض غيوبنا أي منصور هذا السيد أحمد نائب الدولة المحمدية وعروس المملكة المصطفوية وهو شيخ جميع الأمة الأحمدية وشيخك فقل نعم قلت نعم فقال نحن نتصرف في ملكنا كما نشاء فقلت نعم نعم ثم أتى حملة الغاشبة يديه وأخذت العهد على يديه فأنا شيخه بالخرقة وهو شيخي بالخلق والخلقة كان سيدي منصور قدس الله روحه ذات يوم جالساً والفقراء حوله وهو يحدثهم ويرغبهم بمواهب الله وإذا به قد نهض قائماً وإذا به قد نهض قائماً على قدميه وصاح بأعلى صوته وأشار بيده إلى جهة الأرض ووقع مغشياً عليه فيقع ما شاء الله فلما أفاق لزمه الفقراء وأقسموا عليه بالعزيز وسألوه أن يخبرهم ما سبب صراخه وقيامه ونداه فقال لهم: سألتموني عن أمر عظيم. اعلموا أن الله تعالى قد ألحق بالشيخ الكبير السيد أحمد بن ابن خالي مشارق الأرض ومغاربها من أربع جهاتها، وإن الأمر يصير إليه، وحكم الخلق كلهم بيديه، ويكون هو الشيخ المعول عليه (¬2). فهذه هي حكايات القوم عن طفولته وصغره قبل ولادته، تشبه حكايات الآخرين تماماً ولو حذفت الأسماء فإنما هي بعينها بدون أدنى فارق. فهذه هي حكايات القوم عن طفولته وصغره قبل ولادته، تشبه حكايات الآخرين تماماً ولو حذفت الأسماء فإنما هي بعينها بدون أدنى فارق. ولما كبر كان ما كان: " كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم أنتقل إلى قطبية السماوات، ثم صارت ¬

(¬1) انظر قلادة الجواهر ص 131. (¬2) البراهين لابن الحاج نقلاً عن القلادة ص 33، 34.

السماوات السبع في رجله كالخلخال (¬1). و"ختم الله به الولاية كما ختم بمحمد النبوة" (¬2). ويروون عنه أنه كان يعض " وكان يسمع صوته البعيد من مجلسه كالقريب ويحظر مجلسه الأصم الذي لا يسمع فيفتح الله سمعه بكلامه" (¬3). وحتى أن أهل القرى التي حول أم عبيدة كانوا يجلسون على سطوحهم فيسمعون صوته، ويعرفون جميع ما يتحدث به (¬4). "وكان أشياخ الطريقة يحضرونه ويسمعون كلامه، وكأن أحدهم يبسط حجره، فإذا فرغ سيدي أحمد رضي الله عنه ضموا حجورهم إلى صدورهم وقصوا الحديث إذا رجعوا إلى أصحابهم على جليته" (¬5). و"كان إذا طلب منه أحد أن يكتب له عوذه ولم يكن عنده مداد يأخذ الورقة ويكتب عليها بغير مداد" (¬6). ومن أكاذيب الرفاعية في الرفاعي ما نقلوه عن أحد أصحاب الرفاعي أنه قال: " كنت في بيتي ليلة من الليالي إذ ناداني السيد أحمد الرفاعي، فقمت مبادراً إليه وقبلت يديه وسألته عن حاجته فأخذ بيدي وخرجنا من الرواق حتى وصلنا إلى بستان يعرف بالقثوري وهو مكان خالي فوق أم عبيدة ما فيه شيء يستظل به قال: أي سعيد قف هنا حتى أرجع فوقفت مكاني حتى مضى من الليل شطره وهو لم يرجع فمشيت على أثره لأعرف خبره فإذا أنا بثيابه ملقاة على الأرض وعلى جانبه ماء يبرق كالنجم فجعلت أطوف يميناً وشمالاً فلم أجده فرجعت إلى موضعي وأنا مرعوب من ذلك إذ هو أقبل عليّ وأنواره تشرق. فقلت له ما رأيت وأقسمت عليه بالعزيز سبحانه ¬

(¬1) طبقات الشعراني ج 1 ص 141، قلادة الجواهر ص 42. (¬2) أيضاً ص 46. (¬3) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 69. (¬4) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 297. (¬5) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 141. (¬6) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 297 ط دار صادر بيروت.

وبالمصطفى صلى الله عليه وسلم فاستخبرته عن ذلك فقال: أي ولدي أنا كنت ذلك الماء الذي رأيته نظري سبحانه بعين القدر فذبت كما يذوب الرصاص فصرت كما رأيت ماء، ثم نظرني بعين اللطف فصيرني كما ترى بشراً سوياً" (¬1). وكان يقول: " صحبت ثلاثمائة ألف أمة ممن يأكل ويشرب ويروث وينكح ولا يكمل الرجل عندنا حتى يصحب هذا العدد ويعرف كلامهم وصفاتهم وأسمائهم وأرزاقهم وآجالهم، قال يعقوب الخادم، فقلت له: يا سيدي إن المفسرين ذكروا إن عدد الأمم ثمانون ألف أمة فقط، فقال ذلك مبلغهم من العلم، فقلت له: هذا عجب. فقال: واز يدك أنه ى نستقر فطفة في فرج أنثى إلا ينظر ذلك الرجل إليها ويعلم بها. قال يعقوب الخادم فقلت له: يا سيدي هذه صفات الرب جل وعلا، فقال: يا يعقوب أستغفر الله تعالى فإن الله تعالى إذا أحب عبداً صرفه في جميع مملكته وأطلعه على ما شاء من علوم الغيب" (¬2). وكان يعقوب الخادم على حق حيث عدّ هذه الأوصاف من صفات الرب وهو الذي قال جلّ سبحانه وتعالى في كتابه المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قال فيه: {إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأيّ أرض تموت} (¬3). وكان يملك الموت والحياة كما ذكر ذلك عنه ابن الملقن: " ورآه ابن أخته عبد الرحيم أبو الفرج، ورجل قد نزل عليه، فقال له: مرحباً بوتد المشرق، فقال له: إن لي عشرين يوماً لم آكل ولم أشرب، وأريد أن آمر هذا الأوز الذي في السماء، فتنزل واحدة مشوية، ففعل، فنزلت كذلك، ثم أخذ حجرين من جانبه فصارا ¬

(¬1) قلادة الجواهر ص 81. (¬2) أيضاً ص 68. (¬3) سورة لقمان الآية 34.

رغيفين، ثم مدّ يده إلى الهواء فأخذ كوز ماء، فأكل ذلك وشرب ثم طار، فقال الشيخ لتلك العظام: اذهبي باسم الله، فذهبت سوية وطارت" (¬1). ورواية أخرى رواها محمد أبو الهدى في قلادته نقلاً عن أمّ البراهين: " ذكر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان أنه خرج مع الشيخ الكبير السيد أحمد ذات يوم إلى الصحراء فبينما هما سائران في الصحراء إذ رأوا أسداً كاسراً مفترساً لشاب، وقد خلع كتفه من جسده ومكث يأكله فزجره الشيخ الكبير السيد أحمد زجراً شديداً وقال له: أي خلق الله ما نهيتكم عن أذية الخلق الذين يمرون ببلادنا فنطق السبع وأتى إلى حضرة الشيخ مسلماً عليه بلسان عربي فصيح فقال له: أي سيد السادات وصاحب الجود والكرامات لي سبع أيام ما أكلت شيئاً وأنا دائر على ولدي فما وجدته، وهذا الشاب قد أرسله الله إليّ رزقاً مقسوماً بسبب غضب والدته عليه، فأنتم تريدون قطع نصيبي من ذلك الأمر إلى الله ثم إليكم. فلما سمع كلامه لم يعبأ به؛ بل التفت إليه بنظر الغضب والجلال فوقع السبع ميتاً ومسح عليه بيده المباركة فعاد كما كان أولاً؛ بل أسدّ وأقوى. وقال الشيخ للشاب ما اسمك؟ قال: اسمي داود بن إبراهيم. فقال به الشيخ: أي داود أسلخ غريمك فسلخه وأخذ الجلد ومضى إلى والدته وخبرها بالقصة" (¬2). وابن الملقن كذلك ذكر عن أبي عبد الله محمد البطائحي: " انحدرت في أيام سيدي عبد القادر إلى أم عبيدة، فقال لي الشيخ أحمد: أذكر لي شيئاً من مناقب الشيخ عبد القادر وصفاته، فذكرت منها شيئاً، فجاء رجل في أثناء حديثي فقال: مه، لا يذكر عندنا مناقب مناقب غير هذا، فنظر الشيخ إليه مغضباً، فرفع الرجل من بين يديه ميتاً" (¬3). هذا وكان يملك الجنة والنار أيضاً كما يذكرون عنه أن شخصاً من أصحابه تمنّى عتق من النار ينزل من السماء "فسقط منها ورقة بيضاء، فلم ير فيها كتابه فأتى إلى ¬

(¬1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 99 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1393هـ. (¬2) قلادة الجواهر ص 91. (¬3) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 100.

الرفاعي فلم يخبره بالقصة، فنظر إليها ثم خرّ ساجداً وقال: الحمد لله الذي أراني عتق أصحابي من النار في الدنيا قبل الآخرة، فقيل له: هذه بيضاء، فقال: أي أولادي، يد القدرة لا تكتب بسواد، وهذه مكتوبة بالنور" (¬1). هذا ولقد باع على واحد من مريديه، واسمه: إسماعيل بن عبد المنعم، قصراً في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأولى إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس بجميع صوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأحجاره عوض بستانه" (¬2). ولقد ذكرنا هذه الحكاية مفصلاً في باب (أولياء أم آلهة) فليراجع إليه للتفصيل. وكان يقول كما ينقلون عنه: "وأحمى مريديّ على كل حالة ... وأدخلهم دار النعيم أمامي فمن كان منّا أو يلوذ ببابنا ... غداً يوم القرب تحت خيامي وأحميهم مما يختشى يوم خوفه ... وفي معظم الحالات عنه أحامي" (¬3). وقال أحد أصحابه: " ولا يكون الرجل ممكناً في سائر أحواله حتى يعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أحابه وأتباعه وتلامذته بالقرب والبعد، فيمحو منها ما يشاء، ويثبت ما يشاء ... لا يكون الشيخ كاملاً في سائر أموره وأحواله وأقواله وأفعاله، ولا يصلح له الجلوس في المخدة حتى يحضر عند تلميذه في أربع مواضع: عند خروج روحه من جسده. وعند مسألة منكر ونكير له. وعند جوازه على الصراط. وعند الميزان" (¬4). وكان يقول: " خذ من مجلسي حصة من الفضل الإلهي، والمنح النبوي، كلّ من ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 298. (¬2) انظر قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر ص 71. (¬3) أيضاً ص 235. (¬4) قلادة الجواهر ص 193.

أظلّته الخضراء، وأقلته الغبراء، اليوم محتاج لأخذ هذه الحصة من هذا المجلس، سل أهل الذوق، سل أهل الشوق، سل الأقطاب، سل الأفراد، سل الأوتاد، ختمت بي هذه التوبة الجامعة المحمدية" (¬1). ونقلوا عنه هذه الأبيات: " وطاولت أعلام الرجال ولم أزل ... أطول إلى أن جزت من حضرة الرب وفقت كبار القوم في كل مذهب **** وسرت بلاثان إلى مذهب الحبّ وصرت فريداً في بني الحب كلهم ... وجاؤا الحاني يطلبوا السكر من شربي وهاموا بكأسي قبل شرب الذي به ... ونالوا الشفاء من صرعه الهجر في طبي أنا القطب والغوث الكبير الذي على ** قباب زوياتي بدا النور من ربي أشاهد معنى الكل في كلّ مشهد **** وانظر من معنى حقيقتها سلبي فمن عينها عيني ومن سرّ رمزها ... عرفت بأن الكلّ من سرها وهبي" (¬2). وأيضاً: "رفعت رايتي على الأعلام ... وصفا الوقت بل وراق مدامي وخيولي تدور في كل أرض ... ثم في كل بلدة ومقام وطبولي دقت وموكب عزّي ... في سرور على مدى الأيام أنا قطب في مركز الفصل قدري ** وعلى هامة الهلال خيامي فجميع الرجال في باب عزّي ... يطلبون العطاء من إكرامي شهرتي في السماء والأرض دارت ** وافتخاري يزيد في كل عام" (¬3). وكان يقول: " كل شيخ لم يحضر تلميذه عند الموت فليس هو عندنا برجل، وكل شيخ ينكشف تلميذه خلف القاف في ظلمة الليل ولا يمدّ يده يغطيه فما هو عندنا برجل، وكل شيخ ¬

(¬1) المجالس الرفاعية لأحمد الرفاعي ص 101 الطبعة الأولى مطبعة الإرشاد بغداد 1971م. (¬2) قلادة الجواهر ص 235. (¬3) أيضاً ص 234، 235.

لا يغيّر صفات تلميذه ويكتب الشقي سعيداً فما هو عندنا برجل، وكل شيخ لا يراعي تلميذه في القرب والبعد في حال حياته وبعد مماته فليس هو عندنا برجل" (¬1). وكان يقول: " وحق العزيز سبحانه وتعالى، قبض العزيز جل وجلاله من نولا وجهه قبضة، فخلق منها سيدنا المصطفى صلى الله عله وسلم فرسحت، فخلقني منها ... وإني لما دعيت إلى هذا الأمر حملت إلى قبلة هذا البلد، وشق صدري ملك من الملائكة المقربين فأخرج منه شيئاً مظلماً وغسّله بماء الحيوان من الرياء وسوء الخلق وكل ما كان للشيطان فيه نصيب، كل ذلك وأنا أنظر بعيني كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2). انظر الجرأة وسوء الأدب في حضرة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه كيف يشبّهون متصوفهم مع الذي يصدق فيه قول الشاعر: مضت الدهور وما أتن بمثله ... ولقد أتى فعجزن عن نظرائه لكن هو الذي ينقلون عنه أنه قال: " الشيخ في قومه كالنبي في أمته" (¬3). ولذلك كانوا يجتزون على هذه المقولة: " وكان حاله طبق حال رسول الله. وأوصافه موافقة في كل الشؤونات لأوصاف حبيب الله. وقد جرت عليه أحكام المطابقة الاضطرارية كموت أبيه قبل أمه وهو حمل. وبعضهم قال: وهو في المهد. وكتسميته بلا سعي منه أحمد وكشأنه في البطاح العربية وكولادته في قرية حسن وإقامته بأم عبيدة بلده جده وموته فيها وبينهما كما بين مكة والمدينة وكظهوره بين عرب جفاة وكبروزه في حالة مظهريته فقيراً وكموت أولاده الذكور قبله وكحصول الذرية له من بنتيه الكريمتين ومن صلبي ولدي بان عمه سيف الدين وعثمان كما سيأتي ذكره مفصلاً وغير ذلك. وكإقبال العامة الفقراء عليه وكتحمله ¬

(¬1) أيضاً ص 94. (¬2) القلادة لأبي الهدى الرفاعي ص 141. (¬3) قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 165.

وحلمه وسعة صدرته وسخاوته وكقوة عزمه في الله وكعلوية همته على الملوك والخلفاء وعدم التردد إليهم وكتواضعه للفقراء واشتغاله بخدمة الأرامل والأيتام وضعاف الناس وفقراء النصارى واليهود ومحتاجيهم وبذاك أسلم على يديه منهم خلق لا يحصى عددهم وككثرة وقوع الإرشاد على يديه وكتمكنه في مرتبة عبادته وعبوديته من غير ملل ولا كسل ولا استفزه حال ظهوره قط وكعدم جلوسه على سجادة وجلوسه مع إخوانه كأحدهم وكثرة صبره على أذية قومه وعشيرته حتى أرشدهم الله على يديه وكحسن معاشرته ولطف طبعه وصفاء سريرته وعذوبة لفظه" (¬1). وعلى ذلك يقولون بأنه لما ذهب إلى الحج عام 555هـ ووصل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: " وقف تجاه حجرة النبي عليه الصلاة والسلام وقال على رؤوس الأشهاد السلام عليك يا جدي. فقال له عليه الصلاة والسلام: عليك السلام يا ولدي. سمع ذلك كل من في المسجد النبوي. فتواجد سيدنا السيد أحمد وأرعد واصفر لونه , وجثا على ركبتيه ثم قام وبكى وأنّ طويلاً وقال يا جداه: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فمد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة العطرة من قبره الأزهر المكرم فقلبها في ملأ يقرب من تسعين ألف رجل. والناس ينظرون اليد الشريفة. وكان في المسجد مع الحجاج الشيخ حياة بن قيس الحرابي والشيخ عبد القادر الجيلي المقيم ببغداد والشيخ خميس والشيخ علي بن مسافر الشامي وغيرهم" (¬2). ثم قالوا: " وإنكار هذه الكرامة كفر" (¬3). ¬

(¬1) أيضاً 123. (¬2) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 298، القلادة ص 108، 109، واللفظ له، المجالس الرفاعية مقدمة ص 26، 27 وغيرها من الكتب. (¬3) قلادة ص 104، المجالس الرفاعية مقدمة ص 27.

فانظر جرأة هؤلاء القوم على الكذب، ثم الإصرار عليه ونسج هذه العبارة وذكر العدد الخم أي تسعين ألفاً من الناس: مع العلم بالبداهة بأن هذا العدد الضخم لا يمكن وقوفهم أمام الحجرة الشريفة، ولا يسعهم المكان في وقت واحد، ورؤيتهم وسماعهم لو وقع في تلك الجهة وفي ذلك المكان، ثم سردهم هذه الأسماء بكل وقاحة مع أنه لو وقع هذا كله أمامهم لملؤا الدنيا بذكره، وكتبهم بحكايته. وأيضاً ذلكم الجمع الحاشد لو رأوا هذا الأمر وسمعوه لساروا بذكره ومشوا بروايته، وكل هذا لم يحدث ولم يذكر في كتاب من كتب ذلك المكان في التاريخ والسير والطبقات اللهم إلا كتب المتصوفة، والمتصوفة الرفاعيين بالذات، حتى كتب الطبقات الصوفية أيضاً خالية بذكرها أيضاً، وكذلك الكتب التي تذكر الرفاعية بالخير والثناء والمدح فيهم، كما لا يوجد في كتب الجيلاني إشارة إلى هذا ولا اسم ولا رسم، وقد قيل قديماً: " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (¬1). ولم يكتفوا بهذه الأكذوبة إلا وأضافوا إليها أخرى حيث قالوا: "أنه حجّ مرة ثانية وذلك في العام الذي توفّي فيه وزار قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل من الجنة؛ بل العرش والكرسي. ولما وقف تجاه القبر الشريف يريد الوداع أنشد قائلاً: إن قيل زرتم بما رجعتم ... يا أشرف الرسل ما نقول فخرج صوت من القبر الشريف، سمعه كل من حضر في ذلك الروض المعطر وهو يقول: قولوا رجعنا بكل خير ... واجتمع الفرع والأصول" (¬2). هذا من ناحية. ¬

(¬1) رواه البخاري ومالك في المؤطأ. (¬2) قلادة الجواهر ص 104.

ومن ناحية أخرى يذكرون عنه بأنه دخل المطبخ في ليلة من الليالي، فرأى كلاباً يأكلون من القوصرة وهم يتخاشرون، فوقف رضي الله عنه على الباب يحفظهم لئلا يدخل عليهم أحد يؤذيهم وهو يقول لهم: أي مباركين، كلوا واسكتوا ولا تتخاشروا لئلا يعلم بكم أحد فتمنعون ... وكان يدور وراء الكلاب المدودين ليداويهم، فربما هرب منه الكلب يمشي ورائه ويتعطف بخاطره ويقول: "أي مبارك، إنما أريد مداواتك" (¬1). هذا وقد ذكرنا فيما سبق أنه كان يسلّم على الكلاب وغيرها من الحيوانات وإذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً" (¬2). وذكروا عنه أشياء أخرى في تلك التفاهة، منها " كان إذا نام على كمّه هرة وجاء وقت الصلاة كمّه من تحتها ولا يوقظها، فإذا جاء من الصلاة أخذ كمّه وخاطه ببعضه" (¬3). ومنها أن زوجته أعدت له يوماً هريسة وقدّمته إليه، فقام يصلي ركعتين شكراً لله تعالى، فبينما هو قائم يصلي إذا جاءت فأرة تدور حول الهريسة وتشتهي، فنهضت عليها هرة وقطعت رأسها، فلما فرغ من صلاته بكى، ثم نحى الهريسة عنه، فقالت له زوجته: أي سيدي لم نحيته عنك؟ فقال: أي بنت الصالح، ما تقطع فيه الرؤوس لا تشتهيه النفوس" (¬4). إلى مثل ذلك من القصص التافهة الكثيرة، نعرض عن ذكرها تجنباً عن الإطالة. وينقلون عنه أن بعض أصحابه رآه في المنام في مقعد صدق مراراً ولم يخبره، وكان للشيخ امرأة بذيّة اللسان تسفّه عليه وتؤذيه، فدخل عليه الذي رآه في مقعد صدق يوماً، فوجد بيد امرأته محراك التنور وهي تضربه على أكتافه، فاسودّ ثوبه وهو ساكت، ¬

(¬1) أيضاً ص 63. (¬2) أنظر طبقات الشعراني ج 1 ص 142. (¬3) طبقات الشعراني ج 1 ص 142، قلادة الجواهر ص 62. (¬4) قلادة الجواهر ص 62.

فانزعج الرجل وخرج من عنده، فاجتمع مع أصحاب الشيخ وقال لهم: يا قوم، يجري على الشيخ من هذه المرأة وأنتم سكوت؟ فقال بعضهم: مهرها خمسمائة دينار وهو فقير، فمضى الرجل وجمع الخمسمائة دينار وجاء بها إلى الشيخ في صينية فوضعها بين يديه، فقال له: ما هذا؟ فقال: مهر الشقيقة التي فعلت بك كذا وكذا، فتبسم وقال: لولا صبري على ضربها ولسانها ما رأيتني في مقعد صدق (¬1). ومات بمرض بالبطن فكان يخرج منه كل يوم ما شاء الله، فمات سنة 570هـ على قول الشعراني في طبقاته (¬2). وسنة 578هـ على قول الأكثر (¬3). وكان يردد قبل وفاته هذه الأبيات: إذا جنّ ليل هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق وقوفي سحاب يمطر الهمّ والأسى ** وتحتي بحار بالأسى تتدفّق سلوا أمّ عمر وكيف بات أسيرها ** تفُكُّ الأسارى دونه وهو موثق فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق (¬4). تزوج الرفاعي بعديد من النساء ولم يعقب. فخلفه على المشيخة الرفاعية علي بن عثمان الذي كان يقول: " من كان له منكم حاجة فليزمني بها، ومن شكى من سلطانه أو من شيطانه أو زوجته أو دابته أو أرضه إن كانت لا تنبت أو نخلة لا تثمر فليزمني بها فإني مجيب له، ودركه عليّ" (¬5). ¬

(¬1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 298. (¬2) انظر الطبقات الكبرى ج 1 ص 144. (¬3) انظر جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 298، مقدمة المجالس الرفاعية ص 225، شذرات الذهب ج 4 ص 259، العبر ج 3 ص 75. (¬4) وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 172. (¬5) قلادة الجواهر ص 323.

ونقل منه تفسير باطني مثل تفسيره قوله عزّ وجلّ: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} فقال: الملك هو الله عز وجل، والقرية قلبك، فسد المنزل على المتوطن وأزعجهم، والمراد بالمتوطن الريا والنفاق وسوء الخلق والتزوير والبهتان والفساد والطغيان وكل ما هو خلاف رضا الرحمن، والمراد بأعزّة تلك الشياطين فيذلّهم ويهينهم" (¬1). ومات سنة 584هـ. فخلف من بعده عبد الرحيم بن عثمان ومات سنة 604هـ. ثم خلفهم إبراهيم الأعظم، والذي يقولون فيه: " هو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود، وصرفه في الكون، وخرق له العادات، وأظهر على يديه الخارقات، وأنطقه بالمغيبات، وأجرى على لسانه الحكم، ومكنه من أحوال النهاية وملكه أسرار الولاية، ونصبه قدوة وحجة، وهو أحد أركان هذا الشأن، وإمام أئمة ساداته، وأعلم العلماء بأحكامه وأولى الأيدي والأبصار بمناهجه علماً وعملاً وزهداً وتحقيقاً ورياسه وجلالة" (¬2) ثم الآخرون، وقد ذكر معظمهم محمد أبو الهدي الرفاعي (¬3). وبعدئذ تعلموا السحر كما قال الإمام الذهبي: "ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات" (¬4). وقال ابن خلكان: "ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهي حية، والنزول إلى التنانير وهي ¬

(¬1) أيضاً ص 325، 326. (¬2) أيضاً ص 331. (¬3) من أراد التفصيل فليرجع إلى ذلك. (¬4) أنظر العبر للذهبي ج 3 ص 75.

تضطرم من النار فيطفؤونها ويقال: إن في بلادهم يركبون الأسود" (¬1). ولقد أقرّ بذلك محمد أبو الهدى من الرفاعية، والنبهاني من الصوفية وغيرهم. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه، واستنكر عليهم أعمالهم هذه، ونسبها إلى الشيطان، لا إلى الرحمن، كما ذكر مناظرته معهم، وتحدّيه بدخوله النار معهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى على بينه (¬2). وقد حدث لنا شخصياً سنة 1965هـ في مدينة سامراء المليئة بالرفاعيين في بيت أحد السادة الأشراف مثل ما حدث لشيخ الإسلام بعد ما كان سؤالي على أحد زعمائهم في تلك المدينة "إن كان السلاح والرماح والسكاكين لا تؤثر فيكم فلماذا لا تذهبون إلى جبهة القتال، والعراق في أشد الحاجة وأمسها إلى أمثال هؤلاء الذين لا يؤثر فيهم الرصاص وغيرها من الأشياء"، كما نازلته وتحدّيته بأنه لو أعطى المسدّس في يدي وأطلق الرصاص بنفس فآنذاك أرى بأنه يؤثر أو لا يؤثر، فلم يسعه إلا الفرار والإنكار، وذلك القول الذي قالوه أمام شيح الإسلام بأن هذه الكرامات لا تظهر أمام المنكرين، وعبارة صحيحة وصريحة منقولة بالأمانة العلمية التي اقلها آنذاك "إمام الوهابيين". ونريد أن نذكر أخيراً أن الإتيان بمثل هذه الأمور ليست خاصة بالرفاعية؛ بل رأينا مثلها وشاهدناها بأنفسنا في بلادنا من الآخرين، وساء من الذين ينتمون إلى الإسلام انتماء محضاً، ومن الهنادكة والمشركين أيضاً. وأما ما ذكر محمد فريد وجدي في دائرته تحت ذكر الرفاعي فهو عدل وصدق، فنريد أن نثبته هنا، فيقول: " أما ما يروى عن أتباعه من أكل النار والجلوس عليها وغير ذلك فيظهر أنه صحيح وهو أثر سلطة الروح على الجسم وإشراقها عليه بسلطانها حين يدخل الإنسان في حالة غير اعتيادية سواء أكانت بالذكر أم بالتنويم المغناطيسي. وقد روت ¬

(¬1) وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 172. (¬2) انظر لذلك فتاوي شيخ الإسلام ج 11 ص 455 أيضاً الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ج 1 ص 141 ط دار الكتب العلمية بيروت.

مجلة المجلات الفرنسية عن الأستاذ الإنجليزي الكيماوي كروكس رئيس الجمعية الملكية العلمية الإنجليزية سابقاً أنه وضع جذوة نار في يد فتاة نومها مغناطيسياً فلم تتأثر به مطلقاً فأعلن الأستاذ الموما إليه عن هذه الحادثة وأعقب إعلانه بقوله أنه باعتباره كيماوياً ولا يعرف أي مادة كيماوية تحمي الجلد من الاحتراق مطلقاً. وقد كتبت مجلة المجلات الفرنسية سنة (1986م) فصلاً تحت عنوان [الكهان الذين لا يحترقون] أثبتت فيه أن لدى الوثنيين من سكان جزائر فيجي وغيرها حوادث من هذا القبيل فيدخل كهانهم إلى النيران المستعرة بدون أن يمسهم ضرر وقد حصل ذلك بمرأى من بعض علماء أوربا. وقد جاء في المجلة الروحية في عدد يونيو من سنة (1900م) أن الكاتب أندرولنج قام في جمعية العلوم النفسية بلوندرة وتلا فصلاً أثبت فيه هذه المسألة بكل وضوح وأبان أنها حصلت في كل زمان ومكان. وقد كتبت مجلة (جورنال الجمعية البولينزية) تحت إمضاء أحد الضباط الإنجليز حادثة رآها بنفسه قال ما ملخصه: أشعلوا التنور في الصباح وفي الساعة الثانية بعد الظهر سرنا إليه وانتظمنا حوله فجاء الكاهن وتلامذته فتلا ألفاظاً طسمية ثم مشوا بأرجلهم حفاة على أحجار قد سخنوها لدرجة البياض ثم جاء الكاهن إلى المستر (جودين) وقال له: قد وهبتك المقدرة على اقتحام النار فاقتحمناها جميعاً وكنا أربعة أوربيين. أنا والدكتور (وجريج) والدكتور (جورج جريج) والمستر (جودين) فلم تؤثر النار على أقدامنا أصلاً لكن عصى أحدنا أمر الكاهن فنظر خلفه فاحترقت قدماه احتراقاً مراً. ونقل المستر اندرولنج المتقدم ذكره في الجلسة ذاتها أن الدكتور (هوكن) العضو في جمعية النباتات قد رأى مثل ذلك في جزيرة فيجي، قال ما ملخصه: (أنه رأى أنهم قد أوقدوا تنوراً لدرجة 282) من مقياس فرانهيت فجاء سبعة كهان بين لغط شديد وهموا بدخول النار فاستأذن الدكتور من رئيسهم أن يفحصوا فحصاً علمياً فأذن لهم فعلاً في تدقيق حتى أنه لحس أجسامهم ليتحقق من عدم وجود شيء. قال ثم دخلوا النار فلم تصبهم بأدنى أذى. ثم خرجوا ففحصتهم ثانياً فلم أجد أثر للحرق" (¬1). ¬

(¬1) انظر دائرة معارف القرن العشرين ج 4 ص 266، 267.

وبقيت هناك قضية علاقة الرفاعي مع معاصره الشيخ عبد القادر الجيلاني سنذكرها عند ذكر القادرية. وللرفاعية أوراد مخصوصة كثيرة نذكر نبذة منها، فيقولون: "ومن أحزابه الشريفة هذا الحزب واسمه الحزب الصغير، وهو: (بسم الله الرحمن الرحيم اللهمّ إني أسألك بعظيم قديم كريم مكنون مخزون أسمائك وبأنواع أجناس أنفاس رقوم نقوش أنوارك وبعزيز أعزاز أعزّ عزتك ويحول طول حول شديد قوتك وبقدر مقدار اقتدار قدرتك وبتأييد تحميد تمجيد عظمتك وبسمو نموّ علوّ رفعتك وبحيوم قيوم بنوم دوام أبديتك رضوان غفران أمان رفعتك وبرفيع بديع منيع سلطانك وبصلاة سعاة بساط رحمتك وبلوامع بوارق صواعق صحيح وهيج بهيج وهيج نور ذاتك وببهر قهر جهر ميمون ارتباط وحدانيتك وبهدير تيار أمواج بحرك المحيط بملكوتك وباتساع انفساخ ميادن بواذخ كرسيك وبهيكليات علويات روحانيات أملاك عرشك وبالأملاك الروحانيين المديرين الكواكب أفلاكك وبحنين أنين تسكين المريدين لقربك وبحرقات زفرات جمعات الخائفين من سطوتك وبأمال نوال أقوال المجتهدين في مرضاتك وبتحمد تمسجد تجلد العابدين على طاعتك وتخضع تخشع تقطع مرائر الصابرين على بلوائك يا أوّل يا آخر يا ظاهر يا باطن يا قديم يا مقيم اطمس بطلسم) (¬1). ومن أحزابه الغريبة العجيبة " المص الرالر الر المر المر المر كهيعص ط طسم طس طسم طسم الم الم الم الم يس ص حم حم حمعسق حم حم حمعسق حم حم ق ن ... محمد رسول الله حصني مكملاً وأبو بكر يميني حرزاً ووكيلاً وعمر بن الخطاب يساري عزاً وتجملاً وعثمان بن عفان من خلفي قوة وحولا وعلي بن أبي طالب أمامي مهابة ... لا إله إلا أنت أحون قاف آدم حم هاء آمين ... شتوش هموش أطوش شرح خمدت النار من مخافته" (¬2). ¬

(¬1) قلادة الجواهر ص 258. (¬2) قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر ص 362، 363.

فهذه هي الأوراد وأمثالها التي قال فيها بعض الرفاعية: " عليك بأوراد الرفاعي إنها ... إلى شيخ أشياخ الطريقة تنسب وداوم عليها فهي حصن وجنة ** ودرع لدفع النائبات مجرّب وباب بوصل العبد بالله عامر ... ونهج به للمصطفى يتقرّب" (¬1). وأحياناً كانوا يرددون مثل هذه الأوراد لنيل المآرب وحصول المطالب، فيذكر أحد الرفاعيين "كنت أمشي تحت جبل قاف، فجاء وقت الصلاة فتوضأت وصليت وقرأت الورد الشريف ثم ذكرت اسم سيدي أحمد (الرفاعي) فلما أتممت جاءت حية عظيمة وفي فمها درة فألقتها أمامي، ثم أنطقها الله فقالت: خذ هذه الهدية مني لحضرة سيدي أحمد، فتعجبت وقلت: أتعريفين سيدي أحمد؟ فقالت: عجيب هذا، هل على بساط الأرض من رطب ويابس من يجهل سيدي أحمد الرفاعي، بلغّه سلامي، فأنا من مردائه" (¬2). وعلى كل فهذا هو الرفاعي الذي يعرفه كل رطب ويابس على بساط الأرض، وكانت الحيوانات أيضاً من مريديه. وهؤلاء هم الرفاعيون. ¬

(¬1) أيضاً ص 269. (¬2) أيضاً ص 429.

الطريقة الشاذلية

الطريقة الشاذلية سلسلة صوفية مشهورة وطريقة صوفية منتشرة في مصر وتونس والجزائر وغيرها من البلدان، والشاذلية نسبة إلى أبي الحسن علي بن عبد الله المولود بغمارة من قرى سبته سنة 593هـ (¬1). وقال الكمشخانوي: "بل ولد بقرية عمان من قرى أفريقية قرب مرسية، وهي من المغرب الأقصى أيضاً" (¬2). ولكن عطاء الله الاسكندراني وهو تلميذ أبي العباس المرسي يذكر أن مبدأ ظهوره بشاذلة ولكن منشأه بالمغرب الأقصى فلم يعرف بالمنشأ والمولد، بل نسب إلى مبدأ ظهوره (¬3). واختلفوا في نسبه أيضاً، فمريدوه والمتعلّقون به ينسبونه إلى الأشراف ويصلون بنسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، كعادة أهل كل طريقة صوفية ولو أنهم يختلفون فيما بينهم في أسماء آبائه، فالبعض ينسبونه إلى إدريس بن عبد الله المبايع له ببلاد المغرب (¬4). وبعضهم إلى غيره (¬5). وأما الجامي فينسبه في نفحاته إلى الحسين، لا إلى الحسن (¬6). وكان ضريراً كما سماه ابن الملقن والشعراني بالضرير الزاهد (¬7). ¬

(¬1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية ص 226 ط مكتبة المتنبي القاهرة، أيضاً أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبد الحليم محمود ص 20. (¬2) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 115. (¬3) لطائف المنن لابن عطاء الأسكندراني ص 135 بتحقيق عبد الحليم محمود ط مطبعة حسان القاهرة 1974. (¬4) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 115. (¬5) انظر لطائف المنن للأسكندراني ص 135، طبقات الأولياء لابن الملقن ص 459. (¬6) انظر نفحات الأنس للجامي ص 567 (فارسي) ط إيران. (¬7) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 458، الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 4.

ولكن لم يتضرر عيناه إلا بعد مدة من تحصيل العلم كما يظهر من ترجمته في مختلف الكتب (¬1). وانتقل في صغره إلى مدينة تونس، فبدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة وبلدة إلى بلدة حتى حجّ ثم دخل العراق وبدأ يفتش عن القطب الصوفي - حسب زعمه - وقال له أحد الأولياء هناك: " إنك تبحث عن القطب بالعراق، مع أن القطب ببلادك، ارجع إلى بلادك تجده " (¬2). فرجع إلى بلاده باحثاً ومفتشاً عن القطب، يسأل عن المقبل والمدبر والراحل والمقيم إلى أن اجتمع به، وهو أبو محمد عبد السلام بن مشيش، فيقول الشاذلي: أتيت إليه "وهو ساكن مغارة برباط رأس جبل، فاغتسلت في عين أسفل الجبل وخرجت عن علمي وعملي، وطلعت إليه فقيراً، وإذا به هابط إليّ، فقال: مرحباً يا علي، وذكر نسبي إلى رسول الله" (¬3). "ثم قال لي: يا علي، طلعت إلينا فقيراً من علمك وعملك، وأخذت منا غنى الدنيا والآخرة، فأخذني من الدهش فأقمت عنده أياماً إلى أن فتح الله عليّ بصيرتي" (¬4). وعبد السلام هذا ينقل فيه الشيخ الأكبر للأزهر سابقاً عبد الحليم محمود عن صاحب " الدرة البهية ": "هو القطب الأكبر، والعلم الأشهر، والطود الأظهر العالي السنام. هو البدر الطالع الواضح البرهان، الغنيّ عن التعريف والبيان، المشتهر في الدنيا قدره، والذي لا يختلف في غوثيته اثنان. وطريه ترياق شاف لأدواء العباد، وذكره رحمة نازلة في كل ناد. ¬

(¬1) انظر دائرة المعارف الإسلامية ص 562 وغيرها من الكتب. (¬2) درة الأسرار ص 23 نقلاً عن "أبي الحسن الشاذلي" للدكتور عبد الحليم محمود ص 23. (¬3) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 116. (¬4) "المدرسة الشاذلية وإمامها أبو الحسن الشاذلي" للدكتور عبد الحليم محمود ص 23 ط دار الكتاب الحديث القاهرة.

سرى سرّه في الأفاق، وسارت بمناقبه الركبان والرفاق. قضى عمره في العبادة، وقصده للانتفاع أهل السعادة. وكان رضي الله عنه في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية، جمع الله له الشرفين: الطيني والديني، وأحرز الفضل المحقق اليقيني" (¬1). ويذكره الشاذلي بنفسه هو ومكانته السامية ودرجته الرفيعة، ومعرفته وعلمه بما يختلج في صدور الناس، وفيضه وفيضانه بقوله: "كنت في سياحتي في مبدأ أمري حصل لي تردد: هل ألزم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار أو ارجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار؟ فوصف لي وليّ هنالك، وكان برأس جبل فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلى ليلاً، فقلت في نفسي لا أدخل عليه في هذا الوقت، فسمعته يقول من داخل المغارة: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك، فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك أعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا إليك، قال فالتفت إلى نفسي وقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترق هذا الشيخ، فلما أصبحت دخلت إليه فأعربت من هيبته. فقلت له: يا سيدي كيف حالك؟ فقال: أشكوا إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار. فقلت: يا سيدي أما شكواي من حر التدبير والاختيار فقد ذقته وأنا الآن فيه، وأما شكواك من برد الرضا والتسليم فلماذا؟ فقال: أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله. قلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك، فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك أعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا إليك، فتبسم ثم قال: ¬

(¬1) أيضاً ص 24.

يا بني، ما تقول: سخر لي خلقك قل: يا رب كن لي، أترى إذا كان لك أيفوتك شيء؟ فما هذه الجناية " (¬1). وحتى ابنه الصغير يعلم ما في قلوب الناس كما يذكر الشاذلي أيضاً: "كنت يوماً بين يدي الأستاذ فقلت في نفسي: ليت شعري هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟ فقال ولد الشيخ وهو في آخر المكان الذي أنا فيه: يا أبا الحسن ليس الشأن من يعلم الاسم الأعظم، إنما الشأن من يكون هو عين الاسم، فقال الشيخ من صدر المكان: أصاب وتفرس فيك ولدي" (¬2). ويقول ابن عطاء الله الاسكندري: إن طريقة الشاذلي تنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ عبد السلام ينتسب إلى الشيخ عبد الرحمن المدني، ثم واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب (¬3). وبعد مدة من الزمن وبقائه عند ابن مشيش قال له شيخه ابن مشيش: يا علي، ارتحل إلى أفريقية واسكن بلداً بها تسمى شاذلة، فإن الله يسميك شاذلياً، وبعد ذلك تنتقل إلى مدينة تونس وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق، وترث فيها القطبانية (¬4). ولما ورث القطبانية "وظهر بالخلافة الكبرى والولاية الكثرى والقطبية العظمى والغوثية الفردى، وخصّه الله بعلوم الأسماء ومن عليه بأعلى مقامات الأولياء، وخصوصيات الأصفياء، وانفرد في زمانه بالمقام الأكبر والمدد الأكثر والعطاء الأنفع والنوال الأوسع (¬5). بدأ يقول كما ذكروا عنه أنه قيل للشيخ أبي الحسن: من هو شيخك؟ فقال: كنت انتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش، وأنا الآن لا انتسب لأحد، ¬

(¬1) لطائف المنن لابن عطاء الإسكندري ص 159، 160ط مطبعة حسان القاهرة 1974م. (¬2) أيضاً ص 160. (¬3) الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري، أيضاً لطائف المنن للإسكندراني ص 65. (¬4) جامع الأصول في الأولياء لمكشخانوي ص 117،كذلك أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبد الحليم محمود ص 29،أيضاً النفحة العلية في أوراد الشاذلية ص 228. (¬5) جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 117 ط المطبعة الوهيبة طرابلس 1298هـ.

بل أعوم في عشرة أبحر: خمسة من الآدميين، النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وخمسة من الروحانيين، وجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح الأكبر (¬1). و"تصرّف في أحكام الأولياء ومددها بالأذن والتمكين، وانفراد بسوددها حق اليقين، وأمدّ الأولياء أجمعين، وكذا الصديقين، ونال مقام الفردانية الذي لا يجوز المشاركة فيه بين اثنين، وأجمع على ذلك من عاصره من العلماء العارفين والأولياء لمقربين وخواص الصديقين، وشهد بقطبانيته وفردانيته الجمّ الكثير" (¬2). وبدأ يقول: "والله لقد جئت في هذا الطريق ما لم يأت به أحد" (¬3). حتى تعالى وتفاخر: قدمي على جبهة كل ولي لله" (¬4). ومن الجدير بالذكر أن الدكتور عبد الحليم محمود الذي تولّى مشيخة الأزهر، وتخرّج من جامعة فرنساوية كتب كتاباً في تمجيد الشاذلي ومدح الشاذلية، ففي ذلك الكتاب يذكر أن الله كلّمه على جبل زغوان، الجبل الذي اعتكف الشاذلي فيه في قمته، وتعبّد وتحنّث، والذي يذكره نقلاً عن صاحب كتاب "درة الأسرار": " قرأ الشيخ على جبل زغوان سورة الأنعام إلى أن بلغ إلى قوله تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} أصابه حال عظيم، وجعل يكررها ويتحرك، فكلما مال إلى جهة مال الجبل نحوها ... وما كانت حياته على الجبل إلا على نباتات الأرض وأعشابها" (¬5). ¬

(¬1) لطائف المنن للإسكندري ص 146،الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 7،جامع كرامات الولياء للنبهاني ج 2 ص 176،النفحة العلية ص 229. (¬2) جامع الأصول ص 117. (¬3) لطائف المنن ص 146. (¬4) جامع الأصول في الأولياء ص 117. (¬5) انظر المدرسة الشاذلية الحديثة وأمامها أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبالحليم محمود ص 32.

وعلى هذا الجبل ارتقى منازل، وتخطّى مراتب حيث "نبع له عين تجري بماء عذب. ثم بدأت الملائكة تحفّ بأبي الحسن، بعضها يسأله فيجيبه. وبعضها يسير معه. ثم تأتيه أرواح الأولياء زرافات ووحداناً تحفّ بأبي الحسن وتتبرك به (¬1). وبعد تجاوز هذه المراتب كلها التي أهّلته لأن يخاطب الرب بدون واسطة ولا ملك، كلّمه الرب تبارك وتعالى حسب قول ذلك الدكتور، فقال له: "يا علي، اهبط إلى الناس ينتفعوا بك. فقلت: يا رب أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخاطبتهم. فقيل لي: انزل فقد أصحبناك السلامة، ودفعنا عنك الملامة. فقلت: تكلني إلى الناس آكل من دريهماتهم. فقيل لي: انفق علي، وأنا الملي، إن شئت من الجيب وإن شئت من الغيب. ونزل الشاذلي رضي الله عنه من على الجبل ليغادر شاذلة، ويستقبل مرحلة جديدة، فقد انتهت المرحلة الأولى التي رسمها له شيخه. وقبل أن نغادر معه شاذلة إلى رحلته الجديدة نذكر ما حكاه رضي الله عنه فيما يتعلق بنسبه إلى شاذلة، قال: قلت يا رب لم سميتني بالشاذلي، ولست بشاذلي. فقيل لي: يا علي، ما سميتك بالشاذلي وإنما أنت الشَّاذُّلِي بتشديد الذال المعجمة، يعني: المفرد لخدمتي ومحبتي" (¬2). وقبله قد تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل حجرته الشريفة كما ¬

(¬1) بألفاظ عبد الحليم محمود وحروفه انظر ص 33 من كتابه "أبو الحسن الشاذلي" ط دار الكتب الحديثة القاهرة. (¬2) أيضاً ص 35.

ذكر ذلك الدكتور عبد الحليم محمود نقلاً عن "درة الأسرار" عن أبي الحسن: "ولما قدم المدينة زادها الله تشريفاً وتعظيماً، وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه عريان الرأس حافي القدمين، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. فسئل عن ذلك فقال: حتى يؤذن لي، فإن الله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ أن يؤذن لكم} فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: "يا علي ادخل" (¬1). فمن يكن هذا شأنه ومقامه ومكانته لا يستبعد عنه أن يقول: "لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يكون في غد وبعد غد إلى يوم القيامة" (¬2). وأيضاً: "أعطيت سجلاً مدّ البصر، فيه أصحابي وأصحاب أصحابي إلى يوم القيامة عتقاء من النار" (¬3). وعلى ذلك ينقل عنه الإسكندري عن شيخه أبي العباس المرسي خليفة أبي الحسن الشاذلي وتلميذه الخاص به أنه قال: " قال لي عبد القادر النقاد، وكان من أولياء الله: اطلعت البارحة على مقام الشيخ أبي الحسن. فقلت له: وأين مقام الشيخ؟ فقال: عند العرش. فقلت له: ذاك مقام تنزل لك الشيخ فيه حتى رأيته. وإلا مقامه فهو فوق ذلك، وقد صرّح بذلك حيث يواصل كلامه فيقول: "ثم دخلت أنا وهو على الشيخ، فلما استقربنا المجلس قال الشيخ رضي الله عنه: رأيت ¬

(¬1) أبو الحسن الشاذلي ص 83. (¬2) الكمشخانوي ص 116، النفحة العلية ص 228. (¬3) جامع الأصول في الأولياء ص 116،النفحة العلية في أوراد الشاذلية ص 228 ط مكتبة المتنبي القاهرة.

البارحة عبد القادر النقاد بالمنام فقال لي: أعرش أنت أم كرسيّ؟ فقلت له: دع عنك ذا. الطينة أرضية. والنفس سماوية. والقلب عرشي. والروح كرسي. والسر مع الله بلا أين. والأمر نزل فيما بين ذلك ويتلوه الشاهد منه (¬1). وذكروا من جملة كراماته أنه أثناء سفره إلى الإسكندرية مكث بتونس مدة، واشتهر أمره وذاع صيته، والتف حوله خلق كثير فحسده فقيه تونس وقاضي قضاتها ابن البراء فوشاه إلى السلطان، ودسّ له عنده، وتكلّم في نسبه ولكن السلطان لم يمسه بسوء، ووقره في قلبه واحترمه ولكن منعه من الخروج، وما أن منعه إلاّ وماتت جاريته في ذاك الحين، التي أحبها فملكت عليه جميع أقطاره، ثم التهبت النار في البيت فلم يشعروا حتى احترق كل ما في البيت من الفرش والثياب وغير ذلك من الذخائر، فعلم السلطان أنه أصيب من قبل هذا الوليّ (¬2). ولكن من الغرائب أنه لم يصب ابن البراء شيئاً مع تصريح عبد الحليم محمود وغيره أنه بقى على عدائه للشاذلي ومخالفته له إلى أن الشاذلي كان يسلّم عليه فلم يكن ابن البراء يردّ عليه السلام، وكان يطعن في نسبه (¬3). ولكن أنّى للمختلقين العقل، ومن أين للقصاصين العقل، والمسامرين الوضاعين الفكر. ¬

(¬1) لطائف المنن الاسكندري ص 143، 144 ط مطبعة حسان القاهرة. (¬2) درة الأسرار ص 30. (¬3) انظر أبو الحسن الشاذلي ص 42.

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً. وهل يستعبد هذا من أولئك الناس الذين يفضلن هؤلاء المتصوفة على أنبياء الله ورسله ويزعمون فيهم من القدرة والاختيارات، ومعرفة علم الغيب، والتصرف في أمور الكون، وتدبير أمور الدنيا والآخرة، ومددهم الأحياء منهم والأموات، وإعطائهم الثواب والعقاب، وتقسيمهم الجنة والنار لمن يريدون ويزعمون إعطاءه، ويفونهم بأوصاف لا تليق إلا بالواحد القهار الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وأمر سيد الخلائق وأفضل المخلوقات وأشرف المرسلين بأن يقول: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (¬1). {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (¬2). {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (¬3). وغيرها من الآيات الكثيرة والأحاديث المستفيضة التي ذكرناها فيما سبق في مختلف المباحث والمواضيع ولكن المتصوفة يعتقدون في أوليائهم أوصافاً إلهية ونعوتاً ربانية فيقول الإسكندري: "لو كشف عن حقيقة الولي لعبد، لأن أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته" (¬4). ولقد مرّ بيان عقيدة القوم في متصوفتهم سابقاً ولكن نريد أن نثبت ههنا بمناسبة ذكر الشاذلة والشاذلي ما ذكره قطبهم بعد الشاذلي -وهو المرسي- في شيخه نقلاً عن ¬

(¬1) سورة الأعراف الآية 188. (¬2) سورة الأنعام الآية 50. (¬3) سورة الكهف الآية 110. (¬4) لطائف المنن للإسكندري ص 95 مقولة أبي العباس تلميذ أبي الحسن الشاذلي وخليفته في شيخه.

بعض مريديه أنه قال: "صليت خلف شيخي صلاة فشهدت ما أبهر العقل وذلك أني شهدت بدن الشيخ والأنوار قد ملأته، وانبثت الأنوار من وجوده حتى أنني لم أستطيع النظر إليه، وقد كشف الحق عن مشرقات أنوار قلوب أوليائه لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوار قلبوهم، وأين نور الشمس والقمر من أنوارهم" (¬1). هذا ولقد استقر الشاذلي بعدئذ في الإسكندرية بمصر، وتزوج هنالك وولد له أولاد، وحبس عليه السلطان برجاً من أبراج السور في أسفله ما جل كبير ومرابط للبهائم، وفي الوسط مساكن للفقراء وجامع كبير، وفي أعلاه أعلية لسكانه وعياله" (¬2). وكان من عادته " إذا ركب تمشى أكابر الفقراء وأكابر الأغنياء حوله، وتنشر الأعلام على رأسه، وتضرب الكاسات بين يديه، ويأمر النقيب أن ينادي أمامه "من أراد القطب فعليه بالشاذلي" (¬3). وسنة 656هـ سافر للحج، وفي صحراء عيذاب وافته المنية فدفن هناك (¬4). ويقول الجامي: "وكان ماء هذا الصحراء ملحاً لا يشرب ولكنهم بعد ما غسلوه بمائه صار ببركته حلواً عذباً" (¬5). وفي هذا الصحراء ادّعى بأنه التقى بالخضر وكلّمه، كما نقلوا عنه أنه كان يقول: "لقيت الخضر في صحراء عيذب، فقال لي: "يا أبا الحسن أصحبك الله اللطف الجميل، وكان لك صاحباً في المقام والرحيل" (¬6). ¬

(¬1) لطائف المنن للإسكندري ص 95. (¬2) درة الأسرار نقلاً عن "أبي الحسن الشاذلي" ص 45. (¬3) الكمشخانوي ص 117،النفحة العلية ص 228،الكواكب الدرية للمناوي نقلاً عن "أبو الحسن الشاذلي" ص 54. (¬4) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 459،أيضاً الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 4. (¬5) نفحات الأنس للجامي (فارسي) ص 570 ط طهران. (¬6) لطائف المنن ص 151،طبقات الشعراني ج 2 ص 5،جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص183،أبو الحسن الشاذلي ص 39.

وقد نقل عن الشاذلي تفسير بع الآيات القرآنية تفسيراً باطنياً ينهج فيه منهج الباطنية وأهل التأويل البعيد، وقد ذكرنا نماذج منها في كتابنا [التصوف: المنشأ والمصادر]. ثم خلف بعده على الشاذلية أبو العباس المرسي، والذي صار قطباً بعد موته حسب زعمهم كما ينقلون عن زكي الدين الأسواني أنه قال: "قال لي الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله أنه ليأتيه البدوي يبول على ساقيه فلا يمسي عليه المساء إلا قد أوصله إلى الله، يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله ما من ولي لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعه الله عليه، يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل" (¬1). ويقول أبو العباس هذا عن نفسه: "والله ما سار الأولياء والأبدال من قاف حتى يلقوا واحداً مثلنا، فإذا لقوه كان بغيتهم، ثم قال: وبالله لا إله إلا هو، ما من ولي لله كان أو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وكم حظه من الله" (¬2). وهو الذي قال: "والله لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" (¬3). وكان يقول: "لا أعلم أحداً اليوم يتكلّم في هذا العلم غيري على وجه الأرض" وقدم إليه بعضهم طعاماً فيه شبهة يمتحنه فامتنع الشيخ من أكله، وقال: "إنه كان للشيخ المحاسبي عرق في أصبعه يضرب إذا مدّ يده إلى شبهة فأنا في يدي ستون عرقاً تضرب، ¬

(¬1) انظر لطائف المنن ص 168. (¬2) لطائف المنن ص 168. (¬3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 14،جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 314،أيضاً لطائف المنن للإسكندري ص 169.

فاستغرب الرجل وتاب على يديه" (¬1). وتكلم يوماً في القطب وأوصافه ثم قال: "وما القطبانية بعيدة من بعض الأولياء وأشار إلى نفسه" (¬2). قال: "لقد علمت العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتوها ولو سعياً على وجوههم" (¬3). وكان المرسي هذا أيضاً يدّعي صحبة الخضر واللقاء معه (¬4). وكان له تأويل باطني مثلما كان لأستاذه وشيخه، ومثال ما ذكره تلميذه عطاء الله الإسكندري: "سمعت شيخنا رضي الله عنه يقول في قوله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي: ما نذهب من وليّ لله إلا ونأت بخير منه أو مثله" (¬5). وكان كأستاذه يعتني بكتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي، وكتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، وكتاب "المواقف والمخاطبات" لمحمد عبد الجبار النفري (¬6). مات سنة 686هـ (¬7). ثم خلفه على مشيخة الشاذلية ياقوت العرش وكان حبشياً. "وهو الذي شفع في الشيخ شمس الدين بن اللبان لما أنكر على سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وسلب عمله وحاله بعد أن توسل بجميع الأولياء، ولم يقبل سيدي ¬

(¬1) نفحات الأنس للجامي ص 572،أيضاً جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 14،أيضاً جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 314. (¬2) لطائف المنن 179. (¬3) أيضاً. (¬4) انظر جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 314. (¬5) لطائف المنن ص 63. (¬6) انظر لطائف المنن ص 179، 180، كذلك أبو الحسن الشاذلي ص 55 وما بعد. (¬7) طبقات الشعراني ج 2 ص 13.

أحمد شفاعتهمفيه، فسار من الإسكندرية إلي سيدي أحمد، وسأله أن يطيب خاطره عليه وأن يردّ عليه حاله فأجابه. ثم إن سيدي ياقوت زوّج ابن اللبان ابنته، ولما مات أوصى أن يدفن تحت رجليها أعظاماً لوالدها الشيخ ياقوت. وإنما سمّى العرش لأن قلبه لم يزل تحت العرش، وما في الأرض إلاّ جسده. وقيل: لأنه كان يسمع لأذان حملة العرش. وكان رضي الله عنه يشفع في الحيوانات. وجاءته مرة يمامه فجلست على كتفه وهو جالس ف حلقة الفقراء وأسرّت إليه شيئاً في أذنه، فقال: بسم الله ونرسل معك أحد من الفقراء، فقالت: ما يكفيني إلا أنت، فركب بغلته من الإسكندرية وسافر إلى مصر العتيقة حتى دخل إلى جامع عمرو فقال: أجمعوني على فلان المؤذن، فأرسلوا وراءه، فجاء، فقال له: هذه اليمامة أخبرتني بالإسكندرية أنك تذبح فراخها كلما تفرخ في المنارة، فقال: صدقت، قد ذبحتهم ماراً، فقال: لا تعد، فقال: تبت إلى الله تعالى ورجع الشيخ إلى الإسكندرية رضي الله عنه. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة بين الطائفة الشاذلية بمصر وغيرها (¬1). ثم خلفه ناس آخرون، فاشتهر من بينهم محمد المغربي الذي يقولون عنه بأنه تنبأ بظهوره الشاذلي، فقال: "يظهر بمصر رجل يعرف بمحمد يكون فاتحاً لهذا البيت، ويشتهر في زمانه ويكون له شأن" (¬2). وهو الذي قال: "أعطيت الشاذلية ثلاثاً لم تحصل لمن قبلهم ولا لمن بعدهم: الأول: إنهم مختارون في اللوح المحفوظ. ¬

(¬1) أيضا ص 28 , 29. (¬2) أنظر الكمشخانوي ص 117.

الثاني: إن المجذوب منهم يرجع إلى الصحو. الثالث: إن القطب منهم إلى يوم القيامة (¬1). وآخر هذه الثلاث أن يركز عليه، فإن كل طائفة من الطوائف الصوفية تدعي أن القطب منهم، ولا يرضى بهذه المقولة أحد من غير الشاذلية. وآخرون مثل علي بن عمر القرشي وناصر الدين بن محمد عبد الدائم وابن عبد الرحمن بن إبراهيم ومعصوم بن أحمد وغيرهم العديدون (¬2). فهذا هو الشاذلي وأولئك الشاذلية ومشائخهم وقد اشتهر عن الشاذلية أوراد عديدة منها حزب البر وحزب البحر والحزب الكبير وغيرها من الأحزاب والأوراد، اختلقوا لها فضائل ومناقب لم ينزل الله بها من برهان، ذكرها كل من عطاء الله الإسكندري في كتابه "لطائف المنن" والدكتور عبد الحلم محمود في كتابه "المدرسة الشاذلية وإمامها أبو الحسن الشاذلي" والآخر في "النفحة العلية في الأوراد الشالية". وبهذا نختم هذا الفصل. ¬

(¬1) الكمشخانوي ص 116. (¬2) أنظر دائرة المعارف الإسلامية أردو مقال دي ايس مار جليوس ج 11 ص 564 وما بعد.

القادرية

القادرية ومن الطرق المشهورة في بلاد أفريقيا والبلدان العربية وشبه القارة الهندية الباكستانية , نسبة إلى عبد القادر الجيلي أو الجيلاني " نسبة إلى جيل " وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان , ويقال لها أيضاً جيلان وكيلان (¬1). والنسبة إليه جيلي وجيلاني وكيلاني (¬2). ولد سنة 471 هـ (¬3). وقيل: سنة 470 هـ (¬4). في بيت أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست , وأمّه أم الخير فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي الزاهد حملت به هي بنت ستين سنة (¬5). ويحكون عنها أنها قالت: " لما وضعت إبني عبد القادر كان لا يرضع ثديي في نهار رمضان , وغمّ على الناس هلال رمضان , فأتوني وسألوني عنه فقلت: لم يلتقم اليوم ثدياً , ثم اتضح أن ذلك اليوم كان رمضان , واشتهر في بلدنا ذلك الوقت أنه ولد للأشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان " (¬6). ويحكون عن عمته بأنها أيضاً كانت ولية من كبار الأولياء حيث أن جيلان أجدبت مرة واستسقى أهلها فلم يسقوا , " فأتى المشائخ إلى دار الشيخة أم محمد عائشة عمة الشيخ عبد القادر رضي الله عنه , وسألوها الإستسقاء , فقامت إلى رحبة بيتها وكنست الأرض وقالت: يا رب , أنا كنست فرشّ أنت. وقال: فلم يلبثوا أن أمطرت السماء ¬

(¬1) شذرات الذهب ج 4 ص 198. (¬2) الأنساب ج 3 ص 414. (¬3) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار لنور الدين الشنطوفي المتوفى 713 هـ ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة , أيضاً سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 439. (¬4) الفتح المبين للسيد ظهير القادري ص 4 ط. (¬5) قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر لمحمد بن يحيى التادفي ص 3 ط دار الكتب العربية الكبرى البابي الحلبي. (¬6) بهجة الأسرار للشنطوفي ص 89 , قلائد الجواهر لابن التادفي ص 3 , الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 5 , الطبقات الكبرى للشعراني ص 126 , نفحات الأنس للجامي ص 507 , جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 90.

كأفواه القرب , ورجعوا إلى بيوتهم يخوضون في الماء " (¬1). ويقولون: إن الشيخ من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وصاحب " فوات الوفيات " ينهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما , كما هنالك اختلاف في أسماء آبائه إلى علي رضي الله عنه وعددهم. وقد أنكر قوم انتسابه إلى الأشراف والعرب أيضاً , ونسبوه إلى قبيلة من قبائل العجم , وقد حرر في هذه القضية مباحث وكلام كثير , وألّفت فيها كتب ورسائل منها " ترياق المحبين " لتقي الدين الواسطي وغيره من الكتب , كما رفعت حول نسب الشيخ نزاعات إلى قضاء بغداد , والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ويذكر الصوفية أنه قدم بغداد في الثامن عشرة من عمره " فلما دخل إلى بغداد وقف له الخضر عليه السلام ومنعه الدخول وقال له: ما معي أمر بأن تدخل إلى سبع سنين , فأقام على الشط سبع سنين يلتقط من البقالة من المباح حتى صارت الخضرة تبين من عنقه , ثم قام ذات ليلة فسمع الخطاب: يا عبد القادر , أدخل بغداد , فدخل وكانت ليلة مطيرة باردة فجاء إلى زاوية الشيخ حماد بن مسلم الدباس فقال الشيخ: أغلقوا باب الزاوية وأطفئوا الضوء , فجلس الشيخ عبد القادر على الباب فألقى الله تعالى عليه النوم فنام فأجنب , ثم قام فاغتسل فألقى الله تعالى عليه النوم فأجنب , ولم يزل كذلك سبع عشرة مرة وهو يغتسل عقب كل مرة , فلما كان عند الصبح فتح الباب فدخل الشيخ عبد القادر , فقام إليه الشيخ حماد فاعتنقه وضمه إليه وبكى , وقال له: يا ولدي عبد القادر , الدولة اليوم لنا , وغداً لك , فإذا وليت فاعدل بهذه الشيبة " (¬2). وأما النبهاني فقال: " إنه احتلم في ليلته تلك أربعين مرة " (¬3). وقال صاحب " الفتح المبين ": سبعين مرة (¬4). ¬

(¬1) بهجة الأسرار ص 89. (¬2) قلائد الجواهر لإبن التادفي ص 3. (¬3) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 90 , أيضاً طبقات الشعراني ج 1 ص 128. (¬4) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 8.

ويعلم الأذكياء ما الذي يدل عليه هذا الإختلاف. وبدأ يدرس في بغداد " وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى وعلماء الأمة , فاشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه وعم بدرايته سرّه وعلنه , وتفقه على أبي الواء بن عقيل. . . وسمع الحديث من جماعة , منهم: أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني. . . وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي , وصحب الشيخ العارف قدوة المحققين , أبا الخير حماد بن مسلم الدباغ , وأخذ عنه علم الطريقة وتأدب به , وأخذ الخرقة الشريفة من يد القاضي أبي سعد المبارك المخزومي " (¬1). " وكان شافعي المذهب , فرأى الإمام أحمد بن حنبل يقول له: أدرك المذهب يا عبد القادر , وكان المذهب الحنبلي قد ضعف في العراق , وكاد يمحى , فانبرى إلى الاشتغال به تعليماً وتأليفاً حتى صار إمام الحنابلة " (¬2). " ثم تصدر للتدريس والفتوى في مدرسة أستاذه أبي سعد المخزومي " (¬3). ثم جلس للوعظ سنة 521 هـ (¬4). ويذكر ظهير الدين القادري عن عبد الرزاق وعبد الوهاب وغيرهما أنهم قالوا: " سمعنا الشيخ عبد القادر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر من يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة , فقال: يا بني لم لا تتكلم؟ فقلت: يا أبتاه أنا رجل أعجمي كيف أتكلّم على فصحاء بغداد , فقال: افتح فاك , ففتحته فتفل فيه سبعاً ثم قال لي: تكلّم على الناس وادع في سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة , فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير , فارتجّ عليّ فرأيت علي بن طالب كرّم الله وجهه قائماً بإزائي في المجلس فقال له: يا بنيّ لا تتكلّم. ¬

(¬1) بهجة الأسرار للشطنوفي ص 106. (¬2) دائرة المعارف للبستاني مقال الشيخ محمد رشيد رضا ج 11 ص 622. (¬3) بهجة الأسرار ص 106. (¬4) دائرة المعارف الإسلامية مقال براؤن ج 12 ص 925 ط باكستان.

قلت: يا أبتاه قد أرتجّ عليّ فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستاً , فقلت له: لم لا تكملها سبعاً؟ فقال: أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم توارى عني , فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على دور المعارف فيستخرجها على ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع , قالوا: فهذا أول كلام تكلّم به على الناس على الكرسي رضي الله عنه " (¬1). ويقول الشعراني وغيره: " وكان يلبس لباس العلماء ويتطيلس , ويركب البغل , وترفع الغاشية على يديه , ويتكلم على كرسيّ عال , وربما خطى في الهواء خطوات على رؤوس الناس ثم يرجع إلى الكرسي " (¬2). ويقولون: كان يحضر مجالسه خلق كثير , وربما حضر المجلس نحو من سبعين ألفاً (¬3). حتى الأولياء والملائكة كما نقلوا أنه إذا صعد الكرسي فقال: الحمد لله أنصت له كل وليّ في الأرض سواء كان حاضراً بمجلسه أو غائباً عنه , وكذلك يكررها ويسكت بعدها. وإن الأولياء والملائكة ليزدحمون في مجلسه , وإن الرحمة لتصبّ على حاضريه صبّا " (¬4). والخضر أيضاً كما رووا: " وكان الشيخ يتكلّم يوماً على الناس , فخطا في الهواء خطوات , وقال: يا إسرائيلي قف , فاسمع كلام المحمدي , ثم رجع إلى مكانه فقيل له في ذلك , فقال: مرّ أبو العباس ¬

(¬1) أنظر الفتح المبين ص 101 , أيضاً قلائد الجواهر ص 13 , أيضاً بهجة الأسرار ص 26. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 126 , قلائد الجواهر ص 13. (¬3) قلائد الجواهر لابن التادفي ص 13. (¬4) أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص 38 ترجمة أردية من الفارسية ط كراتشي باكستان.

الخضر عليه السلام فخطوت إليه وقلت له ماسمعتم , فوقف " (¬1). وليس الخضر والملائكة فحسب , بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك - عياذاً بالله - كما ذكر ذلك الشطنوفي عن أبي سعيد القيلوي أنه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في مجلس الشيخ عبد القادر غير مرة. . . وأن أرواح الأنبياء لتجول في السموات والأرض جولان الرياح في الأفاق , ورأيت الملائكة عليهم السلام يحضرونه طوائف بعد طوائف , ورأيت رجال الغيب والجان يتسابقون إلى مجلسه , ورأيت أبا العباس الخضر يكثر من حضوره , فسألته , فقال: من أراد الفلاح فعليه بملازمة هذا المجلس " (¬2). وفي مثل هذه المجالس قال مرة: " قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله , فقام الجميع وأخذوا قدم الشيخ وجعلوها على أعناقهم , ومدّ عنقه من كان غائباً " (¬3). ويقول اليافعي: " لم يبقى أحد من الأولياء في ذلك الوقت من الحاضرين والغائبين في جميع أقطار الأرض إلا حنا له رقبته إلا رجل بأصبهان فإنه لم يفعل , فسلب حاله. وروي أن الشيخ أبا لنجيب السهروردي رضي الله عنه طأطأ رأسه حتى كاد يبلغ الأرض , وقال: على رأسي , على رأسي , على رأسي , قالها ثلاثاً. ومن جملة من حنا له رقبته من الغائبين الكبار المشهورين الشيخ أبو مدين والشيخ عبد الرحيم القناوي , والشيخ أحمد بن أبي الحسين الرفاعي رضي الله عنهم. فأما سيدي أحمد فرووا عنه أنه كان جالساً يوماً برواقه بأم عبيدة , فمدّ عنقه وقال: على رقبتي , فسئل عن ذلك , فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي على رقبة كل وليّ لله. ¬

(¬1) قلائد الجواهر ص 13. (¬2) بهجة الأسرار ص 95. (¬3) بهجة الأسرار ص 3 وما بعد , الفتح المبين ص 106 وما بعد , قلائد الجواهر ص 22 نشر المحاسن ص 132 وغيرها.

وأما الشيخ أبو مدين فرووا أنه حنا رأسه يوماً وهو بين أصحابه وقال: أنا منهم , اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك بأني سمعت وأطعت , فسأله أصحابه عن ذلك , فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله , فأرّخوا ذلك وهم في المغرب , ثم جاء المسافرون من العراق فأخبروا أن الشيخ عبد القادر قال ذلك في ذلك الوقت الذي أرخوه. وأما الشيخ عبد الرحيم فرووا عنه أنه مدّ عنقه يوماً بقناء وقال: صدق الصادق الصدوق , فقيل له: من هو؟ فقال: الشيخ عبد القادر قال: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله , وتواضع له رجال المشرق والمغرب , فأرّخوا ذلك الوقت , ثم جاء الخبر بذلك في ذلك الوقت " (¬1). وروى عن شيخه أبي محمد القاسم أنه قال: " لما أمر الشيخ أن يقول: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله رأيت الأولياء بالمشرق والمغرب واضعين رؤوسهم تواضعاً إلا رجلاً بأرض العجم فإنه لم يفعل , فتوارى عنه حاله " (¬2). ويقول ظهير الدين القادري: أسمه الشيخ صنعان , وكان سبب كبره وعدم تواضعه أمام قول الشيخ الجيلاني ابتلي بعشق بنت تصرانية , ورعى الخنازير لها , حتى أنه رأى يوماً في المنام أن الخنزير وضع قدمه على عنقه فاستيقظ فرأى الخنزير يدوس رقبة بقدمه , فسمع صوتاً: ما رضيت بقدم محي الدين على رقبتك , فصارت موطأ لما هو نجس العين , فتاب واستغفر " (¬3). هذا وإن السهروردي قال: " إن قوله هذا من شطحات الشيوخ التي لا يقتدي بهم فيها " (¬4). ¬

(¬1) نشر المحاسن الغالية في فضل مشائخ الصوفية لأبي عبد الله اليافعي ج 2 ص 133 , 134 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني ط دار صادر بيروت. (¬2) نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 134. (¬3) الفتح المبين للقادري ص 107. (¬4) أنظر الفتح المبين ص 107.

وكان يقول: " كانت ترد عليّ الأثقال الكثيرة لو وضعت على الجبال تفسخت , فإذا كثرت عليّ وضعت جنبي على الأرض وقلت: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا , ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني تلك الأثقال , قال: وقال لي: كنت أشتغل بالفقه على المشايخ وأخرج الصحراء ولا آوى بغداد وأجلس في الخراب بالليل والنهار , وكنت ألبس جبة صوف وعلى رأسي خريقة , وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره وأقتات بخرنوب الشوك وقمامة البقل وورق الخس من جانب النهر والشط , وما هالني شيء إلا سلكته , وكنت آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طرقني من الله عز وجل طارق وكان يطرقني بالليل والنهار. وآتى الصحراء فأصرخ وأهج على وجهي , وما كنت أعرف إلا بالتخارس والجنون وحملت إلى البيمارستان , وطرقتني الأحوال حتى متّ , وجاءوا بالكفن والغاسل وجعلوني على المغتسل ليغسلوني ثم سرى عني " (¬1). وكذلك " أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرداً سائحاً لا أعرف الخلق ولا يعرفونني , يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان , أعلّمهم الطريق إلى الله عز وجل " (¬2). ويقولون: أنه بلغ درجة الولاية وهو ابن عشر سنين كم نقلوا عنه ذلك أنه سئل: متى علمت أنك ولي لله تعالى؟ قال: كنت وأنا ابن عشر سنين في بلدنا أخرج من داري وأذهب إلى المكتب فأرى الملائكة عليهم السلام تمشي حولي , فإذا وصلت إلى المكتب سمعت الملائكة يقولون: أفسحوا الطريق لولي الله حتى يجلس " (¬3). ¬

(¬1) قلائد الجواهر ص 10 واللفظ له , أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص طبقات الشعراني ج 1 ص 126 بهجة الأسرار ص 85. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 128 , قلائد الجواهر ص 10 , أخبار الأخيار للدهلوي ص 36. (¬3) قلائد الجواهر ص 9 , أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص 43.

ولما كبر قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ببغداد وأنا على الكرسي وهو صلى الله عليه وسلم راكب وموسى عليه السلام إلى جانبه , فقال: يا موسى , أفي أمتك رجل هكذا؟ قال: لا , فقال لي: يا عبد القادر وهو في الهواء فعانقني وألبسني خلعة كانت عليه , وقال: هذه خلعة القطبية على الرجال والأبدال , ثم تفل في فمي ثلاثاً وردّني إلى المنبر , فترنمت هذه الأبيات: سأشربها في كل دير وبيعه وأظهر للعشاق ديني ومذهبي وأضرب فوق السطح بالدف جلوة لكاساتها لا في الزوايات مختبي " (¬1). وأما معرفته بعلم الغيب وما يختلج في الصدور فروايات وروايات , وحكايات وحكايات , وكتب القوم مليئة منها , وواحدة من ذلك البحر الخضم هي: " لما أشتهر أمره في الآفاق اجتمع مائة فقيه من أذكياء بغداد يمتحنونه في العلم , فجمع كل واحد له مسائل وجاء إليه , فلما استقر بهم المجلس أطرق الشيخ فظهرت من صدره بارقة من نور فمرت على صدور المائة فمحت ما في قلوبهم فبهتوا واضطربوا وصاحوا صيحة واحدة ومزّقوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم , ثم صعد الكرسي وأجاب الجميع عما كان عندهم , فاعترفوا بفضله " (¬2). وأخرى ما ذكره الشنطوفي عن محمد بن سهل أنه قال: " حضرت مجلس الشيخ عبد القادر رضي الله عنه في سنة تسع وعشرين وخمسمائة وكنت في أخيريات الناس , وكان يتكلم في الزهد , قلت في نفسي: أريد أن يتكلم في المعرفة فقطع كلامه من الزهد وتكلم في المعرفة كلاماً ما سمعت مثله , فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في علم الغيبة والحضور فقطع كلامه من المعرفة وتكلم في الغيبة والحضور كلاماً ما سمعت مثله , فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في الشوق فقطع كلامه من الغيبة والحضور وتكلم كلاماً في الشوق ما سمعت مثله , فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في ¬

(¬1) قلائد ص 22. (¬2) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 , بهجة الأسرار ص 96 , جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2/ 90.

الفناء والبقاء فتكلم في الفناء والبقاء كلاماً ما سمعت مثله , ثم قال: حسبك يا أبا الحسن , فلم أتمالك أن مزقت ثيابي " (¬1). وأما تصرفه حياً وميتاً , وملكه المغفرة لمريديه فذكر كل من الشنطوفي وابن التادفي وعبد الحق الدهلوي وغيرهم من المتصوفة أنه: ضمن لمريديه إلى يوم القيامة أن لا يموت أحد منهم إلاّ على توبة , وأعطى أن مريديه ومريدي مريديه إلى سبعة يدخلون الجنة. وقال: أنا كافل لمريد المريد إلى سبعة كل أموره , ولو انكشفت عورة مريدي بالمشرق وأنا بالمغرب لسترتها , وأمرنا من حيث الحال والقدر أن نحفظ بهممنا (أي بقدراتنا) أصحابنا. وطوبى لمن رآني ورأى من رآني , ورأى من رأى من رآني , وأنا حسرة على من لم يرني " (¬2). وقال: أعطيت سجلاً مدّ البصر فيه أسماء أصحابي ومريدي إلى يوم القيامة , وقيل لي: قد وهبوا لك , وسألت مالكاً خازن النار: هل عندك من أصحابي أحد؟ فقال: لا وعزة ربي وجلاله , إن يدي على مريدي كالسماء على الأرض أن لم يكن مريدي جيداً فأنا جيد. وعزة ربي وجلاله , لا برحت قدماي من بين يدي ربي حتى ينطلق بي وبكم إلى الجنة " (¬3). وذكر الشعراني وغيره أنه كان يقول: " أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي خفف الله عنه العذاب إلى يوم القيامة. وكان رجل يصرخ في قبره ويصيح حتى آذى الناس فأخبروه به , فقال: أنه رآني مرة ولا بدّ أن الله تعالى يرحمه لأجل ذلك. فمن ذلك الوقت ما سمع له أحد صراخاً " (¬4). ¬

(¬1) بهجة الأسرار ص 94. (¬2) بهجة الأسرار ص 99 , قلائد الجواهر ص 15 , أخبار الأخيار. (¬3) بهجة الأسرار ص 100. (¬4) طبقات الشعراني ج 1 ص 126 , بهجة الأسرار ص 101 , قلائد الجواهر ص 15.

وكان يقول: " عثر الحلاج فلم يكن في زمانه من يأخذ بيده , ولو كنت في زمنه لأخذته بيده , وأنا لكل من عثر مركوبة من أصحابي ومريدي ومحيي إلى يوم القيامة , آخذ بيده. . . هذا فرسي مسرج , وسيفي شاهر , ورمحي منصوب وقوسي موتد , أحفظك وأنت غافل " (¬1). وكان يقول: " من استغاث بي في كربة كشفت عنه. ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه. ومن توسل بي حاجة قضيت له. ومن صلى ركعتين يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام ويسلم عليه ويذكرني , ثم يخطو إلى جهة العراق إحدى عشرة خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضي بإذن الله " (¬2). هذا وإن الصوفية رووا عنه أنه: قيل له: إننا مثل ما تصوم , ونصلي مثل ما تصلي , ونجتهد مثل ما تجتهد , وما نرى من أحوالك شيئاً؟ فقال رضي الله عنه: زاحمتمونا في الأعمال , أتزاحمونا في المواهب؟ والله ما أكلت حتى قيل لي: بحقي عليك كل , ولا شربت حتى قيل لي: بحقي عليك أشرب , وما فعلت شيئاً حتى أمرت بفعله. إلى أن قال فيها أيضاً: وقال رضي الله عنه: رأيت في المنام كأني في حجر عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأنا أرضع ثديها الأيمن , ثم أخرجت لي ثديها الأيسر فرضعته - عياذاً بالله على نقل هذه الإهانة - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: يا عائشة , هذا ولدنا حقاً " (¬3). فهؤلاء القادرية أحياناً أتصفو بصفات الرب جلّ وعلا , وأحياناً جعلوه نبياً لا ¬

(¬1) قلائد الجواهر ص 17 , بهجة الأسرار ص 102. (¬2) بهجة الأسرار ص 102. (¬3) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 40.

يفعل شيئاً إلا إذا أمر , وأحياناً ذكروا عنه وقائع , ونسبوا إليه مناقب وفضائل فيها إهانة للنبي الطاهر المطهر وأهله صلوات الله وسلامه عليه. ثم وإنهم قالوا: قال الشيخ أبو سلمان داود المنبجي: " كنت يوماً عند الشيخ عقيل المنبجي رضي الله عنه , فقيل له: قد أشتهر ببغداد شاب أعجمي شريف أسمه عبد القادر فقال الشيخ عقيل: وإن أمره في السماء أشهر منه في الأرض " (¬1). وأما كراماته التي يروي عنه المتصوفة فإنها لا تعدّ ولا تحصى , فإنها تنبئ وتخبر بأن جميع اختيارات الرب وقدراته بيده , إن لم يزد عليها فلم ينقص عنها. وهذه بعض المختطفات منها " أنه توضأ يوماً فبال عليه عصفور فرفع رأسه إليه فإذا هو ميت " (¬2). وأكثر منها أنه مرّ على مجلسه حدأة فصاحت , فشوّشت على الحاضرين , فقال: يا ريح , خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية , فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده وأمرّ يده الأخرى وقال: بسم الله الرحمن الرحيم , فحييت وطارت " (¬3). ومثل هذه كثيرة جداً نقلنا بعضاً منها في باب " أولياء أم آلهة ". وقد نسبت إليه كذلك منظومات تدلّ على أن الجيلاني كان يقدّم نفسه كإله مالك الاختيارات والقدرات. وعن تلك المنظومات قال المستشرق براؤن: إن الأشعار التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر تدلّ إليه , يبدو أنها ليست من كلامه " (¬4). وقال العلامة رشيد رضا: بنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره أو النقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها (دائرة المعارف ج 11 ص 623) (¬5). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 , أيضاً الفتح المبين ص 21 , جامع كرامات الأولياء. (¬2) جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2/ 11. (¬3) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 91. (¬4) دائرة المعارف الإسلامية ملخصاً مقال المستشرق براؤن عن الشيخ عبد القادر الجيلاني. (¬5) دائرة المعارف ج 11 ص 623.

وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي في الشيخ عبد القادر الجيلاني. " ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثركم الشيخ عبد القادر لكن كثيراً منها لا يصح , وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة. . . وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه والله الموعد , وبعض ذلك مكذوب عليه " (¬1). وما قاله الذهبي نقل مثله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً , وهو صحيح , لا يظن أن مثل الشيخ عبد القادر الجيلي يتكلم بمثل ما نقلوا عنه ورووه ولا يقول بمثل ما حكوا عنه والله اعلم. وعلى كل فإن الشيخ توفي بعد عمر طويل ناهزت تسعين سنة 561 هـ , ودفن ببغداد في مدرسته. وهناك أوراد ووظائف ينقلونها عن الشيخ وعن خلفائه تسمى بأذكار القادرية وأورادها. وسنده في التصوف والخرقة إلى الحسن البصري حسب ما يزعمون , وأنه لبس الخرقة من الحسن رضي الله عنه مع أن لقاء الحسن البصري لم يثبت في القول الصحيح فهؤلاء هم القادرية وعقائدهم. وبقيت هناك قضية كنا وعدنا بذكرها في ترجمة الجيلي , وهو علاقة الجيلي مع متصوفة عصره وزمانه , وعلى رأسهم معاصرة المشهور أبو العباس أحمد الرفاعي الذي ينازعه في الولاية والقطبية والغوثية وعلى رئاسة متصوفة ذلك الزمان. فإن الرفاعية يقولون: إن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان تحت رعاية وسيادة الرفاعي. والقادرية يدّعون أن الأمر معكوس , وإن الرفاعي هو الذي كان تابعاً للجيلاني , والجيلاني كان متبوعاً , ثم يختلق كل واحد من هذه الطوائف روايات وحكايات فزّوره مكذوبة لترجيح وتفضيل سيدهم على الآخر. فالرفاعية يحكون عن حسن النقيب أنه قال: " حضرنا في مجلس الشيخ الكبير السيد أحمد مع جماعة من المشائخ الكبار ذوي القدر والافتخار أصحاب الكرامات والأسرار ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 450 , 451.

منهم سيدي بنائن بطو ومنهم سيدي حماد الدباس ومنهم سيدي أبو سعيد الخراز علي المخزومي ومنهم سيدي أحمد بن تاج الدين أبو الوفا. ومنهم سيدي عبد الرزاق الواسطي. ومنهم منصور بن الحسين الواسطي. ومنهم عقيل المنجي. ومنهم سيدي حباب بن قيس الحراني. ومنهم سيدي عبد القادر الكيلاني. ومنهم سيدي أحمد الأزرق. ومنهم سيدي محمد بن عبدو. ومنهم سيدي عدي بن مسافر الشامي. وغيرهم من بقية الأولياء العظام. وهم ببلاد الشط على شاطئ الفرات يتحادثون في علوم وأسرار عجيبة وأحوال غريبة أطلعهم الله تعالى عليها. فبينما هم كذلك إذ قام من الله بصدق الكلام والسعادة. ما منا إلا ومن هو تحدثه نفسه بأنه شيخ الشيوخ وسلطان العارفين وهذه دعوة لا دليل لها إلا ببرهان قوي مبين. فأطرق الحاضرون رؤوسهم ولم يرد أحد جوابه فعاد القول ثانياً وثالثاً فالتفت إليه الشيخ الكبير السيد أحمد بن أبي الحسن الرفاعي وقال حشرت مع فرعون وهامان وقارون إن خطر ببالي إنني شيخ على أحد من خلق الله تعالى مطلقاً إلا أن يتغمدني الله برحمته فأكون كأحد المؤمنين لكن أي سادة انظروا إلى أمامكم من ذلك الشاطئ ماذا ترون. فقالوا أي سيدنا نرى شجرة كبيرة ممتدة الأغصان طويلة الأفنان فقال لهم أي سادة من كان منكم يريد مشيخة الشيوخ إليه فيدعوها بأن تأتي إليه إلى هذا الجانب فنقوم كلنا نبايعه ونكون في خدمته ونرعى حق حرمته فلما سمعوا كلامه قاموا كلهم ودعوها واحد بعد واحد فلم تتحرك بحركة. فلم قام قطب الوجود سيدي تاج العارفين أبو الوفا ودعاها تمايلت وأضطربت اضطرابا شديداً حتى كادت أن تنكسر ولم تنم من مقامها. فقام قطب السادات السيد عبد القادر الكيلاني ودعاها فقامت من مكانها وسعت إلى عند كنار البحر ووقفت هناك فلما جاءت نوبة الشيخ الكبير السيد أحمد جاؤوا إليه وقالوا له نريد نوبتك أي سيدي. فقال لهم ومن هو حميد اللاش حتى يكون له نوبة. فقالوا نقسم عليك بالعزيز سبحانه أن نقوم في نوبتك وندعوها حتى نرى مقام عزتك فقال لهم: أي سادة أقسمتم عليّ بعزيز لا يمكنني المخالفة. وقام قائماً على قدميه وقال أي خلق الله

أقسم عليك بالعزيز سبحانه إلا ما أجبت دعوتي. وأتيتني طائعة مقرة بما ألهمك الله تعالى به. فشقت الأرض والبحر وأتت طائعة مقرة شاهدة بلسان عربي فصيح قائلة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إن محمداً رسول الله وإنك شيخ الشيوخ على الإطلاق وشيخ أهل الأرض والسماء بالوفاق فلما شاهدوا من كراماته ما شاهدوه عياناً قاموا على أقدامهم وكشفوا رؤوسهم وبايعوه أن يكون شيخاً عليهم وعلى كل من يلوذ بهم. هو وذريته إلى يوم القيامة " (¬1). والقادرية يروون أنه لما قال الجيلاني في بغداد " رقبتي هذه على كل ولي ّلله طأطأت رؤوسها له , ونقل أن السيد أحمد الرفاعي كان آنذاك في بلدته أم عبيدة: وعلى رقبتي أيضاً (¬2). وقد مر بعض تفصيله فيما سبق. وأيضاً " قال نقيب الأولياء أبو العباس الخضر ومثله ممن أطلعه الله على مقامات الأولياء كلهم ما هو نص في عموم فضله وشرفه على المتقدمين والمتأخرين (¬3). وروى ابن الملقن ما يؤيّد القادرية , عند ذكر الرفاعي حيث نقل عن أبي العباس الخضر بن عبد الله الحسني الموصلي أنه قال: " كنت يوماً جالساً بين يدي الشيخ عبد القادر الجيلاني , فخطر في نفسي زيارة الشيخ أحمد , فقال الشيخ: أتحب رؤيته؟ فقلت: نعم , فأطرق وقال: حضر , فقمت إليه وسلمت عليه , فقال: يا خضر! ومن يرى مثل الشيخ عبد القادر سيد الأولياء يتمنى رؤية مثلي؟ وهل أنا إلا من رعيته! ثم غاب , فبعد وفاة الشيخ زرته , فقال لي: يا خضر! ألم تكفك الأولى " (¬4). ¬

(¬1) قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر محمد أبي الهدى الرفاعي ص 91 , 92. (¬2) أنظر الفتح المبين , قلائد الجواهر , بهجة الأسرار ونشر المحاسن الغالية. وغيرها من الكتب , وقد مرّ ذكر أرقام الصفحات فيما سبق. (¬3) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 111. (¬4) طبقات الأولياء لإبن الملقن ص 100.

التيجانية

التيجانية ومن طرق التصوف المشهورة في بلاد أفريقيا والمغرب العربي " التيجانية " نسبة إلى أبي العباس أحمد بن محمد المختار المولود بقرية عين ماضي سنة 150 هـ (¬1). والمدعي انتسابه إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم , لا بطريقة علمية بإثبات نسبه وأسرته إلى الأشراف السادة , بل بدعوى الكشف والإلهام حيث قال: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نسبه يقظة فردّ عليه أن نسبه إلى الحسن بن علي صحيح (¬2). والمنتقل من طريقة إلى طريقة , ومن صوفي إلى صوفي إلى أن أدّعى بأنه " رأى بعيني رأسه ووجهه سيد الأكوان يقظة لا في المنام , وتشرف بمشاهدة الطلعة البدرية البهية النورانية المصطفوية , فصرح له عليه الصلاة والسلام بأنه شيخه ومربيه وكافله , وأنه لا منة لمخلوق عليه سوى سيد الأنام , وأمر بترك جميع ما أخذه من مشايخ الطرق وسادة الصوفية , لأنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل على التحقيق وأنه لا مزية للانفصال إذا وجد الاتصال بصاحب الشفاعة العظمى يوم الزحام " (¬3). إلى أن بلغ درجة لم يبلغها الأولون ولا الآخرون , فقال: " إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء , وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاها ذاتي , ومني تتفرّق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور , وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إليّ مشافهة لا يعلمها مشافهة لا يعلمها لا الله عز وجل بلا واسطة وتحاور بعض أصحابه رضي الله عنه مع بعض الناس في قوله رضي الله عنه " كل الشيوخ أخذوا عني في الغيب " فحكي له ذلك فقال رضي الله عنه مشيراً بأصبعيه السبابة والوسطى: روحي وروحه صلى الله عليه وسلم , هكذا روحه صلى الله عليه وسلم تمدّ ¬

(¬1) كشف الحجاب لأحمد بن العياش سكيرج ص 10 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1961 م , جواهر المعاني لعلي حرزام الفاسي ج 1 ص 26 , 27 الدر السنية في شروط وأحكام أوراد الطريقة التيجانية لمحمد سعد الرباطي التيجاني ص 26 ط مكتبة القاهرة , الإعلام للزركلي ج 1 ص. (¬2) كتاب جواهر المعاني لعلي بن حرزام الفاسي ج 1 ص 30 ط مصطفى البابي الحلبي. (¬3) أنظر النفحة القدسية في سيرة الأحمدية التيجانية للجوكسي ص 160 المندرج في الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التيجاني لمحمد بن عبد الله التيجاني ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1958 م.

الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وروحي تمدّ الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد (¬1). وإنه هو خاتم الأولياء كما نقل عنه محمد العربي السائح التيجاني أنه أخبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل " أن سيد الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله (¬2). ويقولون فيه: " إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي بأعلى صوته حتى يسمعه كل من في الموقف يا أهل المحشر , هذا أمامك الذي كان مددكم منه. قال في منية المريد: يصعد منبراً من النور غداً ... يسمو به الكل سني وسؤدداً ثم ينادي عند ذا منادي ... يا أهل ذا المحشر وهذا النادي هذا أمامكم وذا ممدّكم ... في دار دنياكم بغير علمكم قلت: وفي هذا اليوم يظهر تفاضل الأولياء والعارفين والأغواث والصديقين , وتفاوت درجاتهم ومراتبهم بإظهار الله الفاضل وتمييزه من المفضول , ويظهر ذلك لكل من في الموقف بالعيان , ولذلك يسمى يوم التغابن , وفيه يظهر لكل موقف سعيد ولكل شقي طريد أن شيخنا وسيدنا وأستاذنا أبا العباس , سيدي الشيخ أحمد التيجاني الحسني رضي الله عنه وعنا به آمين. وهو الختم المحمدي المعلوم , والقطب المكتوم , والبرزخ المختوم , فيغنم الموقف السعيد , ويندم الشقي الطريد , قال تعالى {ذلك يوم التغابن} (¬3). وبالغوا في تمجيده وتعظيمه حيث نقلوا عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " أطلعت على ما رسمه وخطه ونصه. . . أسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى , أنا وكل ¬

(¬1) كشف الحجاب لسيكرج ص 6. (¬2) بغية المستفيد لمحمد عمر ص 193 ط البابي الحلبي 1959م. (¬3) الفتوحات الربانية في الطريقة التيجانية للشنقيطي ص 145 المندرج في الفتح الرباني.

أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي , من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث ... وكل من أحسن إليّ بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر. . . وكل من لم يعاديني من جميع هؤلاء أما من عاداني أو أبغضني فلا , وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً , وكل من خدمني أو قضى لي حاجة. . . وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم. . . يضمن لي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن نموت وكل حي منهم على الإيمان والإسلام. . . ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً , إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين , وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناً لا يختلف عليك الوعد فيها والسلام. . . ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً " (¬1). وتطاول التيجاني على أنبياء الله ورسله , ونصب نفسه على درجة الربوبية والألوهية المطلقة حيث قال: " وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلاّ أنا وحدي " (¬2). وكيف لا يكون هذا وإنه قطب؟ وما أدراك ما القطب؟ وقد عرّف حقيقة القطبانية حيث قال علي بن حرزام: " أعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً , حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى , ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً ما كان من الحق إلا بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك , وتوصيله كل قسمة إلى محلها , ثم قيامه في الوجود بروحانية في كل ذرة من ذرات الوجود وجملة وتفصيلاً , فترى الكون كله أشباحاً لا حركة لها وإنما هو الروح القائم ¬

(¬1) جواهر المعاني ج 1 ص 130 , 131. (¬2) رماح حزب الرحيم ج 2 ص 143 بهامش الجواهر.

فيها جملة وتفصيلاً , وقيامه في أرواحها وأشباحاً , ثم تصرفه في مراتب الأولياء فيذوق مختلفات أذواقهم فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه , فهو المتصرف فيها جميعها , والمعد لأربابها , وله الاختصاص بالسر المكتوم الذي لا مطمع لأحد في دركه والسلام " (¬1). وعنه يقول صاحب الرماح: أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين وأمام الصديقين وممدّ الأقطاب والأغواث , وأنه هو القطب المكتوم , والبرزخ المختوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء بحيث يتلقى واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغره فيضاً من حضرة نبيّ إلا بواسطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر بذلك (¬2). وهذا ولقد أدعى التيجاني كذباَ وزوراً , ظلماً وبهتاناً , تعالياً وتكبراً: " من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الإثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب إن لم يصدر منه سبّ في جانبنا ولا بغض " (¬3). ويقول محمد العمري التيجاني صاحب " البغية " متعمداً الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي قال له بذلك: " وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الإثنين والجمعة فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتوارت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان , بأخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي: يوم الإثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبة أملاك , وكل من يراك في اليومين يكتبون - يعني الأملاك السبعة - أسمه في رقعة من ذهب , ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك " (¬4). ويفوق هذ الدعي على النبي الصادق المصدوق , ويرجح نفسه عليه حيث يقولون: ¬

(¬1) جواهر المعاني ج 2 ص 74. (¬2) رماح حزب الرحيم ج 2 ص 4. (¬3) جواهر المعاني ج 2 ص 180. (¬4) بغية المستفيد ص 216.

" فيدخل الكفار في هذا الخطاب وينسحب عليه الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب. . . فتختص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلماً سواء كان من الأصحاب أم لا حسب ما هو به في الجواهر , وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان ويقول صاحب " الفتح الرباني ": " من رآه رضي الله عنه يوم الإثنين أو يوم الجمعة يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب بضمانته صلى الله عليه وسلم , وكذلك من رآه في بقية أيام الجمعة , ولكن يختص رائيه اليومين المذكورين بأن يسعد سعادة لا شقاوة بعدها , يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علمه تعالى أنه يكون سعيداً ويدخل في ذلك الكافر " (¬1). ليست الجنة لمن رآه فحسب من المسلمين والكفار , بل لكل من رأى حلّته أيضاً حسب ذكر عمر بن سعيد الفوطي أنه قال: " قال شيخنا التيجاني: من رأى هذه الحلّة دخل الجنة , ثم ألبسني إياها " (¬2). ونقلوا عن التيجاني هذا أنه كان يسكن فارس , ومرة أراد الانتقال منها إلى الشام فمنعه عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبياً طلب أولياء الغرب كما يذكر سكيرج وغيره من التجانيين أن التيجاني: " أزمع على الانتقال من فارس وعزم على الارتحال إلى القطر الشامي بجميع ما معه من الأهل والعيال بقصد الاستطيان به. . . فبينما هو رضي الله عنه قد أخذ أهبة السفر ولم يبق له إلا الخروج لهذا الوطن وقد نزل بأصحابه بسبب هذا الأمر من الحيرة والنكد ما يذهل الوالد عن الولد حتى كادت أن تتفتت أكبادهم إذ أشرق عليهم نور غرته , وطلع عليهم بهاء محياه الكريم فبشرهم بما هو الشفاء مما دهاهم , وذلك بأن قال لهم: إن أولياء الغرب أبو أن يفقدوا من بين ظهرانيهم نوره وسناه فطلبوا سيد الوجود ورغبوا إليه صلى الله عليه وسلم في بقاء وجوده العيني وشخصه المشهود ¬

(¬1) الفتح الرباني ص 82 , 83. (¬2) رماح حزب الرحيم ج 1 ص 182.

بين الأغوار من قطرهم المبارك لأنه صلى الله عليه وسلم مربيه وكفيله فأجابهم صلى الله عليه وسلم لمطلبهم , وأسعفهم بمرغبهم. فأذن له في المقام وعدم الترحال فلم يمكنه إلا الانقياد والامتثال , فعند ذلك قرت به الحضرة الفاسية. وكان رضي الله عنه يقول حين يضيق خاطره من أمور الخلق ويرى إعراضهم عن الحق: والله لولا خوف الله ندعو على أولياء المغرب لأنهم تسبوا له في سكني فاس بعد أن قصده أن يسكن الشام " (¬1). ويكذب التيجانيون حيث يقولون: " إن من كرامات التيجاني رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة دائماً أبداً بحيث لا يغيب عنه طرفه عين , وسؤاله له عن كل أمر , ومشاورته في كل شيء دقّ أو جلّ , والتربية على يديه " (¬2). وبنى التيجاني زاويته هنالك بحومة درداس المعروفة اليوم بالبليدة سنة 1215هـ. وقالوا فيها: إن هذه الزاوية المباركة لها من المزايا ما افتخرت به على جميع الزوايا , حتى أن سيدنا رضي الله عنه كان يتكلم يومأً في فضلها فقال: لو علم أكابر العارفين ما في الزاوية من الفضل لضربوا عليها خيامهم. وكان رضي الله عنه كثيراً ما ينوه بقدرها , ويحضّ على الصلاة فيها ويقول: الصلاة في الزاوية مقبولة قطعاً , وإلى هذا أشار صاحب المنية بقوله: وما ... بزاويته يصلي ... قطعاً يكون للقبول أهلاً (¬3). فهذا هو التيجاني شيخ الطريقة التيجانية. وللتيجانية أوراد ووظائف مثل الطرق الصوفية الأخرى وهم يبالغون ويغلون في بيان فضائلها وثوابها مبالغة قلّما يبلغ أحد مبلغهم في ذلك , ومن أورادهم " صلاة الفاتح لما أغلق " , وهذا هو نصها: " اللهم صلّ على محمد الفاتح لما أغلق , والخاتم لما سبق , ناصر الحق بالحق , الهادي ¬

(¬1) كشف الحجاب لسكيرج ص 18 , 19. (¬2) الفتح الرباني ص 82. (¬3) كشف الحجاب لسكيرج ص 21 , كذلك الفتح الرباني ص 84 وغيرهما من الكتب.

إلى صراطك المستقيم , وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم " (¬1). ثم سردوا فضائلها ومناقبها فقالوا: " أخبر شيخنا رضي الله عنه أنه سأل سيد الوجود صلى الله عليه وسلم عنها , فأخبره بأن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر , ومن كل دعاء صغير أو كبير ستة آلاف مرة , ثم قال: وخاصية الفاتح لما أغلق أمر إلهي لا مدخل للعقول فيه , فلا يلتفت إلى تكذيب مكذب , ولا قدح قادح , فإن لله سبحانه وتعالى فضلاً خارجاً عن دائرة القياس , ويكفيك قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) فما توجه متوجه إلى الله تعالى بعمل يبلغها وإن كان ما كان , ولا توجه متوجه إلى الله تعالى بأحب إليه منها , ولا أعظم عند الله حظوة إلا مرتبة واحدة , وهي من توجه إلى الله باسمه العظيم الأعظم لا غير , وتليه في الرتبة صلاة الفاتح لما أغلق , ولا يحصل هذا الخير إلا لمن صدق بما سمع وسلم لفضل الله , وأنه لا يأخذه الحد والقياس. ثم قال: وأعلم أن كل ما تذكره من الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأدعية لو توجهت بجميعها مائة ألف عام كل يوم تذكرها مائة ألف مرة وجمع ثواب ذلك ما بلغ مرة واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق " (¬2). وأما صاحب الفتح فيقول: أما صلاة الفاتح فلها من الفضل ثمان مراتب , والمذكور من فضلها جزء من المرتبة الأولى فقط , وغير ذلك كله مكتوم. ومما ذكر من فضلها غير المكتوم: أن من قرأها مرة واحدة في اليوم تضمن له سعادة الدارين , ومنه أن المرة الواحدة منها تكفر جميع الذنوب وتعدل من كل تسبيح وذكر ودعاء صغيراً أو كبيراً وقع في الكون ستة آلاف مرة , ومنه أن من يصلي بها عشر مرات يحصل ثواباً أكبر من ثواب وليّ عاش ألف سنة دون أن يذكرها , ومنه أن المرة الأولى منها بستمائة ألف صلاة من صلاة كل ملك وإنس وجنّ من أول خلقهم إلى وقت تلفظ الذاكر بها , والمرة الثانية مثلها , ويضاف عليها ثواب الأول , والمرة الثالثة مثلها , ¬

(¬1) الفتوحات الربانية في الطريقة الأحمدية التيجانية للشنقيطي ص 115. (¬2) أيضاً ص 115.

ويضاف عليها ثواب الأولى والثانية وهكذا , ومنه أن من يواظب على قراءتها كل يوم مرة يموت على الإيمان , ومنه أنه إذا حصل للمصلي بها شيء يحبط عمله فإنها لا تحبط في جملة ما يحبط , ومنه أن من قرأها ليلة الجمعة مائة مرة تكفر عنه ذنوب أربعمائة سنة , ومنه غير ذلك مما لا يسعه هذا الكتاب المختصر. وفضلها الخاص يحصل بشرطين: الأول إذن الشيخ رضي الله عنه ولو بوسائط , الثاني اعتقاد أنها ليست من تأليف البشر , بل وردت لسيدي محمد البكري من حضرة الغيب , ومن فضلها العام أن المرة الواحدة منها فدية من النار. قال سيدي محمد البكري رضي الله عنه: من قرأ هذه الصلاة مرة ولم يدخل الجنة يقبض بين يدي الله تعالى , وقد ذكر الهاروشي في (شرح كنوز الأسرار) أن المرة الواحدة من هذه الصلاة بستمائة ألف صلاة , وهاتان الفضيلتان يحصلان بلا اشتراط ما تقدم لأنهما من الفضل العام. وبالجملة فصلاة الفاتح لما أغلق أشرف الصلوات , ولم يصلّ أحد على النبي صلى الله عليه وسلم بمثلها , لأن لها من الفضل ما يبهر العقول: قال شيخنا رضي الله عنه: وخاصية الفتح لما أغلق أمر إلهي لا مدخل فيه للعقول , فلو قدرت مائة ألف أمة في كل أمة ألف قبيلة في كل قبيلة مائة ألف رجل وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم في كل يوم مائة ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من غير الفاتح وجمعت ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق " (¬1). وقال صاحب الجواهر نقلاً عن التيجاني أنه قال: " سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ستّ مرات , ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون , ومن كل ذكر , ومن كل دعاء كبير أو صغير , ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار " (¬2). ¬

(¬1) الفتح الرباني ص 99 , 100. (¬2) جواهر المعاني ج 1 ص 36.

ونقل الرباطي عن الهاروشي أنه قال: " إن صلاة الفاتح لما أغلق تعدل ستمائة ألف صلاة فأنظره وأقدرْ قدر ما ينال المصلي من صلاة الله تعالى عشرا عشراً , وقال في شرحه أيضاً: قال شيخنا العياش رضي الله عنه: من قرأ هذه الصلاة مرة ولم يدخل الجنة يقبضني بين يدي الله تعالى (¬1). فانظر إلى تلك الأكاذيب والأباطيل كيف يروون تلك الفضائل ومن الثواب ذلك المقدار على ورد اخترعوه , وذكر اختلقوه , وصلاة ابتدعوها ويفضلونها على أوراد الأنبياء وأذكار الرسل والصلاة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم , مع أن هذه الصلاة خالية عن السلام , وان صيغته لا تضاهي تلك الصيغة النبوية عليها مسحة إلهية وفيها نفحة ربانية. وبذلك يلهون الناس عن قراءة القرآن والتمسك بألفاظ وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أن التيجاني أيضاً تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلقنها أفضل الخلائق بعد الأنبياء والرسل أبا بكر الصديق ومن تلاه في المرتبة والمنزلة عمر الفاروق ومن يليهما عثمان بن عفان صهر رسول الله وزوج كريمته الملقب بذي النورين والخليفة الراشد الرابع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين , مع ما في أقوالهم من الحث على ترك العلم , والترغيب والتحريض على الاعتناء بهذه المجازفات والمبالغات. وهناك أوراد أخرى منها ما يسمونها جوهرة الكمال , ولفظها: " اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الأدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل معترض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني اللهم صل وسلم على عين الحق تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم اللهم صل وسلم على طلعة الحق الكنز الأعظم أفاضتك منك إليك إحاطة النور المطلسم صلى إليه عليه وعلى آله صلاة ¬

(¬1) الدرر السنية في الطريقة التيجانية للرباطي ص 60 ط مطبعة حجازي القاهرة 1375 هـ.

تعرفنا بها إياه , اثني عشرة , ذكر الجمعة قبل الغروب بساعة ونصفها يأتي الوجوب لا إله إلا الله ألفاً ومائتين أو الاسم المفرد الله الله الله حتى يتم العدد وبعضهم يجعلها ألفاً وستمائة وقال بعضهم أقل العدد للذكر بها ألف مرة إلى غروب الشمس بعدد وبدون عدد ومن كان عنده ضرورة شرعية يقرأ العدد ثم يمضي لضرورته بعد انتهائه " (¬1). وأما جوهرة الكمال فهي إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا الشيخ رضي الله عنه يقظة لا مناماً فمن فضلها الذي ذكره الشيخ رضي الله عنه أن المرة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها وهذا من باب خرق العادة , ومنها أن من قرأها عشرة مرة وقال هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زار النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين من أول الوجود إلى وقته ومنها أن من نزلت به شدة أو ضيق وقرأها خمساً وستين مرة فرج الله عنه في الحين وفضل الله أوسع ويختص به من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومن أراد زيادة فعليه بكتب هذه الطريقة كجواهر المعاني والرماح وأما الفضل ذكر يوم الجمعة بعد صلاة العصر يكفي في فضله حضور النبي صلى الله عليه وسلم من أول الذكر إلى آخره , قال صاحب المنية. يكفيك في الفضل حضور المصطفى ... صلى عليه ربنا وشرفا " (¬2). وغيرها من الخرافات. ثم بينوا لها شروطاً وآداباً يطول ذكرها لكن نذكر الأهم لكي يعرف خبث القوم ¬

(¬1) أيضاً ص 12. (¬2) الدرر السنية ص 25.

وحقيقتهم , فيقول الرباطابي: " من الشروط أن يكون الشيخ الذي يلقن الأوراد اللازمة والاختيارية مأذونا إذناً صحيحاً من القدوة أو من أذن له. الثاني أن يكون طالب التلقين خالياً من أوراد المشايخ أو ينسلخ عنها ولا يعود لها أبداً لأن مريد السير إلى الله تعالى لا يصلح أن يكون بين شيخين كما لا يصلح أن تكون زوجة زوجين. الثالث: عدم زيادة الأولياء الأحياء والأموات وله زيادة الأنبياء والصحابة رضي الله عنهم وأصحاب سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه الأحياء والأموات قال سيدنا الشيخ رضي الله عنه: ثلاثة تقطع المريد عن أخذ ورد على وردنا وزيارة الأولياء الأحياء والأموات وترك الورد , أي تركاً كليا , ولا يتهاون به وأما تركه كسلاً فلا يخرجه عن الطريقة لأنه لم يتركه تركاً قلبياً ولا أعرض عنه إعراضاً كلياً إلا أنه عرّ ض نفسه للمصائب بسبب تركه , وفي الإفادة الأحمدية من ترك الورد بعد أخذه له حل به الهلاك في الدنيا والآخرة , وليس منع الزيادة في طريقتنا هذه الأحمدية التيجانية تكبراً على ساداتنا الأولياء الكرام ومعاذ أن يصدر ذلك منا في جانبهم الأعز الرفيع وجنابهم عندنا محترم غاية الإحترام قال سيدنا أحمد التيجاني رضي الله عنه عظموا حرمة الأولياء والأحياء والأموات فإن من عظم حرمتهم عظم الله حرمته ومن أهانهم أذله الله وغضب عليه فلا تستهينوا بحرمة الأولياء , ومحبة أولياء الله رضي الله عنهم شرط من شرط طريقتنا ". السابع: أن لا يصدر منه سبّ ولا بغض ولا عداوة في جانب الشيخ رضي الله عنه. . . العاشر: السلامة من الانتقاد على الشيخ سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لأن طريق السادة الصوفية مبني على التسليم لأرباب التربية فيما يأمرون به أو ينهون عنه لأنهم أمناء على الشريعة. . . السادس عشر: احترام كل من انتسب للشيخ رضي الله عنه من الأخوان لا سيّما كبار أهل الخصوصية من أهل الطريقة , قد جاء عن سيدنا الشيخ أحمد التيجاني رضي الله عنه أن إذاية أهل هذه الطريقة إذاية للنبي صلى الله عليه وسلم. . .

الثاني والعشرون: مجانبة المنتقدين على الشيخ سيدنا أحمد التيجاني رضي الله عنه , وكان رضي الله عنه يحذر أصحابه من مجالسة المنتقدين عليه ويقول: إن بعضهم يسري في قلب من يجالسهم كالسم , قال صاحب المنية: ومن يجالس مبغض الشيخ هلك ... وضلّ في مهامه وفي حلك. . . الثالث والعشرون: يستحضر صورة الشيخ رضي الله عنه في حال قراءة الورد , ويستمدّ منه , وأعظم من ذلك أن يستحضر صورة النبي صلى الله عليه وسلم على ما رويت في الشمائل الترمذية ويستمد منه , وهذا الاستحضار يكون من أول قراءة الورد إلى آخره إن أمكن ذلك , وإلا فليستحضر في أول الذكر ثم يعاود الاستحضار مرة أخرى. . . ولا يلتفت عن الشيخ , والالتفات عن الشيخ سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه بزيارة الأولياء الأحياء والأموات أو طلب الدعاء منهم أو إهداء ثواب العبادات من قرآن وصلوات وأذكار ونذر وصدقة ونحو ذلك لهم (¬1). وهناك عقائد ومعتقدات وأفكار وآراء أخرى كثيرة مجانية للحق ومخالفة للقرآن والسنة في الطريقة التيجانية من التمسح بالقبور والاستمداد من غير الله والشرك الجليّ والخفيّ والاعتقاد في الأولياء والمتصوفة وخاصة الشيخ التيجاني ومشايخ هذه الطريقة بأنهم يعلمون الغيب , ويملكون الضر والنفع , ويدفعون البلاء , ويميطون الأذى , ويحيون الأموات ويرزقون , ويكسون ويعطون ويمنعون , أحياء وأمواتا وغير ذلك من الخرافات والترهات التي لا تخلو طريقة من الطرق الصوفية منها , بل أنها مبنية على تلك السخافات والخرافات , وإنها من لوازم التصوف ذكرناها في ضمن المباحث في هذا الكتاب الأول. ونريد أن نذكر في آخر هذا المبحث الخدمات الجليلة التي أداها التيجانيون لدعم الاستعمار الفرنساوي الصليبي الكافر الغاشم , الغازي لتلك البلاد المسلمة التي يقطنها التيجانيون , فلقد ذكر المؤلف التيجاني صاحب الفتح في الباب السابع تحت عنوان " ذكر ¬

(¬1) الدرر السنية في الطريقة التيجانية ص 4 وما بعد.

كرامات شيخنا رضي الله عنه " منها: أخباره باستيلاء فرنسا على بلاد الجزائر , وكان كثيراً ما يشير إلى ذلك بما يفيد التحقق بوقوعه تصريحاً وتلويحاً (¬1). وعلى ذلك قام التيجانيون في الجزائر والمغرب بالدفاع عن الاستعمار الفرنسي , وتحريض المسلمين على الخنوع والخضوع أمامهم وتسليم البلاد بأيديهم بدون قتال ولا جدال , ومنعهم عن المحاربة والوقوف أمامهم ففي خطبة ألقاها محمد الكبير شيخ التيجانية في وقته يذكر فيها بعض تلك الخدمات بكل اعتزاز وافتخار , فيقول كما نشرها مجلّة الفتح العدد 257 القاهرة يوم الخميس 16 صفر سنة 1350 هـ السنة السادسة بعنوان " صاحب السجادة الكبرى يلقي بين يدي فرنسا خطبة الإخلاص " , وهذا نصه: اعترافات خطيرة صاحب السجادة الكبرى يلقي بين يدي فرنسا " خطبة الإخلاص " الجزائر في 23 - 1 - 1350 لمراسل الفتح. نشرت جريدة " لا بريس ليبر La Presselibre وهي جريدة فرنسية استعمارية يومية كبرى تصدر في عاصمة الجزائر في عددها الصادر يوم السبت 16 مايو (28 ذي الحجة: خطبة طويلة ألقاها الشيخ " سيدي " محمد الكبير صاحب " السجادة الكبرى " - أي: رئيس الطريقة الصوفية المسماة بالطريقة التيجانية - بين يدي الكولونيل سيكوني " الفرنسي " الذي ترأس بعثة من الضباط قامت بنزهة استطلاعية في الجنوب الجزائري , ومهدت " لا بريس ليبر " للخطبة بكلمة جاء فيها. وبعد ما طافت هذه البعثة العسكرية في مدينة الأغواط , سافرت إلى عين ماضي المركز الأساسي للطريقة الصوفية الكبرى " التيجانية " , ملبين دعوى رئيس هذه الطريقة المحترمة المبجلة الشيخ سيدي محمد الكبير , وبعدما تفرجوا على المدينة - يعني: قرية عين ماضي - وعلى الزاوية ذهبوا إلى القصر العظيم الذي شيّد بإيعاز من السيدة ¬

(¬1) أنظر الرباني فيما يحتاج إليه المريد التيجاني لمحمد بن عبد الله بن حسنين الطنطاوي التيجاني ص 86.

الفرنسية مدام أوريلي التيجاني (أيّم التيجاني) , وفي ردهات هذا القصر الرائعة الجميلة أقيمت مأدبة فخمة فاخرة كبرى لهؤلاء الضباط ولنواب الحكومة العسكرية المحلية بالأغواط وعين ماضي , وفي أثناء شرب الشاي قام حبيبنا حسني سي أحمد بن الطالب , وتلا باسم المرابط سيدي محمد الكبير صاحب السجادة التيجانية الكبرى خطبة عميقة مستوعبة للخدمات الجليلة الصالحة التي قامت بها الطائفة التيجانية لفرنسا وفي سبيل فرنسا في توطيد الاستعمار الفرنسي , وفي تسهيل مهمة الاحتلال على الفرنسيين , وفي إشارات التعقل كانت تسديها هذه الطريقة لمريديها من " الأحباب ". . . ثم قالت الجريدة: وحيث طلب منا نشر هذه الخطبة القيمة فإننا ننشرها فيما يلي: وهنا أوردت الجريدة جانباً كبيراً من الخطبة - نصفها أو ثلثيها - كله ثناء لا يحصى ولا يعد على فرنسا المستعمرة , فو صفها الخطيب بأنها " أم الوطن الكبرى " , وانهال عليها مدحاً مدحاً وشكراً بما لا يخرج عن معنى ما نسمعه دائماً من دعاتها المأجورين , إلا أنه قال: " حتى الأرذال الأوباش أعداء فرنسا الذين ينكرون الجميل , ولا يعترفون لفاضل بفضل , قد اعترفوا لفرنسا بالمدنية والاستعمار , وبأنها حملت عنا ما كان يثقل كواهلنا من أعباء الملك والسيادة , وحملت الأمن والثروة والرخاء والسعادة والهناء. . . ولكن المهم من الخطبة هو الجانب الأخير منها , لأنه يحوي اعترافات خطيرة مثبتة بتواريخها , ونحن ننقل هذه الاعترافات حرفياً , ونعرضها على صفحات الفتح المجلة التي يثق بها المسلمون جميعاً , ولكل مسلم أن يحكم على هذه الاعترافات بما شاء. قال الشيخ سيدي محمد الكبير صاحب السجادة الكبرى " التيجانية " , وهو " خليفة " الشيخ أحمد التيجاني الأكبر مؤسس هذه الطريقة , وهذا " الخليفة " يسيطر على جميع أرواح " الأحباب " المريدين التيجانيين في مشارق الأرض ومغاربها: . . إنه من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا مادياً وأدبياً وسياسياً , ولهذا فاني أقول لا على سبيل المنّ والافتخار , ولكن على سبيل الاحتساب والتشرف بالقيام بالواجب. . . أن تصل بلادنا , وقبل أن تحتل جيوشها الكرام - كذا - ديارنا. ففي سنة 1838 كان جدي سيدي محمد الصغير - رئيس التيجانية يومئذ - أظهر

شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا , الأمير عبد القادر الجزائري , ومع أن هذا العدو - يعني: الأمير عبد القادر - حاصر بلدتنا عين ماضي , وشدد عليها الخناق ثمانية أشهر , فإن هذا الحصار تم بتسليم فيه شرف لنا نحن المغلوبين , وليس فيه شرف لأعداء فرنسا الغالبين , وذلك أن جدي أبى وامتنع أن يرى وجهاً لأكبر عدو لفرنسا , فلم يقابل الأمير عبد القادر!. وفي سنة 1864 كان عمي سيدي أحمد - صاحب السجادة التيجانية يومئذ - مهّد السبيل لجنود الدوك دوماك , وسهل عليهم السير إلى مدينة بسكرة , وعاونهم على احتلالها. وفي سنة 1870 حمل سيدي أحمد هذا تشكرات الجزائريين للبقية الباقية من جنود " التيرايور " الذين سلموا من واقعة " ريش - هوفن " وواقعة " ويسانبور " , ولكي يظهر لفرنسا ولاءه الراسخ وإخلاصه المتين , وليزيل الريب وسوء الظن اللذين ربما كانا بقياً في قلب حكومتنا الفرنسية العزيزة عليه - يعني: من حيث كونه مسلماً ولو بالاسم فقط - برهن على ارتباطه بفرنسا ارتباطاً قلبياً , فتزوج في أمد قريب بالفرنسية الآنسة أوريلي بيكار (مدام أو أيّم التيجاني بعدئذ) , وبفضل هذه السيدة - نعترف به مقروناً مع الشكر - تطورت منطقة كوردان هذه ضاحية من ضواحي عين ماضي من أرض صحراوية إلى قصر منيف رائع , ونظراً لمجهودات مدام أوريلي التجاني هذه المادية والسياسية فإن فرنسا الكريمة قد أنعمت عليها بوسام الاحترام من رتبة " جوقة الشرف ". المراسل: وسيدي أحمد هذا لما تزوج في سنة 1870 بهذه المرأة الفرنسية , كان أول مسلم جزائري تزوج بأجنبية , وقد أصدرت هي كتاباً فرنسيّاً في هذه الأيام أسمته " أميرة الرمال " تعني نفسها , وقد ملأته بالمثالب والمطاعن على الزاوية التيجانية , وذكرت فيه أن سيدي أحمد هذا إنما تزوجها على يد الكاردينال لافيجري على حسب الطقوس الدينية المسيحية , وذلك لأن قانون الزواج الفرنسي كان دينياً مسيحياً لا مدنياً , ولما توفي عنها سيدي أحمد هذا خلفه عليها وعلى السجادة التيجانية أخوه سيدي علي!. . . ولما أنعمت فرنسا بوسام الشرف على هذه السيدة منذ أربعة أعوام , قالت الحكومة

في تقريرها الرسمي ما نصه: لأن السيدة قد أدارت الزاوية التيجانية الكبرى إدارة حسنة كما تحب فرنسا وترضى , ولأنها كسبت للفرنسيين مزارع خصبة ومراعي كثيرة , ولولاها ما خرجت من أيدي العرب الجزائريين (التيجانيين) , ولأنها ساقت إلينا جنوداً مجندة من " أحباب " هذه الطريقة ومريديها , يجاهدون في سبيل فرنسا صفّاً كأنهم بنيان مرصوص. . . واليوم تعيش هذه السيدة (أيّم التجاني) في مزرعة لها كبرى في ضواحي مدينة بلعباس - وهران عيشة المترفين ذوي الرفاهية والنعيم , وهي الآن لم تقطع علائقها بالزاوية التجانية , بل لا تزال تسيطر عليها , وتقبض على أزمتها , ومع أن الأحباب التجانيين يتبركون بهذه السيدة ويتمسكون بآثارها ويتيممون لصلواتهم على التراب الذي تمشي عليه , ويسمونها " زوجة السيدين " , فإنها لا تزال مسيحية كاثوليكية إلى هذه الساعة , ومن العجيب أن إحدى وستين سنة قضتها كلها في الإسلام وبين المسلمين من (1870 إلى الآن 1930) لم تغير من مسيحيتها شيئاً , وهذا دليل على ما كانت عليه تكنه في قلبها لهؤلاء " الأحباب " الذين حكموها في رقابهم وأموالهم!!. ولنرجع إلى نقل الاعترافات فنقول: ثم قال سيدي محمد الكبير: وفي سنة 1881 كان أحد " مقاديمنا " سي عبد القادر بن حميدة مات شهيداً مع الكولونيل فلاتير حيث كان يعاونه على احتلال بعض النواحي الصحراوية. وفي سنة 1894 طلب منا جول كوميون والي الجزائر العام يومئذ أن تكتب رسائل توصية , فكتبنا عدة رسائل , وأصدرنا عدة أوامر إلى أحباب طريقتنا في بلاد الهكار (التوارق) والسودان نخبرهم بأن حملة فوولامي الفرنسية هاجمة على بلادهم , وبأمرهم بأن لا يقابلوها إلا بالسمع والطاعة , وأن يعاونوها على احتلال تلك البلاد , وعلى نشر العافية فيها!! .. وفي سنة 1906 - 1907 أرسل المسيو جونار والي الجزائر العام يومئذ ضابطه المترجم مدير الأمور الأهلية بالولاية العامة سيدي مرانت برسالة إلى أبي المأسوف عليه سيدي البشير , فأقام عنده في زاوية كوردان شهراً كاملاً لأداء مهمة سياسية , ولتحرير

رسائل وأوامر أمضاها سيدي البشير والدي - رئيس التيجانية يومئذ - ثم وجهت - أرسلت - إلى كبراء مراكش - المغرب الأقصى - وأعيانها وزعماء تلك البلاد وجلهم - أو قال: وأكثرهم - تجانيون من أحباب طريقتنا نبشرهم بالاستعمار الفرنسي , ونأمرهم بأن يتقبلوه بالسمع والطاعة والاستسلام والخضوع التام , وأن يحملوا الأمة على ذلك , وأن يسهلوا على جيوش فرنسا تلك البلاد. وفي الحرب العالمية الكبرى أرسلنا ووزعنا في سائر أقطار شمال أفريقية منشورات تلغرافية وبريدية استنكار لتدخل الأتراك في الحرب ضد فرنسا الكريمة وضد حلفائها الكرام , وأمرنا أحباب طريقتنا بأن يبقوا على عهد فرنسا وعلى ذمتها ومودتها. وفي سنة 1913 إجابة لطلب الوالي العام للجزائر أرسلنا بريداً إلى المقدم الكبير للطريقة التجانية في السنغال سيدي الحاج مالك عثمان ساي نأمره بأن يستعمل نفوذنا الديني الأكبر هناك في السودان لتسهيل مأمورية كلوزيل الوالي العام للجزء الشمالي من أفريقية الغربية - أي: لكي يسهل عليه إحتلال واحة شنقيط. وفي سنة 1916 إجابة لطلب المريشال ليوتي عميد فرنسا في مراكش كان سيدي علي - صاحب السجادة الرئيس الذي كان قبلي - كتب مئة وثلاث عشرة رسالة توصية , وأرسلها إلى الزعماء الكبار وأعيان المغاربة يأمرهم بإعانة فرنسا في تحصيل مرغوبها وتوسيع نفوذها وذلك بواسطة نفوذهم الديني!. . . وفي سنة 1925 في أثناء حرب الريف أرسلت أنا - حبينا - المخلص ومريد طريقتنا ومستشارنا المعتبر حسني سي أحمد بن الطالب - الذي قرأ هذه الخطبة بلسان سيده - إلى المغرب الأقصى , فقام بدعاية كبرى - وبروباغندا - واسعة في حدود منطقة الثوار , وتمكن من أخذ عناوين الرؤساء الكبار والأعيان الريفيين " والمقاديم " وأرباب النفوذ على القبائل الثائرة , وكتبنا إليهم رسائل نأمرهم فيها بالخضوع والاستسلام لفرنسا , وقد أرسلنا هذه الرسائل إلى " مقدّمنا " الأكبر في فاس , فبلغنا إلى المبعوث إليهم يداً بيد. وبالجملة فإن فرنسا ما طلبت من الطائفة التيجانية نفوذها الديني إلا وأسرعنا بكل

فرح ونشاط بتلبية طلبها وتحقيق رغائبها , وذلك كله لأجل عظمة ورفاهية وفخر حبيبتنا فرنسا " النبيلة ". والله المسؤول أن يخلد وجودها بيننا لنتمتع برضاها الخالد!. ثم ثم لما ختم خطبته هذه بالثناء العاطر على الموظفين الفرنسيين وعلى الضباط العسكريين واحداً واحداً , ومدح الوالي العام الحالي ووصفه بأنه " المستعمر الأكبر ". وما أنتهى الشيخ من خطبته حتى نهض ليوتنان كولونيل سيكوني رئيس البعثة العسكرية وشكر الشيخ وأثنى عليه , ثم قال له: " من كمال مروءتك وإحسانك يا سيدي الشيخ (المرابط) أنك لم تذكر ولا نعمة واحدة من النعم التي غمرتني بها , فأنت الذي أنجبتني من التوارق الملثمين , وأنقذتني من أيديهم. . . وهكذا جعل الكولونيل يذكر مناقب أخرى للشيخ كثيرة. ونلفت نظر القراء إلى شيئين إثنين: أحدهما: أن الرئاسة الروحية في هذه الطريقة التجانية هي موحدة في يد الخليفة , وليس لأحد منهم أن يستقل عنه. وأما الثاني: فهو أن دعاة الإصلاح الإسلامي في المغرب العربي (الجزائر تونس مراكش) هم اليوم يقفون موقفاً حرجاً جداً للغاية , فهم يحاربون , ويحاربهم دعاة الإباحية والإلحاد , وأهل الجمود والخرافات , ويقاومون في هؤلاء وهؤلاء الاستعمار الغاشم , وما فيه من قسوة وطغيان أهـ. ويقول بول أودينو: " خلال السنين الستين الأخيرة كانت التجانية تقدم لنا العون , ومنذ سنة 1911م ونحن نستغل نفوذها القوي في جنوبي الغرب وموريطانيا والريف " (¬1). ويقول روم لاندو: " وقد خبر الفرنسيون قضية الطرق الصوفية والدور الذي تلعبه مرات ومرات متعددة من قبل , وثمة وثيقتان قلّما يعرفها الناس تزوّدنا بالمعلومات الطريفة: أولاهما رسالة بعث بها قبل قرن من الزمن المارشال (بوجو) أول حاكم للجزائر , إلى شيخ ¬

(¬1) تاريخ المغرب في القرن العشرين لروم لاندو ص 143.

التيجانية ذات النفوذ الواسع , إذ أنه لولا موقفها المشبع بالعطف لكان استقرار الفرنسيين في البلاد المتفتحة حديثاً أصعب بكثير مما كان. ويقول المارشال في نهاية الرسالة: عندما تشعر بحاجة إلى شيء ما أو إلى خدمة من أي نوع كانت فما عليك إلا أن تكتب إلى مرافقي الذي سيسرّه أن يبلّغني رغباتك. ثم قال (روم لاندو): ووثيقتنا الثانية تلقى ضوءاً على طريقة الإقناع أنها إعلان بعث به خليفة التجاني الذي تلقى رسالة المارشال (بوجو) إلى أتباعه بمناسبة الحرب بين فرنسا والأمير عبد الكريم سنة 1925م يدعو فيه إخوانه إلى مؤازرة الدولة المسيحية ضد مواطنيهم من المسلمين. ويقول الشيخ التجاني محمد الكبير بن البشير في هذا الإعلان: أن فرنسا تكافئ على الخدمات التي تقدّم لها. . . وفرنسا قد انتصرت مؤخراً في حرب (1914 م - 1919م) على واحدة من أعظم دول أوربا وأقوالها. ألا ينصر سبحانه ويمنح عباده من يشاء " (¬1). وينقل عن جوليان أنه أثنى على الحكومة الفرنسية قائلاً: " لقد عرفت الحكومة الفرنسية كيف تجمع المتصوفة الذين سوّلتهم وحمتهم " (¬2). فهذه هي إحدى الطرق الصوفية المشهورة في شمال أفريقيا والغرب وبلاد المغرب العربي فصلنا القول فيها لمالها من أهمية ومكانة عند المغفلين والسذج من الناس , ولا زال كثير من الذين أعياهم العلم , وأعمالهم التعصب , وأستولى عليهم الجهل , واقعدهم الكسل والبطالة أو أكل أموال الناس بالباطل يعتنقون بها ويروجون أباطيلها وينشرون أضاليلها ويؤولون مقولاتها مبتعدين عن الحق حائرين متحيرين , ومن يضلل الله فماله من هاد. ¬

(¬1) تاريخ المغرب ص 140 , 141. (¬2) أيضاً ص 140.

الباب السادس مصطلحات الصوفية

الباب السادس مُصطَلحَات الصّوفية إن للصوفية مصطلحات تعبّر عنها ألفاظ وكلمات وتراكب , ولها معان خاصة ومطالب مخصوصة غير ما يدّل عليه ظاهر الألفاظ والكلمات أو تتضمّن هذه الكلمات والألفاظ على مدلولاتها الأصلية ولكن لها معان أعمق وأكثر من مفهومها ومدلولها الظاهر بداهة ولأول وهلة فإنها لم توضع إلا لنوع معيّن وقسم خاص من المفاهيم والمقاصد الغير المتبادر إليها الذهن , ولكل قوم ما اصطلحوا عليه , فلا يدرك أبعادها , ولا يفهم مطالبها إلا من كان له معرفة وإلمام , وعلم وإدراك بمصطلحات القوم وبما اختاروا لها من الكلمات والألفاظ هي كالألفاظ , والكلمات كالكلمات ولكن لا يفهم منها شيئاً مع معرفته باللغة التي استعملت فيها تلك الألفاظ والكلمات , وإتقانه إياها , ويستغرب ويتعجب ويضل في متاهاتها , ويتحيّر في مسالكها وصحاريها وبراريها , وما أصدق ما قاله السمعاني في هذا الخصوص نفسه كما ينقل عنه الإمام الذهبي أنه قال: " كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره , فقيه صالح ديّن خيّر , كثير الذكر , دائم الفكر , سريع الدمعة , تفقّه على المخرّمي , وصحب الشيخ حماداً الدباس , وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له , مضيناً لزيارته , فخرج وقعد بين أصحابه , وختموا القرآن , فألقى درساً ما فهمت منه شيئاً , وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس , فلعلهم فهموا لإلفهم كلامه وعبارته " (¬1). فلم يفهم منه شيئاً لأنه لم يكن له علم بمصطلحات القوم ومدلولات كلماتهم , وفي مثل ذلك قال من قال: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء القوم غير نسائها وقد أقرّ بذلك صوفي قديم نقلا عن الشبلي أنه أنشد: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 441.

علم التصوف علم لا نفاد له ... علم سنيّ سماوي ربوبيّ فيه الفوائد لأرباب يعرفها ... أهل الجزالة والصنع الخصوصي (¬1). وكثيراً ما يمر على القارئ ألفاظ لها معناها الظاهر والعادي , لكن القوم يستعملونها كاصطلاح خاص تعبيراً عن فلسفة مخصوصة وعقيدة مميّزة يؤمنون بها ويعتقدون فيها فهو لعدم معرفته لا يدرك حقيقتها فلا يصل إلى الفهم الصحيح والمعنى الحقيقي الذي يجعله مطلعاً على مذهب القوم ومشربهم , فأردنا في هذا الباب أن نذكر بعض المصطلحات التي عليها تدور رحى التصوف , وقد كثر استعمالها في كتابنا ولا بدّ لمن أراد التعرف لمذهب أهل التصوف من أن يعرفها والمفاهيم التي وضعت لأجلها , وآنذاك يصل إلى الكنه والمغذي والمقصود والمطلوب. ولقد كثر استعمال مصطلحات " الحقيقة المحمدية " و " القطب " و " الأبدال " و " الأوتاد " وغيرها فهذه قد مرّ بيانها في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " تحت عناوين مختلفة , فلا فائدة لتكرار ما ذكر هناك , ونذكر الأشياء التي بقى توضيحها وكشف مفاهيمها ومدلولاتها , وقد كثر ورودها في كتابنا وكتب الصوفية , فمنها: " الغيبة " , وهي عندهم: " أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها " (¬2). ويقول القشيري والكمشخانوي: " هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق بما يرد عليه , ثم قد يغيب عن غيره فقط , وقد يغيب عن غيره وعن نفسه أيضاً إذا عظم الوارد " (¬3). وينشد الكمشخانوي: ¬

(¬1) التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر محمد الكلاباذي ص 106 ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1980م. (¬2) التعرف لمذهب أهل التصوف ص 140. (¬3) الرسالة القشيرية ج 1 ص 232 , أيضاً جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 254.

أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده ... ويفرح بالتيه الدنيّ وبالأنس فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي وكنت بلا حال مع الله واقفاً ... خليّاً عن التذكار للجن والأنس (¬1). ويقول الهجويري: " المراد من الغيبة غيبة القلب عما دون الحق إلى حدّ أن يغيب عن نفسه , حتى أنه بغيبته عن نفسه لا يرى نفسه " (¬2). وبمثل ذلك قال الطوسي (¬3). وينقل الدكتور عبد الحليم محمود عن سيده أحمد الدردير أنه قال مبيناً حالة غيبته عن نفسه: " حتى لو تكلّم الناس وأنا معهم بكلام وخاطبوني به لا أدري ما قالوا , وهم لا يعلمون مني هذا الحال , لأني صورتي الظاهرية صورة العاقل الصاحي , وهذا أمر عجيب لا يعرفه إلاّ من ذاقه " (¬4). فمعنى الغيبة عند الصوفية هو أن يغيب الإنسان عن فكرة وذهنه ووجوده لا يدري ما يقع في الكون ولا يفهم كلام الناس , فظاهره معهم , وباطنه غائب عنهم , وهذا مقام سنيّ عندهم يحوزه كبار أوليائهم ومشايخهم , فيحكون عن ذي النون المصري أنه: " بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد , لينقل إليه صفة أبي يزيد. فلما جاء الرجل إلى بسطام سأل عن دار أبي يزيد: ماذا تريد؟ فقال: أريد أبا يزيد. فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد. فخرج الرجل , وقال: هذا مجنون. ورجع الرجل إلى ذي النون فأخبره بما شاهد , فبكى ذو النون وقال , أخي أبو يزيد ¬

(¬1) جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 125. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 489. (¬3) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 416. (¬4) سيدي أحمد الدردير للدكتور عبد الحليم محمود ص 77 ط دار الكتب الحديثة القاهرة.

ذهب في الذاهبين إلى الله (¬1). ومثل ذلك حكى ابن عجيبة عن الشبلي أنه قال له رجل: أين الشبلي؟ قال: مات , لا رحمه الله (¬2). فهذه هي الغيبة الصوفية , يقولون: أن الإنسان ليستغرق في ذكر الله تعالى ومحبته حتى أنه ينسى نفسه , والمعلوم شرعاً وعقلاً أن ذكر الله عز وجل لا يستجلب هذا النوع من الجنون والهذيان , بل يثمر الراحة والاطئنان والسكينة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (¬3). فنسيان الكون والنفس وذهاب العقل والفهم أمر مذموم , وليس شيئاً محموداً حتى يكون من ثمرات ذكر الله تعالى ومحبته , بل أنها أذواق شيطانية لا تقرها الشريعة الإسلامية. هذا ويذكر القشيري صوفياً غاب فكره وذهنه وعقله وفهمه , وهو أبو علي الدقاق , فيحكي عن أبي نصر المؤذن بنيسابور أنه قال: " كنت أقرأ القرآن في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق بنيسابور , وقت كونه هناك وكان يتكلم في الحج كثيراً , فأثر في قلبي كلامه , فخرجت إلى الحج تلك السنة , وتركت الحانوت والحرفة , وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله خرج إلى الحج أيضاً في تلك السنة , وكنت مدة كونه بنيسابور أخدمه وأواظب على القراءة في مجلسه , فرأيته يوماً في البادية: تطهر ونسي قمقمة كانت بيده , فحملتها , فلما عاد إلى رحلة وضعتها عنده , فقال: جزاك الله خيراً. حيث حملت هذا. ثم نظر إليَ طويلاً كأنه لم يرني قطَ , وقال: رأيتك مرة. فمن أنت؟ فقلت: المستغاث بالله , صحبتك مدة , وخرجت من مسكني ومالي بسببك , ¬

(¬1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234 , 235 , كشف المحجوب للهجويري ص 490 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 308 , مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 103 , ترصيع الجواهر المكية ص 42. (¬2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 308 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. (¬3) سورة الرعد الآية 28.

وتقطعت في المفازة بك , والساعة تقول: رأيتك مرة " (¬1). وذلك لأنه كان غائباً عن نفسه: وحكى عن أبي عقال أنه " دخل عليه بعض الفقراء فقال له: سلام عليكم. فقال له أبو عقال: وعليكم السلام , فقال الرجل: أنا فلان فقال أبو عقال: أنت فلان , كيف أنت؟ وكيف حالك؟ وغاب عن حالته. قال هذا الرجل , فقلت له: سلام عليكم. فقال: وعليكم السلام , وكأنه لم يرني قط. ففعلت مثل هذا غير مرة , فعلمت أن الرجل غائب فتركته , وخرجت من عنده (¬2). وحكاية أخرى حكاها كل من القشيري وابن الملقن وعماد الدين الأموي , وتبيَن حقيقة هذا المصطلح , فينقلون عن الجنيد أنه: " كان قاعداً , وعنده أمرأته , فدخل عليه الشبلي , فأرادت أمرأته أن تستتر , فقال لها الجنيد: لا خبر للشبلي عنك , فاقعدي. فلم يزل يكلَمه الجنيد , حتى بكى الشبلي , فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته: أستتري , فقد أفاق الشبلي من غيبته (¬3). هذا بالنسبة لغيبة الصوفي عن ذهنه وفكره ووجوده , وأما غيبته هو عن الخلق ووصوله إلى الله كما يدَعون , فيروي الأموي " أن الحسن رحمه الله أختفى عند حبيب العجمي من الحجاج , فسعى به , فدخل عليه الشرط , فقالوا: أين الحسن؟ قيل لنا إن الحسن عندك فقال: هل ترون شيئاً؟ ففتشوا الدار كلها وخرجوا وهم لا يرونه , لأنه كان عند الله فلم يروه " (¬4). فهذه هي أقاويل المتصوفة في " الغيبة " إحدى مصطلحاتهم. ¬

(¬1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234. (¬2) أيضاً ص 221. (¬3) أنظر الرسالة القشيرية ج 1 ص 233 , أيضاً طبقات الأولياء لابن الملقن 211 , أيضاً حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 273 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ط دار صادر بيروت. (¬4) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 69 بهامش قوت القلوب.

ومثلها " السكر " كما يقولون: " السكر هو أن يغيب الإنسان عن تمييز الأشياء " (¬1). ويقول شهاب الدين يحيى السهروردي المقتول: " السكر سانح قدسي للنفس يؤدي إلى إبطال النظام عن الحركات " (¬2). ويذكره المنوفي الحسيني بقوله: " السكر غيبة بوارد شهود الخلق " (¬3). ويقول: روزبهان: " السكر هو كثرة شرب أقداح حسن التجلََي " (¬4). ويقول الطوسي: " السكر معناها قريب من معنى الغيبة غير أن السكر أقوى من الغيبة " (¬5). وقريباً من معنى اصطلاح الغيبة والسكر " المحو " كما يقول الكمشخانوي: " إذا غلب عليه (الصوفي) المحو فلا علم ولا عقل فهم ولا حسّ كما روى مسنداً أن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين ولم يأكل ولم يشرب إلى أن مات , وكان يسلَم عليه خاص أصحابه فلم يعرَفه نفسه , ثم يغيب عنه الشيخ حتى لو عاوده بالكلام لم يعرفه الشيخ , ومنهم من يعود إلى حال أداء الفرض فقط " (¬6). ومثل ذلك ذكروا عن أبي عبد الله التروغندي أنه " ما كان يفيق إلا في أوقات الصلاة , يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته , فلم كذلك إلى أن مات " (¬7). ومنها " الصولة ": وهي أن لا يرى أحد إلا الله (¬8). ¬

(¬1) التعرف إلأى مذهب اهل التصوف للكلاباذي ص 138. (¬2) كلمة التصوف للسهروردي ضمن رسالة أز شيخ إشراق فصل في شرح بعض مصطلحات الصوفية ص 125 ط مؤسسة انتشارات إسلامي لاهور باكستان. (¬3) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 1 ص 304. (¬4) شرح الحجب والأستار لروزبهان ص 19. (¬5) كتاب اللمع للطوسي ص 416. (¬6) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 126. (¬7) الرسالة القشيرية ج 1 ص 321. (¬8) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 274.

وأما " الحضور " و " الصحو " فهما: " رجوع الصوفي إلى الإحساس بعد غيبة عقله وإحساسه " (¬1). ويذكر الهجويري أن داود عليه السلام رأى أمرأة أوريا في حالة السكر فيقول: " وقع نظر داود عليه السلام على ما لم يكن ينبغي له أن ينظر إليه أي على أمرأة أوريا وكان ذلك في حالة السكر , أما نظر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أمرأة زيد فكانت تلك النظرة في محل الصحوة " (¬2). ومن المصطلحات الصوفية " الجمع " وهو: " شهود الحق بلا خلق , وجمع الجمع شهود الخلق قائماً بالحق , ويسمى الفرق بعد الجمع " (¬3). ويصرح القشيري " جمع الجمع: الإستهلاك بالكلية , وفناء الإحساس بما سوى الله عز وجل عند غلبات الحقيقة. . . فالعبد يطالع نفسه في هذه الحالة في تصريف الحق سبحانه , يشهد مبدئ ذاته وعينه بقدرته , ومجري أفعاله وأحواله عليه بعلمه ومشيئته " (¬4). ويقول روزبهان: " الجمع هو ظهور التجلي في الروح " (¬5). وقد جمع هذه المصطلحات الصوفية كلها عطاء الله الأسكندري في حمه حيث قال: " وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق , وفني عن الأسباب بشهود مسبَب الأسباب , فهو عبد مواجه بالحقيقة , ظاهر عليه سناها , سالك للطريقة , قد استولى على مداها , غير أنه غريق الأنوار , مطموس الآثار , قد غاب سكره على صحوه , ¬

(¬1) أنظر اللمع للطوسي ص 416 , كشف المحجوب ص 490 , جامع الأصول ص 229 , كلمة التصوف للسهروردي ص 125 , جمهرة ص 305. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 414 ط دار النهضة العربية بيروت. (¬3) اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري ص 41 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981م , أيضاً متممات جامع الأصول في الأولياء ص 80 , أيضاً جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ص 302. (¬4) الرسالة القشيرية ج 1 ص 225 , 226. (¬5) شرح الحجب والأستار لروزبهان.

وجمعه على فرقه , وفناؤه على بقائه , وغيبته على حضوره " (¬1). ويشرح النفزي الرندي هذه العبارة بقوله: " هذا هو حال الخاصة من أرباب الحقائق , وهم الذين غابوا عن (شهود) الخلق بشهود الملك الحق , فلم يقع لهم شعور بهم , ولا التفات إليهم , وفنوا عن الأسباب برؤية مسبب الأسباب , فلم يروا لها فعلاً ولا جَعْلاً , فهم مُواجهون بحقيقة الحق ظاهر عليهم سناها , أي: نورها وضياؤها , سالكون طريقة الحق , قد استولوا على مداها , أي: وصلوا إلى غايتها ومنتهاها , إلاّ أنهم غرقوا في بحار أنوار التوحيد , مطموس عليهم آثار الوسايط والعبيد , أي: مغلق عليهم رؤية ذلك والشعور به قد غلب سكرهم , وهو: عدم إحساسهم بالأغيار , على صحوحهم , وهو: وجود إحساسهم بها , وجمعُهم , وهو ثبوتُ وجود الحق فرداً , على فرقهم وهو ثبوت وجود الخلق , وفنائهم , وهو: استهلاكهم في شهود الحق على بقائهم وهو شعورهم بالخلق , وغيبتهم وهو ذهاب أحوال الخلق عن نظرهم على حضورهم مع الخلق. ومعاني هذه الألفاظ , كما تراها , متقاربة , وهي ألفاظ تداولها الصوفية المحققون بينهم وعبّروها بها في كتبهم , ووضعوها على معان اختصوا بفهمها , ليتعرّف بعضهم من بعض ما يتخاطبون به , ولهم ألفاظ كثيرة غيرها " (¬2). ولعلّ معنى اصطلاح " الجمع " يتضح أكثر بنصّ الهجويري حيث يقول: " الجمع هو أن يصير كل المحبّ كل المحبوب. . . وهو أن يكون العبد في الحكم والهاً ومدهوشاً ويكون حكمه حكم المجانين. . . ويقول واحد من المشايخ رحمه الله: جاء درويش إلى مكة وأقام سنة في مشاهدة الكعبة , فلم يطعم ولم يشرب ولم ينم ولم يذهب للطهارة , لا جتماع همّته برؤية البيت , لأن الله تعالى قد أضافه إلى نفسه فصار غذاء جسده ومشرب روحه. . . ¬

(¬1) الحكم العطائية لتاج الدين بن عطاء الأسكندري ص 208 ضمن غيث المواهب العلية. (¬2) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 208 , 209 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط مطبعة السعادة القاهرة 1380هـ.

ومثل جمع همه المجنون في ليلى لأنه حينما لم يكن يراها كان كل العالم وكل الموجودات عنده صورة ليلى " (¬1). وكثيراً ما يذكر الصوفية عند بيان مصطلحاتهم العشق الغزلي والحب الطبيعي , ويشبهون الله عز وجل بمعشوق مجازي ويحملون وصفه سبحانه وتعالى على ليلى وغيرها , ثم يحاولون ربط العلاقة بين الحبين , سنذكر هذا المبدأ مفصلاً في هذا الباب إن شاء الله. وعلى كلّ فإن الصوفية تكلّموا وراء ستار هذه المصطلحات والكلمات في موضوعات لا تمتّ إلأى الإسلام بصلة , وأعتقدوا بالحلول والاتحاد , والوصول والاتصال. وقد استغرب المسلمون عقائدهم وأفكارهم هذه. فما يدّل على اعتقاد الصوفية بحلول ذات الله تعالى في العبد اصطلاحهم " الفناء " , وهو من أهمّ المصطلحات التي يقوم عليها مذهبهم وتتأسس عليها ديانتهم. والفناء عند المتصوفة: فناء ذات العبد في ذات الرب , فتزول الصفات البشرية في هذا المقام , وتبقى الصفات الإلهية , وتفنى جهة العبد البشرية في الجهة الربانية فيكون العبد والرب شيئاً واحداً - والعياذ بالله -. فيصرح داود بن محمود القيصري: " المراد من الفناء فناء جهة العبد البشرية في الجهة الربانية إذ لكل عبد جهة من الحضرة الإلهية. . . وهذا الفناء موجب لأن يتعين العبد بتعينات حقانية وصفات ربانية " (¬2). ويقول النفزي الرندي: " فناء الذات: أي لا موجود على الإطلاق إلا لله تعالى , وأنشدوا في ذلك: فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاء " (¬3). ¬

(¬1) كشف المحجوب للهجويري ص 498 , 499. (¬2) مقدمة شرح الفصوص للقيصري مخطوط نقلاً عن ملحقات ختم الأولياء للحكيم الترمذي ص 491 ط بيروت. (¬3) غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية للنفزي الرندي ج 1 ص 99.

ويعتبر فريد الدين العطار فناء السالك في الله كفناء القطرة في البحر (¬1). ويقول ابن الدباغ: " وأعلم أن المحب ما لم يصل إلى مقام الاتحاد لا تنقطع الحجب التي بينه وبين محبوبه , فإنها كثيرة لكن بعضها ألطف وأشدّ نورانية من بعض , وكلّما كشف له منها حجاب تاقت النفس إلى كشف ما بعده حتى تزول جميعها عند الاتحاد " (¬2). ويصرح أيضاً عقيدة اتصال الصوفي بالله تعالى , بقوله: " وأعلم أن كل من أحب ذاتاً ما محبة كاملة خالصة , وأراد الاتصال بتلك الذات لا يمكنه ذلك إلا بخلع ما سواها وترك الإحساس به , فإذا صحّ له هذا مع صحة التوجه فقد وصل إلى مطلوب من الاتصال , ولا مانع من الاتصال بالحق مع حصول معرفته إلا بالشعور بما سواه , ومن تجرّد عن بدنه واطّرحه ناحية وفني عن شعوره بذلك فقد اتصل بالحق , لأن بدن الإنسان أقرب العالم المحسوس إليه , فإذا فني عنه فقد فني عن العالم كله , وهذا هو الوصول , ومن صار له هذا الانسلاخ ملكة بحيث يفعله متى شاء فهو الواصل على الحقيقة لتمكنه من مقام شهود الحق " (¬3). ويقولون: أن الله يتجلّى على العبد في هذا المقام , كما يذكر ذلك السهروردي في عوارفه بقوله: " أما الفناء الباطن فهو محو آثار الوجود عند لمعان نور الشهود , يكون في تجلّي الذات , وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا " (¬4). وقال: " قد يكون التجلّي بطريق الأفعال , وقد يكون بطريق الصفات , وقد يكون بطريق الذات " (¬5). ويكتب ظهير الدين القادري: " الفناء هو أن يطالع الحق سرّ وليه بأدنى تجلّ , ¬

(¬1) أنظر منطق الطير لفريد الدين العطار المقالة الرابعة والأربعون ص 404 ط دار الأندلس بيروت. (¬2) مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب ص 68 تحقيق المستشرق هـ. ريتر ط دار صادر بيروت 1379هـ. (¬3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 94. (¬4) عوارف المعارف للسهروردي ص 154. (¬5) أيضاً 526.

فيتلاشى الكون ويفنى الولي تحت تلك الإشارة " (¬1). ويقول ابن عجيبة: " إن القلوب إذا صفت الأكدار والأغيار , وملئت بالأنوار والأسرار لا يتجلّى فيها إلا الحق " (¬2). وينقل الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه كان يقول: " إذا ما تجلّى الحق من غيب ذاته ... تلاشى وجود الغير حقاً بلا شكّ " (¬3). ويقول المنوفي الحسيني شارحاً " الصدق ": " هو الفناء في الحق بالتجلّي الذاتي " (¬4). ويبين القاشاني معنى التجلّي الشهودي بقوله: " هو ظهور الوجود المسمى بإسم النور وهو ظهور الحق بصور أسمائه في الأكوان التي هي صورها , وذلك الظهور هو النفس الرحماني الذي يوجد به الكل ّ " (¬5). ويقول مصطفى ابن الحسين الصادقي بأن العارف يذكر الله تعالى ويصقل قلبه " حتى صار بحيث إذا تجلّى له المحبوب لم ير في تلك المرآة إلا وجهه الكريم وهو قد اضمحلّ بجنب ذاك الجمال , وانمحق تحت أنوار الجلال , ولم يبق منه أثر ولا خبر بل استولى عليه الربّ سبحانه , فصار سمعه الذي به يسمع , وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش , فتجلّى الحق سبحانه حينئذ بذاته لذاته , وكان محباً لذاته بذاته جاز إطلاق إسم المحبوب على ذلك العبد " (¬6). ويقول الوزير لسان الدين بن لخطيب: (أي النفس) " فإذا جازت هذا المقام وهو فناء , وعدم منها الخلق بالكلية , وتجلّى لها الحق ¬

(¬1) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 38 ط ... المطبعة الخيرية مصر 1306 هـ. (¬2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 27. (¬3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71. (¬4) جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج 1 ص 305. (¬5) اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص 156. (¬6) المنهج الموصول إلى الطريقة الأنهج لمصطفى بن الحسين الصادقي مخطوط ص 8 , 9.

فشهدته موصوفاً بالصفة التي تليق به , فحينئذ يصح الوصول " (¬1). وإليكم الآن ما قاله الجيلي عبد الكريم موضحاً معنى التجلي: " التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على اقتضاه القانون الخلقي التشبيهي " (¬2). وأصرح من ذلك ماقاله في مقام آخر: " إن االعبد إذا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يتجلّى عليه بإسم أو صفة , فإنه يفنى العبد فناء يعدمه عن نفسه , ويسلبه عن وجوده , فإذا طمس النور العبدي وفني الروح الخلقي أقام الحق سبحانه وتعالى في الهيكل العبدي " (¬3). ويقول: " الإنسان الكامل هو مظهره الأكمل وجلاه ألأفضل " (¬4). فليشاهد القارئ كيف أبدل الصوفية الحلول بكلمة " التجلي " , والحق أن التجلي الصوفي ليس إلا الحلول المسيحي. ويستغرب الباحث حينما يجد الصوفية يبّرؤن أنفسهم عن الاعتقاد بالحلول , ومع هذه التصريحات والتوضيحات التي لا تترك مجالاً للريب والشك في هذا الخصوص. ومقام الفناء - على حد تعبيرهم - هو الذي ادعى فيه كثير من مشايخ الصوفية الحلول والاتحاد حسب روايات المتصوفية كما نقلوا عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يقول: " سبحاني ما أعظم شأني " (¬5). فيقولون: أن قائل هذه الكلمة ليس أبا يزيد بل الله سبحانه وتعالى هو الذي قال بها كما صرح بذلك القشيري في رسالته حيث قال: " قال أبو يزيد: سبحاني , ما قال إلا الحق " (¬6). ¬

(¬1) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 464 ط دار الفكر العربي. (¬2) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 49 ط مصطفى البابي الطبعة الرابعة 1402 هـ. (¬3) أيضاً ص 67. (¬4) أيضاً ج 2 ص 17. (¬5) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 75 , رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 73 , فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 36 , درر الغواص للشعراني ص 85 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 204 , جمهرة الأولياء ج 1 ص 234. (¬6) ترتيب السلوك للقشيري ص 73 من مجموعة الرسائل القشيرية ط إسلام آباد باكستان.

ويقول نجم الدين الكبري: " تتجلّى سبحات وجهه الكريم ويجري على لسان السيار (الصوفي) بحكم الاضطرار: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني " (¬1). لماذا هذا التستر وراء كلمة " التجلي " ولم يصرحون ويقولون " تحلّ " وما التجلّي غير الحلول باختلاف لفظي والمعنى واحد. ونقل عن البسطامي أيضاً الهجويري يرى أنه كان يوماً في الصومعة , فجاءه رجل وقال: هل أبو يزيد في البيت؟ فقال: هل في البيت إلا الله (¬2). ونقلوا عنه أنه قال: " ما في الجبة غير الله " (¬3). وذكر الوزير لسان الدين عنه أيضاً أنه قال: " قال لي الحق: يا أبا يزيد , كل هؤلاء خلقي إلا أنت , أنت أنا , وأنا أنت " (¬4). وقال أيضاً: " رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد , إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيّني بوحدانيتك , وألبسني أنانيتك , وأرفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك , فتكون أنت ذاك , ولا أكون أنا هنا " (¬5). فهذا النص صريح في معناه , جليّ في محتواه , يدلّ على اتحاد اللاهوت بالناسوت , فالعجب ممن يؤولون مثل هذه النصوص يتأويلات سخيفة لتبرئة ساحة المتصوفة ويسمونها شطحات ويقولون: " لاعبرة بها لأن حكم أصحابها المغميّ عليهم " (¬6). مع أن هذه العبارات ومثلها تقضي خروج أصحابها عن الدين , وأنها ضلال عن قصد السبيل , ونتيجة للاشتغال بالفلسفات الاشراقية وغيرها وإلاّ فلم لم تصدر ¬

(¬1) فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 55. (¬2) كشف المحجوب للهجويري ص 499. (¬3) أنظر جمهرة الأولياء ع للمنوفي الحسيني ص 234. (¬4) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 353. (¬5) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 461. (¬6) أنظر حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2ص 373 بهامش قوت القلوب.

هذه العبارات من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهم أعبد الناس وأخشاهم لله. وإن الله يحفظ وليه من التفوه بهذه الكلمات الكفرية , والشيطان هو الذي يتكلّم على ألسنتهم ويستولي على أذهانهم وقلوبهم. أعاذ الله جميع المسلمين من ذلك. هذا وقد نقل الفيتوري عن أبي راوي الفحل أنه كان يقول: " لا إله غيري , ولا معبود سواي إلى أن سمع به علماء أفريقية فأنكروا عليه , وأفتوا بتكفيره ففرّ منهم " (¬1). ومن المعلوم أن أقوال الصوفية هذه ناتجة عن فكرة الفناء , فالصوفية يدّعون الألوهية لاعتقادهم بالحلول والاتحاد عند وصولهم إلى الله وفنائهم فيه حسب ما يزعمون. فيقول الوزير لسان الدين بن الخطيب: " ثم يفنى بعد ذلك الفناء الثاني. . . وكثير من الطوائف تدعي الحلول والاتحاد والكل متفقون على أنه لا يبقى في ذلك المقام إلا الله " (¬2). وينقل الشعراني عن أبي مدين المغربي أنه كان يقول: " إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره " (¬3). ويقول محمد القونوي: " الإنسان الكامل مجلى تام للحق , يظهر الحق به من حيث ذاته " (¬4). وينسبون إلى الجيلاني أنه قال: " قال لي الله: يا غوث الأعظم , ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان " (¬5). وأما أمر الحلاج وأقواله وأشعاره في هذا الخصوص فهي معروفة مشهورة نذكر بعضاً منها ونعرض عن الباقي لأننا نريد أن نفرد له ولأمثاله من ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والرومي وغيرهم كتاباً مستقلاً إن شاء الله , فمنها ¬

(¬1) الوصية الكبرى لعبد السلام الفيتوري ص 81. (¬2) روضة التعريف للوزير لسان الدين ص 511. (¬3) طبقات الشعراني ج 1 ص 154. (¬4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 42. (¬5) مقدمة مقصود المؤمنون لبايزيد الأنصاري تقديم الصوفي الدكتور مير ولي خان ص 106 ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكسنان 1396هـ.

أنه سئل: من أنت؟ قال: أنا الحق (¬1). ومن أشعاره المشهورة: " سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته ... الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهراَ ... في صورة الأكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب " (¬2). وأيضاً: " رأيت ربي بعين قلبي ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت ففي بقائي ولا بقائي ... وفي فنائي وجدت أنت أشار سري إليك حتى ... فنيت عني ودمت أنت " (¬3). ومما يدلّ على جرأة المتصوفة على الكذب ونسبه القول إلى غير قائله أن ابن عجيبه الحسني نسب في إيقاظه نفس هذه الأبيات التي قالها الحلاج , نسبها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: " ومما ينسب لسيدنا علي كرم الله وجهه: رأيت ربي بعين قلبي. . . إلخ " (¬4). ويقول الحلاج أيضاً: فأنا الحق حق للحق حق ... لا بس ذاته فما ثمّ فرق (¬5). ومن أبياته المشهورة كذلك: " أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا روحه روحي وروحي روحه ... من رأى روحين حلّت بدنا " (¬6). ¬

(¬1) أنظر مكاشفة القلوب للغزالي ص 26 ط الشعب القاهرة , أيضاً عوارف المعارف للسهروردي 79. (¬2) ديوان الحلاج الطبعة الثانية بغداد 1404 هـ. (¬3) ديوان الحلاج ص 37. (¬4) أنظر إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 58 , 59. (¬5) أيضاً ص 67. (¬6) أيضاً ص 77 , 78.

هذا بالنسبة للحلول والاتحاد , والوصول والاتصال , الذي يسمونه بوحدة الشهود أيضاً. وأما " وحدة الوجود " فسنذكر عقيدة الصوفية هذه بالتفصيل إن شاء الله عند ذكر ابن عربي وأفكاره في الكتاب المستقبل إن شاء الله , ولكننا نذكر هنا ملخصاً وإجمالاً. فيعتقد كثير من الصوفية بأنه ليس هناك فرق بين الله وخلقه إلا أن الله تعالى كلّ , والخلق جزؤه , وأن الله متجلّ في كل شيء من الكون حتى الكلاب والخنازير , فالكل مظاهره , وما في الوجود إلا الله , فهو الظاهر في الكون , والكون مظهره. فيقول ابن عربي: " فلا مظهر له إلا نحن , ولا ظهور لنا إلا به , فبه عرفنا أنفسنا وعرفناه , وبنا تحقق عين ما يستحق الإله: فلولاه لما كنا ... ولولا نحن ما كانا فإن قلنا بأنا " هو" يكون الحق إيانا فبدانا ... وأخفاه ... وأبداه ... وأخفانا فكان الحق أكوانا وكنا نحن ... أعيانا فيظهرنا ... لنظهر سراراً ثم أعلانا ويقول أيضاً: " فالكل أسماء الله , أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته , فما في الوجود إلا الله , والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها " (¬1). ويقول: " فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده ةمن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات , فكما لا يزول عنه باختلاف الصور إسم الظل كذلك لا يزول باختلاف الصور إسم العالم أو إسم سوى الحق " (¬2). ¬

(¬1) أيضاً ص 53. (¬2) فصوص الحكم لابن عربي ص 103 ط دار الكتاب العربي بيروت.

وأيضاً " أسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك , وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره " (¬1). ويقول: " يا محجوب لم لم تروجه الحق في كل شيء , في ظلمة ونور , مركب بسيط وولطيف وكثيف " (¬2). ونصوص أخرى كثيرة له لم نذكرها تجنباً عن الإطالة ز هذا ويقول حيدر الآملي: " ليس في الوجود سوى الله " (¬3). ونقل روزبهان بقلي شيرازي عن الشبلي أنه قال: " ليس هناك غير الله " (¬4). ونقل ابن عجيبة الحسني عن ابن وفا أنه قال: " جميع العالمين له ظلال " (¬5). ويقول: " ولا شيء في الكون سواه " (¬6). وأيضاً: " فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق " (¬7). ويقول ابن عطاء الأسكندري: " كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء إذ هو المتجلي فيها بمحاسن صفاته وأسمائه " (¬8). ويقول النفزي الرندي: " لا موجود سوى الله تعالى على التحقيق , وإن وجود ما سواه إنما هو وهم مجرّد " (¬9). ¬

(¬1) أيضاً ص 106. (¬2) ذخائر الأعلاق لابن عجيبة ص 78 ط مطبعة السعادة القاهرة. (¬3) كتاب نص النصوص لحدير الآملي مخطوط نقلا عن ملحقات ختم الأولياء ع ص 506 ط بيروت. (¬4) شرح شطحيات ص 278 ط طهران 1360 هـ. (¬5) إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 254. (¬6) أيضاً ص 272. (¬7) إيقاظ الهمم ص 56. (¬8) الحكم العطائية لابن عطاء الله الأسكندري متن غيث المواهب العلية ج 1 ص 100. (¬9) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 323.

والوزير لسان الدين بن الخطيب يذكر وحدة الوجود بقوله: " قال بعض كبارنا: أن الحق عين ما ظهر , وعين ما بطن , ويرون (أي الصوفية) أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة , ووجود الإثنينية وهم , باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الظلال , والصدا , وصور المرائي (جمع مرآة) , وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم , كان الله ولا شيء معه " (¬1). وأيضاً " فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره وما فيه واحداً , وذلك الواحد هو الحق , وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل , فإذا سقط الباطل وهو اللازم بالأوهام لم يبق إلا الحق. . . فالكل واحد , وإن كان متفرقاً , فسبحان من هو الكل ولا شيء سواه " (¬2). ويشرح فلسفة وحدة الوجود بايزيد الأنصاري قائلاً: " إن الموجودات واحدة مع ذات المعبود. . . قال الشاعر: ها أنا أم أنت هذان الإلهان حاشاك حاشاك عن إثبات الاثنين لإاين ذاتك حيث كنت أرى قد بان ذاتي حيث لا أنا كما قيل: من أثبت الله نفى النفس , ومن أثبت النفس نفى الله. . . والموحّد لا يشرك وجود مع ذات المعبود حتى لا يصير مشركاً (¬3). فالشرك عندهم إثبات الأثنين إذ لا إثنينية عندهم. وبذلك قال فخر الدين العراقي المتوفى 688 هـ: " أأنت أم أنا هذا العين في العين ... حاشاي حاشاي من إثبات إثنين " (¬4). ويقول أيضاً: ¬

(¬1) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 499. (¬2) أيضاً ص 603. (¬3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 235 وما بعد ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان. (¬4) لمعات ص 56 الطبعة الأولى انتشارات مولى إيران.

" وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت أعددت المرايا تعدداً " (¬1). يعني لا وجود سوى وجه الله والعالم كله عكس لذات الله ووجهه. ويقول النسفي: " إن الله هو الموجود حقيقة , والعالم كله خيال ووهم " (¬2). ويقول الصوفي الشيعي محمد كاظم عصار: " أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله , وأن الحق تعالى أوجد العبادة في العباد , فهو في الحقيقة يعتبر معبوداً وعابداً وموجداً للعبادة , وحامداً وخالقاً للحمد ومحموداً " (¬3). ويقول محمد القونوي: " إن الوسائط السببية ليست غير تعيّنات الحق في المراتب الإلهية والكونية على إختلاف ضروبها. . . من حيث أن ظاهر الحق مجلي لباطنه " (¬4). ويقول: " إن الله هو عين الظاهر وعين المظهر " (¬5). وأما ابن الفارض فيقول: " لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلّت كلانا مصلّ ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعتي " (¬6). وأيضاَ: " فبي موقفي لا , بل إليّ توجهي ... كذلك صلاتي لي , ومني كعبتي " (¬7). ¬

(¬1) أيضا ص 50. (¬2) زبدة الحقائق للنسفي ص 82 ط كتابخانه طهوري إيران 1405هـ هجري قمري. (¬3) رسالة وحدة الوجود لمحمد كاظم عصار ضمن ثلاث رسائل في الحكمة الإسلامية ترجمة صلاح الصادي ص 16 ط المطبعة المرتضوية إيران. (¬4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 37 ط نشردانشكا هي إيران 1362 هجري قمري. (¬5) أيضاً ً ص 57. (¬6) نقلاً عن مصرع التصوف للبقاعي المتوفى 885 هـ. تحقيق عبد الرحمن الوكيل ص 64 ط دار الكتب العلمية بيروت. (¬7) أنزر مصرع التصوف للعلامة البقاعي ص 73.

وأيضاً: " إليّ رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي عليّ أستدلّت " (¬1). يعني أنه هو المرسل , والرسول , والمرسل إليه. فالحاصل أن الصوفية يعتقدون أن العالم كله ظل وعكس لذات الله تعالى , فهل في الوجود إلا الله , والإنس والجن , والشجر والحجر , والدود والدواب , والطيور والسباع , والكلاب والخنازير صور مختلفة للتجلي الإلهي , فكل شيء من العالمين إله عند الصوفية , وعلى ذلك نقل الطوسي عن أبي حمزة الصوفي أنه كان إذا سمع صوتاً مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور فكان يصيح ويقول: لبيك (¬2). ونقل عن أبي الحسين النوري أنه سمع نباح الكلاب فقال: لبيك وسعديك (¬3). وأما تجلّيه سبحانه وتعالى وظهوره في القرود والخنازير - عياذاً بالله من نقل الكفر الصوفي البواح - فهو كما ذكر ابن عجيبة الحسني حيث نقل عن الششتري أنه قال: " محبوبي قد عمّ الوجود , وقد ظهر في بيض وسود , وفي النصارى مع اليهود , وفي الخنازير مع القرود , وفي الحروف مع النقط , أفهمني قط , أفهمني قط " (¬4). ونقل البقاعي عن بعض أهل العلم أنه " رأى شخصاً ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الأسكندرية , وأن ذلك الشخص قال له: أن الله تعالى هو عين كل شيء , فمرّ بهما حمار , فقال: وهذا الحمار؟ فقال: (أي الصوفي): وهذا الحمار. فقال: وروث الحمار؟ فقال: وروث الحمار. نسأل الله السلامة والتوفيق " (¬5). ويقول عبد الرحمن الوكيل محقق " مصرع التصوف ": ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 495. (¬2) أيضاً ص 492. (¬3) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 55. (¬4) مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي ص 123. (¬5) هامش مصرع التصوف للوكيل ص 123.

" ذكر الإمام ابن تيمية الصدوق مثل هذه القصة , فقال: مرّ شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا (وأشار إلأى جثة الكلب الأجرب) أيضاً هو ذات الله؟ فقال: وهل ثمّ شيء خارج عنها؟ نعم: الجميع ذاته. وليس هذا بمستغرب ممن يدينون بأن الله سبحانه وتعالى عين كل شيء , فالروث شيء , وحسب الصوفية أن تكون هذه بعض أربابهم وآلهتهم " (¬1). وقال في مقدمة كتاب " مصرع التصوف ": " إن الصوفية ينشدون " وما الكلب والخنزير إلا إلهنا " (¬2). هذا وإن الصوفية يعتقدون أن الشيطان أيضاً صورة لذات الله , تجلّت الذات الإلهية فيه , كما ذكر ذلك بايزيد الأنصاري: " فالشيطان صورة تجلّى فيها بصفة الإضلال والإغواء " (¬3). وبناء على هذه المعتقدات الكفرية الضالة وهذه الأباطيل الشركية الزائغة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كفر القائلين بالاتحاد أعظم من كفر النصارى ". وقبل أن نتكلم عن الفكرة الباطلة الأخرى , فكرة وحدة الأديان نريد أن نبحث فكرة خبيثة نتجت عن " وحدة الوجود " , وهي: أن الصوفية قد عشقوا الصور الجميلة لاعتقادهم أنها مظاهر الحق , فتصوف وحدة الوجود دعوة إلى خلاعة ماجنة وإلى حبّ الشهوات الرذيلة , حيث جعلوا العشق الطبيعي سلّماً للحب الإلهي , وحاكوا في كتبهم الحكايات الغزلية والأساطير العشقية , وجعلوا مجنون ليلى قدوة لهم في حبّهم لله تعالى. فيقول ابن عربي: ... " الجمال محبوب لذاته , فالعالم كله محب لله وجمال صنعه , سار في خلقه , ¬

(¬1) مقدمة كتاب مصرع التصوف ص 5. (¬2) المصدر السابق. (¬3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 244.

والعالم مظاهره , فحبّ العالم بعضه بعضاً من حب الله نفسه , فإن الحب صفة الموجود وما في الوجود إلا الله , والجلال والجمال لله. . . فلا محب ولا محبوب إلا الله عز وجل , فما في الوجود إلا الحضرة الإلهية , وهي ذاته وصفاته , وأفعاله " (¬1). ويصرح في فصوصه: " فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي " (¬2). فحب الصور الجميلة من النساء وغيرهن هو حب لله , لأن الله الظاهر فيهما. ويقول: " فما أحب الله إلا الله , والعبد لا يتصف بالحب , إذ لا حكم له فيه , فإنه ما أحبه منه سواه , الظاهر فيه , وهو الظاهر " (¬3). وأيضاً: " إن الحسن معشوقٌ لذاته في كل شيء ظهر " (¬4). وجعلوا الحب السفلي سلّماً للحب الإلهي كما صرّح بذلك الوزير لسان الدين بن الخطيب بقوله: " عشق الحادث للحادث ربما كان سلّماً للحب الحقيقي الوصل للسعادة " (¬5). وصرح أيضاً ابن الدباغ حيث ذكر: " وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها يقول خليلي والظباء سوانح ... أهذا الذي تهوى فقلت نظيرها لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... توسلّت قبّلتك تغورها فقد صحّ أن الجمال الظاهر هو المعنى اللائح على الهياكل الإنسانية التي في غاية كمال الشكل وتمام الهيئة. وأما الجمال الباطن فهو ما تفيده الأنوار القدسية الإلهية إذا أشرقت على العقول الزكية من الإتصاف بأنواع العلوم الدينية وأسرار المعارف الربانية المؤدية إلى المحبة ¬

(¬1) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 114. (¬2) فصوص الحكم لابن عربي ص 218. (¬3) الفتوحات المكية ج 2 ص 111. (¬4) ذخائر الأعلاق لابن عربي ص 38. (¬5) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ص 292.

الحقيقية , ولا يدرك هذا الجمال إلا المعقول التي هي غاية الصفاء المستنيرة من أنوار الله التي تكون سبباً لحصول محبة الحق " (¬1). ويقول: " النظر إلى الجمال عبادة إذا قصد بالتعليق به الوصول إلى خالقه إذ لا يستدلّ على علم الصانع وقدرته إلا بإتقان صنعته وأحكامها. . . وكيف لا يكون النظر إلأى الجمال بهذا الاعتبار عبادة والناظر إليه مطالع لفاطره وواهبه , ومستدلّ به على جماله الذي لا ينبغي إلا له , إذ لا يعطي الجمال إلا من هو أجمل منه , ولا نسبة بين الجمالين كما لا نسبة بين المجاز والحقيقة والفعل والفاعل , بل لا يسمى الجمال المبدع جمالاً إلا من حيث النظر إلى موجده , وأما بالنظر إلى ذاته فهو مجاز محض. والنظر إلى الواهب هو المقصود , وهذا موصل إليه ودالّ عليه (¬2). فانظر إلى القوم كيف يدعون إلى معصية الله ورسوله بالحث على النظر إلى النساء الجميلة , بدليل أن النظر إلأى جمالهن يوصل إلى محبة الله ودال على حبّه إذ أنه هو خالق ذاك الجمال , وأن خالقه أجمل منه. فأين قول الله عز وجل , الذي أمر فيه المؤمنين {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬3). ولكن حب الشهوات قد استعبد الصوفية وذهب بهم إلى أنهم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النظر إلى الوجه الحسن عبادة " (¬4). وفي ذلك يقول عبد الرحمن الوكيل: " النساء عند الصوفية هنّ أجمل تعينات الذات الإلهية. . . ودائماً ترى الصوفية ¬

(¬1) مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 47 , 48 ط ... دار صادر بيروت 1379 هـ. (¬2) أيضاً ص 120. (¬3) سورة النور الآية 30. (¬4) مشارق أنوار القلوب ص 116.

يلهجون بذكر النساء , ويرونهن أكمل وأجمل وأتم تعينات الذات الإلهية ومجاليها , وهذا يجعلك تؤمن بأن هناك في أعماق التصوف حيواناً ضارياً يستعبده الشبق والغلمة الداعرة , ويستعلن دائماً بالصريخ الملتهب عما يزلزله من رجفات الشهوات العارمة , وينزو بعربدته على كل مقدسات الدين ومحارم الفضيلة , وتؤمن كذلك أن من مقومات التصوف عبادة المرأة , وتعرف عن يقين لماذا يبحث الصوفية عن درويشات يسلكن معهم طريق القوم " (¬1). وأما الاستدلال من أبيات مجنون وأقواله وحكاياته فكما ذكر الوزير لسان الدين في مسألة عبادة الله لا خوفاً ولا رجاءً , يستدل على كون المحبة هي الأصل , لا الخوف والرجاء , من أشعار مجنون يذكرها في روضته: لو قيل لمجنون ليلى أوصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال: غبار من تراب نعالها أحبّ إلى نفسي وأشفى لبلواها (¬2). يذكر لسان الدين هذه الأبيات الغزلية ثم يبني عليها قاعدته في الحب بذات الله مستدلاً منها ومن الفلسفة التي ذكرت فيها. هذا ونقل الشعراني عن الشبلي أنه كان يقول: " قيل لمجنون بني عامر: أتحبّ ليلى؟ قال: لا. قيل: ولم؟ قال: لأن المحبة ذريعة للوصلة , وقد سقطت الذريعة , فليلى أن , وأنا ليلى " (¬3). فذكر هذه الحكاية واستدل منها على اتصال الصوفي بذات الله سبحانه وتعالى. ويدعم الطوسي قول من قال: " أنا أنت وأنت أنا " بحب مجنون ليلى , فيقول: " أما قول القائل " أنا أنت وأنت أنا " فمعناه الإشارة إلى ما أشار إلأيه الشبلي , رحمه الله حيث قال في مجلسه: يا قوم , هذا مجنون بني عامر كان إذا سئل عن ليلى , فكان يقول: أنا ¬

(¬1) هامش مصرع التصوف ص 141 , 142. (¬2) روضة التعريف بالحب الشريف ص 428. (¬3) طبقات الشعراني ج 1 ص 104.

ليلى , فكان يغيب بليلى عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى , ويغيبه عن كل معنى سوى ليلى , ويشهد الأشياء كلها بليلى " (¬1). وابن عربي يذكر أنواع الحب وكيفياته , فيقول: " كان قيس ليلى في هذا المقام , حيث كان يصيح: ليلى , ليلى , في كل ما يكلّم به فإنه كان يتخيّل أنه فقيد لها , ولم يكن. وإنما قرب الصورة المتخيّلة أفرطت في القرب فلم يشاهدها , فكان يطلبها طلب الفائدة , ألا تراه حين جاءته من خارج فلم تطابق صورتها الظاهرة الصورة الباطنة المتخيّلة , التي مسكها في خياله منها , فرآها كأنها مزاحمة لتلك الصورة فخاف فقدها , فقال لها: إليك عني , فأنا حبّك شغلني عنك , يريد أ، تلك الصورة هي عين الحب , فبقي يطلبها: ليلى , ليلى " (¬2). يذكر هذا النص ثم يقارن بين الحب الطبيعي والحب الإلهي ويربط العلاقة بينهما. وروى الشعراني عن أبي الحسين الشيراوي أنه كان يقول: " رؤى مجنون بني عامر في المنام بعد موته , فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وجعلني حجة على المحبين " (¬3). وإليكم الآن ما قاله الجيلي شارحاً " العشق " ومستدلاً منه على الفناء الإصطلاح الصوفي , فيقول: " إذا طفح الودّ حتى أفنى المحب والمحبوب سمي عشقاً , وفي هذا المقام يرى العاشق معشوقة فلا يعرفه ولا يصيح إليه , كما روي عن مجنون ليلى أنها مرّت به ذات يوم فدعته إليها لتحدثه , فقال لها: دعيني فإني مشغولٌ بليلى عنك , وهذا آخر مقامات الوصول والقرب فيه ينكر العارف معروفه , فلا يبقى عارف ولا معروف , ولا عاشق ولا معشوق , ولا يبقى إلا العشق وحده , والعشق هو الذات المحض الصرف الذي لا يدخل تحت رسم ولا نعت ولا وصف , فهو أغنى العشق في إبتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقى له إسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف , فإذا امتحن العاشق وانطمس أخذ العشق في ¬

(¬1) كتاب اللمع للطوسي ص 437. (¬2) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 111. (¬3) طبقات الشعراني ج 1 ص 120.

فناء المعشوق والعاشق , فلا يزال يفنى منه الإسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق , فحينئذ يظهر العاشق بالصورتين ويتصف بالصفتين , فيسمى بالعاشق ويسمى بالمعشوق " (¬1). هذا ويستدل الطوسي وابن الدباغ على فناء العبد في محبة الله من حكاية عاشق ومعشوق أنهما: " ركبا سفينة فزلّت قدم أحدهما من أعلى السفينة فسقط في البحر , فلما رآه صاحبه لم يتمالك أن سقط معه , فلما إلى السفينة قال الأول منهما لصاحبه: أنا سقطت دون قصد وأنت لماذا سقطت؟ فقال له: ظننت أنني أنت , وغبت عن نفسي فسقطت. كلّما مسك شيء مسنّي ... فإذا أنت أنا في كل حال " (¬2). وذكروا هذه الحكاية كدليل على الحلول الصوفي والفناء في الذات الإلهي , وكبرهان على القاعدة الصوفية " تقوى المحبة بحسب قوتها حتى لا يفهم المحبّ أن بينه وبين محبوبه فرقاً أصلاً كما قيل: أفنيتني بك عني ... يا غاية المتني أدينيتني منك حتى ... ظننت أنك أني " (¬3). ويقيس ابن الدباغ محبة الله على محبة الأشخاص , ويحمل وصفة على وصف العباد حيث يقول: " إن المحب إذا تحقق في مقام وجد الموجود , وظهرت عليه آثار الشهود , يشهد محبوبة في سائر الذوات , وصفاته مع سائر الصفات , فلا يرى الوجود سواها ولا يراها سواه: ¬

(¬1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 80 , 81 ط ... مصطفى البابي الطبعة الرابعة. (¬2) كتاب اللمع للطوسي ص 437 , أيضاً مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 9. (¬3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 8.

وطارحني غنج اللحاظ معانياً أغار عليها أن تلمّ بمسمعي فكرّرت طرفي في الوجود بأسره فلم أر فيه غير معناك مقنعي وطالعت في سرّ الهوى فإذا التي أطوف عليها في معالمها معي " (¬1). ويذكر في موضع آخر من كتابه قاعدة من قواعد الحب ثم يستدل عليها من حكايات غزلية عشقية , فيقول: " سئل سري السقطي: هل يجد المحب طعم الألم؟ فقال: لا , قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة على ضربه. وحكى أن بعض الشطّار ضرب مائة سوطاً فما تألم بذلك , ثم ضرب بعد ذلك سوطاً واحداً فتألم وصاح , فسئل عن ذلك فقال: العين التي كنت أضرب من أجلها كانت معي ناظرة إليّ فلم أجد للضرب ألماً , فلما غابت عني رجعت إلى جسمي فوجد الألم. وكذلك أيضاً حكي أن بشر بن الحارث قال: رأيت شخصاً ببغداد قد ضرب ألف سوط ولم يتكلم , فلما حمل إلى السجن تبعته فسألته عن سكوته , فقال: معشوقي الذي كنت أضرب من أجله كان حذائي ينظر إليّ , قلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر؟ قال: فزعق زعقة وخرّ ميتاً " (¬2). وكذلك عماد الدين الأموي يبين أصلاً من أصول المحبة ثم يدعمها بحكاية غزلية , فيقول: " وأصل حال المحب أن يقطع تشوقه عن كل شيء سوى محبوبه , فمن نظر إلى سواء فهو محجوب من مولاه. يحكى أن بعض الناس رأى امرأة جميلة فاشتغل قلبه بها فقال لها: كلي بك مشغول , فقالت: إن كان كلّك بكلي مشغول , فكلي لك مبذول , لكن لي أخت لو رأيت حسنها وجمالها لم تذكرني , فقال: أين هي؟ فقالت: وراءك , فالتفت وراءه فلطمته لطمة وقالت: يا كذاب , لو كنت صادقاً فيما قلت لم يلتفت إلى غيري " (¬3). ¬

(¬1) مشارق ص 37. (¬2) نفس المصدر ص 75. (¬3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 119.

وأما نجم الدين الكبري فيذكر العشق نقلاً عن الجنيد أنه سئل عن العشق , فقال: " لا أدري ما هو , ولكن رأيت رجلاً أعمى عشق صبياً , وكان الصبي لا ينقاد له , فقال الأعمى: يا حبيبي , أيش تريد مني؟ قال الصبي: روحك , ففارق روحه في الحال " (¬1). ثم يقول: " وقد يفنى العاشق في العشق , فيكون العاشق هو العشق , ثم يفنى العشق في المعشوق , عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر , فبقيت أياماً لا آكل ولا أشرب إلا ما شاء الله , حتى كثرت نار العشق فكنت أتنفّس نيراناً , فتتلقى الناران ما بيني وبين السماء , فما كنت أدري من ثمة أين تلتحقان. فعملت أن ذلك شاهدي في السماء " (¬2). فهكذا أعتقد الصوفية أن الله يتجلّى في الصور الجميلة من النساء والصبيان , فالعشق بهنَّ هو العشق بذات الله تعالى , وعلى ذلك لا يستحيون من ذكر وقائعهم التي مضت بهم من العشق بالجواري والصبيان. فهذا هو الحب الذي قالوا عنه: " الحب حج ثان " (¬3). ونقلوا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: " لو ولّيت حساب الخلق يوم القيامة لم أعذب أحداً من العشاق لأنهم لا اختيار لهم في عشقهم " (¬4). وأخيراً نذكر من ابن الفارض أبياته الخليعة المشهورة حيث ينشد: ففي النشأة الأولى تراءت (أي الذات الإلهية) لآدم ففي مرة لبني وأخرى بثينة بمظهر حواء قبل حكم الأمومة وآوانه تدعي بعزة عزت وتظهر للعشاق في كل مظهر ولَلسْنَ سواها , لا وَلا كُّنَّ غيرها من اللبس في أشكال بديعة وما إن لها في حسنها من شريكة (¬5). ¬

(¬1) فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبرى ص 37 , 38 ط ألمانيا بتحقيق المستشرق فريتز مائر. (¬2) أيضاً ص 39. (¬3) أنظر روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ط دار الفكر العربي. (¬4) أيضاً ص 415. (¬5) مصرع التصوف ص 101 ط دار الكتب العلمية بيروت.

ثم يعلّق عليها الوكيل بقوله: يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية - أتم وأجمل ما تتجلّى - في صورة النساء الجميلات , ويفتري أنها تجلّت في صورة ليلى وبثينة وعزة , وقد رمز بهنّ عن كل أمرأة جميلة عاشقة معشوقة , ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق , كان لا بد له من التجلّي في صور عشاق ليعشق , ويعشق , فتجلّى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات. وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة. قم يفتري أيضاً الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة , بل هو هي , فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة (¬1). وأما وحدة الأديان فيؤمن بها الصوفية نتيجة إيمانهم بوحدة الوجود , فيقولون: إن الله هو الظاهر في كل شيء , والشيء يطلق على الصنم أيضاً فكل من عبد شجراً أو حجراً , حيواناً أو إنساناً , كوكباّ أو ملكاً , فهو في الحقيقة يعبد الله , وهذا هو معنى " لا إله إلا الله " عندهم كما يقول عبد الكريم الجيلي: " لا إله إلا أنا: يعني الإلهية المعبودة ليست إلا أنا , فأنا الظاهر في تلك الأوثان والأفلاك والطبائع , وفي كل ما يعبده أهل كل ملّة ونحلة , فما تلك الآلهة إلا أنا , ولهذا أثبت لهم لفظة الآلهة , وتسمية لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقة لا مجازية , ولا كما يزعم أهل الظاهر أن الحق إنما أراد بذلك من حيث أنهم سموهم آلهة , لا من حيث أنهم في أنفسهم لهم هذه التسمية , وهذا غلط منهم وافتراء على الحق , لأن هذه الأشياء كلها بل جميع ما في الوجود له من جهة ذات الله تعالى في الحقيقة هذه التسمية تسمية حقيقة , لا كما يزعم المقلد من أهل الحجاب أنها تسمية مجازية , ولو كان كذلك لكان الكلام أن تلك الحجارة والكواكب والطبائع والأشياء التي تعبدونها ليست بآلهة , وأن لا إله إلا الله أنا فأعبدوني , لكنه إنما أراد الحق أن يبين لهم أن تلك ¬

(¬1) هامش المصرع ص 101.

الآلهة مظاهر , وأن حكم الألوهية فيهم حقيقة وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو , فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم ما يطلق عليه إسم الإله إلا وهو أنا , فما في العالم ما يعبد غيري , وكيف يعبدون غيري وأنا خلقتهم ليعبدوني ولا يكون إلا ما خلقتهم له , قال عليه الصلاة والسلام في هذا المقام " كل ميسر لما خلق له " أي لعبادة الحق لأن الحق تعالى قال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فنبه الحق نبيه موسى عليه السلام على أن أهل تلك الإلهة إنما عبدوا الله تعالى , ولكن من جهة ذلك المظهر , فطلب من موسى أن يعبده من جهة جميع المظاهر فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم إلا أنا , وكل ما أطلقتموه عليه إسم الإله فهو أنا " (¬1). ويقول العطار: " ليس في عين الإنسان إلا شيء واحد , حيث لا وجود هنا للكعبة والدير " (¬2). ويقول الشعراني: " إعلم أن الموحد سعيه بأي وجه كان توحيده (¬3) وإن لم يكن مؤمناً بكتاب ولا رسول ويدخل الجنة. وأما ابن عربي فأمره مشهور , وقد ذكر في كتبه نصوصاً عديدة , وأنشد أبياتاً كثيرة تدلّ على أنه يؤمن بوحدة الأديان , فعبادة الأصنام والأوثان عنده هي عبادة الله تعالى , والدير لديه كالكعبة , الكنيسة كالمسجد , لتنوع التجليات الإلهية , فهو الظاهر المتجلي في كل شيء , فيقول: " لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى الغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالدين ديني وإيماني لنا أسوة في بشر هند وأختها ... وقيس وليلى ثم ميّ وعيلان " (¬4). ¬

(¬1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 99. (¬2) منطق الطير لفريد الدين عطار ص 389 ط ... دار الأندلس بيروت. (¬3) اليواقيت والجواهر للشعراني (2/ 58). (¬4) ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربي ص 49 وما بعد.

وأنشد أيضاً: " فوقتا أسمى راعي الظبى بالفلا ... ووقتاً أسمى راهباً ومنجماً تثلّث محبوبي وقد كان واحداً ... كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما " (¬1). وصرح قائلاً: " العارف المكمّل من رأي كل معبود مجلي للحق يعبد فيه , ولذلك سمّوه كلهم إلهاً مع إسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك , هذا إسم الشخصية فيه , والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده , وهي على الحقيقة مجلي الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلي المختص " (¬2). وعبادة العجل عنده هي عبادة الله كما يقول: " وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل , لعلمه بأن الله قد قضى ألاّ يُعبد إلاّ إياه , وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه. فإن العارف من يرى الحق في كل شيء , بل يراه عين كل شيء " (¬3). ويؤمن كذلك بدخول جميع الناس في الجنة , مسلماً كان أم كافراً. حيث يقول: " فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة , وما ثمّ إلا الاعتقادات. فالكل مصيب , وكل مصيب مأجور , وكل مأجور سعيد , وكل سعيد مرضي عنه , وإن شقي زماناً ما في الدار الآخرة " (¬4). ويقول أيضاً: " وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم , ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد إنتهاء مدة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها , وهذا نعيمهم , فنعيم أهل النار بعد ¬

(¬1) أيضاً ص 52 , 53. (¬2) أنظر فصوص الحكم لابن عربي ص 195. (¬3) أيضاً ص 192. (¬4) أيضاً ص 114.

استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرر أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه. فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً وسلاماً مع شهود الصورة اللونية في حقه , وهي نار في عيون الناس. فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين: هكذا هو التجلّي الإلهي " (¬1). وهكذا نختم كتابنا هذا سائلين المولى عزّ وجلّ أن نكون قد وفقنا لتبيين حقيقة الصوفية وردّ شبهات المتصوفين , ونسأل الله الرشاد والهدي وحسن الخاتمة والحمد لله ربّ العالمين. ¬

(¬1) فصوص الحكم فص حكمة نفسية في كلمة يونسية ص 169 , 170.

مصادر الكتاب ومراجعه

مصادر الكتاب ومراجعه كتب الصوفية: 1. الإبريز لعبد العزيز الدباغ. ط ... مصر. 2. أحاسن المجالس لأبي إسحاق إبراهيم. ط المكتبة السلفية. مكة المكرمة 1390هـ. 3. أحمد بن مخلوف الشبابي لعلي الشبابي. ط المكتبة الشبابية. الجزائر 1979م. 4. أحوال وآثار فريد الدين مسعود كنج شكر (أردو). ط باكستان. 5. أحوال وأقوال شيخ أبي الحسن الخرقاني (فارسي) الطبعة الثالثة 1363هجري قمري إيران. 6. أحوال أبدال لمحمد عبد العزيز مزنكوي (أردو). ط ... باكستان. 7. إحياء علوم الدين للغزالي. ط دار القلم. بيروت. 8. الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني. ط ... مطبعة دار التراث العربي. القاهرة. 9. آداب الصوفية لنجم الدين كبري (فارسي). ط كتاب فروشي زوّار إيران. 10. أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي للدكتور عبد الحليم محمود. ط دار الكتب الحديثة. القاهرة. 11. أسرار الأولياء ملفوظات فريد الدين. ط باكستان. 12. أسرار نامه (فارسي) لعطار نيشابوري. ط إيران. 13. الإسراء لابن عربي. ط حيدر آباددكن الهند 1367هـ. 14. الاسم الأعظم للغزالي. ط مكتبة نصير. القاهرة. 15. اصطلاحات الصوفية لكمال الدين عبد الرزاق القاشاني. ط الهيئة المصرية العامة للكتاب بمصر. 16. الألواح العمادية للسهروردي بتحقيق نجف قلي ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان. 17. الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل الطريق لابن عربي بتحقيق محمد عبد الرحمن الكردي. ط القاهرة.

18. الانتصار لطريق الصوفية الأخيار لزمنمي بن محمد ط دار مرجان للطباعة. مصر. 19. الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي الطبعة الرابعة 1981م. 20. إنشاء الدوائر لابن عربي ط. مطبعة بريل ليدن 1336هـ. 21. أوراد الأحباب وفصوص الآداب لأبي المفاخر يحيى الباخرزي. ط طهران 1966 م. 22. الأنوار القدسية في معرفة القواعد الصوفية لعبد الوهاب الشعراني. ط دار إحياء التراث العربي بغداد 1984 م. 23. إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة الحسني. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 24. أيهما الولد للغزالي. ط دار الاعتصام. القاهرة. 25. آئينة شاه ناصر أولياء لمحمد أنور بدخشاني. ط كراتشي باكستان. 26. بايزيد الأنصاري للدكتور ميرولي خان. ط مجمع البحوث الإسلامية. باكستان 1396هـ. 27. البرهان المؤيد لأحمد الرفاعي. ط القاهرة. 28. بيان الأحكام في السجادة والخرقة والأعلام لعلي بن ميمون المغربي مخطوط. 29. تأييد الحقيقة الجلية للسيوطي. 30. تاريخ مشائخ جشت (أردو) لخليق أحمد نظامي. ط باكستان. 31. التجليات لابن عربي. ط دكن الهند. 32. التدبيرات الإلهية لابن عربي. ط ليدن 1336هـ. 33. تذكرة الأولياء (أردو) لفريد الدين العطار. ط باكستان. 34. تذكرة أولياء باك وهند (أردو) للدكتور ظهور الحسن شارب. ط باكستان. 35. تذكرة أولياء بر صغير (أردو) لميرزه محمد أختر الدهلوي. ط باكستان.

36. تذكرة أولياء كرام لصباح الدين عبد الرحمن (أردو) ط باكستان. 37. تذكرة صوفياء بلوجستان (أردو) للدكتور أنعام الحق كوثر. ط باكستان. 38. تذكرة صوفياء بنجاب (أردو) لأعجاز الحق قدوسي. ط باكستان. 39. تذكرة غوثية (أردو) لشاء كل حسن قادري. ط باكستان. 40. التراجم لابن عربي. ط دكن الهند. 41. ترتيب السلوك للقشيري. ط المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية إسلام آباد باكستان. 42. ترتيب السلوك إلى ملك الملوك لجمال الدين محمد بن عمر بحرق الحضرمي. ط جامعة بنجاب لاهور باكستان. 43. ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي. ط ... المطبعة العامرية مصر 1301هـ. 44. تحقيق الأسفار الأربعة لحسن نوري. ط شيراز إيران. 45. التصوف في الإسلام لعرجون محمد الصادق مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة 1967هـ. 46. التصوف والأمير عبد القادر الحسني الجزائري لجواد المرابط. ط دار اليقظة دمشق 1966م. 47. التصوف الإسلامي والإمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور. ط دار نهضة مصر. 48. التصوف في تراث ابن تيمية للدكتور طبلاوي حمد سعد. ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984م. 49. التصوف الإسلامي الخالص للمنوفي. ط دار نهضة مصر. 50. تصوف إسلام (أردو) لعبد الماجد دريا آبادي. ط باكستان. 51. التعرض لمذهب أهل التصوف لأبي بكر محمد الكلاباذي الطبعة الثالثة مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1400 هـ.

52. التعريفات للجرجاني مخطوط. 53. تفسير ابن عربي. ط انتشارات ناصر خسرو / طهران. 54. تنبيه المغتربين لعبد الوهاب الشعراني. ط مصر. 55. تنبيه الغافلين لأبي الليث بن نصر محمد. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1933 م. 56. ثلاث رسائل لشهاب الدين السهروردي. ط مركز تحقيقات إيران وباكستان. 57. طرابلس الشام 1298 هـ. 58. جامع كرامات الأولياء لابن عربي. ط صادر بيروت. 59. جامي (فارسي) لعلي أصغر حكمت. ط انتشارات توس إيران. 60. جمهرة الأولياء " لأبي الفيض المنوفي الحسيني ". ط مؤسسة الحلبي القاهرة. 61. الجواب المستقيم لابن عربي مخطوط. 62. الجواهر والدرر للشعراني ط مصر. 63. الجواهر اللماعة لعلي المرزوقي. ط مصطفى البابي الحلبي مصر. 64. جهل مجلس لعلاء الدين سمناني بتصحيح عبد الرفيع حقيقت (فارسي). 65. الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية. ط باكستان. 66. الحب الإلهي في التقوف الإسلامي لمحمد مصطفى حلمي. ط القاهرة 1960 م. 67. حضرات القدس (فارسي) لبدر الدين سرهندي ط لاهور 1971م. 68. حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسى الطبعة الرابعة. المطبعة الوطنية عمان 1401هـ. 69. حكمة الاشراق لشهاب الدين السهروردي. 70. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني. ط دار الكتاب العربي بيروت 1980م.

71. الحلاج لطه عبد الباقي سرور. ط دار نهضة مصر القاهرة. 72. حياة القلوب في كيفية الوصول إلأى المحجوب بهامش قوت القلوب. ط دار صادر بيروت. 73. الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد للسيوطي مخطوط. 74. ختم الولاية للحكيم الترمذي. ط المطبعة الكاثوليكية بيروت. 75. خزينة الأصفياء (أردو) لمفتي غلام سرور. ط باكستان. 76. خزينة معرفت (أردو) للصوفي محمد إبراهيم قصوري. ط باكستان. 77. درر الغواص على فتاوى سيدي علي الخواص لعبد الوهاب الشعراني. بهامش الإبريز للدباغ. ط مصر. 78. الدرر الثمين والمورد المعين لمحمد بن أحمد المالكي. ط مصطفى البابي الحلبي 1954م. 79. الدرر السنية في الطريقة التيجانية لمحمد سعد الرباطابي. ط مكتبة القاهرة. 80. دلائل الخيرات ط مصطفى البابي الحلبي 1346هـ. 81. ديوان ابن عربي. ط مكتبة محمد ركابي الرشيدي القاهرة. 82. ديوان ابن الفارض. ط مكتبة القاهرة 1399هـ. 83. ديوان البرعي. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 84. ديوان البويصيري لشرف الدين بوصيري. ط مصطفى البابي الحلبي مصر. 85. ديوان الحلاج الطبعة الثانية بغداد 1404 هـ. 86. ديوان منصور حلاج (فارسي) انتشارات كتابخانه سنائي طهران. 87. ديوان فريد الدين عطار نيشابوري (فارسي) ط كتابخانه سنائي طهران 88. ذخائر الأعلاق لابن عربي. ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة. 89. راحة القلوب ملفوظات فريد الدين كنج شكر (أردو) ط باكستان. 90. الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري. ط دار الكتب الحديثة القاهرة 1974م. 91. رسالة النصوص لمحمد بن إسحاق القونوي. ط ... مشهد إيران.

92. الرستميات (فارسي) لابي سعيد محمد بن الرستمي. ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان. 93. روح السنة وروح النفوس المطمئنة لأحمد بن إدريس. ط دار إحياء الكتب العربية مصر. 94. روضة التعريف بالحب الشريف للسان الدين بن الخطيب. ط دار الفكر العربي. 95. زبدة الحقائق لعزيز الدين النسفي تقديم حق وردي ناصري. ط كتابخانه طهوري طهران. 96. ساعة مع العارفين لسعيد الأعظمي. ط دار الاعتصام القاهرة. 97. سبيل الأذكار والاعتبار لعبد الله باعلوي الحداد بهامش النصائح الدينية للمؤلف المذكور. ط مطبعة إحياء الكتب العربية القاهرة. 98. سبيل الجنة في التربية بالطريقة القادرية لمحمد ناصر. ط الهند. 99. سر سبردكانه (فارسي) لمحمد علي. ط كتابخانه منوشري إيران. 100. سيدي أحمد الدردير للدكتور عبد الحليم محمود. ط دار الكتب الحديثة القاهرة. 101. السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة للدكتور أحمد صبحي منصور الطبعة الأولى مطبعة الدعوة الإسلامية مصر. 102. السيد البدوي محمد حجاب. ط مؤسسة سعيد للطباعة مصر. 103. سير الأقطاب (أردو) لعبد الرحيم. ط باكستان. 104. سير الأولياء لمحمد بن مبارك علوي. ط مؤسسة انتشارات إسلامي باكستان. 105. سير العارفين (أردو) لحامد بن فضل الله جمالي. ط لاهور باكستان. 106. شجرة الكون لابن عربي. ط باكستان 1980م. 107. شجرة الحجب والأستار لرزبهان أبي محمد ط حيدر آباد الهند 1333هـ.

108. شرح الزيارة للجماعة الكبيرة لأحمد بن زين الدين مطبع السادات إيران. 109. شرح المسائل الروحانية لابن عربي ضمن كتاب ختم الولاية للحكيم الترمذي. ط المطبعة الكاثوليكية بيروت. 110. شرح مقدمة التائية لداود القيصري مخطوط. 111. شرح شطحيات (فارسي) لروزبهان بقلي شيرازي بتصحيح هنري كربين ط طهران. 112. شرح الفصوص للقيصري مخطوط. 113. شرح حال الأولياء لعز الدين المقدسي مخطوط. 114. الشريعة والحقيقة للدكتور حسن محمد شرقاوي. ط القاهرة. 115. شموس الأنوار لابن الحاج تلمساني. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 116. شهاب الدين السهروردي للدكتور إبراهيم مدكور. ط الهيئة المصرية العامة للكتاب. 117. صوم القلب لعمار البدليسي مخطوط. 118. الصلاة الكبرى لابن عربي مخطوط. 119. الطبقات للسلمي. ط مطابع الشعب القاهرة 1380هـ. 120. طبقات الأولياء لابن الملقن. ط مكتبة القاهرة 1393هـ. 121. الطبقات الكبرى للشعراني. ط دار العلم للجميع. ط المطبعة العامرية العثمانية 1305هـ القاهرة. 122. الطبقات الصغرى للشعراني. ط مكتبة القاهرة الطبعة الأولى 1390هـ. 123. الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي. ط المكتبة الثقافية بيروت لبنان. 124. الطريق إلى الله لأبي سعيد الخراز. ط دار الكتب الحديثة مصر.

125. طريق النجاة (فارسي) لكريم خان مطبع السادات إيران 1396 هـ. 126. طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 127. الطواسين للحلاج. ط ... المعارف باكستان. 128. عبد الله الأنصاري الهروي للدكتور محمد سعيد عبد المجيد ط دار الكتب الحديثة مصر. 129. عبد الله خويشكي قصوري (أردو) لمحمد إقبال مجددي. ط باكستان. 130. عبد الرحمن الثعالبي والتصوف لعبد الرزاق قسوم. ط الشركة الوطنية الجزائر. 131. العظة والاعتبار في حياة السيد البدوي لأحمد محمد الحجاب. ط ... القاهرة. 132. العروة للسمناني مخطوط. 133. عقلة المستوفز لابن عربي. ط مطبعة بريل ليدن 336هـ. 134. عقيدة أهل المعاني في شرح قصيدة بدء الأمالي لأبي الحسن محمد الدوسي. ط مكتبة أيشيق تركيا. 135. العقل وفهم القرآن للحارث بن أسد المحاسبي. ط دار الكندي الطبعة الثالثة 1402 هـ. 136. العلوم الإلهية والأسرار الربانية لابن عربي. ط مكتبة نصير القاهرة. 137. عوارف المعارف لعبد القاهر السهروردي ط دار الكتاب العربي بيروت 1403هـ. 138. غزليات شمس تبريزي (فارسي) ط طهران. 139. غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية للنفزي الرندي. ط دار الكتب الحديثة القاهرة 1970م. 140. الفتح الرباني والفيض الرحماني لعبد القادر الجيلاني. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 141. الفتح المبين فيما يتعلق بترياق المحبين لأبي الظفر القادري

الطبعة الأولى المطبعة الخيرية مصر 1306هـ. 142. الفتح الرباني لعبد العزيز نابلوسي. المطبعة الكاثوليكية بيروت 1960 م. 143. الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني. ط عالم الفكر القاهرة. 144. الفتوحات المحمدية لمبارك علي. ط باكستان 1981 م. 145. الفتوحات المكية لابن عربي. ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1405 هـ. 146. فتوحات نامه لعبد الرزاق كاشاني (فارسي) ط طهران. 147. فرائد اللآلئ من رسائل الغزالي بتحقيق محمد بخيت. ط فرج الله ذكي الكردي مصر 1344هـ. 148. فرحة الناظرين لمحمد أسلم (أردو). ط باكستان. 149. فصوص الحكم لابن عربي بتعليقات الدكتور أبي العلاء العفيفي. ط دار الكتاب العربي بيروت. 150. فوائح الجمال وفوائح الجلال لنجم الدين كبري. 151. فوائد الفواد ملفوظات خواجه نظام الدين أولياء (أردو). ط أوقاف لاهور باكستان. 152. الفوائد في الصلات والعوائد لشهاب الدين الشرجي اليمني. ط مصطفى البابي الحلبي مصر 1388هـ. 153. فوائد العز الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وخواصها لمحمد الشبراوي الشافعي بهامش الفوائد لشهاب الدين الشرجي. ط مصطفى البابي الحلبي مصر. 154. قرة العيون ومفرّح القلب المحزون لأبي الليث السرقندي. ط دار إحياء الكتب العربية مصر. 155. القصد للشاذلي مخطوط. 156. قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر لمحمد أبي الهدى الرفاعي. ط بيروت 1400 هـ.

157. قواعد التصوف لأحمد بن زروق. ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1976 م. 158. قوانين حكم الإشراق لأبي المواهب الشاذلي. ط مكتبة الكليات الأزهرية مصر. 159. قوت القلوب لأبي طالب المكي. ط دار صادر بيروت. 160. كتاب الاستبصار لأهل الأذكار لأحمد محمود زين الدين الحسيني. ط مطبعة الأنوار القاهرة. 161. كتاب البرهان الأزهر في مناقب الشيخ الأكبر لمحمود رجب حلمي. 162. كتاب المخاطبات لمحمد بن عبد الجبار النفزي. ط مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة. 163. كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار النفزي. ط مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة. 164. كشف الحجاب لأحمد بن الحاج العياشي. ط 1381هـ , 1934م. 165. كشف الحقائق للنسفي بتصحيح الدكتور أحمد مهدي (فارسي) ط طهران 1359هـ. 166. كشف الغمة عن جميع الأئمة للشعراني. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 167. كشف المحجوب للهجويري ترجمة عربية. ط ... دار النهضة العربية بيروت. 168. كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للكبري المكي الدمياطي. ط دار الكتب العربية الكبرى مصر 1325 هـ. 169. كلزار ابرار لمحمد غوثي شطاري (أردو) ط باكستان. 170. كلزار صوفياء (أردو) لعام فقري. ط باكستان. 171. كلمة الحق لعبد الرحمن (أردو). ط لكنو الهند 1883م. 172. كليات وديوان شمس تبريزي (فارسي) لجلال الدين محمد بلخي.

ط نشر طلوع إيران. 173. الكندي وآراؤه الفلسفية للدكتور عبد الرحمن شاء ولي. ط مجمع البحوث العلمية باكستان. 174. كنجية كوهر (فارسي) لملا أحمدي قاضي. ط مطبعة الحوادث إيران. 175. لطائف المنن والأخلاق لعبد الوهاب الشعراني. ط القاهرة. 176. لطائف المنن لابن عطاء الأسكندري. ط مطبعة حسان القاهرة. 177. اللطف الداني لعبد الوهاب محمد أمين. ط القاهرة. 178. اللمع لسراج الطوسي. ط دار لكتب الحديثة مصر. 179. اللمحات لشهاب الدين السهروردي. ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان 1984 م. 180. اللمعات لفخر الدين عراقي (فارسي) ط إيران. 181. لوائح لعبد الرحمن جامي (فارسي). ط لاهور باكستان. 182. المثنوي العربي النوري لسعيد النوري. ط مطبعة الزهراء بغداد. 183. المجالس الرفاعية لأحمد الرفاعي. مطبعة الإرشاد بغداد. 184. مجموع مخطوط بالفاتيكان عربي رقم 1242. 185. مجموعة في الحكمة المشرقية لشهاب الدين السهروردي. 186. المحبة والشوق للغزالي. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 187. محاسن المجالس لابن العريف. ط باريس 1933م. 188. محمد سليمان تونسوي (أردو) للدكتور محمد حسن للهيّ. ط باكستان. 189. محي الدين ابن عربي (فارسي) للدكتور محسن جهانغري الطبعة الثانية طهران. 190. محي الدين ابن عربي لطه عبد الباقي سرور. ط القاهرة. 191. مختصر تذكرة القرطبي لعبد الوهاب الشعراني. ط دار إحياء الكتب العربية مصر.

192. المدرسة الحديثة الشاذلية وإمامها أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبد الحليم محمود د دار لكتب الحديثة القاهرة. 193. مدينة الأولياء (أردو) لمحمد دين كليم قادري. ط باكستان. 194. مشتهى الخارف الجاني لمحمد الخضر الشنقيطي. 195. مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم لأحمد بن حسن الرصاص. ط دار الاعتصام القاهرة. 196. مطالع المسرات لمحمد المهدي بن أحمد. ط مصطفى البابي الحلبي 1970م. 197. معارج المقربين لمحمد ماضي أبي العزائم. دار الثقافة العربية للطباعة مصر. 198. المعارضة والرد لسهل بن عبد الله التستري. ط دار الإنسان القاهرة. 199. المقدمات للفرغاني مخطوط. 200. مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري. ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان. 201. مكاشفة القلوب للغزالي. ط الشعب القاهرة. 202. مناقب العارفين للأفلاكي (فارسي) ط دنياء كتاب الطبعة الثانية 1362هجري قمري. 203. مناقب الصوفية لقطب الدين المرزي. ط طهران. 204. مناقب الصوفية (فارسي) لأبي المظفر المروزي باهتمام محمد تقي وإيراج أخشار ط طهران. 205. مناقب الصوفية (فارسي) لمنصور بن أردشير ط إيران. 206. مناقب العرافين لشمس الدين الأفلاكي (فارسي) ط دنياء كتاب إيران. 207. من أعلام التصوف الإسلامي لطه عبد الباقي سرور. ط دار نهضة مصر.

208. المنتخبات من مكتوبات المجدد (فارسي). مكتبة أيشيق تركيا. 209. المنقذ من الضلال للغزالي. ط دار الكتاب اللبناني بيروت. 210. المنقذ من الضلال مجموعة مؤلفات عبد الحليم محمود. ط دار الكتاب اللبناني بيروت. 211. إيران. 212. منبع أصول الحكمة لأبي العباس أحمد بن علي بوني. ط مصطفى البابي الحلبي. 213. منح المنة لعبد الوهاب الشعراني. ط مكتبة عالم الفكر القاهرة 1399هـ. 214. منطق الطير لفريد الدين العطار. ط دار الأندلس بيروت. 215. منهاج العابدين للغزالي. ط مصطفى البابي الحلبي مصر. 216. المنهج الموصل إلأى الطريقة الأنهج لمصطفى الصادقي مخطوط. 217. المواقف الإلهية لابن قضيب البان ضمن كتاب الإنسان. الكامل للبدوي ط الكويت. 218. ملانا رومي لبشير محمود أختر (أردو) ط إدارة ثقافت إسلامية باكستان. 219. مواقع النجوم لابن عربي. ط مطبعة السعادة مصر 1325هـ. 220. مهرمنير لمهر علي شاه (أردو) ط باكستان. 221. نزهة المجالس لعبد الرحمن الصفوري. ط مكتبة الشرق الجديد بغداد. العراق. 222. نساء فاضلات لعبد البديع صفر. ط دار الاعتصام القاهرة. 223. نسيم الأنس لزين الدين بن رجب مخطوط. 224. نشاط التصوف الإسلامي لإبراهيم بسيوني. ط دار المعارف القاهرة 1969م. 225. النصائح الدينية لعبد الله باعلوي الحداد مطبعة دار إحياء الكتب

كتب غير الصوفية من المسلمين

العربية القاهرة. 226. نص النصوص لحيدر الأملي مخطوط. 227. النفحة العلية في أوراد الشاذلية لبعد القادر زكي. ط مكتبة المثنى القاهرة. 228. نفحة الروح وتحفة الفتوح لؤيد الدين جندي. ط طهران 1362هـ هجري قمري. 229. نفحات الأنس (فارسي) لبعد الرحمن جامي. ط ... إيران 1337هـ. 230. الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري طرابلس ليبيا 1976م. 231. اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر لعبد الوهاب الشعراني. ط ... مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1378هـ. كتب غير الصوفية من المسلمين: 232. ابن سبعين وفلسفته الصوفية للدكتور أبي الوفاء الغنيمي التفتازاني. ط دار الكتاب اللبناني بيروت 1973 م. 233. أبو نعيم وكتابه الحلية لمحمد لطفي الصباغ. ط دار الاعتصام القاهرة. 234. إتحاف السادة للزبيدي. ط المكتب الإسلامي بيروت 197م. 235. أخبار الحكماء للقفطي. 236. أديان الهند الكبرى للشبلي. ط ... القاهرة 1964م. 237. أساس البلاغة للزمخشري. ط إحياء المعاجم العربية القاهرة. 238. أضواء على التصوف للدكتور طلعت غنام. ط عالم الكتب القاهرة. 239. الاعتصام للشاطبي. ط مطبعة السعادة مصر. 240. الأنساب للسمعاني. ط محمد أمين دمج بيروت الطبعة الثانية 1400هـ. 241. الإنسان الكامل في الإسلام للدكتور عبد الرحمن بدوي. ط وكالة المطبوعات الكويت. 242. البداية والنهاية لابن كثير. ط بيروت.

243. بين التصوف والحياة لعبد الباري الندوي. ط دار الفتح دمشق 1963م. 244. بوارق الأسماع في إلحاد من يحل السماع (أردو) لمير عالم. ط مطبع منشي فخر الدين. ط باكستان. 245. تاريخ التصوف الإسلامي للدكتور عبد الرحمن بدوي. ط وكالة المطبوعات الكويت 1978م. 246. تاريخ التصوف في الإسلام للدكتور قاسم غني ترجمة عربية لصادق نشأت. ط مكتبة النهضة المصرية القاهرة. 247. تاريخ تصوف للدكتور محمد إقبال (أردو) ط لاهور - باكستان. 248. التبصر في الدين للأسفرائيني ط ... القاهرة. 249. تذكرة الحفاظ للذهبي. ط القاهرة. 250. التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية للدكتور عبد الرحمن بدوي. ط وكالة المطبوعات الكويت. 251. التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق للدكتور زكي مبارك. ط دار الجيل لبنان. 252. التصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر شفقة , ط دار السلفية الكويت. 253. التصوف بين الدين والفلسفة للدكتور إبراهيم هلال. ط ... دار النهضة العربية القاهرة. 254. التصوف في تهامة لمحمد بن أحمد العقيلي. ط دار البلاد جدة. 255. التنبيه والرد للمطلي تحقيق محمد زاهد الكوثري. ط مصر 1360هـ. 256. تلبيس إبليس لابن الجوزي. ط دار الوعي بيروت أيضاً. ط دار القلم بيروت. 257. تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني. ط بيروت. 258. جستجودر تصوف إيران (فارسي) للدكتور عبد المحسن زرين كوب. ط مؤسسة انتشارات أمير كبير طهران 1363هـ. 259. حادي الأرواح لابن قيم الجوزية ط دار القلم بيروت لبنان.

260. الخضر في الفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق. ط الدار السلفية الكويت. 261. الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها مذهب الشيعة الإثني عشرية للسيد محب الدين الخطيب. 262. خلاصة الأثر للمحبي. 263. دائرة المعارف الإسلامية (أردو) ط جامعة بنجاب لاهور باكستان. 264. دراسات في التصوف الإسلامي للدكتور محمد جلال شرف. ط دار النهضة العربية بيروت 1980م. 265. دنباله جستجودر تصوف (فارسي) للدكتور عبد الحسين زرين كوب. ط إيران. 266. ذم ما عليه مدعو التصوف لأبي محمد موفق الدين. ط المكتب الإسلامي بيروت. 267. روضة المحبين لابن القيم الجوزية. ط دار الكتب العلمية بيروت. 268. سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي. ط بيروت. 269. الشيعة وأهل البيت للمؤلف. ط ... إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. 270. الشيعة والسنة للمؤلف. ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. 271. صحيح البخاري. 272. صحيح مسلم. 273. الصوفية , الوجه الآخر للدكتور محمد جميل غازي. ط القاهرة. 274. الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية. ط دار الفتح القاهرة. 275. الصوفية في ضوء الكتاب والسنة لعبد المجيد محمد. ط القاهرة. 276. الصوفية في نظر الإسلام لسميع عاطف الزين. ط دار الكتاب اللبناني بيروت. 277. ضحى الإسلام لأحمد أمين. ط القاهرة 1952م. 278. الطبقات لابن سعد. ط بيروت. 279. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية. ط ... إدارة

ترجمان السنة لاهور باكستان. 280. الفصل في الملل والأهواء والنحل للحافظ ابن حزم. ط بيروت. 281. فضائح الباطنية للغزالي. ط مؤسسة دار الكتب الثقافية الكويت. 282. فلسفة الهند القديمة لمحمد عبد السلام ط الهند الرامبوري. 283. الفلسفة الصوفية في الإسلام للدكتور عبد القادر محمود. ط دار الفكر العربي القاهرة. 284. القاديانية للمؤلف ط ... باكستان. 285. القاموس للفيروز آبادي. ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة. 286. القول المنبي في تكفير ابن عربي للنحاوي مخطوط. 287. لسان العرب لابن منظور الأفريقي. ط دار صادر بيروت. 288. مجموعة الرسائل لابن تيمية. ط دار الكتب العلمية بيروت. لبنان. 289. مدخل إلى التصوف الإسلامي لأبي الوفاء الغنيمي ط مصر. 290. المسند للإمام أحمد. 291. المقدمة لابن خلدون. ط مطبعة مصطفى محمد مصر. 292. الملامتية وأهل الفتوة والصوفية لأبي العلاء العفيفي ط دار أحياء الكتب العربية مصر. 293. منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية. ط ... لاهور باكستان. 294. الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل لابن حزم. ط بيروت. 295. الموطأ للإمام مالك. 296. نشأة الفلسفة الصوفية للدكتور عرفان عبد الحميد. ط المكتب الإسلامي بيروت 1974م. 297. النجوم الزاهرة للتغري البردي الأتابكي. ط ... وزارة الثقافة مصر. 298. وفيات الأعيان لابن خلكان. ط بيروت. 299. الوافي بالوفيات. 300. ولاية الله والطريق إليها للإمام الشوكاني. ط القاهرة.

كتب الشيعة والإسماعيلية

301. هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل. ط دار الكتب العلمية. كتب الشيعة والإسماعيلية: 302. أجزاء عن العقائد الإسماعيلية للداعي إبراهيم. ط أمبرين نيشيل بريس 1784م. 303. أربعة نصوص إسماعيلية للداعي الإسماعيلي المجهول بتحقيق ماسنيون. ط باريس. 304. أساس التأويل للقاضي الإسماعيلي النعمان. ط دار الثقافة بيروت. 305. الأصول من الكافي للكليني. ط دار الكتب الإسلامية طهران 1388 هجري قمري. 306. أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي تحقيق صلاح الصادي , ط إيران 1397 هجري قمري. 307. أعيان الشيعة لمحسن الأمين. ط دار التعارف للمطبوعات بيروت. 308. إعتقادات الصدوق لابن بابويه القمي ط إيران. 309. الافتخار للداعي أبي يعقوب السجستاني. ط بيروت. 310. الأمالي للمفيد. ط قم إيران. 311. بحار الأنوار للمجلسي. ط إيران. 312. البرهان في تفسير القرآن لهاشم البحراني. ط إيران. 313. بصائر الدرجات الكبرى للصفار. ط منشورات الأعلمي طهران 1404 هـ. 314. بيت الدعوة الإسماعيلية مخطوط. 315. بين التصوف والتشيع لهاشم معروف حسيني. ط دار القلم بيروت. 316. تلخيص الشافي للطوسي. ط قم إيران. 317. تنقيح المقال للمامقاني. ط طهران. 318. حق اليقين (فارسي) للمجلسي. ط ... إيران. 319. حديقة الشيعة (فارسي) لأحمد بن محمد الأردبيلي. ط طهران.

320. الخصال لابن بابويه القمي. ط إيران. 321. الذريعة إلى تصانيف الشيعة لآقابزرك الطهراني. ط إيران. 322. الرجال للحلي. ط طهران. 323. رجال الطوسي. ط نجف العراق. 324. رجال الكشي. ط كربلاء. 325. الزهد للحسين بن سعيد الأهوازي. ط إيران. 326. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. ط غيران. 327. شرح اعتقادات الصدوق. ط إيران. 328. الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور كامل مصطفى الشيبي. ط بيروت 1982م. 329. طرائق الحقائق للحاج معصوم علي شاه. ط إيران. 330. عيون أخبار الرضا لابن بابويه القمي. ط إيران. 331. فرق الشيعة للنوبختي. ط ... المطبعة الحيدرية نجف العراق. 332. الفصول المهمة في معرفة الأئمة للحر العاملي. ط مكتبة بصيرتي قم إيران. 333. الفكر الشيعي والنزعات الصوفية للدكتور كامل مصطفى الشيبي. مكتبة النهضة بغداد. 334. كمال الدين وتمام المنة لابن بابويه القمي. ط دار الكتب الإسلامية طهران 1395هـ. 335. مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي. ط دار الأندلس بيروت. 336. المقالات والفرق بن عبد الله الأشعري القمي. ط طهران. 337. منهج المقال للأستر آبادي. ط إيران. 338. منهج الكرامة للحلي. ط باكستان. 339. النصرة للسجستاني. ط ... دار الثقافة بيروت. 340. نهج البلاغة المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتحقيق صبحي

كتب غير المسلمين

صالح بيروت. 341. الهفت الشريف للمفضل الجعفي تحقيق مصطفى غالب الإسماعيلي. ط بيروت. 342. ثلاث رسائل في الحكمة الإسلامية لمحمد كاظم عصار. ط المكتبة المرتضوية إيران. كتب غير المسلمين: 343. إنجيل. 344. آئين جوانمري (فارسي) لهنري كاربين. ط إيران. 345. ابن عربي حياته ومذهبه لآسين بلاثيوس ترجمة عربية دكتور عبد الرحمن بدوي. ط وكالة المطبوعات الكويت. 346. التاريخ العام للتصوف ومعالمه لميركس. 347. تاريخ العرب لحتى. 348. التصوف الإسلامي وتاريخه لنيكسون ترجمة عربية للدكتور أبي الوفاء العفيفي. ط القاهرة. 349. التصوف لماسينيون. ط ... دار الكتاب اللبناني بيروت 1984 م. 350. العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدزيهر. 351. فلسفة اليوجاليوجي راما شاراكه ط القاهرة. 352. الفكر العربي ومكانته في التاريخ للمستشرق أوليري ترجمة تمام حسان. القاهرة. 353. قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عربية لمحمد بدران. ط القاهرة. 1964 م. 354. للت دستب كتاب بوذي مقدس ط ... الهند. 355. هذه هي الوجودية لبول فولكيبه.

§1/1