دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية

سعود بن عبد العزيز الخلف

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وبعد: فإن الله عز وجل أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه {وَإنك لتهدي إلى صِرَاط مُسْتَقِيم صِرَاطِ اللهِ الذِي لَهُ ما فى السَّمَوَاتِ وَما فى الأَرْض} الشورى (52-53) فصار الناس فريقين مؤمن، وكافر، فأما المؤمنون فهم فرقة واحدة على سبيل الحق. يهتدون بنور الله ويحتكمون إلى شرعه، فطريقهم نور على نور، إلى أن يبلغوا غاية الأمر ونهايته رضوان الله عز وجل وجنته، وأما الكافرون فهم على سبل متشعبة متفرقة، يجمعهم الكفر وتفرقهم الأهواء والشهوات، فمنهم الملحد الذي يتعامى عن ربه، ويتخبط الدنيا على غير هدى من شرع إلهي،

ومنهم الوثني الذي ضل عن ربه فعبد ما لا يغني ولا يسمن من جوع، ومنهم اليهودي الذي أضله الله على علم وختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، وأعماه الكبر والحسد، وتخبطه الشيطان حتى أعرض عن الحق، وتمرَّغ بالباطل وجابه ربه بكل خلق رذيل وطبع مشين، فاستحق غضب الله ولعنته، {وَمَا ظَلَمَهُمْ الله وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران (117) . ومنهم النصراني عابد الصليب، اتخذ إلهه هواه حتى عدّ الوثنية ديناً حقاً، والشرك توحيداً، وقال في الله قولاً عظيماً، يضاهي بذلك قول الذين كفروا من قبل وضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وزين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلام للعبيد، والمسلم صاحب دعوة وحق، لا يغره كثرة الهالكين ولا قلة السالكين، إذ هو يسير بنور الله عز وجل وهدايته، والمسلم داعية مشفق ناصح، وطبيب ذكي حاذق، ينصح للخلق رغبة في نجاتهم، ويصف الدواء للمريض رجاء الشفاء، ولن يصف الدواء من لم يعرف الداء لهذا صار لزوماً على المسلم الداعية أن يعرف شيئاً من أديان الناس، فإن لذلك عدة فوائد. أولاً: إن ذلك عامل مساعد للداعية يسهل له دعوة أصحاب الأديان المنحرفة بإبراز مواضع الإنحراف والفساد في دياناتهم، ثم نقلهم إلى ما يقابلها في الدين الإسلامي ويبرز لهم نصاعة الإسلام وسلامته من التحريف في مصادره، وانسجامه مع الفطرة البشرية السليمة في عقيدته وعبادته وتشريعاته. ثانياً: إن المنصرين غزو كثيراً من مناطق المسلمين، يبثون سمومهم، ويتصيدون الجهلة من المسلمين والبسطاء لتنصيرهم، فبمعرفة المسلم لديانة

مقدمة

مقدمة المقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وبعد: فإن الله عز وجل أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه {وَإنك لتهدي إلى صِرَاط مُسْتَقِيم صِرَاطِ اللهِ الذِي لَهُ ما فى السَّمَوَاتِ وَما فى الأَرْض} الشورى (52-53) فصار الناس فريقين مؤمن، وكافر، فأما المؤمنون فهم فرقة واحدة على سبيل الحق. يهتدون بنور الله ويحتكمون إلى شرعه، فطريقهم نور على نور، إلى أن يبلغوا غاية الأمر ونهايته رضوان الله عز وجل وجنته، وأما الكافرون فهم على سبل متشعبة متفرقة، يجمعهم الكفر وتفرقهم الأهواء والشهوات، فمنهم الملحد الذي يتعامى عن ربه، ويتخبط الدنيا على غير هدى من شرع إلهي،

ومنهم الوثني الذي ضل عن ربه فعبد ما لا يغني ولا يسمن من جوع، ومنهم اليهودي الذي أضله الله على علم وختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، وأعماه الكبر والحسد، وتخبطه الشيطان حتى أعرض عن الحق، وتمرَّغ بالباطل وجابه ربه بكل خلق رذيل وطبع مشين، فاستحق غضب الله ولعنته، {وَمَا ظَلَمَهُمْ الله وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} آل عمران (117) . ومنهم النصراني عابد الصليب، اتخذ إلهه هواه حتى عدّ الوثنية ديناً حقاً، والشرك توحيداً، وقال في الله قولاً عظيماً، يضاهي بذلك قول الذين كفروا من قبل وضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وزين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلام للعبيد، والمسلم صاحب دعوة وحق، لا يغره كثرة الهالكين ولا قلة السالكين، إذ هو يسير بنور الله عز وجل وهدايته، والمسلم داعية مشفق ناصح، وطبيب ذكي حاذق، ينصح للخلق رغبة في نجاتهم، ويصف الدواء للمريض رجاء الشفاء، ولن يصف الدواء من لم يعرف الداء لهذا صار لزوماً على المسلم الداعية أن يعرف شيئاً من أديان الناس، فإن لذلك عدة فوائد. أولاً: إن ذلك عامل مساعد للداعية يسهل له دعوة أصحاب الأديان المنحرفة بإبراز مواضع الإنحراف والفساد في دياناتهم، ثم نقلهم إلى ما يقابلها في الدين الإسلامي ويبرز لهم نصاعة الإسلام وسلامته من التحريف في مصادره، وانسجامه مع الفطرة البشرية السليمة في عقيدته وعبادته وتشريعاته. ثانياً: إن المنصرين غزو كثيراً من مناطق المسلمين، يبثون سمومهم، ويتصيدون الجهلة من المسلمين والبسطاء لتنصيرهم، فبمعرفة المسلم لديانة

هؤلاء المنصرين يستطيع أن يبين للمسلمين فساد دعوتهم، والانحراف الديني الذي هم عليه، وخبث مقاصدهم ونياتهم. ثالثاً: إن النظرة الفاحصة الواعية لما عليه الأديان غير الإسلام تزيد المسلم يقيناً بدينه، إذ يظهر له تميز الإسلام ورفعته، وأنه الدين الذي قام ولا يزال على التوحيد الخالص، والعبادة الحقة لله عز وجل والشرع الصالح للبشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما يتضح له سلامة مصادر الإسلام من التحريف الذي وقع في مصادر الأديان الأخرى. رابعاً: الوقوف على تحريف أصحاب الأديان الباطلة لأديانهم وابتداعهم فيه تصديق لخبر الله ?عز وجلعنهم، كما أن الإيمان بخبر الله عنهم يصبح إيماناً مفصلاً بعد أن كان إيماناً مجملاً. خامساً: معرفة تاريخ تلك الأديان وواقعها يتبين به المسلم مدى الانحراف الذي وقع فيها، وأسبابه، فيجتنب هذه الأسباب، ويحرص على المحافظة على السنة، ونبذ البدعة إذ البدعة من أبرز أسباب الانحراف في العبادة والتشريع لدى الأديان الأخرى. لهذا سأعرض بإذن الله تعالى في هذه الدراسة الموجزة لليهودية والنصرانية فأشرح ما يتعلق بكل واحدة منهما من ناحية كتبها ومصادرها وعقيدتها وبعض المسائل الأخرى المتعلقة بهما، وذلك بياناً للباطل وتحذيراً منه ونصرة للحق ودعوة إليه، كما قدمت مدخلا فيه مقدمة عن الدين من ناحية تعريفه وباعثه ونشأة علم الأديان. وأسأل الله عز وجل أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصاً لوجهه الكريم.

مدخل إلى دراسة الأديان

مدخل إلى دراسة الأديان أولاً: تعريف الدين الدين في اللغة: مشتق من الفعل الثلاثي دان وهو تارة يتعدى بنفسه، وتارة باللام، وتارة بالباء، ويختلف المعنى باختلاف مايتعدى به. فإذا تعدى بنفسه يكون "دانه" بمعنى ملكه، وساسه، وقهره وحاسبه، وجازاه. وإذا تعدى باللام يكون "دان له" بمعنى خضع له، وأطاعه. وإذا تعدى بالباء يكون "دان به" بمعنى اتخذه ديناً ومذهباً واعتاده، وتخلق به، واعتقده1. وهذه المعاني اللغويه للدين موجودة في "الدين" في المعنى الإصطلاحي كما سيتبين لأن الدين يقهر أتباعه ويسوسهم وفق تعاليمه وشرائعه، كما يتضمن خضوع العابد للمعبود وذلته له، والعابد يفعل ذلك بدوافع نفسية ويلتزم به بدون إكراه أو إجبار. الدين في الإصطلاح: اختلف في تعريف الدين اصطلاحاً اختلافاً واسعاً حيث عرفه كل إنسان حسب مشربه، ومايرى أنه من أهم مميزات الدين. فمنهم من عرفه بأنه "الشرع الإلهي المتلقى عن طريق الوحي" وهذا تعريف أكثر المسلمين.

_ 1 انظر: لسان العرب (2/1467) ، وانظر: كتاب"الدين" محمد عبد الله دراز ص30- 31.

ويلاحظ على هذا التعريف قصره الدين على الدين السماوي فقط، مع أن الصحيح أن كل مايتخذه الناس ويتعبدون له يصح أن يسمى ديناً، سواء كان صحيحاً، أو باطلاً، بدليل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} آل عمران (85) . وقوله?عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِين} الكافرون (6) ، فسمى الله ما عليه مشركي العرب من الوثنية ديناً. أما غير المسلمين فبعضهم يخصصه بالناحية الأخلاقية كقول "كانت"1 " بأن الدين هو المشتمل على الإعتراف بواجباتنا كأوامر إلهية". وبعضهم يخصصه بناحية التفكر والتأمل كقول رودلف إيوكن "الدين هو التجربة الصوفية التي يجاوز الإنسان فيها متناقضات الحياة 2 " إلى غير ذلك من التعريفات التي نظرت إلى الدين من زاويه. وتركت أوجهاً وزوايا عدة. وأرجح التعريفات أن يقال: الدين: هو إعتقاد قداسة ذات، ومجموعة السلوك الذي يدل على الخضوع لتلك الذات ذلاً وحباً، رغبة ورهبة. فهذا التعريف فيه شمول للمعبود، سواء كان معبوداً حقاً. وهو الله عز وجل، أو معبوداً باطلا وهو ما سوى الله عز وجل.

_ 1 كانت (عمانوئيل) فيلسوف ألماني.ذهب إلى أن الإنسان لا يدرك ماهية الأشياء، بل يدرك ظواهرها الحسية في الزمان والمكان. توفي سنة 1804م. المنجد في الأعلام ص513. (2) انظر هذه التعريفات في كتاب الدين د. محمد عبد الله دراز ص (33-36) وكتاب "الإنسان والأديان" للدكتور محمد كمال جعفر ص16-18.

كما يشمل أيضا العبادات التي يتعبد الناس بها لمعبوداتهم سواء كانت سماوية صحيحة كالإسلام، أولها أصل سماوي ووقع فيها التحريف والنسخ كاليهودية، والنصرانية. أو كانت وضعية غير سماوية الأصل كالهندوكية، والبوذية، وعموم الوثنيات. كما يبرز التعريف حال العابد إذ لابد أن يكون العابد متلبساً بالخضوع ذلاً وحباً للمعبود حال العبادة، إذ أن ذلك أهم معاني العبادة. ويبين التعريف أيضاً هدف العابد من العبادة، وهو إما رغبة أو رهبة، أو رغبة ورهبة معاً، لأن ذلك هو مطلب بني آدم من العبادة. والله أعلم.

ثانيا: تقسيم الأديان

ثانياً: تقسيم الأديان تنقسم الأديان التي يدين بها البشر باعتبار النظر في المعبود إلى قسمين: القسم الأول: أديان تدعو إلى عبادة الله وهي في الدرجة الأولى الإسلام، ثم يليه اليهودية، أما النصرانية فإن واقعها وحقيقتها الشرك، وهو عبادة المسيح عليه السلام والروح القدس مع الله تعالى، إلا أن أصحابها يزعمون أنهم يعبدون الله الواحد ذو الثلاثة أقانيم- كما سيأتي تفصيل ذلك. القسم الثاني: أديان وثنية شركية تدعو إلى عبادة غير الله عز وجل وهي: الهندوكية والبوذية وغيرها من الشركيات القديمة والحديثة. والنصرانية يمكن اعتبارها من هذا القسم على اعتبار عبادتهم للمسيح والروح القدس.

ثالثا: علم الأديان في القرآن الكريم وكتابة المسلمين فيه

ثالثاً: علم الأديان في القرآن الكريم وكتابة المسلمين فيه: القرآن الكريم كتاب أنزله الله عز وجل لهداية البشرية جمعاء وهو خاتم الكتب السماويه، وهو كتاب دعوة وهداية لهذا ذكر الله عز وجل فيه أديان الناس السابقة والمتزامنة مع نزوله، لأن ذلك وسيلة من وسائل دعوة أصحاب الأديان، فإن عرض ما هم عليه من الباطل وبيان أوجه بطلانه مع عرض الحق والتركيز على مميزاته، وأوجه رجحانه. كل ذلك مما ينير الأذهان التي غلفها التقليد، والجهل، والهوى، ويفتح أمامها أفاق المعرفة السليمة من أجل المقارنة والموازنة ثم الإيمان عن اقتناع ويقين. وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجد أنه حوى من ذلك الشيء الكثير. فمن ذلك أن الله عز وجل قد حصر الأديان التي عليها الناس في قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله عَلَى كُلِ شَيء شَهِيد} الحج آيه (17) فأديان البشر لاتخرج عن واحد من هذه وهي: الإسلام، واليهودية والصابئة 1، والنصرانية، والمجوسية2، والوثنية.

_ (1) الصابئة اختلف فيهم اختلافاً عريضاً، وأنقل هنا كلام غضبان رومي أحد الصابئة في كتابه عن جماعته فمما ذكر عنهم: "أنهم يؤمنون بالله رباً وخالقاً " ويشركون مع الله في العبادة بدعاء الأنبياء والملائكه، ويعتقدون أن عالم الأنوار وهم من الملائكة وبعض الأنبياء يمنح الخالق بواسطتهم للناس الهداية والصحة والقوة والفضيلة، ويؤمنون بالحساب بعد الموت مباشرة فالصالحون عندهم يذهبون إلى عالم الأنوار، والمذنبون إلى عالم الظلام أو النار الموقده ولا يعتقدون ببعث الأجساد، ويؤمنون من الأنبياء بآدم وشيث وإدريس وسام وإبراهيم ويحيى ويصلون إلى الشمال ناحية القطب الشمالي ويوجد الآن منهم قرابة ثلاثين ألفاً في العراق - هؤلاء هم الذين يسمون الصابئه المندائية. وهناك صابئة حران،وهم وثنيون يعبدون الكواكب وقد انقرضوا ولم يبق إلا المندائية. انظر كتاب "الصابئة" ص26،27،30،60،93،146. 2 المجوس: هم القائلون بأن الله خالق الخير وهو النور وخرجت الظلمة من النور، ويعبدون النار ويسجدون للشمس إذا طلعت. انظر الملل والنحل (1/233) ، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص57.

كما ذكر الله عز وجل الأنبياء عليهم السلام وأبان أن دعوتهم كانت واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُول إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاْعُبُدون} الأنبياء آية (25) وقال عز وجل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} النحل آية 16 وأن دينهم واحد وهو الإسلام قال عز وجل عن نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِيَتِنَا أُمَّة مُسْلِمَة لَكَ} البقره آية (128) . وقال عن نبيه إبراهيم ويعقوب عليهما السلام {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِ الْعَالَمِيَن وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ياَ بني إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُون} البقرة آية (134) وقال عز وجل {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَلُوا إِنْ كُنْتُم مُسْلِمِين} يونس آية (84) . وقال عز وجل {قاَلَ الْحَوَارِيُونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} . آل عمران آية (52) . كما ذكر الله عز وجل مجادلة الأنبياء لأقوامهم وإقامتهم للحجة عليهم من أوجه عديدة.

وذكر الأديان التي يدين بها الناس، فذكر الديانة التي أنزلت على موسى عليه السلام وذلك في آيات عديدة أيضا ومن المثال على ذلك: قوله عز وجل {فَلَمَّا أَتَاَها نودي يَا مُوسَى إني أَنَا رَبُكَ فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّس طُوَى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إنني أَنَا الله لا َإِلَهَ إِلاَّ أَنَا فاعبدني وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْري إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَة أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُ نَفْس بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَنَّكَ عَنْهَا مَن لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاُه فَتَرْدَى} طه آية (12-17) وذكر الله عز وجل انحراف بني إسرائيل وكفرهم وتحريفهم لكلام الله في آيات عديدة منها قوله عز وجل {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} آل عمران آية (78) وقال عز وجل {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} المائدة (62-63) . وذكر الله عز وجل النصارى وعقائدهم وانحرافاتهم في آيات عديدة منها قوله عز وجل {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} المائده (72) . {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّن الذين كفروا منهم عذاب أليم} المائده آية (73) . كما ذكر أقوالاً أخرى عديدة لهم في المسيح وأمه وذكر ادعاءهم صلبه

وأبان عن الحق في كل ذلك. وإضافة إلى أقوال أصحاب الديانات ذكر الله عز وجل أيضاً أصول بعض تلك المقالات المنحرفة فمن ذلك قوله عز وجل {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنَّى يؤفكون} التوبة آية (31) . فبين سبحانه أن هذه المقالة اقتبسها اليهود والنصارى من الكفار قبلهم، وهذا أمر ثابت واضح لكل من نظر في الأديان السابقة على اليهودية والنصرانية فإنه سيجد ادعاء الولد لله- تعالى الله عن ذلك - منتشراً لدى الكفار من الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم. كما ذكر الله ?عز وجل المشركين الوثنيين فذكر عباداتهم وآلهتهم في مثل قوله عز وجل {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} النجم (19-20) . وقال عز وجل {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} الصافات (125) كما ذكر حججهم مجملة ومفصله، فمن المجملة قوله عز وجل {ألم يأتكم نبؤ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين} إبراهيم (9-10) ومن حجج المشركين المفصله وجدالهم لأنبيائهم عليهم السلام قوله عز وجل

{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاؤا إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ... إلى قوله: قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب} هود آية (84-93) كما عقد جل وعلا المقارنات العديدة بين الحق والباطل ليفسح المجال أمام العقل للمقارنة والموازنة من ذلك قوله ?عز وجل {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} يوسف آية (39) وقوله عز وجل {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله

عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم أذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} الأعراف (191-196) . كما ذكر الله عز وجل الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق وينكرون بالتالي الأديان حيث ذكر إمامهم فرعون في مواطن كثيرة منها قوله عز وجل {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} القصص (38) بل بين سبحانه أن فرعون هو إمام الإلحاد وذلك في قوله عز وجل {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} القصص (42-43) فبين سبحانه أن فرعون وأتباعه هم أئمة الدعاة إلى النار، ولاشك أن أعظم الدعاة إلى النار هم الفلاسفة الملاحدة والمؤلهة منهم. وهذا خلاف ما هو مشتهر لدى كثير من الناس من عزو الفلسفة والإلحاد إلى فلاسفة اليونان فإن الصحيح أن الفراعنة كانوا هم أئمة اليونان في هذا، فقد أخذ اليونان فلسفتهم الوثنية عنهم، وكل من نظر في أساطير اليونان وفلسفتهم وكذلك أساطير الرومان الذين ورثوا ذلك عن اليونان، ثم نظر في أساطير وفلسفة الفراعنه قبلهم علم أن هذه الأقوال بعضها من بعض، وإن كان اليونان قد توسعوا في ذلك وانتشرت عنهم تلك الأقوال فنسبت إليهم.

قال د. محمد دراز "لم يبق الآن مجال للشك في أن القدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية، والحضارة المصرية بوجه أخص 1. وليس معنى هذا أن الإغريق (اليونان) كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلاً حرفياً، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليل من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم ينشئوا هذه العلوم إنشاءاً على غير مثال سابق كما ظنه بعضهم، بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيراً. وإن قدماء اليونان أنفسهم يذهبون إلى الإعتراف بهذه التلمذة إلى القول بأن عظماءهم أمثال فيثاغورس 2 وأفلاطون3 مدينون بأرقى نظرياتهم إلى المدرسة المصرية، والناقدون المحدثون وإن استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات، لم يسعهم إلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة في الدين والأخلاق، للنظريات المصرية4 ".

_ 1 يؤكد العديد من الباحثين من بداية القرن العشرين أن الفلسفة اليونانية اقتبست مادتها من الفلسفة الشرقية، وخاصة المصرية، ومن هؤلاء: "ذيوجانس اللائرسي" و"أبل ريه"،وغيرهم. ويستدلون لذلك بأشياء عديدة من أهمها: أن طاليس الملطي الذي اشتهر بأنه منشىء الفلسفة اليونانية كان قد جمع علوم البابليين والمصريين، إضافة إلى أن أفلاطون وفيثاغورس قد زارا مصر واستفادا من علومها. انظر في ذلك:موسوعة الفلسفة1/411،2/183، الموسوعة الفلسفية ص 278، بحوث مقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة لعمر فروخ ص62، الدين المقارن " بحث في سائر الديانات العالمية" ص103-109. 2 فيثاغورس فيلسوف ورياضي يوناني. عاش مع أتباعه حياة مشتركة في الزهد، يقول بتناسخ الأرواح عاش في القرن 6 ق. م. انظر المنجد في الإعلام ص535. 3 أفلاطون: من كبار فلاسفة اليونان وهو تلميذ سقراط ومعلم أرسطو توفي سنة 347ق. م. المنجد في الإعلام ص55. 4 الدين، محمد عبد الله دراز، ص11.

كما أمر الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب لا زالة شبههم وإقامة الحجة عليهم وذلك بالحسنى كما قال عز وجل {وَلاَ تُجَاِدلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالتَّىِ هِيَ أَحْسَن إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} العنكبوت (46) . كما حكم الله عز وجل في هذا القرآن بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه من القضايا الدينية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُ عَلَى بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل (76) فبرأ الله ?عز وجل فيه سليمان ?عليه السلام مما اتهمه به اليهود من الكفر وأثبت له النبوة التي كانوا ينكرونها، كما برأ مريم رضي الله عنها مما اتهمها به اليهود، وأبان عن حصانتها وعفتها وطهارتها، وبرأ ابنها مما نبزه به اليهود من الكفر والضلال، كما برأه مما ادعاه فيه النصارى من الألوهية والبنوة، ورد على اليهود والنصارى دعوى صلبه، وأخبر أنه أنجاه منهم ورفعه إليه. فهذه المعلومات الغزيرة والمتنوعة عن الأديان التي وردت في القرآن الكريم، تدل دلالة واضحة على عظيم أهمية هذا العلم في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، فتنبه لذلك علماء المسلمين فكتبوا في الأديان قاصدين بذلك الدعوة إلى الله من خلال ذلك فكان من أوائل من كتب في ذلك: علي بن ربن الطبري1 في كتابيه "الرد على النصارى2 " وكتاب "الدين والدوله في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم 3 ".

_ 1 أبو الحسن علي بن سهل المعروف بـ "ابن ربن الطبري". كان طبيباً نصرانياً أسلم زمن المتوكل العباسي وكان حياً سنة 247هـ ولا يعرف سنة وفاته على التحديد. انظر المنجد في الإعلام ص434 مقدمة كتاب الدين والدولة ص 5. 2 وهو كتاب مفقود وإنما ذكره المؤلف في كتابه "الدين والدولة". 3 وهو مطبوع بتحقيق عادل نويهض من منشورات دار الآفاق الجديدة في بيروت ويقع الكتاب في 210 صفحة من القطع المتوسط.

والجاحظ 1في كتابه:" الرد على النصارى"2. والأشعري3 في كتابه "الفصول في الرد على الملحدين4 ". والمسعودي5 في كتابه " المقالات في أصول الديانات6". والبيروني7 في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذوله8". وابن حزم9 في كتابه "الفصل في الملل

_ 1 عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ المعتزلى صاحب كتاب الحيوان توفي سنة 255هـ. البداية والنهاية (11/22) . 2 هو كتاب صغير مطبوع مع رسائل أخرى باسم "ثلاث رسائل لأبي عثمان الجاحظ". طبع المطبعه السلفيه بالقاهرة، كما طبع باسم "المختار في الرد على النصارى" تحقيق محمد عبد الله الشرقاوي دار الصحوة للنشر والتوزيع بالقاهرة. 3 علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري ولد سنة 260 هـ وتوفى سنة 330هـ، وهو الذي تنتسب إليه الأشاعره. سير أعلام النبلاء (15/85) . 4 ذكر الكتاب الذهبي في السير (15/87) وابن عساكر في تبين كذب المفترى ص128 وقال عنه " رد فيه على البراهمة واليهود والنصارى والمجوس، وهو كتاب كبير،يشتمل على اثنى عشر كتاباً" وهو في حكم المفقود. 5 أبو الحسن على بن الحسين بن علي المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب توفي سنة 345هـ سير أعلام النبلاء (15/569) . 6 ذكر الكتاب المسعودي نفسه في كتابه المشهور "مروج الذهب"، ويتحدث في كتابه عن صابئة الصين وصابئة المصريين وعن المذاهب النصرانية ومذاهب الوثنية والمجوس وغير ذلك. انظر منهج المسعودي في بحث العقائد والفرق الدينية ص52. 7 محمد بن أحمد ابو الريحان البيروني الخوارزمي فيلسوف رياضي مؤرخ، أقام في الهند بضع سنين وصنف كتباً كثيرة جداً توفي في خوارزم سنة 440هـ. الأعلام للزركلي (5/314) . 8 هو كتاب كبير مطبوع بمطبعة دائرة المعارف العثمانية الهندية 1377هـ، ويتحدث فيه مؤلفه عن أديان الهند وعادات أهلها وأخلاقهم. 9 علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أبو محمد إمام في الفقه وكان من بيت وزراة ورياسة توفي سنة 456هـ انظر البداية والنهاية (12/99) .

والأهواء والنحل1". والشهرستاني2 في كتابه "الملل والنحل3".والقرافي4في كتابه "الأجوبة الفاخره عن الأسئلة الفاجره5"وشيخ الإسلام ابن تيميه6 في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح7". وغيرها كثير أرسى به المسلمون قواعد هذا العلم حيث أوردوا عقائد أصحاب الديانات وعباداتهم ونقلوا ذلك عن كتبهم ومصادرهم المعتبرة لديهم وناقشوهم فيها وأبانوا عن بطلان أقوالهم وأقاموا الحجة عليهم بالأدلة النقلية والعقلية، وسلكوا في ذلك منهجاً دعوياً متأسين بذلك بالقرآن الكريم. وقد سبق المسلمون في هذا المضمار الغربيين الذين لم يعتنوا بهذا العلم إلا في العصور المتأخرة بعد ما يسمى بعصر النهضة في القرنين 15،16م. لأن النصارى بعد عصر النهضة وابتداء عصر الإستعمار أخذوا يرسلون

_ 1 وهو كتاب كبير مطبوع في مصر، مكتبة الخانجي وقد رد فيه مؤلفه على النصارى واليهود إضافة إلى كلامه عن الفرق. 2 أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني الشافعي الفيلسوف والمتكلم المتوفي سنة 548هـ. الأعلام (6/215) . 3 وهو كتاب كبير الحجم مطبوع في مجلدين بتحقيق محمد سيد كيلاني مطبعة الباب الحلبي. 4 أبو العباس شهاب الدين أحمد بن ادريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري المشهور بالقرافي من كبار المالكيه وهو صاحب كتاب الذخيره في المذهب المالكي توفي سنة 684هـ. الأعلام 1/94. 5 هو كتاب مطبوع بدار الكتب العلميه في بيروت وقد رد مؤلفه على النصارى حيث احتجوا في رسالة لهم بالقرآن على صحة مذهبهم فرد المؤلف على صاحب الرسالة النصراني بهذا الكتاب. 6 شيخ الإسلام الامام العالم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيميه المتوفى سنة 728هـ انظر البداية والنهاية (14/148. 7 وهو كتاب مطبوع في مجلدين كبيرين،طبعته مطابع المجد التجارية. كما طبعته دار العاصمة في الرياض في ستة مجلدات تحقيق د/ عبد العزيز العسكر وزملائه.

البعوث من رجال دينهم إلى الشرق الأدنى والأقصى، للإطلاع على ديانات الناس والتعرف عليها والكتابة فيها وتلك البعوث لم تكن في الواقع إلا طلائع الاستعمار. ومن الأشياء الجديدة التي استطاع الغربيون إضافتها إلى هذا العلم، البحث في الديانات القديمة، وساعدهم على ذلك التنقيب عن الآثار، وتعلم اللغات القديمه، فأفادوا في هذا الباب معرفة ديانات الأقوام القديمة التي اندثرت. فأكملوا بذلك ما كان بدأه المسلمون، مع أن المسلمين يتميزون عن الغربيين أن بين أيديهم مرجعاً عظيماً قد حوى في هذا الباب علماً جماً ذا دلالات مفيدة نافعة لهداية الإنسان ومصلحته الدينيه، ذلك هو الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنة المطهرة. وهو مصدر علمي معصوم من الخطأ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيعصم العقل البشري من البحث في علوم لا تعود بفائدة على الإنسان في دينه أو دنياه، كالبحث في أديان أقوام غبرت واندثرت من أهل الشرق والغرب. كما يعطيه المعلومات الصحيحة عن أمور لا يمكن للبشر التوصل إليها والقطع فيها بالحق إلا بالعلم الألهي كما في بحثهم في نشأة التدين وباعثه –كما سيأتي- فإن البحث في ذلك كثير منه هو من باب التخرص إذا لم يستند إلى الوحي الإلهي.

رابعا: باعث التدين

رابعاً: باعث التدين: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِ أُمَّة رَسُولاً} النحل (36) . وقال عز وجل أيضا: {وَإِن مِنْ أُمَّة إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِير} فاطر (24) . قال ابن كثير -رحمه الله- عند الآية الأولى: "وبعث في كل أمة أي من كل قرن وطائفة رسولاً ... ثم قال ... فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ??عليه السلام?1. فهذا فيه دلالة واضحة على أن البشر ماانفكوا عن رسل يدعونهم إلى الله ويشرعون لهم الشرائع التي يتعبدون الله بها، كلما اندرست معالم التوحيد، وانطمست أنواره في نفوسهم. وذلك يعني أن التجمعات البشرية لم تخل من دين تدين به وتضبط كثيراً من نواحي حياتها وِفْقَه. وهذا ما أكده أيضاً علم الآثار والبحوث الاجتماعية في التجمعات البشرية، إذ يصرح كثير من ذوي هذه الاختصاصات: "أن الجماعات البشرية القديمة والحديثة، المتحضرة وغير المتحضرة كان لها دين تدين به. قال هنرى برجسون2: لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير

_ 1 تفسير ابن كثير (2/522) . 2 هو فيلسوف يهودي الأصل وشاع أنه اعتنق النصرانية في أخريات حياته ولكن فلسفته كلها تدل على أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا ذا دين مطلقا، وإنما كان دهرياً يرى الحياة قوة مندفعة تخبط خبط عشواء توفي 1941م انظر حاشية الدين ص 143.موسوعة الفلسفة ص 96

علوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد جماعة بغير ديانة " 1. فهذه الدلالات المؤكدة، والحقيقة التي لا تقبل الجدل في أن النزعة الدينية متعمقة في الإنسان ومغروزة فيه تجعل الباحث والناظر في ذلك يتساءل عن الباعث على هذا التدين ما هو؟ مع أن الدين ليس من الماديات، ولا من الشهوات التي تتعلق بها النفوس، بل الدين له تبعات ولوازم تجعل الإنسان في كثير من الأحيان يبذل دمه من أجله فضلا عن ماله ووقته وعواطفه، ويتحكم الدين في كثير من تصرفات الإنسان وعلاقاته. فلهذا كثر في بيان الباعث على التدين القيل والقال، والاستنتاجات، والتخمينات. وإليك بعض هذه الأقوال وهي كلها لغير المسلمين: قال بعضهم: إن الدافع إلى التدين الخوف من الطبيعة حوله بما فيها من برق، ورعد، وزلازل، وبراكين، وحيوانات متوحشة، جعلت الإنسان في الأزمان القديمة وهو الضعيف الذي لا حول له ولا طول مع هذه الأحوال المتغيرة حوله يبحث عن قوة غيبية لها سيطرة وتأثير في هذه الطبيعة حوله، ولها قدرة على حمايته وحفظه، فألهَّ وعبد ما يرى أنه أقوى وأقدر على حمايته من المخلوقات التي حوله كالشمس والقمر والبحر ونحو ذلك 2. وقال بعضهم وهو ماكس موللر3: أن العقل هو الباعث على التدين،

_ 1 نقلا عن كتاب "الدين" د/ محمد دراز ص83 وانظر الإنسان في ظل الأديان د/ محمد نجيب ص25. اليهود وراء كل جريمه وليم كار ص37 ترجمة خير الله طلفاح. 2 هذا قول الانجليزي جيفونس في كتابه " المدخل إلى تاريخ الديانات" نقلا عن كتاب الدين د. محمد دراز ص125. 3 مستشرق ألماني من علماء اللغات ومن الدارسين المتعمقين في دراسة الأساطير والأديان توفي 1900م. الأعلام5/145

وذلك أن العقل ميزة الإنسان عن الحيوان، وهو باعث على النظر والتفكر في هذه المخلوقات، والإعجاب بها، وتعظيمها، ومن هنا أخذ العقل يفكر فيما وراء الطبيعة، وأداه عقله مع اللغة المستخدمة في الحديث عن الجمادات1 إلى صبغها بصبغة الأحياء ذوات الأرواح، مما جعله يتعبد لها ويتخذها إلها 2. وهناك قول ثالث في الباعث قال به دوركايم الفرنسي3 وهو أن الحاجة الإجتماعية هي الباعث على التدين، وذلك أن المجتمعات البشرية تحتاج إلى نظم وقوانين تحفظ الحقوق وتصون الحرمات، ويؤدي كل إنسان واجبه بمراقبة داخلية، مما جعل بعض الأفذاذ وذوي القيادة يتولد في أذهانهم الدين، ويبثونه في جماعتهم، فتقبله الجماعة لحاجتها لذلك4. هذه الأقوال يظهر منها واضحاً إدعاء أن الدين مصدره الإنسان، وأن باعثه أمر من الأمور المتعلقة بالطبيعة حول الإنسان، أو دوافع داخلية في الإنسان. ولا تحتاج هذه الأقوال إلى كثير عناء في إبطالها وردها، إذ أن هذه البواعث المذكورة كثيراً ما تكون غير موجودة، ومع ذلك يكون التدين ظاهراً واضحاً يصدم دعاة الإلحاد ويهدم تخرصاتهم. ولا يعدو ما ذكر هنا من باعث التدين أن يكون تخرصا وفرضاً باطلاً، إذ أن الحديث عن باعث التدين يحتاج إلى سبر أغوار النفس البشرية، ودراسة

_ 1 المراد أن اللغة يعبر بها عن بعض الجمادات، وكأن لها إرادة وفيها روح كقولهم النهر يجري والشمس تطلع والمطر ينهمر ونحو ذلك. 2 انظر "الدين" ص114- كتاب "الله جل جلاله" للعقاد ص17. 3 هو أميل دور كايم عالم إجتماع فرنسي توفى 1917م. انظر المنجد في الاعلام ص290 4 انظر "الدين" ص150 وكذلك كتاب الإنسان في ظل الأديان ص39.

تاريخية متعمقة، تشمل الإنسان الأول، وتسير معه سيراً متأنياً، كاشفة عن مشاعره وأحاسيسه وتقلباتها حسب الظروف والأحوال التي تحيط به، إذ أن الدين له أوقات يظهر بها ويتضح جلياً في حياة الإنسان، وهي أوقات الأزمات والمخاوف التي يقع فيها الإنسان. كما أن له أوقاتاً يكمن فيها ولا يظهر، وهي أوقات الرخاء والغنى، إذ يقع الإنسان فيها فريسة سهلة للغفلة والبعد عن الدين. كما أن الباحث يجب أن يكون في حال بحثه خاليا من المؤثرات البيئية والدينية والثقافية، وذلك من أجل أن يكون حكمه على الظواهر التي يقع عليها سليما من المؤثرات الخارجية وأنَّى للباحث أن يتخلص من ذلك1. فهذه الأمور تجعل الوصول إلى باعث التدين الحقيقي من الصعوبة والعسر ما لا يتمكن منه الإنسان. ونحن المسلمين نعتقد أن الباعث على التدين: هو الفطرة، ونعتمد في ذلك على الوحي الإلهي والنور الرباني، فإن القرآن والسنة نصا على أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق والعبودية له والبراءة من الشرك2. يدل على ذلك قول الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلكَ الدِينُ الْقَيِم وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الروم (20) . وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ

_ 1 انظر في الرد على هذه التخرصات كتاب الدين ص114-164. 2 أكثر السلف على أن المراد بالفطرة الإسلام. انظر فتح الباري (3/248) .

عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِكُمْ قَالُوا بلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِيَن أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِيَة مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكَنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون} الأعراف (172) . فهذه الآية تشهد للآية قبلها، وتبين أن الله جعل ذلك في فطر بني آدم، وأنه أخرجهم من أصلاب أبائهم وأخذ عليهم بذلك العهد والميثاق. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس ?رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا "لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك" 1. وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ?عليه السلام بنعمان - يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِكُمْ قَالُوا بلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَاَمَةِ إِنَّا كُنَا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ... } الآية2. ومن الأدلة الدالة على أن الإنسان مفطور على الدين الحق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء"3.

_ 1 خ الانبياء (4/106) م. المنافقين (4/2160) . 2 حم (1/272) وذكر ابن كثير في تفسيره (2/241) روايات عديدة في هذا المعنى ورجح وقفها على ابن عباس رضي الله عنهما. 3 أخرجه خ الجنائز ب92 - انظر فتح الباري (3/246) .

وحديث عياض بن حمار المجاشعى رضي الله عنه أن رسول الله ?صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... الحديث"1. فهذه الأدلة صريحة في بيان أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق، والعبودية له وهذا هو التدين وذلك باعثه -ومن أصدق من الله حديثا-. كما دلت هذه الأدلة أيضاً على أمرين: أحدهما: أن هذه الفطرة والإقرار بالخالق إلهاً ورباً، قابلة للتأثر والتغير والإنحراف بفعل مؤثرات خارجية، ولذلك نعتقد بأن السبب في وجود الوثنيات السابقة في الأمم البائدة، واللاحقة في الأمم القديمة والحاضرة هو هذه المؤثرات التي وردت في هذه النصوص. ثانيهما: أن المؤثرات التي تؤدي إلى انحراف الفطرة عن وجهتها الصحيحة على ضوء هذه الأدلة ثلاثة وهي: 1- الشياطين: وهي المؤثر الخارجي الأصلي والأول في هذا الأمر كما دل على ذلك حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه المتقدم. 2- الأبوان ويقوم المجتمع بدور الأبوين في حال فقدهما: وهذا المؤثر هو أقوى المؤثرات، وأخطرها لشدة التصاق الأولاد بآبائهم وقوة تأثيرهم عليهم. وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم.

_ 1 أخرجه م. الجنة (4/2197) حم (4/162) .

وقد قدمت الشياطين على الآباء لأن الشياطين هي المؤثر الخارجي الأول في انحراف الآباء أنفسهم. 3- الغفلة: وهي المؤثر الثالث في انحراف هذه الفطرة كما دلت على ذلك آية سورة الأعراف. ولسائل أن يسأل: ما هي فائدة الفطرة وهي على هذه الحال من الضعف1 حيث تتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي تؤدي إلى انحرافها، ولا يكاد الإنسان ينفك عن واحد من هذه المؤثرات والصوارف، أو كلها؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن حكمة الله اقتضت جعل الفطرة بهذه الحال ليتحقق الغرض من ابتلاء الإنسان بالخير والشر ومن ثم جزاؤه على عمله، إذ لو كانت الفطرة قوية لا تتأثر بشيء لما وقع الكفر والإنحراف في بني آدم، بل صاروا غير قابلين للكفر فلا يتحقق الإبتلاء، ولله الحكمة البالغة. ومع ذلك فإن لهذه الفطرة فوائد عديدة منها: أولاً: أن هذه الفطرة غرزت في النفس البشرية التدين والتعبد لله تعالى، فإذا لم يهتد الإنسان إلى الله عز وجل فإنه يُعبد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى التدين، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام

_ 1 يلاحظ أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة جداً منها ما ذكره الله عز وجل في قوله {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ... } آل عمران آيه (14) ومنها أنه مجبول على حب الطعام الطيب والماء العذب، والنفرة من الطعوم والروائح الخبيثة، وحب من أحسن إليه، وكره من أساء إليه وأشياء عديدة، وهي فطرة قوية ليس من السهل تغييرها أو تبديلها وذلك لأنه لا يتعلق بها إبتلاء أو امتحان بل يتعلق بها أمور عديدة منها أن بها قوام الإنسان وصلاح معاشه وحياته.

الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثاً ليسد به جوعته. وهذا ما يفسر لنا وجود التدين عند عموم البشر وقد يكون الدين والمعبود في كثير من الأحيان باطلاً. ثانياً: أن هذه الفطرة جعلت في جبلة الإنسان قبول العبودية والانسجام مع لوازمها، وهذا من الأمور المهمة للإنسان، لأن كل ما لا يتفق مع الفطرة فإن النفس تنفر منه ولا تستجيب لمتطلباته. ثالثاً: أن هذه الفطرة مرجحة للحق، فإذا تعرف الإنسان على دينين حق وباطل، فإن الفطرة تميز بينهما وتميل إلى الحق بل يقع ذلك في قرارة النفس ويتيقن القلب منه، فإما أن يعلن ذلك ويلتزم به، أو لا يستجيب له بسبب هوى، أو خوف، أو إلف وتقليد ونحو ذلك من الصوارف عن الحق. كما قال عز وجل عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًا} النمل آيه (14) . رابعاً: أن هذه الفطرة تهب للمهتدي يقينا بالحق الذي هو عليه وإن لم يكن عنده من الأدلة النظرية ما يهبه هذا اليقين، وهذا يفسر لنا -والله اعلم- عدم ترك المسلم لدينه رغبة عنه وما ذلك إلا لتناسبه مع فطرته، فيعطيه ذلك يقينا بأنه الحق، وكذلك من اهتدى إلى الإسلام من ذوي الأديان الأخرى الباطلة، فإنه يتمسك به تمسك الغريق بحبل النجاة، وما ذلك إلا لتيقنه من أن هذا الدين هو الحق، لتناسبه وانسجامه مع الفطرة. والله اعلم.

خامسا: بيان أن التوحيد سبق الشرك

خامساً: بيان أن التوحيد سبق الشرك: قد تقدم بيان أنه لم توجد أمة من الأمم إلا وكان لها دين تدين به، وعبادة تلتزم بها، كما تقدم بأن الأديان نوعان: دين التوحيد وهو سماوي، وأديان وضعية شركية. وقد زعم الملحدون: أن الشرك كان أسبق في الوجود على الأرض من التوحيد، وهو قول مبني على إنكارهم للخالق جل وعلا، وزعمهم أن الإنسان إنما وجد من الطبيعة حيث كان أميبا 1، ثم تطور بفعل الرطوبة حتى وصل بعد أزمان عديدة إلى صورة القرد، ثم تطور فصار القرد إنساناً 2، فزعموا أن هذا الإنسان وكان في ذلك الوقت في طور الطفولة البشرية أخذ يبحث عن إله يعبده، فتوجه إلى عبادة الأباء والأجداد، والأشجار، والحيوانات الضخمة، والشمس، والقمر، إلى غير ذلك من الأشياء التي يستعظمها في نفسه، ثم بدأ هذا الإنسان يتطور في عقله وأحاسيسه، فبدأ يتخلى عن كثير من الآلهة التي كان يعبدها حتى توصل في عهد الفراعنة إلى التوحيد، ولا يعني ذلك عندهم عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما عبادة إله واحد وهو "رع" في زعمهم الذي يرمز له بقرص الشمس. ظاهر من هذا القول أن أصحابه يزعمون أن الأديان من صنع البشر وليست من قبل الله عز وجل،

_ 1 أميبا أو أميبه. حيوان أولى يتكون من خلية دقيقة ذات نواة وليس لها جدار، شكلها غير ثابت، ويتغير تبعاً لامتداد الأقدام الكاذبة وانكماشها. انظر: الصحاح في اللغة والعلوم ص 39 بتصرف. 2 انظر مذهب النشوء والارتقاء - منيرة الغاياتي ص12، أيهما هو الصحيح الخلق أم النشوء د. و. ى أوانيل ص7، ما أصل الإنسان - د. موريس بوكاي ص30.

والعجيب أن يوافقهم على هذا القول بعض المنتسبين للإسلام كالعقاد1 في كتابه "الله جل جلاله"2 وعبد الكريم الخطيب في كتابه "قضية الألوهية بين الفلسفة والدين"3. وقد زعم أصحاب هذا القول أن لهم عليه دليلين: أولا: القياس على الصناعة، فكما أن الإنسان قد تطور في صناعته فهو كذلك تطور في ديانته. ثانياً: أن حفريات الآثار دلتهم على أن الناس وقعوا في الشرك وتعدد الآلهة وأن الإنسان عرف التوحيد متأخراً 4. وهذا في الواقع قياس فاسد، واستدلال باطل، فقولهم أن الدين كالصناعة قياس مع الفارق لعدة أمور: أولاً: أن الصناعات شيء مادي، والأديان شيء معنوي، فكيف يقاس شيء معنوي غير محسوس على شيء مادي محسوس فهو كمن يقيس الهواء على الماء. ثانيا: أن الصناعة تقوم على التجربة والملاحظة وتظهر النتائج بعد استكمال مقوماتها، بخلاف الدين الذي لا يقوم على ذلك ولا تظهر نتائجه في هذه الحياة الدنيا. ثالثا: يلزم من هذا القياس أن يكون الإنسان في هذا الزمن صادق التدين خالص التوحيد، لأن الصناعة قد بلغت مبلغاً عاليا من التطور، والواقع خلاف ذلك فإن الإنسان أحط ما يكون من الناحية الدينية، إذ أن الإلحاد متفشٍ في أكثر بقاع العالم. كما يلزم منه أن لا يوجد شرك في هذا الزمن، والواقع

_ 1 عباس بن محمود العقاد أديب مصري توفي سنة 1383هـ.الأعلام 3/266 2 انظره في - ص (7/35) من الكتاب. 3 انظره - ص (70-95) . 4 انظر: كتاب "الله جل جلاله" للعقاد ص (7،27) .

خلاف ذلك، حيث الشرك متفشٍ في الشرق والغرب. أما زعمهم الاستدلال على قولهم بالآثار ومخلفات الأمم السابقة، فيقال: إن هذه الآثار ناقصة، فلا دلالة فيها على ما ذكروا سوى التخمين ومحاولة الربط بين أمور متباعدة، وغاية ما تدل عليه الحفريات والآثار أن الأمم السابقة وقعت في الشرك، وهذا لا ننكره بل القرآن والسنة نصا على ذلك وبيناه، أما عبادة الإنسان الأول وعقيدته فلا يمكن معرفتها من خلال الآثار حتى يعثروا على الإنسان الأول ويجدوا آثاراً تدل على عقيدته وعبادته. ثم إن من المؤكد أن الأمم تتقلب في عباداتها، فتنتقل من التوحيد إلى الشرك، ومن الشرك إلى التوحيد، فمثلاً أهل مكة كانوا على التوحيد دين إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ثم وقعوا في الشرك، ثم عادوا إلى التوحيد بدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فمعرفة عبادة أمة من الأمم لا يعني أنها لم تعرف سوى تلك العبادة، بل ذلك يعني أنها كانت على تلك العبادة في تلك الفترة فقط. وبهذا يظهر جليا واضحاً فساد هذا القول، وأن ما استدلوا به ليس إلا تخرصات وتوهمات، لا تقوم في وجه الحق الواضح البين وهو: أن الإنسان أول ما عرف التوحيد، ثم بدأ بالانحراف فتدرج في ذلك حتى وقع في الشرك، وذلك لأن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبيا يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد إلى أن وقع بنو آدم في

الشرك بعده بأزمان- وهذا يقر به ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالإسلام أو باليهودية والنصرانية إلا من تابع قول الملحدين منهم. ومن الأدلة زيادة على هذا قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّة وَاحِدَة فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ مُبَشِرينَ وَمُنْذِرِينَ} البقرة الآية (213) . قال ابن عباس ?رضي الله عنه فيما روى عنه ابن جرير بسنده "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" 1 ويؤيد هذا قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما {كَانَ النَّاسُ أُمَّة وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ ... } الآية. ويؤيده أيضا قوله عز وجل في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا} الآيه (19) . فهذا ينص على أن بني آدم عبدوا الله?عز وجل??فترة من الزمن وهي عشرة قرون2 كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه، ثم إنهم انحرفوا عن هذا النهج القويم فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه بين لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عنه أنه قال في معنى قول الله

_ 1 تفسير ابن جرير (2/334) . 2 يلاحظ أن القرن لا يعني بالتأكيد مائة سنة،كما هو عليه الحال في تعارف الناس الآن، فقد يعني ذلك الجيل كما في الحديث (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ... ) .أخرجه خ. فضائل الصحابه الصحيح مع الفتح (7/5) م فضائل الصحابه (4/1962) من حديث أبي هريرة

تعالى {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} نوح (3) ، قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت "1. فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل، ولا يعني استدلالنا هذا أن هذا الأمر لم يثبت إلا عن طريق الوحي -وإن كان كافياً في هذا - بل إن هذا القول أثبته علماء في الآثار وباحثون في الأديان من الغربيين وغيرهم. يقول الباحث "آدمسون هيوبل" المتخصص في دراسة الملل البدائية:" قد مضى ذلك العهد الذي كان يتهم الرجل القديم بأنه غير قادر على التفكير فيما يتعلق بالذات المقدسة أوفي الله العظيم، ولقد أخطأ "تيلور"2 حيث جعل التفكير الديني الموحد نتيجة للتقدم الحضاري والسمو المعرفي، وجعل ذلك نتيجة لتطور بدأ من عبادة الأرواح والأشباح ثم التعدد ثم أخيراً العثور على فكرة التوحيد ". ويقول الباحث " اندري لانج" من علماء القرن الماضي: " إن الناس في إستراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي، وقد أكد هذا الرأي العالم الاسترالي "وليم سميث" حيث ذكر في كتابه "أسس فكرة التوحيد" مجموعة من البراهين والأدلة

_ 1 انظر صحيح البخاري مع الفتح (8/667) . (2) الفريد تيلر فيلسوف بريطاني توفي سنة 1945م.موسوعة الفلسفة ص 145

جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أن أول تعبد مارسه الإنسان كان تجاه الله الواحد العظيم". ويقول الدكتور الحاج " أورانج كاي" من علماء الملايو في أندونيسيا "عندنا في بلاد أرخبيل الملايو دليل أكيد على أن أهل ديارنا هذه كانوا يعبدون الله الواحد، وذلك قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الديار، وقبل أن تدخل النصرانية. وفي عقيدة جزيرة كلمنتان بأندونيسيا لوثة من الهندوسية ورائحة من الإسلام، مع أن التوحيد كعبادة لأهل هذه الديار كان هو الأصل قبل وصول الهندوسية أو الإسلام إليها. وإذا رجعنا إلى اللغة الدارجة لأهل هذه الديار قبل استخدام اللغة السانسكريتية أو قبل هجرة الهندوسية أو دخول الإسلام تأكدنا من أن التصور الإعتقادي لأجدادنا حسب النطق والتعبير الموروث هو أن الله في عقيدتهم واحد لاشريك له"1.

_ 1 كتاب التفكير الديني في العالم قبل الإسلام - ص (28-30) بتصر

الباب الأول: اليهودية

الباب الأول: اليهودية * ... اليهودية ديانة اليهود الذين يزعمون الانتساب إلى بني إسرائيل، وقد زعموا زوراً وبهتاناً أن ديانتهم هي ديانة موسى عليه السلام، والحق أن رسالة موسى عليه السلام رسالة سماوية هي الإسلام، كما قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} يونس (84) ، وقال سحرة فرعون بعد إيمانهم: {ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} الأعراف (126) . إلاَّ أنَّ اليهود بعد حرفوا تلك الديانة، وعبثوا فيها وفق أهوائهم وأغراضهم، مما جعلها بدل أن تهدي إلى الحق والرشاد وما فيه الفلاح والنجاح أصبحت تدعوا إلى الباطل من الاعتقاد وتنكب طريق الرشاد، بل أصبح من العسير التعرف على الحق الصريح من خلالها. ولذا سنعرض في الفصول القادمة لبيان ما يتعلق بهذه الديانة وأصحابها من ناحية تعريفها، وتاريخها ومصادرها وشعائرها وفرقها:-

الفصل الأول: التعريف باليهودية

الفصل الأول: التعريف باليهودية المبحث الأول: تعريف كلمة يهود ... المبحث الأول: تعريف كلمة يهود اليهود لغة: اختلف في كلمة اليهود، هل هي عربية مشتقة أم غير عربية، فقال البعض: إنها عربية مشتقة من " الهود" وهو التوبة والرجوع. قال عز وجل في ذكره لدعاء موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيكَ} الأعراف آية (156) 1. وقال البعض: إنها غير عربية، وإنما هي نسبة إلى يهوذا أحد أسباط بني إسرائيل. أو إلى دولة يهوذا التي كانت في فلسطين بعد سليمان عليه السلام. وهذا أرجح فيما يظهر في هذه النسبة، لأن هذا الإسم وهو " اليهود"لم يذكره اليهود في كتابهم2 إلاَّ في سفر عزرا الذي يتحدث عن فترة سبي شعب دولة يهوذا إلى بابل - كما سيأتي ذكره -.3 ويظهر من هذا أن تلقيبهم باليهود كان من قبل ملوك الفرس الذين صار اليهود تحت حكمهم بإسقاطهم لدولة بابل - كما سيأتي - 3 اليهود اصطلاحاً: هم الذين يزعمون أنهم أتباع موسى عليه السلام.

_ 1 انظر القاموس المحيط ص 42. 2 المراد بكتابهم: ما يسميه النصارى بـ: العهد القديم. وهو التوراة والأسفار الملحقة بها. 3 انظر ص49.

وقد وردت تسميتهم في القرآن الكريم ب قوم موسى، وبني إسرائيل نسبة إلى يعقوب عليه السلام، وكذلك أهل الكتاب، واليهود. إلاَّ أن الملاحظ أن هذه التسمية الأخيرة - اليهود - لم يذكروا بها إلاّ في مواطن الذم، كقول الله عز وجل: {وَقَالَت اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةٌ غُلَّتْ أيدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ} المائدة آية (64) . وقوله عز وجل: {وَقَالَت اليَهُودُ وَالنَّصارَى نَحْنُ أَبْنَاؤ اللهِ وَأَحِبَّاؤُه} المائدة آية (18) . وقوله عز وجل: {وَقَالَت اليَهُودُ عُزَيرُ ابن الله} التوبة آية (30) . وقوله عز وجل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيا} آل عمران آية (67) . وهذا يدل على أنهم تلقَّبوا بهذا اللقب بعد أن فسد حالهم وانحرفوا عن دين الله. والله أعلم 1.

_ 1 انظر الأديان في القرآن ص 135 - اليهودية أحمد شلبي ص 86، الشخصية اليهودية ص27، الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 15.

المبحث الثاني: مجمل تاريخ اليهود

المبحث الثاني: مجمل تاريخ اليهود من المعلوم أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، ويعقوب هو الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، وكان يسكن في منطقة فلسطين، متنقلاً في مناطق عدة فيها، وكان توطنها هو وأبناؤه من بعد إبراهيم الخليل عليه السلام يعيشون فيها حياة البداوة. قال ?عز وجل فيما حكاه من كلام يوسف عليه السلام: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحسَنَ بِي إِذ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِنَ البَدْوِ} يوسف آية (100) . قال ابن كثير: "من البدو" أي من البادية، قال ابن جريج وغيره: "وكانوا أهل بادية وماشية " 1. ولهذا سنبدأ في بيان تاريخ اليهود من يعقوب عليه السلام ودخوله أرض مصر. أولاً: انتقال يعقوب عليه السلام بأولاده من بادية فلسطين إلى مصر: بعد أن مكَّن الله ليوسف عليه السلام في أرض مصر وصار على خزائنها، أرسل إلى أبيه وأهله جميعاً أن يأتوا إليه، فأقبل يعقوب عليه السلام بأولاده وأهله جميعاً إلى مصر واستوطنوها، ويذكر اليهود في كتابهم أن عدد أنفس بني إسرائيل حين دخلوا مصر سبعون نفساً. وكانوا شعباً مؤمناً بين وثنيين، فاستقلوا بناحية من الأرض أعطاهم إياها فرعون مصر، فعاشوا عيشة طيبة زمن يوسف عليه السلام. ثم بعد وفاة يوسف عليه السلام بزمن الله أعلم

_ 1 تفسير ابن كثير (2/448) .

بطوله تغيَّر الحال على بني إسرائيل وانقلب عليهم الفراعنة طغياناً وعتوًا واستضعافاً لبني إسرائيل، فاستعبدوهم وأذلوهم، وبلغ بهم الحال ما ذكر الله عز وجل في قوله: {إِنَّ فِرْعَونَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ, كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَونَ وَهاَمانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} القصص آية (4-6) . فكان الفراعنة يقتلون الذكور ويستحيون الإناث، واستمرت هذه المحنة وهذا البلاء عليهم زمناً طويلاً، إلى أن بعث الله عز وجل موسى عليه السلام، فدعا فرعون إلى الإيمان بالله، وأن يترك دعوة الناس إلى عبادة نفسه، وأن يرفع العذاب عن بني إسرائيل، ويسمح لهم بالخروج من مصر. فأبى فرعون ذلك بغطرسة وكبر، واستمر في تعذيب بني إسرائيل كما قال عز وجل: {وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَومَهُ, لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآلهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} الأعراف آية (127) . فأخذ الله تعالى فرعون وقومه بالجدب وهلاك الزروع، وأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ولكنهم استكبروا وجحدوا، فأوحى الله إلى موسى??عليه السلام بعد ذلك بالخروج ببني إسرائيل. ثانياً: خروج بني إسرائيل من مصر: خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل ليلاً بأمر الله عز وجل له بذلك، قال ?

عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَكُم مُتّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِين إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُون وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْناَهُم مِن جنَّاَتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقاَمٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَائِيل فأَتَبَعُوهُم مُّشرِقِينَ فَلمَّا تَرَاءَى الْجَمْعاَنِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِْ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْر فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَعَهُ, أَجْمَعِين ثُمَ أَغْرَقْنَا الآخَرِين} الشعراء الآيات (52-66) . فأنجى الله عز وجل موسى ومن معه، وأهلك فرعون وجنوده. ويذكر اليهود في كتابهم أن مدَّة مكثهم في مصر كانت أربعمائة وثلاثين عاماً 1، وكان عدد الرجال عند الخروج دون النساء والأطفال نحو ستمائة ألف رجلٍ 2، وهذا عدا بني لاوي أيضاً الذين لم يحسبوهم. وهو عدد مبالغ فيه جدا، إذ معنى ذلك أن عددهم كان وقت خروجهم بنسائهم وأطفالهم قرابة مليوني نسمة، وهي دعوى مبالغ فيها جدا ولا يمكن تصديقها، إذ أن ذلك يعني أنهم تضاعفوا خلال فترة بقائهم في مصر قرابة ثلاثين ألف ضعف، إذ كان عددهم وقت الدخول سبعين نفساً، والله عز وجل قد ذكر قول فرعون {إنَّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون} ومليونا شخص لا يمكن أن يعبَّر عنهم بهذا.

_ 1 سفر الخروج (12/40) ، وأكثر علمائهم على أن المدة المذكورة خطأ، وأن الصواب هو 215 عاماً فقط هي كل مدة بقائهم في مصر. انظر: اليهودية والمسيحية ص74، اليهودية. أحمد شلبي ص261. 2 سفر الخروج (12/37) .

كما أن تحرك مليوني شخص في ليلة واحدة مستحيل، إذا علمنا أن في هذا العدد أطفالاً ونساءً وشيوخاً. والله أعلم. ثالثاً: ما حدث من بني إسرائيل بعد الخروج: حدث من بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر حوادث عدة. فمن هذه الحوادث: طلبهم من موسى أن يجعل لهم صنماً إلهاً، وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَجَاوَزنَا ببني إسرائيل البحرَ فَأتواْ علَى قَومٍ يعكُفُونَ على أصنامٍ لَّهُم قالواْ يَا موسَى اجْعَلْ لنَا إِلَهاً كَمَا لَهُم آلهة قَالَ إنّكُم قَومٌ تجهَلُونَ إنَّ هَؤلاَءِ مُتبّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعمَلُونَ قَالَ أغَيرَ اللهِ أَبغِيكُم إلهاً وَهُوَ فَضَّلكُم عَلَى العَالَمِينَ} الأعراف (138-140) . ولا شك أن هذا الطلب من بني إسرائل مدعاة للعجب والاستنكار، فقد رأوا من الآيات ما فيه مقنع وكفاية لو كانوا يعقلون. ومنها: عبادتهم للعجل: وذلك أن موسى عليه السلام لما ذهب لموعده مع ربِّه، أضل السامري بني إسرائيل، وصنع لهم عجلاً مسبوكاً من الذهب الذي استعاره بنو إسرائيل من المصريين عند خروجهم من مصر، ودعاهم إلى عبادته، فعبدوه في غياب موسى عليه السلام، وقد حذّرهم هارون عليه السلام ونهاهم عن ذلك. قال الله عز وجلَّ: {وَلقَد قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتَنْتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمرِي قَالُواْ لَن نَّبرَحَ عَليهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرجِعَ إِلينَا مُوسَى} طه آية (90-91) .

ولما رجع موسى عليه السلام إلى قومه غضبان أسفا، أنَّبهم وأحرق العجل وذراه في اليم، ثم حكم عليهم بأن يقتل عبدة العجل أنفسهم ليتوب الله عليهم. وروي في كيفية قتلهم أن يقوم أناس منهم بالسكاكين ومن عبد العجل جلوس، فتغشاهم ظلمة فيبتدئ الواقفون بطعن الجالسين حتى تنقشع الظلمة فتكون توبة لمن مات ولمن بقي منهم1. ومنها: نكالهم عن قتال الجبابرة: دعا موسى?عليه السلام قومه إلى قتال الجبابرة وهم قوم من الحيثانيين والفزريين والكنعانيين، وكانوا يسكنون الأرض المقدسة 2. فأبى بنوا إسرائيل القتال وجبنوا عنه، واقترحوا على موسى عليه السلام ما ذكره الله عز وجلفي قوله: {قَالُواْ يا موسى إِنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعِدُونَ} المائدة (24) ، فهناك دعا موسى عليه السلام ربّه عز وجل بقوله: {قال ربّ إنِّي لا أملك إلاَّ نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} المائدة (25) . فحكم الله عليهم بالتيه بقوله: {قال فإنها محرَّمةٌ عليهم أربعين سنة

_ 1 انظر تفسير ابن كثير (1/ 80) . 2 أُختلف في تحديد الأرض المقدسة: فقيل هي أريحا، وقيل هي الطور وما حوله، وقيل الشام، وقيل دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل هي بيت المقدس. وقال ابن جرير: لن تعدو أن تكون في الأرض التي بين الفرات وعريش مصر. انظر:تفسير ابن جرير (6/172) تفسير ابن كثير (2/36) .

يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين} المائدة (26) فظلوا تائهين المدة التي قضي الله عليهم. ومات في هذه الفترة موسى عليه السلام، وكان هارون عليه السلام مات قبله أيضاً. ويقول اليهود في كتابهم التوراة: إنه قد مات في زمن التيه كل من كان بالغاً وقت نكولهم، ولم يدخل الأرض المقدسة منهم سوى يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما فيما قيل اللذان قال الله عنهم {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب} المائدة (23) . رابعاً: دخول بني إسرائيل أرض فلسطين: بعد انقضاء المدة المحكوم على بني إسرائيل فيها بالتيه، فتح بنو إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يشوع بن نون عليه السلام.1 ويذكر اليهود أنهم دخلوها من ناحية نهر الأردن.

_ 1 هكذا يسميه اليهود وهو المعروف عندنا بـ (يوشع بن نون) عليه السلام وهو نبي من الأنبياء ويدل على نبوته حديث أبي هريرة (أن النبي (قال "إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس" أخرجه الإمام أحمد (2/325) ، وقال ابن كثير:هو على شرط البخاري - البداية والنهاية (1/333) وصححه الحافظ في الفتح (221) ، ويدل على أن هذا النبي هو يوشع عليه السلام مارواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لايتبعني رجل ملك بضع إمرأة وهو يريد أن يبني بها ... ، ثم قال: فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم أحبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليهم " البخاري مع الفتح (6/220) وقد أكد أن المقصود بهذا الحديث هو يوشع بن نون كل من ابن كثير في البداية والحافظ ابن حجر في الفتح. انظر كلامهما في الموضعين السابقين.

ويقسم المؤرخون تاريخهم في فلسطين إلى ثلاثة عهود: أ - عهد القضاة: والمراد به أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الأرض المقدسة، قسم الأرض المفتوحة على أسباط بني إسرائيل، فأعطى لكل سبط قسماً من الأرض، وجعل على كل سبط رئيساً من كبرائهم، وجعل على جميع الأسباط قاضياً واحداً يحتكمون إليه فيما شجر بينهم، وهو يمثل الرئيس لجميع الأسباط، واستمر هذا الحال ببني إسرائيل قرابة أربعمائة عام فيما يذكر اليهود، وكان بينهم وبين أعدائهم حروب دائمة يكون النصر فيها لبني إسرائيل مرَّة ولأعدائهم أُخرى. ب - عهد الملوك: وهو العهد الذي بدأ فيه الحكم ملكياً، وقد قص الله علينا خبر أول ملوكهم في قوله عز وجل: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} البقرة (246) . فجعل الله عز وجل عليهم طالوت ملكاً، فقبلوه على كره منهم ويسمونه في كتابهم شاؤول. وملك عليهم بعده داود عليه السلام، ثم ابنه سليمان عليه السلام وكان عهدهما أزهى العهود التى مرت على بني إسرائيل على الإطلاق، وذلك لما أوتيه هذان النبيان الكريمان من العدل والحكمة مع الطاعة والعبادة لله عز وجل. ج - عهد الانقسام: هو العهد التالي لسليمان عليه السلام حيث تنازع الأمر بعده رحبعام بن

سليمان عليه السلام ويربعام بن نباط، فاستقل رحبعام بسبط يهوذا وسبط بنيامين، وكوَّن دولة في جنوب فلسطين عاصمتها " بيت المقدس "، وسميت دولة يهوذا نسبة إلى سبط حكامها، وهو سبط يهوذا الذي من نسله داود وسليمان عليهما السلام وملوك تلك الدولة. واستقل يربعام بن نباط بالعشرة أسباط الأخرى، وكوَّن دولة في شمال فلسطين، سميَّت دولة إسرائيل وجعل عاصمتها نابلس1، وأهل هذه الدولة يسمون لدى اليهود ب "السامريين "، نسبة إلى جبلٍ هناك يسمى " شامر " اشتراه أحد ملوكهم وهو "عمري" وسماه نسبة إلى صاحبه السامرة 2، وسميت منطقتهم " السامرة ". ويلاحظ أن السامريين -وهم شعب دولة إسرائيل - غيّروا قبلتهم من بيت المقدس إلى جبل يسمى "جرزيم " 3ويعتبرهم اليهود من شعب يهوذا ملاحدة وكفاراً لتغييرهم القبلة. ثم إنَّ الدولتين كان بينهما عداء وقتال، وكان يحدث في بعض الفترات من تاريخهما توافق وتعاون، وكانت دولة إسرائيل كثيرة القلاقل والفتن وتغيَّرت الأسرة الحاكمة فيها مراراً عديدة. أما دولة يهوذا فاستقر الحكم في سبط يهوذا في ذرية سليمان بن داود عليه السلام، وكانت تقع على الدولتين حروب من جيرانهم الأراميين4،

_ 1 انظر هذا التقسيم في: اليهودية لأحمد شلبي ص 75 -87. 2 انظر: سفر الملوك الأول (16/23 -25) . 3 وهو يقع في منطقة نابلس. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 258. 4 الأراميون: إحدى الشعوب السامية التي سكنت في المنطقة الممتدة من جبال لبنان في الغرب إلى ما وراء الفرات شرقاً، ومن جبال طوروس في الشمال إلى دمشق وما وراءها جنوباً. قاموس الكتاب المقدس 42.

والفلسطينيين1،والأدوميين2 والموآبيين3 كما أن الدولتين وقع من حكامهما وشعبيهما عبادة للأصنام في كثير من الأوقات وخاصة دولة إسرائيل واليهود السامريين 4. خامساً: استيلاء الأجنبي عليهم: استمرت دولة إسرائيل مستقلة لها سيادتها على أرضها قرابة 244عاماً5حيث سقطت بعدها في يد الآشوريين زمن ملكهم سرجون عام 722ق. م تقريباً فسبي شعبها، وأسكنهم في العراق، وأتى بأقوام من خارج تلك المنطقة وأسكنهم إياها، فاعتنقوا فيما بعد ديانة بني إسرائيل6وبذلك تمَّ القضاء على تلك الدولة. أما دولة يهوذا فاستمرت قرابة 362 عاماً7 ثم سقطت بأيدي فراعنة مصر

_ 1 الفلسطينيون: شعوب قدمت من جزيرة كريت وقطنت فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل إليها، وكانوا يسكنون في منطقة غزة والساحل الغربي من فلسطين. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 693. 2 الأدوميون هم من نسل عيسو بن يعقوب عليه السلام وكانوا يسكنون في المنطقة الممتدة من البحر الميت إلى خليج العقبة. قاموس الكتاب المقدس ص 39. 3 المؤابيون من الشعوب السامية التي كانت تقطن المنطقة التي يحدها من الغرب البحر الميت وتمتد إلى الشرق قليلاً قاموس الكتاب المقدس ص 927. 4 انظر: تاريخ هاتين الدولتين في سفر الملوك الأول - الأصحاح 11 إلى سفر الملوك الثاني الأصحاح السابع عشر. 5 حسب عدد سنوات حكم ملوكهما، انظر سفر الملوك الأول والثاني، وكذلك كتاب تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 178. 6 سفر الملوك الثاني، الأصحاح 17. وهذا يدل على دخول شعوب أخرى في هذه الديانة فبالتالي ليس كل اليهود من بني إسرائيل. 7 حسب عدد سنوات حكم ملوكهما، انظر سفر الملوك الأول والثاني، وكذلك كتاب تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 178.

عام 603 ق. م تقريباً، وفرضوا عليها الجزية، وامتد حكم الفراعنة في ذلك الوقت إلى الفرات. ثم جاء بعد ذلك حاكم بابل الكلداني بختنصر، واسترجع منطقة الشام وفلسطين، وطرد الفراعنة منها، ثم زحف مرة أخرى على دولة يهوذا التي تمردت عليه، فدمَّرها ودمَّر معبد أورشليم وساق شعبها مسبياً إلى بابل، وهذا ما يسمَّى بالسبي البابلي، وكان في هذا نهاية تلك الدولة التي تسمى يهوذا1وذلك في حدود عام 586 ق. م. ثم سقطت دولة بابل في يد الفرس في عهد ملكهم "قورش " سنة 538 ق. م. الذي سمح لليهود بالعودة إلى بيت المقدس، وبناء هيكلهم وعين عليهم حاكماً منهم من قبله. ومن الجدير بالذكر أن اليهود ذكروا في كتابهم أن "قورش" أرسل النداء في مملكته قائلاً "جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتاً في أورشليم التي في يهوذا ... " 2 وهذا النص إذا صدق اليهود فيه يكون دليلاً على أن " قورش " كان مؤمناً بالله. واستمر حكم الفرس من 538-332 ق. م، ثم زحف على بلاد الشام وفلسطين الاسكندر المقدوني اليوناني3 واستولى عليها، وأزال حكم الفرس

_ 1 انظر سفر الملوك الثاني الأصحاح 24. 2 سفر عزر الأصحاح الأول (2) . 3 الاسكندر المقدوني اليوناني،الذي امتدّت دولته فشملت فارس والعراق والشام ومصر، واستولى على أكثر الأرض في زمنه. توفي فيما يقال 324 ق. م. انظر المنجد في الأعلام ص 43.

بل استولى على بلادهم وبلاد مصر والعراق، فدخلت هذه المناطق تحت حكمهم من نهاية القرن الرابع قبل الميلاد إلى منتصف القرن الأول قبل الميلاد، حيث زحف بعد ذلك على البلاد القائد الروماني "بومبي" سنة 64 ق. م، وأزال حكم اليونانيين عنها، فدخل اليهود تحت حكم الرومان وسيطرتهم1. سادساً: تشتتهم في الأرض: في زمن سيطرة الرومان على منطقة فلسطين بُعث المسيح عليه السلام وبعد رفعه وقع بلاء شديد على اليهود في فلسطين، حيث قاموا بثورات ضد الرومان، مما جعل القائد الروماني تيطس عام 70م يجتهد في استئصالهم والفتك بهم وسبي أعداد كبيرة منهم وتهجيرها، ودمر بيت المقدس ومعبد اليهود، وكان هذا التدمير الثاني للهيكل2، وقد زاد في تدمير الهيكل الحاكم الروماني أدريان سنة 135م، حيث أمر جنوده بتسوية الهيكل بالأرض، وبنى فيها معبداً لكبير آلهة الرومان الذي يسمونه "جوبتير "وهدم كل شيءٍ في المدينة، ولم يترك فيها يهودياً واحداً، ثم منع اليهود من دخول المدينة، وجعل عقوبة ذلك الإعدام، ثم سمح لليهود بالمجيء إلى بيت المقدس يوماً واحداً في السنة والوقوف على جدار بقي قائماً من سور المعبد، وهو الجزء الغربي منه، وهو الذي يسمى " حائط المبكى3 ".

_ 1 انظر: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 290-297. 2 انظر: تاريخ بني إسرائيل محمد عزه دروزه ص 381. 3 أبحاث في الفكر اليهودي، لحسن ظاظا ص (36 - 38) وقال ول ديورانت: إن الحاكم الروماني حرم عليهم الدخول إلا في يوم تلك الذكرى المؤلمة نظير جُعلٍ معين، فيأتوا إليها ليندبوا ويبكوا أمام جدران الهيكل المهدم. قصة الحضارة 3/ص4

وبهذا تشتت اليهود في أنحاء الأرض، وسلط الله عليهم الأمم يسومونهم سوء العذاب ببغيهم وفسادهم وسوء أخلاقهم. وفي هذا يقول الله عز وجل {وإذ تأذَّن ربُّك ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربَّك لَسَرِيع العِقَابِ وَإنَّهُ لغفورٌ رَّحيم} الأعراف الآية (167) . وكان من الجزاء الذي حكم الله به عليهم مع هذا العذاب المستمر إلى يوم القيامة تقطيعهم في الأرض وتشتيتهم فيها جزاء كفرهم وفسادهم. قال صلى الله عليه وسلم??: {وَقطّعناهم في الأرض أمماً مِّنهم الصَّالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيِّئات لعلَّهم يرجعونَ فَخَلَفَ مِن بعدهم خلْفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا وإن يأتهم عرضٌ مثلُهُ يأخذوه ألم يُؤخَذ عليهم ميثاقُ الكتاب ألاَّ يقولوا على الله إلاّ الحقَّ ودرسوا ما فيه والدَّار الآخرةُ خيرٌ للَّذين يتَّقون أفلا تعقلون} الأعراف (168-169) . فهذه الآيات الكريمة تشرح واقع اليهود. فالآية الأولى تفيد بأن الله قضى عليهم بالعذاب المستمر بأيدي الناس إلى يوم القيامة. والآية الثانية: تفيد بتمزيقهم في الأرض، وتمزيقهم أدعى إلى أن يقع بسببه البلاء الشديد عليهم جماعة جماعة، ولا يستطيع أن ينصر بعضهم بعضاً بسببه. وقد خلف المسلمون الرومان النصاري في القرن الأول الهجري الذي يوافق القرن السابع الميلادي على الشام وفلسطين وجميع ما كان في يد الرومان في هذه المناطق.

وكان اليهود في حالة تشتت وتفرُّق في جميع أنحاء الأرض، ولم يكن يسمح وقتها لليهود بالسكنى في بيت المقدس، كما سبق بيانه، بل كان من بنود المعاهدة بين نصارى بيت المقدس وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن لا يسمح لليهود بالسكن في بيت المقدس1. فاستمرَّ اليهود في التشتت والتمزُّق في أنحاء الأرض إلى بداية القرن العشرين. سابعاً: تجمعهم في فلسطين في العصر الحديث: لقد ابتدأت الفكرة لدى العالم الغربي في تجميع اليهود في دولة من أيام حملة نابليون بونابرت الفرنسي2 عام (1799) م حيث دعا يهود آسيا وأفريقيا للإنضمام إلى حملته من أجل بناء مدينة القدس القديمة، وقد جنَّد منهم عدداً كبيراً في جيشه، إلاَّ أنَّ هزيمة نابليون واندحاره حالا دون ذلك. ثم ابتدأت الفكرة تظهر على السطح مرَّة أخرى، وبدأ العديد من زعماء الغرب وكبار اليهود يهتمون بها ويؤسسون كثيراً من الجمعيات المنادية لهذا الأمر، وابتدأ التخطيط الفعلي من إصدار" تيودور هرتزل"3 الزعيم الصهيوني عام (1896) م، كتابه " الدولة اليهودية"، حيث عقد مؤتمر بال في سويسرا سنة (1897) م. وجاء في خطاب افتتاح هذا المؤتمر: " إننا نضع حجر الأساس في بناء البيت

_ 1 انظر: تاريخ الطبري (3/609) طبعة دار المعارف، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 2 نابليون بونابرت امبراطور فرنسا، كان غز الشرق 1799م. توفي سنة 1815 بعد أن عزل ونفي انظر: المنجد ص 703. 3 تيودور هرتزل مجري يهودي أسس الحركة الصهيونية، توفي 1904 م. المنجد ص 727.

الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية "، ثم اقترح برنامجاً يدعو إلى تشجيع القيام بحركة واسعة إلى فلسطين، والحصول على اعتراف دولي بشرعيَّة التوطين. وكان من قرارات ذلك المؤتمر: إنشاء " المنظمة الصهيونية العالمية " لتحقيق أهداف المؤتمر، والتي تولّت أيضاً إنشاء جمعيات عديدة علنية وسرِّية لتخدم هذا الهدف 1 ودرس اليهود حال المستعمرين، فوجدوا أن بريطانيا أنسب الدول لهذا الأمر التي تتفق رغبتها في وضع داء في وسط الأمة الإسلامية موالٍ للغرب2 مع رغبة اليهود في وطن قومي لهم، وكانت أكثر البلاد العربية تحت سيطرتها، فدبروا معها المؤامرة، وأخذوا بذلك وعداً من "بلفور" رئيس وزراء بريطانيا، ثم وزير خارجيتها عام (1917) م، أعلن فيه أن بريطانيا تمنح اليهود حق إقامة وطن

_ 1 انظر: التاريخ اليهودي العام ص 196. المسألة اليهودية ص 198. 2 اجتمعت الدول الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا عام (1907) م، للبحث في عوامل البقاء لدولهم واستعمارهم، ومما خرجوا به من قرارات، ما يعرف بتقرير كامبل باترمان، ونورد نصه لأهميته حيث جاء فيه: " إن الخطر ضد الاستعمار يكمن في البحر الأبيض المتوسط فعلى الشواطئ الشرقية والجنوبية لهذا البحر شعب واحد، تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللغة وكل مقوِّمات التجمع والترابط، هذا فضلاً عن ثرواته الطبيعية ونزعته للتحرر، فلو أخذت هذه المنطقة بالوسائل الحديثة، وإمكانيات الصناعة الأوربية، وانتشر التعليم بها فستحل الضربة القاضية بالاستعمار الغربي، فيجب إذن على الدول ذات المصالح المشتركة أن تعمل على استمرار تجزؤ هذه المنطقة وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وتأخر، وهذا يستلزم فصل الجزء الأفريقي في هذه المنطقة عن الجزء الأسيوي، وتقترح اللجنة لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب يحتل الجسر الذي يربط آسيا بأفريقيا حيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوَّة صديقة للإستعمار وعدوة لسكان المنطقة".نقلاً عن تاريخ المشرق العربي ص 493. ويتضح من هذا التقاء المصالح الغربية والأطماع اليهودية، وأنهم جميعاً كادوا الأمة الإسلامية ... والله غالب على أمره.

قومي لهم في فلسطين، وأنها ستسعى جاهدة في تحقيق ذلك. وكان اليهود قد بدأوا الهجرة إلى فلسطين في الوقت الذي كانت فيه فلسطين تحت الإنتداب البريطاني، فاستطاع اليهود بسبب الهجرة من تكوين دولة داخل دولة، وكانت الحكومة البريطانية تحميهم من بطش المسلمين، وتتعامل معهم بكل التسامح، في الوقت الذي تتعامل فيه مع المسلمين بكل شدَّة وتنكيل. ولما ضعفت بريطانيا عن تحقيق أماني اليهود أحالت الأمر إلى الأمم المتحدة والتي تتزعمها الولايات المتحدة، التي بدورها استلمت الدور البريطاني في المنطقة، فأرسلت الأمم المتحدة لجانها إلى فلسطين، ثم قررت هذه اللجان تقسيم فلسطين بتخطيط يهودي وضغط أمريكي، فأعلن قرار التقسيم لفلسطين بين المسلمين واليهود في 29/11/1947م. فقررت الحكومة البريطانية بعده الانسحاب من فلسطين، تاركة البلاد لأهلها، وذلك بعد أن تأكَّدت أن اليهود قادرون على تسلم زمام الأمر، فحال خروجها في مايو عام (1948) م، أعلن اليهود دولتهم التي اعترفت بها أمريكا بعد إحدى عشرة دقيقة، وكانت روسيا قد سبقتها بالاعتراف، ثم استطاعت هذه الدولة اليهودية أن تقوم على قدميها، وأن تخوض ضد المسلمين عدَّة حروب، مني فيها المسلمون بهزائم، بسبب بعدهم عن دينهم، وتفرقهم إلى أمم وأحزاب، وخيانة بعضهم 1 *.

_ 1 انظر: التاريخ اليهودي العام ص 258 وما بعدها. (*) لقد هزم العرب أمام اليهود في عام (1956، 1967م) هزائم منكرة.والواقع أن هذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على فساد الأنظمة العربية التي فشلت في مواجهة مجموعة من حثالة البشر وأن هذه الأنظمة لا زالت في فشلها وهزيمتها واندحارها، وهذا دليل على عدم صلاحية العلمانية والقومية والديمقراطية التي تتوزَّع إليها أكثر الأنظمة العربية، لأنها من أهم الأسباب في فشل تلك الدول في رفع العار عن المسلمين، ورد حقهم إليهم، ودحر عدوهم فعليه فالأجدر بحكام المسلمين أن يعودوا إلى الله عز وجل، وإلى دينهم لعل الله أن ينصرهم فيحوزا عز الدنيا وفوز الآخرة.

ولا زالت هذه الدولة قائمة في قلب الأمة الإسلامية داءً سيفجر كثيراً من الفساد والشرور، ما لم يقتلع من جذوره، فاليهود منذ أزمان بعيدة وهم داء، أينما حلوا نشروا الفساد والشحناء والعدوان بين أهل البلاد التي يحلون فيها، وقد رأت الدول الغربية أنها ستكسب مكسبين عظيمين من إقامة هذا الكيان في جسد الأمة الإسلامية:- أحدهما: أنها تسلم من شرور اليهود وسيطرتهم، وفسادهم وتحكمهم في البلاد وثرواتها. ثانيهما: أنها تضع في قلب الأمة الإسلامية دولة حليفة لهم، وهي في نفس الوقت علة تستنزف قوى الأمة الإسلامية، وتضع بذور الفرقة والخلاف بين أفرادها، حتى لا تقوم لها قائمة. وهذا الوضع لا زال قائماً، والأيام مليئة، وكل يوم يظهر الهدف واضحاً، وتظهر الشخصية اليهودية الحقيقية أكثر وأوضح، وما لم يفق المسلمون لواقعهم المرير، وينظروا لمستقبلهم بالعين المستبصرة بنور الله، المهتدية بشرعه الواثقة من نصره، فإنه لن يتغير الحال، بل ستزداد الأزمات والمصائب على العالم الإسلامي، حتى يأذن الله بأمره وتعود الأمة إلى ربها ودينها فتكون جديرة بنصر الله واستعادة مقدساتها. ونرى أن تجمعهم هذا مقدمة لتحقيق كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم بأن المسلمين يقتلون اليهود 1. ولعل فلسطين ستكون مقبرتهم، والله غالب على أمره، ولن

_ 1 روى مسلم في صحيحه (4/2239) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ". والغرقد: نوعٌ من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس.

يفلح قوم سجل الله عليهم غضبه ولعنهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة، بل لعلها مؤذنة بفنائهم والقضاء على بذرتهم الخبيثة، كما نرى أنهم ما توصلوا إلى ما توصلوا إليه إلاَّ بعد أن صار المسلمون في غاية التخلف والضعف والبعد عن الدين الذي به يتوصلون إلى خير الدنيا والآخرة. مسألة: ادعاء اليهود أن لهم حقاً تاريخياً ودينياً في فلسطين: قد تقدم بيان أن بني إسرائيل هم سلالة يعقوب عليه السلام، وأن أول دخول لهم إلى فلسطين كان مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى عليه السلام في التيه وبعد نكولهم عن القتال أول الأمر. وقد كان في فلسطين قبل استيلاء بني إسرائيل عليها ثلاث قبائل وهم: الفينيقيون: وسكنوها حوالى سنة (3000) ق. م واستوطنوا المنطقة الشمالية منها على البحر الأبيض المتوسط. الكنعانيون: نزلوا جنوب الفينيقيين، وشغلوا المنطقة الوسطى من فلسطين سنة (2500) ق. م. وهذه كانت من القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية، ثم جاءت جماعات من جزيرة كريت حوالي عام (1200) ق. م، وكانت تسمى فلستين، ونزلت بين يافا وغزَّة على البحر الأبيض المتوسط. وسمَّى الكنعانيون هولاء القوم فلسطين، وغلبت التسمية على المنطقة كلها، فأًصبحت تدعى

فلسطين 1. وحسب ما أورده اليهود في كتابهم، وما كُتب في تاريخ المنطقة، فإن هذه الشعوب استمرَّت في المنطقة، وكان بينها وبين بني إسرائيل واليهود حروب عديدة، استمرت طوال فترة وجود اليهود في تلك المنطقة. فمن الناحية التاريخية، يتبيَّن لنا أن اليهود ليسوا أول من سكن فلسطين، بل دخلوها أو بعضها واستولوا على أجزاء منها بعد أن كانت في يد هؤلاء القوم. أما من الناحية الدينية، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كَتَبَ الله ُ لَكُمْ وَلاَ ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} ?المائدة الآية (21) . فقوله تعالى {كَتَبَ الله ُ لَكُمْ} قال ابن اسحاق: "التي وهب الله لكم ". وقال السدي: " التي أمركم الله بها ". وقال قتادة: "أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة"2. ? إذاً قوله تعالى: {كَتَبَ الله ُ لَكُمْ} ليس هو تمليك على رأي بعض العلماء، وعلى الرأي الآخر هو تمليك لهم بشرط أن يدخلوها. وعلى رأي البعض: هي هبة لهم. فهذا يبيِّن معنى {كَتَبَ الله ُ لَكُمْ} ، ومع هذا فليس فيه دليلٌ على أن لهم الحق في فلسطين، وذلك لأن الله ينعم على عباده المؤمنين في حال الإيمان بنعم كثيرة، وهي لهم في حال الإيمان، أما في حال الكفر فلا

_ 1 انظر: اليهودية أحمد شلبي ص 41. 2 ابن جرير (6/173) ، فتح القدير للشوكاني (2/29) .

حق لهم بها. وبنوا إسرائيل حين أمرهم الله بالدخول نكلوا، فمنعهم منها، وحين استجابوا وأطاعوا منحها الله لهم. لهذا قال ابن كثير في الآية: "التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل، إنه وراثة من آمن منكم " 1. فعليه فهي لهم في حال إيمانهم، أما في حال كفرهم فليس لهم فيها حق. يدل على هذا قول قول الله جل وعلا: {فَأَوحَى إِلَيهِم ربُّهُم لنهلِكَنَّ الظَّالمين ولنُسَكِنَنكُمُ الأَرضَ مِن بعدهِم ذَلِكَ لمن خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم الآية (14) .وقال: {وَلَقَدْ كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَالِحُونَ} الأنبياء الآية (105) . وبما أن اليهود كفروا بالله وبأنبيائه، وسجل الله عليهم غضبه ولعنته، فليس لهم حق في الأرض المقدسة، بل هي من حق عباده المؤمنين، كما قال تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَالِحُونَ} . مسألة: كذب اليهود المعاصرين في ادعائهم أنهم نسل بني إسرائيل: اليهود المعاصرون يشيعون وينشرون أنهم نسل بني إسرائيل الأوائل الذين قطنوا فلسطين، وهم في زعمهم وارثوا أولئك الاسرائيليين الأوائل الذين كانوا في فلسطين. ويجتهد اليهود في نشر دعوى نقاء العنصر اليهودي من الإختلاط بالأمم الأخرى، فهم جنس حافظ - في زعمهم - على نقاء عنصره، ولليهود في ذلك هدف خطير وحيوي بالنسبة لهم، وهو أن هذه الدعوة

_ 1 تفسير ابن كثير (2/36) .

تجعلهم في نظر النصارى أبناءً ليعقوب ومن ذريَّته، فيكونون بذلك مقصودون بالوعود الواردة في العهد القديم لبني إسرائيل، فيستدرون بذلك عطف النصارى وإحسانهم ونصرتهم، خاصة إذا علمنا أن النصارى يقدسون التوراة ويعتقدون أن ما فيها وحي من الله عز وجل كما سيأتي بيانه. لكن الواقع يكذب اليهود في دعواهم نقاء جنسهم، وذلك أن نظرة عامة في هيآتهم وسحنتهم تدل على تباين أصولهم، ففيهم ذو السحنة الأوروبية، وذو السحنة العربية، وفيهم ذو السحنة الأفريقية. ومع هذا التباين لا يمكن إدعاء أن أصلهم واحد، إذ لا بد من أن يكونوا قد اختلطوا بأمم أخرى أورثتهم هذا التباين في السمات. ثم إن اليهود ذكروا في كتابهم أن كثيراً منهم تزوَّجوا بنساء أجنبيات، وأن نساءهم أخذهن رجال أجانب1 حتى إنهم ينسبون إلى سليمان عليه السلام ذلك 2. كما أنه ثبت تاريخياً أن أمة كبيرة وهي شعب دولة الخزر تهوَّد في القرن الثامن الميلادي، وكان ذلك الشعب من قبل وثنياً، وهو شعب تركي آري كان يقطن منطقة آسيا الوسطى، ودولتهم التي تسمى باسمهم دولة الخزر كانت تقع في المنطقة بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتشغل منطقة شمال أذربيجان وأرمينية وأوكرانية وجميع منطقة جنوب آسيا إلى حدود موسكو عاصمة روسيا، وكان بحر قزوين يسمى بحر الخزر. وقد جاء في الموسوعة اليهودية عن الخزر ما يلي:

_ 1 انظر: سفر القضاء (3/5) ، وانظر سفر نحميا (13/23) . 2 انظر: سفر الملوك الأول (11/ 1-3) .

".. الخزر شعب تركي الأصل، تمتزج حياته وتاريخه بالبداية الأولى لتاريخ يهود روسيا.. أكرهته القبائل البدوية في السهول من جهة أخرى على توطيد أسس مملكة الخزر في معظم أجزاء روسيا الجنوبية، قبل قيام الفرانجيين سنة (855) م بتأسيس الملكية الروسية، في هذا الوقت (855) م كانت مملكة الخزر في أوج قوتها تخوض غمار حروب دائمة، وعند نهاية القرن الثامن تحوَّل ملك الخزر ونبلاؤه وعدد كبير من شعبه الوثنيين إلى الديانة اليهودية.. كان عدد السكان اليهود ضخماً في جميع أنحاء مقاطعة الخزر خلال الفترة الواقعة بين القرن السابع والقرن العاشر الميلادي.. بدا عند حوالى القرن التاسع أن جميع الخزر أصبحوا يهوداً وأنهم اعتنقوا اليهودية قبل وقت قصير فقط" 1. ثم إن هذه الدولة سقطت بعد ذلك في يد الروس، الذين احتلوها وقضوا عليها تماماً، واستولوا على جميع أراضيها، وقد تلاشت هذه الدولة من خارطة أوربا في القرن الثالث عشر الميلادي، وتوزع شعبها على دول أوربا الشرقية والغربية، وكانت أكبر تجمعاتهم في أوربا الشرقية هنغاريا وبولندا ورومانيا والمجر وروسيا 2. فهذا يدل دلالة واضحة أن اليهود الذين يسمون الإشكنازيم وهم يهود أوربا لا يمتون بصلة إلى يعقوب عليه السلام وذريته. ونحن المسلمين نعتقد أن إنتسابهم إلى يعقوب عليه السلام أو غيره لايغير من موقفنا منهم ماداموا يهوداًومحاربين لنا ومعتدين على إخواننا، إذ أن الأنساب لاوزن لها مع الكفر، ولا حاجة إليها مع الإسلام.

_ 1 نقلاً عن كتاب " يهود اليوم ليسوا يهوداً "ص 19 لمؤلفه بنيامين فريدمان. 2 انظر: كتاب " يهود اليوم ليسوا يهودا" ص 19 لمؤلفه بنيامين فريدمان.

الفصل الثاني: مصادر اليهود

الفصل الثاني: مصادر اليهود اليهود لهم مصادر يستمدون منها عقيدتهم ومنهجهم وهذه المصادر هي التوراة والكتب الملحقة بها، والتلمود ويضاف إليهما البروتوكولات لدى الصهاينة في العصر الحديث وإن كانت هذه الأخيرة ليست مصدراً مقدساً إلا أنها جديرة بالإشارة والذكر لأنها نتاج التحريف الموجود في التوراة والأكاذيب والضلالات الموجودة في التلمود، وسنذكر كل واحد منهما بشيءٍ من التفصيل في المباحث التالية:

المبحث الأول: التوراة والكتب الملحقة بها

المبحث الأول: التوراة والكتب الملحقة بها المطلب الأول: تعريف التوراة التوراة: كلمة عبرانية تعني الشريعة أو الناموس. ويراد بها في اصطلاح اليهود: خمسة أسفار يعتقدون أن موسى عليه السلام كتبها بيده ويسمونها "بنتاتوك" نسبة إلى "بنتا" وهي كلمة يونانية تعني خمسه أي الأسفار الخمسه وهذه الأسفار هي: 1- سفر التكوين: ويتحدث عن خلق السموات، والارض، وآدم، والأنبياء بعده إلى موت يوسف عليه السلام 2- سفر الخروج: ويتحدث عن قصة بني إسرائيل من بعد موت يوسفعليه السلامإلى خروجهم من مصر، وماحدث لهم بعد الخروج مع موسى عليه السلام 3- سفر اللاويين: وهو نسبة إلى سبط بني لاوى بن يعقوب الذي من نسله موسى وهارون عليهما السلام، وأولاد هارون هم الذين فيهم الكهانة أي القيام بالأمور الدينية وهم المكلفون بالمحافظة على الشريعة وتعليمها الناس، ويتضمن هذا السفر أموراً تتعلق بهم وبعض الشعائر الدينية الأخرى. 4- سفر العدد: وهو معني بعدِّ بني إسرائيل، ويتضمن توجيهات، وحوادث حدثت من بني إسرائيل بعد الخروج. 5- سفر التثنية: ويعني تكرير الشريعة، وإعادة الاوامر والنواهى عليهم مره

أخرى، وينتهي هذا السفر بذكر موت موسى عليه السلام وقبره1. وقد يطلق النصارى اسم التوراة على جميع أسفار العهد القديم2. أما في اصطلاح المسلمين فهي: الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام3 نوراً وهدى لبني إسرائيل. أما الكتب الملحقة بالتوراة فهي: أربعة وثلاثون سفراً، حسب النسخة البروتستانتية فيكون مجموعها مع التوراة تسعة وثلاثين سفراً، وهي التي تسمى العهد القديم لدى النصارى ويمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام: أولاً: الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ثانياً: الأسفار التاريخية وهي ثلاثة عشر سفرا: 1- يشوع 2-القضاة 3-راعوث 4-صموئيل الأول 5 -صموئيل الثاني 6- الملوك الأول 7-الملوك الثاني8-أخبار الأيام الأول 9- أخبار الأيام الثاني 10- عزرا 11- نحميا 12- إستير 13- يونان (يونس عليه السلام) . وهذه الأسفار تحكي قصة بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام إلى ما بعد العودة من السبي البابلي إلى فلسطين، وإقامتهم للهيكل مرة أخرى بعد تدميره،

_ 1 قال ول ديورانت: يعتقد اليهود أن العهد القديم كله كلام الله- بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة حتى نشيد الأنشاد، وهو عبارة عن ترنيمه تصور مجازاً اقتران يهوه بإسرائيل وأن التوراة كانت قبل أن يخلق الله العالم في صدر الله وعقله- وكان إنزالها على موسى حادث من حوادث الزمان. انظر قصة الحضارة 14/16. 2 انظر قاموس الكتاب المقدس ص467 المعجم الوسيط 1/90 الفكر اليهودي ص14 التوراة بين الوثنية والتوحيد ص10. 3 المعجم الوسيط (1/90) .

ماعدا سفري أخبار الأيام الأول والثاني فإنها تعيد قصة بني إسرائيل وتبتدئ بذكر مواليد آدم على سبيل الاختصار إلى السنة الأولى لمِلَك الفرس قورش. وكذلك سفر يونان "يونس عليه السلام) يحكي قصته مع أهل نينوى1 الذين أرسل إليهم. ثالثاً: أسفار الأنبياء وهي خمسة عشر سفراً: 1- أشعيا 2- إرميا 3- حزقيال 4- دانيال 5- هوشع 6- يوثيل 7- عاموس. 8- عوبديا 9- ميخا 10- ناحوم 11- حبقوق. 12- صفنيا 13- حجى 14- زكريا 15- ملاخى2. وهذه الأسفار يغلب عليها طابع الرؤى، والتنبؤات بما سيكون من حال بني إسرائيل، وحال الناس معهم، وفيها تهديدات لبني إسرائيل، ووعود بالعودة والنصر. والذين نسبت إليهم هذه الأسفار هم ممن كانوا زمن السبي إلى بابل وبعده. رابعاً: أسفار الحكمة والشعر (الأسفار الأدبية) . وهي خمسة أسفار: 1- أيوب 2- الأمثال 3- الجامعة 4- نشيد الإنشاد 5- مراثي إرميا. خامساً: سفر الإبتهالات والأدعية سفر واحد، وهو سفر المزامير المنسوب إلى داود عليه السلام 3. هذه أسفار النسخة العبرانية المعتمدة لدى اليهود والبروتستانت من النصارى.

_ 1 نينوى المدينة التي بعث فيها يونس عليه السلام، وتقع قبالة الموصل على دجلة، وكانت عاصمة الآشوريين. انظر معجم البلدان (5/339) ، قاموس الكتاب المقدس ص990. 2 ذكرتها حسب ورودها وترتيبها في النسخة لبروتستانتيه. 3 يلاحظ أن أهل الكتاب يحزبون كتابهم إلى أسفار وإصحاحات وفقرات، فكل سفر يحوي عدداً من الإصحاحات فهو يشبه من هذا الوجه الأجزاء في تحزيب القرآن الكريم، وكل إصحاح يحوي لديهم العديد من الفقرات فهو يشبه في ذلك السور في تجزئة القرآن الكريم، أما الفقرات فتختلف في الطول والقصر، وهي تشبه من هذا الوجه الآيات في القرآن الكريم والترتيب المذكور هو بالنظر إليها من ناحية موضوعاتها، وإلا فاليهود يرتبونها هكذا أولاً: أسفار موسى الخمسة. ثانياً: الأنبياء المتقدمون وهي أسفار يشوع، والقضاة، وصموئيل الأول، والثاني، والملوك الأول والثاني، ثم الأنبياء المتأخرون وهم، إشعياء، وأرميا، وحزقيال، والأنبياء الأثنا عشر الصغار وهم هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونس، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجاي، زكريا، ملاخي. ثالثاً: الكتب ويغلب عليها الطابع الأدبي وهو المزامير، الأمثال، أيوب، نشيد الأناشيد، والجامعة، وراعوث، والمراثي، واستير، ودانيال، عزرا، نحميا، الأخبار الأول والثاني. انظر قاموس الكتاب المقدس ص467الفكر الديني اليهودي ص33-47.

أما النصارى الكاثوليك، والأرثوذكس فيعتمدون النسخة اليونانية، وهي تزيد على العبرانية بسبعة أسفار هي: سفر طوبيا، ويهوديت، والحكمة، ويشوع بن سيراخ، وباروخ، والمكابيين الأول والمكابيين الثاني. وسنبين في دراسة مختصرة حال أهم كتب العهد القديم وهي التوراة لما لها من الأهمية العظمى لدى كل من اليهود والنصارى ونكتفي بدراستها خشية الإطالة.

المطلب الثاني: تاريخ التوراة

المطلب الثاني: تاريخ التوراة إن كل كتاب يستمد قيمته من قيمة صاحبه، ولابد أن يثبت صحة نسبته إلى صاحبه، وإلا فإنه يفقد قيمته، والكتب المنزلة المقدسة تستمد قدسيتها من نسبتها إلى من جاءت من عنده وهو الله عز وجل، ولابد لثبوت قدسيتها أن تثبت صحة نسبتها وسندها إلى الله عز وجل، وما لم يثبت ذلك فإنها لا تكون مقدسة، وغير واجبة القبول، إذ تكون عرضة للتحريف، والتبديل، والخطأ. فلهذا لابد لنا أن نتعرف على حال التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام وهي أهم جزء في العهد القديم الذي بين يدي اليهود والنصارى من ناحية إسنادها فنقول: إن من نظر في التوراة والأسفار الملحقة بها يجد ذكراً محدوداً لأسفار موسى التي يسمونها الشريعة، أو سفر الرب، أو التوراة. ومن خلال هذه المعلومات نجد أن اليهود ذكروا: 1- أن موسى عليه السلام دوَّن جميع الأحكام، وكتبها، وهي أحكام أعطيها شفهياً وفي هذا قالوا في سفر الخروج 24/3 "فجاء موسى وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام، فأجاب جميع الشعب بصوت واحد وقالوا كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل فكتب موسى

جميع أقوال الرب ... " ثم قالوا "وأخذ1 كتاب العهد، وقرأ في مسامع الشعب فقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له". 2- أن موسى أُعطى شريعة مكتوبة بيد الله تعالى. وفي هذا قالوا في سفر الخروج 24/12 "وقال الرب لموسى إصعد إلى الجبل، وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة2، والشريعة، والوصية التي كتبتها لتعليمهم". ثم ذكروا بعد هذا أن موسى عليه السلام مكث أربعين يوماً في الجبل وذكروا شرائع كثيرة أعطيها وتكلم الله بها معه، ثم في نهاية ذلك ذكروا إعطاءه الألواح. وفي هذا قالوا في سفر الخروج 31/18 "ثم أَعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة، لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله". وفي أثناء غياب موسى عليه السلام عبد بنوا إسرائيل العجل، فلما عاد

_ 1 أي موسى عليه السلام. 2 عند اليهود أن لوحي الحجارة متضمنة للوصايا العشر فقط، وهي الواردة في سفر الخروج (20/2-17) "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن ... لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً.... اذكر يوم السبت لتقدسه ... أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض ... لا تقتل، لاتزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته إمرأة قريبك ولا عبده ... ولا شيئاً مما لقريبك".

موسى عليه السلام ورأى قومه يرقصون حول العجل ألقى الألواح، فتكسرت1، ثم إن الله سبحانه وتعالى فيما يذكر اليهود كتب له لوحين آخرين بدلاً عنها2. 3- ذكر اليهود أن موسى عليه السلام قبيل وفاته كتب التوراة، وأعطاها لحاملي التابوت، وفي هذا قالوا في سفر التثنية 31/9 "وكتب موسى هذه التوراة، وسلمها للكهنة من بني لاوى حاملي تابوت عهد الرب3، ولجميع شيوخ

_ 1 ورد عن ابن عباس (قال: قال رسول الله ("ليس الخبر كالمعاينة إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت" أخرجه أحمد (1/271) والحاكم (2/321) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2 سفر الخروج (34/1) وقد ذكر القرطبي في تفسيره (7/293) على قول الله عز وجل {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} الأعراف آية (154) عدة أقوال في هذا منها: أن موسى صام أربعين يوماً بعد أن تكسرت الألواح فردت إليه في لوحين، وقيل: إنها لما كسرت رفع ستة أسباعها وهو التفصيل وبقى السبع فقط وهو الهدى والرحمة وهو متضمن للأحكام والحدود، وقيل: إن المراد أن الألواح متضمنة للهدى والرحمة يعني أنه جمعها وفيها ما ذكر، وذكر ابن كثير في تفسيره (2/228) أن الألواح كانت مشتملة على التوراة، كما ذكر قولاً أخر وهو أن الألواح أعطيها موسى عليه السلام قبل التوراة، وقد جزم القرطبي في تفسيره (7/293) والشوكاني في فتح القدير (2/244) بأن الألواح هي التوراة، وهو الأرجح لأن الله عز وجل قد وصف ما كتب في الألواح بقوله {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} الأعراف (145) وهذا الوصف لا ينطبق على ما أورده اليهود في كتابهم من أن الألواح كانت متضمنة للوصايا العشر فقط، والله أعلم. 3 التابوت من مقدسات بني إسرائيل وهو صندوق من الخشب يزعمون أن الله أمر موسى عليه السلام بصنعه على هيئة خاصة وكان بنوا إسرائيل يحملونه أمامهم في التيه ولما بنى سليمان عليه السلام بيت المقدس جعله فيما يسمونه (قدس الأقداس) وهي حجرة صغيرة يستقبلونها في الصلاة. وقد ذهبت جميع هذه المقدسات بعد تدمير الهيكل زمن غزو بختنصر. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 209.

إسرائيل، وأمرهم موسى قائلاً: في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة البراء1 في عيد المظال2 حينما يجئ جميع إسرائيل لكي يظهروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، تقرأ هذه التوراة، أمام كل إسرائيل في مسامعهم". ثم ذكر اليهود في خاتمة هذا السفر السبب الذي لأجله دوَّن موسى عليه السلام التوراة فقالوا في سفر التثنية 31/24 "فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم، لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحرى بعد موتى". 4-ذكر اليهود في سفر يشوع أن يشوع " يوشع " كتب التوراة مرة أخرى على أحجار المذبح3 حسب وصية موسى عليه السلام4

_ 1 المراد بها السنة السابعة من تاريخ دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة وهي سنة راحة عندهم فلا يزرعون فيها الأرض، والمحاصيل التي تكون من الأشجار تعطى للفقراء والعبيد والأجراء وغيرهم ويسمونها سنة السبت. انظر سفر اللاويين (25/2) قاموس الكتاب المقدس ص 490. 2 عيد المظال نسبة إلى المظال وهي الخيام، لأنهم كانوا ينصبون الخيام في كل مكان، ويقام في الشهر السابع من كل سنة، ويذبحون فيه القرابين ويستمر ثمانية أيام. قاموس الكتاب المقدس ص586. 3 المراد بالمذبح هو: مكان تقديم القرابين حيث تذبح قربة لله، وفي العادة يكون في كل مكان مرتفع. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 385. 4 ورد في سفر التثنية (27/2) " فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب الهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيدها بالشيد وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس".

وفي هذا قالوا " حينئذ بنى يشوع مذبحاً للرب إله إسرائيل في جبل عيبال1 ... وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل ... وبعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب كل ما كتب في سفر التوراة"2. 5- انقطع بعد هذا ذكر التوراة وخبرها، فلا يذكر اليهود في كتابهم التوراة التي كتبها موسى، ولا ما كتبه يشوع على حجارة المذبح، وإنما ذكروا التابوت الذي وضع موسى عليه السلام فيه التوراة، وأن هذا التابوت إستولى عليه الأعداء في زمن النبي صموئيل في قولهم، ثم أعيد إليهم بعد سبعة أشهر، فجعلوه في قرية يسمونها يعاريم3. وبقى هناك فيما ذكروا عشرين عاماً إلى أن جاء داود عليه السلام فأصعده من هناك إلى أورشليم، وجعله في خيمة4، ثم نقله سليمان عليه السلام إلى الهيكل الذي بناه، وجعله في قدس الأقداس فيما يقولون، وكانوا يستقبلونه في الصلاة. وقد ذكروا أن سليمان عليه السلام حين فتح التابوت لم يكن فيه سوى لوحي الحجر اللذين وضعهما موسى عليه السلام5.

_ 1 جبل عيبال قبالة جبل جرزيم ولا يفصل بينهما إلا واد ضيق وهما على الجانب الشمالي لمدينة نابلس. قاموس الكتاب المقدس ص 648. 2 سفر يشوع (8/30) . 3 انظر: خبر استيلاء أعداء اليهود على التابوت بما فيه، وأنه مكث عندهم سبعة أشهر ثم عاد إليهم سفر صموئيل الأول (4/3وما بعدها) . 4 انظر: ذلك في سفر صموئيل الثاني 6/1- وما بعدها. 5 انظر: سفر الملوك الأول (8/1- وما بعدها.

فأين ذهبت نسخة التوراة التي نسخها موسى عليه السلام ووضعها في التابوت؟ هذا مالا يجد اليهود ولا النصارى جواباً له. 6- بعد سليمان عليه السلام انقسمت دولة بني إسرائيل إلى قسمين: دولة إسرائيل في الشمال: وهي تحت حكم يربعام بن نباط، وعاصمتها نابلس. ودولة يهوذا في الجنوب، وهي تحت حكم رحبعام بن سليمان، وعاصمتها أورشليم1. وذكر اليهود حادثة في زمن رحبعام لها دلالتها المهمة: وهي أن رحبعام ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل، وذلك يعني إنحرافهم عن الدين فهاجمهم فرعون مصر في ذلك الزمن واستباح ديارهم، وفي هذا قالوا في سفر الملوك الأول (14/22) "وعمل يهوذا الشر في عيني الرب، وأغاروه أكثر من جميع ما عمل آباؤهم بخطاياهم التي أخطأوا بها، وبنوا لأنفسهم مرتفعات، وأنصاباً، وسواري على كل تل مرتفع، وتحت كل شجرة خضراء2 وكان أيضاً مأبونون في الأرض فعلوا حسب كل أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل3. وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ جميع خزائن بيت الرب، وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء، وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان".

_ 1 انظر سفر الملوك الأول (12/1-27) . 2 ذلك يعني أنهم وقعوا في الشرك وعبادة الأصنام. 3 هذا يعني أنهم وقعوا في الانحرافات الأخلاقية والفجور الذي فعله من كان قبلهم.

وفي سفر أخبار الأيام الثاني (12/1) وصفوا شيشق، وما معه من قوة بما يلي "وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر على أورشليم، لأنهم خانوا الرب. بألف ومائتي مركبه، وستين ألف فارس، ولم يكن عدد للشعب الذين جاؤا معه من مصر، لوبيين وسكيين وكوشيين، وأخذ المدن الحصينة التي ليهوذا، وأتى إلى أورشليم ... ". فهذا النص فيه دلالة واضحة على أن عاصمة اليهود الدينية استباحها فرعون مصر، واستولى على ما فيها. وهذا يدل على أن اليهود فقدوا التوراة في هذه الحادثة حيث لم يشر كتابهم المقدس إليها بعد هذا إلا في زمن الملك يوشيا، أي بعد ما يقارب ثلاثة قرون وزيادة، كما سيأتي بيانه في الفقرة التالية، كما أن التابوت ينتهي خبره بعد هذه الحادثة إلى زمن الملك يوشيا أيضاً، حيث طلب من اللآويين أن يجعلوا التابوت في البيت الذي بناه النبي سليمان عليه السلام1. ثم ينقطع بعد هذا خبره إلى يومنا هذا. ولعله كان مما دمره بختنصر في غزوه لبيت المقدس. 7- يزعم اليهود أن الملك يوشيا الذي تولى الملك في يهوذا بعد سليمان عليه السلام بما يقارب 340 عاماً، وقبيل غزو بختنصر لدولة يهوذا وتدميرها مرة أخرى وجد سفر الشريعة وهذا نص كلامهم: "وفي السنة الثامنة عشرة للملك يوشيا، أرسل الملك شافان بن أصليا بن مشلام الكاتب إلى بيت الرب قائلاً: إصعد إلى حلقيا الكاهن فيحسب الفضة المدخلة إلى بيت الرب التي

_ 1 انظر: سفر الأخبار الثاني (35/3) قاموس الكتاب المقدس ص 210.

جمعها حارسوا الباب من الشعب فيدفعوها ليد عاملي الشغل الموكلين ببيت الرب ... فقال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب، وسلم حلقيا السفر لشافان فقرأه، وجاء شافان الكاتب إلى الملك ورد على الملك جواباً.... وأخبر شافان الملك قائلاً: قد أعطاني حلقيا الكاهن سفراً، وقرأه شافان أمام الملك، فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه، وأمر الملك حلقيا الكاهن، وأخيقام بن شافان.... قائلاً: اذهبوا اسألوا الرب لأجلي، ولأجل الشعب ولأجل كل يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وجد، لأنه عظيم هو غضب الرب الذي اشتغل علينا من أجل أن آباءنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر ليعملوا حسب كل ما هو مكتوب علينا 1 2 ... وأرسل الملك فجمعوا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم وصعد الملك إلى بيت الرب، وجمع رجال يهوذا، وكل سكان أورشليم معه والكهنة والأنبياء وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقرأ في آذانهم كل كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرب "2. فهذا الخبر الذي ذكره اليهود فيه دلالة واضحة على أنهم كانوا قد فقدوا التوراة، وأنهم أيضاً ضيعوا أحكامها، ونسوا الشيء الكثير منها، وما وجدوه في الواقع ليس فيه أي دليل على أنه التوراة، إذ من المستبعد جداً أن يكون اليهود قد فقدوا التوراة كل هذه المدة الطويلة

_ 1 سفر الملوك الثاني (22/8-13) . 2 سفر الملوك الثاني (23/102) .

أكثر من ثلاثة قرون وهي موجودة في الهيكل مع أنه معبد عام وقد تعاقب على رئاسته خلال تلك المدة الكثيرة من الكهنة وهم يبحثون عنها كل تلك المدة ولا يجدونها مع ما لها من القداسة في نفوسهم ثم يجدها الكاهن حلقيا؟. هذا في الواقع مستبعد جداً، وليس بعيداً أن يكون الكاهن حلقيا كتبها من محفظاته ومعلوماته وزعم أنها سفر الشريعة ليرضي بذلك الملك يوشيا، الذي كان له تدين ورغبة في إستقامة الشعب. والله اعلم. 8- بعد الملك يوشيا بخمس وعشرين سنة تقريباً وذلك سنة 586 ق. م هجم بختنصر الكلداني على دولة يهوذا ودمرها، ودمر الهيكل، وسبى بني إسرائيل، وفي هذا قالوا في كتابهم بعد ذكر مبررات التدمير من فساد بني إسرائيل وكفرهم: "فأصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم، ولم يشفق على فتى، أو عذراء، ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده، وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة، وخزائن بيت الرب وخزائن الملك ورؤسائه أتى بها جميعا إلى بابل، وأحرقوا بيت الله، وهدموا سور أورشليم، وأحرقوا جميع قصورها بالنار، وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة، وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيداً إلى أن ملكت مملكة فارس"1. فيجمع الكتاب هنا على أن التوراة فقدت من بني إسرائيل مرة أخرى بسبب هذا التدمير الشامل.

_ 1 أخبار الأيام الثاني (36/17-20) .

9- يزعم اليهود أن عزرا الكاتب قد هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء1. وعزرا هذا كان زمن السبي البابلي، ولما عاد بنو إسرائيل إلى أورشليم في زمن ملك الفرس جمعهم لقراءة ما كتب من شريعة موسى، وفي هذا قالوا "إجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب: أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل، فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء، وكل فاهم ما يسمع في اليوم الأول من الشهر السابع، وقرأ منها أمام الساحة التي أمام باب الماء من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة"2. فيظهر من هذا واضحاً أن عزرا قد كتب لهم التوراة، ولم يذكر اليهود من أين وصلت التوراة إليه وبينه وبين موسى عليه السلام أكثر من ثمانية قرون؟ وقد فقدت التوراة قبل زمن عزرا قطعاً كما مر ذكره. فعلى هذا يتبين أن التوراة التي كان عزرا يقرأها على الناس إما أن تكون مفتراة مكذوبة دوَّنها عزرا من محفظاته وما وصل إليه من مدونات ومعلومات وليست توراة موسى، وبالتأكيد لا يوثق بحفظه ولا ما وصل إليه من أوراق وكتب، إذ أن ذلك يحتاج إلى إثبات السند المتصل منه إلى موسى عليه السلام، وهذا أبعد عليهم من السماء.

_ 1 سفر عزرا (7/10) . 2 سفر نحميا (8/1-3) .

وإما أن تكون معلومات متوارثة في الأحكام الواجب على بني إسرائيل التزامها، دونها عزرا على أنها الفرائض التي أوجبها الله على بني إسرائيل، وزعم هو أو زعم كتاب الكلام السابق أنها سفر شريعة موسى، وبين الأمرين كما بين السماء والأرض، إذ أن توراة موسى منزلة من عند الله، وما جمعه عزرا ودونه لا يعدو أن يكون فهوماً واستنباطات بشرية يعتريها ما يعتري البشر من النقص والخلل، وهذا الاحتمال الأخير في رأيي أرجح من سابقه، وذلك لأن اليهود ذكروا في كتابهم عن عزرا قولهم: "لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء"1. فهذا يدل على أنه أخذ يجد في الجمع والتتبع والعمل والتعليم. وهناك نص آخر يدل على أن بني إسرائيل قد أهملوا العمل بكثير من التعاليم من أيام يوشع بن نون وفي هذا قالوا عن أحد أعيادهم التي عملوها بدعوة من عزرا "وعمل كل الجماعة الراجعين من السبي مظال وسكنوا في المظال2، لأنه لم يعمل بنو إسرائيل هكذا من أيام يشوع بن نون إلى ذلك اليوم وكان فرح عظيم جدا"3. فهذا ينص صراحة على الإهمال للتعاليم، وعدم أدائها من زمن بعيد فلا يمكن لرجل مهما أوتي من العلم جمع كل التعاليم الواجبة مع البعد الزمني

_ 1 سفر عزرا (7/10) . 2 المراد بالمظال الخيام، وقد سبق ذكر النص الذي يأمرهم بذلك عند الكلام على كتابة موسى للتوراة ودفعها لحاملي تابوت الرب انظر ما سبق ص 64. 3 سفر نحميا (8/17) .

وكثرة التقلبات والانحرافات التي وقع فيها بنو إسرائيل، ومع ذلك فجمعه لا يعدو أن يكون عملاً بشرياً لا يصح بأي حال نسبته إلى الله عز وجل. 10- ذكر المؤرخون أن الحاكم اليوناني (بطليموس الثاني) الذي كان في الفترة من (282-247-ق. م) طلب من اليعازار رئيس الكهان أن يرسل إليه اثنين وسبعين عالماً من علماء التوراة لترجمة أسفار موسى الخمسة1 إلى اليونانية فنفذ الطلب، وكان اليعازار على رأس أولئك، وتمت المهمة خلال إثنين وسبعين يوماً فكانت الترجمة المعروفة بـ (السبعينية) في اللغة اليونانية للأسفار الخمسة. وعن اليونانية ترجم العهد القديم إلى اللاتينية. فهذه الترجمة للأسفار تمت بعد فترة طويلة جداً من وفاة موسى عليه السلام إذ تقارب العشرة قرون2، وكذلك بعد فترة طويلة من نسخة عزرا التي سبق ذكرها، إذ بين هذه الترجمة وتلك النسخة قرابة قرنين من الزمان، مما يجعل الكتاب الذي ترجم عنه إلى اليونانية لا سند له فيكون المترجَم بالتالي لا قيمة له. كما أن هذه المعلومة لم يذكرها إلا رجل يوناني يسمى " أرستاى" في رسالة له لهذا ردها كثيرٌ من متأخري اليهود والنصارى وإن كان المتقدمون قد قبلوها. كما ذكر ذلك الدبس في تاريخ سورية. فهي معلومة لم يتوفر لها الإثباتات اللازمة، إضافة إلى غرابتها حيث زعم قائلها أن اليعازار أرسل اثنين وسبعين رجلاً من علماء اليهود ستة من كل سبط من أسباطهم الاثني عشر، وأنهم جعلوا في أماكن منفرد بعضهم عن بعض

_ 1 مختصر الدول لابن العبري ص59. الأسفار المقدسة ص295. 2 يؤرخ بعضهم زمن موسى عليه السلام بأنه في حدود نهاية القرن الخامس عشر قبل الميلاد وبعضهم يجعله في القرن الثالث عشر قبل الميلاد انظر قاموس الكتاب المقدس ص 933.

فكانت ترجماتهم متطابقة تماماً. فهذا الخبر لا يمكن قبوله وتصديقه وذلك لأن مما هو متفق عليه عند اليهود أن عشرة أسباط من بني إسرائيل وهم الذين كانوا شعب دولة إسرائيل شمال دولة يهوذا قد سبوا من أيام الاشوريين في سنة 722 ق. م وانقرضوا حيث يوصفون بالأسباط العشرة الضائعة وحسب الخبر المذكور هنا فإن اليعازار قد أحضر ستين عالماً منهم وهذا مستبعد جداً. 11- أن اليهود فقدوا المقدرة على فهم اللغة العبرية المدونة القديمة بعد إختلاطهم بالأمم، وذلك أن اللغة العبرية في أصلها بدون نقط ولا حركات وهذا يسبب أخطاءً كثيرة في القراءة، فاهتدوا إلى وسيلة لإزالة هذا اللبس بإدخال النقط والحركات، والفواصل، واستمر هذا العمل من القرن السابع الميلادي إلى القرن العاشر الميلادي، فأخرجوا نسخة من التوراة باللغة العبرية على هذا النمط تسمى النسخة الماسورية، إنتهوا منها في القرن العاشر الميلادي، وعن هذه النسخة أي العبرية المعدلة نسخت جميع النسخ العبرية والمترجمة عنها1. والسؤال المطروح هنا: أين النسخ الأصلية التي نقلت عنها النسخة الماسورية؟ الجواب عن ذلك: أنه لا يوجد بأيدي اليهود أو النصارى شيء من النسخ الأصلية سوى مخطوطات وادي قمران عند البحر الميت، والتي عثر عليها في الفترة من عام 1947-1956م وهي مجموعات متكاملة للعهد القديم

_ 1 انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 763، المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم. د. محمد البار ص172.

كتبت قبل الميلاد بثلاثة قرون، وأقربها عهداً ما كتب قبل الميلاد بقرن واحد، إلا أن هذه المخطوطات التي استولى على الجزء الأكبر منها كل من أمريكا، وبريطانيا، واليهود في فلسطين لم تكشف ولم تعلن حتى الآن، مما يجعل في الأذهان استفهامات عديدة حولها، وأنها تتضمن أمورا خطيرة، جعلت اليهود والنصارى يتفقون على عدم كشفها على غير عادتهم في الآثار التاريخية1. ومن خلال هذا العرض التاريخي الموثق للتوراة يتبين ما يلي: 1- أن التوراة التي أعطيها موسى عليه السلام مكتوبة، والتي دونها، وكذلك التي دونها يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام فقدت، إما قبل عهد سليمان عليه السلام، أو بعده مباشرة. 2- أن اليهود زعموا أنهم عثروا على التوراة زمن الملك يوشيا، وهو إدعاء يحتاج إلى العديد من الإثباتات لإعتقاد صحته. 3- أن اليهود فقدوا ما ادعوا أنهم وجدوه زمن الملك يوشيا، وذلك بسبب تدمير بيت المقدس وما أعقب ذلك من سبي اليهود وتهجيرهم. 4- أن عزرا أعاد لهم التوراة وكتبها فيما زعم اليهود، وإذا قبلنا كلام اليهود هذا فإن ذلك لا يعدوا أن يكون عملاً بشرياً، وإذا كان عزرا نسبه إلى الله عز وجل فهو كاذب في ذلك، لأن التوراة لم يدع أحد لا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من المسلمين أنها أنزلت مرتين مرة على موسى، ومرة على عزرا.

_ 1 انظر: التوراة بين الوثنية والتوحيد ص 83-87. المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم ص264.

وقد يكون الذي ادعى أن تلك هي التوراة ألهمها عزرا هم الكتبة فيما بعد، فهم في هذا كاذبون، لأن عزرا لم يقل ذلك فيما نقلوا عنه. وأدلة بطلان ذلك ظاهرة من ناحية بعد الزمان، وانقطاع السند، وفساد بني إسرائيل. 5- أن نسخة عزرا وما دوَّنه عزرا لا يعلم على التحقيق مصيرها، وإنما بعد ذلك بما يقارب قرنين من الزمان كتبت النسخة السبعينية ولم يذكر من أي نسخة ترجمت، وادعاء أنها من حفظ الكهنة بعيد جداً إذ أن اليهود لا يحفظون كتابهم عن ظهر قلب، وليس فيهم من يدعي ذلك. 6- أن النسخة العبرية والتي تنتمي إلى النص الماسوري لا تختلف عن الكتاب المترجم من ناحية أنها أخذت طريقة في الكتابة مغايرة للغة الأصلية التي كتب بها العهد القديم، مما يجعل ثبوت صحتها منوطاً بوجود النصوص الأصلية التي تتفق مع اللغة القديمة، حتى يمكن المقابلة عليها، وإلا تعتبر لا أصل لها يشهد لصحتها، فتكون بذلك مثلها مثل النسخة اليونانية. 7- أن النص اليوناني والنص العبري للتوراة والعهد القديم لم يؤخذا من مصدر واحد بل من مصدرين مختلفين يدل على هذا اختلافهما في عدد الأسفار، حيث أن اليونانية ستة وأربعون سفراً، وأما العبرية الماسورية فهي تسعة وثلاثون سفراً، كما أن بينهما اختلافات كثيرة وعديدة مما يدل على أنهما من مصدرين مختلفين. ومن خلال هذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن العهد القديم كتاب ليس له أي سند تاريخي يثبت تسلسل نقله، وأنه تعرض لفترات عديدة من الضياع،

وأن أصله العبري لا وجود له بأيدي اليهود مما يجعل المجال واسعاً للتحريف والتبديل، وهو ما سنبينه إن شاء الله من واقع ما بأيدي اليهود والنصارى من النصوص.

المطلب الثالث: تحريف التوراة

المطلب الثالث: تحريف التوراة مما سبق ذكره وبيانه عن التوراة يتضح أن الكتاب الذي بين يدي اليهود والنصارى لا سند له يمكن أن يعتمد عليه في صحة المعلومات الواردة فيه فلهذا لا يمكن لليهود ولا للنصارى أن ينفوا إمكانية التحريف، والعبث فيه خاصة وأن الذين استؤمنوا عليه وهم اليهود قد انحرفوا انحرافات خطيرة في الدين، وكفر كثير منهم، وأعرضوا عن دين الله، وتركوه رغبة عنه، وحباً للدنيا، وإيثاراً لها وهذا ظاهر واضح لكل من طالع سجل تاريخهم وهو العهد القديم. فمع هذا الإنحراف والفساد كيف يمكن أن تسلم التوراة من العبث والتحريف، هذا ما لا يقبله العقل السليم وواقع الإنسان. وسنذكر هنا ما يؤكد وقوع التحريف. أولاً: أدلة التحريف من القرآن الكريم والتوراة قد شهد الله عز وجل بتحريف اليهود لكتابهم وأبان عن هذا في القرآن الكريم في مواضع عديدة فمن ذلك قوله عز وجل: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} البقرة آية (75) . فهذا فيه دلالة على أنهم غيروا وبدلوا عن إصرار وعلم. وقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} البقرة آية (79) . وقوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران الآية (78) . فهذا فيه دلالة على أنهم أدخلوا في كلام الله ما ليس منه، وافتروا على الله الكذب بأن نسبوا إليه سبحانه ما لم يقله وهم يعلمون ذلك فجوراً منهم، وجرأة على الله تعالى وتقدس. وقوله عز وجل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} الأنعام آية (91) . فهذا فيه دلالة على أنهم قد أَخفَوا وكتموا ما عندهم من علم وما أنزل الله عليهم من كتاب حسب أهوائهم. وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة الآية (13) . وفي هذه الآية دلالة واضحة على التحريف وعلى أنهم نسوا حظاً أي نصيباً وجزءاً مما أنزل عليهم. وهذا جزاء من الله عز وجل لهم بسبب كفرهم وفسادهم وسابق تحريفهم ونقضهم للميثاق. كما ورد في كتابهم ما يتفق مع ما ذكره الله عز وجل عنهم فمن ذلك ما ورد

في سفر إرميا (8/8) مما ينسب إلى الله عز وجل القول "كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا، حقاً إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب، خَزِىَ الحكماء إِرتاعو وأُخِذُوا هاقد رفضوا كلمة الرب". فهذا النص من نبي من أنبيائهم الكبار على ما ذكروا وكان في عصر متأخر، قد عاصر إنحرافاتهم وذلك قبيل الغزو البابلي وسبى اليهود، وهو نص على تركهم لدين الله وتحريفهم لشريعته، وأن الكتبة الموكلون بالكتب المنزلة قد حولوها إلى الكذب والزور. ثانياً: الأمثلة على وقوع التحريف في التوراة الأمثلة على وقوع التحريف في التوراة كثيرة جداً نذكر بعضاً منها: أولاً: الاختلاف في عدد الأسفار مما هو معلوم أن بين يدي اليهود والنصارى ثلاث نسخ مشهورة من التوراة والعهد القديم. ومن هذه النسخ تتفرع سائر الترجمات تقريباً وهي: 1- النسخة العبرية وهي المقبولة والمعتبرة لدى اليهود وجمهور علماء البروتستانت النصارى وهي مأخوذة من الماسورية وما ترجم عنها. 2- النسخة اليونانية وهي المعتبرة لدى النصارى الكاثوليك والأرثوذكس وهي التي تسمى السبعينية وما ترجم عنها. 3- النسخة السامرية وهي المعتبرة والمقبولة لدى اليهود السامريين. وإذا عقدنا مقارنة بين النسخ الثلاث من ناحية عدد الأسفار نجد أن النسخة العبرية تسعة وثلاثون سفراً فقط.

أما النسخة اليونانية فهي ستة وأربعون سفراً حيث تزيد سبعة أسفار عن النسخة العبرية ويعتبرها النصارى الكاثوليك والأرثوذكس مقدسة. أما النسخة السامريه فلا تضم إلا أسفار موسى الخمسة فقط1 وقد يضمون إليها سفر يوشع فقط2 وما عداه فلا يعترفون به ولا يعدونه مقدساً. فهذا الاختلاف الهائل بين النسخ لكتاب واحد، والكل يزعم أنه موحى به من قبل الله عز وجل، ويدعي أن كتابه هو الكتاب الحق وما عداه باطل مع عدم القدرة على تقديم الدليل القاطع على صحة ما يدعيه، فذلك دليل على التحريف من قبل المتقدمين، وأن المتأخرين استلموا ما وصل إليهم بدون نظر في ثبوته أو عدم ثبوته، أو أن المتأخرين وصلتهم كتب عديدة ومتنوعة فأدخلوا ما رأوا أنه مناسب وذو دلالات مهمة، وحذفوا ما رأوا عدم تناسبه مع ما يعتقدون أو يرون، بدون أن يكون لهم دليل صحيح على إضافة ما أضافوا من الأسفار أو حذف ما حذفوا منها. ثانياً: الاختلاف والتباين بين النسخ في المعلومات المدونة: إذا قارنا بين النسخ الثلاث فيما اتفقت في ذكره من أخبار وقصص نجد بينها تبايناً شديداً واختلافاً كبيراً ومن الأمثلة على ذلك: 1- أن اليهود ذكروا تاريخ مواليد بني آدم إلى نوح عليه السلام ونصوا على عمر كل واحد منهم، وكذلك عمره حين ولد له أول مولود، وبعقد مقارنة بين أعمار من ذكروا حين ولد لهم أول مولود تتبين إختلافات واضحة بين

_ 1 هذا حسب النسخة العربية التي ترجمها الكاهن السامري أبو الحسن اسحاق الصوري ونشرها د. أحمد حجازي السقا. 2 ذكر هذا الدكتور/ سيد فراج راشد في كتابه "السامريون واليهود" ص111.

النسخ الثلاث فمن ذلك: الاسم ... العبرانية ... السامرية ... اليونانية آدم ... 130 ... 130 ... 230 شيث ... 105 ... 105 ... 205 آنوش ... 90 ... 90 ... 190 قينان ... 70 ... 70 ... 170 يارد ... 162 ... 62 ... 262 متوشالح ... 187 ... 67 ... 187 الزمان من خلق آدم إلى الطوفان. ... 1656 ... 1307 ... 2262 فهذه أمثلة تدل على تحريفهم وتبديلهم لكلام الله -إن ثبت أن ما سبق هو من كلام الله المنزل- حيث لا يمكن الجمع بين هذه الروايات المتناقضة. ثالثاً: الاختلاف بالمقارنة مع ما ذكروه في مواضع أخرى من كتابهم: 1- ذكروا في سفر التكوين أن سفينة نوح استقرت بعد الطوفان على جبال أراراط1 بعد سبعة أشهر وسبعة عشر يوماً ثم ذكروا أن رؤوس الجبال بعد الطوفان لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر. وهذا نص كلامهم في سفر التكوين (8/4) "واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال". ففي هذا تناقض ظاهر فكيف رست السفينة على الجبال بعد سبعة أشهر مع

_ 1 يقصدون بها جبال أرمينيه في آسيا الوسطى. أنظر قاموس الكتاب المقدس ص42.

أن رؤوس الجبال لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر؟! 2- ذكروا أن الله أمر نوحاً أن يحمل في الفلك من كل جنس إثنين، فقالوا في سفر التكوين (6/19) "ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها". وبعده مباشرة ذكروا أن الله أمره أن يأخذ من كل جنس سبعة سبعة ذكراً وأنثى ماعدا البهائم غير الطاهرة فيأخذ اثنين. ففي سفر التكوين (7/2) قالوا "من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكراً وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة إثنين ذكراً وأنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكراً وأنثى، لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض". 3- ذكروا في سفر الخروج (24/9) أن موسى وهارون وشيوخ إسرائيل رأو الله فقالوا: "ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل. ورأو إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل. فرأو الله وأكلوا وشربوا". هكذا زعموا في هذا الموضع وفي سفر التثنية (44/12) زعموا أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام ممتناً عليه وعلى بني إسرائيل "فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم

سامعون صوت كلام ولكن لم ترو صورة بل صوتاً ... فاحتفظوا جداً لأنفسكم. فإنكم لم ترو صورة ما ... ". فهذا فيه أنهم لم يرو الله عز وجل وهذا الحق فهم لم يروا الله عز وجل إلا أن فيه بيان تناقض كلامهم. 4- قالوا في سفر الخروج (33/11) في كلام الله لموسى "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه". ففي هذا يزعمون أن الكلام يتم مقابلة مما يوحي بأن موسى عليه السلام يرى وجه الله تعالى حين يكلمه. وفي نص آخر بعد هذا يقولون إن الله قال لموسى لما طلب أن يراه سفر الخروج (33/20) "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش". فهنا ذكروا أن الله تعالى نفى أن يستطيع موسى أو أي إنسان رؤية وجهه عز وجل. وفي هذا تناقض واضح مع ما قبله ودليل على التحريف. والحق أن موسى عليه السلام لم ير الله عز وجل، كما ذكر ذلك ربنا جل وعلا في القرآن الكريم حيث قال {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} الأعراف آية (143) . 5- أنهم ذكروا أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام كما في سفر التكوين (22/2) "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال" فلاشك أن هذا خطأٌ، لأن إسحاق عليه السلام لم يكن وحيد إبراهيم عليه

السلام بل الذي كان وحيده هو بكره إسماعيل عليه السلام حيث نص اليهود في كتابهم على أن إسماعيل عليه السلام ولد قبل إسحاق عليه السلام حيث ختّن وعمره ثلاث عشرة سنة ولم يكن إسحاق ولد بعد وفي هذا قالوا في سفر التكوين (17/25) ."وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه " ثم ذكروا بعد ذلك بشارة الملائكة بإسحاق حين ضافوا إبراهيم عليه السلام وهم في طريقهم إلى قوم لوط1 والذي يبدو أن اليهود حسدوا أبا العرب إسماعيل عليه السلام على هذه المنقبة العظيمة فغيروا وحرفوا لأجل ذلك. رابعاً: الزيادة والإضافات: توجد في التوراة العديد من الجمل التي لا يمكن أن يصح نسبتها إلى موسى عليه السلام ومن ذلك: 1- أن الكتاب من أوله إلى آخره مليء بقولهم "وقال الرب لموسى" "وقال موسى للرب" "وحدَّث موسى الشعب" ونحو ذلك من العبارات التي تدل على الحكاية والرواية مما يقطع بأنها ليست من كلام موسى عليه السلام ولا من كلام الله عز وجل.

_ 1 يلاحظ أن الله عز وجل بعد أن ذكر قصة الذبح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} الصافات الآية (112) ، وقال في بشارة الملائكة {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} هود آية (69-71) . فيستخلص من النص الوارد في القرآن الكريم والنص الذي ذكره اليهود تأكيد أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، وليس إسحاق عليه السلام.

2- جاء في سفر التكوين (36/31) "وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما مَلَك ملكٌ لبني اسرائيل" فهذه العبارة لا يمكن أيضا أن تكون من كلام موسى عليه السلام إذ أن ملوك بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام بزمن طويل. 3- جاء في سفر التثنية في آخره (34/5) حكاية وفاة موسى ودفنه فقالوا: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم". فهذا النص لاشك أنه أُدخل في الكتاب وليس منه، إذ ليس من المعقول أن يكتب موسى عليه السلام موته ودفنه، وأن إنساناً لا يعرف قبره إلى يوم كتابة ذلك الكلام. وببعض ما ذكرنا يستدل اللبيب والعاقل على أن اليهود لم يحافظوا على كلام الله وكتبه بل ضيعوها وحرفوها وغيروا فيها وبدلوا وأضافوا وحذفوا حسب أهوائهم وشهواتهم وأغراضهم.

المطلب الرابع: صفات الله عز وجل في التوراة المحرفة

المطلب الرابع: صفات الله عز وجل في التوراة المحرفة: الله عز وجل له صفات الكمال المطلق التي لا تشوبها شائبة نقص، ولا شك أن موسى عليه السلام قد علَّم بني إسرائيل ذلك. كما أن التوراة المنزلة قد تضمنت ذلك، إلا أن بني إسرائيل قد كفروا وضلوا وانحرفوا عن دين الله عز وجل فتكونت لديهم عقيدة منحرفة جعلتهم يقولون في الله قولاً عظيماً، ومن ذلك ما ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم من قوله عز وجل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ... } المائدة آية (64) . وقال عز وجل {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} آل عمران آية (181) . فهذا الكفر والوقاحة من اليهود أثر من آثار تحريفهم لكتابهم حيث تضمن كتابهم المسمى " التوراة " وكذلك الكتب الملحقة به كثيراً من الصفات التي لا يصح ولا يليق وصف الله عز وجل بها، وهي من أدل الأدلة على التحريف فمن ذلك: 1- وصفهم الله عز وجل بالتعب يزعم اليهود في كتابهم أن الله عز وجل تعب من خلق السموات والأرض فاستراح في اليوم السابع، فقد ورد في سفر التكوين (2/2) ما نصه "وفرغ الله في

اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل". وفي سفر الخروج (31/17) قالوا "لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع إستراح وتنفس" وقد رد الله عز وجل عليهم وبين بطلان قولهم هذا في قوله عز وجل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ق (38) 2- وصفهم الله عز وجل بالجهل وصف اليهود الله عز وجل بالجهل في عدة مواطن من كتابهم منها قولهم في قصة آدم وحواء بعد أن أكلا من الشجرة كما في سفر التكوين (3/8) "وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني فأكلت" فيتضح من كلامهم هذا أن الله عز وجل لم يعلم بآدم حين أكل من الشجرة، ولم يره حين أكل. بل لم يعلم بمكانه بعد أن اختبأ في الجنة. فهل يصح أن يقول أحد أن الله العليم بكل شيء، والذي لا يغيب عن

سمعه وبصره شيء مهما خفي ودق، يخفى عليه أمر آدم على هذه الحال التي ذكر اليهود فلاشك أن ذلك من تحريفهم. ولو نظرنا في كلام الله عز وجل في القرآن الكريم عن هذه الحادثة لوجدنا الفرق الشاسع بين التعبيرين ودلالتهما. ففي القرآن يقول الله عز وجل {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ? فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ? وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ? فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ? قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف الآيات 19-23. ففي هذا النص الكريم ما يتناسب مع كمال علم الله وكمال سمعه وبصره وأنه محيط بكل شيء، فحالما أكل آدم وزوجته من الشجرة ناداهما ربهما قائلاً {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} فلم يسأل آدم أين هو؟ ولا من أعلمه أنه عريان؟ وهل أكل من الشجرة؟ كما يزعم اليهود. كما أن جواب آدم في القرآن الكريم هو الجواب اللائق بالنبي الكريم، حيث إعتذر مباشرة بأنه معتد في هذا الأكل وسأل الله المغفرة والرحمة، وهذا هو

اللائق بآدم العبد الصالح والنبي الكريم، لا ما ذكره اليهود من أنه ألقى باللائمة على زوجته، وحملها وحدها المسئولية. ومن وصفهم الله عز وجل بالجهل أيضاً زعمهم أن الله عز وجل يجب أن توضع له علامة ليستدل بها عليهم حيث قالوا إن الله أمرهم قبل خروجهم من مصر أن يلطخوا أبوابهم العتبة العليا والقائمتين بالدم ويعللون ذلك بقولهم: " فان الرب يجتاز ليضرب المصريين فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب" سفر الخروج (12/23) . وهذا باطل فإن الله جل وعلا عالم الغيب والشهادة يقول سبحانه عن نفسه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} سبأ آية (3) . 3-وصفهم الله عز وجل بالندم: يزعم اليهود أن الله عز وجل ندم على فعله، فمن ذلك قولهم في سفر الخروج (32/14) : "فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه". وقد كذبهم الله في ذلك فقال جل وعلا: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الأنبياء آية (23) . وقال: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} الفرقان آية (77) . وهل يندم إلا الغر الجاهل بالعواقب. والله عز وجل منزه عن ذلك.

وقد ورد في كتابهم أيضا ما يبين بطلان هذا الوصف وأن الله جل وعلا لا يوصف به. جاء في سفر العدد (23/19) "ليس الله إنساناً فيكذب ولا ابن إنسان فيندم". 4 - وصفهم الله عز وجل وتعالى وتقدس بالبكاء وذرف الدموع وفي هذا يقولون في كتابهم أن الله قال لهم "وإن لم تسمعوا - أي كلامه وتطيعوه- فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاءً وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب" سفر إرميا (13/17) . وأيضاً قالوا بعد ذلك مثله في سفر إرميا (14/17) إن الله قال لهم "لتذرف عيناي دموعاً ليلاً ونهاراً ولا تكفا لأن العذراء بنت شعبي سحقت سحقاً عظيماً بضربة موجعة جداً". فهذا كله لاشك أنه من افتراءات اليهود على الله عز وجل ووقاحتهم في كلامهم عن الله سبحانه. وهو دليل واضح على التحريف والتلاعب بكلام الله وكتب الأنبياء وفق أهوائهم لا يراعون في ذلك لله وقاراً ولا لكلامه تعظيماً وإكباراً سوى ما يتفق مع أمزجتهم وأهوائهم فعليهم من الله ما يستحقون.

المطلب الخامس: وصف اليهود للأنبياء عليهم السلام في التوراة المحرفة

المطلب الخامس: وصف اليهود للأنبياء عليهم السلام في التوراة المحرفة ... المطلب الخامس: وصف اليهود للأنبياء عليه السلام في التوراة المحرفة. من يقرأ التوراة والكتب الملحقة بها يجد أن أنبياء الله والموكلين بهداية الناس وتعليمهم الهدى والخير لا يتمتعون بصفات الصالحين والأتقياء، بل يجد أن العهد القديم ينسب إليهم كثيراً من المخازي والقبائح التي يتنزه عنها كثير من الناس العاديين. فكيف يليق أن ينسب شيء من ذلك إلى الأنبياء الذين قد اصطفاهم الله وخصهم بهذه المهمة العظيمة وهي تبليغ دينه والذين هم قدوة للصالحين وأئمة في البر والتقى. ومما لاشك فيه أن الأنبياء عليهم السلام أكمل الناس ديناً وورعاً وتقوى، وأن الله اصطفاهم ورعاهم وكملهم وحفظهم وعصمهم من القبائح والرذائل، هذه حقيقتهم بلا مراء ولا تردد، وما أضافه اليهود إليهم مما لا يليق نسبته إليهم هو محض إفتراء وكذب، ودليل واضح على تحريفهم لكتبهم لأغراض في نفوسهم، غير مراعين حرمة لمقام النبوة، ولا لما جبل الله عليه أولئك الأنبياء عليهم السلام من الكمال البشري في خلْقهم وخُلقهِم. وإليك الأمثلة الدالة على تحريف اليهود لكتابهم بطعنهم في أنبياء الله عز وجل ووصفهم بالصفات التي لا يجوز بحال نسبتها إليهم فمن ذلك قولهم في: 1- نوح عليه السلام زعم اليهود في كتابهم أن نوحاً عليه السلام، شرب الخمر وتعرى داخل خبائه

وفي هذا قالوا في سفر التكوين (9/20) "وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً وشرب من الخمر وتعرى داخل خبائه". هكذا وصفوا نبي الله نوحاً عليه السلام وهو أول أنبياء الله إلى المشركين والذي دعا قومه إلى دين الله ألف سنة إلا خمسين عاماً كما ذكر الله عز وجل حيث قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} العنكبوت آية (14) . وامتن الله على بني إسرائيل أنهم ذرية ذلك العبد الصالح نوح عليه السلام فقال جل وعلا {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} الإسراء آية (3) . فامتن الله على بني إسرائيل بنسبتهم إلى ذلك العبد الصالح، واليهود يصفونه بتلك النقيصة، وما ذلك منهم إلاّ خدمة لأهوائهم وأغراضهم التي تتضح من بقية كلامهم في القصة نفسها حيث يقولون بعد الكلام السابق في سفر التكوين (9/22) "فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به إبنه الصغير. فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته". فيتضح من هذا النص أن مقصد اليهود منه لعن الكنعانيين الذين كانوا أعداءً لبني إسرائيل، كما أن فيه خطأً ظاهراً من ناحية أن حام هو الذي أبصر عورة

أبيه حسب النص السابق، فلماذا يلعن ابنه كنعان، مع أن لحام أبناءً آخرين غير كنعان فإن اليهود قالوا في سفر التكوين (10/6) "وبنو حام كوش ومصر ايم ونوط وكنعان". فلماذا خُص كنعان من بين إخوته؟ ما ذلك إلا لهدف خاص في نفوسهم وهو لعن الكنعانيين أعدائهم ولو كان بالافتراء على الله عز وجل وعلى نبيه نوح عليه السلام 2ـ لوط عليه السلام ومن الأنبياء الذين افترى عليهم اليهود لوط عليه السلام فقد افتروا عليه فرية عظمى ورموه بشنيعة كبرى يترفع عنها أعظم الناس فساداً. حيث زعم اليهود أن لوطاً عليه السلام قد زنى بابنتيه الكبرى والصغرى بعد أن أنجاه الله من القرية التي كانت تعمل الخبائث وأن البنتين أنجبتا من ذلك الزنى1. وهذا محض إفتراء وبهتان لنبي كريم ولبناته وأهل بيته الصالحين، وقد ذكر الله عز وجل لنا صلاح لوط عليه السلام وأهل بيته وطهارتهم على لسان أعدائه فقال جل وعلا {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} النمل آية (56) . ولو بحثنا عن سبب افتراء اليهود لهذه الفرية في كتابهم لوجدنا أنهم إنما قصدوا الطعن في أعدائهم المؤابيين والعمونيين من خلال هذه الفرية، لأنهم زعموا أن البنت الكبرى حملت من ذلك الزنى فأنجبت مؤاب وهو أبو المؤابيين

_ 1 انظر سفر التكوين (19/30-38) .

، وأن الصغرى حملت أيضاً من ذلك الزنى وأنجبت بني عمي وهو أبو بني عمون، فلهذا السبب والهوى كذب اليهود على نبي الله ووصموه بهذه الفعلة الشنيعة، وفي ذلك أوضح دليل على التحريف. 3- يعقوب عليه السلام زعموا أن يعقوب عليه السلام احتال لأخذ النبوة والبركة من أبيه إسحاق عليه السلام لنفسه، فذكروا أن إسحاق عليه السلام لما كبر وكف بصره دعا إبنه عيسو وهو الأكبر، وحسب التقليد لديهم فإن البركة تكون للأكبر، وطلب منه أن يصطاد له جدياً ويطبخه حتى يباركه، فذهب عيسو للصيد كما أمره أبوه، إلا أن أمهما كانت تحب يعقوب وهو الأصغر أكثر من أخيه عيسو وأرادت أن تكون البركة له فدعته وأمرته أن يحضر جدياً فيطبخه وأن يلبس ملابس أخيه ويضع فوق يديه جلد جدي حتى يبدو جسمه بشعر مثل جسم أخيه عيسو، فيظن إسحاق عليه السلام أنه هو فيباركه، ففعل يعقوب عليه السلام ذلك ثم دخل على أبيه ففي ذلك قالوا: " فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي، فقال: ها أنذا، من أنت؟ فقال: يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك قد فعلت كما كلمتني، قم إجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك، فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني؟ فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي، فقال إسحاق ليعقوب: تقدم لأجسك ياابني أأنت هو إبني عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدى عيسو أخيه، فباركه

وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو، فقال: قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدم له فأكل وأحضر له خمراً فشرب، فقال له إسحاق أبوه تقدم وقبلني يا ابني، فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: انظر رائحة ابني كرائحة حقل، قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين" سفر التكوين (27/18_29) . وفاز يعقوب بالبركة بهذه الحيلة، وبعد أن جاء أخوه عيسو لم يكن أمامه إلا الصراخ والعويل لفوات البركة. وبهذا الكلام يصمون أباهم يعقوب عليه السلام بالكذب مراراً، وانتحال شخصية أخيه كيداً، وأخذ ما ليس له فيه حق احتيالاً، كما يصمون أباهم إسحاق عليه السلام بالجهل الشديد إلى حد التغفيل والغباء حيث لم يستطع أن يميز بين ولديه، وهو أمر مستبعد جداً أن يقع لأقل الناس إدراكاً وأشدهم تغفيلاً فضلاً عن نبي الله إسحاق عليه السلام وهذا كله مما لا يليق وصف الأنبياء عليه السلام به، كما أن النبوة ليست بيد إسحاق ولا بيد غيره من الأنبياء، بل هي محض تفضل من الله عز وجل. قال تعالى {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} الزخرف آية (32) . وقال تعالى {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام آية (124) .

ويتجلى في هذه القصة طرفاً من مكر اليهود وكيدهم، فإذا نظرنا إلى قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام نجد أنهم أغفلوا مسألة البكوريه في استحقاق البركة والتي يقصدون بها النبوة، وجعلوا البركة لإسحاق دون إسماعيل عليه السلام لأن إسماعيل عندهم ابن جاريه1، ولما صار الأمر متعلقاً بعيسو ويعقوب، وعيسو هو الأكبر حسب كلامهم اخترعوا هذه القصة، حتى يبينوا أن يعقوب قد أخذ البركة دون أخيه عيسو. وأيضاً تلك البركة التي يزعمون أنها للأكبر لا نراها بَعْدُ في نبي آخر من أنبيائهم، حتى أن يعقوب عليه السلام، لما بارك أبناءه عند موته جعل البركة العظمى ليوسف عليه السلام 2 وهو أصغر أبناء يعقوب ما عدا شقيقه بنيامين فقد كان أصغر منه، وهكذا أيضاً بارك يعقوب أفرايم ومنسي ابنى يوسف عليه السلام، فقد كان منسي هو البكر، فجعل يعقوب عليه السلام البركة الأهم لأفرايم وهو الصغير حيث وضع عليه يده اليمنى3 فهذه قصة مخترعة مفتراة على نبي الله إسحاق ويعقوب عليهما السلام، لاشك في ذلك. 5- هارون عليه السلام زعموا أن هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل ودعاهم إلى عبادته فقالوا في سفر الخروج (32/1) " ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب

_ 1 سفر التكوين (25/5) . 2 سفر التكوين (49/22-27) . 3 سفر التكوين (48/13) .

على هارون وقالوا له قم إصنع لنا آلهة تسير أمامنا ... فقال لهم هارون: إنزعوا أقراط الذهب التي في أذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً. فقالوا هذه آلهتك ياإسرائيل". فهل يعقل أن نبياً أرسله الله لدعوة قومه إلى عبادة الله وحده يصنع لقومه عجلاً ويدعوهم إلى عبادته؟!.حاشا أنبياء الله من ذلك. وقد بين الله عز وجل في القرآن أن الذي صنع لهم العجل هو السامري فقال عز وجل {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} طه آية (85) . أما هارون عليه السلام فقد قام بواجبه من ناحية نهيهم عن عبادة العجل. قال جل وعلا {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} طه آية (90) . 6- داود عليه السلام زعموا أنه زنى بامرأة أحد جنوده، وحبلت من ذلك الزنى، ثم إنه تسبب في مقتل زوجها حيث أمر أن يجعل في مقدمة الجيش حتى يعرضه للقتل، ثم بعد مقتل زوجها تزوجها ومات ذلك المولود الأول، ثم حبلت مرة أخرى فانجبت النبي سليمان عليه السلام 1. 7- سليمان عليه السلام زعموا أن سليمان عليه السلام تزوج بنساء مشركات يعبدن الأصنام، ثم هو

_ 1 انظر سفر صموئيل الثاني (11/1-26) .

عبد الأصنام معهن وبني للأصنام أيضاً معابد لعبادتها1. ذلك كله محض افتراء وكذب، وهو من إفتراءات اليهود على أنبياء الله تعالى وكذبهم عليهم، وأن هذا من أظهر أدلة تحريف الكتب الإلهية والعبث فيها وفق أهوائهم، ورغباتهم. ولسائل أن يسأل لماذا طعن اليهود في أنبيائهم وقد كان لأنبيائهم الدور الأكبر والفضل العظيم عليهم بعد فضل الله فيما نالوا من خير الدنيا وعزها في سابق حياتهم؟ إن هذا لسؤال محير!! إلا أنا إذا تصورنا أن هذه الكتب قد طالتها يد التحريف، ولا نعرف على التحقيق من الذي تولى تحريفها، ولا الزمان الذي حرفت فيه، إلا أننا نقطع حسب ما أوردوا في كتبهم أن بني إسرائيل انحرفوا عن دينهم إنحرافات خطيرة وكثيرة، بل تركوا دينهم وعبدوا الأصنام والأوثان خاصة فيما قبل السبي، ولا نشك أن جزءاً كبيراً من التحريف كان في تلك الفترات وهي التي لا يتورع أصحابها عن الإفتراء على الله عز وجل وعلى أنبيائه عليهم السلام فتمت في ذلك الزمان التحريفات الكثيرة أو كتابة كتب كاملة ونسبتها إلى نبي من الأنبياء، ثم إن المتأخرين منهم لم يكن لديهم الجرأة على تمحيص تلك النصوص أو أنهم أيضاً اختلت موازينهم بسبب ذلك التحريف. ولكن السؤال لازال قائما: ً لماذا حرف أولئك اليهود كلام الله وطعنوا في أنبيائهم وأصحاب الفضل عليهم بهذه المطاعن؟.

_ 1 انظر سفر الملوك الأول (11/1-9) .

الذي يبدوا لي أن أولئك المحرفين أرادوا أن يبرروا ما هم فيه من فساد وانحراف وفسق، فألصقوا أنواعاً من التهم بأنبيائهم حتى لو احتج عليهم محتج بأمر من الأمور المتعلقة بانحرافهم احتجوا له بأن النبي الفلاني فعل كذا وفعل كذا، كذباً وزوراً. وأيضاً ليخدموا غرضاً في نفوسهم كما سبق أن قلنا عن طعنهم في نبي الله نوح ولوط عليهما السلام. وهذا كله يكفي في التعبير عنه قول الله عز وجل {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} البقرة آية (79) .

المطلب السادس: اليوم الآخر لدى اليهود

المطلب السادس: اليوم الآخر لدى اليهود كانت عقيدة بني إسرائيل وذلك حين كانت تستمد تشريعها من السماء هي الإيمان باليوم الآخر وأنه دار الجزاء وقد أثبت الله ذلك عنهم في عدة آيات من القرآن الكريم قال عز وجل في خطابه لموسى عليه السلام {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} طه آية (15) . وقال عز وجل على لسان موسى عليه السلام {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} الأعراف آية (156) . وقال عز وجل عن صالحي جنود طالوت: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة آية (249) . إلا أنّ اليهود انحرفوا عن هذا الاعتقاد بانحرافهم عن دين الله عز وجل، وقد سجل الله عليهم هذه الانحرافات، وعابهم عليها، وكذبهم فيها. فقال عز من قائل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} البقرة آية (80) ، وزعموا أن الجنة لهم وحدهم، وكذبهم الله بذلك قال عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} البقرة آية (111) . هذا ما حكاه الله عز وجل عن صالحيهم وفاسقيهم من ناحية الإيمان بالبعث

والجنة والنار. أما كتابهم التوراة: فقد خلا تماماً من ذكر الجنة والنار والبعث والنشور، وكذلك سائر الكتب الملحقة فيه إلا نزراً يسيراً. فمن ذلك صورة غير واضحة وردت في سفر دانيال (12/2) وهو قولهم: " وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقضون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للإزدراء الأبدي ". ويذكر الدكتور علي وافي: أنه لا يوجد في فرقهم الشهيرة من يؤمن باليوم الآخر، ففرقة الصادوقيين تنكر قيام الأموات وتعتقد أن عقاب العصاة وإثابة المتقين إنما يحصلان في حياتهم. وفرقة الفريسيين تعتقد أن الصالحين من الأموات سينشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح الذي يأتي آخر الزمان، فهم ينكرون على هذا البعث يوم القيامة. ومن نظر أدنى نظرة في كتاب اليهود التوراة والكتب الملحقة بها يجد أن الوعود الواردة فيه مقابل الأعمال الصالحة والإيمان بالله تدور حول المتعة الدنيوية من انتصار على الأعداء وكثرة الأولاد، ونماء الزرع، إلى غير ذلك، كذلك الوعيد الوارد على المعاصي والكفر كله يدور حول انتصار الأعداء عليهم وسبي ذراريهم وموت زرعهم وماشيتهم إلى غير ذلك من العقوبات الدنيوية، مما يدل على عدم إيمانهم باليوم الآخر حسب التوراة والكتب الملحقة بها 1.

_ 1 انظر: بنو إسرائيل في القرآن الكريم- ص 141-143، اليهودية د. علي وافي ص49-50، اليهودية أحمد شلبي ص 195.

وهذا يختلف عما لديهم في التلمود، حيث صرحوا بالنعيم والجحيم، فقد ورد فيه: أن الجنة مأوى الأرواح الزكية 1 لا يدخلها إلا اليهود، والجحيم مأوى الكفار ولا نصيب لهم فيه سوى البكاء لما فيه من الظلام والعفونة والطين. وأن الجحيم أوسع من النعيم ستين مرَّة 2. كما ورد في نص الأصول الثلاثة عشر التي وضعها موسى بن ميمون وجعلها أركان الإيمان اليهودي، قولهم في الركن الثالث عشر: " أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الخالق، تبارك اسمه وتعالى ذكره الآن وإلى الأبد الآبدين"3. وهذا ليس فيه تصريح باليوم الآخر لاحتمال أن يقصد بذلك بعثاً دنيوياً على نحو عقيدة الفريسيين السابقة، ولكن ذلك يدل على تغير في العقيدة لديهم عما كان عليه كثير من أسلافهم المتقدمين، ولعله من تأثرهم بعقيدة المسلمين لاحتكاكهم بهم لأن موسى بن ميمون كان طبيباً للأيوبيين في مصر.

_ 1 المراد بها أرواح اليهود فقط. 2 انظر: الكنز المرصود في قواعد التلمود ص 68. 3 الفكر الديني اليهودي ص 135.

المبحث الثاني: التلمود

المبحث الثاني: التلمود أولاً: تعريفه: التلمود هو: تعليم ديانة وأداب اليهود وهو يتكون من جزئين: متن: ويسمى المشناه: بمعنى المعرفة أو الشريعة المكررة. شرح: ويسمى جمارا: ومعناه الإكمال. ثانياً: تدوين التلمود: التلمود هو القانون أو الشريعة الشفهية التي كان يتناقلها الحاخامات الفريسيون من اليهود سراً جيلاً بعد جيل. ثم إنهم لخوفهم عليها من الضياع دونوها، وكان تدوينها في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وأطلق عليها اسم "المشناه". ثم شرحت فيما بعد هذه المشناه وسمي الشرح " جمارا "وأُلِّفَتْ هذه الشروح في فترة طويلة امتدت من القرن الثاني بعد الميلاد إلى أواخر السادس بعد الميلاد. وتعاقب على الشرح حاخامات بابل، وحاخامات فلسطين، ثم سمي المتن وهو المشناه مع الشرح وهي جمار " التلمود" وما كان عليه تعليقات وشرح حاخامات بابل سمي تلمود بابل،

وما كان عليه شروح حاخامات فلسطين سمي تلمود فلسطين 1. ثالثاً: تقديس اليهود له: التلمود يقدسه ويعظمه الفريسيون من اليهود، وباقي الفرق تنكره وكما تقدم في تدوينه فإن الحاخامات الفريسين هم الذين دونوه وتناقلوه، والفريسيون هم أكثر فرق اليهود في الماضي والحاضر، وهم يرون أن التلمود له قدسية وأنه من عند الله بل يرون أنه أقدس من التوراة. فيقولون فيه: "إن من درس التوراة فعل فضيلة لا يستحق المكافأة عليها ومن درس المشناه فعل فضيلة يستحق المكافأة عليها ومن درس الجمارة فعل أعظم فضيلة " 2. فالتلمود على هذا هو كتاب مقدس عندهم، وله أثر كبير في نفسية اليهود المفسدة الفاسدة. رابعاً: مبادؤه وخطرها على غير اليهود: التلمود له مبادئ فاسدة وخطره، نذكر بعضاً منها لتتضح نظرة اليهود إلى أنفسهم وإلى غيرهم، فمن مبادئه: 1 - كلامهم عن الله عز وجل: وصف اليهود الله عز وجل بصفات النقص تعالى الله عن قولهم. فمن ذلك زعمهم أن الله عز وجل شغله هو تعلم التلمود مع الملائكة

_ 1 انظر: الكنز المرصود في قواعد التلمود ص 47 -49، وكنوز التلمود ص 16-19، وقاموس الكتاب المقدس ص 222. 2 الكنز المرصود ص 50.

واللعب مع الحوت وأنه جل وعلا يبكي لأجل ما حل باليهود من التعاسة1 {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الأنعام (139) . 2 - كلامهم عن أنفسهم: يزعم اليهود أن أرواحهم جزء من الله2،وأنهم عند الله أرفع من الملائكة، وأن من يضرب يهودياً فكأنما ضرب العزة الإلهية3، وأنهم مسلطون على أموال باقي الأمم ونفوسهم، لأنها في الواقع أموال اليهود، فإذا استرد الإنسان ماله فلا لوم عليه4وأن الناس إنما خلقوا لأجلهم ولخدمتهم5، ولليهودي إذا عجز عن مقاومة الشهوات أن يسلم نفسه إليها 6، وأن الجنة لا يدخلها إلاَّ اليهود7. 3 - موقفهم من غيرهم: أن أرواح غير اليهود أرواح شيطانية، وشبيهة بأرواح الحيوانات8، وأنهم مثل

_ 1 الكنز المرصود ص 55 -57. 2 المرجع السابق ص 66. 3 المرجع السابق ص 73. 4 المرجع السابق ص 78. 5 المرجع السابق ص 80. 6 المرجع السابق ص 96. 7 المرجع السابق ص 68. 8 المرجع السابق ص 66.

الكلاب والحمير، وإنما خلقوا على هيئة الإنسان حتى يكونوا لائقين بخدمة اليهود 1. لا يجوز لليهودي أن يشفق على غير اليهودي ولا أن يرحمه ولا يعينه بل إذا وجده واقعاً في حفرة سدها عليه 2، ويحرم على اليهودي أن يرد لغير اليهود ما فقد منهم 3،ويحرم على اليهودي أن يقرض غير اليهودي إلاَّ بالربا، وزعموا أن الله أمرهم بذلك 4، والزنا بغير اليهودي ذكوراً أو إناثاً جائز ولا عقاب عليه، وعلى اليهودي أن يسعى إلى قتل الصالحين من غير اليهود 5. إن الجحيم مأوى جميع الناس غير اليهود، وأنه أوسع من الجنة بستين مرة6.افتراؤهم على المسيح عليه السلام وأمه مريم وقولهم عليها بهتاناً عظيماً 7. هذه بعض مبادئ التلمود، وهي تصور لناظره والمطلع عليه خطورة هذه التعاليم وأن لها أثراً واضحاً في اليهود السابقين واللاحقين، حيث جعلتهم بحق أعداء الإنسانية وأعداء الفضيلة والخير والتسامح، وأعداء الأديان، والمتقربين إلى الله عز وجل بالفساد والفجور والإفساد في الأرض والقتل،

_ 1 المرجع السابق ص 74 -75، وانظر: فضح التلمود ص 131. 2 المرجع السابق ص 76، 91، وفضح التلمود ص 137. 3 المرجع السابق ص 83، وفضح التلمود ص 132. 4 المرجع السابق ص 96، وفضح التلمود ص 133. 5 المرجع السابق ص 90، وفضح التلمود ص 146. 6 المرجع السابق ص 69. (7) المرجع السابق ص 57.

سواءٌ في ذلك بإزهاق الروح، أو بإزهاق الخلق والدين في نفوس أصحابه، فهم المتربصون بالبشرية والناظرون إليها بعين الحقد، والحسد، والتكبر والتجبر، يستغلون كل مناسبة لصالحهم، ويحاولون أن يزيدوا من وقع المصيبة على المنكوبين والموتورين. وإذا لم ينتبه المسلمون ويعوا هذه الحقائق ويتعرفوا على هذه النفسيات المنحرفة، فيعتصموا بالله ويعاملوا أعداءه بما يستحقون فسيفيقون على سيطرة اليهود عليهم وتحكمهم بهم وحرفهم عن ما تبقى لهم من دينهم، ويفعلون بهم ما فعلوا بالعالم الأوربي والأمريكي وغيرهم من الدول التي سيطروا على حكوماتها، ثم سيطروا بالتالي على شعوبها، فنشروا كل رذيلة وخلق منحط، وأزالوا كل هيمنة للدين على النفوس بنشر الإلحاد ومحاربة الفضيلة، فحققوا بذلك مآربهم المادية التي في الواقع مطلبهم الأول والأخير، واليهود لا زالوا لم يستطيعوا أن يظهروا سيطرتهم الفعلية باسمهم وبالشخصية الحقيقة لهم إذ يحكمون من وراء ستار، فهل يكشفوا عن أنفسهم أم يكتفوا بما حققوا من مكاسب مادية وإشباع لرغبتهم في الفساد والإفساد؟ ولا بد أن يعلم أن راية الباطل لا ترتفع ولا تظهر إلا في رقدة الحق وغفلة أهله، ومتى أفاق أهل الحق فلن يكون للباطل صولة ولا جولة. والله نسأل أن يلهم المسلمين الرجوع إلى دينه، وأن يعتز أهل الإسلام بإسلامهم فيعرفوا حقيقته وقيمته، فينشطوا في الدعوة إليه ليخرجوا بذلك الناس من الظلمات إلى النور. والله غالب على أمره ولو كره المشركون.

المبحث الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون

المبحث الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون البروتوكولات لا تعتبر من المصادر الدينية لدى اليهود، وإنما هي نتاج التحريف الموجود في التوراة، والأكاذيب والضلالات الموجودة في التلمود، وهي تعتبر مخطط تطبيقي لأهداف صهاينة اليهود. أولاً: تعريفها: البروتوكولات: جمع واحده بروتوكول، وهو كلمة إنجليزية معناه: محضر مؤتمر، مسودة أصلية - ملحق معاهدة - الخ. والمراد بـ " بروتوكولات حكماء صهيون": وثائق محاضرة ألقاها زعيم صهيوني على مجموعة من الصهاينة ليستأنسوا بها، ويسيروا عليها في إخضاعهم للعالم والسيطرة عليه. ثانياً: ظروف تدوينها: الذي يظهر أن هذه الوثائق (البروتوكولات) عرضت على زعماء الصهاينة في المؤتمر الذي عقد في مدينة بال في سويسرا سنة (1897م) وكان قد حضر هذا المؤتمر نحو ثلاثمائة من أعتى الصهاينة يمثلون خمسين جمعية يهودية، ولا يعرف لها كاتب معين. ثالثاً: الغرض منها: هو اطلاع الصهاينة على الخطة التي يستعبدون بها العالم، ثم كيف يحكمونه إذا وقع تحت سيطرتهم.

رابعاً: إكتشاف هذه الوثائق وانتشارها: اكتشفت هذه الوثائق (البروتوكولات) في سنة (1901م) وذلك أن امرأة فرنسية اطلعت على هذه الوثائق أثناء اجتماعها بزعيم من أكابر رؤساء الصهاينة في وكر من أوكار الماسونية السرية في باريس، فاستطاعت هذه المرأة أن تختلس بعض هذه الوثائق ثم تفر بها- وهي الموجودة الآن بين أيدينا. ووصلت هذه الوثائق إلى " أليكس نيقولا فيتش " - كبير أعيان روسيا الشرقية في عهد القيصرية - وكانت روسيا في ذلك الوقت تشهد حملات شديدة على اليهود بسبب فسادهم ومؤامراتهم. فلما رآها هذا الرجل أدرك خطورتها على بلاده وعلى العالم أجمع، فدفعها إلى صديق له أديب روسي اسمه " سرجي نيلوس " فدرسها وتبين خطورتها فترجمها إلى اللغة الروسية، وقدم لها بمقدمة تنبأ فيها بسقوط روسيا القيصرية بيد الشيوعية الفوضوية، وحكمها حكماً إستبدادياً، واتخاذها مقراً لنشر القلاقل والمؤامرات في العالم. وكذلك سقوط الخلافة الإسلامية، وتأسيس دولة إسرائيل في فلسطين وسقوط الملكيات في أوربا، وإثارة حروب عالمية يهلك فيها الطرفان ولا يستفيد منها سوى اليهود. وكذلك نشر الأزمات الاقتصادية، وبنيان الاقتصاد على أساس الذهب الذي يحتكره اليهود. وغير ذلك. فطبع الكتاب لأول مرة في سنة (1902م) باللغة الروسية نسخاً قليلة، فلما رآها اليهود جن جنونهم، وحملوا ضد الكتاب حملات مسعورة

يتنصلون من الكتاب، لكن الواقع كان يؤكد أن نسبة الكتاب إليهم صحيحة، وحملت عليهم روسيا القيصرية بسببه حملة شديدة حتى قتل منهم في إحدى المذابح عشرة آلاف. وطبع الكتاب مرة أخرى في سنة (1905م) ونفدت هذه الطبعة بسرعة غريبة ووسائل خفية، لأن اليهود جمعوا النسخ من الأسواق وأحرقوها. وطبع أيضاً سنة (1911م) فنفدت نسخه على النحو السابق. وطبع سنة (1917م) فصادره الشيوعيون لأنهم كانوا قد استلموا زمام الحكم في روسيا وأسقطوا الدولة القيصرية. وكانت نسخة من الطبعة الروسية سنة (1905م) وصلت إلى المتحف البريطاني في لندن وختم عليها بخاتمه سنة (1906م) . وبقيت النسخة مهملة حتى قيام الانقلاب الشيوعي في روسيا سنة (1917م) فطلبت جريدة" المورننغ بوست" من مراسلها "فكتور مادسون" أن يوافيها بأخبار الانقلاب، فقام بالإطلاع على عدة كتب روسية، وكان من بينها كتاب "البروتوكولات" الذي بالمتحف. فحين رآه قدر خطره ورأى نبوءة ناشره بوقوع القيصرية بيد الشيوعيين، فعكف على ترجمته إلى الإنجليزية ثم نشره باللغة الإنجليزية، وطبع خمس مرات كان آخرها سنة (1921م) ثم لم يجرؤ ناشر في بريطانيا وأمريكا على نشره. ومع محاولات اليهود احتواء الكتاب إلا أنه طبع بلغات كثيرة منها الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والبولونية. ومن طبعة (1921م) الإنجليزية ترجم الكتاب لأول مرة إلى العربية

وطبع سنة (1951م) على يد مترجمه الأستاذ "محمد خليفة التونسي" وقد قدم له بمقدمة شرح بها تاريخ الكتاب وذكر شيئاً من حال اليهود وحالهم المعاصر وتغلغلهم في كثير من الدول 1. خامساً: بعض عناصر المؤامرة الصهيونية: (1) أن اليهود منذ قرون وهم يحوكون خطة للإستيلاء على العالم وكان ينقح هذه الخطة كبراؤهم طوراً طوراً حسب الأحوال. (2) يسعى اليهود لهدم الحكومات في كل الأقطار والاستعاضة عنها بحكومة ملكية استبدادية يهودية، ويهيئون كل الوسائل لهدم الحكومات لا سيما الملكية، ومن هذه الوسائل: -إغراء الملوك باضطهاد الشعوب وإغراء الشعوب بالتمرد على الملوك مستعينين على ذلك بنشر دعوى الحرية والمساواة ونحوها، مع تفسيرها تفسيراً خاصاً يؤذي الجانبين، مع محاولة إبقاء كل من قوة الحكومة وقوة الشعب متعاديتين، وإفساد الحكام وزعماء الشعوب، ومحاربة كل ذكاء يظهر بين الأمميين (غير اليهود) مع الاستعانة على تحقيق ذلك كله بالنساء والمال والمناصب والمكايد، وما إلى ذلك من وسائل الفتنة. 3-إلقاء بذور الخلاف والشغب في كل الدول عن طريق الجمعيات السريَّة، السياسية، والدينية، والفنيَّة، والرياضية، والمحافل الماسونية، والأندية على اختلاف نشاطها.

_ 1 انظر: كتاب بروتوكولات حكماء صهيون ص 31 -40. وكذلك بروتوكولات حكماء صهيون. عجاج نويهض ص24،31.

4-إن حكومات العالم الحالية فاسدة فيجب زيادة فسادها إلى أن يحين الوقت لقيام المملكة اليهودية على العالم التي سيكون مقرها في أورشليم، ثم تنتقل إلى روما وتستقر فيها إلى الأبد. 5-يجب أن توضع تحت أيدي اليهود كل وسائل الطبع، والنشر والصحافة، والمدارس، والجامعات، والمسارح، وشركات السينما، ودورها والعلوم، والقوانين، والمضاربات، وغيرها حتى يتمكنوا من نشر أفكارهم ومبادئهم. 6-إن الذهب الذي يحتكره اليهود هو أقوى الأسلحة لإثارة الرأي العام، وإفساد الشباب، والقضاء على الضمائر والأديان، والقوميات، ونظام الأسرة، وإغراء الناس بالشهوات البهيمية الضارة، وإشاعة الرذيلة والانحلال، حتى تستنزف قوى الأمميين استنزافاً فلا تجد مفراً من القذف بأنفسها تحت أقدام اليهود. 7-وضع أسس الاقتصاد العالمي على أساس الذهب الذي يحتكره اليهود، لا على أساس قوة العمل والإنتاج والثروات الأخرى، مع إحداث الأزمات الاقتصادية العالمية على الدوام، كي لا يستريح العالم أبداً فيضطر إلى الاستعانة باليهود لكشف كروبه، ويرضى صاغراً مغتبطاً بالسلطة اليهودية العالمية. 8-الاستعانة بأمريكا والصين واليابان على تأديب أوربا وإخضاعها1.

_ 1 انظر: بروتوكولات حكماء صهيون ص 31 -32.

الفصل الثالث: بعض عبادات وشعائر اليهود

الفصل الثالث: بعض عبادات وشعائر اليهود من أهم عبادات اليهود: 1- الصلاة: جاء في سفر دانيال أن دانيال كان يصلي ويركع ويشكر الله تعالى ثلاث مرات كل يوم (دانيال 6:10) ، وأحياناً مرتين كل يوم (مزمور 55:17) .وهي واجبة عندهم. وكانت الصلاة مركبة غالباً من النثر ثم من النظم، وتتلى بالغناء في الابتداء، وبالتدريج صار البعض يستعمل الآلات الموسيقية، كما يتضح من سفر المزامير، وكان يخصص مغنون لهذا القصد (عزرا21:65) . وتبدأ الصلاة بغسل اليدين فقط، ثم يوضع شال صغير على الكتفين وفي الصلوات الجماعية يوضع شال كبير حول العنق، ثم يقرأ القاريء مرتديا ثوباً أسود وقبعة على رأسه، لأنه يجب تغطية الرأس عندهم في الصلاة، ويعبرون بذلك عن الاحترام لنصوص التوراة. ويتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس. وكانوا في السابق يركعون ويسجدون في صلاتهم، وبعضهم لازال يصلي كذلك، إلا أن غالبهم اليوم يصلون جلوساً على الكراسي كما يفعل النصارى. وهم يحرصون على وضع اليدين على الصدر مع حني الرأس قليلاً كوقوف الخادم أمام سيده لزيادة الاحترام 1.

_ 1 الفكر الديني اليهودي 143-144.موسوعة اليهود واليهودية 4/226

وثمة اختلافات في طقوس الصلوات بين فرق اليهود كالسفارديم والإشكنازيم، ولكنها قليلة جداً، وتنحصر في الأغاني والملحقات، أما أساس الصلاة والبركات فلا اختلاف فيها 1. والصلوات الواجبة على اليهودي ثلاث مرات في كل يوم: - صلاة الفجر ويسمونها صلاة السحر (شحاريت) . - صلاة نصف النهار أو القيلولة (منحة) . - صلاة المساء ويسمونها صلاة الغروب (عربيت) . والصلاة عندهم على نوعين فردية وجماعية: أما الفردية فهي صلوات ارتجالية من الأفراد تتلى حسب الاحتياجات، ولا علاقة لها بالطقوس والمواعيد والمواسم. أما الجماعية فهي تؤدى باجتماع جملة أشخاص علناً في أمكنة مخصوصة ومواعيد معلومة حسب طقوس مقررة من رؤساء الدين والكهنة. وقد تقرأ في تلك الصلاة نصوص من التوراة في لفائف محفوظة في أماكن مخصصة لذلك، بعدها تطوى تلك اللفائف. وقد تنتهي الصلاة بهذا، وقد يتلوها خطبة قصيرة ونشيد تقليدي ودعوات، ويختم كل ذلك بالتبريك، وبهذا تنتهي الصلاة ويخلو المعبد. وقد يسبق انفضاض المعبد قداس أو تبريك بتوزيع كأس من الخمر ورغيفين مبركين لكل مصل2. 2-الصيام: الصيام عند اليهود يبتدىء من قبل غروب الشمس إلى بعد غروب الشمس

_ 1 الفكر الديني اليهودي 151. 2 المرجع السابق147-150،155-162،وانظر اليهود واليهودية عبد الجليل شلبي 155.

من اليوم اللاحق، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب والجماع، وبعض الأيام يكون صيامهم فيه من شروق الشمس إلى غروبها، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب فقط. ولليهود أيام عديدة متفرقة يصومونها لمناسبات عدة، منها: -صوم يوم الغفران: وهو أهم صوم عندهم، وهو الصوم الوحيد الذي يعزونه إلى الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام. -صوم تموز: وهو صيام يوم واحد وهو في الثامن عشر من شهر تموز اليهودي، ويعتبرونه حداداً على حوادث مختلفة، أهمها: تحطيم ألواح التوراة، إبطال القربان اليومي صباحاً ومساء، إحراق التوراة في أورشليم على يد القائد "إتسويندوموس"، وكذلك يجعلون هذا الصوم ذكرى بداية مهاجمة تيطس الروماني لأورشليم بقصد إبادة اليهود سنة 70م. -صيام التاسع من آب: وهو ذكرى سقوط أورشليم على يد تيطس وتخريب الهيكل الثاني زمن ادريانوس 1. أهم مواسم اليهود وأعيادهم: 1-يوم السبت: وهو "شباث" في العبرانية، بمعنى راحة لأنه يوم يزعمون أن الله استراح فيه – تعالى الله عن قولهم – وأمر عباده بالاستراحة فيه وباركه. ومدته من غروب شمس يوم الجمعة إلى غروب شمس يوم السبت، وجعلوا أهم شعائره الكف عن أي عمل، بذلك جاء الأمر صريحاً في الوصايا العشر المنسوبة إلى موسى " واليوم السابع سبت للرب إلهك لا تصنع فيه

_ 1 انظر الفكر اليهودي ص190.

عملاً لك …" 1. وتعدي السبت والعمل فيه يعتبر من أعظم الخطايا عندهم2. 2- عيد الفصح: ويسمى عيد الربيع وعيد الفطير، ومدته سبعة أيام تبدأ من الخامس عشر من شهر نيسان، ويقيمه اليهود إحياءً لذكرى نجاة بني إسرائيل من فرعون وخلاصهم من العبودية في مصر. وطقوسه توجب على اليهود أن يأكلوا فيه الخبز من عجين الفطير، ويتلون الأدعية ويقيمون الصلوات ويحرقون القرابين، ويجتمعون على مائدة تقص فيها حكاية الفصح، وهي قصة ما حدث لبني إسرائيل مع موسى إبان خروجهم من مصر 3. 3- يوم التكفير والغفران: وهو اليوم العاشر من شهر تشرين، وهو من أهم أعيادهم، وأقدس أيام السنة عندهم، وهو عندهم ذكرى نزول موسى عليه السلام من جبل سيناء ومعه الشريعة، وأعلن لهم فيه أن الله قد غفر لهم خطيئتهم في عبادتهم للعجل، ويبدأ قبل غروب الشمس من اليوم التاسع من تشرين، ويستمر إلى ما بعد غروب اليوم التالي. ويشرع لهم فيه الصيام ويطلبون فيه المغفرة عن الذنوب التي فعلها اليهود، في صلاة جماعية يؤديها الكهنة 4. وعندهم أعياد أخرى مرتبطة بمناسبات ببعض الأحداث التي حدثت لهم

_ 1 خروج 20. 2 انظر الفكر الديني اليهودي ص166،167، اليهودية لأحمد شلبي، ص155موسوعة اليهود واليهودية 5/214. 3 الفكر الديني اليهودي ص303. 4 الفكر الديني اليهودي ص168،169،اليهود تاريخ وعقيدة ص223،224 موسوعة اليهود واليهودية 5/264.

كعيد المظال، وعيد الفوريم ونحوها 1. ومن تشريعاتهم: 1- الزواج: يعتبر بقاء اليهودي في العزوبة أمراً منافياً للدين، ويحرم الزواج بين اليهود وغيرهم، والزواج بغير اليهودي أو اليهودية يعتبر فجوراً وزناً مستمرين. ويجوز لليهودي الزواج ببنت أخيه أو ابنة أخته، ولكن العكس محرم، فلا يتزوج الرجل من عمته أو خالته. وحرم كثير من فقهائهم زواج بنت الأخت. وتعدد الزوجات جائز عند اليهود، وليس في الدين حد أقصى لتعدد الزوجات، وإن صدرت فتوى متأخرة ابتداء من القرن الحادي عشر في الغرب بتحريم التعدد، وبعض اليهود لازالوا يمارسون هذا الحق2. ومن شرائعهم في الزواج أن أرملة اليهودي الذي مات ولم ينجب منها يجب تزويجها لأخيه الأعزب على وجه الإجبار، فإذا أنجب منها فإن المولود يحمل اسم أخيه الميت وينسب إليه، وإذا امتنع الأخ من تزوج أرملة أخيه فإنه يشهر به ويخلع من المجتمع اليهودي، وتسمى المرأة التي تؤول إلى أخي زوجها الميت (يبامه) 3. 2- الطلاق: الطلاق في التوراة كان حقاً موضوعاً بيد الرجل، مستخدمين عبارة (طرد

_ 1 اليهود تاريخ وعقيدة، كامل سعفان ص224. 2 الفكر الديني اليهودي ص193-194،موسوعة اليهود واليهودية 5/252 3 انظر سفر التثنية 25:5-10،

الزوجة من البيت) ، لكن فيما بعد أفتى الحاخام جرشوم بن يهودا المتوفى سنة 1040م بتحريم طرد المرأة من بيت الزوجية إلا إذا أفتى القاضي بطلاقها، أو اتفقت مع زوجها بالتراضي على الطلاق. ولا يعتبر الطلاق نافذاً حتى تصدر فيه وثيقة من الحاخام، وبهذه الوثيقة تستطيع المطلقة الزواج، أما إذا لم تحصل عليها فلا يحق لها الزواج، ويعتبر زواجها بغير الوثيقة غير صحيح، وأولادها من ذلك الزواج غير شرعيين1. 3- المأكل والمشرب: من شرائعهم في المطعومات أنه لا يجوز لهم من الحيوانات ذوات الأربع إلا كل ماله ظلف مشقوق وليس له أنياب ويأكل العشب ويجتر، فالخيل والبغال والحمير والجمال كلها محرمة وكذلك الخنزير والسباع والأرانب. ويحرم من الطيور كل ماله منقار معقوف أو مخلب، أو كان من أوابد الطير التي تأكل الجيف والرمم. ويحل أكل الدجاج والأوز والبط والطيور البرية آكلة العشب والحب، أما الأحياء المائية فيحل منها السمك الذي له زعانف وعليه قشور، وما عدا ذلك فكل صيد البحر حرام. ولا يجوز لهم الجمع بين اللحم واللبن والحليب في طعام واحد 2. هذه أهم العبادات والشعائر اليهودية.

_ 1 الفكر الديني اليهودي ص197-198،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/252) . 2 انظر الفكر الديني اليهودي ص197-198.

الفصل الرابع: فرق اليهود

الفصل الرابع: فرق اليهود اليهود تفرقوا إلى فرق عديدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أوثنتين وسبعين فرقة"1 وهذا التفرق قديم وحديث. ومن أهم فرقهم القديمة: 1- السامريون: السامريون في الأصل هم شعب دولة إسرائيل التي تكونت في الشمال من دولة يهوذا، وذلك بعد سليمان عليه السلام وقد استمر وجود السامريين إلى عصرنا الحاضر، إلا أنهم يشكلون مجموعة صغيرة تسكن في فلسطين بجوار مدينة نابلس. ويتميزون عن بقية اليهود بأنهم: - لا يؤمنون بنبوة أحد من أنبياء بني إسرائيل سوى هارون وموسى ويوشع بن نون عليهم السلام. - لا يقدسون من كتب اليهود سوى الأسفار الخمسة التي تسمى التوراة، ويضيفون إليها سفر يوشع بن نون فقط، وما عدا ذلك فلا يؤمنون به، ونسخة التوراة التي لديهم تختلف عن النسخة العبرية في ستة آلاف موضع، كما أنهم لا يؤمنون بسائر الكتب الأخرى في العهد القديم ولا بالتلمود ولا غيره من كتب اليهود.

_ 1أخرجه. ت كتاب الإيمان ب ما جاء في افتراق الأمة 5/25 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حسن صحيح

- المكان المقدس لديهم هو جبل " جرزيم " الذي يقع في منطقة نابلس، ويستقبلونه وينكرون صهيون وبيت المقدس، وبقية اليهود يكفرونهم لذلك 1. 2- الفريسيون: الفريسيون واحدها فريسي، وهي كلمة آرامية تعني ذا الرأي والعلم بالأمور، والبعض يرى أنها عبرية أصلها " فروشيم "، ومعناها " المنعزلون أو المفروزون " 2. ويبدو أن الفريسيين امتداد لفرقة " الربانيين "، وهي الفرقة المهتمة بأمور الشريعة. يقول السموأل بن يحي عن الربانيين:" هم أكثر عدداً وهم شيعة الحخاميم الفقهاء المفترين على الله (، الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسألة بالصوت، وهذه الطائفة، أي الربانيون أشد اليهود عداوة لغيرهم "3. ومما يميز الفريسيين أمور عدة: -الإيمان بسائر كتب العهد القديم مع التلمود، ويعتبرون التلمود هو الوحي الشفوي المنزل على موسى 4. والذي يظهر من كلام المؤرخين عن هذه الفرقة أنها لا زالت موجودة ويمثلون أغلبية اليهود 5، وهم الذين يطلق عليهم لدى المسلمين الربانيين أو التلموديين 6.

_ 1 انظر: قاموس الكتاب المقدس ص449، الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية ص115، الفكر الديني اليهودي ص205. 2 انظر: الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية ص157، من اليهودية إلى الصهيونية ص90. 3 إفحام اليهود ص174. 4 قاموس الكتاب المقدس ص674. 5 فرقة القرائين اليهود ص120. 6 اليهودية واليهود ص91.

2-الصدوقيون: هذه الفرقة الثانية التي تعتبر من أهم فرق اليهود القديمة، وهم ينتسبون إلى كاهن لهم كان في حدود سنة 300ق. م، يسمى " صادوق ". ويتميز الصدوقيون بعدة أمور، منها: - أنهم لا يؤمنون بالتلمود وسائر الروايات الشفوية، وإنما يقرون بالتوراة فقط، وهي الأسفار الخمسة، والبعض يعزو إليهم الإقرار بالعهد القديم كله.1وعزي إليهم القول: بأن عزير ابن الله. تعالى الله عن قولهم.2 - ينكرون البعث والجزاء الأخروي، ويزعمون أن النفس تموت بموت الجسد. - ينكرون القضاء والقدر، ويزعمون أن الإنسان له إرادة حرة، ولا يتدخل الله في شيء من أفعال الإنسان في الخير أو الشر. - ينكرون الملائكة 3. هذه الثلاث فرق هي أهم الفرق القديمة، ولا يعني ذلك انقراضها، وإنما قد يكون تغير مسماها أو قل أتباعها وتضاءلوا. 3-القراءون: القراءون نسبة إلى المصدر العبري " قرائيم " ومعناه الذين يقرأون المقرأ، أي التوراة.

_ 1 بحوث في مقارنة الأديان ص128، تحريف التوراة ص26، الأسفار المقدسة قبل الإسلام ص64، موسوعة اليهود (5/324) . 2 الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية ص135. 3 قاموس الكتاب المقدس ص539، الفكر الديني اليهودي ص214.

وينتسبون إلى رجل يسمى " عنان بن داود " من أهل بغداد زمن أبي جعفر المنصور، وتوفي في نهاية القرن الثامن الميلادي، وأطلق عليهم اسم العنانيون نسبة إلى عنان هذا. ومن أهم ما يتميزون به: - لا يعترفون إلا بالعهد القديم، وينكرون التلمود والروايات الأخرى الشفوية، وهم في هذا موافقون للصدوقيين. - يقولون بالبعث يوم الدين. - يعزى إلى شيخهم عنان الإقرار ببعثة عيسى عليه السلام، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يزعم أنه نبي للعرب وليس لليهود. وقد انتشرت أفكار عنان بن داود بين اليهود انتشاراً قوياً، وخاصة في البلدان العربية والشرق. وكان بينهم وبين التلموديين عداء شديد، وتكفر كل واحدة منهما الأخرى، ولا زال منهم أناس يعدون ببضعة آلاف يسكنون قرب تل أبيب في فلسطين، ويتميزون عن بقية اليهود في أعيادهم ومحاكمهم وأماكن ذبحهم للحيوانات وقانون الحكومة اليهودية التلمودية الآن يمنع الزواج بين القرائين وغيرهم من اليهود1. وهم يعتبرون من أعداء الصهيونية التلمودية، لأن كلاً منهم يكفر الآخر، ويرى ارتداده عن الدين. ويذكر د/ حسن ظاظا: أنه بعد أن تمكنت الصهيونية التلمودية من الإستيلاء على فلسطين اصطادت بضعة آلاف من القرائين وأدخلتهم إلى فلسطين، وهم

_ 1 انظر فرقة القرائين اليهود ص6،15،28،72.

يعيشون هناك كرهائن، وكوسيلة للمساومات مع من بقي من القرائين خارج فلسطين إذ أرغمتهم الصهيونية على التزام الصمت والكف عن مهاجمتها حرصاً على حياة أبناء الطائفة في فلسطين وأمنهم 1. 4-الحسيديم: فرقة من فرق اليهود متأخرة النشأة، فتعزى إلى رجل يسمى " إسرائيل بن اليعازر " الملقب بـ " بعل شم طوب " في أوكرانيا، المتوفى سنة 1760م. و" حسيديم " مشتقة من الكلمة العبرية " حسيد " والتي تعني المنقى والناذر نفسه للدين. والذي يظهر أن الحسيديم فرقة صوفية منشقة عن الفريسيين التلموديين، فهم يعظمون التلمود ويقبلون أقواله، إلا أن لهم تفسيراتهم الباطنية الخاصة بذلك، وهم يعتمدون في مخالفاتهم لبقية اليهود على التأويل الباطني والتوجه الصوفي، ولهذه الفرقة أتباع كثيرون. ومن أهم ما يميزهم أمور، منها: - اعتقادهم بوحدة الوجود، وأن لا وجود حقيقي إلا وجود الله تعالى، وأن المخلوقات ما هي إلا مظاهر لذلك الوجود وتعبير عنه. - يقولون بالجبر، وأن الخير والشر من الله، وأن الإنسان إذا ارتكب منكراً فعليه أن يكون مرتاح البال، لأن ذلك من الله، وكل ما هو من الله فهو خير. - يقولون بالتناسخ، وأن الغرض منه تطهير النفس، وإعطاءها الفرصة

_ 1 الفكر الديني اليهودي ص254-255.

للصلاح، فإذا لم تصلح تتناسخ في جسد آخر لأكثر من مرة حتى تصل إلى الصلاح. - يقولون بالثواب والعقاب، وأن الإنسان لا بد أن يتطهر قبل دخوله الجنة، وذلك بأن تهزه الملائكة بعد الموت حتى تذهب سيآته الحسية والجسدية، وتتقاذفه الملائكة بين أيديها حتى يتطهر من سيآته النفسية المتعلقة بالأفكار والكلام. وعندهم أن اليهودي لا يقضي في جهنم أكثر من اثنى عشر شهرا. - يستعملون الغناء والموسيقى في صلواتهم. - من أكثر طوائف اليهود حماساً لمجيء المسيح المخلص الذي يعتقدون أنه سيكون من نسل داود، وبمجيئه تنتهي كل مشاكل اليهود، ولهم في ذلك حكايات كثيرة يطول ذكرها من ناحية تصورهم لقرب مجيئه، حتى أن منهم من كان يقول لأهله إذا أراد النوم:" إذا جاء المسيح المخلص وأنا نائم فأيقظوني دون تردد ". ومنهم من جعل غرفة خاصة في بيته وضع فيها كل غال ونفيس عنده، ولم يكن يسمح لأحد بالدخول إليها يسميها "غرفة المسيح"، وبعضهم يتفوه بكلمات كفرية قبيحة في حق الله تعالى معاتباً له على تأخر المسيح، مثل قول أحد رؤسائهم المسمى موسى بن زفي المتوفى 1841م: " لو كنت أعلم أن شعر رأسي سيكون أبيضاً ولا ترى عيناي المسيح المخلص لما بقيت حياً، يا رب أنت الذي أبقيتني وحفظتني بهذا الأمل وهذا الاعتقاد، إنك ضحكت علي، فهل هذا شيء جيد؟ وهل هو شيء جيد أن تضحك على رجل كبير مثلي؟ أجبني ".

-يتركون ضفائر على جانبي الرأس، كما لا يحلقون ولا يقصون شيئاً من لحاهم ولا من سائر شعر الوجه سوى الشوارب. - أكثر الحسيديم يذمون الصهيونية ويطعنون فيها وإن كانوا مؤيدين لها في إنشاء دولة اليهود في فلسطين، وقد هاجر كثير منهم إلى فلسطين واستقروا بها، وكونوا لهم تجمعات كبيرة، بل يقول الكتاب إن أكثر من نصف المدارس في دولة اليهود تعود للحسيديم ما عدا فرقة " الستمار " منهم، فإنها تحرم السفر إلى دولة اليهود في فلسطين، ويطعنون في الصهاينة ويعتبرونهم كفاراً مارقين، وهم يرون أن خلاصهم لا يكون إلا بأمر معجز عن طريق المسيح المخلص، وأن وجود دولة اليهود يعوق خلاصهم ويؤخر مجيء المسيح المخلص، وأكثر هذه المجموعة يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية 1. 5-الإصلاحيون: الإصلاحيون هم فرقة من الفرق المعاصرة التي تحاول التملص من تشديدات اليهود وتسلط الحاخامات وإذلالهم لبني جنسهم، وكان من أوائل من دعا إلى التحرر من قيود التلمود وتشديدات الحاخامين موسى مندلسون المتوفى سنة 1776م في برلين، فقد دعا إلى اندماج اليهود مع الشعوب التي تشاركهم في الأوطان، والمحافظة على جميع القوانين لتلك البلدان، مع المحافظة على دين الآباء والأجداد، ثم انتقلت تلك الدعوة إلى أمريكا وفيها قويت وانتشرت بين اليهود، وصار لها أتباع يجاوزون المليونين.

_ 1 انظر في ذلك كله كتاب اليهود الحسيديم ص15،57،63،175،177،298.

ومن أهم ما يميزهم عن بقية اليهود: - إنكارهم للوحي في العهد القديم، وقولهم إن الكتاب المقدس من صنع الإنسان، ويعتبرونه أعظم وثيقة أوجدها الإنسان، وهم لا يقبلون منه إلا التشريعات الأخلاقية، أما العبادات والشعائر فيقبلون منها ما يوافق العصر. - إنكار التلمود، واعتبار تعاليمه وقوانينه خاصة بعصره ولا تصلح للعصور الحديثة. - إنكار دعوى المسيح المنتظر. - إنكار البعث الجسدي والعذاب بعد الموت. - إقامة الصلوات باللغات القومية ولا يلزم عندهم أداؤها باللغة العربية، وإباحة اختلاط الجنسين في المعابد اليهودية، وتعديل القوانين الخاصة بالزواج والطلاق لتتوائم مع العصر1. - حذفوا من أدعيتهم وصلواتهم ما يتعلق بالعودة إلى صهيون، واعتبروا أن اليهودية دين وليس قومية. وقد كان الإصلاحيون في أول الأمر معارضين للصهيونية، ولكن وجد فيهم من يناصرها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد تقتيل النازيين لليهود، حيث بدأ الكثير منهم يميل للصهيونية، وبقي منهم عدد كبير أيضاً خارج الصهيونية وضدها ويكافحها مكافحة مستميتة 2. 6-الأرثوذكسية: الأرثوذكسية، هو المسمى الذي يطلق على اليهود الذين يدينون بالكتاب

_ 1 انظر الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص36،58-63. 2 الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص127.

المقدس مع التلمود مع جميع التعصبات اليهودية، وهم فيما يبدو امتداد للربانيين والتلموديين والفريسيين، وهم يشكلون الغالبية العظمى من اليهود، وتجمعهم الأكبر في دولة اليهود في فلسطين. ولا تعترف الدولة اليهودية إلا بالأرثوذكسية، كما أن غالبية أعضاء المجلس الصهيوني من الأرثوذكس 1. 7-المحافظون: هم طائفة كبيرة أيضاً من اليهود، حاولوا التوسط بين انفلات الإصلاحيين وتشدد الأرثوذكس، وقد نشأ هذا المذهب في منتصف القرن التاسع عشر، حيث أسس ذلك " زكريا فرانكل " رئيس حاخامين دريسون بألمانيا، المتوفى سنة 1875م، ثم تطوروا وزاد انتشارهم فيما بعد في أمريكا حيث يشكلون فيها قرابة المليون شخص. ومما يتميزون به من أمور: -اعتبار التوراة هي الموحى بها من الله، أما التلمود فيعتبرونه نتاج ثقافي لليهود يجب أن يستفاد من قيمه العامة في المواقف للشعب اليهودي، ويعتبرون دعوى أن موسى استلمه شفهياً من الله خرافة من خرافات الربابنة. - حذف القراءات المطولة والأناشيد الخليعة والمدروشة من الكنيس. - تربية النساء تربية دينية وإشراكهن في العمل الديني. - إقامة الصلوات باللغات التي يفهمها المصلون إذا لم يفهموا العبرية. والمحافظون موافقون للصهاينة في برنامجهم السياسي، وهم من أكبر

_ 1 الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص82-87،127.

الداعمين للتوطن في فلسطين، وتبني سياسات الصهاينة 1. 8-الصهيونية: الصهيونية مذهب علماني، أهم أهدافه هو تجميع اليهود في فلسطين، وقد كانت العودة إلى فلسطين حلماً يراود اليهود منذ أخرجوا منها، ولكن كثيراً منهم كان يرى أن العودة إليها يجب أن تكون بطريقة معجزة على يد المسيح المخلص، فلما جاء الصهاينة نادوا بالعودة إلى فلسطين، وقيام دولة علمانية لا علاقة لها بالدين، أو بفكرة العودة بطريقة معجزة، وكان أكبر الدوافع لتأسيس هذا الكيان وبروزه هو: الاضطهاد الأوروبي لليهود الذي كان أكبر سبب لبروز الصهاينة، كما كان سبباً لتجميع أكثر اليهود تحت لواء الصهيونية لتحقيق ذلك الهدف وهو العودة إلى فلسطين. ومن أوائل الصهاينة الذين بدأوا بالفعل العمل الصهيوني الجاد لتحقيق الأهداف الموضوعة له هو " ثيودور هرتزل " الصحفي النمساوي العلماني اللاديني، الذي ألف كتابه " الدولة اليهودية " ونادى فيه إلى قيام دولة علمانية في فلسطين، وذلك عام 1894م 2، وابتدأ بعدها في التخطيط الفعلي للتجميع في فلسطين 3.

_ 1 انظر: الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص92،95-96،103،104،125. 2 انظر: إسرائيل الصهيونية السياسية ص8، الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص116-124. 3 انظر ما سبق في نشأة الدولة اليهودية في فصل مجمل تاريخ اليهود.

الفصل الخامس: أخلاق اليهود من خلال القرآن الكريم

الفصل الخامس: أخلاق اليهود من خلال القرآن الكريم إن الاحتكاك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وبين اليهود في المدينة بحكم وجود اليهود بها كشف كثيراً من أخلاقهم وسماتهم. وقد فصَّل لنا الله جل وعلا في كتابه الكريم أخلاقهم الظاهرة والخفية، ومقاصدهم في الأعمال والأقوال، فيستطيع الناظر في القرآن أن يدرك حقيقة اليهود حق الإدراك، ويفهم نفسياتهم وما جبلوا عليه من فساد وانحراف عن الخلق القويم والصراط المستقيم. ومما وصف الله به اليهود: أولاً: الكذب: الكذب من أقبح الصفات التي يتصف بها بعض الناس وعنوان الخسة والدناءة، وفساد الطوية وهو المطية لكل انحراف. وقد تعمّقت هذه الخصلة في اليهود وباءوا بأدنى مراتبها، وأبعدها فساداً وهو الكذب على الله عز وجل الذي لا يخفى عليه خافية. قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} النساء آية (50) . كما سجّل القرآن عليهم موقفاً آخر وهو لا يقل عن هذا الموقف قباحة وهو تكذيبهم الصادقين وهم الرسل ووصمهم لهم بالكذب. قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} آل عمران آية (184) . ومن كذب على الله وكذب على الرسل فالكذب على الناس من أهون الأعمال لديه ومما سجل من كذبهم قوله تعالى عنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} النساء آية (51) . ثانياً: الحسد: الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير. وهو من صفات اليهود فهم يحسدون الناس لا لشيء إلا كراهة أن يؤتى الله من فضله أحداً غيرهم. وفي وصفهم بهذا يقول جل وعلا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النساء آية (54) . وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} البقرة آية (109) . ثالثاً: حب الدنيا: إن حب الدنيا كما ورد في بعض الآثار " رأس كل خطيئة " واليهود حازوا من هذه الخصلة النصيب الأوفى، فكذبوا على الله لحبهم الدنيا، وجبنوا عن القتال لحبهم الدنيا، وأضلوا الناس عن دين الله حباً في الدنيا، وخانوا العهد والميثاق حباً في الدنيا وتمسكاً بنعيمها الزائل، أخذوا بالسحر وتركوا الوحي حباً في الدنيا.

وفي هذا يقول الله تعالى عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} البقرة آية (79) . وحبهم للدنيا جعلهم يأكلون الربا ويأكلون أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك من جرائمهم وتحايلهم على الأوامر والنواهي، حرصاً منهم على متاع الدنيا الزائل. رابعاً: البخل: مع أن اليهود أهل المال إلاّ أنهم بخلاء به، وهذا دليل على أنهم يعبدون المال ولم يجمعوه لينفقوا منه، وإنما حباً فيه فقط، وإضافة إلى البخل به فهم يأمرون الناس بالبخل. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} النساء آية (37) . خامساً: الخيانة: الخيانة من طبائع اليهود الملازمة لهم، والخيانة تكون في كل ما يؤتمن عليه الإنسان من مال وعرض ودين وعهد وغير ذلك، وقد خان اليهود أمانتهم في الأموال. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} آل عمران آية (75) . أما الدين فقد بدَّلوه وغيَّروه، وأما العهود والمواثيق فقد نقضوها سواء مع الله أو مع غيره. لهذا وصفهم الله بالخيانة فقال: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ

مِنْهُمْ} المائدة آية (13) . وهو وصف متحقق فيهم إلى هذا الزمن وما بعده. سادساً: الإفساد في الأرض: قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} الإسراء آية (4) . والواقع أن الفساد والإفساد لا يصدر إلاَّ عن نفوس أغرقت في الشر وحقدت على الغير حتى ساءها صلاح الغير واستقامة أمره فيدفعها ذلك إلى الإفساد. وهذا وصف من أبرز صفات اليهود في الحاضر والماضي، ولا تجد في الغالب في هذا الوقت وما قبله نحلة فاسدة أو مذهباً منحرفاً إلا ولليهود فيه اليد الطولى1. هذه بعض الأخلاق التي ذكرها القرآن الكريم عن اليهود تبييناً وتحذيراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

_ 1 انظر: الشخصية اليهودية من خلال القرآن، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي ص 193 - 254، بنو إسرائيل في القرآن الكريم، د. محمد عبد السلام محمد ص 265 - 271.

الباب الثاني: النصرانية

الباب الثاني: النصرانية النصرانية هي دين من ينتمون في الأصل إلى عيسى عليه السلام وكانت رسالته من ضمن الرسالات السماوية الخاصة ببني إسرائيل إلا أن النصارى غيَّروا ديانته وبدلوها حتى صار من العسير جداً إمكانية عزو شيء منها إلى المسيح عليه السلام بل إنها تحولت من ديانة توحيدية إلى ديانة شركية تدعى التوحيد وتتستر به. وسنبين في الفصول القادمة ما يتعلق بهذه الديانة من ناحية مصادرها وعقائدها وشعائرها ... إلخ.

الفصل الأول: التعريف بالنصرانية

الفصل الأول: التعريف بالنصرانية المبحث الأول: تعريف كلمة النصرانية ... المبحث الأول: تعريف كلمة النصرانية النصرانية لغة: قيل نسبة إلى نصرانه وهي قرية المسيح عليه السلام من أرض الجليل، وتسمى هذه القرية ناصره ونصوريه، والنسبة إلى الديانة نصراني، وجمعه نصارى1. النصرانية اصطلاحاً: هي دين النصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون المسيح عليه السلام، وكتابهم الإنجيل. وقد أطلق على أتباع الديانة النصرانية في القرآن الكريم نصارى2، وأهل الكتاب3، وأهل الإنجيل4، وهم يسمون أنفسهم بالمسيحيين نسبة إلى المسيح عليه السلام ويسمون ديانتهم "المسيحية". وأول ما دُعيَ النصارى "بالمسيحيين" في أنطاكية حوالي سنة 42م، ويرى البعض أن ذلك أول الأمر كان من باب الشتم5. ولم ترد التسمية بالمسيحية في القرآن الكريم ولا في السنة كما أن المسيح

_ 1 انظر: المفردات للراغب الأصفهاني ص495 القاموس المحيط ص622. 2 انظر مثلاً البقرة آية (62، 111، 113) . 3 انظر آل عمران (64) النساء (171) . 4 المائدة آية (47) . 5 قاموس الكتاب المقدس ص889.

حسب الإنجيل لم يسم أصحابه وأتباعه بالمسيحيين وهي تسمية لا توافق واقع النصارى لتحريفهم دين المسيح عليه السلام 1. فالحق والصواب أن يطلق عليهم نصارى، أو أهل الكتاب، لأن في نسبتهم للمسيح عليه السلام خطأ فاحش، إذ يلزم من ذلك عزو ذلك الكفر والانحراف إلى المسيح عليه السلام، وهو منه بريء.

_ 1 سيتبين هذا عند الحديث عن العقيدة النصرانية.

المبحث الثاني: التعريف بالمسيح عليه السلام إجمالا من خلال القرآن الكريم وما يتفق معه مما ورد في أناجيل النصارى

المبحث الثاني: التعريف بالمسيح عليه السلام إجمالاً من خلال القرآن الكريم وما يتفق معه مما ورد في أناجيل النصارى. المسيح عليه السلام 1 نبي من أنبياء بني إسرائيل، دعا إلى الله عز وجل، وبلغ رسالة ربه عز وجل، وقد ذكر الله عز وجل هذا النبي الكريم في القرآن الكريم، وذكر دعوته في مواضع عديدة، من أشملها قوله تعالى {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ

_ 1 قيل سمى مسيحاً لكثرة سياحته في الأرض وقيل لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برئ، وقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن. انظر: المفردات للراغب الأصفهاني (ص468) ،تفسير ابن كثير (1/320) والنصارى يقولون سمي مسيحاً لأنه جاء للخدمة والفداء. قاموس الكتاب المقدس ص 860.

رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} آل عمران الآيات (45-60) . هذا هو المسيح عليه السلام في كلام الله عز وجل بشر خلقه الله بكلمته كما خلق من قبله آدم عليه السلام بكلمته وهي قوله "كن" وجعله الله سبحانه آية حيث خلقه في بطن أمه مريم بدون أن يكون لها زوج أو يمسها بشر بل كانت رضوان الله عليها عبدة صالحة طاهرة مبرأة من الخبث والفساد. وبين الله عز وجل لنا حقيقة دعوة المسيح عليه السلام وأنه رسول دعا إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له وقد وجه دعوته لبني جنسه وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الوقت قد انحرفوا كثيراً عن دين موسى عليه السلام إلا أن قومه كذبوه وسعوا إلى قتله فانجاه الله منهم ورفعه إلى السماء. وإذا نظرنا إلى الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى نجد أنها صرحت بما ذكره القرآن تصريحاً واضحاً لا لبس فيه. ومن ذلك:

1- بشرية المسيح: ذكر الله عز وجل بشرية المسيح في الآيات السابقة وقد قص لنا الرب جل وعلا خبره من لدن جدته إمرأة عمران ثم أمه ثم خبر ولادته. وقد ذكرت جميع الأناجيل أنه ولد من مريم وأنه طرأ عليه ما يطرأ على البشر من الوجود بعد العدم والأكل والشرب والتعب والنوم والموت1. وسائر الخصال البشرية. 2- أنه رسول الله: وذلك في قوله عز وجل {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} المائدة آية (75) وقد صرح النصارى أن المسيح عليه السلام قال لهم في مواطن كثيرة في الأناجيل بأنه رسول من عند الله، فقد ورد في إنجيل متى (10/40) "من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". وفي إنجيل لوقا (4/43) : "فقال لهم إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله لأني لهذا أرسلت. فكان يكرز في مجامع الجليل". ويقول لتلاميذه الذين أرسلهم إلى المدن لدعوة الناس للإيمان به وبرسالته حسب قول لوقا، (10/16) : "الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني. والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني"

_ 1 هذا ما ذكرته الأناجيل ونحن المسلمين نعتقد بأنه عليه السلام لم يقتل ولم يمت كما ذكر الله عز وجل ذلك في قوله تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء آية (157-158) .

وفي إنجيل يوحنا ذكر أنه رسول من الله في مواطن كثيرة منها (4/34) "قال لهم يسوع طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني، وأتمم عمله". وفي (17/3) يذكر عن المسيح أنه قال: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته"1. 3- أنه رسول إلى بني إسرائيل خاصة: قال الله عز وجل في الآيات السابقة {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} آل عمران آية (49) . وقد ورد في إنجيل متى (15/24) أن المسيح عليه السلام لحقته امرأة كنعانية تطلب منه شفاء ابنتها المجنونة، فقال المسيح "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ". وكذلك في إنجيل متى (10/5) أن المسيح أرسل تلاميذه إلى القرى اليهودية وقال لهم "إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". 4- أنه دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له: قال جل وعلا عن المسيح أنه قال {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} آل عمران آية (51) . وذكر متى في إنجيله (4/10) عن المسيح أنه قال: "للرب

_ 1 نُص على الرسالة في إنجيل يوحنا في المواضع التالية أيضاً (5/23، 30،36) ، (6/29،44) ، (7/16،29) ، (8/18،42) ، (9/4) ، (10/36) ، (11/42) ، (12/44،49) ، (14/24) ، (15/21) ، (16/5) ، (17/18،25) ، (20/21) .

إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". وفي إنجيل مرقص (12/29) أن المسيح أجاب من سأله عن أول الوصايا والواجبات بقوله: "إن أول كل الوصايا هي: إسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك". وفي إنجيل لوقا (4/8) أن المسيح قال للشيطان لما طلب منه أن يسجد له: "إذهب يا شيطان إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". وفي إنجيل يوحنا (17/3) أن المسيح قال: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته". وكذلك قال للمرأة التي رأته بعد القيامة في كلامهم في إنجيل يوحنا (20/17) : "قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ولكن إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم، إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". 5- إنه متبع لشريعة موسى عليه السلام ومكمل لها: قال عز وجل {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} آل عمران آية (51) . قال متى في إنجيله (5/17) عن المسيح انه قال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل". 6- أنه دعا إلى التوبة: وهو معنى قوله عز وجل {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُونِ} آل عمران آية (50) وقد ذكر بعض الكُتَّاب أن لب دعوة المسيح عليه السلام حسب الأناجيل هو: الدعوة إلى التوبة، والأخذ بشريعة موسى عليه السلام 1. وفي هذا ورد في إنجيل متى (9/13) : "لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة". وفي إنجيل مرقص (1/14) : "وبعدما أُسِلم يوحنا2 جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". فهذه النصوص يظهر منها واضحاً بشرية المسيح عليه السلام، وأنه رسول دعا بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا يتفق تمام الإتفاق مع ما ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم عنه، ويتفق مع دعوة الأنبياء السابقين الذين ورد ذكرهم في القرآن، أو ذكرهم اليهود في كتبهم. كما يتفق ذلك مع العقل وترتاح له النفس. وهذا بخلاف ما تدعيه الكنيسة وتزعمه من الأمور المناقضة للعقل والشرع، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك عند الحديث عن عقائد النصارى.

_ 1 انظر المسيحية نشأتها وتطورها ص49، والنصرانية والإسلام ص14. 2 أي بعد أن سجن يحي عليه السلام من قبل حاكم اليهود. انظر تفسير العهد الجديد ص91.

المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالا

المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالاً إن الحديث عن تاريخ النصارى الأوائل والنصرانية من المصادر النصرانية يعتبر من أصعب الموضوعات وأكثرها تعقيداً، لأن التاريخ إنما يعتمد على النصوص والروايات المحفوظة التي تبين تاريخ حقبة ما. والناظر في المصادر النصرانية يواجه مشكلة الإنقطاع التاريخي في فترة من أهم الفترات المتعلقة بالنصرانيه، وهي الفترة التي تعقب رفع المسيح عليه السلام إلى منتصف القرن الثاني من الميلاد، فإن هذه الفترة تعتبر فترة حرجة جداً والمصادر التي يمكن أن يعتمد عليها في بيان تاريخ تلك الفترة تعتبر نادرة جداً، بل لا يوجد بين يدي النصارى سوى كتاب "أعمال الرسل" الذي تحدث كاتبه في أوله عمن يزعم أنهم تلاميذ المسيح حديثاً محدوداً، ثم خصص بقية كتابه للحديث عن بولس وأعماله، ورغم ذلك فإن المعلومات عن بولس تنقطع قبل موته بعد وصوله روما، وهذه النهاية التي انتهى إليها صاحب الكتاب هي نهاية المعلومات المتوفرة لدى النصارى عن تلك الفترة يضاف إلى ذلك ما يمكن إستفادته واستخلاصه من رسائل بولس الأربع عشرة التي فيها إشارات قليلة تخص بولس من ناحية تاريخية إلا أنها شبه خالية من المعلومات عن الحواريين الذين هم تلاميذ المسيح عليه السلام الحقيقيون ومع ذلك فسنحاول ذكر تاريخ إجمالي للنصارى والنصرانية إلى عهد ما بعد الإمبراطور قسطنطين حسب المعلومات المتاحة، وذلك لإعطاء القارئ تصوراً عن النصرانية من ناحية تاريخية، ربما يكون قريباً من الواقع.

أولاً: المسيح عليه السلام من خلال مصادر النصارى المسيح1 هو عيسى بن مريم عليه السلام وينسبه النصارى إلى داود عليه السلام 2 ويعتقدون أنه لا أب له من البشر، لأن الله أرسل إلى مريم الملك جبريل عليه السلام فكان الحمل به عليه السلام 3 ثم إنها وضعته بعد ذلك في بيت لحم في فلسطين، وزعم صاحب إنجيل متى أن أمه ذهبت به من فلسطين إلى مصر خوفاً من هيرودس حاكم اليهودية، الذي عزم على قتل جميع الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام، لأن منجمين مجوس أخبروه بولادة ملك اليهود4

_ 1 يلاحظ أننا سنذكر هنا ما يتعلق بالمسيح من ناحية تاريخية من خلال كتب النصارى وهي الأناجيل الأربعة وإذا كان هناك ما يتعارض مع ما ورد في مصادرنا الإسلامية نبين ذلك أو نحيل إلى موضع بيان ذلك. 2 انظر بيان ما يتعلق بنسب المسيح في ص197. 3 لم يذكر النصارى نفخ جبريل عليه السلام في مريم، وإنما ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم بقوله عز وجل {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} التحريم آية 12 قال ابن كثير في تفسيره (4/355) : أن الله بعث جبريل عليه السلام فتمثل لمريم في صورة بشر سوي، وأمره الله أن ينفخ بفيه في جيب درعها - فتحة ثوبها من قبل رأسها - فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام، أما النصارى فكلامهم في هذا غير ظاهر ولا واضح المعنى، وقد ذكروا ذلك في موضعين من أناجيلهم ففي إنجيل متى (1/18) " أما ولادة يسوع فكانت هكذا لما كانت مريم أمه مخطوبه ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس". وفي إنجيل لوقا (1/34) بعد أن ذكر مجيء جبريل إلى مريم المخطوبة ليوسف وبشرها بأنه سيكون منها المسيح قالت مريم "وكيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فأجاب الملاك، وقال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله ". 4 انظر إنجيل متى (الإصحاح الثاني) .

وبعد بلوغ المسيح عليه السلام الثلاثين من عمره ابتدأ دعوته بعد أن اعتمد1من يحيى عليه السلام 2 فكان يعظ الناس في أماكن تجمعهم، وإذا رأى مرضى يشفيهم ويتجول في سائر المدن اليهودية، وظهرت على يديه آيات كثيرة مثل تكثير الطعام، وشفاء المرضى، والمشي على الماء وغير ذلك، وفي هذه الفترة المبكرة من دعوته التحق به من يزعم النصارى أنهم حواريو المسيح، وتابعوه في رحلاته، ثم أرسل تلاميذه إثنين إثنين إلى القرى للدعوة، وشعر رؤساء اليهود بالخطر الذي سيحيق بهم، من جراء دعوة المسيح عليه السلام ولذا فقد اتفقت كلمتهم على ضرورة القضاء عليه. فلما كان في اليوم الأول من أيام عيد الفصح3، علم اليهود بمكانه في بيت المقدس، وذلك بوشاية من أحد أتباعه وهو يهوذا الإسخريوطي، فجاؤا وألقوا القبض عليه، ففر تلاميذه وتركوه فأخذه اليهود إلى رئيس كهنتهم وواجهوه

_ 1 انظر معنى التعميد ص 301 من شعائر النصارى. 2 لا يوجد لدى النصارى أي معلومات عن حياة المسيح عليه السلام الأولى وشبابه، والأناجيل الأربعة لم تذكر سوى ولادته، ثم تنتقل إلى فترة تعميده مباشرة، والتي ابتدأ بعدها بدعوته، ثم بعدها على أكثر تقدير بسنة واحدة أو بثلاث سنوات رفع إلى السماء ومعنى ذلك أن عمره كان في ابتداء الدعوة قرابة ثلاثين سنة وهي مدة لا يعرف النصارى عنها شيئاً البتة سوى خبر أورده متى وهو عودة المسيح حين كان صبياً من مصر، وأخر في إنجيل لوقا عن تعلمه وتعليمه في الهيكل حين كان عمره اثنى عشر عاماً. كما أن النصارى لم يذكروا شيئاً عن تكلمه في المهد ولا يعرفون ذلك. 3 الفصح هو عيد يهودي ويسمونه أيضاً عيد الفطير لأنهم يأكلون فيه الخبز فطيراً غير مختمر، وهو عندهم عيد الضحية حيث يضحون فيه بحمل أو جدي ونحوه. وأصل هذا العيد ذكرى لنجاة بني إسرائيل من فرعون مصر. وقد استبدل النصارى عيد الفصح اليهودي بالعشاء الرباني حيث يزعمون أن المسيح هو حمل فصحهم المذبوح، وأن الخبز والخمر رمز لتلك الأضحية عندهم وهو المسيح عليه السلام. انظر: الفكر الديني اليهودي 180-188 بتصرف، شرح أصول الإيمان للقس اندرواس واطسون 500.

بما يتهمونه به إلا أنهم رأوا أن الشهود لا تتفق كلمتهم فيما شهدوا به عليه، وأخيراً سأله رئيس الكهنة وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال عيسى: أنا هو وسوف تبصرون إبن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه. وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود قد سمعتم التجاديف1. ما رأيكم؟ فحكم الجميع عليه أنه مستوجب للموت2. ثم حملوه إلى الوالي الروماني بيلاطس البنطي الذي قرره بما كان متهماً به وهو أنه "ملك اليهود" وهي التهمة التي أوعز اليهود إلى الوالي الروماني أن المسيح يدعيها لنفسه، إلا أن المسيح لم يجبه بشيء3، فرأى بيلاطس أنه لا يستحق الموت، وهو الجزاء الذي كان يطالب اليهود بإيقاعه به، إلا أن بيلاطس بعد ذلك ونزولاً عند رغبة اليهود حكم عليه بالموت على الصليب، فحمل يوم الجمعة صباحاً إلى موضع الصلب، حيث علق على الصليب في زعمهم في الساعة الثالثة صباحاً4 وبقي على الصليب إلى الساعة التاسعة عصراً، حيث مات بعد أن صاح "إلهي إلهي لماذا تركتني" ثم أُنزِل عن الصليب وأدخل قبراً بقي فيه تلك الليلة ونهار السبت وليلة الأحد، فلما جاؤا صباح الإثنين وجدوا القبر خالياً، وقيل لهم إنه قام من قبره، ثم إنه ظهر

_ 1 التجاديف المراد بها الكلمات الكفرية، أو الكلمات الموحية بكفر قائلها. 2 إنجيل مرقص (14/62-65) . 3 وهذا حسب الأناجيل الثلاثة متى، مرقص، لوقا، أما إنجيل يوحنا فإنه ذكر محاورة بين المسيح وبيلاطس انظر الاصحاح 18/33-38. 4 هذا على حساب الساعة الغروبي الذي يكون أول ساعة بعد غروب الشمس هي الساعة الواحدة ليلاً إلى إثنتى عشرة ساعة، فتوافق في الغالب الساعة الأولى من النهار بعد طلوع الشمس، فتكون الساعة الثالثة هنا صباحاً حوالي التاسعة والنصف في عرفنا والتاسعة توافق الثالثة والنصف مساءاً.

لتلاميذه بعد ذلك، وبين لهم أنه حي وبقى معهم حسب كلام صاحب أعمال الرسل "أربعين يوماً"1 ثم ارتفع إلى السماء وهم ينظرون إليه2، وكانت مدة دعوة المسيح حسب الأناجيل الثلاثة الأولى لا تزيد عن سنة واحدة إذ لم يذكروا خلال دعوة المسيح إلا عيداً واحداً، أما إنجيل يوحنا فذكر ثلاثة أعياد3 لليهود لهذا يرى كثير من النصارى أن مدة دعوته كانت ثلاث سنوات4، وكان أتباعه خلال هذه المدة والذين خَلفَّهم بعده ينحصرون في الاثنى عشر حوارياً وآخرين يبلغ مجموعهم مائة وعشرين فقط5. وكل من نظر في الأناجيل التي بين يدي النصارى والتي تحوي دعوة المسيح ونشاطه، وتحركاته، ومواعظه، يتيقن أن المسيح لم يؤسس ديانة جديدة البتة، بل كان يلتزم بشريعة موسى عليه السلام ويدعو إلى الإلتزام بها، ويحرم الخروج عليها6، وبهذا أيضاً وصى تلاميذه الذين أرسلهم إلى الدعوة في القرى7.

_ 1 أعمال الرسل (1/3) . 2 هذا ما أورده النصارى إجمالاً من قصة المسيح عليه السلام وما زعموه من صلبه وموته وقيامته، وقد أفردت مبحثاً خاصاً عن الصلب وبيان التناقض في كلام النصارى فيه وبيان بطلانه انظر ص 266. 3 انظر إنجيل يوحنا (2/13) ، (5/1) (12/1) . 4 انظر تاريخ المسيحية (1/33) . 5 أعمال الرسل (1/15) . 6 انظر إنجيل متى (5/17) إنجيل لوقا (18/18) . 7 انظر متى (10/5) ، مرقص (6/12) ، لوقا (9/2، 10/1) .

أما محور دعوة المسيح عليه السلام حسب الأناجيل، فهو الدعوة إلى التوبة والإنابة إلى الله والتبشير بالملكوت القريب1، وكان يضرب لهم الأمثال في ذلك، ولا يختلف في هذا عن الأنبياء من بني إسرائيل الذين سبقوه وجاؤا بعد موسى عليه السلام، إلا أنه زاد في النهي عن الفواحش والفساد بتأكيد تحريم الوسائل إليها فمن ذلك قوله في إنجيل متى (5/27) "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لاتزن، وأما أنا فأقول لكم إن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" وفي (5/33) "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة...... بل ليكن كلامكم نعم. نعم، لا. لا" وكذلك أكد على التسامح والعفو والمحبة وفي هذا يقول متى (5/43) "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم باركوا لا عينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" أما التشريع فلم يذكر عنه منه شيء سوى ما يتعلق بالحض على عدم الطلاق وعدم زواج المطلقة. يقول متى عنه في (5/31) "وقيل من طلق إمرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق إمرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني

_ 1 انظر متى (4/17) ، (9/12) مرقص (3/17) لوقا 8/1) .

ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". وفي إنجيل لوقا (16/18) يقول "كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني وكل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني" فهذا يدل على أن المسيح عليه السلام لم يؤسس ديانة جديدة البتة بل كان شأنه ودعوته شأن ودعوة الأنبياء السابقين من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلامإلا أن الله جعله وأمه آية لبني إسرائيل. ثانياً: تلاميذ المسيح عليه السلام بعد رفعه. المصادر التاريخية لهذه الفترة بعد رفع المسيح عليه السلام نادرة جداًوقليلة فلا يوجد بين يدي النصارى سوى سفر أعمال الرسل الذي ورد فيه جانباً من أعمال حواري المسيح وتلاميذهثم خُصِصَ بقية الكتاب للحديث عن بولس ويضاف إلى هذا السفر بعض الجمل الواردة في الرسائل الملحقة بالعهد الجديد التي تتحدث عن شيء من تأريخ تلاميذ المسيح. هذا كل ما لدى النصارى من كتب عن هذه الفترة. ولهذا سنشير إشارة مختصرة إلى هذه الفترة حسب المعلومات المتاحة فنقول: إن تلاميذ المسيح فيما يذكر النصارى بعد رفعه قاموا بالدعوة في جميع مدن اليهودية. وحسب سفر أعمال الرسل فقد أظهروا آيات وعجائب كثيرة قاموا بها وخاصة شفاء المرضىوبناءاً على تلك الآيات أقبل الناس على سماع كلامهم والإستجابة لهمإلا أن هذا لم يمنع كهنة اليهود ورؤساءهم من أن يتوعدوا التلاميذ ويتهددونهم ليتوقفوا عن الدعوةإلا أن ذلك التهديد لم يوقف حماس التلاميذ ونشاطهم في الدعوةوتتركز دعوة التلاميذ

وتعاليمهم: على وجوب التوبة والتعميد والإيمان بالمسيح عيسى عليه السلام لتغفر لهم خطاياهم1 وهي الدعوة التي كان المسيح عليه السلام يدعو إليها كما سبق بيانه. ولم يكن في دعوتهم تصريح بألوهية المسيح ولا بنوته لله، بل أعلن "بطرس" كبيرهم فيما يذكر النصارى أمام اليهود في أول خطبة له عامه:"أن يسوع الناصرى رجل2 قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون"3 بعد هذا ازداد حنق اليهود على التلاميذ فقبضوا على أحدهم ويسمى إستفانوس ورجموه بالحجارة حتى قتلوه4 وقتلوا بعده آخر يسمى يعقوب أخو يوحنا5 ثم اضطهدوا بقية الأتباع، حتى تشتت كثير منهم في سائر أنحاء اليهودية والسامرة، وكان التلاميذ إلى ذلك الوقت مقتصرين في دعوتهم على أبناء جلدتهم من اليهود، إلا أنهم رأوا أن غير اليهود يقبلون أيضاً دعوتهم، وقد انضم إليهم عدد من اليونانيين، فشجعهم هذا على تكثيف الدعوة بين الأجانب، فأرسلوا برنابا6 إلى أنطاكية ليدعو الأجانب، فآمن بدعوته أيضاً العديد من الناس، وكان قد انضم إلى التلاميذ بولس "شاؤول

_ 1 انظر سفر أعمال الرسل (2/38) . 2 فصرح هنا بطرس بأن المسيح عليه السلام رجل وليس ابن الله وأن ما أظهر من آيات إنما هي في حقيقتها صنع الله عز وجل أجراها على يديه. 3 أعمال الرسل (2/22) . 4 أعمال الرسل (7/58) . 5 أعمال الرسل (12/2) . 6 سيأتي الحديث عنه عند ذكر إنجيل برنابا ص 211.

اليهودي"1 فكُلِفَ هو وبرنابا بدعوة الوثنيين، فنجحا في دعوتهما نجاحاً كبيراً، وحدث من جراء قبول الوثنيين اليونانيين وغيرهم للديانة النصرانية إشكال خطير، وهو أن بعض دعاتهم صاروا لا يلزمون من تنصر من الوثنيين بالتمسك بتعاليم الشرائع الموسوية، وعلى رأس هؤلاء بولس، وأما الدعاة الآخرون فكانوا يرون وجوب العمل بتعاليم الشريعة الموسوية ومن ضمنها الختان. فحدث خلاف بينهم، اجتمعوا على إثره في مجمع في بيت المقدس، فقرروا عدم مطالبة الوثنيين بالالتزام بالشريعة، ويكتفى من ذلك بالإمتناع عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا"2. هكذا ذكروا. وينتهي بعد هذا خبر التلاميذ، ولا يعلم على التحديد ما حدث منهم ولا ما حدث عليهم، وإنما يمكن تتبع بولس في دعوته، وأنه نشط نشاطاً قوياً في دعوته فزار مدناً عديدة في آسيا، ثم كان خاتمة مطافه في روما، وهذا آخر ما ذكره صاحب سفر الأعمال، ولا يعطينا عن خاتمة حياة بولس شيئا ولا يعرف النصارى على التحقيق عنها شيئاً. ثالثاً: العصور اللاحقة لعصر تلاميذ المسيح إلى مجيء الإمبراطور قسطنطين إن الحديث عن العصور المتقدمة من هذه الفترة يلفه الغموض الشديد ويكاد يكون الجهل بتلك الفترة جهلاً مطبقاً، وهي فترة من أكثر فترات التاريخ

_ 1 سيأتي الحديث عنه بالتفصيل في فصل خاص انظر ص309. 2 أعمال الرسل (15/29) .

النصراني غموضاً وأشدها صعوبة وخطورة، إذ أفرزت هذه الفترة وخاصة اللاحقة مباشرة لعصر التلاميذ بروز الأناجيل الكثيرة، التي ظهرت في وقت متقارب من تلك الفترة، وهي متضاربة تضارباً شديداً.1 كذلك برزت للوجود الأقوال المنحرفة الكثيرة عن المسيح وديانته، وهي أيضاً أقوال متضاربة متباينة، يقول الكاتب النصراني حبيب سعيد متحدثاً عن تلك الفترة "ومع أنه من اليسير جمع نتف من هنا وهناك عن هذه الفترة- نهاية عصر الحواريين - إلا أن الأربعين سنة من 70 إلى 110م - تبقى أكثر فترات التاريخ المسيحي غموضاً وإبهاماً، وهو أمر يؤسف له، لأن هذه الفترة حفلت بكثير من معالم التغيير في الكنيسة نفسها، ولأن فيها برز كثيرون من دعاة المسيحية المجهولين بعد "بولس"، وظهر كثير من الأفكار التي حملها بلا شك المتنصرون الوثنيون من مصادر غير مسيحية وخاصة حول العقائد والممارسات المسيحية، مثل الأسرار، والأصوام وأشكال العبادة، ودستور الكنيسة نفسه خضع لبعض التعديلات"2 ويميز هذه الفترة المتقدمة من تاريخ النصارى حادثة مهمة جداً لعلها من أهم الحوادث التي وقعت على النصارى بعد رفع المسيح عليه السلام ألا وهي حادثة تدمير بيت المقدس من قبل القائد الروماني تيطس سنة 70م في عهد الإمبراطور "لوسباسيانوس" حيث قضى هذا القائد على اليهود في فلسطين

_ 1 ستأتي دراسة مفصله للأناجيل عند الحديث عن مصادر النصارى ص 169 وما بعدها. 2 تاريخ المسيحية (1/47) .

وخاصة في القدس قضاءاً شبه تام بسبب ثورتهم ضد الرومان1. ولاشك أن عملية القتل والإبادة هذه قد طالت أكبر عدد من النصارى في ذلك التاريخ، لأنه لم يكن هناك فرق بين اليهودي والمتنصر إبان تلك الفترة، كما أن البلاء والقتل والإبادة كان شبه عام لجميع المناطق التي يتواجد فيها اليهود في فلسطين خاصة والمناطق المجاورة لها. ومن هنا فإن الحديث عن تلك الفترة فيه عسر واضح، إذ أنها حلقة مجهولة في تاريخ النصرانية، حتى إن نهاية أتباع المسيح عليه السلام وكذلك بولس تعتبر مجهولة2 بسبب ذلك البلاء الطويل الذي حل باليهود متتابعاً متلاحقاً من قبل الرومان، منذ رفع المسيح عليه السلام إلى تدمير تيطس لبيت المقدس سنة 70م، ثم استمر البلاء على من بقي منهم إلى التدمير الثاني في عهد الإمبراطور "أدريان" حيث تجمع مجموعة من اليهود وأمروا عليهم رجلاً يسمى "بركوكبا" وزعموا أنه المسيح المنتظر فخرج بهم على الرومان، فما كان من الإمبراطور الروماني "أدريان" حوالي عام 130م إلا أن أرسل حملة كبيرة وأمرها بتدمير جميع المحلات التي يمرون عليها، محلاً، محلاً، واستمر في ذلك سنتين حتى دمر بلاد اليهود، وقضى عليهم، وأعاد تدمير بيت المقدس وبنى محله هيكلاً للمشتري، معبود الرومان في ذلك الوقت، وحرم على اليهود الدخول إلى بيت المقدس إلا يوماً واحداً في السنة بعد دفع غرامة مالية كبيره3.

_ 1 انظر تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 380-383. 2 انظر تاريخ المسيحية 1/3. 3 انظر تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 387.

فلاشك أن أحداثاً جساماً كهذه كانت سبباً من الأسباب المباشرة للانقطاع التاريخي البيَّن في تاريخ النصارى الذين كانوا في ذلك الوقت لا يتميزون عن اليهود بشيء خاصة لدى من هو خارج إطارهم مثل الرومان واليونان الوثنيين. كما أن الثقل الديني والإلتزام بمبادئ المسيح عليه السلام كان متمركزاً في بيت المقدس، وكان سبق أن حدث انقسام بين دعاة النصارى في مسألة شريعة موسى عليه السلام ووجوب التزامها وإلزام المتنصرين من الوثنيين بها، وكان المحافظون على الشريعة والموجبون للإلتزام بها من المتبعين للمسيح من اليهود هم القوة الغالبة في ذلك الوقت. إلا أن تدمير بيت المقدس وقتل اليهود وجه لهذه الفئة بالذات ضربة قاصمه، وأفسح المجال لبولس وأتباعه المنادين بإلغاء العمل بالشريعة الموسوية وفصلها عن ديانة المسيح عليه السلام يقول حبيب سعيد "أما خراب أورشليم في الشرق إثر التمرد اليهودي سنة 70م فكان له أثر عميق في المسيحية، وذلك لأنه قضى على الجماعات الفلسطينية، وتضخم أعداد متنصرى الوثنية، من العوامل التي جعلت كفاح "بولس" للتخلص من اليهودية الناموسيه الضيقه، غير ذي موضوع، وغدت أنطاكيه ورومية وبعدها أفسس أهم المراكز في تطور التاريخ المسيحي1". والناظر في تاريخ تلك الفترة يجد أنها أفرزت افرازات خطيرة جداً في الديانة النصرانية حيث ظهرت المذاهب والأقوال المختلفة والمتباينة في المسيح وديانته، نذكر منها:-

_ 1 تاريخ المسيحية (1/46) .

الغنوصية 1: وهو اسم يطلقه النصارى على فرق عديدة، تجمع في عقيدتها بين إلهين اثنين أو أكثر، وتبني مطالبها على المعرفة2. المارسيونية أو الماركونية: وهم أتباع مارسيون الذي ولد في آسيا سنة 85م، وبعضهم يقول 120م، ومن معتقداته القول بإلهين: أحدهما إله اليهود، وهو في زعمه إله قاس شرس، وهو الذي خلق هذا العالم المادي. ومع ذلك فهو أقل مستوى من الإله الآخر الذي هو إله الرحمة والمحبة، حيث هو الإله الحقيقي المحتجب والذي ظهر في شخص المسيح، ويرى أن المسيح لم يمت على الصليب ولم يدفن ولم يقم من القبر، ولكنه اختفى فجأة ليبشر الموتى في الهاوية ثم رجع بعد ذلك ليقوم بعمله كالأب المحتجب في السماء. المونتانية: وهي تنسب إلى رجل اسمه " مونتانس " ادعى النبوة بعد منتصف القرن الثاني الميلادي، وزعم أن الروح القدس يتكلم إليه، وتنبأ معه أيضاً امرأتان أعلنتا قرب نهاية العالم وقرب رجوع المسيح عليه السلام. ولكي يستعدوا لهذا المجيء أمرت المتنبئتان الناس بالكف عن الزواج وعن شرب الخمر وعن الأطعمة الشهية، وصاروا ينتظرون مجيء المسيح، حتى خرج مجموعة منهم إلى الصحراء لاستقبال المسيح، وكادوا أن يهلكوا من الجوع والعطش لولا أن السلطات أنقذتهم. وقد استمرت المونتانية قائمة إلى القرن الخامس الميلادي3.

_ 1 الغنوصية: كلمة يونانية تترجم بـ " العرفانية"، وهي فلسفة دينية صوفية. انظر: موسوعة الفلسفة (2/86) 2 انظر فرق الغنوصية ومقالاتها في تاريخ الفكر المسيحي 1/396. 3 تاريخ الكنيسة (1/120) .

البنويون: وقولهم: أن المسيح إنسان ولد من مريم بطريقة إعجازية، وأن الله عز وجل في وقت تعميد المسيح تبناه ووهبه قوة لعمل المعجزات، واستمر بشراً إنساناً إلى أن صلب ثم مات، وقام من الموت، ورفع إلى السماء، وهم ينتظرون مجيئه ليخلص أتباعه من العار الذي أصابهم بسبب صلبه، وهم يتمسكون بالشريعة الموسوية1 الانتحالية أوالوحدوية: وهي عدة مذاهب نصرانية نادت بأن الله واحد وليس ثلاثة ولها مذاهب وأقوال منها:- السابليوسية: نسبة إلى الكاهن سابليوس المتوفى سنة 261م وهو كما قيل عنه يعتقد: بأن الله واحد غير قابل للتجزئة وينكر الثالوث إلا أنه يرى أن الله الخالق تجسد بعد في صورة المسيح فصار إبناً، فتألم وصلب ثم تحول بعد ذلك إلى الروح القدس الذي صار مرشداً للتلاميذ. فعنده أن الله واحد قد أخذ هذه الأدوار الثلاثة كلها. بولس السميساطي: وهو أسقف أنطاكيه الذي رُسِّم أُسقفاً لها سنة260م، وكان يقول إن الله واحد، وأن كلمته وحكمته من صفاته، وأن هذه الصفة "الكلمه" حلَّت على المسيح الذي هو بشر ولد من مريم فحين حلَّت عليه الكلمة صار المسيح الفادي والمخلص، ورفعه الله مكافأة له، وأعطاه إسماً فوق كل اسم. الأريوسية: نسبة إلى الأسقف الليبي "آريوس" الذي درس على تلميذ بولس السميساطي وهو "لوقيانوس" وكان آريوس يعلم بأن الله إله واحد غير

_ 1 تاريخ الفكر المسيحي (1/490-497) .

مولود أزلي، أما الإبن فليس أزلياً بل وجد وقت لم يكن الإبن فيه موجوداً، وهو خرج من العدم مثل غيره من المخلوقات حسب مشيئة الله، فهو ليس إلهاً، ولايملك شيئاً من الصفات الإلهية، إلا أن الله منحه مجداً جعله فوق كل الخلائق. وقد انتشرت الآريوسيه إنتشاراً عظيماً، وهي التي انعقد مجمع نيقيه سنة 325م بأمر الإمبراطور قسطنطين1 للنظر فيها وغيرها من المذاهب التي كان يتوزع إليها النصارى في ذلك الوقت2. فهذه المذاهب والأقوال المتباينة كانت منتشرة بين النصارى في ذلك الوقت، ولأتباعها نشاط قوي أيضاً، وكانت المواجهات القوية كثيراً ما تحدث بينهم وبين من يخالفهم، وخاصة أتباع مذهب "بولس" الذي كان له تلاميذ وأتباع فيما يظهر أقوياء وذوي نشاط في دعوتهم، وقد استطاعوا أن يترأسو المراكز الدينية في ذلك الوقت، بعد سقوط عاصمة الديانة الأولى، وهي بيت المقدس، وتلك المراكز تمثلت في أنطاكيه، والإسكندريه، وروما، وكانت في الغالب في يد أتباع بولس، وقد كان من أولئك الأتباع:- أسقف أنطاكيه إغناطيوس الأنطاكي الذي نصب أسقفاً لكنيسة أنطاكيه وذلك في سنة 70م 3. وأسقف كنيسة روما إكلميندس الروماني الذي نصب فيما يظن من سنة

_ 1 انظر الحديث عن هذا في الكلام على المجامع النصرانية ص221. 2 انظر مرجعاً لهذه النحل كل من كتاب تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/102-123) تاريخ الفكر المسيحي حنا الخضري (1/592-620) . 3 تاريخ الفكر المسيحي 1/415-417، تاريخ المسيحية 1/61.

92-101م1. وأسقف سميرنا (أزمير) بوليكاربوس: الذي قتل في اضطهادات الحاكم ماركوس أوريليوس سنة 156م2. وأسقف ليون ايريناوس: الذي يعتقد أنه توفي بين سنتي 190-202م3. جاستين- يوستينوس مارتر الذي فتح مدرسة في روما ثم أعدم في سنة 165م4. واكلميندس الإسكندري: الذي ولد سنة 150م في بلاد اليونان ثم انتقل إلى الإسكندرية حيث التحق بمدرستها التي تدعى "مدرسة التعليم المسيحي5" وتولى إدارتها ويعتقد أنه توفي سنة 215م6 وإريجانوس المصري: الذي ولد حوالي 185م في الإسكندرية، وتولى إدارة المدرسة اللاهوتية فيها بعد مديرها السابق، توفي في صور سنة 253م7. وإثناسيوس: الذي نُصِّبَ أسقفاً على الإسكندرية سنة 328م خلفاً

_ 1 تاريخ الفكر المسيحي (1/420) . 2 تاريخ الفكر المسيحي (1/426) ، تاريخ المسيحية (1/98) . 3 تاريخ الفكر المسيحي (1/431) تاريخ المسيحية (1/131) . 4 تاريخ الفكر المسيحي (1/444) تاريخ الكنيسه (1/98) . 5 هذه المدرسه أسسها فيما يقال باتينوس الذي كان وثنياً رواقياً قبل المسيحية وقد أسس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية سنة 179م وقام بالتعليم فيها. انظر تاريخ المسيحية (1/127) تاريخ الفكر المسيحي (1/501) . وهذه المدرسة كان لها الدور الأكبر بعد في الوقوف في وجه دعوة اريوس عن طريق الاسقف الإسكندروس ثم اثناسيوس. 6 تاريخ الفكر المسيحي (1/500) تاريخ المسيحية (1/138) . 7 تاريخ الفكر المسيحي (1/539) تاريخ المسيحية (1/138) .

لإسكندروس، واللذان كان لهما أكبر الأثر في تحريف دين المسيح عليه السلام بترسيخ عقيدة ألوهية المسيح في مجمع نيقيه الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين سنة 325م ونبذ دعوة التوحيد التي كان يتزعمها آريوس الليبي1. وكانت هذه المواجهات بين المختلفين من دعاة النصارى وأساقفتهم تنتهي في الغالب بالدعوة إلى مجمع من المجامع، الذي يعلن في نهايته بحرمان من قصد حرمانه وطرده من الشركة النصرانية2 وفي الغالب لا ينصاع المطرود والمحروم لتلك القرارات، بل يستمر في نشر تعاليمه3. ومن المعلوم أن النصارى في تلك الفترة لم تكن لهم دولة، ولم يقم لهم تجمع متكامل بحيث يمكن أن يقال عنهم أنهم أمة مجتمعه، بل كانوا أول الأمر يعيشون بين بني جنسهم اليهود ثم بين الوثنيين، وهذا جعلهم في حالة من البلاء والعذاب شديدة، فحين كانوا بين بني جنسهم اليهود كانوا يُضْطَهدون لأن اليهود اعتبروهم خارجين عن شريعتهم، وفي نفس الوقت يضطهد الجميع الرومان الوثنيون الذين كانوا لا يعرفون فرقاً بين اليهودي والنصراني، لهذا فقد كان لثورات اليهود على الرومان أسوأ الأثر على النصارى، وبعد القضاء على اليهود وطرد من بقي منهم خارج فلسطين واجه النصارى الذين كانوا بين الوثنيين إضطهاداً شبه متواصل من قبل حكام الرومان الوثنيين4 استمر قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تولى الإمبراطور قسطنطين عرش

_ 1 تاريخ الفكر المسيحي (1/642) تاريخ المسيحية (1/152) . 2 مقصدهم بذلك الحكم بانحرافه عن الدين والحكم عليه بالكفر وإخراجه من الجماعة. 3 انظر تاريخ الفكر المسيحي (1/480) في موقف الكنيسة من المارسيونيه، وفي (1/606-608) في الموقف من بولس السميساطي، وفي (1/632) في موقف الكنيسة من الآريوسيه. 4 انظر فصل عوامل تحريف رسالة المسيح ص306.

روما، فأوقف الاضطهاد بمرسوم ميلان سنة 313م1، وابتدأ النصارى منذ ذلك التاريخ، يظهرون على السطح، وبدأت ديانتهم تنتشر انتشاراً فعلياً على حساب الوثنية التي كانت تدين بها أكثر الشعوب في ذلك الوقت، إلا أن النصرانية نفسها في هذه الفترة المتأخرة قد وصلت إلى الوثنيين وقد أثرت في كثير من دعاتها السنون العجاف المتطاولة التي مرت بهم، فانحرفوا عن دين المسيح عليه السلام وجعلوه ديناً وثنياً يقوم على تأليه ثلاثة آلهة في ثلاثة أقانيم يزعمون أنها إله واحد، ويعتمدون في شرح الديانة وتفصيل العقيدة على الفلسفة، وخاصة الأفلاطونية الحديثة والرواقية، وكان من يسمون بالمدافعين عن النصرانية في تلك العهود جلهم قد درس الفلسفة الوثنية، وربما كان تابعاً لها فترة طويلة ثم تحول إلى النصرانية بفلسفته وسابق تصوراته2 فهذا كله جعل الوثني لا يجد فرقاً كبيراً بين ما كان يعتقد وما يدعوا إليه النصارى. وكان لتنصر أباطرة الرومان وأولهم قسطنطين أكبر الأثر في انتشار النصرانية في الدولة الرومانية المترامية الأطراف - والناس على دين ملوكهم- إلا أن تنصر الأباطرة قد جعل النصارى يواجهون مشكلة كبرى وهي وصاية الأباطرة على الديانة وتعاليمها، حيث صارت بعد ذلك في يد الأباطرة الرومان الذين يسيرون العقائد النصرانية وفق أهوائهم، فينصرون من المذاهب ما يتفق مع أهوائهم، فإذا كان هناك أحد يدعوا إلى تعاليم لا يميلون إليها فإنهم يطلبون من النصارى عقد مجمع ويوعز إليهم بطرد ولعن من لا يرغبون، يقول حبيب سعيد: " وباحتضان الإمبراطورية للكنيسة، تعرضت القوى الروحية في

_ 1 انظر تاريخ الكنيسة (2/119) . 2 انظر تأثير الفلسفة الوثنية على النصرانية ص317.

الكنيسة لخطر الإختناق والفناء - وغدا تنفيذ القانون الكنسي، واستدعاء المجالس العامة وتنفيذ قرارتها، وتعيين الأساقفة في المراكز الهامة، وحق الإختصاص الأعلى للمحاكم الروحية، والقول الفصل في المشاكل الجدلية والتي قد تنشأ حول العقائد، غدت كلها من الحقوق التي طالبت بها الدولة الرومانية وأصرت على انتزاعها من السلطات الدينيه"1. يؤكد لنا هذا التسلط ويوضحه أن الذي دعا إلى مجمع نيقيه سنة 325م هو الإمبراطور قسطنطين وكان حاضراً في ذلك المجمع وقرر فيه أُلوهية المسيح وطرد أريوس وجماعته، ثم صدق بعده بعشر سنوات على قرارات مجمع صور التي فيها إعادة أريوس إلى الكنيسة وطرد إثناسيوس الذي كان وراء إقرار الوهبة المسيح عليه السلام. ثم دعا كل من الإمبراطور الغربي قسطنطين الثاني والإمبراطور الشرقي قسطنديوس إلى مجمع في مدينة سارديكا سنة 343م بغرض توحيد النصارى، لكن النصارى لم يتفقوا وخرجوا أشد اختلافاً وتفرقاً. ثم بعد مقتل الإمبراطور قسطنطين الثاني دعا الإمبراطور قسطنديوس إلى مجمع ميلانو سنة 355م وطلب من الأساقفة إصدار حكم بخلع اثناسيوس، ووقعت الأغلبية على ما أراد، ثم دعا ذلك الإمبراطور أيضاً إلى مجمعين في نفس الوقت مجمع في تركيا ومجمع في إيطاليا سنة 359م وأمر الذين يشرفون على مجمع إيطاليا بإرغام المجتمعين على التوقيع على قرار المجمع الذي يوافق نوعاً ما مذهب الآريوسيين الذين يسمون "الأريوسيين المعتدلين".

_ 1 تاريخ المسيحية (1/144) .

كما استخدم القوة العسكرية من أجل إرغام المجتمعين في تركيا على التوقيع، ثم جاء الإمبراطور ثيود وسيوس وكانت ميوله ضد الأريوسية1 فدعا إلى مجمع القسطنطينة سنة 381م، وقرر المجمع العودة إلى قانون الإيمان النيقوي2 وزادوا عليه: ألوهية الروح القدس واعتبار الأريوسيه ضد القانون الروماني3، وهو المذهب الذي عليه الغالبية العظمى من النصارى إلى الآن. وهكذا نجد أن النصرانية صارت ألعوبه بيد أباطرة الرومان يسيرونها وفق أهوائهم ورغباتهم إلى أن سقطت الدولة الرومانية أمام هجمات القبائل القادمة من الشرق والشمال الشرقي التي استولت على روما سنة 410م4. وبهذا نكون قد عرضنا في هذا المبحث التاريخ النصراني المبكر بشكل مختصر، ولعله يكون وافياً بالغرض، ولابد أن نبين هنا أن انتصار أتباع بولس ومذهبه قد جعل مصادر دارسي مثل هذه الموضوعات تعتمد عليهم، فهم الذين نقلوا كل هذه المعلومات عن معلميهم، وعن الفرق الأخرى ومعلميها، لذا فإن الحكم على صحة المعلومات عن تلك الفرق وأولئك الناس وخاصة في مجال العقيدة لا يكون صحيحاً دقيقا إلا في حالة الاطلاع على كلام صاحب المقالة أو كلام تلاميذه وأتباعه عنه فعلى المطالع لذلك الانتباه في هذا الموضوع والحذر. والله تعالى أعلم ...

_ 1 انظر تاريخ الكنيسة (3/109) . 2 انظر قانون الإيمان ص221 عند الحديث عن مجمع نيقيه. 3 انظر تاريخ الفكر المسيحي (1/646-664) تاريخ الكنيسة (3/111) . 4 انظر تاريخ الكنيسة (3/140) .

الفصل الثاني: مصادر النصرانية

الفصل الثاني: مصادر النصرانية النصارى يستمدون عقائدهم وتشريعاتهم ومعارفهم الدينية من مصدرين أساسيين هما: أولاً: الكتاب المقدس. ثانياً: المجامع النصرانية. وسنتحدث عن كل واحد منهما في المباحث التالية:-

المبحث الأول: الكتاب المقدس

المبحث الأول: الكتاب المقدس: النصارى يقدسون كلا من العهد القديم والعهد الجديد ويضمونها معاً في كتاب واحد يطلقون عليه اسم " الكتاب المقدس ". والعهد القديم: هو التوراة مع الكتب الملحقة بها1،وقد سبق ذكرها وتعريفها. أما العهد الجديد: فهو مجموعة من الأناجيل والرسائل الملحقة بها وتتضمن حسب المدون فيها: دعوة المسيح عليه السلام، وتاريخه، وشيئاً من دعوة أوائل النصارى، وتاريخهم، ورسائل دينية أخرى، وهي على الترتيب:- 1- إنجيل متى 2- إنجيل مرقص 3- إنجيل لوقا 4- إنجيل يوحنا 5 - أعمال الرسل 6- رسالة بولس إلى أهل روميه 7- رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 8- رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 9- رسالة بولس إلى غلاطيه 10- رسالة بولس إلى أفسس 11-رسالة بولس إلى أهل فيلبي 12- رسالة بولس إلى أهل كولوسى 13- رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي 14- رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي 15-رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 16- رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 17- رسالة بولس إلى تيطس 18- رسالة بولس إلى فليمون 19- الرسالة إلى العبرانيين 20- رسالة يعقوب 21- رسالة بطرس الأولى 22- رسالة بطرس الثانية

_ 1العهد القديم بالنسبة للنصارى منسوخ حكماً فلا يعملون بشيء من تشريعاته، وقد ألغي العمل به بولس إلاّ أنهم يعتقدون قداسته ويستفيدون منه معارفهم الدينية مثل المعلومات المتعلقة بخلق السموات والأرض، وخلق آدم، وقصص الأنبياء، كما يقتبسون منه كثيراً من الأدعية في صلواتهم وخاصة من المزامير، التي تتضمن كثيراً من الأدعية والابتهالات.

23- رسالة يوحنا الأولى 24- رسالة يوحنا الثانية 25- رسالة يوحنا الثالثة 26- رسالة يهوذا 27- رؤيا يوحنا اللاهوتي وسنكتفي في هذه الدراسة الموجزة ببيان حال الأناجيل من ناحية ثبوتها وصحة نسبتها إلى من تنسب إليه، وهل يصح اعتبارها كتباً مقدسة أم لا 1؟.

_ 1 الرسائل الملحقة بالأناجيل هي في الحقيقة أقل حالاً من ناحية صحة نسبتها إلى من تنسب إليه وإن كان لها في الواقع الدور الأكبر في تشكيل الديانة النصرانية وخاصة رسائل بولس.

المطلب الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة

المطلب الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة تمهيد:- الإنجيل كلمة يونانية تعني الخبر الطيب1 (البشارة) . والإنجيل عند المسلمين: هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام فيه هدى ونور. قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} المائدة آية (46) . وقد دعا المسيح عليه السلام بني إسرائيل للأخذ بالإنجيل والإيمان به، فقد جاء في إنجيل مرقص (1/14) : "وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". وقد ذكر هذا الإنجيل أوائل النصارى ودعوا إلى الإيمان به، وفي هذا يقول سفر أعمال الرسل 8/25 عن بطرس ويوحنا في دعوتهما للسامريين من اليهود "وكما شهدا وتكلما بكلمة الرب رجعا إلى أورشليم وبشرا بالإنجيل في قرى كثيرة للسامريين"2

_ 1 قاموس الكتاب المقدس ص 120. 2 هذا النص مأخوذ من نسخة الكتاب المقدس المطبوعة في لبنان عام 1992م بعناية اغناطيوس زيادة/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، أما النسخة المعربة عن العبرانية التي استخدمها في العادة والمكتوب عليها "دار الكتاب المقدس في القاهرة" وهي النسخة البروتستانتية لا يوجد فيها كلمة الإنجيل في هذا الموضع.

وذكره بولس أيضاً في رسائله، مثل قوله في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي (2/2) "جاهرنا في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله في جهاد كثير لأن وعظنا ليس عن ضلال ولا عن دنس ولا بمكر، بل كما اسْتُحْسِنا من الله أن نؤتمن على الإنجيل هكذا نتكلم ... ثم يقول -: ... فإنكم أيها الأخوة تذكرون تعبنا وكدنا إذ كنا نكرز لكم بإنجيل الله.." 1. فإذاً الإنجيل كان كتاباً موجوداً ومعروفاً لدى النصارى الأوائل بأنه إنجيل الله أو إنجيل المسيح، إلا أن هذا الإنجيل لا نجده بين الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى اليوم: فأين هو؟ 2

_ 1 وانظر أيضاً ذكره للإنجيل في رسالته إلى أهل روميه (1/1،9،16) ورسالته الأولى إلى تيموثاوس (1/11) . 2 يزعم بعض النصارى أن المسيح لم ينزل عليه شيء ولم يترك كتاباً مكتوباً، وذكروا أن الأناجيل كان مبدؤها من الأجيال اللاحقة للمسيح، وذكروا أن المراد بالإنجيل في كتبهم هو إعلان مجد الله الذي هو في زعمهم تجسد المسيح - انظر المدخل إلى العهد الجديد ص 76-78، أديان العالم ص257. وهذا منهم ذر للرماد في العيون من أن تبصر الحقيقة، وهي أن النصارى ضيعوا الإنجيل الأصلي، واستبدلوه بأناجيل فيها شيء من الحق وكثير من الباطل، فهل من المعقول أن يترك المسيح أتباعه بدون أن يسلمهم تعاليم يهتدون بها وهم في وسط ذلك الوضع الذي كانوا فيه بين اليهود الحاقدين المعاندين وبين الرومان وغيرهم من الوثنيين الجاهلين، ثم إن ما تدعيه النصرانية في المسيح عليه السلام من الدعاوى يحتاج إلى أدلة كتابية من صاحب الدعوى نفسه لا من غيره، لأن المؤمنين إنما يؤمنون بكلام النبي الذي يثقون به لا كلام غيره من الناس، إذ أن غيره قد يفهم عنه خطأً أو يهم أو ينسى أو غير ذلك من العوارض البشرية، كما أن معنى ذلك أن تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه أصح من المسيح رأياً وانصح منه للخلق إذ كتبوا ودونوا واهتموا بالكتابة حتى يمكن لتعاليمه أن تنتشر لأنه بدون الكتابة لا يمكن لديانة أن تنتشر وتظهر، فهل يليق أن يقال ذلك عن المسيح الذي هو في زعمهم رب وإله؟!

على النصارى أن يجيبوا على هذا السؤال، أو يعترفوا بأنهم فقدوه في زمن مبكر من تاريخهم، ولعل هذا هو الأرجح. إذ يقول الله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} المائدة آية (14) . وقد صار عند النصارى بدل الإنجيل الواحد أربعة أناجيل يجعلونها في مقدمة كتابهم العهد الجديد، ولا ينسبون أياً منها إلى المسيح عليه السلام، وإنما هي منسوبة إلى متى ومرقص ولوقا ويوحنا - الذي يزعم النصارى أن اثنين منهم من الحواريين وهما متى ويوحنا، والآخران أحدهما مرقص تلميذ بطرس، والآخر لوقا تلميذ بولس في زعمهم. وهذه الأناجيل تحوي شيئاً من تأريخ عيسى عليه السلام حيث ذُكِرَ فيها ولادته، ثم تنقلاته في الدعوة، ثم نهايته بصلبه وقيامته في زعمهم، ثم صعوده إلى السماء. كما تحتوي على مواعظ منسوبة إليه وخطب ومجادلات مع اليهود ومعجزات كان يظهرها للناس دليلاً على صدقه في أنه مرسل من الله، فهذه الأناجيل أشبه ما تكون بكتب السيرة، إلا أن بينها إختلافات ليست قليلة، وبعضها إختلافات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها إلا بالتعسف كما سيتبين.

والقارئ لهذه الأناجيل الأربعة يستطيع بسهولة أن يدرك أن ما ورد فيها من دعوة وخطب ومواعظ ومجادلات تعود إلى مطلبين أساسيين، هما: 1- الدعوة إلى التوبة والعمل بما جاء في الشريعة التي أنزلت على موسى عليه السلام. 2- التبشير بقرب قيام مملكة الله التي يتحقق فيها العدل والمساواة1.

_ 1 انظر: المسيحية نشأتها وتطورها: شارل جنيبر ص 49، النصرانية والإسلام محمد عزت الطهطاوي ص 14.

أولاً: تاريخ الأناجيل الأربعة إجمالاً: قبل الحديث عن تاريخ الأناجيل الأربعة لدى النصارى لابد من بيان: أن الكتب الدينية لها مكانة عظيمة لدى أتباعها، ولها دور خطير في الحياة، إذ يعتمد عليها في توضيح الطريق إلى سعادة الدنيا وفوز الآخرة. فلهذا يجب أن تكون الكتب ثابتة الإسناد إلى أصحابها الذين هم رسل الله والمبلغون عن الله عز وجل، فإذا لم تكن كذلك فإنها تفقد قيمتها، إذ تكون عرضة للتحريف والتبديل من قبل أصحاب الأهواء والمقاصد الخبيثة، أو من قبل العوارض البشرية كالنسيان، وقلة العلم، والوهم ونحو ذلك. فصحة الإسناد بعدالة رواة الأخبار وضبطهم وعدم انقطاعه هو السبيل الذي يمكن به وصول هذه الكتب إلى الناس سليمة صحيحة كاملة، فيتعرف الناس على الحق من خلالها. وإذا نظرنا في كتب الحديث عند أهل الإسلام والتي تتضمن أقوال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريرا ته وجميع ما يتعلق به، عرفنا الجهد العظيم الذي بذله أولئك الأئمة في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليماً صحيحاً، حيث يستطيع المسلم في القرن الخامس عشر الهجري أن يعرف صحة الحديث من عدمها. وإذا بحثنا في التاريخ لدى النصارى عن إسناد لهذه الأناجيل إلى من تنسب إليه لا نجد من ذلك شيئاً البتة لا قليلاً ولا كثيراً. ورسائل بولس وكذلك الرسائل الأخرى وأعمال الرسل ليس في شيء منها إشارة إلى واحد من هذه الكتب الأربعة، الأمر الذي يترتب عليه أن هذه الكتب لم تكن معروفة

في ذلك الزمن ولم يطلع عليها أحد منهم، وفي هذا دلالة قوية على أن نشأة هذه الكتب وظهورها كان متأخراً عن هذه الرسائل، بخلاف إنجيل الله أو إنجيل المسيح فقد ورد ذكره في كلام بولس مراراً عديدة، كما ورد ذكره في إنجيل مرقص، وأعمال الرسل مما يدل على وجوده وأنه معروف معلوم1. وقد حاول النصارى أن يجدوا لهذه الكتب إسناداً أو إخباراً عنها في كلام متقدميهم يتفق مع الزمن الذي يزعمون أنها كتبت فيه، وهو الربع الأخير من القرن الأول الميلادي على أكثر تقدير. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع، مما اضطرهم إلى الاعتراف بأن هذه الكتب لم تعرف إلا بعد موت من تنسب إليه بعشرات السنين، فتكون نسبتها إلى أولئك الناس نسبة لا تقوم على أدنى دليل، وإليك بعض كلام النصارى في هذا الأمر: يقول القس فهيم عزيز الأستاذ بكلية اللاهوت الإنجيلية: "لكن قانونية2 أسفار العهد الجديد لم تتم في وقت واحد ولم يكفها جيل أو جيلان بل استمرت مدة طويلة، ولم تقف الكنائس المختلفة موقفاً موحداً من الأسفار المختلفة، بل إختلفت آراؤها من جهة بعض الأسفار واستمرت في ذلك حقبة طويلة، فلهذا فيلزم تتبع هذا التاريخ الطويل لقانونية أسفار العهد الجديد. الكنيسة الأولى: يوم الخمسين 3 -100م: من المعلوم جيداً أنه لم تكن في تلك الفترة كتب مقدسة تسمى العهد

_ 1 سبق ذكر ذلك ص 171. 2 ذكر الدكتور القس فهيم عزيز أن المراد بكلمة "القانون" هو الكتاب الذي اعترفت به الكنيسة، فقانونية العهد الجديد أي اعتراف الكنيسة بالعهد الجديد. 3 يوم الخمسين: هو من الأعياد اليهودية، ويزعم النصارى أن الروح القدس بعد رفع المسيح حل على الحواريين في يوم الخمسين فتكلموا بلغات كثيرة، ويتخذ النصارى ذلك اليوم عيداً يسمونه عيد العنصره. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 350.

الجديد1، ولكن الكنيسة لم تمكث بدون مصادر إلهية تستند عليها في كل شيء من وعظ وتعاليم وسلوك ومعاملات، وقد كان لها في هذا المجال ثلاثة مصادر". ثم ذكر أن المصادر الثلاثة هي: العهد القديم، المسيح، الرسل، ثم قال: " ثانياً: 100-170م ظهور الكتب القانونية في العهد الجديد: كانت أول مجموعة عرفتها الكنيسة من العهد الجديد هي مجموعة رسائل بولس. فهي أول ما جمع من كل كتب العهد الجديد 2، ولقد كتب بولس رسائله إلى كنائس وأفراد لظروف خاصة ومواقف محدده.. ثم قال: أما المجموعة الثانية: فهي مجموعة الأناجيل الأربعة، وقد ظهرت هذه المجموعة متأخرة بعض الوقت عن مجموعة كتابات بولس. ومع أن تاريخ إعتبارها كتباً قانونية مقدسة متساوية في ذلك مع كتب العهد القديم لا يزال مجهولاً3، لكن الاقتباسات العديدة التي وجدت في كتابات آباء الكنيسة الرسوليين وشهاداتهم تلقى بعض الضوء على هذه الحقيقية الجوهرية في العصر المسيحي ويلاحظ الدارس الأمور الآتية:

_ 1 مراده أنه إلى نهاية عام 100م ليس هناك ما يعرف بالعهد الجديد، أي أن الأناجيل والكتب الأخرى غير معروفة في ذلك الزمن، وإنما كتبت ودونت بعد ذلك. 2 إن انتشار رسائل بولس وتداولها قبل الأناجيل له معنى خطير، وهو أنه أملي على الناس ما يعتقدون من خلال رسائله، فتكون الأناجيل كتبت بعد أن تشبع أصحابها بالعقيدة البولسية. 3 يقصد أنه لا يعرف متى صارت هذه الأناجيل والرسائل مقدسة لدى النصارى.

1- أن بولس لم يشر في كتاباته إلى أي من الأناجيل المكتوبة ولا إلى أي كتاب عن حياة المسيح أو أقواله.." 1 ثم ذكر المصنف سبع نقاط أخرى أورد في بعضها إقتباسات لمتقدمين من النصارى تتوافق في بعضها مع ما ورد في بعض الأناجيل بدون النص على اسم الإنجيل. 2 وأهم ما ذكره من الملاحظات هي قوله في الملاحظتين السابعة والثامنة: 7- أما جاستن أو يوستينوس الشهيد3 الذي كان سامرياً يونانياً وتحول إلى المسيحية ودرس في روما واستشهد حوالي 165 م فيؤخذ من كتاباته أنه قد عرف الأناجيل الأربعة مرتبطة معاً، مع أنه لم يكشف النقاب عمن جمعها ولا في أي مكان جمعت، وهو يصفها عندما يذكرها في دفاعه ضد الوثنيين بأنها الذكريات، ولكنه عندما كان يكتب للمسيحين كان يقول عن الرسل4: "هم أولئك الذين كتبوا ذكرياتهم عن كل الأشياء

_ 1 سبق بيان أن بولس ذكر مراراً إنجيل الله كما سبق التعليق على نحو كلام القسيس هنا انظر ص 171-172. 2 مراده بالإقتباسات هنا: ورود بعض العبارات في كتب المتقدمين تتفق مع ما يوجد في الأناجيل، إلا أن هذا ليس دليلاً على وجود تلك الأناجيل في تلك الفترة، واطلاع أولئك الكتاب الذين اقتبسوا تلك الجمل والعبارات عليها إلا باحتمال ضعيف، والإحتمال الأقوى هو أن الجميع كانوا يأخذون من مصدر واحد كان متوفراً ومبثوثاً في كتب عديدة، أو أن الروايات الشفوية كانت منتشرة يحفظ هذا منها قليلاً وذاك منها قليلاً. وهذا أمر آخر غير ما يدعي في الأناجيل. 3 سيأتي التعريف به في عوامل تحريف رسالة المسيح عليه السلام. 4 يلاحظ هنا أن النصارى يستخدمون كلمة الرسل يعبرون بها عن دعاة النصارى الأوائل باعتبار أنهم رسل ربهم المسيح أو رسل الروح القدس.

التي تختص بيسوع المسيح المخلص." ثم يقول مرة أخرى "الذكريات1 التي عملها الرسل التي تسمى الأناجيل "2. 8- أما الشاهد الأخير فهو "الديا طسرن" الذي كتبه "تاتيان"3، وأراد أن يجمع فيه الأناجيل الأربعة معاً في إنجيل واحد، وقد أضاف تاتيان هذا بضعة كلمات للمسيح لا توجد في هذه الأناجيل، ولكنها أخذت من كتب أبوكريفيه4 أخرى، وهو بذلك يشهد أن الأربعة الأناجيل وجدت معاً، ولكن إضافاته مجرد إقتباسات لا تدل على أنه كان يعتبر أن هناك كتباً أخرى تضارعها في سلطانها وقداستها5"6. وبعد هذا النقل عن أحد القسس المتعمقين والمتخصصين في دراسات العهد الجديد، ننقل كلام مجموعة من المتخصصين النصارى عن أناجيلهم وذلك

_ 1 قوله هنا "الذكريات" لها دلالة واضحة في أن ما كتب كان قد مضى عليه زمناً طويلاً، فاحتمال النسيان والخطأ وعدم الدقة في نقل الألفاظ والأحداث، إلى غير ذلك وارد فيها مما لا يجعلها أهلاً أن تكون كتباً مقدسه يهتدي بكل تشريع فيها ويصدق كل حدث ورد بها. 2 هذا الشهادة لا قيمة لها لأن جاستن لم ينص على اسم واحد من الأناجيل الأربعة، كما أن الفترة التي يتحدث عنها الكاتب كان فيها لدى النصارى عشرات الأناجيل التي تنسب إلى من يزعم النصارى أنهم تلاميذ المسيح، وقد رفضها النصارى فيما بعد عدا الأناجيل الأربعة، فإذاً احتمال أنه يشير إلى غير هذه الأربعة المعروفة احتمال قوي. 3 سيأتي التعريف به في فصل عوامل انحراف النصرانية. 4 أبوكر يفيه: أي غير قانونية ولا معترف بها. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 18. 5 تناقض القسيس في كلامه هنا، فهو من قبل زعم أنه لا يعرف تاريخ اعتبار الأناجيل الأربعة قانونية ومقدسة، وهو هنا يزعم أن تاتيان كان يرى قداسة الأناجيل الأربعة وأن غيرها لا يضارعها في ذلك. وهذا تناقض واضح. 6 المدخل إلى العهد الجديد. دار الثقافة المسيحية. مطبعة دار الجيل مصر. ص 146-152.

في المدخل إلى العهد الجديد1 قالوا في التعريف بتأريخ وقانونية العهد الجديد ما يلي: " لقد سيطرت على المسيحيين الأوائل فكرة، تناقلتها الألسن شفاهاً - تعلن إنتهاء هذا العالم سريعاً وعودة المسيح ثانية إلى الأرض ليدين الناس، وكان من بين نتائج هذا المعتقد أن توقف التفكير في تأليف كتابات مسيحية تسجل أخبار المسيح وتعاليمه، فتأخر لذلك تأليف الأناجيل، إذ لم يشرع في تأليف أقدمها - وهو إنجيل مرقس الذي لم يكن قط من تلاميذ المسيح - إلا بعد بضع عشرات من السنين، لقد كانوا يؤمنون بنهاية العالم وعودة المسيح سريعاً إلى الأرض: قبل أن يكمل رسله التبشير في مدن إسرائيل وهي عملية لا تستغرق أكثر من عدة أشهر أو بضع سنين على أكثر تقدير..... "الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" متى 10/23". - وقبل أن يموت عدد من الذين وقفوا أمامه يستمعون إلى تعاليمه ومواعظه. وهي فترة يمكن تقديرها دون خطأ يذكر في حدود خمسين عاماً على أقصى تقدير: "الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن

_ 1 هذا ليس هو الكتاب السابق وإنما هو توافق في المسمى، والمراد بـ "المدخل إلى العهد الجديد" هنا هو المقدمة التي يجعلها النصارى في بعض الأحيان مقدمة كتابهم المقدس للتعريف به، وهذه المعلومات مأخوذة من مدخل إلى العهد الجديد للكاثوليك وعنوانه " العهد الجديد" منشورات دار المشرق- بيروت 1985- الطبعة العاشرة اعتماد: "بولس باسيم" النائب الرسول للاتين" وقد نقلت النص بواسطة من الكتاب القيم "إختلافات في تراجم الكتاب المقدس" لأحمد عبد الوهاب. وذلك لعدم تمكين من الحصول على طبعة الكتاب المقدس التي تحتوي على تلك المعلومات.

الإنسان آتياً في ملكوته" متى (16/28) - وهو يعود ثانية إلى الأرض قبل أن يفنى ذلك الجيل الذي عاصر المسيح، وهي فترة لا تتجاوز أقصى ما قدرناه، أي خمسين عاماً: ....... "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" متى (24/24) . ومعلوم أن ذلك كله لم يحدث، إذ لا يزال الكون قائماً، وبنو آدم يعيشون في عالمهم الدنيوي حتى يأتي أمر الله، هذا - ولما بردت الحمية التي أثارتها فكرة عودة المسيح سريعاً إلى الأرض، ظهرت الحاجة ماسة إلى تدوين الذكريات عنه وعن تعاليمه، ومن هنا كانت النواة لتأليف أسفار – ما صار يعرف فيما بعد باسم - العهد الجديد، وهي الأسفار التي لم يعترف بشرعيتها إلا على مراحل وعلى امتداد أكثر من ثلاثة قرون. إن كلمة "قانون" اليونانية مثل كلمة "قاعدة" في العربية قابلة لمعنى مجازي يراد به قاعدة للسلوك أو قاعدة للإيمان، وقد استعملت هنا للدلالة على جدول رسمي للأسفار التي تعدها الكنيسة ملزمة للحياة وللإيمان. ولم تندرج هذه الكلمة بهذا المعنى في الأدب المسيحي إلا منذ القرن الرابع1، كانت السلطة العليا في أمور الدين تتمثل عند مسيحي الجيل الأول في مرجعين. أولهما: العهد القديم، وكان الكتبة المسيحيون الأولون يستشهدون بجميع أجزائه على وجه التقريب إستشهادهم بوحي الله.

_ 1 أي أن الأناجيل الأربعة لم يكن معترفاً بها إلا في القرن الرابع الميلادي.

وأما المرجع الآخر الذي نما نمواً سريعاً، فقد أجمعوا على تسميته: الرب1. ولكن العهد القديم كان يتألف وحده من نصوص مكتوبة، وأما أقوال الرب وما كان يبشر به الرسل، فقد تناقلتها ألسنة الحفاظ2 مدة طويلة، ولم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة3 كل من: تدوين أهم ما علَّمه الرسل، وتولى حفظ ما كتبوه 4. ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150 م تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس واستعملوها في حياتهم الكنسية، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس، بل كانوا يَدَعُون الأحداث توجههم، فقد كانت الوثائق البولسية مكتوبة، في حين أن التقليد الإنجيلي كان لا يزال في معظمه متناقلاً على ألسنة الحفاظ. ولا يظهر شأن الأناجيل طوال هذه المدة ظهوراً واضحاً كما يظهر شأن رسائل بولس 5.

_ 1 مرادهم بالرب هنا هو المسيح عليه السلام والمقصود أقواله المأثورة عنه. 2 قولهم الحفاظ هنا كلمة فيها تجوُّز شديد يتبين هذا من خلال النظر فيما دُوِّن وأنه مليء بالأخطاء والاختلافات، كما أنه لا يعرف في تاريخ النصارى الأوائل تدارس تلك الروايات المنقولة عن المسيح والاجتهاد في حفظها على الوجه الذي يكون مقبولاً ويحق معه إطلاق صفة الحفاظ عليهم. 3 هذا فيه اعتراف واضح بأن أياً من أتباع المسيح المباشرين لم يكتب إنجيلاً ولم يمله على تلاميذه. 4 ليس هناك في الواقع أي دليل يثبت أن تلاميذ المسيح المباشرين كتبوا شيئاً من الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى اليوم. 5 هذا فيه دلالة على أن الأناجيل لم تكتب إلا بعد رسائل بولس، لأنها لو كانت موجودة لما أمكن أن يعرض الناس عنها ويهملونها، وهي الأصل، ويهتموا برسائل بولس.

أجل لم تخل مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين من شواهد مأخوذة من الأناجيل أو تلمح إليها، ولكنه يكاد أن يكون من العسير في كل مرة الجزم: هل الشواهد مأخوذة من نصوص مكتوبة كانت بين أيدي هؤلاء الكتبة، أم هل إكتفوا باستذكار أجزاء من التقليد الشفهي؟ ومهما يكن من أمر، فليس هناك قبل السنة 140م أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، ولا يذكر أن لمؤلَفٍ من تلك المؤلفات صفة ما يلزم، فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني شهادات ازدادت وضوحاً على مر الزمن بأن هناك مجموعة من الأناجيل وأن بها صفة ما يلزم، وقد جرى الاعتراف بتلك الصفة على نحو تدريجي. فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة 170م بمقام الأدب القانوني وإن لم تستعمل تلك اللفظة حتى ذلك الحين. لم يوضع (لم يستقر) الجدول التام للمؤلفات العائدة إلى القانون إلا على نحو تدرجي وكلما تحقق شيء من الاتفاق، فهكذا بجدر بالذكر ما جرى بين السنة 150م والسنة 200م إذ حدد على نحو تدرجي أن سفر أعمال الرسل مؤلف قانوني، وقد حصل شيء من الإجماع على رسالة يوحنا الأولى. ولكن مازال هناك شيء من التردد في بعض الأمور: فإلى جانب مؤلفات فيها من الوضوح الباطني ما جعل الكنيسة تتقبلها تقبلها لما لابد منه، هناك عدد كبير من المؤلفات الحائرة يذكرها بعض الآباء ذِكْرَهم لأسفار قانونية، في حين أن غيرهم ينظر إليها نظرته إلى مطالعة مفيدة ذلك شأن: الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة بطرس الثانية، وكل من رسالة يعقوب ويهوذا.

وهناك أيضاً مؤلفات جرت العادة أن يستشهد بها في ذلك الوقت على أنها من الكتاب المقدس، ومن ثم جزء من القانون، لم تبق زمناً على تلك الحال، بل أخرجت آخر الأمر من القانون، ذلك ما جرى لمؤلَّف: هرماس، وعنوانه الراعي، وللديداكي ورسالة إكليمنضس الأولى، ورسالة برنابا، ورؤيا بطرس، وكانت الرسالة إلى العبرانيين، والرؤيا، موضوع أشد المنازعات، وقد أنكرت صحة نسبتها إلى الرسل إنكاراً شديداً مدة طويلة. ولم تقبل من جهة أخرى إلا ببطء: رسالتا يوحنا الثانية والثالثة ورسالة بطرس الثانية، ورسالة يهوذا. ولا حاجة إلى أن نتتبع تتبعاً مفصلاً جميع مراحل هذا التطور الذي أدى خلال القرن الرابع إلى تأليف قانون هو في مجمله القانون الذي نعرفه اليوم"1. من خلال هذا البيان والنقل المطول عن النصارى أنفسهم في حديثهم عن كتبهم يتلخص لنا ما يلي: 1- أن الله أنزل كتاباً على المسيح سماه الإنجيل، ودعا المسيح عليه السلام الناس إلى الإيمان به وذكره أوائل النصارى، كما ذكره بولس في رسائله. 2- أن النصارى لا يعرفون شيئاً عن مصير ذلك الإنجيل، ولا أين ذهب!!. 3- أنه كانت هناك روايات شفوية ووثيقة مشتركة متداولة كان بتناقلها ودعاة النصارى الأوائل، ويعتقد أنها كانت المصدر الأساسي لأوجه

_ 1 نقلاً عن كتاب"اختلافات في تراجم الكتاب المقدس" أحمد عبد الوهاب ص76-81.الناشر مكتبة وهبه - الطبعة الأولى 1407هـ. وانظر في تأييد المعلومات الواردة هنا كتاب "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" لموريس بوكاي من ص98-103.

الاتفاق بين الأناجيل1. وأرى أن تلك الروايات الشفوية لا يبعد أن يكون الإنجيل الأصلي من ضمنها إلا أن النصارى لم يدونوه مجموعة واحدة، كما أنهم لم يميزوه عن غيره من الروايات، مما جعله غير محدد ولا يستطيع أحد الجزم والاعتقاد بشيء من النصوص أنها منه وهذا تصديق قول الله عز وجل {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة (14) . 4- أن المتقدمين من النصارى لم يشيروا إلى الأناجيل الأربعة ولم يذكروها ألبته، فبولس -على كثرة رسائله- لم يذكرها في رسائله أبداً، وكذلك لم يذكرها سفر أعمال الرسل الذي ذكر دعاة النصارى الأوائل وهذا يدل على أن هذه الكتب لم تكن موجودة في ذلك الزمن وأنها ألفت وكتبت بعد ذلك. 5- أن أول من ذكر مجموعة من الكتب المدونة ذكراً صريحا هو جاستن الذي قتل عام 165م، وهذا لا يدل صراحة على الأناجيل الأربعة نفسها، وأما أول محاولة للتعريف بها ونشرها فكانت عن طريق "تاتيان" الذي جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد سماه "الدياطسرن" في الفترة من (166-170م) وهذا هو التاريخ الذي يمكن أن يعزى إليه وجود هذه الكتب، وهو تاريخ متأخر جداً عن وفاة من تعزى إليهم هذه الكتب إذ أنهم جميعاً ماتوا قبل نهاية القرن الأول، مما يدل على أنهم برءاء منها وأنها منحولة إليهم. 6- أنه حتى بعد هذا التاريخ وهو 170م إلى القرن الرابع الميلادي لم تكن

_ 1 انظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص94-95،98

الأناجيل الأربعة وحدها هي الموجودة، بل كانت هناك أناجيل كثيرة موجودة منتشرة ربما تبلغ مائة إنجيل1 ولم يكن لأي منها صفة الإلزام والقداسة، وذلك أمر تكون الأناجيل الأربعة معه عرضة للتحريف والتغيير خلال تلك الفترة أيضاً. 7- أن النصارى لا يعرفون بالضبط تاريخ إعطاء هذه الكتب صفة الإلزام والقداسة، وإنما يرون أنه خلال القرن الرابع الميلادي أخذت كتبهم صفة القداسة بشكل متدرج، يعني: رويداً رويداً. 8- أن النصارى لا يملكون السند لكتبهم، ولا يعرفون مصدرها الحقيقي، ولا تعدوا أن تكون كتباً وجدوها منحولة إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم فنسبوها إليهم، واعتقدوا صحة ذلك بدون دليل، وهذا أمر لا يمكن أن يعطي النفس البشرية القناعة المناسبة لما تراد له هذه الكتب في الأصل من تجنب سخط الله وبلوغ رضوانه. 9- أننا نعجب غاية العجب من زعم النصارى: أن هذه الكتب حقيقية وصادقة وتنقل بأمانه وإخلاص كلام المسيح وتروي أخباره2. كيف تجرؤا على مثل هذا الكلام، وكيف قبله أتباعهم مع أنهم لا يملكون الدليل على ذلك وكل دعوى عريت عن الدليل فهي باطله.

_ 1 انظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص99 2 يقول النصارى في المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان المنعقد في الفترة من 1962-1965م عن العهد الجديد. "وآمنت أمناً الكنيسة المقدسة وتؤمن بكل قوة وثبات أن الأناجيل الأربعة المذكورة تنقل إلينا بكل أمانة ما صنعه حقاً يسوع ابن الله من أعمال وما أعلنه من تعاليم أثناء حياته بين البشر إلى يوم صعوده إلى السماء " الطبعة الثانية 1979م لوثائق المجمع ص 413. وانظر أيضاً "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" لموريس بوكاي ص 78 حيث نقل النص المذكور.

قال الله عز وجل {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} الأنعام (148) . وكل من تحدث في دين الله بلا علم فهو ضال مضل قال عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} الحج (3) . {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} الحج (8-9) . ولأن دعاويهم عارية عن الدليل فهي نابعة من الهوى، فلهذا سمى الله عز وجل ما عند اليهود والنصارى من دين أهواءاً في قوله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} البقرة (120) . ولكن ذلك العجب يذهب وتلك الدهشة تزول إذا علمنا أن للآباء والكبراء والسادة من أهل الضلالة الذين يسعون إلى المحافظة على مكاسبهم الدنيوية الدور الأكبر في إضلال العوام والدهماء الذين لا يستخدمون ما وهبهم الله من عقل وسمع وإدراك وإنما يتابعون وينقادون إنقياد الأعمى، وفي هذا يقول الله عز وجل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} المائدة (104) .

وقال عز وجل {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} الأحزاب (65-68) . والواجب على الإنسان أن لا يخضع للتقليد فيما تتعلق به نجاته وسعادته أو هلاكه وشقاوته بل يتحقق من الأمر ويتأكد من صحته ويسأل الله الهداية والتسديد والرشد إلى أن يصل إلى الحق والنور الذي لن يخطئه بإذن الله تعالى إذا أخلص الطلب واجتهد في الدعاء وتحرر من الأهواء والتقليد والعصبية.

ثانياً: تاريخ الأناجيل الأربعة تفصيلاً: سبق الحديث عن الأناجيل الأربعة من ناحية السند إجمالاً بقي أن نبين هنا ما يتعلق بكل إنجيل منها منفرداً: أولاً: إنجيل متى: يصدر النصارى كتابهم المقدس بهذا الإنجيل، فهو أول كتبهم في الترتيب، وهو أطولها إذ يحوى ثمانية وعشرين إصحاحاً. ويزعم النصارى أن "متى" الذي ينسب الكتاب إليه هو أحد الحواريين وكان قبل إتباعه للمسيح عشاراً "جابي ضرائب". إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يبرزوا لنا دليلاً يعتمد عليه في صحة نسبة هذا الكتاب إلى "متى"، وأقدم من يعتمدون على قوله في نسبة الكتاب إلى "متى" أحد كتابهم ويسمى "يوسابيوس القيصري" في كتابه "تاريخ الكنيسة" حيث نقل عن أسقف كان لهيرا بوليس سنة (130م) يدعى "بابياس" والذي كان أنه قال: "إن متى كتب الأقوال باللغة العبرانية"1. وهذا القول ولدى جميع العقلاء لا يمكن أن يعتمد عليه في إثبات صحة نسبة الكتاب إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري. وذلك لأن "بابياس" المذكور هنا لم يكن سمع تلك التعاليم وتلك الكتب من أصحابها، بل كان يسمعها بواسطة، حيث يقول عن نفسه فيما ذكر عنه "يوسابيوس": "وكلما أتى

_ 1 انظر: تاريخ الكنيسة ليوسابيوس 178، كتاب تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/152) ، وكتاب المدخل إلى العهد الجديد ص 243.

واحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيد بقدر ما يصل من الصوت الحي" 1. فهو هنا لا يتحرى في النقل، ومما لاشك فيه أن أولئك الوسائط لابد أن تثبت عدالتهم وإلا فلا يعتد بما يروونه ويقولونه. كما أن "يوسابيوس القيصري" قد طعن في بابياس نفسه حيث قال عن رواياته: "ويُدَوِنُ نفس الكاتب روايات أخرى يقول إنها وصلته من التقليد غير المكتوب، وأمثالاً وتعاليم غريبة للمخلص وأموراً خرافية ... ". ثم قال عنه وعن آرائه: "وأظن أنه وصل إلى هذه الآراء بسبب إساءة فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرك أن أقوالهم كانت مجازية، إذ يبدو أنه كان محدود الإدراك جداً كما يتبين من أبحاثه، وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من أباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين في ذلك على أقدمية الزمن الذي عاش فيه"2. فهذه طريقة "بابياس" في النقل حيث ينقل عن كل من اتبع المشايخ بدون تحر لمقدرة التلميذ على الحفظ والضبط للروايات والعدالة وما إلى ذلك من شروط صحة الخبر، كما أن بابياس نفسه ضعيف التمييز بين الأقوال محدود الإدراك جداً. فكيف تعتبر أقوال من هذه حاله في أخطر قضية وهي الشهادة لكتاب بأنه كلام رب العالمين؟

_ 1 تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصري ص 175. 2 المصدر السابق ص 177.

كما أن في المقابل هناك عدة أدلة تدل على عدم صحة نسبة الإنجيل إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري وهي: 1- أن النصارى لم ينقلوا الإنجيل بالسند، وقول بابياس السابق لم يعين فيه من هو متى هل هو الحواري؟ أم رجل أخر؟ كما أنه لم يعين الكتاب بل قال: "الأقوال". وأيضاً فقد ذكر أمراً آخر يختلف تماماً عما عليه إنجيل متى الموجود وهو أنه قال: إنه كتبه باللغة العبرانية، مع أن النصارى يجمعون على أن: الكتاب لم يعرفوه إلا باللغة اليونانية، ولا يعرفون للكتاب نسخة عبرانية، بل الكثير منهم يرى أن: الكتاب يظهر من لغته أنه أول ما كتب إنما كتب باللغة اليونانية، وليس العبرانية1، فهذا يدل على أن قول بابياس لا ينطبق على إنجيل متى الموجود بين يدي النصارى. كما أن هناك إستفساراً آخر في حالة أن يكون الإنجيل مترجماً من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية، وهو: من هو مترجمه؟ وهذا أمر مهم، لأنه ما لم يعلم دين المترجم، وصدقه، وضبطه، وقوة معرفته باللغتين لا يمكن أن يعتمد على ترجمته. 2- إن الدارسين لهذا الكتاب والباحثين من النصارى وغيرهم يرون أن كاتب هذا الإنجيل إعتمد كثيراً على إنجيل مرقص2، ومرقص في كلام النصارى تلميذ بطرس، فهل من المعقول أن يعتمد أحد كبار الحواريين في زعمهم على

_ 1 المدخل إلى العهد الجديد ص 243. 2 المدخل إلى العهد الجديد ص243. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل العلم ص82.

تلميذ من تلاميذهم في الأمور التي هم شاهدوها وعاينوها وعايشوا أحداثها؟ هذا يدل على أن كاتبه غير "متى" الذي يزعمون أنه حواري، وأن دعوى النصارى أن كاتب الإنجيل هو متى الحواري دعوى عارية عن الدليل وهي من باب الظن والتخمين الذي لا يغني من الحق شيئاً. ثانياً: إنجيل مرقص: هذا الإنجيل الثاني في ترتيب الأناجيل لدى النصارى وهو أقصرها إذ أنه يحوى ستة عشر إصحاحاً فقط. أما كاتب الإنجيل فهو في زعم النصارى رجل من أتباع الحواريين والمعلومات عنه قليلة جداً وغامضة، ولا تتضح شخصيته وضوحاً يُطمئن النفس، إذ أن كل ما ورد عنه الإشارة إلى أن اسمه يوحنا، ويلقب مرقص، وأنه صاحَبَ بولس وبرنابا في دعوتهما، ثم افترق عنهما، ثم ذكر بولس في رسائله إسم مرقص ذكراً مقتضباً لا يعطي غناءاً في التعريف به1، وورد ذكر إسمه مع بطرس حيث يقول عنه "تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم ومرقص ابني"2. فهذه المعلومات يفهم منها أن الرجل مجهول، إذ أنها لم تعط تعريفاً بدينه،

_ 1 انظر رسالة بولس إلى كولوسى (4/10) ورسالته الثانية لتيموثاوس (4/11) ، ورسالته إلى فليمون (25) . 2 رسالة بطرس الأولى 5/12. ولا بد أن يعلم أنه لا يوجد لدى النصارى أي دليل يثبت أن كاتب الإنجيل هو مرقص ابن أخت برنابا، وهو مرقص رفيق بولس، وهو تلميذ بطرس بل الأقرب أن أولئك أربعة أشخاص لهم اسم واحد، خاصة إذا علمنا أن اسم مرقص كان اسماً منتشراً في ذلك الزمان.

وعلمه، وأمانته، ونحو ذلك مما يجب توافر معرفته فيمن يكون واسطة لكتاب مقدس. أما الكتاب وهو الإنجيل: فأقدم المعلومات التي عزته إلى من يسمى مرقص ما نقله "يوسابيوس" في تاريخه الكنسى عن بابياس حيث قال:"ولقد قال الشيخ أيضاً إن مرقص الذي صار مفسراً لبطرس قد كتب بكل دقة كل ما تذَكَّره من أقوال وأعمال الرب، ولكن ليس بالترتيب لأنه لم يسمع الرب ولم يتبعه، ولكن كما قلت قبلاً عن بطرس الذي ذكر من تعاليم السيد ما يوافق حاجة السامعين، بدون أن يهدف إلى كتابة كل ما قاله الرب وعمله، وهكذا فصل مرقص إنه لم يعمل خطأً واحداً في كل ما ذكره وكتبه.." 1. هذه أقدم شهادة لدى النصارى عن الكتاب والكاتب فهي شهادة مطعون فيه.2 لمجهول الحال وهو مرقص، عن أمر مجمل، حيث ذكر أنه كتب ما تذكر، ولم يفصل في المكتوب ما هو!! فهل تكفي هذه الشهادة في إثبات صحة الكتاب!!، لاشك أنها لا تكفي فإن مثل هذه الأدلة والشواهد لو قدمت لدى قاض في قضية لم يقبلها ولم يحكم وفقها. ثالثاً: إنجيل لوقا: هذا الإنجيل الثالث في ترتيب النصارى لكتابهم ويحوي أربعة وعشرين إصحاحاً. وكاتب الإنجيل في زعم النصارى هو أحد الوثنيين الذين آمنوا بالمسيح بعد

_ 1 انظر: تاريخ الكنيسة يوسابيوس ص 177، وكتاب المدخل إلى العهد الجديد ص 218. 2 انظر ما سبق من كلام يوسابيوس عن بابياس ص189.

رفعه وكان رفيقاً لبولس (شاؤول اليهودي) حيث ذكره بولس في ثلاثة مواضع من رسائله واصفاً إياه بأنه رفيقه1. ولا يوجد لدى النصارى معلومات عنه سوى أنه أممي رافق بولس في بعض تنقلاته، حيث ورد إسمه في تلك الرحلات. فهو بذلك يعتبر شخصية مجهولة وغير معروفة ولا متميزة بعدالة وديانه، ومع هذا أيضاً لا يوجد لدى النصارى دليل يعتمد عليه في صحة نسبة الكتاب إليه. ولندرة المعلومات التي توثق نسبة الكتاب إلى لوقا المذكور يستشهد النصارى بكلام مجهول حيث يقول القس فهيم عزيز في كتابه "المدخل إلى العهد الجديد" في استدلاله على صحة نسبة الكتاب إلى لوقا ما يلي: "هناك مقدمة كتبت لإنجيل لوقا فيما بين (160-180م) اسمها "ضد مارسيون" فيها يقول الكاتب عن لوقا: إنه من أنطاكية في سوريا مهنته طبيب وكان أعزباً بدون زوجة، مات وهو في سن 84 في بواتييه2 ممتلئاً بروح القدس - وقد كتب إنجيله كله في المناطق التي تحيط بأخائيه3 لكي يفسر للأمم القصة الصحيحة للعهد الجديد الإلهي.." ثم قال صاحب الكتاب معلقاً "هذه مقتطقات عن هذه الشهادة

_ 1 انظر: رسالة بولس إلى كولوسي (4/14) . ورسالته الثانية إلى تيموثاوس (4/11) . ورسالته إلى فليمون (24) . 2 بواتييه: مدينة غرب فرنسا، الموسوعة العربية الميسرة،1/420. 3 أخائية أو أخايا: إقليم في جنوب اليونان. انظر: الموسوعة العربية الميسرة،1/63.

التي لا يعرف كاتبها وقد قبلها كثير من العلماء لأنهم لم يجدوا من أتباع مارسيون1 من يكذبها مما يدل على أنها تقليد كنسي قوي"2. بمثل هذه الشهادة المجهولة يثبت النصارى صحة كتابهم إلى ذلك الرجل المجهول لوقا، وهي لاشك شهادة لا قيمة لها ولا تفيد شيئاً، ويدل إستدلالهم بها على أنهم لا يملكون أدلة على صحة نسبة الكتاب إلى من يسمونه "لوقا" وذلك يبين لنا أن النصارى حين زعموا أن إنجيل لوقا كتاب صحيح وصادق، فإن ذلك مجرد دعوى بدون بينة. رابعاً: إنجيل يوحنا: هذا الإنجيل الرابع في ترتيب العهد الجديد وهو إنجيل متميز عن الأناجيل الثلاثة قبله إذ تلك متشابهة إلى حد كبير، أما هذا فإنه يختلف عنها لأنه ركز على قضية واحدة وهي: إبراز دعوى ألوهية المسيح وبنوته لله- تعالى الله عن قولهم - بنظرة فلسفية لا تخفى على الناظر في الكتاب، لهذا يعتبر هو الكتاب الوحيد من بين الأناجيل الأربعة الذي صرح بهذا الأمر تصريحاً واضحاً. وإذا بحثنا في صحة نسبة الكتاب إلى يوحنا الذي يزعم النصارى أن الكتاب من تصنيفه نجده أقل كتبهم نصيباً من الصحة لعدة أدلة أبرزها منكروا نسبة الكتاب إلى يوحنا الحواري وهي: 1- أن بوليكاربوس الذي يقال إنه كان تلميذاً ليوحنا لم يشر إلى هذا الإنجيل عن شيخه يوحنا، مما يدل على أنه لا يعرفه، وأن نسبته إلى شيخه غير صحيحة.

_ 1 مارسيون هو أحد الخارجين على الكنيسة. وقد سبق ذكره ص160. 2 المدخل إلى العهد الجديد ص 272.

2- أن الكتاب مملوء بالمصطلحات الفلسفية اليونانية التي تدل على أن لكاتبه إلماماً بالفلسفة اليونانية، أما يوحنا فكما يذكر النصارى فقد كان يمتهن الصيد مما يدل على أنه بعيد عن الفلسفة ومصطلحاتها. 3- أن النصارى الأوائل لم ينسبوا هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري المزعوم، وأن "يوسابيوس" الذي كان يسأل "بابياس" عن هذه الأمور يقول: "الواضح أن بابياس يذكر اثنين إسمهما يوحنا: الأول الرسول وقد مات والثاني الشيخ وهو حي. ويلوح أنه هو الذي كتب الإنجيل". فلهذا يقول القس فهيم عزيز بناءاً على ذلك "إن الكنيسة كانت بطيئه في قبولها لهذا الإنجيل"1. وبناءً على ذلك فمنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر الاعتراض على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا بشكل واسع ووصفته دائرة المعارف الفرنسية بأنه إنجيل مزور وهذه الدائرة إشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ونص كلامهم "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولاشك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة إثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصاً مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهودهم ليربطوا ولو

_ 1 المدخل إلى العهد الجديد ص 551.

بأوهى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليلي، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى"1. نقول مع هذه الاعتراضات، ومع وعدم وجود أدلة تثبت صحة نسبته إلى يوحنا الحواري المزعوم، فلا يجوز لعاقل أن يدعي صحة نسبته إلى يوحنا، فضلاً عن أن يزعم أنه كتاب مقدس موحى به من الله، فهذا فيه إفتراء عظيم على الله عز وجل، وإضلال لعباد الله بالباطل. بعد هذا كله يتضح للناظر اللبيب أن النصارى وكذلك اليهود من قبلهم لا يملكون مستنداً صحيحاً لكتبهم يثبت صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، وإن من المعلوم أن أي إنسان أراد أن يقاضي إنساناً آخر لدى محكمة فلا يمكن أن تنظر المحكمة في دعواه ما لم يقدم من الإثباتات الصحيحة ما يصح اعتباره دليلاً، والنصارى لم يقدموا لأنفسهم ولا لأهل ملتهم من المستندات والأدلة شيئاً يثبتون به صحة كتبهم، بل لا يعرفون طريقاً إلى شيء من المستندات الصحيحة يقول الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه العظيم "إظهار الحق" "ولذلك طلبنا مراراً من علمائهم الفحول السند المتصل فما قدروا عليه واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم2 فقال: إن سبب

_ 1 نقلاً عن كتاب دراسات في الكتاب المقدس. د. محمود علي حماية ص 64. 2 المقصود بها المناظرة الكبرى التي تمت في الهند بين الشيخ رحمة الله الهندي وزعيم المنصرين في الهند مبعوث الكنيسة الانجليزية د. فندر وكانت المناظرة سنة 1854م في يومي 10-11 نيسان وكانت موضوعاتها هي: النسخ والتحريف، وألوهية المسيح، والتثليث، وإعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مُنِىَ د. فندر بهزيمة نكراء وخزي وعار بإقراره بالنسخ والتحريف. ثم قطع المناظرة، ثم جلا عن الهند، وفر منها وعاد إلى بريطانيا، بعد أن أظهر الله كذبه ونشر خزيه ورد عن المسلمين ولله الحمد عدوانه وشره. انظر أخبار المناظرة في مقدمة كتاب إظهار الحق 1/34.

فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة"1. وفي هذا كفاية ودلالة على أن تلك الكتب التي تسمى الأناجيل كتب لا يملك أصحابها أي مستند يمكن الاعتماد عليه في صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، فضلاً عن أن يصح نسبتها إلى المسيح عليه السلام أو إلى الله عز وجل.

_ 1 إظهار الحق (1/111) .

المطلب الثاني: الأناجيل الأربعة متنا

المطلب الثاني: الأناجيل الأربعة متناً إن الكتب المقدسة كتب معصومة عن الخطأ، محفوظة من الخلل والزلل، لأن المفترض فيها أن تكون من قبل رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى، وهو الحق لا يصدر منه إلا الحق جل وعلا. والنصارى يسندون كتبهم إلى الله عز وجل عن طريق الإلهام إلى كتابها،1والدارس لهذه الكتب يستطيع أن يتبين صدق هذه الدعوى من كذبها، إذ أن الحق لا خفاء فيه. وقد سبق أن ذكرنا نبذة عن هذه الكتب من ناحية السند، حيث تبين أن النصارى لا يوجد عندهم دليل يثبت صحة نسبة كتبهم إلى أولئك الناس الذين نسبت إليهم، فعليه لا يمكن اعتبارها كتباً صحيحة، ولا يجوز لعاقل أن ينسبها إلى أولئك الرجال فضلاً عن أن ينسبها إلى الله عز وجل. ومما يؤكد عدم صحتها الاختلافات الكثيرة بينها، وكذلك الأغلاط العديدة فيها، وسنضرب لذلك أمثلة:

_ 1 انظر: الكتاب المقدس هل هو كلمة الله، للقس عبد المسيح. ص 22.

أولاً: الاختلافات إذا قارنا بين الأناجيل الأربعة نجد بينها اختلافات جوهرية تدل على خطأ كتابها، وأنهم غير معصومين ولا ملهمين، وأن الله عز وجل بريء منها، ورسوله عيسى عليه السلام، ومن الأمثلة على ذلك: 1- نسب المسيح عليه السلام إن مما يدهش له الإنسان أشد الدهش أن النصارى لم يستطيعوا أن يضبطوا نسب المسيح عليه السلام ولم يتفقوا عليه، فأعطاه كلاً من صاحب إنجيل متى وصاحب إنجيل لوقا نسباً مختلفاً عن الآخر وإليك جدولاً بذلك يوضح الفرق بينهما: رقم متى رقم متى رقم لوقا رقم لوقا1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 المسيح ابن يوسف يعقوب متان اليعازر أليود أخيم صادوق عازور الياقيم أبيهود زربابل شألتئيل يكنيا يوشيا آمون منسى حزقيا أحاز يوثام عزيا يورام 22 23 24 25 26 27 يهوشافاط أسا أبيا رحبعام سليمان داود1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 المسيح ابن يوسف هالي متثاب لاوى ملكى ينا يوسف متاثيا عاموص ناحوم حسلى نجاى مآث متاثيا شمعى يوسف يهوذا يوحنا ريسا زربايل شألتئيل 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 نيرى ملكى أدى قصم ألمودام عير يوسى أليعازر يوريم متثات لاوى شمعون يهوذا يوسف يونان ألياقيم مليا مينان متاثا ناثان داود

ففي هذا النسب فوارق وأغلاط عدة هي: 1- أن متى نسب المسيح إلى يوسف بن يعقوب، وجعله في النهاية من نسل سليمان بن داود عليهما السلام. أما لوقا فنسبه إلى يوسف بن هالي، وجعله في النهاية من نسل ناثان بن داود عليه السلام. 2- أن متى جعل أباء المسيح إلى داود عليه السلام سبعة وعشرين أباً، أما لوقا فجعلهم إثنين وأربعين أباً، وهذا فرق كبير بينهما يدل على خطأهما أو خطأ أحدهما قطعاً. والنصارى يدعون أن أحد الإنجيلين كتب فيه نسب مريم، والآخر كتب فيه نسب يوسف، وهذا كلام باطل، إذا أن صاحب إنجيل متى (1/16) يقول "يعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح". أما إنجيل لوقا (3/23) فيقول "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي" فكلاهما صرح بنسب يوسف. أما الأغلاط في هذا النسب فعديدة منها: 1- أن نسبة المسيح عليه السلام إلى يوسف خطيب مريم في زعمهم خطاءٌ فاحش وفيه تصديق لطعن اليهود في مريم أم المسيح عليه السلام، وكان

الواجب على النصارى أن ينسبوه إلى أمه مريم لا إلى رجل أجنبي عنه. خاصة وأن ولادته منها كانت معجزة عظيمة وآية باهرة، فنسبته إليها فيه إظهار لهذه المعجزة وتأكيد لها وإعلان، أما نسبته إلى رجل وليس هو أبوه فيه إخفاء لهذه المعجزة واستحياء. والله عز وجل في القرآن الكريم صرح في مواطن عدة بنسبته إلى مريم {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المائدة (17،72،75) {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .آل عمران (45) النساء (157،171) . 2- أن صاحب إنجيل متى أسقط أربعة أباء من سلسلة النسب ثلاثة منهم على التوالي بين "عزيا ويورام" حيث النسب كما هو في أخبار الأيام الأول (3/11-13) "عزريا بن أمصيا بن يواش بن أخزيا بن يورام"،كما أسقط واحداً بين "يكنيا ويوشيا" وهو "يهو ياقيم" وسبب إسقاط اسم يهوياقيم بين يوشيا ويكنيا هو أن "يهوياقيم" هذا مَلَكَ دولة يهوذا بعد أبيه، إلا أنه كان عابداّ للأوثان فكتب له "إرميا" يحذره من قبيح صنعه، ويبين له مغبة أفعاله، فأحرق "يهوياقيم" الكتاب ولم يرجع عن غيه، فقال عنه إرميا حسب كلامهم "لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم مَلِكِ يهوذا لايكون له جالس على كرسى داود وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً" سفر إرميا 36/30) . ومعنى هذا الكلام أنه لا يكون من نسله ملك، فأسقطه "متى" لهذا السبب، وعلل صاحب تفسير العهد الجديد ذلك التصرف بأن "متى" أراد أن يجعل كل مجموعه من النسب تحوي أربعة عشر إسماً1.

_ 1 تفسير العهد الجديد ص3. وقد نص صاحب إنجيل متى على أن جميع الأجيال في أباء المسيح "من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سبى بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سبى بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً". متى (1/17) وهذا خطأ إما متعمد أو غير متعمد، وكلاهما يدل على أن الكلام ليس من عند الله ولا من وحيه.

ونقول: إذا كانت هذه العلة التي لا معنى لها من أجلها حذف من أجلها أربعة أباء من نسب المسيح، فذلك يعني أن الكاتب قد كتبه لخدمة أهداف في نفسه، وأنه لا يكتب ما علم وسمع مجرداً من الهوى والآراء الخاصة، ومن هنا يمكن أن ندرك كيفية تعامل النصارى الأوائل مع المعلومات الواردة إليهم، وأنهم يصوغونها وفق ما يرون ويعتقدون، لا وفق الحق مجرداً عن الهوى والآراء الخاصة. ولنا أن نبحث هنا عن السبب في هذا الخطأ الفاحش والاختلاف في نسب المسيح عليه السلام فنقول: إن سبب خطأ النصارى في نسب المسيح عليه السلام أنهم نسبوه إلى رجل مغمور غير مشهور هو "يوسف النجار"1 خطيب مريم في زعمهم فلهذا أخطأوا في نسبه فأعطاه "متى" نسباً ملوكياً2، وأعطاه "لوقا" نسباً أخر غير معروف ولا معلوم3.

_ 1 في العادة أن الناس الذين يُنسَبون إلى المهن، مثل النجار أو الحداد أو الصباغ أو نحوها يضيع نسبه بطغيان مهنته واشتهاره بها على نسبه، فهذا كان والله أعلم حال يوسف النجار، فلم يكن معروف النسب بل كان مشتهراً بصنعته، فإذا ادعى أحد له نسباً ليس من السهل تكذيبه وبيان خطئه، إذ أنه يمكن أن يكون من عائلة ذات نسب كما أنه يمكن أن يكون غير ذلك. 2 يلاحظ أن الأسماء التي في إنجيل متى من بوشيا، وهو الاسم الرابع عشر إلى نهاية النسب هم من ملوك دولة يهوذا بعد سليمان عليه السلام. 3 يذكر الشيخ رحمة الله الهندي أن اختلاف النسب بين لوقا ومتى دليل على أن إنجيل متى لم يكن معروفاً لدى لوقا وما اطلع عليه، وإلا لما خالفه هذه المخالفة الشديدة. انظر: إظهار الحق (1/197)

ولكن لماذا أعرض كتاب النصارى عن مريم ولم يعطوه نسبها فيجعلونه كما هو الحق عيسى بن مريم بنت عمران؟. السبب في هذا ظاهر وهو: أن مريم بنت عمران إمرأة عابدة مشهورة تربت في بيت النبي زكريا عليه السلام، الذي كان من نسل هارون عليه السلام حيث كان كاهن1 بيت المقدس والمسؤول عن البخور عندهم هو زوج "أليصابات" خالة مريم2، وهي من نسل هارون عليه السلام أيضاً3 فتكون مريم من السبط نفسه، وهو سبط لاوى بن يعقوب عليه السلام، وذلك أن تشريع اليهود يأمرهم أن تتزوج المرأة من سبطها ولا تتزوج من سبط أخر حتى تستمر الأموال في نفس السبط ولا تنتقل إلى أسباط أخرى بواسطة الميراث4. فلهذا تكون مريم من سبط زكريا عليه السلام وزوجته5، وكذلك خطيبها المزعوم إن صح كلامهم في ذلك يكون من السبط نفسه، وهو سبط لاوى

_ 1 الكاهن في اصطلاح اليهود هو: الذي يقدم الذبائح والخدمات الدينية، وخاصة الأمور المتعلقة بالأشياء المقدسة لديهم. وكانت في نسل هارون عليه السلام خاصة. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 791 2 ثبت في الحديث الصحيح في حديث المعراج في مسلم (1/145) أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام فقال: "ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما فرحبا بي ودعوا لي بخير". 3 انظر إنجيل لوقا (1/5-10) . 4 سفر العدد (36/6-9) 5 ورد في إنجيل لوقا (1/36) كلام الملاك مع مريم بعد أن بشرها بالحمل بعيسى عليه السلام"هوذا أليصابات نسيبتك هي أيضا حبلى" والنسيبة القريبة، وأصح ما تكون في دلالة اللفظ أنها من نسبك.

الذي منه هارون عليه السلام، ومما يدل على أن مريم من سبط هارون قول الله عز وجل {يَا أُخْتَ هَارُونَ} مريم آية (28) . قال السدي: قيل لها (يا أخت هارون) أي أخي موسى لأنها من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر1.

_ 1 تفسير ابن كثير (3/112) ولا يعكر على هذا التفسير ما روى عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: "أرأيت ما تقرؤون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " أخرجه مسلم (3/685) فهذا لا ينفي ما ذكر من المعنى السابق لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بين أن لفظ الأخوة في الآية ليست أخوة النسب بمعنى أن تكون هي وإياه خرجا من بطن واحد، وإنما المراد التشبيه به أو بغيره في الصلاح. ومما يستدل به على أن مريم من نسل هارون قول الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} فالله تعالى ذكر هنا آل عمران، وذكر القرطبي في تفسيره (4/63) عن مقاتل في "آل عمران" أن المقصود به عمران أبو موسى وهارون"،فتكون مريم من ذلك النسل، لأنه ذكر قصتها بعد ذلك دليلاً على ما أنعم الله به على ذلك البيت. مما يؤيد هذا أن آل عمران وخاصة بني هارون عند اليهود هم المكلفون بالأمور التي تتعلق بالعبادة لديهم ولهم وضعية خاصة في تشريع اليهود وهذا يوحى بالاصطفاء الخاص فإن كل واحد من المذكورين في الآية له اصطفاء خاص من ناحية ذريته. فآدم عليه السلام نبي والناس كلهم ذريته، ونوح عليه السلام إصطفى بالنبوة وأن ذريته هم الباقون، وإبراهيم عليه السلام اصطفى بالنبوة والخلة وأن النبوة من بعده في ذريته، وآل عمران اصطفوا بأن فيهم نبوة والقيام بالشؤون الدينية لدى اليهود وخاصة نسل هارون عليه السلام فتكون الآية دليلاً على أن مريم بنت عمران من نسل هارون بن عمران عليه السلام. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قال إبن إسحاق: أي مفرغاً للعبادة لخدمة بيت المقدس. تفسير ابن كثير (1/315) ، ويؤيد هذا ويؤكده قوله تعالى عن مريم {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} آل عمران (37) ففيه دلالة على أنها من خدم البيت وعُبَّاده وخدمة بيت المقدس كما سبق ذكره خاصة بآل هارون عليه السلام.

وهذا الأمر فيما يبدو علمه كتاب الأناجيل فأزعجهم إزعاجاً شديداً لأنهم يظنون أن المسيح لابد أن يكون من نسل داود عليه السلام فأعطوه ذلك النسب المخترع إلى داود عليه السلام وذلك حتى ينطبق عليه ما يزعمه اليهود وهو أن المسيح لابد أن يكون من نسل داود عليه السلام حتى يكون مسيحاً. والله أعلم. 2- ذكر إنجيل متى (11/13) من كلام المسيح عن يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام) قوله: (لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبؤا وإن أردتم أن تقبلوا فهذا إيليا المزمع أن يأتي من له أذنان للسمع فليسمع) وورد في إنجيل متى أيضاً (17/1) أنهم سألوا المسيح عليه السلام فقال "وسأله تلاميذه قائلين: فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً، فأجاب يسوع وقال لهم: إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم، حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان". فالمسيح هنا يبين أن يحيى عليه السلام هو إيليا. ويخالف هذا قول يوحنا في إنجيله (1/19) حين جاء اليهود يسألون يحيى عن نفسه حيث قال: "أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه من أنت، إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا. فقالوا له من أنت لنعطى جواباً للذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك. قال:

أنا صوت صارخ في البرية قَوِّمُوا طريق الرب كما قال إشعيا النبي" فهنا أنكر يحيى عليه السلام أن يكون هو إيليا وهذا تناقض واضح. 3- أن متى ذكر في إنجيله (20/29-34) أن عيسى عليه السلام لما خرج من أريحا قابله أعميان فطلبا منه أن يشفيهما من العمى فلمس عيونهما فشفيا. وقد ذكر هذه القصة مرقص في (10/46-52) وبين أن بارينماوس الأعمى ابن نيماوس هو الذي طلب ذلك فقط. 4- أن مرقص ذكر في (6/8) أن عيسى عليه السلام أوصى حوارييه حين أرسلهم للدعوة في القرى بأن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط لا مزوداً، ولا خبزاً، ولا نحاساً، وذكر ذلك لوقا في (9/3) إلا أنه قال إن عيسى عليه السلام أوصاهم وقال لهم (لا تحملوا شيئاً للطريق لا عصا ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضه) ف في الأول أجاز لهم حمل العصا، والثاني نهاهم عن حمل العصا أيضاً. 5- أن إنجيل متى ذكر فيه في (15/21) أن المرأة التي طلبت من المسيح شفاء إبنتها كانت كنعانية. وذكر القصة مرقص في إنجيله (7/24) ونص عبارته عن جنس المرأة "وكانت المرأة أممية وفي جنسها فينيقيه سوريه"1.

_ 1 هكذا في طبعة 1982 دار الكتاب المقدس في القاهرة، أما طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط 1992م فنص العبارة فيها هكذا: "وكانت المرأة يونانية جنسُها من فينيقيه سوريه".

6- أن إنجيل متى ذكر أسماء تلاميذ عيسى الإثنى عشر فقال (10/2) "وأما أسماء الإثنى عشر رسولاً فهي هذه. الأول سمعان الذي يقال له بطرس، وإندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه، فيلبس، وبرثولماوس، توما، ومتى العشار، يعقوب بن حلفى، ولباوس الملقب تداوس، سمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطى الذي أسلمه". وذكر مرقص في (3/16) الأسماء فوافق فيها متى، وخالفهما لوقا حيث حذف من قائمة متى "لباوس الملقب تداوس" ووضع بدلاً عنه "يهوذا أخا يعقوب". 7- إختلافهم في الذين حضروا لمشاهدة قبر المسيح بعد دفنه المزعوم ووقت ذلك حيث يقول متى (28/1) "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدليه ومريم أخرى لتنظرا القبر". وفي إنجيل مرقص (16/1) يقول "وبعد ما مضى السبت إشترت مريم المجدليه ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه، وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس". وفي إنجيل لوقا (24/1) يقول " ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس" وفي إنجيل يوحنا (20/1) يقول " وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدليه إلى القبر باكراً والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر".

فهذه الإختلافات وغيرها كثير ذكره علماء الإسلام 1وغيرهم تدل دلالة واضحة على أن في الكتاب صنعة بشرية، وتحريف وتبديل.

_ 1 ذكر الشيخ رحمة الله الهندي: تسعة وسبعين إختلافاً بين الأناجيل فمن أراد الإستزاده فليراجعها في: إظهار الحق (1/187-246) وانظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية للمهندس أحمد عبد الوهاب ص78 وما بعدها.

ثانياً: الأغلاط في الأناجيل: كما بين الأناجيل إختلافات يوجد بها أغلاط وأخطاء كثيرة أيضاً نذكر منها: 1- قال متى في إنجيله (1/3) مستدلاً للمسيح وولادته من مريم بنبوءة سابقة جاءت على لسان إشعيا "وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد إبناً ويدعون اسمه "عمانوئيل" الذي تفسيره الله معنا". وهذا غلط لأن هذا اللفظ الذي ورد على لسان إشعياء لا ينطبق على المسيح فإن له قصة تدل على المراد به وهي: أن "رصين" ملك أرام، "وفقح بن رمليا" ملك اسرائيل، إتفقا على محاربة "آحاز بن يوثان "ملك يهوذا، فخاف منهما "آحاز"خوفاً شديداً فأوحى الله إلى النبي إشعياء أن يقول لآحاز: بأن لا يخاف، لأنهما لا يستطيعان أن يفعلا به ما أرادا وأن ملكهما سيزول أيضاً، وبين له إشعياء آية لخراب ملكهما وزواله، أن امرأة شابه تحبل وتلد ابناً يسمى "عما نوئيل" فتصبح أرض هذين الملكين خراباً قبل أن يميز ذلك الابن بين الخير والشر، ونص كلامه "ها العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو إسمه "عما نوئيل" زبداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التي أنت خاش من ملكيها" سفر أشعياء (7/14) . وقد وقع ذلك فقد استولى "تغلث فلاسر" الثاني ملك آشور على بلاد سوريا، وقتل "رصين" ملكها، أما "فقح" فقتله في نفس السنة أحد أقربائه

وتولى الملك مكانه، كل ذلك حدث بعد هذه المقولة بما يقارب إحدى وعشرين سنة، أي قبل ميلاد المسيح بما يقارب سبعة قرون1. 2- قال متى في إنجيله (27/51) بعد الصلب المزعوم للمسيح وإسلامه الروح "وإذا حجاب الهيكل قد إنشق إلى إثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزت والصخور تفتقت والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينه المقدسه وظهروا لكثيرين". فهذه الحكاية التي ذكرها متى لم يذكرها غيره من كتاب الأناجيل مما يدل على أن كلامه لا حقيقة له، لأنها آية عظيمة تتوافر الهمم على نقلها. 3- أنه ورد في إنجيل متى (12/40) وكذلك في (16/4) أن المسيح قال إنه لن يعطي لليهود أية إلا آية يونان "يونس عليه السلام "ونصه: "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال". وهذا غلط لأن المسيح عليه السلام في زعمهم صلب ضحى يوم الجمعة ومات بعد ست ساعات، أي وقت العصر، ودفن قبيل غروب الشمس، وبقى في قبره تلك الليلة، ونهار السبت من الغد، وليلة الأحد، وفي صباح الأحد جاؤا ولم يجدوه في قبره، مما يدل على أنه مكث في زعمهم ليلتين ويوماً واحداً فقط. فيكون كلام متى السابق غلط واضح.

_ 1 انظر: إظهار الحق لرحمة الله الهندي (2/305) . ومن العجيب أن النصارى لازالوا يستدلون على تجسد المسيح بما ذكره متى هنا متغافلين عن حقيقة الكلام، وأنه خطأ فاحش من متى الذي استدل بتلك العبارة وطبقها على غير موضعها.

4- أن متى ذكر في مواضع من كتابه أن القيامة ستقوم على ذلك الجيل ومن ذلك قوله في (16/27) على لسان المسيح "فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله، الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان أتياً في ملكوته". كما ورد في الإنجيل نفسه (3/23) قولهم على لسان المسيح "فإن الحق أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". فهذه النصوص تؤكد القيامة قبل موت الكثيرين من ذلك الجيل، وقبل أن يكمل الحواريون الدعوة في جميع مدن بني إسرائيل، وهذا أمر لم يتحقق، وله الآن ألفي سنة إلا قليلا مما يدل على أنه غلط فاحش. 5- جاء في إنجيل لوقا (1/30) في البشارة بالمسيح قوله "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية". وهذا خطأ بين لأن المسيح عليه السلام لم يكن ملكاً لليهود، ولا ملكاً على آل يعقوب، بل كان أكثرهم معادين له إلى أن رفع إلى السماء بسبب محاولتهم قتله. 6- ورد في إنجيل مرقس (11/23) " فأجاب يسوع وقال لهم: ليكن لكم إيمان بالله، لأن الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل إنتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له، لذلك أقول لكم: كل ما تطلبونه حينما تصلون

فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم". وورد أيضا في إنجيل مرقس (16/17) "وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون ". وفي إنجيل يوحنا (14/12) " الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها لأني ماض إلى أبي ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله". فهذه النصوص الثلاثة لاشك في أنها خطأ فلا يستطيع النصارى أن يدعو ذلك لأنفسهم. كما أن عبارة إنجيل يوحنا فيها مغالاة شديدة، حيث زعم أن من آمن بالمسيح يعمل أعظم من أعمال المسيح نفسه، وهذا من الترهات الفارغه.1 وبمجموع ما ذكر عن الأناجيل من ناحية تاريخها، ومتنها يتبين لنا أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون هي الكتاب الذي أنزل الله عز وجل على عبده ورسوله المسيح عليه السلام، وأحسن أحوالها أن تكون متضمنة لبعض ما أنزل الله عز وجل على عيسى عليه السلام.

_ 1 انظر هذه الأغلاط وغيرها كثير في إظهار الحق لرحمة الله الهندي (2/294-352) فقد ذكر إثنين وسبعين غلطاً في العهد الجديد وحده، فمن أراد الإستزاده فليراجعه.

المطلب الثالث: إنجيل برنابا

المطلب الثالث: إنجيل برنابا1 إنجيل برنابا لا يعتبر من الأناجيل القانونية لدى النصارى ولا يعترفون به ولأهمية ما يحتويه من معلومات ولما بينه وبين الأناجيل الأربعة من تشابه في التعريف بالمسيح عليه السلام ودعوته نعرف به هنا في نقاط مختصره. أ- التعريف بـ "برنابا" برنابا: اسمه "يوسف" ويلقب إبن الوعظ وهو لاوى قبرصي الجنسية، وهو خال "مرقس" صاحب الإنجيل فيما يقال، وكان من دعاة النصرانية الأوائل، ويظهر من إنجيله أن له مكانة لدى المسيح عليه السلام، والنصارى يرون أنه من الدعاة الذين لهم أثر ونشاط ظاهر، وكان من أعماله البارزه أنه باع حقله وأتى بقيمته من النقود ووضعها تحت تصرف الدعاة2وحين ادعى بولس "شاؤول اليهودي" الدخول في دين المسيح عليه السلام خاف منه الحواريون لما يعلمون من سابق عداوته، فشفع له برنابا عندهم فقبلوه ضمن جماعتهم3 ثم إختلف معه بعد فترة من العمل في الدعوة سويا وانفصلا 4. ب- التعريف بإنجيله: أقدم خبر عن إنجيل برنابا كان قريباً من عام 492م وذلك حين أصدر البابا

_ 1 لا يعتبر هذا الإنجيل من مصادر النصارى لأنهم لا يعترفون به وإنما ذكر هنا تبعاً للحديث عن الأناجيل ولأهمية ما يتضمن من معلومات ومبادئ. 2 أعمال الرسل (4/37) . 3 أعمال الرسل (9/27) . 4 انظر: أعمال الرسل (15/36) .

"جلاسيوس" الأول أمراً يحرم فيه مطالعة عدد من الكتب، كان منها كتاب يسمى "إنجيل برنابا" وهذا كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يظهر له خبر بعد ذلك إلا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي حيث عثر أحد الرهبان اللاتينيين وهو "فرامرينو" على رسائل "لإريانوس" يندد فيها ببولس وأسند "إريانوس" تنديده هذا إلى إنجيل برنابا. فحرص هذا الراهب على الإطلاع على هذا الإنجيل. واتفق أنه أصبح مقرباً للبابا "سكتس" الخامس، ودخل معه يوماً إلى مكتبته فأخذت البابا غفوة نام فيها، فأخذ "فرامرينو" يطالع في مكتبته رغبة في قطع الوقت، فوقعت يده على هذا الكتاب فوضعه في ثوبه وأخفاه، ثم أستأذن بعد أن أفاق البابا، وخرج فطالع الكتاب بشغف شديد ثم أسلم على أثر ذلك - بين هذه المعلومات المستشرق سايل في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم-. ثم في أوائل القرن الثامن عشر عام 1709م عثر "كريمر" أحد مستشارى ملك بروسيا على نسخة لإنجيل برنابا باللغة الايطالية، عند أحد وجهاء مدينة أمستردام- حيث كان يقيم وقتئذ - وأهداها "كريمر" إلى الأمير "ايوجين سافوى" لولعه بالعلوم والآثار التاريخية، ثم انتقلت تلك النسخة فيما بعد وذلك عام 1738م مع جميع مكتبة ذلك الأمير إلى مكتبة البلاط الملكي في فينا حيث هي موجودة الآن، ثم ترجمت إلى الإنجليزية، وعنها إلى العربية من قبل الدكتور خليل سعادة وهو لبناني نصراني. وكان يوجد لهذا الكتاب نسخة أخرى بالأسبانية، يظن أنها منقولة عن الإيطالية عُثِرَ عليها في أوائل القرن الثامن عشر أيضاً، وكانت عند رجل يدعى الدكتور "هلم" أهداها إلى المستشرق "سايل" ثم دفعها هذا بدوره إلى الدكتور

"منكهوس" الذي ترجمها إلى الإنجليزية ودفعها مع ترجمتها عام 1784م إلى الدكتور "هويت" أحد مشاهير الأساتذة في إكسفورد ببريطانيا، وعنده إختفت تلك النسخة مع ترجمتها. وقد أورد الدكتور "هويت" مقتطفات عديدة منها في دروسه وقد اطلع على تلك المقتطفات خليل سعادة، مترجم كتاب إنجيل برنابا إلى العربية. وحين ظهر هذا الإنجيل أحدث دوياً في الأوساط النصرانية لما فيه من المعلومات المضادة لعقائدهم فحاولوا دفعه بوسائل كثيرة، ومما زعموه: أنه تأليف عربي مسلم، أو يهودي أندلسى تنصر ثم أسلم1 - وهذا في الواقع من التخرصات ويدل على بطلان تلك الدعاوى أمور منها: 1- لماذا يؤلف رجل أسلم كتاباً للنصارى ويفتري الكذب وهو قد دخل في الإسلام. 2-إن في الكتاب معلومات غير موجودة في كتب اليهود والنصارى الآن. 3- إن مترجم الكتاب إلى العربية وهو خليل سعادة النصراني قد وصف صاحب الإنجيل بأنه على إلمام واسع جداً بالعهد القديم والنصرانية أكثر ممن نذروا أنفسهم للدين النصراني وتفسيره وتعليمه، حتى إنه ليندر أن يكون فيهم من يقرب من إلمام صاحب هذا الإنجيل، فكيف يكون مسلماً وله هذا الإلمام الواسع؟! 4- إن مما يدفع أن يكون صاحبه مسلم أن فيه أخطاءاً لا يمكن أن تقع من المسلم لبداهتها، ومنها قوله: إن السموات عشرة، وخلطه بين اسم ميخائيل وميكائيل ويقول أدريل بدل إسرافيل.

_ 1 انظر المقدمة المطبوعة مع الإنجيل للدكتور خليل سعادة فقد ذكر المعلومات السابقة كما ذكر أيضا ذلك الزعم بأن مؤلفه مسلم كتبه ونحله النصارى.

وعلى كل حال فهذا كتاب ظهر في بلاد نصرانية، وبخط ولغة نصرانية، ولم يرد عن أحد المسلمين أنه أطلع على الكتاب مع سعة إطلاع علماء المسلمين وحرصهم على الرد على النصارى، وهو لاشك مما يظهره الله عز وجل دليلاً للحق ودحراً للباطل ورداً له. ج- أهم مبادئ إنجيل برنابا التي يختلف بها عن الأناجيل الأربعة: إن الذي جعل النصارى يحملون على هذا الإنجيل حملتهم، ويتنصلون منه، هو مخالفته لأناجيلهم المعتمدة وعقيدتهم في أخطر وأهم نقاطها وهي:- أولاً: أنه صرح أن المسيح عليه السلام إنسان، وليس إله ولا ابن إله، وبين أن سبب تأليف إنجيله هو رد هذه الفرية التي أطلقها بولس مع غيرها من الإفتراءات كترك الختان وإباحة أكل اللحوم النجسة، وفي هذا يقول في أول إنجيله " أيها الأعزاء إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم والآيات التي إتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر الله به دائماً مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله1. ثانياً: أنه نقل عن المسيح التصريح بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وليس إسحاق كما يزعم اليهود وفي هذا يقول:-

_ 1 إنجيل برنابا ص3.

"أجاب يعقوب: يا معلم قل لنا من1 صنع هذا العهد2، فإن اليهود يقولون بإسحاق، والإسماعيليون يقولون: بإسماعيل أجاب يسوع: صدقوني لأني أقول لكم الحق إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق. حينئذ قال التلاميذ: يا معلم هكذا كتب في كتاب موسى أن العهد صنع بإسحاق. أجاب يسوع متأوهاً: هذا هو المكتوب، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع، بل أحبارنا الذين لا يخافون الله. الحق أقول لكم إنكم إذا أعملتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون حيث كتبتنا وفقهائنا، لأن الملاك قال: يا إبراهيم سيعلم العالم كله كيف يحبك الله، ولكن كيف يعلم العالم محبتك لله حقاً، يجب عليك أن تفعل شيئاً لأجل محبة الله، أجاب إبراهيم: هاهو ذا عبد الله مستعد أن يفعل كل ما يريد الله، فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين. فقال حينئذ التلاميذ: إن خداع الفقهاء لجلي، لذلك قل لنا أنت الحق لأننا نعلم أنك مرسل من الله"3. وذكر برنابا أيضاً أن المسيح خاطب رئيس كهنة اليهود قائلاً له:"إن

_ 1 هكذا في الكتاب والأولى (بمن) . 2 يقصد بالعهد هو وعد الله لإبراهيم بأن تتبارك كل قبائل الأرض برجل من نسله هو بني آخر الزمان، وانظر الآتي. 3 إنجيل برنابا ص67-68

إبراهيم أحب الله حيث أنه لم يكتف بتحطيم الأصنام الباطلة تحطيماً ولا بهجر أبيه وأمه ولكنه كان يريد أن يذبح ابنه طاعة لله. أجاب رئيس الكهنة:- إنما أسألك هذا ولا أطلب قتلك فقل لنا: من كان ابن إبراهيم هذا؟ أجاب يسوع: إن غيرة شرفك يا الله تؤججني ولا أقدر أن أسكت. الحق أقول إن ابن إبراهيم هو إسماعيل الذي يجب أن يأتي من سلالته مسيا الموعود به إبراهيم أن به تتبارك كل قبائل الأرض. " فلما سمع هذا رئيس الكهنة حنق وصرخ لنرجم هذا الفاجر لأنه إسماعيلى، وقد جدف على موسى وعلى شريعة الله1. ثالثاً:- أنه نقل عن المسيح التصريح بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وذلك في مواطن عدة من كتابه منها: أن اليهود سألوا المسيح عليه السلام عن اسم النبي المنتظر فقال: "فقال الكاهن حينئذ: ماذا يسمى مسيا، وما هي العلامة التي تعلن مجيئه؟ فأجاب يسوع: إن اسمه المبارك "محمد" حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا الله أرسل لنا رسولك يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم2. وأورد أيضاً برنابا حواراً تم بينه وبين المسيح عليه السلام بعد أن رفع إلى السماء ثم عاد مرة أخرى ليطمئن أمه وحوارييه بأنه لم يمت ثم ارتفع مرة أخرى إلى السماء3، وهذا نصه:

_ 1 إنجيل برنابا ص 300-301 2 إنجيل برنابا ص 149. 3 هذا ما أورده صاحب الإنجيل، وهو أن المسيح بعد رفعه سأل الله تعالى أن يعيده إلى الأرض حتى يرفع عن أمه وحوارييه الشك في أمره والحزن الذي أصابهم، لأنهم ظنوا أيضاً أن الذي صلب هو المسيح - وإذا صح هذا فلا أرى فيه مانعاً شرعياً، ولم يرد في شرعنا فيما أعلم لا ما يؤيده ولا ما يمنعه.

" فقال حينئذ الذي يكتب1: يا معلم إذا كان الله رحيماً فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً، ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت، وسمح الله أن يقع عليك عار القتل بين اللصوص على جبل الجمجمة وأنت قدوس الله. أجاب يسوع: صدقني يا برنابا إن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقاباً عظيماً، لأن الله يغضب من الخطيئة، فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلاً حباً عالمياً، أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم، فلماذا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله2". رابعاً: أن برنابا صرح أن المسيح لم يصلب وإنما رفع إلى السماء، وأن الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي وهو الذي وشى بالمسيح لدى اليهود، حيث أُلْقِىَ عليه شبه المسيح فقبض عليه وصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام.

_ 1 يقصد هنا برنابا نفسه. 2 إنجيل برنابا ص 318.

وهذا نص كلامه:- "ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياماً، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع وكان التلاميذ كلهم نياماً. فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيد هو معلمنا أنسيتنا الآن؟ أما هو فقال متبسماً: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفون يهوذا الأسخريوطي. وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيهاً بيسوع من كل وجه" وبعد أن ذكر محاكمة يهوذا وجلده من قبل اليهود والوالي الروماني وهم يظنون أنه يسوع قال: "وأُسْلِمَ يهوذا للكتبة والفريسيين كأنه مجرم يستحق الموت وحكموا عليه بالصلب وعلى لصين معه. فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث إعتادوا شنق المجرمين وهناك صلبوه عرياناً

مبالغة في تحقيره1 ". هذه أهم مبادئ هذا الكتاب الذي أحدث بمبادئه وقت ظهوره دوياً لدى النصارى، أما نحن المسلمين فلا يقدم عندنا هذا الكتاب ولا يؤخر فنحن مطمئنون لكتاب ربنا الذي بين أيدينا نعرف به الحق وعلى ضوئه نقيس الحق. وهذا كتاب لا سند له ولا تاريخ، ثم هو من تأليف رجل ليس بمعصوم فقد يخطئ، ويضل، وينسى، وهذه لا تجعل لكتابه قيمة دينية عقائدية، وإنما تجعل له قيمة تاريخية وأدبية والله أعلم.

_ 1 إنجيل برنابا (ص308،314)

المبحث الثاني: المجامع النصرانية

المبحث الثاني: المجامع النصرانية تمهيد المجامع النصرانية يعرفها النصارى بأنها: هيئات شورية1 في الكنيسة تبحث في الأمور المتعلقة بالديانة النصرانية وأحوال الكنائس2. والمجامع النصرانية نوعان: مجامع محلية: وهي التي تبحث في الشؤون المحلية للكنائس التي تنعقد فيها. ومجامع مسكونية (عالمية) : تبحث في العقيدة النصرانية ومواجهة بعض الأقوال التي يرى غرابتها ومخالفتها للديانة. وأول المجامع كما يذكر سفر أعمال الرسل، كان مجمع أورشليم الذي عقد أيام الحواريين من أجل النظر في حكم إلزام غير اليهود بالشريعة الموسوية. فقرر المجتمعون هناك أنهم لا يلزمون بالختان ولا بالشرائع الموسوية، وإنما يلزمون فقط بالإمتناع عن الذبح للأصنام والزنى وأكل المخنوق والدم) . 3

_ 1 هكذا يزعم النصارى أنها هيئات شوريه والناظر في تلك المجامع خاصة التي بحثت في العقيدة يجد أنها تنتهي ولم يتفق المجتمعون على الأمور التي بحثت، فيكون هناك جبر وموافقة قسرية على قول من تلك الأقوال، أو إذا لم يمكن الجبر والقسر يحدث الإنقسام بأن تذهب كل مجموعة بقولها الذي جاءت به، كما سيتضح من دراسة تلك المجامع. وهذا يتنافى مع كونها هيئات شورية إلا أن يقال أنها هيئات شورية إلزامية. 2 انظر: كتاب (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) ص203، فقد نقل هذا عن تاريخ الأقباط لزكي شنوده، وكتاب الكنيسة المصرية لميشيل جرجس. 3 انظر: سفر أعمال الرسل. الإصحاح الخامس عشر. ويلاحظ أن ذلك - إن صدق كاتب سفر الأعمال فيما ذكر - من أوائل الإنحراف عن شريعة عيسى عليه السلام ودعوته فهم لم يذكروا دليلاً على ذلك من كلام المسيح عليه السلام إنما فقط من إستحسانهم وأرائهم، وهذا ما مهد لسائر التحريفات التي تمت عن طريق المجامع فيما بعد.

أهم المجامع المسكونية: 1- مجمع نيقية1 سنة 325م: كان هذا المجمع أول المجامع المسكونية وأخطرها أيضاً. سبب انعقاده: سبب إنعقاد هذا المجمع هو التعارض والإختلاف العقدي الموجود في الكنسية في تلك الأزمان، وذلك أنه ما إن توقف الإضهاد الواقع على النصارى من قبل الرومان بمرسوم ميلان2. حتى ظهر على السطح ذلك الخلاف العقائدي الكبير بين طوائف النصارى، والذي كان يخفيه من قبل الحالة الإضطهادية الواقعة على جميع أصناف النصارى والذي كان من أسباب رسوخ هذه الإنحرافات العقدية كما سيتبين. وكان أبرز وجوه الإختلاف: ذلك الخلاف والتعارض بين دعوة كنيسة الإسكندرية التي كانت تنادى بألوهية المسيح على مذهب بولس، وبين دعوة الأسقف الليبي "آريوس" في الإسكندريه أيضاً. الذي وُصِفَ بأنه عالم مثقف، وواعظ مفوه، وزاهد متقشف، وعالم بالتفسير، حيث أخذ ينادي بأن الله إله واحد غير مولود أزلي، أما الإبن فهو ليس أزليا وغير مولود

_ 1 مدينة في آسيا الصغرى تركيا تسمى الآن " أرنيق " المنجد في الأعلام ص 721. 2 مرسوم ميلان أصدره الأمبراطور قسطنطين والأمبراطور ليسينيوس سنة 313م ويقضي بإعطاء النصارى الحرية في الديانة وإرجاع أملاكهم المغتصبة وإقرار حرية الأديان عموماً. انظر نص المرسوم في كتاب (تاريخ أوروبا للعصور الوسطى) ص 50، تأليف د. الباز العريني.

من الأب وأن هذا الإبن خرج من العدم مثل كل الخلائق حسب مشيئة الله وقصده1. وشايع آريوس في دعوته العديد من الأساقفه، منهم أسقف نيقوميديه المسمى أوسابيوس وغيره. وكان الإمبراطور "قسطنطين" في ذلك الوقت قد أبدى تعاطفاً قوياً تجاه النصارى ورفع عنهم الاضطهاد واهتم بشؤونهم2 فهاله ما رأى من انقسام النصارى، وأدرك خطورة تلك الإنقسامات على دولته، والتي كان أخطرها ما كان بين أسقف كنيسة الإسكندرية الكسندروس وآريوس وأتباعه. وكان الخلاف قد تطور بينهما وذلك بأن طلب أسقف الإسكندرية عقد مجمع في الإسكندرية للنظر في قضية آريوس ودعوته، فقرر ذلك المجمع قطع آريوس من الخدمه، وهذا جعل "آريوس" يخرج من الإسكندرية ويتوجه إلى آسيا حيث عقد في "بثينيه" بآسيا الصغرى مشايعوه من الأساقفة مجمعاً قُرِرَ فيه قبول آريوس وأتباعه وكتابة طلب إلى أسقف الإسكندرية برفع الحرمان الذي قرروه على "آريوس"3.

_ 1 انظر: كتاب تاريخ الفكر المسيحي (1/619) . 2 يرى المؤرخ هـ. فيشر: أن أهداف قسطنطين من ذلك التقريب للنصارى كانت سياسية حيث رأى أن الديانة النصرانية تنتشر على حساب الأديان الأخرى، كما أنه أراد أن يكونوا عوناً له في القضاء على إمبراطور بيزنطه ليسينيوس. وهذا ما تحقق له فيما بعد وكان قسطنطين يعتبر نفسه الكاهن الأعظم للديانة النصرانية، وهو في نفس الوقت يجمع بين عبادة الشمس والإنتساب للنصرانية، ولم يسمح بتعميده إلا وهو على فراش الموت على مذهب آريوس وذلك سنة 337م. انظر: (تاريخ أوروبا في العصور الوسطى) تأليف هـ. فيشر - ترجمة محمد زيادة ص 6-7. 3 انظر: تاريخ الفكر المسيحي (1/621-622) .

فهذا ما جعل الإمبراطور "قسطنطين" يدعو إلى مجمع عام في نيقية سنة 325م لبحث هذه القضية. - عدد الحاضرين ومذاهبهم: اختلف كلام النصارى في ذكر عدد المجتمعين فالبعض يرى أن عدد المجتمعين كان 318 أسقفاً فقط، وبعضهم يرى أنهم مابين 300-5201 ويذكر مارى سليمان في كتاب "المجدل" وكذلك إبن البطريق أن عددهم كان (2048) أسقفاً2. أما مذاهب الحاضرين فكانت متباينة تبايناً شديداً. وكما يقول إبن البطريق بأنهم كانوا مختلفين في الآراء والأديان. - فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلاهان من دون الله وهم البربرانية. - ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار إنفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها وهي مقالة سابليوس. - ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب. - ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان مخلوق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وأن الإبن من مريم، ويرون أن الله جوهر قديم واحد وأقنوم واحد ولا يؤمنون بالكلمة ولا بالروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية.

_ 1 انظر: تاريخ الفكر المسيحي (1/621-622) ، وتاريخ الكنيسة - لجون لوريمر (3/42) . 2 انظر: كتاب أخبار بطاركة المشرق من كتاب المجدل ص 15،وكتاب (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) ص212، وينقل هذا عن ابن البطريق من نقل زكي شنوده في تاريخ الأقباط.

- ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما. وهي مقالة مرقيون وأصحابه. - ومنهم من كان يقول: بألوهية الميسح، وهي مقالة بولس ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً1. قرارات المجمع ونتيجته: بعد أن تداول المجتمعون الآراء في ذلك المجمع خرجوا بتقرير ألوهية المسيح عليه السلام 2 وأنه ابن الله - في زعمهم - أي من ذات الله3 وأنه مساوٍ لله

_ 1 كتاب محاضرات في النصرانية ص124، حيث ينقل عن ابن البطريق، وكذلك نقلها زكي شنوده في كتابه "تاريخ الأقباط"،ونقلها عنه د. رؤوف شلبي في كتابه "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء" ص 212. 2 قانون الإيمان النيقوي الذي صدر عن المجمع هو قولهم "نؤمن بإله واحد الله الآب كلى القدرة، خالق كل الأشياء، ما يرى وما لا يرى ونؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله، المولود من الأب، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود، غير مخلوق، من ذات الجوهر مثل الآب، به خلق الكل، ما في السموات وما على الأرض، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل وتجسد وعاش بين الناس، الذي تألم وفي اليوم الثالث قام، وصعد إلى السموات، ويأتي ليدين الأحياء والأموات". انظر تاريخ الكنيسة (1/48) 3 يلاحظ هنا أن نص قانون الإيمان الذي قرروه في ذلك المجمع هو النص الذي قدمه أسقف الإسكندرية القائل بألوهية المسيح، والبعض يذكر أن كلمة "أن الابن من نفس جوهر الأب" وهي التي كان يدور حولها الخلاف الكبير بين أولئك المجتمعين كانت من اقتراح الإمبراطور قسطنطين. انظر تاريخ الكنيسة (1/48) ، ومن المعلوم أن قسطنطين كان في ذلك الوقت لا يزال وثنياً لم يعلن دخوله في النصرانية، وهذا يدلنا على مستوى تلك الموافقة الظاهرية التي وقعت في ذلك المجمع وأنها إنما كانت لترأس الإمبراطور ذلك المجمع وتدخله المباشر فيه. وخطورة تلك الإضافة التي ركز عليها في ذلك المجمع أنها نقلت المسيح من أن يكون بشراً مخلوقاً إلى إله خالق وأورثت النصرانية كل الانحرافات التي حدثت بعد ذلك والجدل الطويل حول المسيح والمجمعات الكثيرة التي انعقدت حول ما تفرع عن الكلام حول المسيح وطبيعته كما جعل النصرانية تنتقل من صف الدين السماوي التوحيدي إلى صف الأديان الوضعية التي تقوم على تعدد الألهه وعبادة غير الله.

جل وعلا، وأنه مولود منه غير مخلوق - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. كما قرروا أن هذا الإله تجسد بصورة البشر لخلاص الناس، ثم ارتفع إلى السماء بعد قيامته من الموت، كما تم لعن "آريوس" ومشايعيه وحرق كتبه. وقد وقع كثير من المجتمعين على هذه القرارات لمناصرة قسطنطين لها، ويرى ابن البطريق أن (318) أسقفاً فقط هم الذين أظهروا هذا القول ووقعوا عليه وخالفهم بقية الأساقفة1، والبعض الآخر يرى أن الجميع وقعوا عليها ما عدا يوسابيوس أسقف نيقوميدية في قول بعضهم وشخص آخر فقد رفضا التوقيع على ذلك النص2. وهكذا انتصر في أول الأمر القائلون بألوهية المسيح بمساندة وتأييد الإمبراطور، حيث ينص بعض المؤرخين على ترأسه لذلك المجمع3 ومما يدل على أن المجتمعين في نيقية لم يقبلوا ذلك القول بألوهية المسيح ولم يكن عند القائلين به حجة مقنعه أنهم كما يذكر القس "حنا الخضري" بعد ذكر الإنتصار الذي حققه مشايعوا مقولة بولس قال: "ولكن للأسف الشديد كانت الحقيقة الواقعة تختلف الإختلاف كله عن القرارات السنودسية والمجمعية. فقد رجع الأساقفة بعد مجمع نيقية إلى أبرشياتهم

_ 1 انظر: محاضرات في النصرانية ص 124. 2 انظر: مجموعة الشرع الكنيسي ص 43، تاريخ الكنيسة ص 49. 3 انظر: "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى" هـ. فيشر ص8، و"تاريخ أوروبا للعصور الوسطى". د. الباز العريني ص 74.

والقسوس إلى كنائسهم وبدأ كل منهم يعلم ما كان يعلم به قبلا1 بل إن البعض تطرف في الهرطقه التي فاقت هرطقة " آريوس" نفسه. فمع أن "آريوس" وبعض أتباعه نُفُوا إلا أن الآريوسيه بنت عشها في حدائق كثيرين من الأساقفه والرعاة2". ولما كان قرار نيقية بألوهية المسيح فرض بقوة السلطان فإن السلطان وهو الإمبراطور رجع فيما بعد عنه وأمر بعقد مجمع صور سنة 334م وقرر فيه إعادة "آريوس" إلى الكنيسة، وخلع "أثنا سيوس" أسقف الإسكندرية، أحد أكبر المدافعين عن عقيدة ألوهية المسيح، كما أن الإمبراطور نفسه قد عُمِّد وهو على فراش الموت على مذهب "آريوس" حيث عمده الأسقف "أوسابيوس النيقوميدي" أكبر أنصار آريوس3. وهكذا يتبين أن هذا المجمع الذي يعد من أخطر المجامع كان ألعوبة بيد الإمبراطور الذي كان وثنياً ولم يكن من أهل تلك الملة وقت ترأسه ذلك المجمع، كما أن المجتمعين لم يكونوا يعتمدون على نصوص متفق عليها مقبولة لدى الجميع وإلا لتم الإذعان لمدلولها، وإنما كانوا يعتمدون على تصوراتهم أو تصورات أمثالهم من الناس فلهذا وقع الإعراض عنها بعد عودتهم إلى كنائسهم.

_ 1 هذا يدلنا على أن المجتمعين في نيقية لم تقدم لهم أدلة مقنعة لتلك المقولة الغريبة، وهم وإن استطاعوا أن يظهروا بظهر الموافق في المجمع، فإنهم لم يستطيعوا أن يظهروا بذلك المظهر أمام أتباعهم وجماعتهم كما أنهم لم يستطيعوا أن يظهروا تلك المقولة ويشرحوها فأعرضوا عنها وعادوا لما كانوا يعرفون ويعلمون وتركوا ما يجهلون وينكرون. 2 تاريخ الفكر المسيحي ص643. 3 انظر: تاريخ الفكر المسيحي (1/650) ، وتاريخ الكنيسة (3/59) .

2- مجمع القسطنطينيه: دعا الإمبراطور " ثيودسيوس " سنة 381م إلى عقد مجمع القسطنطينية لمواجهة دعوات كانت منتشرة بين الكنائس. - منها دعوة "مقدونيوس" الذي كان أسقفاً للقسطنطينية، الذي نادى بأن الروح القدس مخلوق وليس إلها. - ودعوة "صابيليوس" الذي كان ينكر وجود ثلاثة أقانيم. - ودعوة "أبوليناريوس" الذي كان أسقفاً على اللاذقية والشام والذي أنكر وجود نفس بشرية في المسيح. فحضر ذلك المجمع مائة وخمسون أسقفاً. قرروا فيه ألوهية الروح القدس ولعن وطرد من خالف ذلك1 فأكتمل بذلك ثالوث النصارى. وكما هو ظاهر فإن هذا المجمع عقد بدعوة من الإمبراطور "ثيودسيوس" الذي كان قد سن القوانين والتشريعات لمصلحة القائلين بألوهية المسيح والمثلثين من النصارى. 3- مجمع أفسس سنة 431م انعقد هذا المجمع لمواجهة قول " نسطور" أسقف القسطنطينية، الذي قيل عنه إنه كان يقول: بأن المسيح له طبيعتان إلهية وإنسانية بشرية2 وأن مريم والدة

_ 1 انظر: مجموعة الشرع الكنسي ص 246، تاريخ الكنيسة (3/104،111) ، النصرانية من التوحيد إلى التثليث ص 183. 2 انظر: كتاب تاريخ الفكر المسيحي (2/170) ، تاريخ الكنيسة جون لوريمر (3/215) . ويذكر البعض أن نسطور كان يرى أن المسيح لم يكن إلهاً وإنما هو إنسان مملوء من البركة والنعمة. انظر كتاب النصرانية من التوحيد إلى التثليث ص 184.

الإنسان وليست والدة الإله. فعقد المجمع في أفسس سنة 431م بحضور مائة وستين أسقفاً وقرر فيه أن المسيح إله وإنسان ذو طبيعية واحدة وأقنوم واحد، وأن مريم أم إلههم وحكم على "نسطور" بالطرد من الكنيسة1 وبعد مجمع أفسس عُقدت مجامع عديدة كلها تبحث في طبيعة المسيح عليه السلام، منها:- 4- مجمع خلقيدونيه سنة 451م: في هذا المجمع عادوا للبحث في طبيعة المسيح وقرر المجتمعون: أن المسيح له طبيعتان إلهية وبشرية بلا اختلاط ولا تحول ولا انقسام ولا انفصال2؟! وكان المناصرون لهذا القول هم الأساقفة الغربيين الذين لعنوا وطردوا من لا يقول بهذا القول. ولم توافقهم الكنائس الشرقية على هذا وقد أصروا على قرارهم السابق في مجمع "أفسس" بأن المسيح له طبيعة واحدة إلهية وبشرية، وهذا من أهم الفوارق بين الكاثوليك القائلين بالطبيعتين، والأقباط والأرمن والسريان القائلين بالطبيعة الواحدة.3

_ 1 انظر: مجموعة الشرع الكنسي ص288، تاريخ الكنيسة جون لوريمر (3/219) ، النصرانية من التوحيد إلى التثليث ص 185. 2 انظر إلى الجمع بين المتضادات في عقيدتهم وهو كلام يعادون عليه ويوالون، وهو هراء مفترى ليس لهم عليه أدنى دليل أو برهان عقلي أو شرعي. 3 انظر: مجموعة الشرع الكنسي ص 364، وتاريخ الكنيسة جون لوريمر (3/226-232) .

بعد هذا عقدت مجامع عديدة من أهمها:- 5 - المجمع السابع سنة 754، 787 م المراد بالمجمع السابع مجمعان، المجمع الأول انعقد سنة 754م بدعوة من الإمبراطور قسطنطين الخامس وذلك للنظر في موضوع الصور والتماثيل وما يقدم لها من التقديس والعبادة. وخرج بقرار يلعن به كل من يصور المسيح أو أمه أو أباء الكنيسة باعتبار أنها وثنية 1. ثم أمر الإمبراطور أن يمحى ويدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل، كما حمل على الرهبان فأغلق الأديرة وصادر أموالها، كما أرغم الرهبان على أن يتزوجوا الراهبات 2.

_ 1 مجموعة الشرع الكنسي ص 795. 2 يلاحظ أن الإمبراطور ليو الثالث والد قسطنطين الخامس هو الذي كان حمل لواء الدعوة إلى تحريم الصور والتماثيل، كما حمل على الرهبنة وأصدر مرسوماً سنة 726م واعتبر كل ذلك من الباطل الذي دخل على النصرانية من الوثنية. ويذكر ول ديورانت: أن ليو الثالث تأثر بالتعاليم الإسلامية حيث كان ولد في منطقة قليقية، فلما تولى الإمبراطورية حمل على التماثيل والرهبنة لمخالفتها التعاليم النصرانية، وقال ديورانت ملخصاً كيفية دخول الصور والتماثيل في الديانة النصرانية: " كانت الكنيسة في أول أمرها تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا الوثنية ... ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق، كل هذا قد خفف من حدَّة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثيرٌ من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة، وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجد الناس لها ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي، وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص كانت تُرى الصور المقدسة في كل مكان - في الكنائس والأديرة والمنازل والحوانيت، وحتى أثاث المنازل، والحلي والملابس نفسها لم تخل منها. وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء أو المجاعة أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين بدل أن تعتمد على الجهود البشرية للنجاة من هذه الكوارث. وكم من مرة نادى آباء الكنيسة، ونادت مجالسها بأن الصور ليست آلهة، بل هي تذكير بها فحسب، ولكن الشعب لم يكن يأبه بهذه التفرقة.

وبعد وفاة الإمبراطور قسطنطين الخامس سنة 775م تولى على الإمبراطورية زوجته إيريني التي كانت تؤيد الصور والتماثيل فدعت إلى مجمع عام سنة 787م في نيقية حضره 350 أسقفاً خرجوا بقرار: وجوب تعليق الصور والتماثيل للمسيح وأمه وقديسيهم وكذلك الملائكة، ويقدم لهم صنوف التكريم من التقديس والسجود ويستشفع بهم إلى الله في الحاجات لما لهم من المكانة والدالة على الله - تعالى الله عن قولهم - كما لعن المجمع كل من لا يكرم تلك الصور والتماثيل1.

_ 1 ننقل هنا قرار المجمع السابع المتعلق بالصور والتماثيل لما فيه من المعاني التي تدل على عمق الانحدار الوثني الذي آل إليه أمر النصرانية، فقد قرروا: " أنه كما يرفع الصليب الكريم المحي هكذا يجب أن تعلق الصور الموقرة المقدسة المصنوعة بالدهان أو من الفسيفساء أو من مواد أخرى في كنائس الله المقدسة، وأن توضع على الأواني المكرمة، والحلل الكهنوتية، وأن ترفع وتعلق في المنازل وفي الطرق، ونعني بذلك صورة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، وصورة سيدتنا الكلية الطهارة والدة الإله وصور الملائكة المكرمين وصور كل القديسين وكل الأشخاص الأتقياء، لأنه بتكرار مشاهدتهم من رسومهم يسهل على الشعب أن يتذكر الأصل وتثار فيه الرغبة للإقتداء بسيرتهم، ويجب أن يقدم لهذه الصور الإكرام وسجود الاحترام دون العبادة المختصة بالطبيعة الإلهية دون سواها. وحسب العادة التقوية القديمة يجوز أن يقدم البخور، وتضاء الشموع أمام هذه الصور وأمام الصليب الكريم المحيي وكتاب الأناجيل وغير ذلك من الأشياء المقدسة لأن التكريم الذي يقدم للصورة إنما يقدم للأصل الذي تمثله، فالذي يكرم الصورة إنما يكرم الأصل الممثل فيها مجموعة الشرع الكنسي ص 801.

واستمر النصارى على هذا إلى أن جاء البروتستانت فحملوا على الصور والتماثيل وحرموها وانشقوا بذلك عن بقية النصارى من الكاثوليك والأرثوذكس. 6 - المجمع الثامن سنة 869 م وكان سبب انعقاده الخلاف بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما في الروح القدس هل انبثق من الأب فقط وهو زعم كنيسة القسطنطينية أم من الأب والإبن معاً كما هو زعم كنيسة روما؟ وقد قرر في هذا المجمع قول كنيسة روما بأن المسيح انبثق من الأب والابن معاً. ولم يوافق على ذلك بطريرك القسطنطينية ومن كان معه وأصروا على قولهم وعقدوا لذلك مجمعاً سنة 879م قرروا فيه أن الروح القدس انبثق من الأب وحده فانقسمت بسببه الكنيسة إلى قسمين: 1) الكنيسة الغريبة ويتزعمها البابا في روما وهم الكاثوليك. 2) الكنيسة الشرقية ويتزعمها بطريرك القسطنطينية وهم الأرثوذكس. 7- المجمع الثاني عشر الذي عقد سنة 1215م وقد تقرر فيه أن العشاء الرباني يتحول إلى جسد ودم المسيح، وأن الكنيسة البابوية الكاثوليكية تملك حق الغفران وتمنحه لمن تشاء.

8- مجمع روما عام 1769م: والذي تقرر فيه عصمه البابا في روما.1 من خلال هذا الاستعراض السريع لبعض المجامع النصرانية وقراراتها يتبين لنا ما يلي: أولاً- أن النصارى لا يملكون أدلة صحيحة صريحة في أكثر دعاويهم لهذا اختلفوا تلك الإختلافات الخطيرة التي تمس جميع نواحي العقيدة لديهم. ثانياً - أن ما يستند إليه النصارى ويتحمسون له لا يعدوا أن يكون فهما خاصا يسعى أصحابه لتثبيته عن طريق تلك المجامع، ولا يخلو الأمر من الأهواء والأغراض الخاصة من حب الرئاسة وفرض السيطرة. ثالثاً - أن المجامع لم تكن يوماً من الأيام هيئات شورية يتباحث القسس فيها الأراء ويتوصلون فيها إلى الحق بأدلته، بل كانت في الأغلب تعقد لفرض رأي أو تصور عن طريق تلك المجامع وبقوة السلطان أو قوة الكنيسة. رابعاً- أن تلك المجامع كانت أداة بيد الأباطرة الرومان يسخرونها لرغباتهم في التوسع والسيطرة أو تحقيق أغراض سياسية. خامساً - أن تلك المجامع كانت من أعظم أسباب الفرقة وتثبيتها في العالم النصراني، بحيث أنهم لم يخرجوا في واحد منها متفقين، بل كلما اجتمعوا في مجمع من تلك المجامع يزداد إختلافهم وبالتالي إنقسامهم. سادساً - أن المجامع صاغت العقيدة وقررتها بعد خلاف طويل وهذا يدل

_ 1 انظر: كتاب "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء" ص 254. أضواء على المسيحية ص112-116

على أن العقيدة النصرانية في الإله وفي المسيح، وفي نقاط عديدة ليس لأدلتها من الوضوح ما يكفي لجعلها مسلمات وقطعية الدلالة لكل نصراني نظر في الأناجيل وعلم أقوال المسيح، وهذا أمر يجب التوقف عنده والتفكير في مهمة المسيح ماذا كانت؟ فإنه إذا لم يكن وضح وجلي تلك القضايا وأبان عنها البيان الكامل الذي لا يفتح مجالاً للاختلاف فيها وخاصة أنها من أصول الديانة وأهم العقائد، فما هي مهمته إذاً؟ هل جاء ليلقي كلاماً مبهماً لا يعرف معناه يحار الناس فيه قروناً؟ أم أنه تكلم بكلام واضح وجلي كما هي حقيقة مهمة الرسل إلا أن الناس حرفوا كلامه بعد ذلك وحملوه على غير محامله ونسبوا إليه ما لم يقل؟! سابعاً - إن المجامع قررت قرارات ولعنت وحرمت من لم يقل بها، وقررت أن سبيل النجاة هو اعتقاد تلك الأقوال - وهنا سؤال يطرح نفسه ماهو حال حواري المسيح وأوائل النصارى الذين لم يكونوا يعتقدون تلك العقيدة ولم يتكلموا فيها بكلمة، كالتثليث، وطبيعة المسيح وانبثاق الروح القدس من الأب أو الأب والابن معاً إلى غير ذلك. ثامناً - إن المجامع قد صاغت العقيدة النصرانية بكل تفاصيلها، وذلك يدل على أن أن تلك العقيدة بتفاصيلها صنعة بشرية لم ينزلها الله تعالى على المسيح عليه السلام. تاسعاً - أن المجامع النصرانية هي المصدر الحقيقي للديانة النصرانية المحرفة، لأن تلك الفهوم التي كانت تقرر وتصدر وفقها القرارات لم تكن تعتمد على نصوص قطعية واضحة، بل أحياناً كانت تعتمد على نصوص متشابهة وكلام

محتمل لأكثر من معنى ويكون من أقلها إحتمالاً المفهوم الذي تدعيه الكنيسة، كما في دعوى ألوهية المسيح عليه السلام. وأحياناً كانت لا تعتمد على أي نصوص موجودة لديهم وهو الأكثر، بل يكون تركيباً ذهنياً وهمياً، أو تصوراً خاطئاً بني على تصور خاطئ، كما في قراراتهم المتعلقة بألوهية الروح القدس، وطبيعة المسيح، وتقديس الصور والتماثيل، وعصمة البابا ونحو ذلك. ويصدق عليهم فيما يدعونه من عقيدة ويشرعونه للناس أنهم جعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله يحلون ويحرمون فينطبق عليهم قول الله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} التوبة آية (30 -31) .

الفصل الثالث: عقيدة النصارى

الفصل الثالث: عقيدة النصارى المسيح عليه السلام جاء بالديانة بيضاء نقية توحيدا خالصا، ومنهجا ربانيا واضحا، كما تقدم بيانه أول الكلام على النصرانية. إلا أن النصارى انحرفوا بهذه الديانة عن وجهها الصحيح، إلى وثنية خالصة، وعقائد منحرفة لم يعرفها المسيح عليه السلام ولا حواريوه. وقد كان ابتداء تحريفها من دخول بولس (شاؤول اليهودي) هذه الديانة بعد رفع المسيح عليه السلام - كما سيأتي بيانه. وهذه الديانة المحرفة لم تقرر على ما هي عليه في الوقت الحاضر إلا بعد انصرام ما يقارب خمسة قرون من رفع المسيح عليه السلام، حيث أصبحت تقوم على ثلاثة أسس هي: 1) التثليث. 2) الصلب والفداء. 3) محاسبة المسيح للناس. وسنبين بيانا مختصراً مقولتهم في كل واحد من هذه العقائد ونبين بإذن الله بطلانها.

المبحث الأول: التثليث

المبحث الأول: التثليث المطلب الأول: تعريفه ومرادهم به: مراد النصارى بالتثليث كما يقول قاموس الكتاب المقدس هو: إله واحد، الأب، والابن، والروح القدس إله واحد، جوهر (ذات) واحد متساوين في القدرة والمجد1. ويفسرون هذه العقيدة بقولهم إن تعليم الثالوث يتضمن: 1) وحدانية الله. 2) لاهوت الأب والابن والروح القدس. 3) إن الأب والابن والروح القدس أقانيم2 يمتاز كل منهم عن الآخر منذ الأزل وإلى الآبد. 4) أنهم واحد في الجوهر متساوون في القدرة والمجد. 5) إن بين أقانيم الثالوث تمييزاً أيضا في الوظائف والعمل، لأن الكتاب يعلم أن الأب والابن والروح القدس واحد في الجوهر، متساوون في القدرة والمجد. 6) إن بعض أعمال اللاهوت تنسب في الكتاب المقدس إلى الأب والابن والروح القدس مثل خلق العالم وحفظه، وبعض الأعمال تنسب على الخصوص إلى الأب مثل الإختيار والدعوة، وإن بعض الإعمال تنسب خصوصا إلى الابن مثل الفداء،

_ 1 قاموس الكتاب المقدس ص 234. 2 الأقنوم: كلمة يونانية الأصل تدل على شخصية متميزة، ويوازيها في الإنجليزيه كلمة person أي: شخص. انظر. حقائق أساسيه في الايمان المسيحي ص52

وبعض الأعمال تنسب خصوصاً إلى الروح القدس مثل التجديد والتقديس1. ويزيد "حبيب سعيد" في بيان عقيدة الثالوث عندهم فيقول "لا تعني عقيدة الثالوث أن لنا ثلاثة آلهة، بل إله واحد في ثلاثة أقانيم، وقد عبر عن هذه العقيدة أحسن تعبير قانون ماراثناسيوس "الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهاً واحداً في ثالوث، وثالوثاً في وحدانية ألا نخلط الأقانيم ولانفصل الجوهر، فإن للأب أقنوماً على حدة، وللابن أقنوماً آخر، وللروح أقنوماً آخر، ولكن لاهوت الآب والابن والروح القدس كله واحد، والمجد2 متساوو الجلال أبدى معاً ... الأب إله والابن إله والروح القدس إله، ولكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد ... الأب رب والابن رب والروح القدس رب، ولكن ليسوا ثلاثة أرباب بل رب واحد ... الدين الجامع ينهانا عن أن نقول بوجود ثلاثة آلهة أو ثلاثة أرباب"3 هذه عقيدة التثليث وشرحها عند النصارى. ويتضح منها أنهم يقولون: إن وحدانية الله وحدانية حقيقة، وكذلك تثليثه، فهو واحد حقيقي، وهو في الوقت نفسه ثلاثة حقيقية، حيث يتميز كل واحد من هؤلاء الثلاثة بأعمال ومميزات ليست من مميزات الآخر، وهم في نفس الوقت واحد في جوهرهم أي أن لهم ذاتاً واحدة، وهم متساوون في قدرتهم، ومجدهم، ووجودهم، لم يسبق أحد منهم الآخر.

_ 1 انظر: كتاب: "حقائق أساسية في الإيمان المسيحي" ص 53. 2 هكذا في المرجع ولعل صوابها (واحدوا المجد) حتى تستقيم مع (متساووالجلال) 3 أديان العالم ص280.

فهذا شيء محير جداً!! والحق أنه من خلال الكلام السابق يتضح للناظر وجود ثلاثة أشخاص في عقيدة النصارى وضوحاً بيناً، وذلك لأنهم نصوا على تميز كل واحد بمميزات خاصة. أما الوحدانية فهي مجرد دعوى غير واضحة وهي الدعوى الغير معقولة في كلامهم، لأنهم زعموا أن الثلاثة واحد، وهذا ما لا يعقل. ويصدق عليهم في كلامهم السابق أنهم يعبدون ثلاثة آلهة ويجعلونها ضمن مسمى واحد وهو (الله) وبناءً عليه يعتقدون أنهم موحدون. وهذا منهم ذر للرماد في العيون، لأن ذلك لا يخرجهم من أن يكونوا مشركين يعبدون آلهة مع الله، وهذا ما يحذره النصارى ويحاولون أن يدفعوه عن أنفسهم بدعوى وحدانية الله، ولكن العاقل يستطيع أن يميز بين ما هو حقيقي وبين ما هو مجرد دعوى. وقد نهاهم الله عز وجل عن هذا القول، وبين ضلالهم فيه في قوله عز وجل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} النساء آية (171) . وقولهم في التثليث جمع بين الضدين لأن الوحدانية تنفي الشرك، والشرك ينفي الوحدانية، فلا يمكن أن تجتمع الوحدانية والشرك في مكان واحد بل هما ضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض. والنصارى يعتقدون إجتماعهما مخالفين بذلك الحس والعقل والنقل، ويحاول النصارى أن يقربوا هذه العقيدة للناس بضرب الأمثلة لها.

فمرة يشبهونها بالإنسان المكون من دم وروح وجسد. ومرة بالشمس المكونة من جرم وأنها تنير الأرض وتدفئها. ومنهم من شبهها بالشجرة بأن لها أصل وهي الجذور والساق والورق1. وهذه التشبيهات ليس منها واحد يمكن أن يكون مطابقا لدعوى النصارى في التثليث، لأن جميع هذه الأشياء، إما أن تكون ذاتا واحدة لها أجزاء وأبعاض مثل الإنسان والشجرة، أو صفات وآثار مثل الشمس، بخلاف دعواهم في التثليث فإنهم عندهم ثلاثة حقيقيون، ذوو أعمال مختلفة متباينة، وهم في نفس الوقت واحد حقيقي، وهذا بخلاف الإنسان المكون من دم، وروح، وجسد، فهذه مكونات الجسم ولا يستقل واحد منها بذاته، كما أن الدم ليس الروح، والروح ليس الجسد، والجسد ليس هو الروح والدم وذلك بخلاف دعوى التثليث الذي يزعمون فيه: أن كل واحد من الثلاثة هو الآخرين، لهذا صرح كثير منهم بعدم معقولية التثليث وأنها قضية لا يفهمها العقل ولا يقبلها فمن ذلك: قول القس "توفيق جيد" في كتابه "سر الأزل" "إن الثالوث سر يصعب فهمه وإدراكه، وإن من يحاول إدراك سر الثالوث تمام الإدراك كمن يحاول وضع مياه المحيط كلها في كفه"2. ويقول " باسليوس إسحاق " في كتابه "الحق ":"أجل إن هذا التعليم

_ 1 انظر: حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 52. أديان العالم ص283 2 هذا القسيس يحاول أن يخفف من العبارة الدالة على استحالة التثليث، واستحالة قبوله بجعله سراً ثم زعمه أنه لا يدرك تمام الإدراك، كأنه يوحي بأنه يمكن أن يدرك منه بعض المعاني وتخفي البعض، والواقع أنه لا يدرك منه شيء.

عن التثليث فوق إدراكنا ولكن عدم إدراكه لا يبطله"1. فهذا ما صرحوا به وتوصلوا إليه في النهاية: أن التثليث أمر مرفوض عقلا وغير مقبول، ولكنهم مع ذلك يؤمنون به. ويحاول بعضهم أن يشبه ذلك بقول المسلمين في صفات الله عز وجل "إن العقول لا تدرك كيفيتها"2 وهذا تلبيس وتدليس منهم. لأن إثبات صفات الله عز وجل أمر يقبله العقل بل يوجبه العقل ولا يرفضه، وعدم إدراك كيفيتها يتلاءم مع مستوى علم الإنسان بالله عز وجل، ومن هذا الباب كثير من الغيبيات التي يؤمن الإنسان بها وِفْقَ نصوص الشرع ويقبلها العقل، مثل ما ورد عن الجنة، والنار، وعذاب القبر وغيرها. وذلك يختلف تماماً عن التثليث الذي يزعمه النصارى وهو: أن الثلاثة الحقيقة هي الواحد الحقيقي، والواحد الحقيقي هو الثلاثة، فهذا ما لا يطيق العقل قبوله، وفهمه. ولابد من الإشارة هنا إلى أن التثليث لم يرد بهذا الاسم ولا مرة واحدة في جميع كتب العهد القديم أو الجديد وأن أول من نطق به هو "ثيوفيليوس" أسقف أنطاكية السادس والمعتقد أنه توفي بعد 180م. قال القس حنا الخضري: "إن أول شخص استعمل كلمة ثالوث في تاريخ العقيدة المسيحية هو أسقف أنطاكية، ولقد استعمل هذا الاصطلاح في صيغه غريبة وهي (ثالوث الله) كما أنه يرى في الأيام الثلاثة السابقة لخلق الشمس إشارة إلى الثالوث" 3.

_ 1 انظر: هذه النقول وغيرها في كتاب "النصرانية من التوحيد إلى التثليث" ص 207. 2 حبيب سعيد في كتابه أديان العالم ص282. 3 تاريخ الفكر المسيحي 1/ 463.

وقالوا في قاموس الكتاب المقدس: " إنه يظن أن أول من استعمل هذه الكلمة وصاغها هو "ترتليان" في القرن الثاني ثم "إثناسيوس" الذي وضع أساس هذه العقيدة التي قبلها مجمع نيقيه عام 325 م. ولقد تبلور ذلك الأساس على يد "أغسطينوس" في القرن الخامس الميلادي وصار القانون عقيدة الكنيسة الفعلية من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا"1. ففي هذا دلالة على أن النصارى ابتدعوا عقيدة التثليث في وقت متأخر جداً. والواقع أنهم استوردوها من الأديان الوثنية التي كانت تحيط بهم، أو نقلوها من الأديان التي كانوا عليها قبل أن يدخلوا في النصرانية، فقد ذكر كثير من الكتاب أن التثليث كان منتشراً في كثير من المناطق قبل أن يدعيه النصارى. فمن ذلك قول "برتشرد" في كتابه "خرافات المصريين الوثنيين": "لا تخلو كافة الأبحاث المأخوذة عن مصادر شرقيه من ذكر أحد أنواع التثليث أو التولد الثلاثي أي الأب والابن والروح القدوس". وجاء في كتاب "سكان أوربا الأول" " كان الوثنيون القدماء يعتقدون بأن الإله واحد ذو ثلاثة أقانيم". وقال "بونويك" في كتاب "إعتقاد المصريين" "وأغرب عقيدة عم انتشارها في ديانة المصريين "الوثنيين القدماء" هي قولهم "بلاهوت الكلمة" وأن كل شيء صار بواسطتها وأنها "أي الكلمة" منبثقة من الله، وأنها الله "2.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس ص 232. وانظر تاريخ الفكر المسيحي (1/528) . 2 انظر هذه النقول وغيرها كثير في كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانيةص 35،36،41.

فيتضح من هذا أن مصدر تلك العقيدة الباطلة من الوثنيين الضالين قبل النصارى، وهذا الذي حذر الله منه النصارى في قوله هـ عز وجل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} المائدة (77) . وما بينه الله تعالى لنا في قوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} التوبة آية (130) . وإن الإنسان ليعجب بعد هذا من زعم النصارى أن التثليث هو الدين الحق وأن الله لا يقبل من العباد طاعاتهم ما لم يأتوه مثلثين!! {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .

المطلب الثاني: استدلالات النصارى على التثليث

المطلب الثاني: استدلالات النصارى على التثليث ليس للنصارى على التثليث ما يستحق أن يسمى دليلا إذ أن ما ذكروه يدل على أنهم لفقوا كلاماً زعموا أنه دليلٌ فمن ذلك قولهم: 1- أن الله عز وجل ورد اسمه بالعبرية (ألوهيم) الذي يدل على الجمع وأنه استخدم صيغة الجمع في التحدث عن نفسه في مثل ما ورد في سفر التكوين (1/26) "وقال الله نعمل الإنسان". 2- ألفاظ الصورة الموضوعة للمعمودية1 وهي "عمدوا باسم الأب والابن والروح القدوس" الواردة في إنجيل متى (28/19) . 3- الأحوال التي واكبت تعميد المسيح حيث ورد في إنجيل متى (3/16) "فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه وصوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" 2. بهذه الأدلة التي هي أوهى من خيوط العنكبوت يزعم النصارى أن الله ثلاثة وأن هؤلاء الثلاثة واحد، ويتركون جميع أسفار العهد القديم التي نصت على وحدانية الله، وانفراده جل وعلا في وحدانية الذات، والصفات، والعبادة، وكذلك جميع النصوص الواردة في العهد الجديد التي تدل على ذلك أيضاً وسيأتي إيراد بعض ذلك.

_ 1 المعمودية من التعميد وهو مفتاح الدخول في النصرانية وسيأتي بيانه ص301. 2 انظر: حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 61.

المطلب الثالث: إبطال ونقض ما استدلوا به على التثليث

المطلب الثالث: إبطال ونقض ما استدلوا به على التثليث أدلة النصارى المذكورة هي من الضعف بحيث يَهُمُّ العاقل بالإعراض عنها، إلا أنه لابد من الرد عليهم لأن إستدلالهم بها يعني أن لها شأناً عظيماً في نفوسهم، فنقول: أما الدليل الأول: فدعواهم أن (ألوهيم) تعني الجمع فهذا باطل بنص التوراة التي نصت على أن الله واحد1. كما أن اليهود الذين وجه إليهم الخطاب بهذا لم يفهموا ذلك، ولم يعملوا به، بل يعتبرون أن ادعاء إله غير الإله الواحد الذي هو الله شرك أكبر يستحق معتقده القتل. كما أن كلمة (ألوهيم) كما يذكر الدارسون واردة في نص من النصوص التي تتكون منها التوراة الحالية، وأنه يقابلها في النص الآخر لنفس القصة لفظ (يهوه) 2. أما ما أوردوه من سفر التكوين وهو قول "وقال الله نعمل الإنسان" فلا يعني أكثر من أنها وردت على صيغة التعظيم. ومن أولى بالتعظيم والتفخيم في الخطاب من الله عز وجل، كما أن مئات

_ 1 سيأتي إيراد النصوص في هذا ص 246 2 انظر في بيان النصوص كتاب. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 23.

الأقوال واردة في العهد القديم على لفظ الإفراد، فكيف تترك تلك المئات ويؤخذ بهذه اللفظة الواحدة وشبهها. أما الدليل الثاني: وهو لفظ المعمودية "عمدوا باسم الأب والابن والروح القدس" فهؤلاء ثلاثة وليسوا واحدا، ولا تعنى أكثر من طلب الإيمان بهؤلاء الثلاثة الذين هم الله جل جلاله، ورسوله المسيح عليه السلام، والملك جبريل عليه السلام، كل على ما يليق به إذا صدق راوى هذه العبارة وسيأتي زيادة إيضاح لهذه العبارة في الكلام على الروح القدس1. أما الدليل الثالث: فعلى فرض صحة الرواية بذلك فهي تدل على ثلاثة وهم: المسيح الذي اعتمد، والروح القدس الذي نزل على شكل حمامة، وقائل من السماء "هذا ابني الحبيب". أين أن هؤلاء الثلاثة واحد، هذا ما لا يستطيع النصارى إثباته لا نقلا ولا عقلا.

_ 1 انظر ما يأتي ص 256.

المطلب الرابع: أدلة إثبات الوحدانية وإبطال التثليث من العهد القديم والأناجيل

المطلب الرابع: أدلة إثبات الوحدانية وإبطال التثليث من العهد القديم والأناجيل: التوحيد دين الرسل جميعاً ولم يخالف في ذلك إلا النصارى الذين ادعوا على المسيح عليه السلام أنه جاء بالتثليث، والتوحيد أوضح مطالب التوراة والكتب الملحقة بها إذ يقوم الكتاب كله على التوحيد ومحاربة الشرك والوثنية بكل أشكالها. ومن الأدلة على هذا ما ورد في سفر التثنية (4/35) "إنك قد أريت لتعلم أن الرب هو الإله ليس آخر سواه". وكذلك ما ورد في سفر التثنيه (6/4) " اسمع ياإسرائيل الرب إلهنا رب واحد". وفي إنجيل متى (4/7) "قال له يسوع إذهب ياشيطان. لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" ومثله ورد في إنجيل لوقا (4/8) . وفي إنجيل مرقس (12/28) أن أحد اليهود سأل المسيح " أية وصية هي أول الكل فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع ياإسرائيل الرب إلهنا رب واحد ... فقال له الكاتب: جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه". فهذه وصية المسيح وبين أنها أول الوصايا وأعظمها، ولو كان يقول بالتثليث

لوجب عليه أن ينص عليه في مثل هذا الموطن، إذ كيف يمكن أن يكون مبلغاً عن الله عز وجل ولم يوضح أهم ما أمر به. وفي إنجيل يوحنا (17/3) أن المسيح عليه السلام قال في أخر آيامه "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته". لقد أنطق الله هؤلاء الكتاب بالحق والصدق، وهو أن لا إله إلا الله وحده وعيسى المسيح رسوله، فأين هذا الكلام النوراني الواضح من دعوى التثليث المظلمة التي افتراها ضلال النصارى وغلوا في دينهم وقالوا بها على الله غير الحق؟ قال الله عز وجل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} النساء آية (171) .

المطلب الخامس: الأقانيم الثلاثة تعريفها وأدلتهم عليها وبيان بطلان تلك الأدلة

المطلب الخامس: الأقانيم الثلاثة تعريفها وأدلتهم عليها وبيان بطلان تلك الأدلة النصارى يزعمون كما سبق بيانه بأن الله ذو ثلاثة أقانيم1 الأب، والابن، والروح القدس، وسنبين مرادهم بكل واحد من هذه الأقانيم ونبين بطلانه.

_ 1 سبق التعريف بها ص 236.

أ- الأقنوم الأول: الأب. 1- المراد به: يراد بالأب عندهم: الذات الإلهية مجردة عن الابن والروح القدس، وهو بمنزلة الأصل والمبدأ لوجود الابن. مع أن هذا لا يعني لديهم أن الأب سبق الابن في الوجود بل الابن أزلي الوجود معه لم يسبق أحدهما الآخر. وليس له عمل عندهم إلا الإختيار والدعوة 1 2- أدلتهم على أبوة الله للمسيح تعالى الله عن قولهم: وردت كلمة الأب لدى النصارى في العهد الجديد في مواطن عديدة وورد في بعضها نسبة أبوة الله للمسيح، منها ما ورد في إنجيل متى (10/32) "فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضا به قدام أبي الذي في السموات". وأيضاً قوله عن وقت القيامة (24/36) " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد من ملائكة السموات إلا أبي وحده " 2. ورد في إنجيل لوقا (2/49) من كلام المسيح لأمه وزوجها في زعمهم "فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي" 3. وورد أيضاً في إنجيل يوحنا (8/19) "فقالوا له أين هو

_ 1 انظر حقائق أساسية في الإيمان المسيحي (ص53،66) 2 وانظر أيضاً في إنجيل متى (12/6) (15/13) (16/17) (18/10،19،35) (20/23) (24/36) (25/34) (26/29) . 3 وانظر في إنجيل لوقا (22/29) .

أبوك. فأجاب يسوع لستم تعرفونني أنا ولا أبي لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً"1. فبناءً على هذه النصوص زعم النصارى أن الله تعالى "أبٌّ " للمسيح أبوة حقيقية، وهو كلام باطل، ووهم خاطئ وافتراءٌ على الله تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا. 3- الرد عليهم وبيان بطلان قولهم: يرد عليهم من عدة أوجه:- أولاً: أن النصارى اعتمدوا في إثبات هذا على ألفاظ وردت في الأناجيل الأربعة وغيرها من كتب العهد الجديد، وهذه الأناجيل كما سبق بيانه2 لا تصلح أن تكون مستنداً لهذا لأنها كتب غير موثقة، ولم يستطع النصارى أن يثبتوا صحة نسبتها إلى الأشخاص الذين نسبت إليهم فضلاً عن أن ينسبوها إلى المسيح عليه السلام أو إلى الله عز وجل. كما أن بينها اختلافات عديدة في هذه الألفاظ نفسها، فكلمة (أبي) وردت في "إنجيل متى" من كلام المسيح ما لا يقل عن اثنتي عشرة مرة، ولا تكاد تراها في "إنجيل مرقص"، أما "إنجيل لوقا" فذكرت في موضعين تقريباً، وأما "إنجيل يوحنا" فوردت فيه فيما يقارب ثمانية عشر موضعا3 مما يدل على أن هذه الكلمة تتبع عقيدة خاصة وفهما خاصا لدى الكاتب لا يرتبط فيه ولا يلتزم بعبارة المسيح

_ 1 وانظر أيضاً إنجيل يوحنا في (5/18،43) (6/32،65) ، (8/28، 38،49،54) (10/25،29،37) ، (14/21،28) ، (15/1،24) . 2 انظر موضوع. إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة. 3 انظر هذه المواضع في الصفحة السابقة.

وألفاظه، وإنما يكتبها ويعبر عنها الكاتب وفق عقيدته وتصوره. مثال ذلك أن المثال السابق المذكور عن وقت الساعة من إنجيل متى، ورد فيه (أبي وحده) 1، وقد ذكر مرقس في (13/32) هذه الجملة إلا أنها عنده هكذا "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب". فهنا قال الأب بدون ياء النسب وهناك في "متى" قال "أبي" وبينهما فرق عظيم. ثانياً: أن النصارى لا يعتقدون أن الله أبٌ للمسيح أبوة حقيقية من ناحية أن الأب غير الابن وأنه قبله في الوجود، بل يرون ويعتقدون أن الله تعالى أب للمسيح وهو في نفس الوقت هو هو، ليس هو غيره، حيث يقولون إنهم جوهر واحد، ولم يسبق الأب الابن في الوجود، وهذا يجعل كلمة الأب الواردة في الأناجيل لديهم ليس لها مفهوم حقيقي، وهذا يبطل استدلالهم بهذه النصوص ويجعلهم يستدلون بها على غير ما يقصدون ويعتقدون. ثالثاً: على فرض صحة الروايات الواردة لديهم في الأناجيل في كلمة "الأب" فيجب أن تفسر على معنى غير الأبوة الحقيقة لأمرين: 1- أنهم أوردوا على لسان المسيح كلاماً كثيراً لا يمكن أن يحمل على المعنى الظاهري بل لابد من حمله على المجاز كقوله "فقال لهم يسوع: أنا هو خبز الحياة" يوحنا (6/35) وأيضا أنه قال لليهود "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم

_ 1 انظر ص 248.

تريدون أن تعملوا" يوحنا (8/44) . فهذا كلام لا يؤخذ على ظاهره فكذلك أبوة الله للمسيح. 2- أن نسبة الأبوة إلى الله ليست خاصة في المسيح لديهم، بل وردت في العهد القديم، وفي الأناجيل منسوبة إلى غير المسيح، ومن ذلك ما ورد في سفر صموئيل الثاني (7/14) في كلام الله في زعمهم عن سليمان بن داود عليهما السلام " أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا". وورد في إنجيل متى (6/1) من كلام المسيح لتلاميذه "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم أمام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات" 1. وفي إنجيل مرقص (11/25) من قول المسيح لتلاميذه أيضاً "ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيء لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم، وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر لكم أبوكم الذي في السموات أيضاً زلاتكم". في إنجيل لوقا (11/2) من قول المسيح لتلاميذه " فقال لهم: متى صليتم فقولوا أبانا الذي في السموات". وفي إنجيل يوحنا (20/17) وهو من آخر كلام المسيح بعد القيامة المزعومة " قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي

_ 1 وانظر للإستزاده في إنجيل متى (6/6، 14، 18،33) ، (7/11) ، (10/20، 29) . (13/43) ، (18/14) .

ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". فهذه النصوص على فرض صحتها فيها دلالة واضحة على نسبة أبوة الله تعالى للتلاميذ، والمراد بها في كلام النصارى في هذه المواضع أبوة النعمة1. وما سبق ذكره من النصوص التي ورد فيها أبوة الله للمسيح لا تختلف عن هذه النصوص فالقول فيها مثل القول في هذه. فمن هنا يتضح أنه ليس في هذا اللفظ ما يدل على معتقد النصارى في الله وأنه أب للمسيح سوى من ناحية النعمة والإحسان.

_ 1 انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 18.

ب- الأقنوم الثاني: الابن: المراد بالابن عندهم كلمة الله المتجسدة وهو المسيح عليه السلام، ويزعمون أن الابن مساو للأب في الوجود، وأن الأب خلق العالم بواسطة الابن، وأنه الذي نزل إلى الأرض بالصورة البشرية فداء للبشر، وهو الذي يتولى محاسبة الناس يوم القيامة. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. أدلتهم على أن المسيح ابن الله تعالى الله عن قولهم: استدل النصارى على أن المسيح ابن لله بما ورد في الأناجيل من النصوص التي تنسب المسيح ابنا لله، ومن تلك النصوص ما ورد في إنجيل متى (16/16) من قول بطرس لما سأله المسيح عن نفسه ماذا يقول الناس عنه قال " أنت هو ابن الله الحي" 1. وفي إنجيل يوحنا (11/4) ورد على لسان المسيح في زعمهم "فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله"2. فبمثل هذه الإطلاقات اعتقد النصارى أن المسيح ابن الله، بمعنى أنه خرج من الله عز وجل وهو قول باطل وافتراء على الله عز وجل تعالى الله عن قولهم.

_ 1 وانظر في متى هذا الإطلاق في (3/17) ، (8/29) ، (14/33) ، (27/43) ، وورد في إنجيل مرقص في ثلاثة مواضع فقط (3/11) (5/6) ، (15/39) ، وفي إنجيل لوقا في ثلاثة مواضع كلها من كلام إبليس والشياطين وهي في (4/3،9،41) . 2 وانظر في إنجيل يوحنا في (1/18، 49) ، (3/16، 18) ، (5/19، 25) ، (6/70) (9/35) ، (11/7) ، (19/7) ، (20/31) .

الرد عليهم: وللرد على النصارى يمكن القول بأن ما أوردوه من أدلة لا تصلح أن تكون مستنداً لإثبات عقيدة خطيرة كهذه لما يلي: أولاً: أن كتبهم التي يستندون إليها في هذا هي كتب غير موثقه، وغير سليمة من التحريف، وقد سبق بيان هذا 1 ثانياً: أن البنوة التي يزعمها النصارى تختلف عن ظاهر لفظ "ابن الله" الوارد في الأناجيل، فالابن في الأصل جزء من الأب ومتخلق من نطفته ويكون الأب سابق للإبن في الوجود، والفضل له في وجوده، وما يعتقد النصارى في المسيح لا يتفق مع البنوة الحقيقية، وإنما يزعمون أن الابن هو الأب، وأنه مساوٍ له في الجوهر والوجود والمجد، وهي أمور لم ترد في الأناجيل، ولا يستطيع النصارى أن يقيموا عليها الدليل العقلي فضلاً عن الشرعي. ثالثاً: أن هذا الوصف وهو "ابن الله" أطلق على غير المسيح في مواطن كثيرة من أناجيلهم، منها في إنجيل متى (5/9) "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"، وفي (5/45) إن المسيح خاطب تلاميذه قائلاً " وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات".

_ 1 انظر موضوع إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة.

وفي إنجيل يوحنا (1/12) فقد ورد عن المؤمنين بالمسيح "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله". وفي إنجيل لوقا (20/ 36) قال " لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله أبناء القيامة". وورد وصف يعقوب وبنيه بذلك ففي سفر الخروج (4/22) أن الله خاطب موسى قائلا له "فتقول لفرعون هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني" وكذلك ورد في سفر إشعياء (43/6) "إئت ببني من بعيد وببناتي من أقصى الأرض". والنصارى لا يقولون إن بني إسرائيل والحواريين أبناء الله حقيقة، وإنما يقولون هذه بنوة مجازية تعني العبادة من طرف العباد، والحفظ واللطف والرعاية من قبل الله عز وجل لهم،1 فكذلك إذاً ما ورد من بنوة المسيح لله لا تعني غير ذلك، إذ أن العبارتين واحد، فيجب أن يستويا في الدلالة والمعنى، ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، وليس هناك ما يدل على خلاف ذلك. رابعاً: أن المسيح عليه السلام قد دلت الأدلة الكثيرة على بشريته، وأنه رسول الله،2 كما أوردت الأناجيل وصفه بأنه ابن الإنسان وابن داود وغير

_ 1 انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 109. 2 انظر ما سبق في ص144.

ذلك من الأوصاف الدالة على بشريته، ومن ذلك ما ورد في إنجيل متى (8/20) "فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" 1. وفي إنجيل مرقص (2/28) "ابن الإنسان هو رب البيت أيضاً" 2. وفي إنجيل لوقا (7/34) من كلام المسيح لليهود " جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول شريب خمر محب للعشارين والخطاة"3. وفي إنجيل يوحنا (1/51) "الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان". وفيه أيضا (8/40) يقول لهم المسيح "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" 4.

_ 1 وتكرر هذا الوصف في إنجيل متى في المواضع التالية (9/6) ، 10/23) ، (11/19) ، (12/8،32،40) ، (13/41) ، (16/13) ، (17/9،12،22) ، (18/11) ، (19/28) ، (20/18،28) ، (24/27، 30، 37، 39) ، (25/13،31) ، (26/1) (45/64) . 2 وانظر أيضا هذا اللفظ فيه في (2/10) (8/31،38) ، (9/9،12) ، (10/33) ، (13/26) ، (14/21،41) ، وابن داود في (1/48) . 3 وانظر أيضاً (5/24) ، 6/5) ، (22،44،56،58) ، (11/30) ، (12/8،10،40) ، (17/22،36،30) ، (18/8،21) ، (19/10) ، 21/27،36) ، (22/22،49) . 4 وانظر أيضا فيه في (3/13،14) ، (5/27) ، (6/27، 62) ، (12/34) ، (13/31) .

فورد وصفه بأنه ابن الإنسان في ثمانية وستين موضعا تقريباً في الأناجيل الأربعة، أما ما ورد وفيه إطلاق (ابن الله) عليه فقد ورد في ثلاثة وعشرين موضعا تقريباً في الأناجيل الأربعة، منها أربعة مواضع فقط التي ورد فيها هذا الوصف من كلام المسيح، أما الباقي فليس من كلام المسيح بل بعضه من كلام إبليس والشياطين، فكيف يترك المعنى الظاهر الواضح الذي تؤيده النصوص الكثيرة والواقع، والذي يتفق مع العقل والمنطق إلى المعنى الخفي البعيد الذي تعارضه النصوص ولا يتفق مع العقل ولا المنطق!!

جـ- الأقنوم الثالث: الروح القدس: وهو عندهم مساو للأب والابن في الذات والجوهر والطبع وهو في كلامهم روح الله الذي يتولى تأييد أتباع المسيح وتطهيرهم1. وقد استدلوا على قولهم بألوهية الروح القدس بأن الكتاب المقدس لديهم وصف الروح القدس بصفات لا يوصف بها إلا الله عز وجل فدل هذا عندهم على ألوهيته2. وللرد عليهم نقول: إن ما أورده النصارى مما نقلوه عن الأناجيل فليس في الأناجيل أي عبارة تدل على المعنى الذي يدعونه في الروح القدس وهو الألوهية. فقد ورد اسم الروح القدس في حمل مريم بالمسيح عليه السلام في إنجيل متى (1/18) "لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس". والروح القدس في هذه القصة المراد به جبريل عليه السلام كما فسره بذلك لوقا في إنجيله (1/26) "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصره إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم". فعلى هذا التفسير يكون الروح القدس المراد به جبريل عليه السلام في كل موطن ورد ذكره فيه، إلا أن تكون الصفة المطلقة عليه لا تطلق إلا على الله

_ 1 انظر حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 60، قاموس الكتاب المقدس ص 414، النصرانية من التوحيد إلى التثليث ص 235. 2 انظر حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 60، قاموس الكتاب المقدس ص 414، النصرانية من التوحيد إلى التثليث ص 235.

عز وجل فهنا لابد من التحقق من صحة العبارة ودقة نقل الألفاظ. ومما ورد لديهم في هذا ما ورد في إنجيل يوحنا عن "الباركليت" أو "المعزى"1 فمما قالوا فيه (16/12) "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية". فهذا فيه دلالة واضحة على أن الموصوف بأنه روح الحق شخصية مستقلة، وهو مبلغ لرسالة أوكل إليه تبليغها، فليس فيه ما يدل على ألوهيته ولا أنه جزء من الإله، وإلا للزم أن يكون الأنبياء آلهة أيضا، لأنهم يعلمون كل ما علمهم الله به، ويخبرون عن أمور آتيه مستقبلة. أما ما أوردوه من إنجيل متى (28/19) أن المسيح قال لتلاميذه بعد قيامته "فاذهبوا وتلمذو جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس". فأولاً: هذا النص لم يذكره إلا صاحب إنجيل متى وهو إنجيل غير موثق وغير ثابت النسبة إلى متى الحواري2. ثانياً: على فرض صحة هذه العبارة فإن هؤلاء ثلاثة وليسوا واحداً وكل واحد منها له مدلوله الواضح تفسيره فالأب هو: الرب جل وعلا. أما الابن فلا يمكن أن يكون المقصود به البنوة الحقيقية، وقد سبق بيان

_ 1 سيأتي بيان مرادهم به في الكلام على البشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام ص342. 2 انظر ما سبق ص188-190.

هذا1 وأن المراد به العبد الصالح، فيكون المقصود به المسيح عليه السلام وهو عبد الله ورسوله. أما الروح القدس فلا يمكن أن يكون المقصود به جزء من الإله الذي هو صفة الحب أو الحياة أو نحو ذلك، إذ أن ذلك لا دليل عليه إنما يعني الملك جبريل عليه السلام، كما هو مصرح به في رواية لوقا السابق ذكرها التي فيها أن الملاك جبريل عليه السلام هو الذي نزل على مريم، فتكون العبارة هي دعوة الناس إلى الإيمان بالله والنبي والملك. فمن هذا كله يتضح لنا أن عقيدة النصارى التثليث ليس لها أدلة تثبت صحتها، كما أن كل أقنوم من أقانيم الثالوث لا يوجد له أدلة تثبت مفهومهم له، مما يجعل التثليث كله قائم على دعاوى لا دليل عليها، ولا مستند لها شرعي ولا عقلي.

_ 1 انظر ص 253.

المطلب السادس: الاتحاد: (التجسد)

المطلب السادس: الإتحاد: (التجسد) الاتحاد لدى النصارى المراد به هو: أن الله - تبارك وتعالى - اتخذ جسد المسيح له صورة، وحل بين الناس بصورة إنسان هو المسيح1 - تعالى الله عما يقولون. أدلتهم على دعواهم في الإتحاد (التجسد) : النصارى يزعمون أن لهم أدلة على هذه الدعوى ومن أظهر ما يستدلون به على ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا في بدايته (1/1-14) من قول صاحب الإنجيل "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسداً وحل بيننا". ومن أدلتهم أيضاً ما ورد في إنجيل متى (1/23) من البشارة بالمسيح وهو قولهم "وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه "عمانوئيل" الذي تفسيره الله معنا". ويستدلون أيضاً بقول بولس في رسالته الأولى لتيموثاوس (3/16) "عظيم هو سر التقوى. الله ظهر في الجسد. تبرر في الروح". كما يستدلون أيضاً بما ورد في الرسالة إلى العبرانيين (1/2)

_ 1 انظر حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص76-77.

"الذي به أيضاً عمل العالمين الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته". فهذا أهم ما يستدلون به ويعولون عليه في هذه القضية الخطيرة والعقيدة العجيبة. الرد عليهم: يرد على النصارى في هذه العقيدة الباطلة من عدة أوجه: أولاً: هذه العقيدة من المستحيل عقلاً قبولها لأنها تعني أن الله جل جلاله وتقدست اسماؤه قد تقمص هيئة النطفة أو هيئة الجنين ودخل في بطن مريم وعاش في تلك الأوحال والأقذار فترة من الزمن يرتضع الدم ثم اللبن وتمر عليه أحوال وأطوار الجنين والوضع ثم الطفولة ومستلزماتها. فهل في الأقوال والتصورات أشد بطلاناً وأقبح تصوراً من هذه العقيدة وهذه المقولة؟ إن الإنسان السوي ليعجز عن التعبير عن قباحة مثل هذه اللوازم لهذه المقولة الفاسدة. ثم يقال لهم من الذي كان يدير العالم ويدبر شؤونه وربه وسيده ومدبره في زعمهم الفاسد في بطن امرأة يتقلب بين الفرث والدم؟ فهل يعقل النصارى ما يقولون ويزعمون، أم لا يعقلون؟ ثانياً: إن دعوى التجسد لديهم بما فيها من اللوازم الفاسدة والتصورات القبيحة المهينة في حق الله جل جلاله وتقدست اسماؤه إنما هي مبررات للصلب ثم الفداء في زعمهم - وسيأتي بيان بطلان ذلك كله1 وأنها من

_ 1 انظر ص 268 وما بعدها.

مخترعات النصارى التي لا دليل عليها - فعلى ذلك فما بني على باطل فهو باطل أيضاً. ثالثاً: ما يستندون إليه مما ورد في إنجيل يوحنا فقد سبق بيان عدم الثقة به لعدم وجود إسناد يثبت صحة ذلك الإنجيل، وأنه أقل الكتب نصيباً من الصحة بل صرح الكثير من النصارى كما سبق بيانه بأنه إنجيل مزور،1 كما أن النص المذكور منه هو نص مضطرب لفظاً ومعنى، ولا يتضح مدلوله، إنما بنبئي عن عقيدة مهزوزة مضطربة ليست واضحة المعالم لدى قائله، فقوله:"في البدء كان الكلمة " ما هو الذي كان الكلمة إذا كان الله تعالى؟ فهل الله كلمه؟ هذا ما يبدو من سياق العبارة حيث يضيف "وكان الكلمة الله" فهل في عقيدة النصارى أن الله كلمة؟ ذلك باطل ولا يقول به النصارى، كما أن معنى ذلك أن كلمة أنتجت كلمة، والكلمة الأولى هي الله، والكلمة الثانية هي المسيح، ولا يقول النصارى بذلك، فهي عبارة مضطربة لا معنى لها في عقيدة النصارى. ثم ما المراد بالبدء؟ هل يعنى ذلك بداية الله أم بداية الكلمة التي يزعمون أنها المسيح؟ كلاهما باطل في عقيدة النصارى فهم يعتقدون أن الله أزلي والكلمة معه أزليه؟ وأن الله لم يسبق المسيح في الوجود2 فهذه أيضاً لا مدلول ولا معنى لها في عقيدة النصارى بل هي تناقض عقيدتهم. وما بعدها أعجب منها حيث يقول: "وكان الكلمة عند الله" فكيف هي الله؟

_ 1 انظر 194. 2 انظر 237.

وكيف هي عنده؟ هذا ما لا يقبله العقل السليم، أما عقول النصارى الضالة فتقبله، لأنهم يزعمون أن المسيح هو ابن الله وهو الله وهو عند الله في وقت واحد. ثم قوله: "والكلمة صار جسداً ثم حل بيننا " هذا بيت القصيد لدى النصارى، وهو أن الكلمة تحولت إلى جسد وهو المسيح وحلت بين الناس، ومرادهم بالكلمة في تأويلاتهم الفلسفية: عقل الله أو فكر الله، وهي مقولة الفلاسفة الوثنيين حيث زعموا: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا الذي صدر عنه هو العقل الفعَّال وهو الذي خُلق العالم بواسطته، فهذه مقولة الفلاسفة1 اقتبسها كاتب الإنجيل وضمنها كتابه بدون أي مستند من وحي سماوي. رابعاً: النص المذكور من إنجيل متى واستشهادهم بالنبوءة السابقة قد سبق بيان أنها غلط من أغلاطهم، ومن دلائل تحريفهم، وأن ما كتبوه إنما أملاه البشر وليس من عند الله، إذ أن هذه النبوءة المقصود بها شخص آخر ولد وتحققت النبوءة وانتهت في زمن ذلك النبي "إشعياء" كما نص على ذلك العهد القديم2. فعليه فهو استشهاد خاطئ وما بني عليه خطأ وضلال، ثم إن النصارى لتعمقهم في إضلال أنفسهم وأتباعهم يحرفون تفسيره من "الله معنا" إلى "الله ظاهر لنا" 3 ومعلوم أن معية الله لا يتضح منها التجسد صراحة فأضافوا "الله ظاهر لنا" حتى تكون مفسرة للمعية، وهذا من تعمقهم في الضلال وإضلال الناس.

_ 1 انظر: موسوعة الفلسفة (1/197) في ذكره للأفلاطونية المحدثة. 2 انظر ما سبق 207. 3 انظر كتاب (الله طرق إعلانه عن ذاته) لعوض سمعان ص33، نقلاً عن كتاب "المسيح في القرآن" لعبد الكريم الخطيب 177.

خامساً: ما أوردوه من كلام بولس هو كلام مردود عليه وغير مقبول، إذ يجب عليه أن يبين مستنده لما يقول من كلام المسيح نفسه، وإلا يعتبر مدع كاذب، وهذه حقيقة ذلك الرجل الذي أضل النصارى عن دين المسيح حيث تنسب إليه جميع التحريفات التي عليها النصارى1. سادساً: ما أوردوه من الرسالة إلى العبرانيين2 فإن صح كلامهم في نسبة الرسالة إلى بولس فالقول فيها ما سبق. وإن لم يثبت نسبتها إلى بولس فكيف يأخذ النصارى عقيدة خطيرة كهذه من كتاب لا يعرف كاتبه ولا يدرى من هو؟! كما يدلنا هذا على مستوى اهتمام النصارى بالأمور الدينية وعنايتهم بصحة ثبوتها والثقة بناقليها، حيث أنهم اعتمدوا على أقوال المجهولين والنكرات في أخطر عقيدة يعتقدونها وهي التجسد المزعوم، وذلك يبين لنا مدى وضوح النداء القرآني لهم في قوله عز وجل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} المائدة آية (68) . سابعاً: أن هذه العقيدة مع خلوها من النصوص الشرعية التي تثبتها فهي مناقضه للعقل، ويعترف النصارى بذلك، ويجعلونها من الأسرار، وفي هذا يقولون عن التجسد: "فهو سر الأسرار الذي فيه يستعلن الله العظيم الأبدي إلى الإنسان الضعيف في صورة الناس المنظوره وتحت حكم الزمن، وبالعقل لا يدرك الإنسان من هذا السر شيئاً، وإنما

_ 1 سيأتي بيان ذلك في عوامل تحريف رسالة المسيح عليه السلام. 2 الرسالة إلى العبرانيين هي إحدى رسائل العهد الجديد وقد سبق بيان الشك في صحتها انظر ص 183.

يمكن للروحانيين بالروح القدس أن يعرفوا حتى أعماق الله"1. لقد قطع النصارى على أنفسهم نعمة النظر واستخدام العقل الذي وهبهم الله إياه وتحكموا في أتباعهم بإجبارهم على إلغاء عقولهم فيما يملون عليهم من ترهات وسخافات وذلك بقولهم بزعمهم " إنها سر لا يدرك" ولا يفهم ولا يعرف. والأمر إذا خلا من الدليل الشرعي والدليل العقلي لا يكون إلا من إملاء الشياطين وأتباعهم. ثم إن النصارى يخدعون الناس بما يزعمون من أن الأمر يدرك بالروح القدس. فإن هذا من الكلام الفارغ الذي لا معنى تحته، لأن معنى قولهم هذا أن قبول شخص من الأشخاص لهذه العقيدة إنما يتم بالروح القدس فإذا لم يقبلها عقله ولا قلبه بناءاً على خلوها من الدليل الشرعي والعقلي. قالوا له إن الروح القدس لم يهبك الإيمان بها. وهذا كلام فارغ، إذ من المعلوم أن جميع الوثنيين يؤمنون بترهاتهم وشركهم، وإيمانهم بها لم يقم على دليل شرعي ولا عقلي وهذا وجه بطلان عقائدهم. إذاً فقبولهم لها تم عن طريق التسليم لعلمائهم ودعاتهم بدون دليل أو وعي صحيح، فمن هنا يشبه النصارى الوثنيين من ناحية دعواهم بوجوب التسليم لمقولتهم بدون استناد على الشرع أو استخدام للعقل في القضية. أما الروح القدس فأقحم هنا إقحاماً، وإلا فما الذي يثبت أن الروح القدس هو الذي جعل أحدهم يؤمن بما يقال له وليس شيطاناً من الشياطين؟ كيف يفرق الإنسان بين الإثنين؟ ليس هناك وسيلة للتفريق إلا بالدليل الشرعي والعقلي

_ 1 تأملات في سر التجسد ص7.

معاً. وقد استطاع النصارى بخبث شديد أن يعطلوهما ويلغوهما لما زعموا أن الأمر سر من الأسرار الكنسية التي يجب الإيمان به إيماناً مجرداً عن الفهم. وهم إذا عجزوا عن فهم قضية وإقامة الدليل عليها زعموا أنها سر. ولازم ذلك: أن كبارهم وعلماءهم إما أن يعلموا ذلك السر أولا يعلمونه. والحقيقة أنهم لا يعلمونه ولا يدرون له وجهاً، وأن علم الطالب المبتدئ منهم مثل علم أكبر القسس فيهم في مثل هذه القضايا، وإذا كان أمر لا يعرفه الكبير ولا الصغير فكيف يقبلونه؟! فلا بالشرع استناروا ولا بالعقل استرشدوا، ودعوى أن الروح القدس يعلمهم، دعوى فارغة لا حقيقة لها، وإلا وجب أن يوحى إليهم بالسر، وهم يعلمون الناس، حتى تكون للناس قناعة، وهم أنفسهم يجدوا القناعة بما يقولون ويعتقدون. ثم ما هذه الدعوى العريضة التي زعموا، وهي أن الروحانيين يعرفون أعماق الله، ماذا يعرفون عن أعماق الله1؟ انظر كيف فتحوا الباب للافتراء على الله والكذب عليه جل وعلا بما لا يستطيعون أن يأتوا منه بشيء، والله عز وجل يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ

_ 1 هذه الدعوى في الأصل من كلام بولس حيث يقول في رسالته الأولى إلى كورنثوس (2/10) "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" هكذا زعم هنا ويُقْصَد بالروح - الروح القدس وهو إله عندهم كما سبق، وصاحب كتاب تأملات من سر التجسد، زعم استطراداً أن الناس الذين يعطيهم الروح القدس من علمه يعرفون أعماق الله - وهو كلام فارغ ويرده أيضاً كلام بولس في رسالته إلى روميه (11/33) "يالعمق غنى الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لأن من عرف فكر الرب؟ أو من صار له مشيراً؟ ".

مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} البقرة آية (255) . ويقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} طه آية (110) جل وعلا عن افتراءات الجاهلين وتخرصات المتخرصين الظالمين.

المبحث الثاني: الصلب والفداء

المبحث الثاني: الصلب والفداء الصلب: هو التعليق على خشبة الصليب: واليهود والنصارى يعتقدون أن المسيح عليه السلام مات مصلوباً. ويزعم اليهود أن المسيح كفر بالله لهذا حملوا عليه وطالبوا بدمه وزعموا أنه مات مصلوباً. والموت على الصليب يستلزم اللعنة عندهم فقد ورد في سفر التثنية (21/22) "وإذا كان على إنسان خطيئة حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنها في ذلك اليوم. لأن المعلق ملعون من الله". أما النصارى فهم يعتقدون كذلك أن المسيح مات مصلوبا إلا أنهم يعللون ذلك بأنه: صلب فداءاً للبشر لتخليصهم من خطيئة أبيهم آدم عليه السلام، وهي أكله من الشجرة التي نهي عنها، فانتقلت تلك الخطيئة إلى أبنائه، وأغضبت الله عليهم أيضاً، فكان لابد من وسيط يتحمل هذا الإثم ويرضى بأن يموت على الصليب، وهذا الوسيط المخلص في زعمهم لابد أن يكون ذا وضع متميز خال من الإثم والخطأ، ولا يكون هذا إلا ابن الله - الذي هو الله في زعمهم - ثم لابد أن يكتسب الخطيئة عن طريق الجسد فهذا ما جعله يتجسد في صورة عيسى، ويخرج من بطن مريم ثم يموت على

الصليب فداءاً للبشر، فيرضى الله بذلك عن بني آدم وترتفع عنهم تلك الخطيئة، لأنهم يزعمون أن الله جل وعلا منذ وقع آدم في الخطيئة، وهو غضبان على بني آدم بسبب الخطيئة، ولابد بناءاً على عدله أن يعذبهم، وهو بناءاً على رحمته يحب أن يرحمهم، فأنزل ابنه ليكون الوسيط والفداء الذي يقع عليه العدل فيعذب على الصليب حتى الموت فيكون موته فداءاً لبني آدم فيمكن بعد ذلك رحمة بني آدم لأن العقاب قد حل بالوسيط المخلص، فكان بهذا المسيح هو الذي جمع بين عدل الله ورحمته وفتح باب رحمة الله لخلقه مرة أخرى1. فتبين أن هنا أمران وهما: الصلب، والفداء فنبين ما يتعلق بكل واحد منهما:

_ 1 انظر: كلام النصارى في كتاب الخطيئة والكفارة ص 33، 43، وانظر كلامهم في كتاب (كفارة المسيح) ص 17-24، وص94-95، وانظر كتاب (ما هي النصرانية) ص76-88.

المطلب الأول: الصلب

المطلب الأول: الصلب: أ- قصة الصلب إجمالا كما وردت في الأناجيل: يعتقد النصارى كما سبق بيانه أن المسيح مات مصلوباً. وقصة الصلب كما وردت في الأناجيل باختصار هي: أن المسيح عليه السلام طلبه اليهود ليقتلوه لأنه في زعمهم كفر بالله، فدلهم على مكانه أحد أتباعه وهو يهوذا الإسخريوطي بعد أن أغروه بالمال، فقبضوا عليه ليلة الجمعة بعد أن كان قد فرغ من صلاة طويلة تضرع وتوسل فيها إلى الله عز وجل أن لا يذيقه هذه الكأس، ثم ساقوه إلى دار رئيس كهنة اليهود الذي تحقق من أنه مستحق للقتل، ثم حمل إلى دار الوالي الروماني الذي حكم عليه بالصلب بناءا على رغبة اليهود، فصلب الساعة الثالثة صباحاً من يوم الجمعة ومات على الصليب الساعة التاسعة مساءا أي وقت العصر بعد أن صاح "إلهي إلهي لماذا تركتني". ثم أُنِزْل من الصليب في تلك الليلة، وأُدِخْل قبرا بقي فيه تلك الليلة ثم نهار السبت ثم ليلة الأحد، ولما جاؤا إليه صباح الأحد وجدوا القبر خاليا وقيل لهم إنه قام من قبره ثم إنه ظهر لهم في الجليل وكلمهم وبقي معهم أربعين يوماً ثم ارتفع إلى السماء. وهم ينظرون إليه، هذا ما ورد في الأناجيل عن قصة الصلب اجمالاً1.

_ 1 انظر في إنجيل متى الإصحاح 26-28 - مرقص الإصحاح 14-16 - لوقا 22-24 - يوحنا 18-21 - وانظر أعمال الرسل (1/3) .

ب- اختلاف المعلومات الواردة في الأناجيل عن الصلب: إذا نظرنا إلى قصة الصلب في الأناجيل نجدها مختلفة في أكثر نقاطها، وإليك بيان الإختلافات الموجودة في رواية هذه القصة. 1) ذكر لوقا: أن ملكاً من الملائكة تراءى للمسيح يقوي عزيمته في آخر صلاة صلاها. ولم يذكر ذلك الأخرون. 2) ذكر لوقا: أن المسيح صلى مرة واحدة، ولم يوقظ تلاميذه إلا مرة واحدة، أما متى ومرقص، فذكرا أن ذلك تكرر ثلاث مرات، ويوحنا لم يذكر من ذلك شيئاً. 3) أن الأناجيل الثلاثة متى ومرقص ولوقا ورد فيها: أن العلامة بين يهوذا الذي دل اليهود على مكان المسيح واليهود الذين جاؤا للقبض على المسيح هي أن من يقبله فهو المسيح، ويوحنا ذكر أن المسيح خرج إليهم وسألهم عمن يطلبون فقالوا: يسوع فقال لهم: أنا هو. 4) أن يوحنا ذكر: أن اليهود لما قبضوا على المسيح ساقوه إلى حنان الذي كان حماً لرئيس الكهنة قيافا، أما الأناجيل الأخرى فلم تذكر ذلك، بل ذكرت أنهم ذهبوا به مباشرة إلى قيافا رئيس كهنة اليهود. 5) ذكر يوحنا: أن بطرس وتلميذاً آخر تبعا المسيح إلى رئيس الكهنه بعد أن قبض عليه، أما الآخرون فلم يذكروا سوى بطرس الذي خرج بعد ذلك ولم يشاهد المحاكمة. 6) سؤال رئيس الكهنة للمسيح وقت المحاكمة حسب مرقص "أأنت المسيح ابن المبارك فقال يسوع أنا هو وسوف تبصرون ابن الإنسان

جالسا عن يمين القوة وأتياً في سحاب السماء ". وفي متى "أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله. قال له يسوع أنت قلت. وأيضا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وأتياً على سحاب السماء". وفي لوقا أن الجماعة سألوه "إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم إن قلت لكم لا تؤمنون وأن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني. ولكن من الآن يكون ابن البشر جالسا عن يمين قدرة الله. فقال الجميع. أفأنت ابن الله. فقال لهم أنتم تقولون إني أنا هو ". وفي يوحنا أن رئيس الكهنة سأل المسيح عن تلاميذه وعن تعليمه، فأجابه وليس في شيء منها قوله السابق عن نفسه. 7) الأناجيل الثلاثة ذكرت: أن المسيح لما ذهب به اليهود إلى بيلاطس الوالي الروماني فسأله عما يتهمونه به من أنه ملك اليهود، لم يجبه المسيح بشيء حتى تعجب منه بيلاطس. أما إنجيل يوحنا فيذكر كلاماً بين المسيح وبيلاطس. 8) الأناجيل الثلاثة ذكرت أن الصليب الذي صلب عليه المسيح سخر له رجل اسمه "سمعان القيرواني" لحمله. أما إنجيل يوحنا فيذكر أن المسيح هو الذي حمل صليبه. 9) ذكر لوقا: أن المسيح التفت إلى الجموع وهو في طريقه إلى الصليب وحذرهم مما سيقع لهم في الأيام القريبة من الأمور الخطيرة العظيمة. ولم يذكر ذلك أي من الأناجيل الأخرى.

10) إن علة صلب المسيح حسب لوقا مكتوبة على الصليب هكذا "هذا هو ملك اليهود" باليونانية واللاتينية، والعبرانية. وفي مرقص "ملك اليهود" ولم يذكر اللغات التي كتب بها. وفي متى "هذا هو يسوع ملك اليهود" ولم يذكر اللغات. وفي يوحنا "يسوع النصارى ملك اليهود" باليونانية واللاتينية والعبرانية. 11) أن مرقص ومتى ذكرا: أن اللصين الذين صلبا مع المسيح كانا يعيرانه مع الناس. أما لوقا فقد ذكر: أن أحدهما عيَّره، أما الآخر فرد عليه ودافع عن المسيح ولم يذكر يوحنا ذلك. 12) ذكر يوحنا: أنه كان يقف عند الصليب أم المسيح وأخت أمه ومريم المجدلية مع التلميذ الذي يحبه المسيح، ويعني نفسه. وأما لوقا ومرقص ومتى فقد ذكروا: أن نساءاً من بعيد كن ينظرن إليه، من بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويسى وسالومه وأخر كثيرات، ولم يذكروا حضور أي تلميذ من تلاميذه الصلب. 13) في متى ومرقص: أن المسيح صرخ في الساعة التاسعة وقال "ألوى ألوى لما شبقتني، الذي تفسيره"إلهي إلهي لماذا تركتني". وفي لوقا قال "ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا يا أبت في يديك أستودع روحي".

وفي يوحنا أنه لم يصرخ وإنما قال " قد أكمل، ونكس رأسه، وأسلم الروح". 14) الاختلاف في الأحداث بعد الصلب حيث قال متى "انشق حجاب الهيكل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبر بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين". وفي مرقص "إنشق حجاب الهيكل إلى اثنين". وفي لوقا "أظلمت الشمس1 وانشق حجاب الهيكل ". ويوحنا لم يذكر من ذلك شيئا. 15) الاختلاف في عدد ووقت الذين جاؤا صباح الأحد لمشاهدة القبر الذي فيه المسيح ووجدوه خاليا - وقد سبق ذكر ذلك2. فهذه الإختلافات العديدة بينهم في رواية أعظم حادث في حياة المسيح حسب معتقد النصارى وهو: الصلب، إن دل على شيء فإنما يدل على أنه ليس لديهم علم مؤكد ومحقق في هذا الأمر، وأن ذلك كله من باب الظن

_ 1 "أظلمت الشمس" مرادهم به أن كسوفاً حصل في الشمس وهذا وفق اعتقاد الناس في الجاهلية كما ورد في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: كسفت الشمس على عهد رسول الله (يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:" إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله" أخرجه خ. صلاة الكسوف الصحيح مع الفتح (2/526، 546) . 2 انظر ص 206.

والخرص الذي لا يغني من الحق شيئا، ولو كان عندهم فيه شيء مدون، أو رواة ثقات عاينوا وشاهدوا الأحداث لما اختلفوا فيه. وإن من دلالة صدق الرواة لحدث من الحوادث إتفاقهم على رواية الخبر وتفاصيل وقائعه، وان من دلالة كذب الرواة أو عدم علمهم به اختلافهم في رواية الخبر وتباين كلامهم عنه. وهذا حقيقة حال النصارى في هذا الحادث الذي قامت النصرانية المحرفة كلها عليه كما سبق بيانه، فإنهم ليس عندهم علم به مؤكد إن يظنون إلا ظنا. وانظر واستمع إلى دقة كلام الله عز وجل في تعبيره عن الواقعة وعن رواتها حيث قال عز وجل {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ًبَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء آية (157) . فأكد الله جل وعلا عدم صلبه وأنه رفعه إليه، وبيَّن أن الأمر قد شُبِّه على اليهود الذين زعموا أنهم صلبوه، كما أن الذين اختلفوا فيه وهم النصارى الضالون علمهم فيه غير مؤكد، إذ هم متبعون للظن في قولهم وزعمهم، ويؤكد ذلك ويبينه أن الأناجيل الثلاثة متى، ومرقس، ولوقا قد ذُكر فيها: أن التلاميذ حال القبض على المسيح تركوه وفروا جميعاً، فهم لم يعاينوا القبض عليه، ولا محاكمته، ولا رفعه على الصليب، ولا موته، ولا دفنه، ولا قيامته من القبر، وأن الذي شاهد الصلب مجموعه من النساء كن ينظرن إليه من بعيد. أما رواية إنجيل يوحنا بأن التلميذ الذي يحبه المسيح كان حاضراً وقت المحاكمة وعند الصلب، وكذلك أم المسيح كانت موجودة وقت الصلب،

فهي رواية غير صحيحة لاشك لمخالفتها لرواية الأناجيل الثلاثة الأخرى. كما أن إنجيل يوحنا هو أقل الأناجيل نصيباً من الصحة - كما سبق بيانه في فصل المصادر1-. جـ - حقيقة نهاية المسيح عليه السلام على الأرض ومجيئة مرة أخرى الحق بالنسبة للمسيح عليه السلام أن الله عز وجل أنجاه من أعدائه اليهود، وهذا الذي يتناسب مع سؤال المسيح وتضرعه إلى الله أن يعبر عنه هذه الكأس2 فقد استجاب الله له ورفعه إليه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} آل عمران الآيات (52-55) وقوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} المراد به من الاستيفاء وهو القبض، أو النوم، على معنى قول الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} أو أن فيها تقديما وتأخيراً، تقديره رافعك إلي ومتوفيك3. وقال عز وجل رادًا على اليهود إدعاءاتهم على المسيح وأمه مبيناً الحق

_ 1 انظر ص 194. 2 انظر ابتهال المسيح إلى الله وشدة تضرعه إلى الله أن ينجيه من أعدائه في إنجيل متى (26/36-45) ، ومرقص (14/34-41) ، ولوقا (22/41-46) . 3 انظر تفسير القرطبي (3/99) تفسير ابن كثير (1/322) .

فيما يتعلق بنهاية المسيح عليه السلام {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . النساء الآيات (156-158) . وقد دلت السنة على أن المسيح عليه السلام سينزل أخر الزمان وفي هذا يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لايقبله أحد"1. وقد أجمع المسلمون على هذه العقيده وهي أن المسيح عليه السلام سينزل آخر الزمان بناءاً على تواتر الأحاديث في ذلك، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع من العقلانيين في هذه الأزمان المتأخره2 ممن زعموا أن هذه عقيدة يهودية دخلت على المسلمين، وتابعهم على ذلك كثير من الكتاب الذين ليس لهم علم بهذه الأمور سوى التقليد. والحق أن هذه العقيدة ثبتت بالأدلة الصحيحة من السنة وأجمع علماء الاسلام عليها مما لاحاجة لنا معه إلى قول أحد من الناس وتخرصاته3.

_ 1 أخرجه خ-كتاب البدع (4/414) مع الفتح، واخرجه م (1/135) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 انظر الفتاوى لمحمود شلتوت ص 59. 3 وللإستزاده ينظر في ذلك فتح الباري 6/490 - صحيح مسلم بشرح النووي 2/189، تفسير ابن كثير (2/515) الفتن الملاحم لابن كثير 1/117) إتحاف الجماعه فيما جاء في الفتنه واشراط الساعه للتويجرى (2/225) ، أشراط الساعه يوسف الوابل ص340

ومما يجدر ذكره هنا أن النصارى يعتقدون رجعة المسيح قبل يوم القيامه وأنه سيحاسب الناس ويضم أتباعه إليه1. ومن النصوص الدالة على ذلك عندهم ماورد في سفر أعمال الرسل (1/15) بعد رفع المسيح إلى السماء قولهم " أيها الرجال الجليليون مابالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء". وكذلك اليهود يؤمنون بأن مسيحاً سيأتي أخر الزمان وينتصر به اليهود على أعدائهم، واليهود منذ زال ملكهم وهم ينتظرون ذلك المسيح الذي يعيد إليهم ملكهم2. وإن في ذلك أمراً عجيباً له دلالات عجيبة غريبة نشير إلى مايبدو منها مما فيه تأييد للوحي والحق فأقول: إن مما لاشك فيه ولا مريه أن المسيح عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء كما ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن3 وسوف ينزل آخر الزمان كما ثبت في السنه4 وهما المصدران اللذان لم تشُبهما شائبة التحريف ولم يطلهما تغيير ولاتبديل، وكما ارتفع المسيح عليه السلام بشراً سيعود بشراً ليس إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى ونزوله عليه السلام من علامات الساعة الكبرى، أي

_ 1 انظر الأمور المتيقنه عندنا - تأليف القس كارل وليمز ص171 وانظر: رؤيا معاصره حول مجيء المسيح الثاني ص 10. 2 انظر الكنز المرصود في قواعد التلمود ص 70. 3 سبق ذكر الأية في ذلك ص143. 4 انظر الحديث السابق ص274.

الإمارات الدالة على قرب قيام الساعه. ومما لاشك فيه ولامرية أيضاً أن هناك رجل آخر سيسبق مجيء المسيح عيسى عليه السلام ألا وهو المسيح الدجال، وهو مسيح الضلالة والغواية والدعوة إلى الكفر ونصير الكفار فهما مسيحان سيأتيان في وقت متقارب جداً إذا ظهر أولهما لحقه الآخر، هذا مما ثبت لدينا نحن المسلمين بالأدلة القاطعه الثابته فإلى أيهم سينتمي الناس. لاشك أن المسلمين الصادقين سينتمون إلى مسيح الهداية والخير عيسى ابن مريم عليه السلام، بل إن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام سينزل عليهم في جماعتهم عند إقامة الصلاة فقد ورد في حديث جابر رضي الله عنه أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامه قال فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة "1. أما اليهود والمنافقون والكفار فإنهم ينضمون إلى مسيح الضلالة المسيح الدجال. أما انحياز اليهود إليه فلأنه يهودي منهم فقد ورد في حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ابن صياد قال لأبي سعيد رضي الله عنه يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم "إنه يهودي"2 يعني الدجال. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يتبع

_ 1 صحيح مسلم (1/137) . 2 صحيح مسلم (4/2242) .

الدجال من يهود أصبهان1 سبعون ألفاً عليهم الطيالسه2" كما أن قتله يكون بين اليهود في فلسطين بباب لد3. فهذا فيه دلالة واضحة على أن المسيح الدجال هو الزعيم والملك الذي ينتظره اليهود بفارغ الصبر. وإن من عجيب قدر الله جل وعلا أن اليهود كانوا قبل مجيء المسيح عيسى عليه السلام ينتظرون مسيحاً إلا أن أمالهم كانت متعلقه بشخصية محاربه يملكون بها الدنيا، ويعيدون لأنفسهم بها ماسلف من مجدهم وما اندثرمن عزهم بسبب كفرهم، ويرفعون عن أنفسهم تسلط الرومان، الذين كانوا متسلطين عليهم في ذلك الزمان، فلما جاءهم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نبياً كريماً ذا خصال حميدة وخلال كريمة يدعو إلى التوبة والإيمان والتقوى والإحسان والعفو عن الظالم والصبر على البلاء، نفروا منه نفوراً شديداً، وكرهوه وكرهو دعوته عليه الصلاة والسلام، فسعوا بناءاً على ذلك إلى قتله تخلصاً منه حيث خيب آمالهم في تملك الدنيا وإخراجهم من الذل الذي كانوا فيه، إلا أن الله سبحانه بكريم فضله وعظيم إنعامه انقذ عبده ورسوله منهم وأنجاه ورفعه إليه، وحاق بالذين حاولوا قتله البلاء العظيم، فبعده بمدة وجيزه حل باليهود عذاب أليم وبلاء شديد تشتتوا بسببه في أنحاء الارض شذر مذر4.

_ 1 مدينة عظيمة من بلاد فارس ويقطن بها كثير من اليهود انظر معجم البلدان 1/206. 2 صحيح مسلم (4/2266) . 3 قرية قرب بيت المقدس في فلسطين. معجم البلدان (5/15) . 4 وذلك في تدمير القائد الروماني تيطس لهم عام 70م وكذلك القضاء النهائي عليهم وطردهم من فلسطين زمن الحاكم الروماني أدريانوس سنة 135م أنظر تاريخ بني إسرائيل محمد عزه دروزه ص 381.

ثم إن مما سيكون من عجيب القدر والتقدير أن الذي هو أمل اليهود في السيطرة على العالم وزعيمهم الذي سيخُضِع العالم لهم سيأتي ولاقبل لأحد من الناس به، إلا أن الله عز وجل ادخر له عيسى بن مريم عليه السلام الذي لم يقبله اليهود لأنه لم يحقق لهم أطماعهم ولم يستجب لأهوائهم حيث سيكون على يديه الكريمتين هلاك ملك اليهود ورجائهم في السيطرة والغلبة، فبعد ظهور المسيح الدجال واتباع اليهود وأهل الضلالة له ينزل عيسى بن مريم عليه السلام كما قال عليه الصلاة والسلام "فينزل - يعني عيسى عليه السلام - عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين1 واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه2. فيطلبه - أي المسيح عيسى عليه السلام يطلب ويلحق المسيح الدجال- حتى يدركه بباب لد في فلسطين فيقتله.. " 3. فيكون بذلك دمار اليهود النهائي ودمار ملكهم على يدى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام أولاً، ثم سائر المؤمنين من بعده حيث ستكون مقتله عظيمه يقتل بها جميع اليهود في فلسطين4 والمسيح الدجال من أعظم البلايا والفتن على بني الإنسان فإنه مامن نبي إلا حذر أمته منه فقد روى عبد الله بن عمر أن

_ 1 أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران. 2 وذلك معناه والله أعلم أن كل من حوله يكونون من المسلمين ومن لم يكن مسلماً إما أن يسلم أو يموت. 3 صحيح مسلم (4/2253) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. 4 سبق ذكر الحديث الذي ينص على قتل المسلمين لليهود ص56.

رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال "إني لأنذركموه مامن نبي إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، تعلموا أنه أعور وإن الله تبارك وتعالى ليس بأعور"1. وللدجال طاقات ومقدرة وقوة يفتن بها الناس ويدعو الناس إلى عبادة نفسه حيث سيزعم أنه رب وإله فمن تابعه نال مما معه من لذة الدنيا ومتعها، ومن خالفه أصابه بلاء وعناء وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام في بيان سرعته في السير في الأرض وماأُعْطِىَ من قوة "قلنا: يارسول الله وما إسراعه في الأرض، قال: "كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ماكانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل "2. فلهذه الفتن التي تكون معه يتبعه المنافقون وأهل الأهواء والكفار. أما النصارى - فيبدو لي والله أعلم - أن أكثرهم سيكون من أتباع مسيح الضلالة المسيح الدجال وأنه سيكون فتنة عظيمة لهم. وذلك أن النصارى ينتظرون مسيحاً هو الرب والإله في زعمهم، فإذا جاء المسيح الدجال فإنه يدعي الربوبيه ومعه جنة ونار كما ورد في الحديث3 فمن آمن به أدخله جنته

_ 1 صحيح مسلم (4/2245) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه (4/2252) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. 3 روى مسلم في صحيحه (4/2250) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "ألا أخبركم عن الدجال حديثاً ماحدثه نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار. فالتي يقول أنها الجنة هي النار".

ومن لم يؤمن به أدخله ناره، وماجنته إلا نار الآخرة وماناره إلا جنة الآخرة. ثم إن النصارى يظنون أنه سيكون في هذه الدنيا حساب وإدانة للناس من قبل المسيح عيسى في زعمهم فهذه كلها دلائل تشير إلى أنهم سيفتنون به إلا من عصمه الله منهم واستبان له حقيقة ذلك الدجال بما جعل الله في خلقته من القبح والنقص1 وما سيكون لاشك في دعوته وديانته من الفساد والإنحراف والكفر. ولكن أنى للنصارى أن يتبينوا الفساد في الديانة وهم على ديانة غاية في الانحراف. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

_ 1 روى مسلم في صحيحه (4/2247) عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكر الدجال بين ظهران الناس فقال "إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافئة ".

المطلب الثاني: الفداء

المطلب الثاني: الفداء الفداء: هو اعتقاد النصارى أن موت المسيح كان كفارة لخطيئة آدم التي انتقلت إلى ابنائه بالوراثة1. أ- أدلة النصارى على الفداء يزعم النصارى أن مستندهم في ذلك الكتاب المقدس ونورد فيما يلي بعض النصوص التي يستدل بها النصارى لهذه العقيدة منها: 1) "أنا هو الراعي الصالح، الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف"2. يوحنا (10/11) . 2) "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" يوحنا (3/16) . 3) " إن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَمْ بل ليَخْدِمْ وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" مرقص (10/45) . هذا مما ورد في الأناجيل. ومما ورد في كلام النصارى في العهد الجديد 1- في رسالة يوحنا الأولى (3/16) " بهذا أظهرت المحبة أن ذاك

_ 1 انظر علم اللاهوت النظامي ص 756. 2 هذا نص غريب ولا أرى أنه يصح نسبته إلى المسيح لأنه ليس صحيحاً أن الراعي يبذل نفسه عن الخراف فهي أقل منه شأناً فكيف يبذل نفسه دونها، هذا حكم عجيب؟!

وضع نفسه لأجلنا". 2- قال بولس في رسالته لكورنثوس (1/15/3) "مات من أجل خطايانا حسب الكتب ". وأيضاً في كورنثوس (5/21) " إن الله جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه ". وقال في رسالته لأهل أفسس (2/16) " أسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة " 1. ب- بيان بطلان أدلتهم وكلامهم في الفداء: الأدلة التي أوردها النصارى لا قيمة لها ولا اعتبار في مسألة الفداء لعدة أمور. أولاً: أن الإستدلال بما ورد في الأناجيل فرع عن ثبوت صحة تلك الأناجيل وسلامتها من التحريف، وقد سبق بيان حال هذه الأناجيل وأن النصارى لا يملكون أدلة لثبوتها. ومثلها في الضعف الرسائل الملحقة بها، وبولس الذي كثر كلامه عن الفداء في رسائله، كلامه غير مقبول، لأنه لم يشاهد المسيح، ولم يسمع كلامه فما ذكره لم يسنده عن الحواريين ولم يبين مصدره فيه فهو من قبل نفسه. ثانياً: أن جميع النصوص التي يذكرونها في الدلالة على أن الصلب وقع فداءاً للبشر ليس فيها نص واحد يعين الخطيئة التي يزعم النصارى أن الفداء كان لأجلها، وهي خطيئة أبينا آدم التي انتقلت في زعم النصارى إلى ابنائه بالوراثة، فجميع النصوص لا تعين هذا الأمر ولا تحدده، مما يدل على أنها من مخترعات النصارى

_ 1 أورد هذه الأدلة صاحب كتاب "كفارة المسيح" ص 132-135.

المتأخرين الذين حاولوا أن يرقعوا بها فساد القول بالفداء كفارة عن الخطايا1. ثالثاً: أن كلام النصارى في الخطيئة التي رفعها المسيح عليه السلام بموته المزعوم على الصليب كلام مضطرب، ولا ينصون في كلامهم على الخطيئة التي كفرها المسيح في كل مقام2. رابعاً: أن المراد من كون المسيح كفارة للخطايا أحد أمرين: أحدهما: تكفير خطايا الناس التي اقترفوها في الماضي، أو التي سيقترفونها في المستقبل، وكلاهما باطل. أما الخطايا الماضية فلا تستحق هذا الفداء الإلهي في زعمهم، وقد كان يتم تكفيرها بالتوبة والقربان لدى اليهود قبلهم وكان كافيا. أما الخطايا المستقبلة فلا يستطيع النصارى أن يزعموا أن صلب المسيح مكفر لها لأن ذلك يعنى إباحتها، وعدم ترتب العقوبة على ذنب من الذنوب مهما عظم، وفي هذا إبطال لدعوة المسيح ودعوة الحواريين وبولس إلى تنقية النفس من الآثام والخطايا وفتح للإباحية والفجور والكفر. مع العلم أن تكفير الخطايا إذا أطلق لا يراد به سوى ما وقع فيه الإنسان من

_ 1 الذي يبدو أن أول من ذكر أن الخطيئة التي كفرها المسيح هي خطيئة آدم التي ورثها ابناؤه في زعمهم هو أغسطينوس المتوفي عام 430م، وقد بني قوله على كلام بولس الذي يقول فيه "بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم" وقد عارضه في ذلك الوقت بيلاجيوس الإيرلندي، وأنكر أن خطيئة آدم ورثها أبناؤه بل كل إنسان خطيئته تخصه وحده وتقع عليه وحده. وبعد نقاش وجدال طويل تدخل إمبراطور بيزنطه وأصدر مرسوماً يدين بيلاجيوس ويأمر بنفي من ينادي بتعاليمه، وهكذا ثبتت مقولة اغسطينوس في مسألة خطيئة آدم. انظر تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (3/201-207) . 2 انظر: المسيحية الأصيلة ص 116-125.

الآثام وهي الخطايا الماضية إذ التكفير من كفر أي ستر وغطى1 ولا يكون ذلك إلا فيما وقع وحدث. ثانيهما: ما ذكره كثير من النصارى وهو تكفير خطيئة أدم عليه السلام التي انتقلت إلى ابنائه. هو إدعاء باطل كما سبق بيانه2 وسيأتي زيادة لبيان أوجه البطلان أيضا3. وحقيقة قولهم في الفداء هو: أنهم اخترعوا هذه الفرية وادعوها بدون دليل من شرع أو عقل حتى يبرروا قضية الصلب التي اعتقدوها وآمنوا بها، ويرفعوا عن المسيح تلك السبة الشنيعة التي تلحقه بالصلب وهي اللعن4، فادعوا أن الصلب هو الشرف الحقيقي وهو الهدف الأسمى من رسالة المسيح، وأنه لولا الصلب ما جاء المسيح5 فأخذوا يدندنون حول هذا الأمر ويبحثون له عن الأوجه التي تجعله في حيز المقبول والمعقول. إلا أن كلامهم في الحقيقة يزيد الأمر تعقيداً وإرباكا للقارئ والسامع وإليك مقتطفات من كلام ج. ر.و. ستوت في كتابه " المسيحية الأصيلة " في الموضوع حيث افتتح الكلام عن معنى الصليب بقوله:

_ 1 قال في القاموس ص605:"وكفر الشيء ستره كَكَفْرَه". 2 انظر ص 283. 3 انظر ص 288. 4 انظر ص 266. 5 يقول صاحب كتاب المسيحية الأصيلة ص 105: " لا مبالغة في القول أن الشخص الرئيسي في الكتاب هو يسوع المسيح وأن الظاهرة الرئيسية في حياته كما يصورها الكتاب هي موته.. ثم يقول ص 110: لأن الصليب رمز إيماننا ... لا نصرة بدون الصليب ولا مسيحية بدون الصليب".

"ولكن لا أجسر أن أتناول الموضوع (يعني معنى الصلب) قبل أن أعترف بصراحة بان الكثير منه سوف يبقى سرا خفيا، ذلكم لأن الصليب هو المحور الذي تدور حوله أحداث التاريخ1؟! وياللعجب كيف أن عقولنا الضعيفة لا تدركه تماماً2 ولابد أن يأتي اليوم الذي فيه ينقشع الحجاب وتحل كل الألغاز ونرى المسيح كما هو ... " 3. ثم يقول في أخر الكلام بعد فلسفة مطولة استغرفت عشر صفحات "ومن المدهش أن هذه القصة الخاصة بيسوع ابن الله الذي حمل خطايانا ليست محبوبة في عصرنا الحاضر، ويقال عن حمله خطايانا ورفعه قصاصها عنا إنه عمل غير عادل وغير أدبي وغير لائق ويمكن تحويله إلى سخرية وهزء. .. ثم قال: وفوق الكل يجب أن لا ننسى "أن الكل من الله" نتيجة رحمته ونعمته المتفاضلة، فلم يفرض على المسيح قصاصاً لم يكن هو نفسه مستعداً له فإن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" فكيف يمكن أن يكون الله في المسيح بينما جعل المسيح خطية لأجلنا؟. هذا ما لا أستطيع

_ 1 ما هي أحداث التاريخ؟ إن قصد التاريخ النصراني. فنعم. وإن قصد تاريخ البشرية قبل المسيح وبعده فهي مبالغة ومجازفة مكشوفة. 2 لاشك أن الكاتب لما أمعن النظر واستعمل عقله أدرك فساد تلك الدعوى وما فيها من الأمور الباطلة التي لا يستطيع العقل أن يقبلها فلهذا نجده بعد يلغي عقله ويحيل الأمر على مستحيل بالنسبة له لأن ما هو باطل اليوم وغير معقول سيبقى هكذا أبد الدهر. 3 لعله يقصد أنه سيبقى سراً إلى أن يجيء المسيح مرة ثانية، فهل يليق أن يبقى الناس في عمى كل هذه الأزمان؟! ويلاحظ أن النصارى كلما عجزوا عن فهم عقيدة من عقائدهم صرحوا بأنه سر. وهذا منهم ذر للرماد في العيون.

أن أجيب عنه. ولكن الرسول1 عينه يضع هاتين الحقيقتين جنبا إلى جنب، وأنا أقبل الفكرة تماماً كما قبلت أن يسوع الناصري هو إنسان وإله في شخص واحد. وان كانت تبدوا ظاهريا على شيء من التناقض2، لكني أراه في عمله كما أراه في شخصه، وإن كنا لا نستطيع أن نحل هذا التناقض أو نفك رموز هذا السر فينبغي أن نقبل الحق كما أعلنه المسيح وتلاميذه بأنه احتمل خطايانا بمعنى أنه احتمل قصاص الخطية عنا كما تعلمنا الكتب) 3. وإننا لنعجب غاية العجب من هذا الاعتراف بعدم معقولية هذه العقيدة ثم الإصرار عليها، فهذا غاية الضلال والإنحراف، وكان الأولى بهم إذ لم يعقلوا هذه المسائل أن يبحثوا في مصادرها حتى يظهر لهم الحق، فان تلك المصادر أساس الإنحراف والضلال الذي يوجد لدى النصارى سواء في ذلك الأناجيل أو الرسائل الملحقة بها، ولكن يزول عجبنا إذا علمنا أن ما عليه النصارى من إنحراف وضلال إنما هو صيغة محسنة من الوثنيات السابقة فرأى النصارى أنها شيء جميل بالنسبة لما كانوا عليه من الوثنيات4، وما عرفوا الإسلام وما فيه من الحق والجمال والانسجام والوضوح الذي يبعث في النفس الطمأنينة والراحة لما هي عليه من عقيدة.

_ 1 يعني بالرسول "بولس" شاؤول اليهودي - وهل أهلك النصارى إلا هذا الضال. 2 هذا تلاعب، بل هي متناقضة تماماً من ألفها إلى يائها. 3 انظر: المسيحية الأصيلة ص 110،121. 4 انظر الفصل الخاص ببيان تأثر النصارى بالوثنيات السابقة.

ولو أن النصارى وأهل الكتاب عموماً أصغوا إلى الدعوة الربانية الواردة في القرآن الكريم لزالت وانكشفت عنهم من الحيرة التي ولجوا فيها ولم يستطيعوا الخروج منها، ومن ذلك آيتان كريمتان فيهما شفاء لما هم فيه، أما الآية الأولى فقوله عز وجل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة (15) . أما الآية الثانية فقوله عز وجل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} المائدة (77) .

المطلب الثالث: بيان بطلان دعوى النصارى في الصلب والفداء إضافة لما سبق

المطلب الثالث: بيان بطلان دعوى النصارى في الصلب والفداء إضافة لما سبق. إن دعوى الصلب والفداء مناقضة في الحقيقة للشرع والعقل فمما يبين ذلك ويدل على بطلان دعواهم إضافة لما سبق أن يقال لهم:- 1- أن آدم عليه السلام الذي يزعمون أن الصلب والفداء كان لأجل خطيئته قد تاب من خطيئته بقوله عز وجل {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} طه (122) وقد قبل الله توبته. كما أنه عوقب عليه السلام بإخراجه من الجنة وتأثر ابناؤه بالعقوبة، وإن لم يكونوا مقصودين بها. كما أورد اليهود في كتابهم أن الله قال لآدم " لأنك يوم تأكل من الشجرة موتا تموت" سفر التكوين (2/17) . وقد وقع هذا لآدم بعد الأكل من الشجرة بإخراجه وزوجته من الجنة إلى الأرض ثم موتهم فيها، فقد عوقبا بذلك، كما ينص اليهود على إخراجهما من الجنة إلى الأرض التي فيها الكد والتعب. فمن أين أتى النصارى بفرية خطيئة آدم، وأحيوها هذا الأحياء، وألبسوها هذا اللبوس. 2- إن ما وقع من آدم عليه السلام هو أكله من الشجرة بإغواء الشيطان له وهذا ذنب منه في حق الله عز وجل الذي نهاه عن الأكل منها، فالذنب بهذا لم يكن يلزم للتكفير عنه أن ينزل الرب جل وعلا ليصلب على الصليب، بعد أن يُهان ويُذل من أجل أن يرضي نفسه، بل الأمر يكفي فيه قبول التوبة ومغفرة الذنب فقط، وهذا الذي وقع كما نص على ذلك القرآن الكريم.

3- أن ما وقع من آدم عليه السلام يعتبر يسيرا بالنسبة لما فعله كثير من أبنائه من سب الله عز وجل والاستهزاء به، وعبادة غيره جل وعلا، والإفساد في الأرض بالقتل، ونشر الفساد والفتن، وقتل أنبيائه ومحاربة أوليائه إلى غير ذلك، فهذه أعظم بكثير من خطيئة آدم عليه السلام. فعلى كلام النصارى أن الله لابد أن ينزل كل وقت ليصلب حتى يجمع بين عدله ورحمته في زعمهم. 4- إن صلب المسيح الذي هو الله في زعمهم تعالى الله عن قولهم قد تم بلا فائدة تذكر، فإن خطيئة آدم ليست على بال بنيه ولا تقض مضاجعهم إنما ما يقلق الإنسان ويخيفه ذنوبه وجرائمه، وهذه لا تدخل في كفارة المسيح في زعمهم1. 5- أن الأنبياء السابقين ليس فيهم من ذكر خطيئة آدم وسأل الله أن يغفرها له، مما يدل على أنها من مخترعات النصارى. 6- أن الأنبياء السابقين والدعاة والصالحين قبل المسيح بناءاً على كلامهم هذا كانوا يدعون إلى ضلالة، وقد أخطأوا الطريق إذ لم يرشدوا الناس إلى حقيقة تلك الخطيئة ويوعوهم بخطورتها كما يفهمها النصارى. 7- أن الأنبياء السابقين وعباد الله الصالحين كلهم هالكون إذ لم تكفر عنهم تلك الخطيئة، لأنه لا يتم تكفيرها إلا عن طريق المسيح المصلوب في زعم النصارى. 8- أن بين آدم وعيسى عليهما السلام زمناً طويلاً، فمعنى ذلك أن الله بقي

_ 1) انظر ما سبق ذكره في الصلب والفداء ص 266.

متحيراً كل هذه المدة إلى أن اهتدى إلى الوسيلة التي يعقد المصالحة فيها بين الناس ونفسه. 9- أن الخطيئة وقعت من آدم عليه السلام فلا تنتقل إلى ابنائه ولا يستحقون هم العقوبة عليها، لأنه لا أحد يعاقب بذنب غيره بل هذا ينافي قواعد العدل وقد نص الله عز وجل على هذا في القرآن الكريم بقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} النجم آية (38) وكذلك ورد في التوراة "لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيئته يقتل" سفر التثنية (24/16) . 10- هل من العدل أن يعاقب غير المذنب؟ والمسيح في زعم النصارى ابن الله، فهو ليس من جنس بني آدم فكيف يعاقب بدلاً عن آدم وذريته ودعواهم أنه تقمص الجسد البشري لا يزيل هذه الحقيقة لأنه ليس من جنس البشر حسب كلامهم. 11- أن المسيح في زعم النصارى ابن الله فأين الرحمة التي جعلت الله في زعمهم يشفق على عبيده وخلقه ويترك ابنه للعذاب والبلاء والإهانة واللعن1 والموتة الشنيعة؟! 12- في زعم النصارى أن المسيح هو ابن الله وهو الله وأن المصلوب المهان

_ 1 يزعم بولس (شاؤول اليهودي) أن المسيح صار لعنة لأجلهم، انظر رسالته إلى أهل غلاطيه (3/13) ، وفيها يقول: " فالذي افتدانا من لعنة الناموس هو المسيح الذي صار لعنة لأجلنا " فهل من اللائق أن يستجلب عاقل غضب الله ولعنته من أجل نجاة غيره هذا يتنافى مع الطبع السوى، وهل يليق بمؤمن يقدر المسيح عيسى عليه السلام ويكن له المحبة والإجلال أن يصفه بأنه ملعون!! حاشا المسيح عليه الصلاة والسلام من ذلك، فإن الملعون من لعنه.

الملعون. تعالى الله عن قولهم وتقدس هو الله جل جلاله وتقدست اسماؤه، فهل يوجد كفر أعظم من هذا وافتراء على الله أكبر من هذا {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الأنعام آية (139) . 13- هل يليق أو يعقل أن ينزل الله جل جلاله وتقدست اسماؤه من عليائه وعرشه ويسمح لأبغض أعدائه إليه اليهود قتلة الأنبياء، والرومان الوثنين أن يهينوه ويعذبوه ويصلبوه؟ ثم هو يفعل هذا لماذا؟ لأجل أن يرضي نفسه؟ لأجل من؟ من أجل عبيده؟ هذا مما لا يمكن أن يقال ويقبل بحال من الأحوال، بل يجب أن يستعاذ بالله من الشيطان الرجيم عند مرور مثل هذا الخاطر والوسواس ويقال سبحانك هذا بهتان عظيم! 14- حسب عقيدة الفداء لدى النصارى يكون أعظم الناس براً وفضلاً على النصارى والبشرية عموماً اليهود والرومان والواشي بالمسيح، لأنهم الذين تحقق على أيديهم في زعم النصارى الهدف الأسمى الذي جاء من أجله المسيح وهو الموت على الصليب. 15- أن جميع تحركات المسيح ودعوته وفق اعتقاد النصارى في الصلب والفداء لم تكن إلا تمثيلاً أحسن المسيح أداء الدور فيه، مما جعل اليهود يغضبون عليه، فيعلقونه على الصليب. 16- بناءاً على دعوى النصارى في أن المسيح فدى البشر بدمه، فمعنى ذلك أنه لا حاجة إلى الإيمان به واعتقاد صلبه وألوهيته وما إلى ذلك، لأن الخطيئة قد ارتفعت عن جميع البشر ببذله نفسه، مثل من كان عليه دين فجاء أحد

من الناس فقضى ذلك الدين عنه، فالمطالبة تسقط عنه بمجرد القضاء وهذا ما لا يقول به النصارى مخالفين في ذلك دليل العقل. 17- أن دعوى النصارى بأن الصلب وقع على الجسد البشري الذي حمل الخطيئة وأن هذا الجسد مات. دعوى تنقضها وتبطلها قصة قيامة المسيح عندهم، فلو كان تجسد لأجل تحمل الخطيئة فالواجب أن يفني ذلك الجسد بعد حلول العقوبة عليه. 18- أن دعوى أن المسيح قام من قبره ولمسوه وتأكدوا منه، ثم ارتفع إلى السماء تنقض دعوى أنه ابن الله وأنه تجسد بالصورة البشرية لأن الدور الذي تجسد من أجله قد أداه وانتهى، ثم إن الجسد البشري لا حاجة إليه حيث يذهب المسيح في زعمهم عن يمين أبيه، وهذا من أوضح القضايا لو كانوا يعقلون. بعد هذا كله من حق الإنسان أن يتساءل: هل النصارى على درجة كبيرة من الذكاء والخبث الشيطاني الذي جعلهم يغلفون بغضهم لله عز وجل وبغضهم للمسيح عليه السلام بهذه الدعاوى الكاذبة التي يظهرونها ويصرون على التمسك بها بدون أدنى دليل عقلي أو شرعي زاعمين أنهم يعبرون بذلك عن شدة حبهم لله عز وجل وشدة حبهم للمسيح أيضاً؟! أم أنهم على درجة شديدة من الغباء والحمق الغالي الذي جعلهم لا يميزون بين ما هو ثناء وحب حقيقي، وبين ما هو طعن وسخرية وبغض وأحقاد تنفث على الله عز وجل وعلى نبيه المسيح عليه السلام؟. وصدق الله القائل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ

يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فاطر (8) . وفي ختام الكلام على هذه العقيدة الباطلة لابد من الإشارة إلى أن الديانة النصرانية كلها تقوم على مسألة الصلب، وأن الدعوة إلى النصرانية تقوم عليها، إذ ليس في النصرانية أي عامل جذب يمكن أن يجذب الناس إليها، وليس فيها ما يمكن أن يتحدث فيه ويقدم للناس سوى هذه القضية التي يركزون عليها تركيزاً شديداً، وهي مسألة: الصلب والفداء، وذلك بايحائهم للناس أنهم هالكون مردودة عليهم أعمالهم مغضوب عليهم منذ ولادتهم وقبل أن يولدوا، مما يجعل الإنسان الجاهل بحقيقة الأمر يحس بثقل عظيم على كاهله من تلك الرزية والخطيئة التي لم يكن له دور فيها، ثم إنهم بعد أن يوقعوا الإنسان فريسة الشعور بالذنب والخطيئة، وتأنيب الضمير، والخوف من الهلكة، يفتحوا له باب الرجاء بالمسيح المصلوب، فيزينوا له ذلك العمل العظيم الذي قام به المسيح لأجل الناس ويدعونه إلى الإيمان به، فإذا كان ممن لم يتنور عقله بنور الهداية الربانية ونور الإسلام يجد أن هذه هي الفرصة العظيمة التي يتخلص بها، وما علم المسكين أن الأمر كله دعوى كاذبة وخطة خبيثة للإيقاع به وأمثاله.

المبحث الثالث: محاسبة المسيح الناس

المبحث الثالث: محاسبة المسيح الناس يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام سوف يتولى يوم القيامة محاسبة الناس وإدانتهم ولهم على ذلك نصوص من إنجيل يوحنا وغيره. ومن ذلك. ما ورد في إنجيل يوحنا (5/26) "كما أن الأب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان". وجاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس (5/10) : "لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً". وثبوت هذه العقيدة فرع عن ثبوت أصلها وهي الأناجيل أو الرسائل، أما الأناجيل فقد سبق الحديث عنها، وإنجيل يوحنا أقلها نصيباً من الصحة1. أما كلام بولس في رسائله فإنه غير مقبول، لأنه كما سيتبين يهودي متعصب، وهو أول من انحراف بالديانة النصرانية عن وجهها إلى الشرك ودعوى ألوهية المسيح إلى غير ذلك من الضلالات. وما نعتقده في ذلك أن الله عز وجل هو الذي يتولى حساب الناس يوم القيامة، ويكون الرسل شهوداً على أقوامهم.

_ 1 انظر ما سبق ص 194.

المبحث الرابع: قول النصارى في البعث والجنة والنار

المبحث الرابع: قول النصارى في البعث والجنة والنار يعتقد النصارى بالبعث الجسدي. ورد في قاموس الكتاب المقدس "تتضمن القيامة بحسب تعليم الكتاب المقدس قيامه الأجساد وتغيير هذه الأجساد وبقاءها إلى الأبد ... ". ثم قال "ولقد عَلَّم المسيح بوضوح بأن الموتى سيقومون"1. كما أن النصارى يؤمنون بالنعيم الأبدي في الجنة والعذاب الأبدي في النار2، كما جاء في إنجيل متى (25/34) "ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم.. ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته ... فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية". إلا أنهم يزعمون أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح ولاشيء من المتع الحسية، وإنما يعتقدون أن المتعة تكون برؤية الله فقط. فلهذا يقول ميخائيل مينا "إن نعيم الأبرار هو عبارة عن إتصالهم بالله ورؤيتهم جلاله، ورؤية الله هي الجزاء الأعظم الفائق كل خير الذي

_ 1 قاموس الكتاب المقدس (748-750) . وانظر كتاب "الملكوت" للقمص سيد اروس ص52 وانظر علم اللاهوت النظامي ص1197. 2 يصرح بعض النصارى بأن النار التي وعد بها المجرمون رمزيه، وليست حقيقية، أما العذاب فهو عندهم حقيقي انظر علم اللاهوت النظامي ص1211 وكتاب الأمور المتيقنة ص 197.

يملأ رغبة كل إنسان ويشبع شهوات نفسه، بل هو سعادته النهائية المشتهاة من كل مشاعره والتي إليه تتجه كل أشواق قلبه"1. وإنكارهم هذا يعود إلى أنهم يرون أن الأجساد يوم القيامة ستكون أجساداً روحانية لا تحتاج إلى الطعام والشراب، وليس فيها شهوة الجماع ولا فرق فيها بين جسد المرأة وجسد الرجل2. ويستدلون لذلك بنصين: أحدهما في إنجيل متى (22/29) وفيه يقول المسيح: "لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء". والآخر من كلام بولس في كورنثوس الأولى (15/44) وهو يتحدث عن قيامة الأموات "يزرع جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً". وهذا الكلام من بولس لا دليل له عليه، وهو من اختراعاته وافتراءاته العديدة3. أما النص المنسوب إلى المسيح فليس فيه سوى نفي الزواج، وليس فيه نفي الطعام والشراب، وقد ثبت في نصوص الأناجيل إثبات الطعام والشراب في الآخرة فقد ذكر لوقا في (22/29) : أن المسيح قال لتلاميذه الذين يؤمنون به "وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثنى عشر".

_ 1 انظر علم اللاهوت النظامي ص1210. 2 انظر كتاب الملكوت للقمس سيداروس ص103، 104. علم اللاهوت النظامي ص 1198. 3 يبدو أن هذه العقيدة أتى بها بولس من اليهود، وذلك أن اليهود قالوا في التلمود: " لا مطعم في العالم الآتي، ولا مشرب، ولا عشق، ولا عمل، ولا حسد، ولا حقد، ولا شحناء، أهل الحق سيجلسون وعلى رؤوسهم التيجان وهم يمجدون في بهاء وجلال الله". انظر كنوز التلمود ص33.

وفي إنجيل متى (26/29) إن المسيح قال لتلاميذه بعد آخر شراب شربه معهم "وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي". فهذه النصوص تعارض ذلك النص السابق الذي ينكر النعيم الحسي، وتدل على عدم صحته، لأن الحق أن أهل الجنة يتنعمون فيها نعيماً كاملاً ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم وبينه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، وليس هناك مانع عقلي منه والله على كل شيء قدير وفضله عظيم.

الفصل الرابع: بعض العبادات والشعائر عند النصارى

الفصل الرابع: بعض العبادات والشعائر عند النصارى المسيح عليه السلام من بني إسرائيل، وكان ملتزماً بما كان من الشريعة قبله، وفي هذا يذكر صاحب إنجيل متى (5/17) أن المسيح قال للجموع شارحاً دعوته "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل". إلا أن النصارى بعد المسيح بدلوا وغيروا ديانته في العقيدة والشريعة فألغى "بولس" الناموس أو شريعة موسى، وأبطل العمل بها، بل إعتبر العمل بها لا ينجى الإنسان بل يهيئه للعنه. وفي هذا يقول في رسالته لأهل غلاطية (2/16) "إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس ... لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما". وفي (3/10) يقول: "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به". لهذا إنقطعت صلة النصارى بالعبادات والشرائع الموجودة في العهد القديم. وصارت عندهم عبادات وشعائر مختلفة نذكر منها.

أولاً: العبادات: أ- الصلاة: وهي سبع صلوات في اليوم والليلة، وليس لها كيفية محدودة وإنما هي دعاء. ويختارونه في الغالب من الأدعية المنسوبة للمسيح عليه السلام، أو الأدعية المنسوبة إلى داود عليه السلام، كما ذكروها في المزامير من العهد القديم. وللصلاة عندهم شرطان فقط وهما: 1- أن تقدم الصلاة باسم المسيح لأنه الواسطة عندهم- وهذا أصرح ما يكون في عبادتهم له. 2- أن يتقدم الصلاة الإيمان الكامل بالتثليث وغيره من العقيدة. والصلاة أنواع: منها صلاة فردية سرية، وصلاة عائلية في البيت، ومنها الصلاة العامة في الكنيسة، وأهمها صلاة يوم الأحد حيث يقرأ الكاهن عليهم شيئاً من المزامير أومن غيرها من الكتاب المقدس، والجميع وقوف يستمعون، وعند نهاية كل مقطع يؤمنون1. ومما يجدر ملاحظته هنا أن النصارى يوردون عن المسيح أنه حض على الصلاة فقد ذكر متى في (6/5) "ومتى صليت فلا تكن كالمرائين ... وأما أنت فمتى صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك في الخفاء". ولكن لم يرد عن المسيح عليه السلام بيان لكيفية الصلاة - والذي يظهر أن المسيح عليه السلام كان يصلي مثل صلاة بني إسرائيل، وحواريوه كانوا

_ 1 انظر: دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر ص40-41 في العبادات المسيحية ص16-17.وحقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص200

يعرفون الصلاة لأنهم من بني إسرائيل فلهذا لم يعرفهم المسيح عليه السلام كيفيه الصلاة. ومما يلاحظ أن المسيح حين صلى كان يقع على وجهه على الأرض كما يقول متى في (26/39) "ثم تقدم (المسيح) قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي". فهذا يفهم منه أن المسيح كان يسجد في صلاته، وهو ما لا يفعله النصارى، وهذا يدلنا على أن النصارى لا يعرفون كيف كان يصلي المسيح على التفصيل وإنما أخذوا من أمره بالصلاة المعنى العام وهو الدعاء والتزموه بدون دليل صحيح. ب- الصوم: وهو الإمتناع عن الطعام حتى بعد منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض منهم يرى أن الصوم امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء، وهم يصومون يوم الأربعاء لأنه يوم المشاورة على موت المسيح عندهم ويوم الجمعة لأنه صلب عندهم فيه المسيح، وصوم الميلاد وعدد أيامه 43 يوماً تنتهي بعيد الميلاد، وأياماً أخرى غيرها وضعوها لمناسبات خاصة تختلف من كنيسة إلى كنيسة. وبعضهم يرى أنه لا يوجد صيام دوري على النصراني بل يصوم الإنسان وقت الحاجة للصيام، ويَعْتِبر كل صيام محدد بدعة غير مشروعه1. وما سبق أن قلناه في الصلاة نقوله في الصوم، فإن المسيح حض على الصوم

_ 1 انظر: حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص216، العبادات المسيحية ص24.

عموماً ولم يحدد فيه كيفية ولازماناً ولا شيئاً من ذلك، فتأوله كل جماعة منهم على ما أرادوا بدون أن يكون هناك أي دليل يعتمد عليه من قبل المسيح. وهذا كله لأن النصارى فصلوا بين العبادة الواردة في العهد القديم والعبادة في العهد الجديد، فحرم عليهم بولس العمل بشيء من تعاليم الناموس (التوراة) كما سبق بيانه - فصارت ديانتهم دعوة عامه ليس فيها تفصيل لشيء من العبادات.

ثانياً: الشعائر عند النصارى: أ- التعميد: هو مفتاح الدخول في النصرانية، فمن لم يعمد فليس نصرانياً عندهم ولو كان من أبوين نصرانيين، ويمكن أن يعمد الشخص وهو طفل أو في أي وقت من حياته، كما يمكن تعميده وهو على فراش الموت، ومرادهم بالتعميد أن يكون الإنسان طاهراً مبرءاً من الذنوب. وطريقته عندهم رش الماء على الجبهة، أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، أو غمس الشخص كله في الماء، ولا يكون إلا في الكنيسة وعلى يد كاهن1. ب - العشاء الرباني أو القربان المقدس: هو قطع من الخبز مع كأس من الخمر، يتناوله النصارى في الكنيسة رمزا وتذكارا لصلب المسيح عندهم. وعند الكاثوليك من النصارى أن من أكل هذا الخبز وشرب الخمر فقد أكل لحم المسيح، وشرب دمه، لأنه عندهم يتحول حقيقة إلى لحم المسيح ودمه. بينما يرى غير الكاثوليك أن هذا رمز لما حل بالمسيح، أو أن المسيح يحضر روحياً هذا العشاء، وليس له وقت محدد، وإنما يرون ممارسته مراراً عديدة في العام، ويجب أن يبلغ الناس عنه قبل موعده بأسبوعين على الأقل -وهاتان الفريضتان الأخيرتان هما أهم شعائر النصارى إذ هما فقط الذي ورد

_ 1 دستور الكنيسة الانجيلية ص51، حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص240. وانظر علم اللاهوت لنظامي ص1074.

عن المسيح في زعمهم الأمر بهما1. ج- الإعتراف للقسس وصكوك الغفران: التوبة عند النصارى لا تتم إلا بالاعتراف بالذنوب والخطايا أمام القس أو الكاهن في الكنيسة، ثم يمسحه هذا الكاهن فتغفر ذنوبه2. ثم إن ذلك تطور حيث قُرر في المجمع الثاني عشر سنة 1215م أن الكنيسة الكاثوليكية تملك حق الغفران للذنوب وتمنحه لمن تشاء. فاستغلت الكنيسة والقسس هذا الأمر، وطبعوا صكوك الغفران، وباعوها وربحوا من ورائها أموالاً طائلة، وهذه الصكوك يغفر فيها جميع الذنوب السابقة واللاحقة وتخلص صاحبها من جميع التبعات والحقوق التي في ذمته 3. وهذا وصمة عار في جبين النصارى، ومظهر من مظاهر تلاعبهم وعبثهم، لأن من المعلوم أن الإنسان لا يتجاوز ويتسامح عما لا يملك فكيف يسقط الكاهن أو القسيس حقوق الآخرين التي في ذمة الإنسان، وأكبر منها وأعظم الذنوب التي يرتكبها الإنسان مخالفاً بها أمر الله ومتعدياً حدوده فمغفرتها حق لله عز وجل وحده. فهل الله جل وعلا عاجز عن تولي ذلك؟ أم أنه غائب لا يدري؟ أم أن البابوات والقسس أعلم منه بخلقه؟ أم هم أرحم منه بخلقه؟

_ 1 دستور الكنيسة الانجيلية ص53، حقائق أساسية ص250. 2 انظر: العبادة المسيحية ص88،115. 3 انظر: تاريخ الكنيسة. جون لوريمر (4/37-39) .

لاشك أن كل ذلك غير حاصل، وإنما هو جرأة على الله وتعد على حقوقه جل وعلا، واستعباد لخلقه، وتأليه لأنفسهم وتعظيم، ومما لاشك فيه أن أعظم رجاء للإنسان وأمل هو أن يغفر الله له ذنوبه ويتجاوز عن سيآته وخطاياه، فإذا جعل البابوات والقسس هذا الأمر بأيديهم فإنهم يحولون بذلك بين الخلق وربهم ويحجبونهم عنه فلا يسألونه، ولا يرجونه وتصبح آمالهم معلقة بأمثالهم من الناس في الخطيئة والجهل والنقص. وصدق ربنا جل وعلا إذ يقول عنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة آية (31) . ثم يقول جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} التوبة آية (34) . د - الزواج عند النصارى: الزواج عند النصارى جائز عندهم ما عدا القسس والرهبان اقتداءاً في زعمهم بالمسيح عليه السلام الذي لم يتزوج. وعندهم أن الذي يستطيع أن يضبط نفسه عن الزنا فالأفضل أن لا يتزوج، ولا يجوز عندهم الزواج بأكثر من واحدة، ولا طلاق عندهم إلا في حالة الزنا عند الأرثوذكس وإذا طلق أحدهما الآخر فلا يتزوج مرة أخرى. ويجوز الطلاق عندهم في حالة اختلاف الدين بين الرجل والمرأة إذا لم يتم التوافق بينهما. هـ - حمل الصليب وتقديسه: النصارى يرمزون بالصليب الذي يحملونه والذي لا تكاد تجد نصراني إلاّ

وهو يحمله، إلى صلب المسيح عليه السلام عندهم. ويزعمون أن حمله يشعرهم بإنكار النفس واقتفاء أثر المسيح في هذا الإنكار والسير وراء مخلصهم وفاديهم 1. ولا يوجد لدى النصارى دليل على حمل الصليب فضلاً عن تقديسه، كما أنه لا يعرف متى صار الصليب مقدساً، حيث لا يوجد له أي ذكر لدى المتقدمين من النصارى، ولا يعرف من الذي دعى إلى حمله على التحقيق، وإنما هو أمر استحسنوه ودرجوا عليه في زمن متأخر حتى صار من أظهر شعائرهم. وـ تقديس يوم الأحد: من المعلوم أن المسيح عليه السلام من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل يعظمون يوم السبت ويقدسونه، فكان المسيح عليه السلام على ذلك، إلا أن النصارى فيما بعد بوقت طويل تركوا السبت وأخذوا يعظمون الأحد رغبة منهم في مخالفة اليهود الذين يكنون لهم العداء والبغض. وهذا يعد من النصارى تحريف وتغيير لدين المسيح عليه السلام بما يوافق أهواءهم بدون أن يكون عندهم دليل على ذلك.

_ 1 انظر في الموضعين: محاضرات في النصرانية (110-117) ، والمسيحية أحمد شلبي ص 171-175، 235، 236.

الفصل الخامس: العوامل التي أدت إلى تحريف رسالة المسيح عليه السلام

الفصل الخامس: العوامل التي أدت إلى تحريف رسالة المسيح عليه السلام المسيح عليه السلام جاء بالدين الحق من عند الله عز وجل كغيره من الأنبياء عليهم السلام. دين سماوي يظهر فيه التوحيد وإفراد الله بالعبادة بأوضح صوره، ولكننا نراه اليوم ديناً مختلفاً طُمست فيه تماماً معالم التوحيد، وبدلاً من أن يكون ديناً يوافق العقل والفطرة، أصبح ديناً حرباً على العقل، وعدواً لدوداً للفكر السليم الناضج، ومضاداً للفطرة السليمة. وكان لهذا الإنحراف عوامل كثيرة أظهرته بهذا الشكل والهيئة. ومن أهم هذه العوامل: أ- الاضطهادات: إن مما لاشك فيه أن الدعوات خاصة الدينية والإصلاحية تنمو وتزدهر في السلام والأمن، وتنكمش وتتقوقع في الخوف والاضطهاد، وقد يؤدي الاضطهاد المركز إلى القضاء عليها، وخاصة إذا واكب نشأتها قبل أن تنغرس جذورها في الأرض وتثبت قدمها فيها. وإن الدارس لتاريخ المسيح عليه السلام وأتباعه ودعوته يجد أن الاضطهاد واكب نشأتها واستمر قروناً عده يشتد حيناً ويفتر حيناً آخر. فقد كان المسيح عليه السلام مطارداً من اليهود، بل سعوا جادين إلى قتله، إلا أن الله عز وجل أنجاه منهم ورفعه إليه، ثم إن النصارى حسب كلامهم وقع عليهم اضطهاد شديد من بعده، أولاً من قبل اليهود، فقد قُتل أحد كبار النصارى ويسمى "إستفانوس"

رجماً1، وقُطع بعده رأس "يعقوب" 2 مما جعل بقية الأتباع يتفرقون في البلدان وينتشرون في أرض الله خوفاً من اضطهاد بني جنسهم اليهود لهم، ثم وقعت على من بقي منهم في فلسطين نكبتان مدمرتان أولاهما عام 70م وهي: فتك الوالي الروماني "تيطس" باليهود وتدميره لبيت المقدس بسبب عصيانهم وتمردهم. والأخرى وهي أكبر من أختها: عام 135م في عهد الإمبراطور "هادريان" الذي قضى على اليهود في فلسطين ولم يبق بعده فيها إلا أقلية نصرانية واهنة مبعثرة3. ثم استمر اضطهاد أباطرة الرومان للنصارى قرنين آخرين، ذاق خلالهما النصارى ألواناً شتى من الذل والاضطهاد، حتى أصبح إتهام أي رجل بالنصرانية في بعض الأحيان مبرراً قوياً لإلقائه للوحوش المفترسة والحكم عليه بالموت4 ولم يتوقف هذا الاضطهاد إلا بتولي قسطنطين الإمبراطورية الرومانية وإصداره مرسوم ميلان سنة313م 5، والقاضي بإعطاء النصارى الحرية الدينية وحرية الأديان عموماً. فكان هذا الاضطهاد من العوامل المهمة في تحريف دعوة المسيح ? عليه السلام نصرانية، لأن تثبيت العقيدة والدعوة إليها والعمل بها، يحتاج إلى وضع آمن،

_ 1 انظر أعمال الرسل (7/54-59) . 2 أعمال الرسل (12/2) . 3 انظر تاريخ بني إسرائيل. محمد عزه دروزه ص 381 4 تاريخ المسيحية لحبيب سعيد (1/59) . 5 انظر ما سبق ص 221.

بل يحتاج إلى قوة داعمة ومناصرة لترسخ العقيدة في النفوس، ويتمكن الدعاة من نشرها بين الناس، وإلا فإن عقائد الناس وعباداتهم القديمة تطغى على الدعوة الجديدة، وقد تصبغها بصبغتها، وكذلك أعداء الأديان من أصحاب الأهواء والنفعيين فإنهم يجدون أرضية مناسبة لبث أرائهم وأهوائهم في الأديان، كما أن الجهل بالدين الصحيح في كثير من الأحيان مع النية الصالحة في العمل قد تدفع الإنسان إلى استحسان أمور وادعاء أمور أنها من الدين وهي ليست منه. فهذه الأمور وغيرها تطفو على السطح وتظهر في حالة الاضطهاد وعدم الأمن، وإذا نظرنا إلى تاريخ النصرانية نجد أنه في فترة الاضطهاد شاع بينهم ما يسمونه بـ "الهرطقة" وهي التعاليم المخالفة لما عليه النصارى، كما كثرت الكتب والرسائل المنسوبة إلى دعاة النصارى الأوائل1. واستمر وجود تلك البدع والكتب إلى أن جاء قسطنطين وسعى إلى توحيد النصارى بدعوته إلى مجمع نيقية سنة 325م، إلا أنه وحدَّهم على إحدى تلك البدع، وهي بدعة بولس، فمما لا شك فيه أن ذلك كله كان عاملاً من العوامل التي تسببت في انحراف النصرانية عن الدين الحق الذي جاء به المسيح عيسى عليه السلام.

_ 1 من هذه "الهرطقات" البدع التي انتشرت في ذلك الوقت الدوستية - الغنوسية- المارسيونية- المونتانية وسبق الإشارة إليها في تاريخ النصرانية. ومن هذه الكتب والرسائل - التي انتشرت في تلك الحقبة- إنجيل بطرس، إنجيل توما، إنجيل فيلبس، إنجيل الحق، إنجيل المصريين، ورسالة كورنثوس الثالثة، ورسالة تيطس، ورسالة اللاودكيين، ورؤيا بطرس، ورؤيا بولس، ورؤيا توما، إلى غير ذلك من الكتب العديدة. انظر كتاب تاريخ الكنيسة جون لوريمر ص1/89-151تاريخ المسيحية حبيب سعيد 1/46-62.

ب- ضياع الإنجيل وانقطاع السند: تقدم الكلام على الأناجيل وأن الأناجيل الموجودة ليس منها شيء منسوب إلى عيسى عليه السلام، ولا يعرف أثر لإنجيل عيسى عليه السلام كما أن النصارى لم يعتنوا بالتدوين مباشرة بعد رفع المسيح، وإنما تأخروا في التدوين مما جعل كثيراً من الأناجيل تظهر، ولا يعرف على اليقين كاتبها، ولا من أين أخذ معلوماته1. وهذا انحرف بدعوة المسيح عليه السلام عن وجهها الصحيح، لأن أصحاب تلك الأناجيل ليسوا معصومين فوقعوا في أخطاء كثيرة، وسوء فهم، وغير ذلك من العوارض التي تعرض للبشر، مما جعل الديانة المعتمدة على مثل تلك الكتب المليئة بالأخطاء تبدو ديانة مرتبكة مختلة التركيب، كما هو حال النصرانية. ج- بولس (شاؤول اليهودي) : هو شاؤول اليهودي أحد ألد أعداء المسيح عليه السلام، وأحد اليهود المتعصبين لليهودية، ولد وتربى في طرسوس التي كانت مركزاً من مراكز الفلسفة وتنوع الثقافات الوثنية في ذلك الوقت. وانتقل بولس إلى أورشليم وتعلم الشريعة اليهودية وكان من أشد الناس تعصباً لها، ثم لما بعث المسيح عليه السلام كان من أشد الناس على ديانته وعلى أتباعها. فهو يقول عن نفسه: "سمعتم بسيرتي قبلاً في الديانة اليهودية إني

_ 1 انظر ما سبق في الكلام على المصادر ص174ومابعدها.

كنت اضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي"1. ثم إن هذا الرجل زعم أنه دخل في دين المسيح، وفي هذا يقول لوقا في أعمال الرسل (9/1) : "أما شاؤول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب فتقدم إلى رئيس الكهنة، وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساً من الطريق رجالاً أو نساءاً يسوقهم موثقين إلى أورشليم، وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له: شاؤول شاؤول. لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيد، فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، صعب عليك أن تَرْفُسَ مَنَاخِس2، فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل، فقال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل....... وكان شاؤول مع التلاميذ الذين في دمشق أياماً وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله". وبهذه القصة التي لا دليل عليها ولا شاهد إلا دعواه، زعم أنه دخل في دين المسيح، وحين قدم نفسه للحواريين لم يقبله الحواريون أولاً لمعرفتهم بعداوته وبطشه بهم، ولكن " برنابا" توسط له عندهم فقبلوه3.

_ 1 رسالة بولس إلى أهل غلاطيه (1/13) . 2 مناخس: جمع منخس وهو الحديدة التي تنخس بها الحيوانات والمراد أن رفس المناخس صعب ولا يعود بفائدة بل يضر. انظر: قاموس الكتاب المقدس ص963. 3 أعمال الرسل (9/26) .

فنشط بعد قبولهم له وصار رأساً في النصرانية، يبني الكنائس، ويطوف البلاد شرقاً وغرباً يدعو ويرسل الكتب والرسائل يبين فيها ديناً وأمراً غريباً عن الحواريين وعن شريعة عيسى عليه السلام 1. وبالنظر الفاحص فيما خلف بولس من رسائل يتضح للناظر فيها ملاحظات عديدة نقتصر منها على ذكر أهم مخالفاته لدعوة المسيح عليه السلام 1 - ادعاؤه أن المسيح ابن الله: من الدعاوى التي أطلقها بولس هي ادعاؤه أن المسيح عليه السلام ابن الله -تعالى الله عن ذلك - فمن ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل عن بداية دعوة بولس (9/20) قال:"وللوقت جعل -يعني بولس - يكرز في المجامع أن هذا هو ابن الله"??. ويقول بولس في رسالته إلى غلاطية (4/4) "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ". فهذه الدعوى ظهرت أولاً في كلام بولس ودعوته، ثم ظهرت قوية في المجامع النصرانية، وقامت عليها الديانة كلها، وهذا كله خلاف ما صرح المسيح عليه السلام به مراراً من أنه رسول لبني إسرائيل، وأنه إنسان، وابن

_ 1 من الملاحظ أن بولس لم يجلس إلى الحواريين ولم يتعلم منهم شيئاً، فقال في غلاطية (1/15) " ولكن لما سُرَّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته أن يعلن ابنه في لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ودماً ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت إلى دمشق، ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يوماً ولكنني لم أر غيره من الرسل إلا يعقوب ... ". فهذه المعلومات تدل على أنه لم يتعلم من الحواريين شيئاً، فمن أين أتى بدعاويه التي ادعاها؟!.

إنسان، وابن داود، وغيرها من الألقاب التي تؤكد أنه بشر ابن بشر، ومن ذلك قول إنجيل متى (8/20) " فقال له يسوع للثعالب أوجرة ولطيور السماء أو كار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه". وفي إنجيل يوحنا يقول (8/40) "وأنا إنسان علمكم بالحق الذي سمعه من الله"1 فهذه النصوص قد أكد بها المسيح بشريته إلا أن بولس بعد قد أضفى على المسيح صفة "ابن الله" وأعطاها ذلك المضمون الذي أخذت به النصرانية من اعتقادهم أن المسيح إله، ابن إله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. 2- ادعاؤه أن الغاية من مجيء المسيح عليه السلام هو الصلب وتكفير الخطايا: وفي هذا يقول بولس في روميه (3/23) :" إذ الجميع اخطأوا وأعوزهم مجد الله متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة" ويقول في روميه أيضاً في (5/6) "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار ... ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا ". وفي رسالته الثانية إلى كورنثوس (5/21) يقول "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه". فهذه الدعوى التي علل بها بولس حياة المسيح وموته هي التي قامت عليها

_ 1 انظر الرد عليهم ص 253-256

النصرانية بعد، ولم يكن لها في الحقيقة شيء من الصدى في حياة المسيح ولا كلامه. بل ورد عن المسيح عليه السلام التصريح بأنه جاء ليدعو إلى التوبة والإنابة. وفي هذا ورد في إنجيل متى (9/13) قوله" لأني لم آت لأدعوا أبراراً بل خطاة إلى التوبة". وفي إنجيل مرقص (1/12) يقول" وبعد ما أُسْلِم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله. ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". فهذا ظاهر منه أن المسيح عليه السلام قد صرح بأن الهدف من رسالته هو الدعوة إلى التوبة. إلا أن بولس اخترع من عند نفسه هدفاً آخر للمسيح لم يصرح به المسيح ولم يقله وهو أنه إنما جاء ليصلب تكفيراً للخطايا. 3 - ادعاؤه أن دعوة المسيح عليه السلام كانت عامة لجميع بني البشر ادعى بولس أن المسيح عليه السلام رسول لجميع الأمم ثم زعم لنفسه بأنه مرسل إلى جميع البشر، وفي هذا يقول في روميه (11/13) "فإني أقول لكم أيها الأمم، بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي ". وفي غلاطيه (1/15) يقول"ولكن لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته أن يعلن ابنه في لأبشر به بين الأمم". وفي أفسس (3/8) يقول"أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم"? وهذه الدعوى منه تخالف ما ذكره المسيح عن نفسه وما وصى أيضا به تلاميذه حيث يقول عن نفسه في إنجيل متى (15/24) "لم أرسل إلا إلى

خراف بيت إسرائيل لضالة". ووصى تلاميذه بقوله في إنجيل متى (10/5) " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". 4 - إلغاؤه لشريعة موسى عليه السلام ودعواه أن الإنسان ينجو بالإيمان المجرد بدون عمل. ألغى بولس شريعة موسى عليه السلام وفي هذا يقول في رسالته إلى رومية (2/16) "إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما..... فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي لست أبطل نعمة الله، لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب". ومما يجدر ذكره أن بولس لما وسع نطاق دعوة المسيح عليه السلام لتشمل جميع الناس واجه عقبة كؤود، وهي عدم قبول الوثنيين للشرائع الموسويه، وتصور أنه لا يمكن أن تنجح الدعوة بينهم مع وجود الشريعة، فقرر إلغاءها، ويذكر سفر أعمال الرسل أن هذا أولاً تم بمطالبة من بولس ودعوة منه، ثم قبله بعد ووافق عليه سائر التلاميذ، وقرروا أن لا يلزم الناس بشيئ من الأمور الواجبة عند بني إسرائيل سوى الامتناع عن الذبح للأصنام، وعن أكل الدم، والمخنوق، والإمتناع عن الزنا1. وإلغاء بولس للعمل بشريعة موسى عليه السلام خلاف ما أكده المسيح عليه

_ 1 انظر أعمال الرسل (15/28) .

السلام ودعى إليه فقد ورد في إنجيل متى (5/17) أنه قال ": لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس حتى يكون الكل فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السموات وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السموات. فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات". فهذه تأكيدات واضحة من المسيح على التزام شريعة موس عليه السلام وتحريم الخروج عليها. فإلغاء العمل بشريعة موسى هو في الحقيقة هدم لديانة المسيح تماماً، لأن مما هو ظاهر من دعوة المسيح عليه السلام أنه لم يأت بتعاليم جديدة تذكر، وإنما ركز تركيزاً خاصاً على التوبة والتخلص من الخطايا 1. وهذا لا شك مع التزام الشريعة السابقة، فإذا ألغيت الشريعة بقيت دعوة المسيح عليه السلام دعوة عامة للتوبة والصلاح بدون أعمال يتوصل الإنسان من خلالها إلى تهذيب نفسه وتزكيتها، وهذا ما آل إليه أمر ديانة المسيح عليه السلام بسبب دعوة بولس الذي نشط بعد ذلك في بيان بطلان شريعة موسى عليه السلام وَوَجْهِ إلغائها، وتكرر هذا الأمر في أغلب رسائله، وهو من أهم ما يميز دعوته، مع أنه لا يملك دليلاً واحداً يبيح له مثل هذا العمل، الذي يعتبر كفراً بالديانة ونقضاً لها من أساسها. كما يعتبر بكل المعايير فشلاً في الدعوة، وليس نجاحاً كما يظن النصارى

_ 1 انظر ص 147

لأن النجاح في الدعوة هو أن تنجح في الدعوة إلى كامل المنهج الذي تدعو إليه بأصوله وفروعه، أما تغييره أو الاكتفاء بجزء شكلي منه فلاشك أن ذلك فشل كبير. 5- إلغاؤه للختان: اختتن المسيح عليه السلام 1 والتزم به، لأنه من شريعة موسى فقد ذكر اليهود في كتابهم أن الله تعالى قال لإبراهيم ? عليه السلام كما في التكوين (17/11) "يختن منكم كل ذكر فَتُخْتَنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم ... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي". ومع هذا التأكيد على الختان، فقد ألغاه بولس من ضمن ما ألغى من شريعة موسى عليه السلام، وفي هذا يقول في روميه (2/28) " لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان". هذه بعض الأمور التي يلاحظها الإنسان الذي يطلع اطلاعة سريعة على رسائل بولس التي تكونت بعد منها النصرانية، وقامت عليها وغطت تعاليمه على تعاليم المسيح عليه السلام بل ألغتها وحلت محلها، كما سبق ذكره، ومن الجدير بالذكر أن أتباع المسيح الأوائل لم يقبلوا تلك الدعاوى من بولس بل ردوها وفي هذا يقول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (1/15) : "إن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني"، وهذا هو المتوقع من الحواريين والذين

_ 1 انظر لوقا (2/21) .

عرفوا الحق ورأوا المسيح عليه السلام وتتلمذوا عليه. إلا أن تلك الدعاوى وجدت رواجاً لدى الرومان واليونان وخاصة في غرب أوربا حيث كان الغالبية وثنيين، فناسبتهم هذه المبادئ فأخذوا بها، ثم طبعها بطابع الشمول والإلزام مجمع نيقية سنة 325م حيث قرروا فيه ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه نزل ليصلب تكفيراً لخطايا البشر كما تقدم1، فأصبحت الديانة النصرانية مدينة في الواقع لبولس، وليس للمسيح منها إلا الاسم فقط. د- التأثر بالوثنيات والفلسفات الوثنية: لقد نادى المسيح عليه السلام بأنه لم يرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة، بل نهى أتباعه عن الذهاب إلى قرى غير اليهودية2، إلا أن أتباعه فيما بعد خالفوا ذلك، وتوجهوا إلى الوثنيين من الرومان واليونان والفرس وغيرهم في المناطق المجاورة، والأماكن التي أمكنهم الوصول إليها، ولما كانت الديانة المسيحية تفتقر للمقومات التي تكفل لها التأثير في تلك المجتمعات، حيث كانت دعوة لبني إسرائيل خاصة، وليس لها الصبغة العالمية التي يمكن أن تتغلب بها على تلك الأديان والفلسفات. لذا فقد غُلبت وأمكن للديانات الوثنية أن تصبغها بصبغتها، بل ألغتها تماماً، واحتلت مكانها، وأخذت مسماها، هذا أمر يتضح لكل ناظر في الديانة النصرانية المحرفة، وقد أكد علماء الأديان والتاريخ ذلك، وأن الديانة النصرانية قد إصطبغت بالصبغة الوثنية، وأنها أخذت عقيدتها وعبادتها من تلك الوثنيات فضمتها إليها ووضعت

_ 1 انظر ما سبق ص221. 2 انظر: إنجيل متى (10/5) .

عليها اسمها1. ومن الأمثلة على أن النصارى قد رددوا عقائد الوثنيين الذين كانوا قبلهم ما يلى: 1- إن التثليث موجود عند الهنادكة والبوذيين قبل النصارى وفي هذا يقول "فابر" في كتابه (أصل الوثنية) : "وكما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من برهمة وفشنو وسيفا، هكذا نجد عند البوذيين فإنهم يقولون إن بوذا إله ويقولون بأقانيمه الثلاثة ... ". كما كان يوجد ذلك أيضاً لدى المصريين والفرس واليونان والرومان والأشوريين والفينيقيين والاسكندنافيين والتتر والمكسيكيين والكنديين2. وكذلك المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن الآلهة ثلاثة وهم (أتوم وشو وتفنوت3" أو أوزيريس وأيزيس وهورس4. 2- إن الصلب - فداءً للبشر- عقيدة وثنية كانت موجودة لدى الهنادكة، وفي هذا يقول "هوك" في كتابه "رحلة هوك": "ويعتقد الهنود بتجسد أحد الآلهة وتقديم نفسه ذبيحة فداءاً عن الناس من الخطيئة". وقال "دوان" في كتابه "خرافات التوراة والإنجيل" ما نصه: "ويعتقد الهنود بأن كرشنا المولود البكر الذي هو نفس الإله فشنو والذي

_ 1 سيأتي النقل في ذلك عن النصارى أنفسهم ص319. 2 انظر في النقول عن هذه الديانات كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" ص (35-45) . 3 انظر الرمز والاسطورة في مصر القديمة ص 39. 4 قاموس الكتاب المقدس ص 904.

لا إبتداء ولا انتهاء له على رأيهم، تحرك حنوا كي يخلص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه". وقالت "مسز جمسون" في كتابها "تاريخ سيدنا من الآثار": "كان الميليتيون يمثلون الإله إنساناً مصلوباً مقيد اليدين والرجلين بحبل خشبه وتحت رجليه صورة حمل، والسوريون يقولون: إن تموز الإله المولود البكر من عذراء تألم من أجل الناس، ويدعونه. المخلص، والفادي، والمصلوب"1. 3-الإعتقاد بأن إلهاً تجسد وولد من عذراء هو كذلك من عقائد الوثنيين. ففي هذا يقول "دوان" في كتابه السابق: "والهنود يقولون إن كرشنه هو ابن العذراء النقية الطاهرة ديفاكي ويدعونها والدة الإله. ويقول المصريون: إن هورس "حورس" المخلص ولد من العذراء إيسيس "ايزيس"، وأنه المنبثق الثاني من عامون، ويقولون الابن المولود، ويصورونه إما على يدي أمه أو على حضنها"2. فهذه أمثلة واضحة على تأثر الديانة النصرانية بالأديان الوثنية قبلها بل إن الأديان الوثنية تغلبت على ديانة المسيح عليه السلام وصبغتها بصبغتها، وقد صرح المؤرخ "هـ. فيشر"بذلك التشابه حيث قال: "غير أنه ليس ثمة شك أن اتخاذ المسيحية – فيما بعد- ديانة رسمية للبلاد - يعني الإمبراطورية الرومانية - ساعد على ازدياد صفوف المسيحيين زيادة سريعة،

_ 1 نقلاً عن العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص 49-53. 2 نقلاً عن المرجع السابق ص60-66. وانظر الرمز والاسطورة في مصر القديمة ص (104-106) .

سيما أن التحول عن الوثنية إلى المسيحية لم يكن إنتقالاً إلى جو غريب تمام الغرابة، أو شعوراً بانقلاب باغت مفاجئ، بل بدا الولوج في المسيحية عملية رفيقه في كثير من التدرج الشعوري العاطفي، إذ شابهت طقوس الديانة المسيحية وأسرارها المقدسة ما للديانة القديمة من طقوس وأسرار، كما اشتملت تعاليمها على تعاليم الأفلاطونية الحديثة، 1 يضاف إلى ذلك أن القول بوجود واسطة بين الله والناس أمر مألوف عند الفرس وأهل الأفلاطونية الحديثة2 سواء3". وفي نفس الموضوع يقول "شارل جنيبر " رئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس: " إن المسيحية لم تكن تستطيع مدافعة أمام هذه النزعات والشعائر السائدة، وإذا كانت - أي النصرانية- قد انتصرت في القرن الثالث على سائر ألوان "التأليف" الديني الوثني، فذلك لأنها كانت قد تطورت هي الأخرى إلى تأليف ديني تجتمع فيه سائر العقائد الخصبة والشعائر الجوهرية النابعة من العاطفة الدينية الوثنية، قامت هي -أي النصرانية - بترتيبها، وتركيبها، وأضفت عليها الإنسجام الذي تفتقر إليه، بحيث استطاعت أن تقف مفردها أمام أشتات المعتقدات والشعائر التي يؤمن بها أعداؤها دون أن تظهر ضعفاً أو نقصاً عليها في أي من المجالات الهامة.

_ 1 الأفلاطونية الحديثة: هي فلسفة دينيه ذهبت إلى احتواء المعتقدات السائدة والأساطير، والطقوس، وعبادات الشرق، والسحر، والكيمياء القديمة. انظر: الموسوعة الفلسفية ص56. 2 " أفلوطين " مؤسس الأفلاطونية الحديثة جعل الخلق والوجود المادي منبثقاً وصادراً عن الأول وهو الله. "وفيلون اليهودي أكبر من تنسب إليه الأفلاطونية الحديثة قال: بفكرة الوسيط بين المبدع الأول وهو "الله" وبين الخلق. انظر: موسوعة الفلسفة (1/191) . 3 فيشر، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ص7-8.

وتمت ظاهرة التشرب هذه- وهي من الظواهر الأساسية في تاريخ المسيحية - في بطء بطيء معتمدة على الإتصال الدائب بتطور الإيمان بين جميع طبقات المجتمع الوثني، ذلك المجتمع الذي اختلفت فيه صور الإيمان باختلاف بيئاته وباختلاف العهود التي مر بها، ... وإنها لظاهرة تفسر لنا كيف جاء العصر الذي استطاعت فيه المسيحية أن تكسب عطفاً نشيطاً بين رحاب العالم اليوناني الروماني"1. فهذا يكفي للدلالة على تشرب الديانة النصرانية للأديان الوثنية التي توجهت إليها، وهذا في عرف الدين الحق إنحلال وكفر بالدين الإلهي، الذي يجب أن يكون صحيح النسبة إلى الله??تعالى، في أصوله وفروعه، نقياً في عقائده وتشريعاته من خرافات البشر، واملاءات الشياطين. ولكن كيف تشربت الديانة النصرانية الأديان الوثنية؟ إن الناظر في كبار الدعاة إلى النصرانية في العصور الأولى والذين يشار إليهم بأنهم من أعظم الناس أثراً وتأثيراً في الديانة النصرانية، هم فلاسفة متعمقون في الفلسفات الوثنية، وبعد تنصرهم نقلوا تلك الفلسفات معهم إلى الدين الجديد، وحاولوا أن يسدوا الثغرات التي يجدوها في الديانة النصرانية - وما أكثرها - بمزيج من الفلسفات التي كانوا عليها من قبل، ومن هؤلاء الذين كان لهم دور في ذلك: بولس (شاؤول اليهودي) وسبق الحديث عنه. "يوستينيوس" الذي ولد سنة 100 أو 105م فقد ولد من أبوين

_ 1 المسيحية نشأتها وتطورها ص154-155.

وثنيين، وتربى على الديانة الوثنية وتعلم الفلسفة الرواقية1 ثم درس فلسفة الأكاديميين2 والفيثاغوريين34. قال عنه القس حنا الخضرى "مما لاشك فيه أن الدراسات الفلسفية الكثيرة التي درسها يوستينوس قبل تجديده 5 تركت في تعاليمه بعض الآثار الوثنية"6 " تاتيان السوري " المولود عام 110م من عائلة وثنية درس الفلسفة في بلاد اليونان، ثم ذهب إلى روما ودرس دياناتهم وفلسفاتهم، ثم تتلمذ على يوستينوس 7. "أثينا غورس الأثيني": كان معاصراً "لتاتيان السوري" كان يحب الفلسفة، وكتاباته مليئة بالإقتباسات الشعرية والفلسفية. "ثيوفيلوس الأنطاكي": ولد من أبوين وثنيين، وكانت ثقافته يونانية وثنية، وهو أول من استعمل كلمة الثالوث في تاريخ العقيدة النصرانية8.

_ 1 الفلسفة الرواقيه: سميت رواقيه لأن أصحابها كانوا يجتمعون في رواق، وهي فلسفة أخلاقية، وتقول عن الله بأنه خالق كل شيء وهو منبث في هذا الكون. انظر: الموسوعة الفلسفية ص214. 2 الأكاديمية نسبة إلى المدرسة التي أنشأها أفلاطون وسماها أكاديمياً وكانت تدرس الفلسفة اليونانية. الموسوعة الفلسفية ص60. 3 الفيثاغورية: نسبة إلى فيثاغورس اليوناني ومدرسته فلسفية وفيها مبادئ صوفية تتصل بالزهد وهم يرون تحريم أكل اللحوم ويقولون بتناسخ الأرواح. انظر: موسوعة الفلسفة (2/228) . 4 تاريخ الفكر المسيحي ص1/444. 5 يعني قبل دخوله في النصرانية. 6 تاريخ الفكر المسيحي 1/453. 7 تاريخ الفكر المسيحي 1/454. 8 انظر في هاتين الشخصيتين المرجع السابق 1/459، 462.

"اكلميندوس الإسكندري" ولد على ما يحتمل سنة 150م في أثينا من أبوين وثنيين وكان محباً للعلم شغوفاً به مولعاً بالبحث عنه أينما وجد، ورحل في ذلك رحلات عديدة، إلى أن حطت به الرحال في الاسكندرية ملتقى الثقافات المتنوعة، وصار بعد أن دخل النصرانية مديراً لمدرسة التعليم المسيحي في الإسكندرية والتي أسسها باثنيوس الذي كان قبل دخوله النصرانية وثنياً رواقيا. وكان اكلميندوس الإسكندري متأثراً جداً بـ يوستنيوس وفلسفته فأدخل هذه الأمور في تعاليمه عن المسيح وفي هذا يقول القس حنا الخضري: مما لاشك فيه أن العلوم والفلسفات الوثنية الكثيرة التي درسها والبيئة التي نشأ فيها إكلميندس، تركت فيه أثراً عميقاً لم يكن من السهل محوه محواً تاماً"1. "اغسطينوس" ولد سنة 354م في مدينة سقسطه في الجزائر، وتوفى سنة 430م، الذي تميزت سنوات شبابه بالصراع العقلي والأدبي فقد جذبته الفلسفة الثنائية لجماعة المانويين وصار تابعاً أميناً للعقيدة المانوية وفلسفتها ثم ضاق بالمانوية وصار اهتمامه بالأفلاطونية الحديثة، والذي من خلالها صار يعتبر نفسه مسيحياً، ثم خلع عنه فيما بعد حياة المجون والفساد، واستقبل الحياة النصرانية وبرز فيها إلى أن صار اسقفاً لهيبو في منطقة تونس إلى أن توفى سنة 430م وصار من أعظم قادة الكنيسة بعد بولس، إلا أن أفكار الأفلاطونية الحديثة أثرت على تعاليمه يقول جون لوريمر: " كانت معالجة اغسطينوس للأوجه الرسمية الخاصة بالفكر اللاهوتي متأثرة بخلفيته عن الأفلاطونية الحديثة2".

_ 1 انظر تاريخ الفكر المسيحي (1/507) . 2 انظر: تاريخ الكنيسة. جون لوريمر (3/186-200) .

ولا نريد أن نطيل في عرض هذا الموضوع إنما المراد الإشارة إلى أن العقائد الأجنبية التي اصطبغت بها النصرانية دخلتها عن طريق هؤلاء وأمثالهم الذين كانوا رواداً للديانة في بداية انطلاقها إلى البلدان الوثنية فقد عبرت إلى الوثنيين عن طريق هؤلاء المتشبعين بالفلسفات والوثنيات، حيث صبغوها بفهومهم ومعارفهم وعقائدهم السابقة وقدموها للناس شارحين ومدافعين ديانة مخلوطة بالفلسفة الوثنية في ثوب ديانة توحيدية سماوية. هـ - تدخل الإمبراطور قسطنطين الإمبراطور قسطنطين إمبراطور الدولة الرومانية هو الذي رفع الاضطهاد عن النصارى بعد أن دام ما يقارب (300) سنه من قبل اليهود والرومان، فقرب هذا الإمبراطور النصارى إليه، ورفع الاضطهاد عنهم، فانحازوا هم إليه وقبلوا منه ذلك، ثم إنه لما رأى اختلافهم وتباين أقوالهم دعاهم إلى مجمع نيقية سنة 325م فاجتمعوا في ذلك المجمع، ولما كان هو وثنياً ولا علم عنده أيضاً بالمسيحية انحاز إلى ما يوافق هواه ورغبته، فنصر قول القائلين بإلوهية المسيح، وأمر بلعن وطرد من خالفهم وملاحقته. وبالفعل تم ذلك وترتب عليه القضاء على التوحيد، واندراس معالمه بعد ذلك، كما أدى ذلك إلى انتشار النصرانية المثلثة بقوة السلطان، وأولهم" قسطنطين" الذي لم يدخل في الديانة النصرانية إلا وهو على فراش الموت1. و المجامع النصرانية: تقدم ذكر المجامع وأهم قراراتها، فتبين لنا أن تلك المجامع هي التي كونت

_ 1 سبق الحديث عن قسطنطين في الكلام على مجمع نيقيه.

الديانة النصرانية، ووضعت أهم أسسها، وهي التي حاربت التوحيد عن طريق قراراتها، فأصبحت الديانة النصرانية تدين في الواقع تلك المجامع في تكوينها وفي دعوتها لمحاربة وتكفير كل من يخالف قراراتها.

الفصل السادس: أهم الفرق النصرانية المعاصرة

الفصل السادس: أهم الفرق النصرانية المعاصرة لما فقد النصارى كثيراً من آثار الوحي والنبوة التي جاءتهم، ولم يعد عندهم أصل صحيح يرجعون إليه. اختلفوا وتفرقوا شيعاً وأحزاباً متباغضة متعادية. وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} المائدة (14) . ومن الجدير بالذكر إن دعوة التوحيد التي نادى بها المسيح عليه السلام استمرت في تلاميذه وحوارييه قوية فاعلة إلى تدمير بيت المقدس سنة 70م ثم استمرت على نحو أضعف إلى التدمير الثاني سنة 135م، حيث قُضِي عليها وتشرد أتباعها، فانفسح المجال واسعاً أمام المذاهب المنحرفة التي ظهرت في النصارى في وقت مبكر بدخول بولس " شاؤول اليهودي " في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام بسنوات قلائل وبتأثير الديانات الوثنية والفلسفات الوثنية. فتوزع النصارى إلى فرق وأقوال عديدة متباينة تبايناً شديداً في أصول الديانة والعقيدة، إلا أن دعوة التوحيد كانت تظهر بين الحين والحين مع شوائب عديدة، ولم يبدأ الانقراض التدريجي لها إلا بعد مجمع نيقية سنة 325هـ الذي انعقد أصلاً للنظر في قول فرقتين من أكبر فرق النصارى في ذلك الوقت، وهو قول الفرقة الأريوسية الموحدة بأن المسيح بشرٌ مخلوق، وقول الفرقة البولسية بأن المسيح ابن الله خالقاً وليس مخلوق تعالى الله عن قولهم.

فانتصر في ذلك المجمع القائلون بألوهية المسيح، وهو مذهب بولس، واعتنقت الدولة الرومانية المسيطرة في ذلك الزمان ذلك المذهب مما أتاح لهذه الفرقة الدعم القوي والبقاء والانتصار على جميع الطوائف الأخرى التي اندثرت بعد ذلك بسبب شدة الكنيسة البولسية على مخالفيها، وصار بعد ذلك جُلَّ النصارى يجمعون على القول بألوهية المسيح وأنه نزل ليصلب تكفيراً لخطيئة آدم عليه السلام، واعتبار أن الأناجيل الأربعة متى - مرقص - لوقا -يوحنا وبقية العهد الجديد مع العهد القديم هي الكتب المقدسة، ويختلفون في أمورٍ أخرى متعلقة بتلك العقائد أو غيرها من التشريعات. وينقسمون إلى طوائف عدة: أولاً: القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح. هم من أخذ بقرار مجمع أفسس السابق 1 وهم الأقباط 2واليعاقبة 3 والأرمن4والأحباش.

_ 1 انظر ص 228. 2 الأقباط: الآن هم نصارى مصر، وهم أكثر نصارى العرب عدداً ويفترقون الآن إلى ثلاث فرق، فرقة على القول بالطبيعة الواحدة، ويسمون الأقباط الأرثوذكس، وفرقة تركت هذا القول ووافقت الكاثوليك على قولهم بالطبيعتين، ويسمون الأقباط الكاثوليك وفرقة وهي أقل عدداً أخذوا بقول البروتستانت. انظر المنجد في الأعلام ص 544. المسيحية في العالم العربي ص 114. 3 اليعاقبة: هم النصارى السريان وجلهم في العراق وسوريا، ويفترقون إلى ثلاث فرقٍ كالتي يفترق إليها الأقباط. 4 الأرمن: هم جاليات قدمت من أرمينية شرق آسيا الصغرى واستوطنت بلاد الرها وأنطاكية، ومنهم جاليات في الشام وينقسمون إلى ثلاث فرق كالتي يفترق إليها الأقباط واليعاقبة. انظر: المسيحية في العالم العربي ص 112.

ثانياً: القائلون بأن المسيح له طبيعتان. هم من أخذوا بقرار مجمع خلقيدونية1، ويقال لهم الملكانية نسبة إلى الملك وهو الإمبراطور الروماني البيزنطي، والملكانية انقسموا إلى ثلاث طوائف كبار هي:

_ 1 انظر ما سبق ص228.

الطائفة الأولى: الكاثوليك: وهم أتباع البابا في روما وأهم ما يتميزون به هو: 1- قولهم بأن الروح القدس انبثق من الأب والابن معا "وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند الكلام على المجمع الثامن". 2- يبيحون أكل الدم والمخنوق. 3- أن بابا الفاتيكان هو الرئيس العام لجميع الكاثوليك. 4- تحريم الطلاق بتاتاً حتى في حالة الزنا. والكاثوليك هم أكثر الأوربيين الغربيين وشعوب أمريكا الجنوبية وتسمى كنيستهم الكنيسة الغربية.

الطائفة الثانية: الأرثوذكس: وهم نصارى الشرق الذين تبعوا الكنيسة الشرقية في القسطنطينية "وقد تقدمت الإشارة إلى انشقاقهم عند الكلام على المجمع الثامن". وأهم ما يتميزون به هو: 1- أن الروح القدس إنبثق عندهم من الأب فقط. 2- تحريم الطلاق إلا في حالة الزنا فإنه يجوز عندهم. 3- لا يجتمعون تحت لواء رئيس واحد بل كل كنيسة مستقلة بنفسها. وهذا المذهب منتشر في أوربا الشرقية وروسيا.

الطائفة الثالثة: البروتستانت: ويسمون الإنجيليين: وهم أتباع مارتن لوثر الذي ظهر في أوائل القرن السادس عشر الميلادي في ألمانيا وكان ينادي بإصلاح الكنيسة وتخليصها من الفساد الذي صار صبغة لها. وأهم ما يتميز به أتباع هذه النحلة هو: 1- أن صكوك الغفران دجل وكذب وأن الخطايا والذنوب لا تغفر إلا بالندم والتوبة. 2- أن لكل أحد الحق في فهم الإنجيل وقراءته وليس وقفا على الكنيسة. 3-تحريم الصور والتماثيل في الكنائس لأنها مظهر من مظاهر الوثنية. 4- منع الرهبنة. 5- إن العشاء الرباني تذكار لما حل بالمسيح من الصلب في زعمهم، وأنكروا أن يتحول الخبز والخمر إلى لحم ودم المسيح عليه السلام. 6- ليس لكنائسهم رئيس عام يتبعون قوله. وهذه النحلة تنتشر في ألمانيا وبريطانيا وكثير من بلاد أوربا وأمريكا الشمالية 1.

_ 1 انظر في هذا محاضرات في النصرانية ص 161،164،180، كتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} ص 257،262.

الفصل السابع: التنصير

الفصل السابع: التنصير هو الدعوة إلى النصرانية ويسميه النصارى التبشير. وسائله: للنصارى في دعوتهم إلى ديانتهم وسائل عديدة منها: الدعوة المباشرة بالوعظ، والتعليم العام، والمناداة بالتباع الديانة النصرانية وهذه الوسيلة هي المعمول بها في بلدانهم وبين شعوبهم. ومنها الدعوة غير المباشرة وذلك عن طريق التطبيب، والتعليم، والإغاثة. فهم يجعلون من تطبيب المرضى وعلاجهم وسيلة إلى إيصال الدعوة النصرانية، وذلك بإقامة المستشفيات والمراكز الصحية التي تكون ستاراً لدعوتهم، وكذلك التعليم وذلك بإنشاء المدارس من رياض الأطفال، وما فوقها من المستويات من المعاهد والجامعات. كما يستغلون حاجة المنكوبين والملهوفين للإعانات فيغلفون تلك الإعانات بالدعوة إلى النصرانية. وهذه الوسائل يستخدمونها في البلدان غير النصرانية وخاصة البلاد الإسلامية1.

_ 1 انظر: ملامح عن النشاط التنصيري في الوطن العربي ص 26.

أهداف التنصير: إن من المعلوم أن العقيدة هي أقوى رابط والولاء الحقيقي لا يكون إلا بها ووفقها. لهذا يسعى النصارى إلى تنصير الناس، وخاصة المسلمين حتى يكسبوا ولاءهم ويسيطروا عليهم، فهو إذاً وسيلة أخرى من وسائل الاحتلال والسيطرة والاستعمار لا يحتاج إلى بذل النفوس وإزهاق الأرواح بالحروب الطاحنة، بل يحتاج إلى بذل المال وإستغلال الفرص المتاحة في البلدان الإسلامية من تمزق المسلمين وضعفهم وإعتناق كثير من ساسة البلدان الإسلامية للتصورات والعقائد المعادية للإسلام من علمانية، وقومية، وشيوعية، وضعف ولائهم للإسلام وبالتالي للأمة، وكذلك فساد حال كثير من الشعوب الإسلامية، بسبب المناهج الوافدة وضعف التكوين الديني في نفوسهم، مما يجعل الفرصة متاحة للمنصرين. ومما يدل على أن التنصير لا يعدوا أن يكون هجمة استعمارية جديدة، أمور عدة هي: أولاً: إن الدول التي وراء التنصير هي دول إلحادية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فكيف تشجع بل تستخدم نفوذها في تغلغل المنصرين وتسهيل مهمتهم، لو لم يكن لها أهداف إستعمارية. ثانياً: إن الدعوة إلى النصرانية فشلت فشلاً ذريعاً في بلدانها، فتوجهها إلى بلدان أجنبية عنها يكلفها ذلك أضعافاً مضاعفة من المال والوقت، مع النتائج غير المشجعة، هذا يدل على أن نشاطها في التنصير ليس هدفه نشر النصرانية

بحد ذاتها وإنما إستعمار المسلمين بشكل أفضل وأكمل بالنسبة لهم. ثالثاً: تصريحات المنصرين أنفسهم بأنهم ليسوا إلا أدوات في يد المستعمر ومقدمة له. وفي هذا يقول "كوتوي زيقلر" في كتابه "أصول التنصير": "ولكن ليس من شك في أن التوسع الإستعماري كان له وجهان: إقتصادي، وسياسي، وكان النشاط التنصيري جزءاً أساسياً من هذا التوسع الأوربي، وبنهاية القرن التاسع عشر كانت دوائر النفوذ السياسي الغربي قد ثبتت من نهر اليانقتزي إلى النيل، وأصبحت لندن هي عاصمة العالم المالية ووضعت أسس البعثات التنصيرية من تايبية إلى دكار"1. ويقول رأس المنصرين في العصور المتأخرة ومجرمهم صموئيل زويمر ملخصاً لأهداف التنصير وغاياته، في خطاب له في مؤتمر القدس، الذي عقده المنصرون عام 1935م في القدس مخاطباً أمثاله من المنصرين ما نصه: " أيها الإخوان الزملاء ممن كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية، واستعمارها لبلاد الإسلام فأحاطتهم عناية الرب، بالتوفيق الجليل المقدس. لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم خير أداء. ووفقتم لها اسمى التوفيق وإن كان يخيل إليَّ أنه مع إتمامكم العمل على أكمل وجه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه: إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين - لقد كانوا أحد ثلاثة:

_ 1 أصول التنصير في الخليج العربي ص 31.

إما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه بالإسلام- وإما رجل مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، قد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش - أما الآخر فيبغي الحصول على غاية من الغايات الشخصية1. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها2. ولذلك تكونون أنتم طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم عليه دول المسيحية والمسيحيون عموماً من أجله كل التهنئة. لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر، من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، على جميع برامج التعليم، في الممالك الإسلامية المستقلة أو التي تخضع للنفوذ المسيحي أو التي يحكمها المسيحيون حكماً مباشراً، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير المسيحي والكنائس والجمعيات وفي المدارس التي تهيمن عليها الدول الأوروبية، والأمريكية، وفي مراكز كثيرة، ولدى شخصيات لا تجوز الإشارة إليها3، الأمر الذي يعود فيه الفضل إليكم أولاً، وإلى ضروب كثيرة من التعاون باهرة النتائج، وهي أخطر ما عرف البشر في حياته الإنسانية.

_ 1 مراد زويمر أن الصنف الثالث ممن أغراه المنصرون بالشهوات إما المال أو النساء أو المركز. 2 هذا غاية ما يصبوا إليه هذا المجرم المنحرف، وهو أن يقوم بدور الشيطان بين المسلمين. 3 يقصد شخصيات متنفذة في الدول الإسلامية تخضع لهم وتحقق لهم أطماعهم.

إنكم أعددتم بوسائلكم الخاصة جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد. إنكم أعددتم نشأ لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء طبقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا تبوأ اسمي المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء. إن مهمتكم تتم على أكمل وجه، وقد انتهيتم إلى خير النتائج، وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الله". بمثل هذه الأهداف الخبيثة والوسائل الأخبث يتوجه النصارى بثياب المتوجعين على المرضى والمنكوبين والجهلة في عموم البلدان الإسلامية يلبسون لهم مسوح الرهبان وقلوبهم قلوب الذئاب {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وما أبدوه من رضي عن إفساد المسلمين يدل دلالة واضحة على المرارة التي تجرعوها، وعلى الخيبة التي منوا بها في أن المسلمين لم يقبلوا ذلك الهراء الذي يسمونه ديناً، وذلك التلفيق الوثني الذي يريدون أن ينطلي على المسلم، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنهم ليسوا على شيء، وأنهم لا يستطيعون أن يعطوا المسلم شيئاً يجذبه إلى دينهم، وغرهم أن وجدوا استجابة من الوثنيين فيما مضى وما ذاك إلا لأن الوثني وجد وثنيته في النصرانية فلا بأس مع المغريات أن يلبس ثوب النصرانية مع ثوبه الأصلي.

أما المسلم صاحب العقيدة والوعي فيعلم أن النصرانية ليست سوى ديانة وضعية ملفقة ليس فيها غناء، ولا يأتي منها شفاء. ويكون النصراني في محاولته لتنصير المسلم كمن يأتي إلى من يملك الملايين فيدعوه إلى استبدالها بفلوس قليلة مزيفة. أو كمن يأتي إلى الصحيح المعافي في بدنه وعقله فيدعوه إلى المكان الموبوء الممرض. أو كمن يدعو من هو في النور والضياء إلى الظلمة والعمى فحقيقة الإسلام النور، وحقيقة النصرانية الظلمة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام آية (122) . وقد روى لي أحد الأخوة ممن يعيش في فرنسا: أن رجلاً كان قسيساً فأسلم سراً وبقي في عمله في الكنيسة إلا إنه يخفي إسلامه، وفي أحد الأيام استطاع بعض القسس أن يصطادوا شاباً من أصل مسلم وبدأوا يهيئونه للدخول في ديانتهم، فجاءه هذا القسيس الذي يخفي إسلامه فأخذه معه إلى بيته، فأنزله إلى طابق تحت الأرض، فلما نزل وكان الظلام شديداً - قال له: ماذا ترى؟ فقال الشاب: لا أرى شيئاً؟ فقال له القسيس: اصعد معي، فخرجا من ذلك المكان إلى وجه الأرض حيث النور، فقال له: ماذا ترى؟ فقال الشاب: أرى كل شيء.

فقال له القسيس: ذلك المكان الذي كنا فيه مثل النصرانية ظلمة، وهذا الذي نحن فيه مثل الإسلام نور، وأنت تريد أن تترك النور وتذهب إلى الظلمة، وأنا أخوك مسلم أخفي إسلامي، ولكن اذهب واحذر أن تترك النور إلى الظلمة. فأنقذ الله ذلك الشاب بهذا المثال الذي يعبر عن حقيقة الديانة النصرانية، التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يحاول بعد ذلك أهلها أن يروجوها على المسلمين. إلا أنه من الواجب التحذير بأن الجهل الذي تعيشه كثير من الشعوب الإسلامية، وأعني به الجهل بالدين، هو أكبر مطية للمنصرين وأعظم معين لهم في تحقيق أهدافهم في المسلمين، لا سمح الله، أما المرض والنكبات من حروب، أو زلازل، أو مجاعات ونحوها فلا تحقق لهم أهدافهم إلا إذا رافقها الجهل بالإسلام، فعند ذلك يجد المنصرون مجالاً للتأثير على المسلم، بقلب الحقائق له: بتشويه الإسلام وتزيين النصرانية بالمساحيق الخداعة الكاذبة التي تخفي وثنيتها وفسادها. ومن هنا يتبين أهمية العلم - أعني العلم الشرعي - وتوعية الشعوب الإسلامية بحقيقة الإسلام وسموه وعظمته وعظيم الجزاء من الله عليه في الآخرة بالنجاة من النيران والفوز بالرضوان، إذا فعلنا ذلك نكون حصنا الشعوب الإسلامية بالدرع الواقي من كل دعوة فاسدة مبطلة، بل أعطيناها أيضاً السلاح الذي به تستطيع أن ترد على وسوسة المنصرين ووثنيتهم وتنتصر عليهم بإذن الله. وليتق الله حكام وولاة أمور المسلمين في شعوبهم، فيضعوا لهم المناهج التي

توعي المسلمين بدينهم، وتبصرهم بما ينجيهم غداً في موقفهم أمام ربهم عز وجل وتدفع عنهم غوائل الأعداء، وتربص المنصرين البعداء. فإن في صلاح الشعوب الإسلامية ثبات حكم الحكام ودوام دولتهم بإذن الله، لأنهم حماتها وحراسها، وسلامة عقائدهم مؤذن بولائهم ومحبتهم ونصرتهم، وفساد عقائدهم وديانتهم مؤذن باختلافهم على حكامهم وعداوتهم لهم، فليتقوا الله فيهم فإنهم غداً أمام الله موقوفون وعن شعوبهم وما ولوا مسؤولون. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}

الفصل الثامن: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس

الفصل الثامن: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس لقد بشر المسيح ? عليه السلام بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الصف (6) . وقد جدَّ النصارى، ومن قبلهم اليهود في حذف هذه البشارات من كتبهم أو صرفها عن وجهها، ويزعمون أنه لا يوجد في كتبهم إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن وجد شيء صرفه النصارى إلى عيسى بن مريم وصرفه اليهود إلى المسيح الذي ينتظرونه، وهي في الواقع لا تنطبق إلا على نبي هذه الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وقد بقي من هذه البشارات الشيء الكثير مع تحريفهم لكتبهم، وقد ذكر منها الشيخ "رحمة الله الهندي" في كتابه "إظهار الحق" ثماني عشرة بشارة، منها إحدى عشرة بشارة في العهد القديم، وسبع بشارات في العهد الجديد، فنذكر بعضاً من تلك البشارات مما ورد في العهدين القديم، والجديد. البشارة الأولى: ورد في سفر التثنية (18/17) : "قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه". هذا الكلام لا ينطبق إلا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال "من وسط

إخوتهم" وإخوتهم هم أبناء إسماعيل عليه السلام لأنه أخو إسحاق الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل حيث هما ابنا إبراهيم عليه السلام. وأيضاً قال (مثلك) ومعلوم أن اليهود يرون أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى حيث قالوا في سفر التثنية (34/10) : "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى، الذي عرفه الرب وجهاً لوجه" وفي النسخة السامرية من التوراة هكذا "ولا يقوم أيضاً نبي في إسرائيل مثل موسى الذي ناجاه الله شفاها". واليهود يزعمون أن هذه البشارة لنبي لم يأت بعد، وإن زعم بعضهم أن المراد بها يشوع بن نون، فهذا غير صحيح لأنه ليس مثل موسى، ويزعم النصارى أن المراد بها عيسى عليه السلام 1، وهي في الواقع لا تصدق عليه بأي وجه لأنه:- أولاً: من بني إسرائيل وليس من إخوتهم. ثانياً: هو ليس مثل موسى عليه السلام، فإنه تابع له، كما أنه عند النصارى إله، وابن إله، فلو أقروا بأنه مثل موسى لهدموا ديانتهم وما هم عليه. أما النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق عليه من جميع الوجوه، فإنه من إخوتهم، وهو مثل موسى عليه السلام نبي رسول، وأتى بشريعة جديدة، وحارب المشركين، كما فعل موسى عليه السلام.

_ 1 انظر قاموس الكتاب المقدس ص 861.

ثم إنه قال: "أجعل كلامي في فمه"، فهذا كناية عن القرآن المحفوظ في الصدور، الذي تلقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشافهة من جبريل عليه السلام، وحفظه في قلبه، وتلاه بعد لأمته من فمه عليه الصلاة والسلام، حيث كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام. ثم إن الله جل وعلا أتم وعده للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذين لا يطيعونه فإن الله سيطالبهم، وقد طالبهم، فانتقم من أعدائه المشركين واليهود ثم ممن عداهم من الأمم. وهذا لم يكن لنبي غيره?، وعيسى عليه السلام لم ينتقم الله من أعدائه، بل كان أعداؤه في مكان المنتصر فأرادوا قتله إلا أن الله جل وعلا أنجاه منهم، وفي زعم النصارى أنهم قبضوا عليه وأهانوه وصلبوه1. البشارة الثانية: جاء في سفر التثنية (33/1) : "وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم". فمجيء الرب من سيناء معناه إعطاء موسى عليه السلام التوراة، وقوله: "أشرق من سعير" التبشير بالمسيح عليه السلام لأن ساعير جبل في أرض يهوذا في فلسطين

_ 1 انظر: إظهار الحق (4/1116، البشارة بني الإسلام في التوراة والإنجيل 1/218.

1، وقوله: "وتلألأ من جبل فاران" المراد به التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن فاران جبل من جبال مكة، وقد سموه بكتابهم بهذا الاسم فقالوا عن إسماعيل عليه السلام في سفر التكوين (21/21) : "سكن برية فاران وأخذت له أمه إمرأه من أرض مصر" وإسماعيل عليه السلام لم يسكن إلا مكة2. البشارة الثالثة: جاء في سفر (حجى) (2/7) - أن حجي وهو أحد أنبيائهم - أخبر بني إسرائيل بعد تدمير الهيكل وسبيهم إلى بابل وعودتهم مرة أخرى بما قال الله له معزياً لهم "لأنه هكذا قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السموات، والأرض، والبحر، واليابسة، وأزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم، فأملأ هذا البيت مجداً، قال رب الجنود: ولي الذهب يقول رب الجنود: مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود: وفي هذا المكان أعطى السلام يقول رب الجنود". فقوله هنا: "مشتهى كل الأمم" ترجمة بالمعنى لكلمة "حمدا" بالعبري، كما يقول البرفسور عبد الأحد داود والتي لازالت مكتوبة بالعبري بهذا اللفظ والتي تعني المشتهى، والشهية، والشائق، وأن هذه الكلمة "حمداً" بالعبري يوازيها بالعربي "أحمد" فتكون نصا صريحاً، وكذلك قوله بعد "وفي هذا المكان أعطي السلام" والسلام والإسلام

_ 1 انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 467. 2 انظر: إظهار الحق (4/1134) ، البشارات بنبي الإسلام (1/260) .

شيء واحد، وقد جاء السلام إلى بيت المقدس برحلة النبي عليه الصلاة والسلام إليه في الإسراء، ثم بفتحه في عهد عمر? رضي الله عنه1. ثم إن ما تعلق بعد ذلك من الأحداث بمجئ "حمدا" لا تنطبق إلا على نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، فبعد خراب بيت المقدس سنة 70م لم يعدله مجد إلا على يد المسلمين، وهو مجد أعظم من مجده السابق، وما أحدثه الإسلام في الأرض بأن زلزل الدول وأهلك الله جل وعلا على يد المسلمين أهل الذهب القياصرة، وأهل الفضة الفرس، وصارت أموالهم تنفق في سبيل الله، كل هذا لم يفعله أحد من اليهود ولم يفعله المسيح عليه السلام، ولم يتحقق إلا على يد نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم وأتباعهم. البشارة الرابعة: ورد في إنجيل يوحنا (16/7) : "لكني أقول لكم الحق أنه من الخير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم "المعزى" ولكن إن ذهبت أرسله لكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة ... ثم قال:"إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ ممالي ويخبركم".

_ 1 محمد في الكتاب المقدس ص 50-51، وصاحب الكتاب البروفسور عبد الأحد داود كان من القسس لطائفة الروم الكاثوليك الكلدانين قبل إسلامه.

فقوله "المعزى" المراد به الذي أجد به عزاءاً، وهذا لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يجد عيسى عليه السلام به العزاء لأنه يبين الحق ويظهر الله على يديه الدين الذي لم يتمكن المسيح عليه السلام من إظهاره. ثم إن الذي ذكر مكان هذا اللفظة وهي "المعزى" في الترجمات الأخرى عدا العربية هي لفظة "الفارقليط" اليونانية وقد بدَّله المترجمون في النسخ العربية إلى "المعزى" لأن معنى "الفارقليط" هو المعزى، ولكن الذي بينه "الشيخ رحمة الله الهندي" وغيره أن "الفارقليط" هو تحريف لكلمة "بيرقليط" التي تعني محمد أو أحمد، ولحسد النصارى وبغيهم حرفوا هذه الكلمة التي هي نص في اسم النبي صلى الله عليه وسلم في لغة اليونان، مع العلم أن النص اليوناني لإنجيل يوحنا أقل ما يقال فيه أنه ترجمة لما نطق به المسيح، لأن المسيح عليه السلام كان يتكلم الأرامية، وليس اليونانية، كما أن الواقع أن "المعزى" لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا معزى بعد المسيح إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم 1، كما أن كل بشارة بأحد وردت على لسان المسيح عليه السلام إنما تنصرف باللزوم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ليس بينهما نبي، وليس بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي. بهذا يتضح أن الله ?? عز وجل قد أقام الحجة على اليهود والنصارى بما بين أيديهم يقرأونه ويرونه، لو كانوا يبصرون.

_ 1 النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية (138-145) ، إظهار الحق (4/1185) ، محمد في الكتاب المقدس ص 219.

الخاتمة هذا ما تيسر جمعه في هذه الدراسة عن تلك الديانتين اليهودية والنصرانية وقد تبين لنا من خلال ذلك عظيم ما جناه البشر بتحريف دين الله ? عز وجل المنزل فاستبدل اليهود الدين السماوي الهادي للحق والرشاد بدين عنصري يفيض جرأة ووقاحة على الله عز وجل، وطعناً وتنقصاً لأنبيائه ورسله، وحقداً وتربصاً بالبشرية جمعاء. كما حرف النصارى الدين الذي أنزل على المسيح عليه السلام وغيروه من ديانة سهلة المعالم استوعبها عوام الناس وبسطاؤهم إلى ديانة معقدة مرتبكة لا تكاد تحيط منها بوجه، بل إن على كل من أراد الإيمان بها وقبولها عندهم أن يلغي عقله ويوقن أنه لا يمكن أن يؤمن إذا أراد أن يفهم، وأنه كلما تعمق فيها وحاول فهمها كلما استغلقت عليه وزادت حيرته واضطرابه، وما ذلك إلا لأنها خليط عجيب من أغلب الأفكار التي كانت سائدة في ذلك العصر والعصور التي تلت رفع المسيح عليه السلام. فيتبين لنا من هذا عظيم رحمة الله ولطفه بالبشرية بإرسال الرحمة المهداة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، وهو "الإسلام" الذي هو الحنيفية السمحة، دين إبراهيم الخليل ودين سائر الأنبياء عليهم السلام، وقد حقق الله عز وجل على يدي هذا النبي الكريم ما لم يكن تحقق على يد نبي قبله، فحفظ الله عز وجل له دينه ونشره في أصقاع الأرض وأظهره على الدين كله، وهدى به من كتب له السعادة وأعرض عنه من كتب عليه الشقاء. وفي الختام. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يأخذ بيد المسلمين

ويردهم إلى دينهم رداً جميلاً، حتى يقوموا بواجبهم تجاه جحافل البشرية الضائعة الحائرة، فينقذونها من مهاوي الضلال التي مافتئ الشيطان وحزبه من أعداء الله من اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين والشيوعيين والقوميين وغيرهم، يسوقونها إلى جحيم الدنيا وجحيم الآخرة. كما نسأله أن يستعملنا جل وعلا في طاعته، وأن يجعل لنا شرف نصرة دينه وإعلاء كلمته وإعزاز أمة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه سميع قريب مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وفرغ من مراجعته وإضافة بعض التعليقات عليه في الطبعة الرابعة في منتصف شعبان1421هـ بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وكتبه: سعود بن عبد العزيز الخلف غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته ولإخوانه، ولمشايخه وللمسلمين أجمعين

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع القرآن الكريم السنة النبوية: - الجامع الصحيح: محمد بن إسماعيل البخاري مع فتح الباري، إدارة البحوث العلمية الرياض. - الجامع الصحيح: مسلم بن الحجاج بعناية محمد عبد الباقي، إحياء الكتب العربية ط الأولى 1374هـ. - الجامع الصحيح للترمذي: أبو عيسى الترمذي - تحقيق أحمد شاكر - دار إحياء التراث العربي لبنان. - سنن الدارمي: عبد الله الدارمي، بعناية محمد دهمان - مطبعة الاعتدال دمشق 1349هـ - سنن ابن ماجه: أبو عبد الله محمد القزويني، تعليق محمد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر - شرح مسلم للنووي: للحافظ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي - دار إحياء التراث العربي بيروت. - فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر العسقلاني، نشر رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض - المستدرك: الحافظ ابن عبد الله الحاكم النيسابوري. مكتبة المعارف الرياض. - مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل، بيروت، نشر دار صادر. التفسير: - تفسير ابن جرير الطبري: مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، ط الثانية 1388هـ. - تفسير ابن كثير: الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير مطبعة المنار 1410هـ. - تيسير العزيز الحميد:

سليمان بن عبد الله آل الشيخ المكتبة الإسلامية - ط الثالثة. المراجع والمصادر الأخرى: - أخبار بطاركة كرسي المشرق: من كتاب المجدل ماري سليمان - بدون تاريخ أو طبعة. - اختلافات في تراجم الكتاب المقدس: اللواء/أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبه القاهرة، ط الأولى 1407هـ - الأديان في القرآن: د/ محمود بن شريف، مكتبات عكاظ للنشر ط خامسة 1404هـ. - الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة: الشيخ عبد القادر شيبة الحمد، من مطبوعات الجامعة الإسلامية. - الأسفار المقدسة قبل الإسلام: د صابر طعيمة، عالم الكتب، ط الأولى 1406هـ. - أصول التنصير في الخليج العربي: هـ. كونوي زيقلر، ترجمة مازن مطبقاني، ط الأولى 1410هـ. - إظهار الحق: الشيخ رحمة الله الهندي، تحقيق د/ محمد ملكاوي دار الحديث، القاهرة - الأمور المتيقنة عندنا القس كارل س. وليمز الكبير مطبعة ايديس الإسكندرية - إنجيل برنابا: ترجمة خليل سعادة، نشر. محمد رشيد رضا. - الإنسان في ظل الأديان: د/ عماره نجيب، مكتبة المعارف، الرياض 1400 هـ. - الإنسان والأديان: د/محمد كمال جعفر، دار الثقافة، قطر، ط الأولى 1406هـ. - أهم عوامل انحراف النصرانية: د/ إبراهيم خلف التركي، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية. - بحوث في مقارنة الأديان: د/محمد الشرقاوي، دار الفكر العربي، القاهرة،1420هـ

- بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في الإسلام: عمر فروخ، ط الأولى، بيروت، دار الطليعة،1986م. - البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير، الناشر: مكتبة الفلاح الرياض، مطبعة الفجالة القاهرة. - بروتوكولات حكماء صهيون: ترجمة محمد خليفة التونسي، ط السابعة، بيروت، دار الكتاب العربي. - بروتوكولات حكماء صهيون: عجاج نويهض، ط الرابعة، دار الاستقلال، 1996م. - البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل: د/ أحمد حجازي السقا، دار الجيل، بيروت ط الأولى 1406 هـ. - تاريخ أوربا في العصور الوسطى: هـ. فيشر، ترجمة محمد زياده، دار المعارف، مصر 1950م. - تاريخ أوربا للعصور الوسطى: د/ الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت. - تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم: محمد عزه دروزه، المكتبة العصرية، بيروت، ط جديدة 1389هـ. - تاريخ الطبري: طبعة دار المعارف، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. - تاريخ الفكر المسيحي: د/ القس. حنا الخضري، دار الثقافة المسيحية، دار الطباعة القومية. - تاريخ الكنيسة: يوسابيوس القيصري ترجمة القمص مرقس، مكتبة المحبة. - تاريخ الكنيسة: د/ القس جون لوريمر، ترجمة عزرا مرجان دار الثقافة المسيحية، - تاريخ مختصر الدول. غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري المطبعة الكاثوليكية بيروت ط الثانية 1959م. -تاريخ المسيحية: حبيب سعيد، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية

- تحريف التوراة وسياسة إسرائيل التوسعية. د/محمد البار، ط الأولى، دمشق، دار القلم، 1419هـ. - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: جلال الدين السيوطي. دار الكتب الحديثة - ط الثانية 1385هـ - تذكرة الحفاظ: الحافظ أبو عبد الله الذهبي - دار إحياء التراث العربي. - تفسير العهد الجديد: دار الثقافة المسيحية، مطبعة دار نوبار، القاهرة، الطبعة الثانية. - تفسير العهد الجديد: د. وليم بار كلي - دار الثقافة - ط الأولى. - التفكير الديني في العالم قبل الإسلام: د/أورانج كاى رحمات داتو، ترجمة د/رؤوف شلبي دار الثقافة الدوحه. - تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني دار نشر الكتب الإسلامية، كوجر نواله، باكستان. - تقييد العلم: الحافظ الخطيب البغدادي - تحقيق يوسف العش - دار إحياء السنة النبوية - ط الأولى 1949م. - تهذيب التهذيب: الحافظ ابن حجر العسقلان دائرة المعارف النظامية الهند ط الأولى. - التوراة السامريه: ترجمة أبو الحسن إسحاق الصوري، نشر د/ أحمد حجازي السقا، طبع دار الكتاب المقدس. - التوسل وأنواعه وأحكامه: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - ط الثانية. - تيسير مصطلح الحديث: د. محمود الطحان - مكتبة السروات للنشر، ط الرابعة 1402 هـ - جامع بيان العلم وفضله: الحافظ يوسف بن عبد البر النمري - دار الكتب العلمية بيروت. - الحديث والمحدثون: محمد محمد أبو زهو دار الكتاب العربي لبنان 1404هـ.

- حقائق أساسيه في الإيمان المسيحي: القس فايز فارس، دار الثقافة المسيحية، مطبعة القاهرة الجديدة. - الخطيئة والكفارة: عبد الفادي - بدون تاريخ أو مطبعة، - دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: د. محمد الأعظمي الطباعة السعودية الرياض ط الثانية 1401 هـ - دراسات في العبادات المسيحية: د/ محمود علي حماية بدون تاريخ. - دراسات في الكتاب المقدس: د/ محمود على حماية، بدون تاريخ. - دستور الكنيسة الإنجيلية بمصر: صدر عن دار الثقافة المسيحية، طبع مطبعة دار نوبار. - دلائل النبوة: الحافظ أبو بكر البيهقي - دار الفكر - ط الأولى 1389هـ. - الدين: د/ محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، 1400هـ. - الرموز والأسطوره في مصر القديمة: رندل كلارك ترجمة أحمد صليحة، الهيئة المصرية للكتاب 1988م - رؤيا معاصره حول مجئ المسيح الثاني: نصر الله زكريا - مطبعة الطلبة. - سيرة ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري - تقديم طه عبد الرؤوف سعد - مكتبة الكليات الأزهريه - القاهرة - ط الثالثة 1398هـ. - شرح قصب السكر: د. عبد الكريم الأثري مكتبة الدار بالمدينة ط الأولى 1405هـ. - الطبقات الكبرى: الحافظ محمد بن سعد - دار صادر - بيروت. - العبادة المسيحية:

الأرشمندريت الياس توزيع مكتبة السائح طرابلس 1985م - العقائد الوثنية في الديانة النصرانية: محمد التني، رنشر محمد الشيباني مكتبة ابن تيميه الكويت ط الأولى 1408هـ - العلل ومعرفة الرجال: الإمام أحمد بن حنبل المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر استانبول تركيا1987 م - علم اللاهوت النظامي: مجموعة من اللاهوتيين النصارى - دار الثقافة المسيحية. - العهد الجديد: دار الكتاب المقدس، القاهرة 1982م. - العهد القديم: دار الكتاب المقدس، القاهرة 1982 م. - قالوا عن الإسلام: د. عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب - الرياض - ط الأولى 1412هـ - قاموس الكتاب المقدس: نخبه من الأساتذة النصارى، دار الثقافة المسيحية، ط الثانية. - القاموس المحيط: مجد الدين محمد الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، ط الثانية 1407هـ. - القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: موريس بوكاى، دار المعارف بمصر. - قصة الحضارة: ول ديورانت، ت. محمد بدران إدارة الثقافة في جامعة الدول العربية - الكامل في ضعفاء الرجال: الحافظ أبو أحمد ابن عدي الجرجاني دار الفكر ط الأولى 1404 هـ. - كفارة المسيح: عوض سمعان، دار الطباعة القومية بالفجاله. - الكفاية: الحافظ الخطيب البغدادي، دار الكتب الحديثة القاهرة. - الكنز المرصود في قواعد التلمود:

د/ روهلنج، ترجمة يوسف نصر الله، دار القلم، ط الأولى 1408هـ. - "الله" جل جلاله: عباس محمود العقاد، المكتبة العصرية. - لسان العرب: ابن منظور، دار المعارف، مصر. - ما هي النصرانية: محمدتقي العثماني، تعريب نور عالم الندوى، دار العلوم كراتش ط 1403هـ - مجمع الشرع الكنسى: جمع وترجمة وتنسيق - حنانيا الياس كساب. - مجموع الفتاوى: شيخ الإسلام ابن تيميه - تصوير الطبعة الأولى. - محاضرات في النصرانية: محمد أبو زهره - مطبعة المدني - مصر. - محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس: البروفسور/ عبد الأحد داود، ترجمة: فهمي شما من مطبوعات المحاكم الشرعية بـ قطر، ط الأولى 1405هـ. - المدخل إلى العهد الجديد: القس/ فهيم عزيز، إصدار دار الثقافة المسيحية، مطبعة دار الجيل. - المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم: د/ محمد البار، دار القلم، دمشق، ط الأولى 1410هـ. - المسيح في مصادر العقائد المسيحية: أحمد عبد الوهاب، الناشر، مكتبة وهبي، القاهرة، ط الأولى 1398هـ. - المسيح في القرآن: عبد الكريم الخطيب، دار المعرفة، بيروت، ط الثانية 1396هـ. - المسيحية: د/ أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، ط الثامنة 1984م. - المسيحية الأصلية: ج. ر.و. ستوت، تعريب ريد زخاري، دار منشورات النضير.

- المسيحية. نشأتها وتطورها: د/ شارل جنيبر، تقديم د/ عبد الحليم محمود، دار المعارف، مصر. - معاول الهدم والتدمير في النصرانية والتبشير: إبراهيم الجبهان، دار المجتمع، ط الخامسة 1409 هـ. - المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت. - الملكوت: القمص. سيداروس، دار العالم العربي، ط الأولى 1979م. - ملامح عن النشاط التنصيري في الوطن العربي: د/ إبراهيم عكاشه علي، منشورات. مركز البحوث في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1407هـ. - موسوعة الفلسفة: د/ عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات ط الأولى 1984م. - الموسوعة الفلسفية: د/ عبد المنعم الحفني، دار بن زيدون، ط الأولى. الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية: د/ عبد المنعم الحفني، ط الأولى، بيروت، دار المسيرة، 1400هـ. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: عبد الوهاب المسيري، ط الأولى، دار الشروق، 1999م. - النصرانية من التوحيد إلى التثليث: د/ محمد أحمد الحاج، دار القلم، دمشق، ط الأولى. - النصرانية والإسلام: محمد عزت الطهطاوي، مكتبة النور، مصر، ط الثانية 1407هـ. - النهاية في غريب الحديث: مجد الدين ابن الأثير تحقيق طاهر أحمد الزاوي الناشر المكتبة الإسلامية. - وثائق المجمع الثاني للفاتيكان: الطبعة الثانية لعام 1979م. - (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)

د/ رؤوف شلبي، دار الاعتصام، ط الثانية 1400هـ. - اليهودية: د/ أحمد شلبي، ط الثامنة، مكتبة النهضة المصرية، 1988م. - اليهودية والمسيحية: د/ محمد ضياء الرحمن ألأعظمي ط الأولى مكتبة الدار، المدينة، 1409هـ. - اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام: د/ فرج الله أبو عطا الله دار الوفاء، المنصورة، ط الثانية 1412هـ.

§1/1