دراسات أصولية في القرآن الكريم

محمد إبراهيم الحفناوى

تمهيد

تمهيد بسم الله الرّحمن الرّحيم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام الآية 153]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد النبى المصطفى الكريم، وعلى آله وصحبه وأشياعه وحزبه نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين. وبعد: فقد شرح الله عز وجل صدرى من فترة طويلة أن أعيش مع القرآن الكريم، أنهل من معينه، وأروى ظمئى من بحر جوده، حيث إنه لا يختلف اثنان فى أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وإرشاد، وأن خير ما صرفت من أجله الجهود ووصل بسببه الليل والنهار هو القرآن الكريم وكيف لا؟ ويقول منزله جل شأنه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (¬1) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (¬2) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬3) وقد أخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: قيل لموسى عليه السلام: يا موسى: إنما مثل كتاب أحمد فى الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته. ¬

_ (¬1) سورة هود الآية 1 (¬2) سورة إبراهيم الآية 1 (¬3) سورة القمر الآية 17.

كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدى إلى عينيك نورا ثاقبا كالشمس فى كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا فسبحان من أنزله هاديا ونورا ساطعا، لا يستطيع إنسان مهما بلغ شأنه، وعلا كعبه أن يحيط بوصفه. أندى على الأكباد من قطر النّدى ... وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى ويكفى أن الله عز وجل سماه نورا وروحا، فهو ينير الطريق لمن أراد النجاة، ولا يستطيع مخلوق أن يعيش بدونه، لأنه يؤدى إلى حياة الأبد، فالمرء فى حاجة إلى القرآن أكثر من احتياج العين إلى نورها، والجسد إلى روحه. هذا وكم فيه من مزايا ... وفى زواياه من خبايا ويطمع الحبر فى التقاضى ... فيكشف الخبر عن قضايا ويقول الإمام الشافعى رحمه الله: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. زاد غيره: وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم. لما كان الأمر كذلك كانت الدراسة حول القرآن الكريم أفضل من دراسة أىّ علم غيره، خاصة وهو المصدر الأول للتشريع، وما عداه مأخوذ منه، ومتفرع عنه، فمكثت زهاء سنة كاملة أنقب فى كتب التراث وغيرها من الكتب المخصصة فى الدراسات القرآنية، حتى جاءت الدراسة فى هذا البحث المتواضع، مشتمله على مقدمة وستة أبواب.

المقدمة: فى تعريف القرآن الكريم. الباب الأول: فى ثبوت القرآن وما يتصل به وفيه فصول الفصل الأول: فى ثبوت القرآن وتواتره الفصل الثانى: فى ترتيب الآيات والسور الفصل الثالث: فى اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية الفصل الرابع: فى ترجمة القرآن الفصل الخامس: فى حجيته الفصل السادس: فى الغاية من البحث فى القرآن الفصل السابع: فى خواص القرآن. الباب الثانى: فى الأحكام التى تضمنها القرآن وما يتعلق بها وفيه فصول الفصل الأول: فى الأحكام الواردة فى القرآن الكريم الفصل الثانى: فى تعليل القرآن الأحكام الفصل الثالث: فى أسلوب القرآن فى بيان الأحكام الفصل الرابع: فى طرق استخراج الأحكام من القرآن. الباب الثالث: فى مباحث الألفاظ. وفيه فصول الفصل الأول: فى أقسام اللفظ باعتبار المعنى الذى وضع له وفيه مباحث

المبحث الأول: فى العام المبحث الثانى: فى الجمع المنكر المبحث الثالث: فى الخاص المبحث الرابع: فى الأمر والنهى المبحث الخامس: فى المطلق والمقيد المبحث السادس: فى المشترك الفصل الثانى: فى اللفظ باعتبار المعنى الذى استعمل فيه وفيه مبحثان المبحث الأول: فى الحقيقة والمجاز المبحث الثانى: فى الصريح والكناية الفصل الثالث: فى اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه وفيه مبحثان المبحث الأول: واضح الدلالة وفيه مطالب المطلب الأول: فى المحكم المطلب الثانى: فى المفسر المطلب الثالث: فى النص المطلب الرابع: فى الظاهر المبحث الثانى: غير واضح الدلالة وفيه مطالب المطلب الأول: فى الخفى المطلب الثانى: فى المشكل المطلب الثالث: فى المجمل المطلب الرابع: فى المتشابه

الفصل الرابع: فى كيفية دلالة اللفظ على المعنى وفيه مبحثان المبحث الأول: فى طرق الدلالة عند الحنفية المبحث الثانى: فى طرق الدلالة عند الشافعية الباب الرابع: فى النسخ وفيه فصول الفصل الأول: فى مدلول النسخ وموقف العلماء منه وفيه مباحث المبحث الأول: فى تعريف النسخ المبحث الثانى: فى شروطه المبحث الثالث: فى موقف العلماء منه الفصل الثانى: فى أنواع النسخ وفيه مباحث المبحث الأول: فى نسخ القرآن بالقرآن وفيه مطالب المطلب الأول: فى نسخ التلاوة والحكم معا المطلب الثانى: فى نسخ التلاوة فقط دون الحكم المطلب الثالث: فى نسخ الحكم فقط دون التلاوة المبحث الثانى: فى نسخ القرآن بالسنة المبحث الثالث: فى نسخ السنة بالقرآن المبحث الرابع: فى نسخ السنة بالسنة. الفصل الثالث: فى طرق معرفة النسخ. الباب الخامس: فى الصلة بين القرآن والسنة وفيه فصلان

الفصل الأول: فى المقدار الذى بينه النبى صلى الله عليه وسلم من القرآن الفصل الثانى: فى أنواع بيان القرآن بالسنة الباب السادس: فى القرآن المكى والمدنى وفيه فصول الفصل الأول: فى تعريف القرآن المكى والمدنى وفائدة العلم بذلك. الفصل الثانى: فى الطرق الموصلة إلى معرفة المكى والمدنى الفصل الثالث: فى خصائص كل من المكى والمدنى الفصل الرابع: فى السور المكية والمدنية الفصل الخامس: فى تنزيلات القرآن الفصل السادس: فى تنجيم القرآن والحكمة منه الفصل السابع: فى أول ما نزل وآخر ما نزل. هذا وقد نهجت فى كتابة هذه الدراسة نهجا يقوم على النحو التالى: 1 - الاتسام بالموضوعية المطلقة من أجل الوصول إلى الحق. 2 - الرجوع فى كل نص إلى مصادره- وذلك من باب الأمانة العلمية- مع التنبيه على ذلك فى ذيل كل صحيفة من صحائف هذا الكتاب. هذا كل ما أستطيع أن أذكره وأنا أقدّم لهذا العمل، وأسأل الله عز وجل أن يشيبنى عليه ويجعله فى كفة حسناتى وكل من له علىّ فضل يوم القيامة.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (¬1). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور محمد إبراهيم الحفناوى استاد ورئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 111.

مقدمة فى تعريف القرآن الكريم

مقدمة فى تعريف القرآن الكريم تعريف القرآن: القرآن فى اللغة مصدر مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (¬1). ثم نقل من هذا المعنى المصدرى وجعل اسما للكلام المعجز الذى أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من باب إطلاق المصدر على مفعوله. قال الرازى: (¬2) قرأ الكتاب قراءة وقرآنا- بالضم- وقرأ الشيء قرآنا- بالضم أيضا- جمعه وضمه ومنه سمى القرآن لأنه يجمع السور ويضمها. وقال ابن منظور: (¬3) وسمى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها. على العموم هناك خمسة أقوال فى لفظ القرآن هى: القول الأول: لفظ القرآن المعرّف بأل ليس مهموزا ولا مشتقّا بل وضع علما على الكلام المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مروىّ عن الإمام الشافعى رضى الله عنه. ¬

_ (¬1) سورة القيامة آيتا 17، 18 (¬2) مختار الصحاح 526 (¬3) لسان العرب 4/ 3563

القول الثانى:

وقد جاء فى تاريخ بغداد (¬1) فى ترجمة الإمام الشافعى رضى الله عنه ما يلى: « .... وقرأت القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وكان يقول: القرآن اسم وليس مهموزا، ولم يؤخذ من «قرأت» ولو أخذ من «قرأت» لكان كل ما قرئ قرآنا- ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل يهمز قرأت ولا يهمز القران». القول الثانى: لفظ القرآن مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته إليه، ثم جعل علما على اللفظ المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمى بذلك لقران السورة والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وهذا. القول منقول عن الإمام الأشعرى رحمه الله تعالى. قال الشيخ بدر الدين الزركشى رحمه الله (¬2): « ... وذهب آخرون إلى أنه مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته إليه فسمى بذلك لقران السور والآيات والحروف فيه، ومنه قيل للجميع بين الحج والعمرة قران ... » القول الثالث: لفظ القرآن مشتق من القرائن، لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا، وجعل علما على اللفظ المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم. وهذا هو رأى الفراء. قال بعض المفسرين (¬3): القران بغير همز مأخوذ من القرائن، لأن ¬

_ (¬1). 2/ 62 ط: القاهرة سنة 1349 هـ (¬2) البرهان فى علوم القرآن 1/ 278. (¬3) تفسير القرطبى 1/ 674، والبرهان للزركشى 1/ 278.

القول الرابع:

الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، فهى حينئذ قرائن. وعلى هذا فلفظ القرآن على هذين القولين غير مهموز كالذى قبلهما، ونونه أصلية. القول الرابع: لفظ القرآن وصف على وزن فعلان مهموز مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء فى الحوض إذا جمعته، وسمى الكلام المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم قرآنا، لأنه جمع السور أو جمع ثمرات الكتب السابقة. وهذا القول للزجاج (¬1) وقد قال تعليقا على القول السابق: «وهذا القول سهو، والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها». القول الخامس: وهو للحيانى وجماعة حيث ذهبوا إلى القول بأنه مصدر مهموز بوزن الغفران، سمى به المقروء من تسمية المفعول بالمصدر. القرآن فى الاصطلاح: يلاحظ أن هناك اختلافا فى تعريف القرآن بين المتكلمين وعلماء الأصول والفقه والعربية، وذلك بعد اتفاق الجميع على أن القرآن كلام الله تعالى، وأن البشر عاجزون عجزا كليّا عن الإتيان بمثله قال تعالى: ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 278 والزجاج هو: إبراهيم بن السرى أبو إسحاق صاحب كتاب معانى القرآن. توفى رحمة الله سنة 311 هـ- إنباه الرواة وحواشيه 1/ 163 ..

الأمر الأول:

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬1) وسبب هذا الاختلاف أن القرآن، وهو كلام الله تعالى، قد يطلق ويراد به الكلام النفسى، وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظى، ولما كان المتكلمون يتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية، ويقررون حقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى، وجدناهم يطلقونه إطلاق الكلام النفسى. أما علماء الأصول والفقه والعربية، فيطلقونه إطلاق الكلام اللفظى، وإنما عنى الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن على الكلام اللفظى، لأنّ غرضهم الاستدلال على الأحكام، وهو لا يكون إلا بالألفاظ. وكذلك بالنسبة لعلماء العربية، لما كان يعنيهم أمره الإعجاز كانت وجهتهم الألفاظ، والمتكلمون حين يطلقون القرآن على الكلام النفسى يلاحظون أمرين هما: الأمر الأول: أن القرآن علم أى كلام ممتاز عن كل ما عداه من الكلام الإلهى. الأمر الثانى: أنه كلام الله، وكلام الله قديم، فيجب تنزهه عن الحوادث. ولما كان كلام البشر النفسى يطلق بإطلاقين: أحدهما: على المعنى المصدرى. وثانيهما: على المعنى الحاصل بالمصدر (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 88. (¬2) الكلام النفسى بالمعنى المصدرى هو تحضير الإنسان فى نفسه بقوته المتكلمة الباطنة

فكذلك- ولله المثل الأعلى- كلام الله النفسى يطلق بإطلاقين (¬1): أحدهما: على نظير المعنى المصدرى للبشر. ¬

_ للكلمات التى لم تبرز إلى الجوارح، فيتكلم بكلمات متخيلة يرتبها فى الذهن، بحيث إذا تلفظ بها بصوت حسىّ كانت طبق كلماته اللفظية. والكلام النفسى بالمعنى الحاصل بالمصدر، هو تلك الكلمات النفسية، والألفاظ الذهنية المترتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجى. والكلام البشرى اللفظى بالمعنى المصدرى عبارة عن تحريك الإنسان لسانه وما يساعده فى إخراج الحروف من المخارج. أما الكلام اللفظى بالمعنى الحاصل بالمصدر فهو تلك الكلمات المنطوقة التى هى كيفية فى الصوت الحسى (مناهل العرفان 1/ 8). (¬1) قال الشيخ أبو عبد الله السنوسى رحمه الله- شرح أم البراهين 31: ...... وما يوجد فى كتب علماء الكلام من التمثيل بالكلام النفسى فى الشاهد عند ردهم على المعتزلة القائلين بانحصار الكلام فى الحروف والأصوات، لا يفهم منه تشبيه كلامه جلّ وعزّ بكلامنا النفسى فى الكنه- تعالى وجلّ عن أن يكون له شريك فى ذاته أو صفاته أو أفعاله- وكيف يتوهم أن كلامه تعالى مماثل لكلامنا النفسى، وكلامنا النفسى أعراض حادثة يوجد فيها التقديم والتأخير وطروّ البعض بعد عدم البعض الذى تقدمه، ويترتب وينعدم بحسب وجود جميع ذلك فى الكلام اللفظى. فمن توهم هذا فى كلامه تعالى فليس بينه وبين الحشوية ونحوهم من المبتدعة القائلين بأن كلامه تعالى حروف وأصوات فرق. وإنما مقصد العلماء بذكر الكلام النفسى فى الشاهد النقض على المعتزلة فى حصرهم الكلام فى الحروف والأصوات. قيل لهم: ينتقض حصركم ذلك بكلامنا النفسى، فإنه كلام حقيقة وليس بحرف ولا صوت، وإذا صح ذلك فكلام مولانا أيضا كلام ليس بحرف ولا صوت، فلم يقع الاشتراك بينهما إلا فى هذه الصفة السلبية، وهى أن كلام مولانا جلّ وعزّ ليس بحرف ولا صوت، كما أن كلامنا النفسى ليس بحرف ولا صوت، أما الحقيقة فمباينة للحقيقة كل المباينة، فاعرف هذا فقد زلّت هنا أقدام لم تؤيد بنور من الملك العلام.

وثانيهما: على نظير المعنى الحاصل بالمصدر للبشر. لما كان الأمر كذلك عرف المتكلمون القرآن بالمعنى الأول فقالوا: «هو الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحكمية من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس». وهذه الكلمات أزلية مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، وهى مترتبة غير متعاقبة كالصورة تنطبع فى المرآة مترتبة غير متعاقبة. وإنما نص المتكلمون فى التعريف على أنها حكمية، لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات. وقالوا: إنها أزلية ليثبتوا لها معنى القديم. وقالوا: إنها مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، لينفوا. عنها أنها مخلوقة، وأثبتوا لها الترتيب حيث إن القرآن حقيقة مترتبة بل ممتاز بكمال ترتبها وانسجامها، وكذلك قالوا: إنها غير متعاقبة لأن التعاقب يستلزم الزمان، والزمان حادث. كما عرفوا القرآن بالمعنى الثانى فقالوا: إنه الكلمات الحكمية الأزلية المترتبة فى غير تعاقب، المجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية (¬1). وجدير بالذكر التنبيه على أن المتكلمين إطلاقا ثالثا للقرآن يشاركون به الأصوليين ونحوهم، فهم يعنون كذلك بتقرير وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة، ومنها القرآن، وبإثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن، وبديهى أن ذلك كله مناطه الألفاظ. ¬

_ (¬1) الإبانة عن أصول الديانة 21، والاقتصاد فى الاعتقاد 59، وشرح أم البراهين 23، ومناهل العرفان 1/ 10، 11، والجنّة فى عقيدة أهل الجنّة 29.

القرآن عن الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية:

القرآن عن الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية: عرف العلماء القرآن بأنه: الكلام المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، المكتوب فى المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا (¬1) .... وقبل ان أتناول التعريف بالشرح والتحليل يقتضى المقام منى أن أسجل هنا أن كلّا من الكتاب (¬2) والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع، وعلى كل جزء منه، لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذلك آية آية لا مجموع القرآن، فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصة بهما ككونه معجزا، منزّلا على الرسول صلى الله عليه وسلم مكتوبا فى المصاحف، منقولا بالتواتر كالتعريف المتقدم. فاعتبر بعض العلماء فى تعريفه جميع الصفات من باب زيادة الإيضاح والبيان، وبعضهم اعتبر الإنزال والإعجاز فقط، لأن الكتابة والنقل، ليسا من اللوازم لتحقق القرآن بدونهما فى زمنه صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ تقى الدين السبكى رحمه الله فى تعريف القرآن (¬3): هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. ¬

_ (¬1) جمع الجوامع 1/ 223، والنباء العظيم 14، ومناهل العرفان 1/ 12، وأصول الفقه للدكتور سلام مدكور 95، والمدخل للفقه الإسلامى 381، وعلم أصول الفقه لأحمد إبراهيم بك 15. (¬2) سمى القرآن قرآنا لكونه مقروءا أى متلوا بالألسن، وسمى كتابا لكونه مكتوبا أى مدونا بالأقلام. فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفى تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية به فى موضعين لا فى موضع واحد أى أنه يجب حفظه فى الصدور وفى السطور (النبأ العظيم 12، 13، ومصادر الشرعية الإسلامية 6). (¬3) الإبهاج 1/ 119.

ويقول الشيخ ابن الحاجب رحمه الله فى تعريفه:

ويقول الشيخ ابن الحاجب رحمه الله فى تعريفه (¬1): هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. ويقول الشيخ ابن عبد الشكور رحمه الله فى تعريفه أيضا (¬2): هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. كما اعتبر بعضهم الكتابة والإنزال والنقل، لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحى، ولم يدرك زمن النبوة وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتابة فى المصاحف، ولا ينفك عنهما فى زمانهم. فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم البينة وأوضحها دلالة على المقصود، بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء، إذ المعجز هو السورة أو مقدارها (¬3) أخذا من قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬4). يقول السرخسى رحمه الله فى تعريفه (¬5): هو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكتوب فى دفات المصاحف، المنقول إلينا على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. ويقول الشوكانى رحمه الله فى تعريفه أيضا (¬6): هو الكلام المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المكتوب فى المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا. ¬

_ (¬1) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 18. (¬2) فواتح الرحموت 2/ 7. (¬3) التلويح على التوضيح 1/ 26. (¬4) سورة البقرة الآية 23. (¬5) أصول السرخسى 1/ 279. (¬6) إرشاد الفحول 29.

شرح التعريف:

شرح التعريف: قولهم: (الكلام) هو القول، وقيل: الكلام ما كان مكتفيا بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفيا بنفسه وهو الجزء من الجملة. قال سيبويه (¬1): ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، وألا يقولوا القرآن قول الله. وهو جنس (¬2) فى التعريف، يشمل الكلام النفسى واللفظى، كما يشمل كلام الله تعالى وكلام البشر. وقولهم (المنزل) قيد (¬3) أول فى التعريف يخرج به الكلام النفسى وكلام البشر حيث إن كلّا منهما لا يوصف بأنه منزل. والمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم صفة كاشفة للقرآن أى المنزل على رسولنا، فاللام هنا بدل عن الإضافة، أو هى للعهد لكونه عليه الصلاة والسلام معروفا بينهم كما يقال: جاء الأمير وإن لم يكن ¬

_ (¬1) لسان العرب 5/ 3922. (¬2) الجنس: هو ما صدق فى جواب ما هو على كثيرين مختلفين بالحقيقة، وينقسم إلى ثلاثة أقسام هى: أ- جنس قريب: وهو ما لا جنس تحته وفوقه أجناس كالحيوان، فإنه لا جنس تحته بل تحته أنواع هى الإنسان والفرس والجمل والغزال، وفوقه أجناس هى النامى والجسم والجوهر. والجسم والجوهر. ب- جنس متوسط: وهو ما كان فوقه جنس وتحته جنس، مثل النامى فإن، فوقه جسما وتحته حيوانا. ج- جنس بعيد: وهو ما لا جنس فوقه وتحته أجناس كالجوهر (المنطق الوافى 1/ 33 - 35). (¬3) القيد: ما جىء به لجمع أو لمنع أو لبيان الواقع (حاشية القليوبى على شرح الجلال المحلى 1/ 11).

قال عضد الملة رحمه الله تعالى:

معهودا فى الخارج (¬1)، وبه خرج سائر الكتب السماوية فإنها لم تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم. وقولهم (للإعجاز بسورة منه)، إعجاز القرآن معناه: ارتقاؤه إلى حد خارج عن طوق البشر حيث أعجزهم عن معارضته (¬2)، وحد السورة قرآن يشتمل على آى ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات (¬3)، وعلى هذا فمعنى كون القرآن معجزا بسورة منه أن أى سورة من سوره التى تبلغ مائة وأربع عشرة سورة حتى ولو كانت قصيرة كالكوثر يحصل بها الإعجاز، فلا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، وتمكن الفائدة وراء تقييد الإعجاز بسورة منه حتى لا يتوهم متوهم بأن الإعجاز، إنما يكون بكل القرآن فقط لا بسورة من سوره. قال عضد الملة رحمه الله تعالى (¬4): « .... وقوله: بسورة منه إن أجرى على ظاهره فلإخراج بعض القرآن فإن التحدى وقع بسورة من كل القرآن أىّ سورة كانت غير ¬

_ (¬1) الأصل فى الصفة التخصيص فى النكرات والتوضيح فى المعارف ويتفرع على ذلك وجوه وهى البيان والكشف عن حقيقة الموصوف أو مجرد الثناء والتعظيم أو ما يضاهى ذلك من الذم والتحقير والتأكيد، ثم الوصف إن كان مبينا ماهية الشيء بأن يكون وصفا لازما مختصا به يسمى صفة كاشفة وإن كان وصفا مفارقا يسمى صفة مخصصة، والأول إنما يكون لتمييز الشيء من بين الماهيات المختلفة والثانى لتمييز الشيء من بين الماهيات المتفقة. مثال الأول: قولنا: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله، ولا يخفى أن الوصف بهذه الأشياء كاشف عن ماهية الجسم، فإنه الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، والوصف بالمنزل من هذا القبيل فإنه كاشف لماهية القرآن. ومثال الثانى: زيد التاجر عندنا فإنه يحتمل التاجر وغيره فلما وصف به رفع الاحتمال. (حاشية الرهاوى على المنار 34). (¬2) تيسير التحرير 3/ 4. (¬3) البرهان فى علوم القرآن 1/ 264. (¬4) شرح العضد 2/ 18.

قال الشيخ عز الدين بن الملك:

مختصة ببعض، وإن أريد بسورة من جنسه فى البلاغة والعلو فيتناول كل القرآن وكل بعض منه، وهذا أقرب إلى عرض الأصولى وهو تعريف القرآن الذى هو دليل فى الفقه». والإعجاز قيد ثان فى التعريف يخرج به الحديث القدسى والنبوى فإن كلّا منهما لم ينزل للإعجاز (¬1). وقولهم: (المكتوب فى المصاحف) المصاحف جمع مصحف وهو ما جمع فيه صحائف القرآن، والمكتوب قيد ثالث فى التعريف خرج به ما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله) (¬2). قال الشيخ عز الدين بن الملك (¬3): فإن قلت: إن أردت من المصحف ما قلت يلزم الدور (¬4)، لأن ¬

_ (¬1) الحديث القدسى هو حديث أضافه النبى صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى. والحديث النبوى هو ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقريرا أو وصف خلقى أو خلقى ولا خلاف بين العلماء فى أن معنى كلّ من الحديث القدسى والنبوى من عند الله تعالى. كذلك لا خلاف بينهم فى أن لفظ الحديث النبوى من عند الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنما الخلاف بينهم فى لفظ الحديث القدسى: فذهب بعضهم إلى أنه من عند الله تعالى كالقرآن وذهب البعض الآخر إلى أنه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم كالحديث النبويّ (الباعث الحثيث لابن كثير 17، وضوء القمر 14، ومصطلح الحديث لأستاذى المرحوم الشيخ الشهاوى 39). (¬2) سبل السلام 4/ 1276. (¬3) شرح المنار 36. (¬4) حقيقة الدور: هو حقيقة الشيء على ما توقف عليه، وحقيقة التسلسل: هو ترتب أمور غير متناهية ومن أمثلة ذلك: أننا نقول: إن من أدلة وجوب الوجود لله تعالى أنه سبحانه يجب افتقار العالم إليه وكل من وجب افتقار العالم إليه فهو واجب الوجود فالله واجب الوجود. دليل الصغرى: العالم حادث وكل حادث يجب افتقاره إلى محدث.

تصور المصحف موقوف على تصور القرآن والقرآن موقوف على المصحف وإلا لم يخرج ما نسخت تلاوته فلا يطرد التعريف (¬1). قلنا: تصور المصحف موقوف على تصور القرآن بمفهوم شخصى معروف عند كل أحد حتى عند الصبيان يحفظونه ويتدارسونه، والقرآن بمفهومه العامى موقوف على تصور المصحف فلا يلزم الدور (¬2). وربما يقول قائل: المكتوب فى المصاحف حادث عند أهل السنة خلافا للحنابلة والقرآن كلام الله تعالى قديم وليس بحادث (¬3)؟ ¬

_ دليل الكبرى: أنه لو لم يكن واجب الوجود لكان جائزه فيفتقر إلى محدث ويفتقر محدثه إلى محدث فإن رجع الأمر إلى الأول مباشرة أو بواسطة فالدور لأن الأمر دار ورجع إلى مبدئه وإن تتابع المحدثون واحدا بعد واحد إلى ما لا نهاية فالتسلسل وكل من الدور والتسلسل محال على الله تعالى (شرح البيجورى على الجوهرة 1/ 57، 58). (¬1) اطرد الأمر اطرادا تبع بعضه بعضا. تقول اطرد الأمر أى استقام- مختار الصحاح 389. (¬2) القرآن الكريم له مفهومان: جزئى وكلى: فالجزئى: هو المجموع الشخصى الذى بين دفتى المصحف. والكلى: هو الشامل للكل والجزء وهو الكلام المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الخ. فتصور المصحف موقوف على تصور حقيقة القرآن بمفهومه الشخصى وهو مجموع ما بين الدفتين لأنه إذا قيل لك: ما المصحف؟ فتقول: هو الذى كتب فيه القرآن وهذا معروف عند كل أحد فهو بديهى لا يتوقف على شىء. والقرآن بمفهومه الكلى موقوف على تصور المصحف لأخذه فى تعريفه فلا دور لاختلاف جهة التوقف لأن ماهية المصحف إنما هى موقوفة على القرآن بمفهومه الجزئى والمفهوم على ماهية المصحف إنما هو القرآن بمفهومه الكلى. (¬3) جاء فى العقيدة الطحاوية 129. ( ... والقرآن فى المصاحف مكتوب وفى القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبى صلى الله عليه وسلم منزل ولفظنا بالقرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق)

فالجواب: أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسى ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى، وبين الكلام اللفظى الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليف المخلوقين إلا أن الأحكام لما كانت منوطة (¬1) بالكلام اللفظى دون النفسى جعل القرآن اسما له، واعتبر فى حده ما يميزه عن المعنى القديم فلهذا عرفه علماء الأصول بالمكتوب فى المصاحف ... إلخ. وقولهم: (المنقول إلينا نقلا متواترا). قيد رابع فى التعريف يخرج به القراءة الشاذة (¬2) كقراءة الصحابى الجليل أبىّ بن كعب رضى الله عنه- فعدة من أيام أخر متتابعات- لأنها ثابتة بطريق الآحاد. وجاء فى شرح المنار (¬3): فإن قلت: قراءة ابن كعب قد خرجت بقولهم: المكتوب فى المصاحف، لأنها مكتوبة فى مصحفه فقط وليس فى كل المصاحف، ومن ثم فيكون هذا الوصف زائدا لا حاجة إليه؟ ¬

_ وجاء فى كتاب القرآن والفلسفة 87 - 96: أن المشبهة ذهبوا إلى القول بأن القرآن أزلى قديم حتى الحروف والأصوات والكتابة المكتوب بها. بل زاد بعضهم فى الغلو حيث قال إن جلدة المصحف التى تضمّه وكذلك الغلاف الذى يوضع فيه كلاهما كذلك أزلى قديم. وعلى الضد من مذهب المشبهة نجد المعتزلة يقولون بأنه حادث مخلوق ككل شىء فى الوجود ما عدا ذات الله وحدها. أما الأشاعرة فقد وقفوا موقفا وسطا بين غلو الحنابلة من المشبهة وغلو المعتزلة فقالوا: إن القرآن قديم ولكنه ليس الحروف والأصوات التى نسمعها والكلمات التى نكتبها إنما هو أى القرآن الكريم القديم كلام الله القائم بذاته. أما الكلام المؤلف من الحروف والكلمات والأصوات فحادث. وأدلة هذه الفرق مبسوطة فى كتب الكلام- بتصرف-. (¬1) ناط الشيء ينوطه نوطا: علقه، والنوط ما علّق ويقال نيط عليه الشيء علق عليه. قال رقاع بن قيس الأسدي: بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ... وأول أرض مسّ جلدى ترابها (¬2) سيأتى قريبا بمشيئة الله تعالى الكلام عن القراءة التى فقدت أحد أركان القرآن. (¬3) شرح المنار 40.

قال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله:

فالجواب: أن الألف واللام فى الجمع للجنس إذا لم تكن للعهد الخارجى على ما اختاره بعض (¬1) الأصوليين، ومن هنا فلا تخرج قراءته بقولهم «فى المصاحف» لأن الجنس ينصرف عند الإطلاق إلى الأدنى لتيقنه ويحتمل الأعلى بدليله، ولم يوجد هنا دليل الكل. ولئن سلمنا أنها خرجت بقولهم: فى المصاحف، فلا نسلم كون المنقول عنه زائدا لأن غرضه التمييز وهو من الصفات المشتركة وكونه للإخراج غير لازم. هذا: وبعد الانتهاء من شرح التعريف أقول ربما يسأل سائل ويقول: ما هى الحكمة وراء تعريف القرآن بالأجناس والفصول؟ والجواب: أن العلماء إنما فعلوا هذا من أجل تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه فى الاسم ولو توهما. ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القرآن فى كونها وحيا إلهيّا، فربما ظن ظان أنها تشاركه فى اسم القرآن أيضا فأرادوا اختصاص الاسم به ببيان صفاته التى امتاز بها عن تلك الأنواع. قال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله (¬2): «وإنما حدّوا القرآن من تشخصه (¬3) بما ذكر من أوصافه ليتميز مع ضبط كثرته عما لا يسمى باسمه من الكلام» والقارئ لكلام عضد الملة رحمه الله بعد شرحه التعريف ربما يظن أن بينه وبين كلام الجلال المحلى رحمه الله تعارضا. ¬

_ (¬1) قال الشيخ الرهاوى تعليقا على ما قاله شارح المنار 40: ( ... هذا مختار بعض الأصوليين وقال جمهور الأصوليين وعامة أهل اللغة الألف واللام فى الجمع يكون للاستغراق إذا لم تكن للعهد). (¬2) شرح الجلال المحلى 1/ 224. (¬3) يعنى تشخصه يغنى عن حده حيث لا يقع معه فيه اشتباه.

فقد قال العضد رحمه الله:

فقد قال العضد رحمه الله (¬1): « .... واعلم أنه إن أريد تصوير مفهوم لفظ القرآن فهو صحيح، وإن أراد التمييز فمشكل، لأن كونه للإعجاز ليس لازما بينا ولا معرفة السورة تتوقف على معرفته فيدور». ومعنى هذا الكلام: أن كون القرآن للإعجاز مما لا يعرف مفهومه ولزومه إلا الأفراد من العلماء، ولا يكون لازما بينا، فضلا عن أن يكون ذاتيّا فلا يصلح لتعريف الحقيقة وتمييزها، بل لمجرد تصوير مفهوم لفظ الكتاب بالنسبة إلى من يعرف الإعجاز والسورة ونحو ذلك. والحق أنه ليس بين كلام الشيخين أى تعارض، لأن قول الجلال رحمه الله: ليتميز مع ضبط كثرته عما لا يسمى باسمه، إشارة إلى التمييز فى التسمية لا التمييز فى الحقيقة تحرزا عما قاله العضد رحمه الله تعالى. قال الشيخ البنانى رحمه الله تعليقا على كلام جلال الدين المحلى رحمه الله (¬2): اعلم أن أسماء العلوم كالكتب أعلام أجناس وضعت لأنواع أعراض تتعدد بتعدد المحال كالقائم بزيد وبعمرو، وقد تجعل أعلام شخص باعتبار أن المتعدد باعتبار المحلّ يعد عرفا واحدا، وجعل القرآن علما شخصيا بهذا الاعتبار الثانى، وليس هو علما شخصيا حقيقيّا بأن يكون اسما للشخص القائم بلسان جبريل فقط للقطع. بأن ما يقرؤه كل واحد منا هو القرآن المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروا أن الشخص الحقيقى لا يقبل الحد، لأنه لا تمكن معرفته إلا بالإشارة إليه، وعلى هذا فوصف القرآن بالشخص الذى لا يحدّ وهو الحقيقى لمشاركته له فى أنه لا تمكن معرفته إلا بالإشارة إليه، والقراءة من أوله إلى آخره فمعنى تشخصه حينئذ أن له حكم الشخص الحقيقى. اه ¬

_ (¬1) شرح العضد 2/ 18، 19. (¬2) حاشية البنانى على شرح الجلال 1/ 224.

تذييل:

تذييل (¬1): المتأمل فى القرآن الكريم يجد أن الله عز وجل ذكر له خمسة وخمسين اسما هى (¬2): 1، 2 - سماه كتابا مبينا فقال جل شأنه: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (¬3) فأما تسميته كتابا فلجمعه أنواع العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه والكتاب فى اللغة: الجمع (¬4)، والمبين: لأنه أبان أى أظهر الحق من الباطل. 3، 4 - وسماه قرآنا وكريما فقال جل شأنه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (¬5) 5 - وسماه كلاما فقال جل شأنه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (¬6)، ويلاحظ أن الكلام مشتق من الكلم (¬7)، بمعنى التأثير، لأنه يؤثر فى ذهن السامع فائدة لم تكن عنده. 6 - وسماه تعالى نورا فقال جل شأنه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (¬8) وقد سمى بهذا الاسم لأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام (¬9). ¬

_ (¬1) التذييل: مصدر ذيل للمبالغة وهى لغة: جعل الشيء ذيلا للآخر. واصطلاحا: أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل فى معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه ليكون معه كالدليل ليظهر عند من لا يفهم ويكمل عند من يفهمه- لسان العرب 2/ 1529، والبرهان للزركشى 3/ 68 - . (¬2) البرهان 1/ 273، والإتقان 1/ 178. (¬3) سورة الدخان آيتا: 1، 2. (¬4) لسان العرب 5/ 3816. (¬5) سورة الواقعة الآية: 77. (¬6) سورة التوبة الآية: 6. (¬7) لسان العرب 5/ 3923. (¬8) سورة النساء الآية: 174. (¬9) الغامض خلاف الواضح، وقد غمض المكان وغمض الشيء يغمض غموضا يعنى خفى- لسان العرب 4/ 3299 -

7، 8 - وسماه هدى ورحمة فقال تعالى: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (¬1) وأطلق على القرآن هدى لأن فيه الدلالة على الحق، وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل مبالغة. 9 - وسماه فرقانا فقال جل شأنه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (¬2). 10 - وسماه شفاء فقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (¬3) وسمى القرآن شفاء لأنه يشفى من الأمراض القلبية، كالكفر والحقد والحسد، والبدنية كذلك. 11 - وسماه موعظة فقال جل شأنه: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ (¬4). 12، 13 - وسماه ذكرا ومباركا فقال تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (¬5) 14 - وسماه عليّا فقال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (¬6) 15 - وسماه حكمة فقال تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ (¬7). 16 - وسماه حكيما فقال تعالى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (¬8). 17، 18 - وسماه مصدقا ومهيمنا فقال تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (¬9). 19 - وسماه حبلا فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (¬10). والسبب فى تسمية القرآن حبلا أن من تمسك به ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية: 57. (¬2) سورة الفرقان الآية: 1. (¬3) سورة الإسراء الآية: 82. (¬4) سورة يونس الآية: 57. (¬5) سورة الأنبياء الآية: 50. (¬6) سورة الزخرف الآية: 4. (¬7) سورة القمر الآية: 5. (¬8) سورة يونس الآية: 1. (¬9) سورة المائدة الآية: 48. (¬10) سورة آل عمران الآية: 103.

وصل إلى الجنة أو الهدى، والحبل: هو السبب (¬1). 20 - وسماه صراطا مستقيما فقال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ (¬2). 21 - وسماه قيما فقال تعالى: قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ (¬3). 22، 23 - وسماه قولا وفصلا فقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (¬4). 24 - وسماه نبأ عظيما فقال تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (¬5). 25، 26، 27 - وسماه أحسن الحديث ومتشابها ومثانى فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (¬6). وإنما أطلق على القرآن متشابها، فلأنه يشبه بعضه بعضا فى الحسن والصدق كما أطلق عليه مثانى، لأنه مشتمل على بيان قصص الأمم السابقة، فهو ثان لما تقدمه، وقيل: لتكرر القصص والمواعظ فيه. 28 - وسماه تنزيلا فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬7). 29 - وسماه روحا فقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (¬8). 30 - وسماه وحيا فقال تعالى: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ (¬9). ¬

_ (¬1) لسان العرب 1/ 760. (¬2) سورة الأنعام الآية 153. (¬3) سورة الكهف الآية: 2. (¬4) سورة الطارق الآية: 13. (¬5) سورة النبأ آيتا: 1، 2. (¬6) سورة الزمر الآية: 23. (¬7) سورة الشعراء الآية: 192. (¬8) سورة الشورى الآية: 52. (¬9) سورة الأنبياء الآية: 45.

31 - وسماه عربيّا فقال تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬1). 32 - وسماه بصائر فقال تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ (¬2). 33 - وسماه بيانا فقال تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ (¬3). 34 - وسماه علما فقال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ* (¬4). 35 - وسماه حقّا فقال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (¬5). 36 - وسماه هاديا فقال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (¬6). 37 - وسماه عجبا فقال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (¬7) 38 - وسماه تذكرة فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (¬8). 39 - وسماه العروة الوثقى فقال تعالى: اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى (¬9). 40 - وسماه صدقا فقال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ (¬10) 41 - وسماه عدلا فقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا (¬11). ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 2. (¬2) سورة الجاثية الآية: 20. (¬3) سورة آل عمران الآية: 138. (¬4) سورة البقرة الآية: 145. (¬5) سورة آل عمران الآية: 62. (¬6) سورة الإسراء الآية: 9. (¬7) سورة الجن الآية: 1. (¬8) سورة الحاقة الآية: 48. (¬9) سورة البقرة الآية: 256. (¬10) سورة الزمر الآية: 33. (¬11) سورة الأنعام الآية: 115.

42 - وسماه أمرا فقال تعالى: ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ (¬1). 43 - وسماه مناديا فقال تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ (¬2). 44 - وسماه بشرى فقال تعالى: هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (¬3). 45 - وسماه مجيدا فقال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (¬4). 46 - وسماه زبورا فقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ (¬5). 47، 48 - وسماه بشيرا ونذيرا فقال تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً (¬6). 49 - وسماه عزيزا فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (¬7). 50 - وسماه بلاغا فقال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ (¬8). 51 - وسماه قصصا فقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (¬9). 52، 53، 54، 55 - وسماه أربعة فى آيتين فقال جل شأنه: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (¬10). ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية: 5. (¬2) سورة آل عمران الآية: 193. (¬3) سورة النمل الآية: 2. (¬4) سورة البروج الآية: 21. (¬5) سورة الأنبياء الآية: 105. (¬6) سورة فصلت آيتا: 3، 4. (¬7) سورة فصلت الآية: 41. (¬8) سورة إبراهيم الآية: 52. (¬9) سورة يوسف الآية: 3. (¬10) سورة عبس آيتا: 13، 14.

هذا وقد حكى المظفرى فى تاريخه قال:

هذا وقد حكى المظفرى فى تاريخه قال: لما جمع أبو بكر رضى الله عنه القرآن قال: سموه. فقال بعضهم: سموه إنجيلا فكرهوه. وقال بعضهم: سموه سفرا فكرهوه. فقال ابن مسعود رضى الله عنه: رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به. فالصديق رضى الله عنه هو أول من جمع القرآن وسماه المصحف (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان لجلال الدين السيوطى 1/ 185.

الباب الأول فى ثبوت القرآن وما يتصل به وفيه فصول

الباب الأول فى ثبوت القرآن وما يتصل به وفيه فصول الفصل الأول: فى ثبوت القرآن وتواتره الفصل الثانى: فى ترتيب الآيات والسور الفصل الثالث: فى اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية الفصل الرابع: فى ترجمة القرآن الفصل الخامس: فى حجيته الفصل السادس: فى الغاية من البحث فى القرآن الفصل السابع: فى خواص القرآن

الفصل الأول فى ثبوت القرآن وتواتره

الفصل الأول فى ثبوت القرآن وتواتره من قرون (¬1) سحيقة والشمس- فى مرأى العين- هى الشمس لم تتغير على تعاقب الأجيال، ولم تزد ولم تنقص على اختلاف الليل والنهار، ومن قرون سحيقة والقمر- فى مرأى العين- هو القمر لا يزال بين الخلف والسلف، مستدير القرص، هادئ النور، لم يطرأ عليه- مع اطراد الزمان- تبديل ولا نالت منه «عوامل التعرية» التى يقول العلماء إنها تنقص الجبال الرواسى وتبريها (¬2) طولا وعرضا، ونحن المسلمين نرى القرآن الكريم حقيقة علمية ثابتة كهذه الحقائق الكونية الدائمة، فهو هو منذ بدأ لم يزد حرفا ولم ينقص. نقله جبريل عليه السلام عن الله عز وجل، ونقله كذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، ونقله الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم تتابعت الجماهير الغفيرة تنقله عبر القرون حتى بلغت به إلينا مثلما نزل قبل أربعة عشر قرنا، وسنورّثه نحن غيرنا بهذه الهيئة المكتملة المصونة، وسيظل الحفظة يروونه للأعصار المقبلة إلى أن ينفضّ سرادق الحياة والأحياء، وينقلب الناس جميعا إلى الله (¬3). لا: ¬

_ (¬1) القرون: جمع قرن والقرن ثمانون سنة وقيل ثلاثون سنة والقرن مثلك فى السن تقول هو على قرنى أى على سنى والقرن فى الناس أهل زمان واحد- مختار الصحاح 532. والسحق: بالضم البعد وسحق الشيء- بالضم- سحقا بوزن بعد فهو سحيق- مختار الصحاح 289. (¬2) تبريها بمعنى تنحتها يقال: برى العود يبريه بريا أى نحته- لسان العرب 1/ 271. (¬3) نظرات فى القرآن للداعية الكبير الشيخ محمد الغزالى 27

بل سيظل القرآن الكريم فى العالم الآخر باقيا، يتلوه أهله على النحو الذى نزل به أمين الوحى الأول مرة وفى الحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (¬1). فالقرآن من حيث ثبوته لا شك أنه مقطوع بقرآنيته. فكل آية من آياته كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظها ويقوم بقراءتها وتمليتها على كتاب الوحى ليكتبوها (¬2)، وكان على ذلك الصحابة من بعده فقد نقله بالكتابة والمشافهة فى كل عصر جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، فلم يختلفوا منه فى شىء يقدح فى بلاغته، أو ينقص من أحكامه ومبادئه على اختلاف أجناسهم، وتباعد ديارهم، ومعلوم أن التواتر من طرق اليقين وبه نؤمن بكثير لم نره من وقائع وبلاد وملوك وقواد وغير ذلك. وقد قال العلماء: إن شروط الاعتداد بالقراءة ثلاثة هى: 1 - استقامة الإعراب والمعنى. 2 - صحة السند. 3 - موافقة رسم المصحف. وقد جمعها الشيخ ابن الجزرى رحمه الله فى قوله (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه 2/ 73. (¬2) من كتاب الوحى- السادة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية وزيد بن ثابت وأبى بن كعب رضى الله عنهم. هذا ومن أسباب كتابة الصحابة القرآن ما يلى: أ- معاضدة المكتوب للمحفوظ ليتوافر للقرآن كل عوامل الحفظ والبقاء. ب- تبليغ الوحى على الوجه الأكمل لأن الاعتماد على الحفظ فقط غير كاف لأن الحفاظ عرضة للنسيان أو الموت أما الكتابة فباقية- بحوث فى القرآن والسنة 73. (¬3) طيبة النشر فى القراءات العشر له 3. وابن الجزرى هو إمام الحفاظ محمد بن محمد بن على بن يوسف المعروف بابن

جاء فى الإتقان لجلال الدين السيوطى رحمه الله ما يلى:

فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالا يحوى وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه فى السبعة فإذا فقد أحد الركنين الأولين لم تعد قراءة، وإذا فقد الركن الثالث كانت قراءة شاذة، وقيل إذا فقد الركن الثالث لم تعد قراءة أيضا. جاء فى الإتقان لجلال الدين السيوطى رحمه الله ما يلى (¬1): ما روى من القرآن على ثلاثة أقسام: 1 - قسم يقرأ به ويكفر جاحده، وهو ما نقله الثقات ووافق العربية والخط. 2 - وقسم صح نقله عن الآحاد، وصح فى العربية وخالف لفظة الخط، فيقبل ولا يقرأ به لأمرين: (أ) مخالفته لما أجمع عليه. (ب) وأنه لم يؤخذ بإجماع، بل بخبر الآحاد، ولم يثبت به قرآن ولا يكفر جاحده ولبئس ما صنع إذ جحده. 3 - وقسم نقله ثقة ولا وجه له فى العربية، أو نقله غير ثقة فلا يقبل وإن وافق الخط. قال ابن الجزرى: مثال الأول كثير: ك (مالك وملك) و (يخدعون ويخادعون) ومثال الثانى قراءة ابن عباس رضى الله عنه: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) قال: واختلف العلماء فى القراءة بذلك، ¬

_ الجزرى توفى رحمه الله سنة 833 هـ (شذرات المذهب 7/ 204). (¬1) الإتقان 1/ 262.

والأكثر على المنع لأنها لم تتواتر، وإن ثبتت بالنقل فهى منسوخة بالعرضة (¬1) الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثمانى. ومثال ما نقله غير ثقة كثير مما فى كتب الشواذ، مما غالب إسناده ضعيف، وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبى حنيفة رحمه الله، التى جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعى رحمه الله ومنها (إنما يخشى الله من عباده العلماء) برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء. فهى قراءة شاذة لا شك. وقد كتب الدارقطنى وجماعة بأن هذا الكتاب موضوع لا أصل له. ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له فى العربية قليل لا يكاد يوجد، وجعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع: مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (¬2) بالهمز بدلا من الياء. هذا: وقد يقول قائل لا خلاف فى أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا فى أصله وأجزائه، لكن هل يشترط التواتر أيضا فى محله ووضعه وترتيبه؟ نعم عند محققى أهل السنة للقطع بأن العادة تقضى بالتواتر فى تفاصيل مثله، لأن هذا المعجز العظيم الذى هو أصل الدين مما تتوافر الدواعى على نقل جمله، وتفاصيله فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا. وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط فى ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله، وليس بشرط فى محله ووضعه وترتيبه، بل بكثير فيها نقل الآحاد. قيل: وهو الذى يقتضيه صنع الشافعى رحمه الله فى إثبات البسملة ¬

_ (¬1) كان عليه السلام يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه فى السنة التى توفى فيها مرتين (البرهان 1/ 259). (¬2) سورة الأعراف الآية: 10.

أما الأول:

من كل سورة (¬1). وردّ هذا المذهب بأن العادة كما ذكرنا تقتضى التواتر فى كل شىء متصل بالقرآن، ولأنه لو لم يشترط التواتر لجاز سقوط كثير. من القرآن المكرر، وثبوت كثير مما ليس بقرآن. أما الأول: فلأنا لو لم نشترط التواتر فى المحل جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات الواقعة فى القرآن، مثل قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (¬2) وأما الثانى: فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل، جاز إثبات ذلك البعض فى الموضع بنقل الآحاد. على العموم القراءات السبع المنسوبة إلى الأئمة السبعة نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى متواترة وعليه الجمهور من المسلمين (¬3). ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 266. (¬2) سورة الرحمن الآية: 13. (¬3) نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم كان عالما بوجوه القراءات والعربية وكان إذا تكلم يشمّ من فيه رائحة المسك فقيل له: أتتطيب كلما جلست للإقراء؟ فقال: لا أمس طيبا ولكنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام يقرأ فى فىّ فمن ذلك الوقت توجد هذه الرائحة، توفى رحمه الله بالمدينة سنة 169 هـ[تقريب التهذيب 2/ 295، والوافى فى شرح الشاطبية 16، وأحسن الأثر فى تاريخ القراءة الأربعة عشر 11]. وعبد الله بن كثير بن المطلب القرشى أحد الأئمة صدوق من التابعين، مات رحمه الله سنة 120 هـ (التقريب 1/ 442). وأبو عمرو البصرى المازنى أكثر القراء السبعة شيوخا، سمع أنس بن مالك رضى الله عنه وغيره، وتوفى بالكوفة سنة 154 هـ (تقريب التهذيب 2/ 454 والوافى فى شرح الشاطبية 18) وعبد الله بن عامر الدمشقى أبو عمران ثقة انتهت إليه مشيخة الإقراء فى الشام ومات رحمه الله سنة 118 هـ (أحسن الأثر فى تاريخ القراء الأربعة عشر 33).

قال ولد البغوى رحمه الله:

وقيل: هذه القراءات مشهورة (¬1). ولا يعبأ بهذا القائل ولا يعتد به. ثم المحققون من المسلمين على أن الثلاث المنسوبة إلى الأئمة الثلاثة يعقوب وأبى جعفر وخلف أيضا متواترة وحكمها حكم السبعة (¬2). صرح به محيى السنة البغوى رحمه الله (¬3). بل نقل عنه دعوى الاتفاق. وقيل: التواتر مختص بالسبع لا غير. قال ولد البغوى رحمه الله (¬4): « .... والسبع متواترة، ثم قلنا فى الشاذ: والصحيح أنه ماوراء العشرة ولم نقل: والعشر متواترة لأن السبع لم يختلف فى تواترها فذكرنا ¬

_ وعاصم بن بهدلة أبو النجود- بفتح النون وضم الجيم- الكوفى المقرئ صدوق حجة فى القراءة وكان من التابعين توفى رحمه الله سنة 128 هـ (المعارف لابن قتيبة 530 وتقريب التهذيب 1/ 383) وحمزة بن حبيب الزيات القارئ أبو عمارة الكوفى صدوق زاهد توفى رحمه الله سنة 156 وقبل سنة 158 هـ (المعارف 529 والتقريب 1/ 199). والكسائى هو على بن حمزة بن عبد الله الأسدي انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة مات رحمه الله سنة 189 هـ (أحسن الأثر فى تاريخ القراء الأربعة عشر 59). (¬1) القراءة المشهورة هى التى رواها فى عصر الصحابة عدد لم يبلغ حد التواتر ثم تواترت فى عهد التابعين كخصائص مصحف ابن مسعود رضى الله عنه- أصول التشريع الإسلامى للشيخ على حسب الله 29. (¬2) يعقوب بن إسحاق الحضرمى أبو محمد المقرئ صدوق مات رحمه الله سنة 205 هـ (تقريب التهذيب 2/ 375). وأبو جعفر هو يزيد بن القعقاع روى عن أبى هريرة وابن عمر وغيرهما رضى الله عنهم وتوفى رحمه الله سنة 130 هـ على الأصح- المعارف 528 وأحسن الأثر 68. وخلف بن هشام البزار المقرئ البغدادى ثقة مات رحمه الله سنة 229 هـ- تقريب التهذيب 1/ 226. (¬3) هو الحافظ أبو محمد الحسين بن مسعود البغوى مات رحمه الله سنة 156 هـ عن ثمانين سنة- تذكرة الحفاظ 4/ 52. (¬4) الاتقان 1/ 277 وفواتح الرحموت 2/ 15.

يقول ابن الجزرى رحمه الله:

أولا موضع الإجماع، ثم عطفنا عليه موضع الخلاف ... على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة فى غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله فى الدين، وهى لا تخالف رسم المصحف، وقد سمعت أبى يشدد النكير على بعض القضاة، وقد بلغه أنه منع من القراءة بها واستأذنه بعض أصحابنا مرة فى إقراء السبع فقال: أذنت لك أن تقرئ العشر، وقال فى جواب سؤال سأله ابن الجزرى: القراءات السبع التى اقتصر عليها الشاطبى والثلاثة التى هى قراءة أبى جعفر ويعقوب وخلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكابر فى شىء من ذلك إلا جاهل». يقول ابن الجزرى رحمه الله (¬1): ضابط القراءة المتواترة وشرحه: نقول كل قراءة وافقت العربية مطلقا ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا وتواتر نقلها. هذه هى القراءة المتواترة المقطوع بها، ومعنى العربية مطلقا: أى: ولو بوجه من الإعراب، نحو قراءة حمزة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ (¬2) بالجر، وقراءة أبى جعفر: لِيَجْزِيَ قَوْماً (¬3) ومعنى أحد المصاحف العثمانية: واحدا من المصاحف التى وجهها عثمان رضى الله عنه إلى الأمصار (¬4). كقراءة ابن كثير فى التوبة: جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ (¬5) ¬

_ (¬1) منجد المقرئين له 91 - 94. (¬2) سورة النساء الآية: 1. (¬3) سورة الجاثية الآية: 14. (¬4) هى: البصرة والكوفة والشام ومكة واليمن والبحرين. بالإضافة إلى مصحفى المدينة العام والخاص (النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 7). (¬5) سورة التوبة الآية: 100.

بزيادة «من» فإنها لا توجد إلا فى مصحف مكة. ومعنى ولو تقديرا: ما يحتمله رسم المصحف كقراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف فإنها كتبت بغير ألف فى جميع المصاحف فاحتملت الكتابة أن تكون (مالك) وفعل بها كما فعل باسم الفاعل من قوله: (قادر-،- صالح-) ونحو ذلك مما حذف منه للاختصار فهو موافق للرسم تقديرا. ونعنى بالمتواتر: ما رواه جماعة عن جماعة كذا إلى منتهاه. ثم قال رحمه الله: والّذى جمع فى زماننا هذا الأركان الثلاثة هو قراءة الأئمة العشرة التى أجمع الناس على تلقيها بالقبول وهم: أبو جعفر، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائى، وخلف. أخذها الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلى زماننا. فقراءة أحدهم كقراءة الباقين. أه. لكن هل لاختلاف القراءات وتنوعها فوائد؟ والجواب: نعم ومنها ما يلى: 1 - التسهيل والتخفيف على الأمة. 2 - إظهار فضل الأمة وشرفها على سائر الأمم إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلا على وجه واحد. 3 - المبالغة فى إعجازه بإيجازه. فتنوع القراءات بمنزلة الآيات ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حده لم يخف ما كان فيه من التطويل، ولهذا كان قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ (¬1) منزلا لغسل الرجل والمسح على الخف واللفظ واحد .. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6.

4 - إظهار سر الله فى كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف، مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة. 5 - أن بعض القراءات يبين ما لعله يجهل فى القراءة الأخرى فقراءة: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (¬1) بالتشديد مبينة لمعنى قراءة التخفيف، وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء الله. وقد ذكر الشاطبى رحمه الله أن السبب فى الاقتصار على السبعة الذين ذكرهم أنهم كانوا أصحاب فضل وعلم وزهد فى الدنيا، فلم يكن قصدهم من تعلم وتعليم القراءات سببا لرزقهم وموردا لكسبهم. فقال رحمه الله (¬2): جزى الله بالخيرات عنا أئمة ... لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا (¬3) فمنهم بدور سبعة قد توسطت ... سماء العلا والعدل زهرا وكمّلا لها شهب عنها استنارت فنورت ... سواد الدجى حتى تفرق وانجلى (¬4) وسوف تراهم واحدا بعد واحد ... مع اثنين من أصحابه متمثلا تخيرهم نقادهم كل بارع ... وليس على قرآنه متأكلا (¬5) هذا وبعد ذكر موقف العلماء تجاه تواتر القراءات وبيان الحكمة من وراء تعددها أقول: هل يتغير الحكم تبعا لتغير القراءة؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 222. (¬2) الوافى فى شرح الشاطبية 15، 16. (¬3) العذب: الماء الحلو الطيب- لسان العرب 4/ 2852 - والسلسل: السهل الدخول فى الحلق- لسان العرب 3/ 2074. (¬4) الشهب: جمع شهاب وهو شعلة نار ساطعة- مختار الصحاح 349 - والدجى: جمع دجية وهى الظلمة وكنى بها عن الجهل، وانجلى: بمعنى انكشف- مختار الصحاح 108، 199. (¬5) النقاد: جمع ناقد وهو الذى يميز الجيد من الردىء- لسان العرب 5/ 4517 - والبارع: هو الحاذق المتقن- مختار الصحاح 49. وتأكل بكذا إذا جعله سبب أكله فعلى فى البيت بمعنى باء السببية.

والجواب: نعم. فقد تختلف الأحكام نتيجة لاختلاف القراءات ومن أمثلة ذلك ما يلي: (1) قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ (¬1) فلفظ (يطهرن) قرأه بالتشديد حمزة والكسائى وشعبة، وقرأه بالتخفيف ابن عامر وحفص (¬2)، ونتيجة لاختلاف القراءتين اختلف الحكم فى نظر الفقهاء، لأنه بالقراءتين يبدو أن هناك فى الظاهر تعارضا، حيث إن القراءة بالتخفيف تقتضى- كما قال الشيخ عبد العزيز البخارى الحنفى (¬3) - أن يحل القربان بانقطاع الدم، سواء انقطع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه، لأن الطهر عبارة عن انقطاع دم الحيض، يقال: طهرت المرأة إذا خرجت من حيضها (¬4). والقراءة بالتشديد تقتضى أن لا يحل القربان قبل الاغتسال، سواء كان الانقطاع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه، كما ذهب إليه الإمام الشافعى رحمه الله (¬5) - لأن التطهر هو الاغتسال والقول بهما غير ممكن لأن حتى للغاية (¬6) وبين امتداد الشيء إلى غاية وبين اقتصاره دونها تناف، فيقع التعارض ظاهرا لكنه يرتفع باختلاف الحالين، أى بأن تحمل كل واحدة من القراءتين على حال، فتحمل القراءة بالتخفيف على الانقطاع على أكثر مدة الحيض، لأنه انقطاع بيقين وحرمة القربان تثبت باعتبار قيام الحيض، لأنه تعالى أمر باعتزالهن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 222. (¬2) الوافى فى شرح الشاطبية 219. (¬3) كشف الأسرار 3/ 91. (¬4) مختار الصحاح 298. (¬5) مغنى المحتاج 1/ 111. (¬6) الغاية انتهاء الشيء وتمامه- أحكام القرآن لابن العربى 1/ 164.

قال الشيخ القرطبى رحمه الله بعد أن رجح ما رجحه الجمهور من اشتراط الغسل:

لمعنى الأذى بقوله جل جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فبعد الانقطاع على أكثر مدة الحيض لا يجوز تراخى الحرمة إلى الاغتسال، لأنه يؤدى إلى جعل الطهر الذى هو ضد الحيض حيضا، وهو تناقض أو يؤدى إلى منع الزوج عن حقه وهو القربان بدون العلة المنصوص عليها، وهى الأذى وكلاهما فاسد. وتحمل القراءة بالتشديد على الانقطاع على ما دون أكثر مدة الحيض، لأن فى هذه الحالة لا يثبت الانقطاع بيقين، لتوهم أن يعاودها الدم ويكون ذلك حيضا، فلا بدّ من مؤكد لجانب الانقطاع وهو الاغتسال أو ما يقوم مقامه. هذا هو ما ذهب إليه السادة الحنفية لدفع التعارض بين القراءتين. والحق أن الحائض لا تحل لزوجها إلا بعد انقطاع الدم والاغتسال، وقراءة التشديد فى هذا صريحة، وأما القراءة بالتخفيف فإن كان المراد به أيضا الاغتسال كما قال ابن عباس رضى الله عنهما وجماعة لقرينة قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فواضح، وإن كان المراد به انقطاع الحيض فقد ذكر بعده شرط آخر وهو قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ وعليه فلا بد منهما معا (¬1). قال الشيخ القرطبى رحمه الله بعد أن رجح ما رجحه الجمهور من اشتراط الغسل (¬2): وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد (¬3): إن انقطع دمها بعد مضى ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 164، والغاية القصوى فى دراية الفتوى للبيضاوى 1/ 253. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 896. (¬3) الإمام أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت ولد بمدينة الكوفة ورأى بعض الصحابة وكان فقيها عظيم القدر وتوفى رحمه الله سنة 150 هـ- الفتح المبين 1/ 101.

وقال الإمام النووى رحمه الله وهو يذكر ما يحرم على الحائض:

عشرة أيام جاز له أن يطأ قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة، وهذا تحكم لا وجه له. وقال الإمام النووى رحمه الله وهو يذكر ما يحرم على الحائض (¬1): « .... وأما الاستمتاع بالحائض فضربان: أحدهما: الجماع فى الفرج فيحرم، ويبقى تحريمه إلى أن ينقطع الحيض وتغتسل .... » (2) قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (¬2) فقد قرأ نافع وابن عامر والكسائى وحفص (وأرجلكم) بنصب اللام، وقرأ الباقون بخفضها (¬3)، وقد قال العلماء إن القراءة بالنصب دليل على وجوب غسل الرجلين فى الوضوء، وحمل بعضهم قراءة الجو على أنها دليل على المسح على الخفين. قال الشيخ محمد الصنعانى رحمه الله (¬4): « ... على أنه قد يقال: قد ثبت فى آية المائدة القراءة بالجر، لأرجلكم عطفا على الممسوح وهو الرأس فيحمل على مسح الخفين كما بينته السنة (¬5)، ويتم ثبوت المسح بالكتاب والسنة وهو أحسن ¬

_ وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم يلقب بقاضى القضاة أخذ الفقه عن الإمام أبى حنيفة، وتوفى رحمه الله عام 182 هـ. الفتح المبين 1/ 108. ومحمد بن الحسن الشيبانى اشتهر بالفقه والأصول، وكان إماما فى اللغة وتوفى رحمه الله سنة 186 هـ- المرجع السابق 1/ 110. (¬1) روضة الطالبين 1/ 135. (¬2) سورة المائدة الآية: 6. (¬3) الوافى فى شرح الشاطبية 251. (¬4) سبل السلام 1/ 88. (¬5) جاء فى الحديث عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: «كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فتوضأ فأهويت لا نزع خفيه فقال: دعها فإنى أدخلتهما طاهرتين- فمسح عليهما» (البخارى 1/ 50، ومسلم 1/ 129).

الوجوه (¬1) التى توجه بها قراءة الجر». هذا وقبل أن أنهى الكلام عن ثبوت القرآن وتواتره أقول: إن علماء الأصول تحدثوا بإطناب (¬2) عن حجية ما نقل إلينا من القرآن آحادا، وذلك بعد اتفاقهم على حجية المنقول إلينا نقلا متواترا. فبينما ذهب الإمام الشافعى رحمه الله إلى القول بنفى حجيته، ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى إثباتها، وبنى عليه وجوب التتابع فى صوم كفارة اليمين، مستدلا بما نقله ابن مسعود رضى الله عنه فى مصحفه من قوله: (فصيام ثلاث أيام متتابعات). ولو أمعنا النظر فى وجهة نظر الإمامين الجليلين لاخترنا مذهب الإمام الشافعى رحمه الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكلفا بإلقاء ما نزل به جبريل عليه السلام عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم، ولا شك أن الذين تقوم بهم الحجة القاطعة لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالراوى له إن كان واحدا إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ، لأنه وجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم، ولا يجوز مناجاة الواحد به، وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبرا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكون ذلك مذهبا له وعليه فلا يكون حجة، وهذا بخلاف خبر الواحد الوارد عن النبى صلى الله عليه وسلم. فالسادة الشافعية يرون عدم وجوب التتابع فى صوم كفارة اليمين فى قول عندهم، لأن الزيادة الواردة فى مصحف ابن مسعود رضى الله عنه ¬

_ (¬1) حمل بعضهم قراءة الجر على أنها محمولة على الجوار كما فى قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود 26] بجر الميم (تفسير آيات الأحكام 2/ 173). (¬2) الإطناب: هو تأدية المعنى المقصود بلفظ زائد عليه لفائدة (توضيح المعانى للعمارى 182 دار القومية العربية).

لم تتواتر، وبالتالى فليست من القرآن، فتحمل على أنه ذكرها فى معرض البيان لما اعتقده مذهبا له. فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع فى آية الظهار قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (¬1) والسادة الحنفية (¬2) لا يتفقون مع السادة الشافعية فى وجوب إلقاء النبى صلى الله عليه وسلم القرآن على عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم، وذلك لسبب بسيط وهو أن حفاظ القرآن فى زمانه صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا حدّ التواتر لقلتهم، وإنّ جمع القرآن إنما كان بطريق تلقى آحاد آياته من الآحاد، ومن هنا اختلفت مصاحف الصحابة، وبدهى أن النبى صلى الله عليه وسلم لو كان ألقاه على طائفة تقوم الحجة. القاطعة بقولهم لما اختلفت مصاحف الصحابة، ولهذا اختلفوا فى البسملة أنها من القرآن، وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وقالوا لو سلمنا وجوب ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم، لكن إنما يمتنع السكوت عن نقله على الكل لعصمتهم عن الخطأ، ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بعضهم، وإذا كان ابن مسعود من جملتهم وقد روى ما رواه فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت، وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك فى مصحفه على أنه من القرآن، لأن الظاهر من حاله الصدق، ولم يوجد ما يعارضه. كل ما فى الأمر أنه غير مجمع على العمل به، وذلك لعدم تواتره، وإن لم يصرح بكونه قرآنا أمكن أن يكون من القرآن، وأمكن أن يكون خبرا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأمكن أن يكون مذهبا له، وهو حجة بتقدير كونه قرآنا، وبتقدير كونه خبرا عن النبى صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) سورة المجادلة الآية: 4. (¬2) أصول السرخسى 1/ 280 والتلويح على التوضيح 1/ 27 وتيسير التحرير 3/ 9، والإحكام للآمدى 1/ 148.

وهما احتمالان، وإنما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهبا له، وهو احتمال واحد، ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه. سلمنا أنه ليس بقرآن، وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهبا له، إلا أن احتمال كونه خبرا راجح لأن روايته له موهم بالاحتجاج به، ولو كان مذهبا له لصرح به نفيا للتلبيس (¬1) عن السامع المعتقد كونه حجة مع الاختلاف فى مذهب الصحابى (¬2) هل هو حجة أولا؟ هذه هى وجهة السادة الحنفية رضوان الله عليهم، والحق أن ما قالوه فيه نظر، وذلك لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فيجب تبليغه وتمليته على عدد تقوم الحجة بقولهم. ¬

_ (¬1) لبس عليه الأمر خلط وبابه ضرب يقال فى الأمر لبسة- بالضم- أى شبهة يعنى ليس بواضح- المختار 590. (¬2) المراد من مذهب الصاحبى هو ما اختاره فى المسألة الاجتهادية التى لم يرد فيها نص، ولم يحصل عليها إجماع. وقد اتفق العلماء على أن مذهب الصحابى لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، لأن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة بعضهم بعضا فى الاجتهاد. واختلفوا فى كونه حجة على التابعين ومن بعدهم: فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والإمام الشافعى فى أحد قوليه، والإمام أحمد فى إحدى الروايتين عنه إلى أنه ليس بحجة. وذهب الإمام مالك وأئمة الحنفية والإمام الشافعى فى قول له والإمام أحمد فى رواية أخرى إلى أنه حجة مقدمة على القياس. واختار الآمدى القول بعدم حجيته مطلقا على أساس أن قول الصحابى ليس حجة على غيره فى أصول الدين فلا يكون حجة عليه أيضا فى فروعها. وهذا الخلاف فى قول الصحابى إنما هو فيما يمكن فيه الرأى يعنى فى حكم يمكن إثباته بالقياس وهو حينئذ ملحق بالسنة أما الذى لا يدرك بالرأى فلا خلاف فيه لأنه كالمرفوع- الأحكام للآمدى 3/ 195، والإبهاج 3/ 127، وحاشية ابن الحلبى على شرح المنار 674، وتخريج الفروع على الأصول للزنجانى 83، وتيسير التحرير 3/ 132.

قال صاحب فواتح الرحموت:

حيث إن عدم بلوغه بخبر التواتر للذين لم يشاهدوه لا يكون حجة قاطعة بالنسبة لهم، وبالتالى لا يكون حجة عليهم فى صدقه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن فى العصر النبوى حد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك. وأما التوقف فى جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد فلم يكن فى كونها قرآنا، بل فى تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها وفى طولها وقصرها (¬1). وأما ما اختلفت به المصاحف فما كان من الآحاد فليس من القرآن، وما كان متواترا فهو منه. وأما الاختلاف فى التسمية إنما كان فى وضعها فى أول كل سورة لا فى كونها من القرآن كما سيأتى، وما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه من إنكار كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن غير صحيح. قال صاحب فواتح الرحموت (¬2): «قالوا ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا، واستدل بأن القرآن مما تتوافر الدواعى على نقله لتضمنه التحدى، ولأنه أصل الأحكام، فوجوده ملزوم للتواتر عند الكل عادة، فإذا انتفى اللازم- التواتر- انتفى الملزوم قطعا، وما نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه من إنكار الفاتحة والمعوذتين لم يصح». وقال الشيخ النووى رحمه الله (¬3): أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منه شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. وقال ابن حزم رحمه الله (¬4): « .... وكل ما روى عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن فى مصحفه فكذب موضوع لا أصل له» ¬

_ (¬1) البرهان فى أصول الفقه لإمام الحرمين 1/ 666 - 669. (¬2) فواتح الرحموت 2/ 9. (¬3) المجموع 3/ 396. (¬4) المحلى 1/ 13.

قال حجة الإسلام الغزالى بعد أن ذكر موقف الشافعى رحمه الله من البسملة:

موقف العلماء من التسمية: اعتبار التسمية آية من سورة النمل محل اتفاق بين جميع الأمة، والاختلاف فقط منحصر فى اعتبارها آية من القرآن فى أول كل سورة أو عدم اعتبارها على قولين هما: القول الأول: ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها وهو قول الإمام مالك رحمه الله. القول الثانى: أنها آية من كل سورة وهو قول عبد الله بن المبارك والإمام الشافعى رحمهما الله. لكن هل هى آية فى أول كل سورة برأسها أو هى مع أول آية من سائر السور آية؟ فى هذا تردد عن الإمام الشافعى رحمه الله. قال حجة الإسلام (¬1) الغزالى بعد أن ذكر موقف الشافعى رحمه الله من البسملة: « .... وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعى على أنها هل هى آية من القرآن فى أول كل سورة. بل الذى يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهى من القرآن» الأدلة: استدل الإمام مالك رحمه الله على عدم اعتبار البسملة آية بما يلى: عمل أهل المدينة. فالإمام رحمه الله رأى أهل المدينة لا يقرءون بالبسملة فى صلاتهم فى مسجد المدينة، وجرى العمل على ذلك فى الصلاة من أيامه صلى الله عليه وسلم إلى أيام الإمام مالك رحمه الله مع قيام الدليل على وجوب قراءة الفاتحة فى الصلاة. فلو كانت آية من الفاتحة لوجبت قراءتها معها فى الصلاة. وقد قوى ذلك عنده عدة ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 102.

أحاديث يفهم منها أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أوائل السور ومن هذه الأحاديث: ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين (¬1). وعن أنس رضى الله عنه قال: صليت خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين (¬2). ورواه مسلم بلفظ: «لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها» (¬3). هذا هو ما استدل به الإمام رحمه الله على عدم اعتبار البسملة آية من أوائل السور، واحتمل عنده أن تكون كتابتها فى أوائل السور امتثالا للأمر بطلبها والبدء بها فى أوائل الأمور، وهى وإن تواتر كتبها فى أوائل السور فلم يتواتر كونها قرآنا فيها (¬4). واستدل الإمامان ابن المبارك والشافعى على قرآنية البسملة بما يلى: أولا: عن أنس رضى الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة (¬5) ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت علىّ آنفا (¬6) سورة فقرأ: بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (¬7) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الصلاة 1/ 208. (¬2) الحديث متفق عليه: فأخرجه البخارى فى كتاب الأذان 1/ 136. ومسلم فى كتاب الصلاة 1/ 170. (¬3) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 170. (¬4) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 2، 3، وتفسير القرطبى 1/ 81، وتفسير آيات الأحكام 1/ 4، 5. (¬5) الإغفاءة: النوم يقال أغفى بمعنى نام- مختار الصحاح 477. (¬6) الآنف يطلق على أقرب وقت متصل بالكلام- لسان العرب 1/ 152. (¬7) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الصلاة 1/ 171.

قال الشيخ الشوكانى رحمه الله تعالى:

ثانيا: عن أنس رضى الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدّا ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (¬1) ومعنى: «كانت قراءته مدّا» أنه صلى الله عليه وسلم كان يمدّ (الله، والرحمن، والرحيم) ثالثا: أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، ولذلك نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال (¬2): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم (¬3). وذلك يدل على أنها من القرآن حيث أنزلت (¬4). رابعا: أنها كانت تكتب بخطّ القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أول كل سورة. قال الشيخ الشوكانى رحمه الله تعالى (¬5): والحق أنها آية من كل سورة لوجودها فى رسم المصحف، وذلك هو الركن الأعظم فى إثبات القرآنية للقرآن. خامسا: روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما أن ترك بعضهم قراءة التسمية فى أول السورة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطنى فى سننه 1/ 308، والنسائى فى سننه 2/ 179. (¬2) شرح جلال الدين المحلى على جمع الجوامع 1/ 227. (¬3) أخرجه أبو داود فى سننه 1/ 209. (¬4) المستصفى 1/ 103، والإحكام للآمدى 1/ 151. (¬5) إرشاد الفحول 31.

قال الشيخ محمود خطاب السبكى بعد أن ذكر حديث أنس رضى الله عنه:

ولم ينكر عليه منكر فدل على كونها من القرآن فى أول كل سورة. والحجة فيما ذهب إليه الإمام الشافعى رحمه الله، ومن نهج نهجه للأدلة السابقة، ولأن عمل أهل المدينة ليس حجة فالحجة فى إجماع الأمة (¬1) وهم بعضها، وما روى عن أنس وعائشة رضى الله عنهما فمعناه أنهم كانوا لا يقرءون قبل الفاتحة شيئا (¬2). قال الشيخ محمود خطاب السبكى بعد أن ذكر حديث أنس رضى الله عنه (¬3): حديث الباب لا يحتج به لاضطرابه، واختلاف ألفاظه مع تغاير معانيها، لأن أنسا قال فيه مرة: كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين. ومرة قال: ولم أسمعهم يقرءونها. ومرة سئل عن ذلك فقال: نسيت. وعلى تقدير ترجيح بعض ألفاظ هذه الروايات المختلفة على باقيها، وردّ ما خالفها إليها فلا يرجح إلا لفظ حديث الباب- أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين- لأن أكثر الرواة على هذا اللفظ .... وما تقدم فى بعض روايات الحديث من قول أنس: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة، ولا فى آخرها. فالمراد أنهم لا يذكرونها جهرا فى أول الفاتحة، ولا فى أول السورة بعدها، وليس المراد نفى ذكرها البتة لما فى بعض روايات الحديث من أنهم كانوا يسرّون بها. اه. هذا وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله مذهبا وسطا، حيث رأى أن كتابتها فى المصحف تدل على قرآنيتها، ولكن لا تدل على أنها بعض ¬

_ (¬1) البرهان لإمام الحرمين 1/ 720. (¬2) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 3. (¬3) المنهل العذب المورد شرح سنن أبى داود 5/ 199.

قال الشيخ علاء الدين البخارى رحمه الله:

السورة، ومن ثم حكم هو ومن نهج نهجه بأنها آية من القرآن تامة فى غير سورة النمل أنزلت للفصل بين السور. قال الشيخ علاء الدين البخارى رحمه الله (¬1): الصحيح من المذهب أنها من القرآن، ولكنها ليست من كل سورة عندنا، بل هى آية منزلة للفصل بين السور. وقد أجيب عن قولهم إنها آية منزلة للفصل بين السور بما يلى (¬2): أولا: إن هذا تغرير، ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل. ثانيا: لو كانت للفصل بين السور كما تقولون لكتبت فى أول «براءة»، ولما كتبت فى أول الفاتحة. على العموم أجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها، ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه، أو أثبت ما لم يقل به أحد، فإنه يكفر بإجماع. فائدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب فى أوائل الكتب: «باسمك اللهم» حتى نزل قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها (¬3) فكتب «بسم الله» ثم نزل قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (¬4) فكتب فوقه «الرحمن» فنزلت قصة سليمان عليه السلام فى سورة النمل فكتب صلى الله عليه وسلم حينئذ: «بسم الله الرحمن الرحيم» (¬5). ¬

_ (¬1) كشف الأسرار 1/ 23. (¬2) نيل الأوطار للشوكانى 2/ 201، 209. (¬3) سورة هود الآية: 41. (¬4) سورة الإسراء الآية: 110. (¬5) أحكام القرآن للجصاص 1/ 8.

الفصل الثانى فى ترتيب الآيات والسور

الفصل الثانى فى ترتيب الآيات والسور أجمع أهل السنة والجماعة على أن ترتيب الآيات فى المصحف توقيفى لا شبهة فى ذلك، حكى الإجماع الشيخ بدر الدين الزركشى رحمه الله وغيره فقال (¬1): « .... فأما الآيات فى كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفى بلا شك، ولا خلاف فيه ولهذا لا يجوز تعكيسها». ومن الأدلة على أن ترتيب الآيات توقيفى ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى، وإلى براءة وهى من المئين (¬2) فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينها سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها فى السبع الطوال (¬3)؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا، ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن 1/ 256. (¬2) المثانى: ما ولى المئين لأنها ثنتها أى كانت بعدها، وقال الفراء هى السورة التى آيها أقل من مائة لأنها تثنى أكثر مما يثنى الطول. والمئون: هى التى تكون كل سورة فيها تزيد على مائة آية أو تقاربها- الإتقان 1/ 220. (¬3) أولها البقرة وآخرها براءة- المرجع السابق.

وكانت الأنفال من أوائل ما نزل فى المدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها فى السبع الطوال (¬1). فترتيب الآيات فى السور بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما لم يأمر بذلك فى أول براءة تركت بلا بسملة (¬2). وما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد حسن عن عثمان بن أبى العاص قال (¬3): كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص (¬4) ببصره ثم صوّبه (¬5) حتى كاد أن يلزقه بالأرض قال ثم شخص ببصره فقال: أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي ... الآية (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه 1/ 208، 209. (¬2) اختلف العلماء فى السبب وراء عدم ذكر البسملة أول براءة فقيل: لأن البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان، وقيل كان من شأن العرب فى الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه كتبوا لهم كتابا، ولم يكتبوا فيه البسملة، فلما نزلت- براءة- بنقض العهد الذى كان للكفار قرأها عليهم علىّ كرم الله وجهه ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم، وقيل غير ذلك- البرهان 1/ 262 وأحكام القرآن لابن العربى 2/ 892 وتفسير البيضاوى 246. (¬3) أخرجه أحمد فى مسنده 4/ 218. (¬4) شخص بصره من باب خضع فهو شاخص إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف- المختار 331. (¬5) صوب النظر بمعنى خفضه- لسان العرب 3/ 2519. (¬6) سورة النحل الآية: 9.

وقال ابن الحصار:

وقال ابن الحصار (¬1): ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ضعوا آية كذا فى موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا فى المصحف. وأما ترتيب السور على ما هو عليه الآن فى المصحف فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب هى: المذهب الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن كان باجتهاد من الصحابة. نسب هذا القول إلى الجمهور الشيخ جلال الدين السيوطى ومن نهج نهجه (¬2). وتتلخص وجهة نظر هذا المذهب فى أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة فى ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن فى عهد الخليفة عثمان رضى الله عنه، ومن ثم لو كان الترتيب توقيفيّا منقولا عن النبى صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه، ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذى تصوّره لنا الروايات: فمصحف أبىّ بن كعب رضى الله عنه كان مبدوءا بالفاتحة، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام. ومصحف ابن مسعود رضى الله عنه كان مبدوءا بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران. ومصحف الإمام على كرم الله وجهه كان مرتبا على النزول فأوله: اقرأ، ثم المدثر، ثم ق، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكى والمدنى (¬3). ¬

_ (¬1) هو على بن محمد بن إبراهيم الخزرجى توفى رحمه الله سنة 611 هـ- التكملة لابن الأبار 686. (¬2) الإتقان 1/ 216، ومناهل العرفان 1/ 346. (¬3) مناهل العرفان 1/ 246.

المذهب الثانى:

المذهب الثانى: أن ترتيب السور كلها توقيفى كترتيب الآيات. قال صاحب فواتح الرحموت (¬1): .... بقى أمر ترتيب السور فالمحققون على أنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم اه. ووجهة نظر أصحاب هذا المذهب: أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على المصحف الذى كتب فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه، ولم يخالف منهم أحد، وهذا الإجماع لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذى أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المذاهب المخالفة بمخالفتهم. قال الشيخ أبو بكر الأنبارى رحمه الله (¬2): أنزل الله عز وجل القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرقه فى بضع وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمر ينزل والآية جوابا لمستخبر، ويوقف جبريل عليه السلام النبى صلى الله عليه وسلم على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كان عن النبى صلى الله عليه وسلم، فمن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن. اه. وقال الشيخ بدر الدين الزركشى رحمه الله بعد أن ذكر المذهبين (¬3): « .... والخلاف يرجع إلى اللفظ» ثم علّل هذا بأن القائلين بأن الترتيب كان بفعل الصحابة غرضهم أنه صلى الله عليه وسلم رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله، ومواقع كلماته فمآل الخلاف إذا: هل هذا الترتيب كان بتوقيف قوليّ أو بمجرد استناد فعلىّ؟ ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت 2/ 12. (¬2) أسرار التكرار فى القرآن 23، وأسرار ترتيب القرآن 68. (¬3) البرهان 1/ 257.

المذهب الثالث:

المذهب الثالث: أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها فى حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وما سوى ذلك يمكن أن يكون فوّض الأمر فيه إلى الأمة بعده. على أنه يجب احترام ترتيب سور المصحف، لأنه عن إجماع الصحابة، ولأن القول بخلافه يجرّ إلى الفتنة، ودرء الفتنة واجب. تذييل: الناظر فى ترتيب المصحف يدرك أنه توقيفى لأن هناك أسبابا تدل عليه: الأول: بحسب الحروف كما فى الحواميم، وذوات [الر]. الثّانى: لموافقة آخر السورة لأول ما بعدها كآخر الحمد فى المعنى، وأول البقرة. الثالث: الوزن فى اللفظ كآخر: تبت، وأول: الإخلاص. الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى: كالضحى، وأ لم نشرح. قال بعض العلماء: سورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه فى دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها. فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، وخطاب الله اليهود فى البقرة أكثر، كما أن خطاب النصارى فى آل عمران أكثر، لأن التوراة أصل، والإنجيل فرع لها والنبى صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى فى آخر الأمر، وأما سورة النساء فتتضمن جميع أحكام الأسباب التى بين الناس، وهى نوعان: مخلوقة لله تعالى، ومقدورة لهم كالنسب والصهر، ولهذا فتحها الله عز وجل بقوله:

قال الشيخ الزركشى رحمه الله:

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ (¬1) وبين الذين يتعاهدون ويتعاقدون فيما بينهم، وما تعلق بذلك من أحكام الأموال والفروج والمواريث، وأما سورة المائدة فسورة العقود وبهن تمام الشرائع. قالوا: وبها تم الدين فهى سورة التكميل. قال الشيخ الزركشى رحمه الله (¬2): وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة من أحسن الترتيب، وهو ترتيب المصحف العثمانى .... وإنما لم يكتب فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضى إلى تغييره كل وقت. فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم فكتب أبو بكر والصحابة بعده، ثم نسخ عثمان المصاحف التى بعث بها إلى الأمصار. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 1. (¬2) البرهان فى علوم القرآن 1/ 262

الفصل الثالث فى اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية

الفصل الثالث فى اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية نزل القرآن بلفظه ومعناه عربيا قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬1) وقد اتفق العلماء على أن الأعلام الأعجمية واقعة فيه. قال الإمام القرطبى رحمه الله (¬2): لا خلاف بين الأئمة أنه ليس فى القرآن الكريم كلام مركب على أساليب غير العرب، وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب: كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط. اه وقال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله (¬3): ولا خلاف فى وقوع العلم الأعجمى فى القرآن كإبراهيم وإسماعيل اه. وقال الشيخ الشوكانى رحمه الله (¬4): وقد أجمع أهل العربية على أن العجمة علة من العلل المانعة للصرف فى كثير من الأسماء الموجودة فى القرآن. اه. والخلاف بين العلماء إنما هو فى غير الأعلام: ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 2. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 59. (¬3) شرح الجلال على جمع الجوامع 1/ 326. (¬4) إرشاد الفحول 32.

قال الإمام الشافعى رحمه الله:

فذهب جمهور العلماء منهم الإمام الشافعى، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومحمد بن جرير الطبرى، والقاضى أبو بكر الطيب وأبو الحسين بن فارس اللغوى إلى القول بأنه ليس فى القرآن شىء غير العربية (¬1). قال الإمام الشافعى رحمه الله (¬2): ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله تعالى إنما نزل بلسان العرب. ثم قال رحمه الله: وقد تكلم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن فى القرآن عربيّا وأعجميّا، والقرآن يدل على أنه ليس من كتاب الله شىء إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له، وتركا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن فى القرآن غير لسان العرب وقبل ذلك منه ذهب إلى أن من القرآن خاصا يجهل بعضه العرب. ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبى، ولكنه لا يذهب منه شىء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه. والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شىء. فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 105، والأحكام 1/ 47، وشرح العضد 1/ 170، وشرح الجلال المحلى 1/ 326، والتبصرة فى أصول الفقه 180. (¬2) الرسالة 40 - 44

وقال أبو عبيدة رحمه الله:

موجودا عند غيره. وهم فى العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره. وليس قليل ما ذهب من السنن من جمع أكثرها دليلا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبى هو وأمى فيتفرّد جملة العلماء بجمعها وهم درجات فيما وعوا منها. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها: لا يذهب منه شىء عليها ولا يطلب عند غيرها. اه. وهذا الذى قاله الإمام رضى الله عنه يدل على نظر ثاقب، واطلاع واسع، وبصيرة نيّرة وقوة إدراك. وقال أبو عبيدة رحمه الله (¬1): إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول. اه. وقد استدل أصحاب هذا المذهب بما يلى: أولا: قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬2) وقال جل شأنه: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ (¬3) وقال سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (¬4) ¬

_ (¬1) الإتقان 2/ 125. (¬2) سورة يوسف الآية: 2. (¬3) سورة فصلت الآية: 44 (¬4) سورة النحل الآية: 103.

وقد استدلوا عليه بما يلى:

فهذه الآيات الكريمة تدل على أنه ليس فيه غير العربى (¬1). ثانيا: أن الله عز وجل جعل القرآن معجزة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودلالة صدقه ليتحداهم به، فلو كان فيه غير العربى لما صح، التحدى به، لأن الكفار يجدون إلى ردّه طريقا بأن يقولوا إن فيما أتيت به غير العربى، ونحن لا نقدر على كلام بعضه عربى وبعضه عجمى، وإنما نقدر على معارضة العربى المحض (¬2). وذهب بعض المتكلمين إلى القول بأن فى القرآن الكريم كلمات بغير العربية. ونسب الآمدى (¬3) هذا القول إلى ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهم. وقد استدلوا عليه بما يلى: أولا: إن القرآن الكريم مشتمل على ألفاظ بغير العربية كالمشكاة [كوة بالهندية] والسجيل والإستبرق بالفارسية، وفيه ما لا يعرفه العرب وهو الأبّ فى قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (¬4) فدل على أن فيه غير العربى. والجواب: لا نسلم أن فى القرآن كلمات غير عربية، بل كل الموجود بلغة العرب وإنما وافقتها الفرس والهند فى النطق بها كما وافقوا فى كثير من كلامهم فيقولون: حراج مكان سراج، والشراويل مكان السراويل، والفرس يقولون فى السماء اسمان وفى الجبال أوجبا وغير ذلك من الأسماء. والذى يدل عليه هو أن الله تعالى أضاف ذلك إليهم فدل على أنهم سبقوا إلى ذلك وتبعهم الفرس والهند. قال ابن جرير الطبرى رحمه الله (¬5): ما ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره من تفسير ألفاظ من ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 105، والتبصرة 181. (¬2) المحض هو الخالص- مختار الصحاح 616. (¬3) الإحكام 1/ 47. (¬4) سورة عبس الآية: 31. (¬5) الإتقان 2/ 125.

القرآن، إنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد. اه. وقولهم: إن فى القرآن ما لا تعرفه العرب، وهو الأبّ غلط، فإن الأبّ الحشيش. فليس إذا لم يعرفه بعضهم خرج أن يكون ذلك لغة العرب، لأن لغة العرب أوسع اللغات فيجوز أن يخفى بعضها على بعض لكثرتها (¬1). وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال (¬2): ما كنت أدرى معنى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (¬3) حتى سمعت امرأة من العرب تقول: أنا فطرته أى ابتدأته. ثانيا: أن النبى صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الناس كافة» (¬5) فيجب أن يكون كتابه جامعا للغة الكل ليتحقق خطابه للكل إعجازا وبيانا، أضف إلى ذلك: أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يدّع أنه كلامه، بل كلام الله تعالى رب العالمين، المحيط بجميع اللغات، فلا يكون تكلمه باللغات المختلفة منكرا. غايته أنه لا يكون مفهوما للعرب، وليس ذلك بدعا بدليل تضمنه للآيات المتشابهات والحروف المعجمة فى أوائل السور. وقد أجيب عن هذا: بأنه يقتضى أن يكون فيه من جميع اللغات ¬

_ (¬1) التبصرة 182. (¬2) الإحكام 1/ 48. (¬3) سورة فاطر الآية: 1. (¬4) سورة الأعراف الآية: 158. (¬5) الجامع الصغير للسيوطى 1/ 126.

من الزنجية والتركية والرومية، وفى إجماعنا على خلاف هذا دليل على بطلان ما قالوه. ولأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون فيه من هذه اللغات قدرا يعلم به المراد، ويقع به التبليغ، فأما هذه الكلمات الشاذة فلم يعلم بها شىء ولا يقع بها بيان، ولأنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة إلا أن القصد إعجاز العرب، فإنهم أهل اللسان والفصاحة والبيان، فإذا ظهر عجزهم عن الإتيان بمثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز وثبت صدقه فى حق الجميع. وعلى هذا الترتيب أجرى الله تعالى أمر معجزات الأنبياء، فبعث موسى عليه السلام إلى أحذق (¬1) الناس بالسحر فى زمان كانوا يدعون السحر، فجعل معجزته من جنس ما يدعونه حتى إذا عجزوا عن مثله دل على أن غيرهم أعجز. وبعث عيسى عليه السلام فى زمن الأطباء، وجعل معجزته من جنس ما يتعاطونه، حتى إذا اعترفوا بالعجز عن مثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز. فكذلك هاهنا لما كانت العرب فى ذلك الزمان أفصح الناس لسانا، وأحسنهم بيانا جعل المعجزة من جنس ما كانوا يدعونه ليكون ذلك أظهر فى الإعجاز وأبين فى الدليل. هذا وبعد ذكر آراء العلماء فى هذه المسألة يتضح لنا جليّا قوة ما ذهب إليه الجمهور للأدلة التى استدل بها وسلامتها مما يعارضها. والعرب لا شك من أقدم الأمم ولغتهم من أقدم اللغات وقد اختلطوا بغيرهم كثيرا. وكان الرومان يستأجرون منهم الجنود والعساكر لما عرفوا ¬

_ (¬1) أحذق الناس بالسحر أى أمهرهم يقال حذق الصبى القرآن والعمل إذا مهر وبابه ضرب- مختار الصحاح 127.

يقول رحمه الله:

به من قوة وشجاعة، وقد استولوا على مصر قديما فى الحملة المعروفة بحملة الهكسوس سنة 2000 ق م، واستطاعت العربية أن تؤثر فى القبط الآرميين (¬1). والكلمات التى جاءت فى القرآن وتستعمل فى بعض اللغات الأخرى عربية الأصل وليست معربة (¬2) - كما يقول البعض- وما قاله الإمام الشافعى فى هذه النقطة ليس بعده قول. يقول رحمه الله (¬3): وكان مما عرّف الله نبيه صلى الله عليه وسلم من إنعامه أن قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (¬4) فخص قومه بالذكر معه بكتابه. وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (¬5) وقال: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (¬6) وأم القرى مكة، وهى بلدة وبلد قومه، فجعلهم فى كتابه خاصة وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربى: لسان قومه منهم خاصة، فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. اه. ¬

_ (¬1) أصول الفقه للدكتور سلام مدكور 102، 103. (¬2) المعرب هو ما كان موضوعا لمعنى عند غير العرب، ثم استعملته العرب فى ذلك المعنى كإسماعيل- إرشاد الفحول 32. (¬3) الرسالة 48. (¬4) سورة الزخرف الآية: 44. (¬5) سورة الشعراء الآية: 214. (¬6) سورة الشورى الآية: 7.

فما دام القرآن كله عربيّا، فالواجب على كل مسلم أن يتعلم من لغة القرآن ما يؤدى به شعائر الإسلام. وعلى هذا فالثمرة المترتبة على الحكم بأنه عربى كله، أن القرآن الكريم وقد نزل بلسان العرب- كما تقدم- فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬1) وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬2) إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربى، وبلسان العرب، لا أنه أعجمى ولا بلسان العجم. فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 2. (¬2) سورة الشعراء الآية: 195. (¬3) الموافقات 2/ 64.

الفصل الرابع فى ترجمة القرآن

الفصل الرابع فى ترجمة القرآن أهمية الكلام عن حكم ترجمة القرآن: لا يشك عاقل فى أن الكلام عن ترجمة القرآن جدّ خطير لأمور هى: 1 - دقته وغموضه، الأمر الذى جعل العلماء يختلفون فيه قديما وحديثا. 2 - قام الكثير من الناس بنقل القرآن إلى لغات كثيرة، وترجمات متعددة، بلغت مائة وعشرين ترجمة فى خمس وثلاثين لغة، وتكرر طبع هذه الترجمات حتى ارن ترجمة واحدة هى ترجمة جورج سيل الإنجليزى طبعت أربعا وثلاثين مرة (¬1). وأوفر هذه الترجمات وأكثرها طبعا هى الترجمات الإنجليزية فالفرنسية فالألمانية فالإيطالية. وهناك خمس ترجمات فى كل من اللغتين: الفارسية والتركية، وأربع ترجمات باللغة الصينية، وثلاث باللاتينية، واثنتان بالأفغانية، وواحدة بالجاوية، وأخرى بالأوردية وإذا كان هناك من يحمل للإسلام عداوة ظاهرة من الذين ترجموه فإن منهم من يكن له كل حب وتقدير ولكنه جاهل به. 3 - لم تسلم هذه الترجمات من وقوع أخطاء جسيمة بها كانت معولا (¬2) فى يد أعداء الإسلام للنيل منه. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 2/ 3. (¬2) المعول: الفأس العظيمة التى ينقى بها الصخر والجمع (المعاول) - مختار الصحاح 463.

مدلول الترجمة:

وبعد: فهذه الأمور الثلاثة المذكورة تجعل كل غيور على الإسلام أن يكون يقظا ذكيّا فطنا لكل ما يدور حوله، وأن يبذل قصارى جهده للدفاع عن القرآن، وأن يرفع سيفه ويظهر غضبه فى وجه كل من يحاول أن يغير أو يبدل حرفا فى القرآن. مدلول الترجمة: وضعت كلمة ترجمة فى اللغة لتدل على معنى من معانى أربعة هى: 1 - تبليغ الكلام لمن لم يبلغه. 2 - تفسير الكلام بلغته التى جاء بها، ومنه قيل لابن عباس رضى الله عنهما: إنه ترجمان القرآن. 3 - تفسير الكلام بلغة غير لغته. قال ابن منظور رحمه الله (¬1): الترجمان بالضم والفتح: المفسر للسان. 4 - نقل الكلام من لغة إلى أخرى. قال ابن منظور رحمه الله (¬2): الترجمان بالضم والفتح هو الذى يترجم الكلام، أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى والجمع التراجم والتاء والنون زائدتان وقد ترجمه وترجم عنه. اه. الترجمة فى عرف التخاطب العام: خص العرف الترجمة بالمعنى اللغوى الأخير، وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى وعرفها فقال: هى التعبير عن معنى كلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب 1/ 426. (¬2) المصدر السابق. (¬3) مناهل العرفان 2/ 7.

شرح التعريف:

شرح التعريف: كلمة: (التعبير) جنس فى التعريف يندرج تحته كل تعبير، سواء كان تعبيرا عن المعنى القائم بالنفس، أو تعبيرا عن المعنى بالكلام الأول نفسه أو تعبيرا بمرادف مكان مرادفه ونحو ذلك. وقولهم: (عن معنى كلام) قيد أول فى التعريف يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج فى صورة اللفظ أول مرة. وقولهم: (بكلام آخر) قيد ثان يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه ولو تكرر ألف مرة. وقولهم: (من لغة أخرى) يخرج به التفسير بلغة الأصل، والتعبير بمرادف مكان مرادفه أو بكلام بدل آخر مساو له على وجه لا تفسير فيه واللغة واحدة فى الجميع. وقولهم: (مع الوفاء بجميع معانى الأصل ومقاصده) يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته. فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معانى الأصل المفسر ومقاصده. بل يكفى فيه البيان ولو من وجه. تقسيم الترجمة: الترجمة قسمان: (أ) ترجمة حرفية. (ب) ترجمة تفسيرية أو معنوية. فالترجمة الحرفية: هى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب والمحافظة على جميع معانى الأصل المترجم. ومن هنا قال العلماء إن الترجمة تتوقف على ما يلى:

قال الشيخ محمد حسين الذهبى رحمه الله:

أولا: معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة. ثانيا: معرفته لأساليبهما وخصائصهما. ثالثا: وفاء الترجمة بجميع معانى الأصل ومقاصده على وجه مطمئن. رابعا: أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل بحيث يمكن أن يستغنى بها عنه وأن تحلّ محلّه كأنه لا أصل هناك ولا فرع. خامسا: وجود مفردات فى لغة الترجمة مساوية للمفردات التى تألّف منها الأصل حتى يمكن أن يحلّ كل فرد من الترجمة محلّ نظيره من الأصل. سادسا: تشابه اللغتين فى الضمائر المستترة، والروابط التى تربط المفردات لتأليف التراكيب. والترجمة الحرفية للقرآن نوعان: (أ) ترجمة بالمثل. (ب) ترجمة بغير المثل. فالترجمة الحرفية بالمثل معناها: أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذوا بحذو، بحيث تحلّ مفردات الترجمة محلّ مفرداته، وأسلوبها محلّ أسلوبه حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعانى المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية: قال الشيخ محمد حسين الذهبى رحمه الله (¬1): وهذا غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز، وذلك لأن القرآن نزل لغرضين أساسين: أولهما: كونه آية دالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون لفضيلته 1/ 24، 25.

يبلغه عن ربه، وذلك بكونه معجزا للبشر لا يقدرون على الإتيان بسورة مثله، ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك. وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم فى دنياهم وأخراهم. أما الغرض الأول: وهو كونه آية على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فلا يمكن تأديته بالترجمة اتفاقا، فإن القرآن- وإن كان الإعجاز فى جملته لعدة معان كالإخبار بالغيب واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل وغير ذلك مما عدّ من وجوه إعجازه- إنما يدور الإعجاز السارى فى كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معينة، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقا. فإن اللغات الراقية وإن كان لها بلاغة، ولكن لكل لغة خواصها لا يشاركها فيها غيرها من اللغات، وإذا فلو ترجم القرآن ترجمة حرفية- وهذا محال- لضاعت خواص القرآن البلاغية، ولنزل من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر، ولفات هذا المقصد العظيم الذى نزل القرآن من أجله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الغرض الثانى: وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم فى الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه. وهذا يرجع بعضه إلى المعانى الأصلية التى يشترك فى تفاهمها وأدائها كل الناس وتقوى عليها جميع اللغات. وهذا النوع من المعانى يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعانى الثانوية، ونجد هذا كثيرا فى استنباطات الأئمة المجتهدين .... ومما تقدم يعلم: أن الترجمة الحرفية للقرآن لا يمكن أن تقوم مقام الأصل فى تحصيل كل ما يقصد منه لما يترتب عليها من ضياع الغرض الأول برمته وفوات شطر من الغرض الثانى.

ومن أمثلة الترجمة الحرفية على فرض إمكانها:

وأما الترجمة الحرفية بغير المثل: فمعناها أن يترجم نظم القرآن حذوا بحذو بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته. وهذا أمر ممكن وهو وإن جاز فى كلام البشر لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز، لأن فيه من فاعله إهدارا لنظم القرآن وإخلالا بمعناه وانتهاكا لحرمته فضلا عن كونه فعلا لا تدعو إليه ضرورة. اه. ومن أمثلة الترجمة الحرفية على فرض إمكانها: قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (¬1) فلو أراد إنسان أن يترجم هذه الآية ترجمة حرفية فإنه يأتى بكلام من لغة الترجمة يدل على النهى عن ربط اليد فى العنق، وعن مدها غاية المد، مع رعاية ترتيب الأصل ونظامه، بأن تأتى بأداة النهى أولا، يليها الفعل المنهى عنه متصلا بمفعوله ومضمرا فيه فاعله. لكن هذا التعبير الجديد قد يخرج فى أسلوب غير معروف ولا مألوف فى تفهيم المترجم، أهم ما يرمى إليه الأصل من النهى عن التقتير والتبذير، بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذى صيغ به هذا النهى ويقولون: ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق وعن مدها غاية المد؟ وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع. قال الشيخ الزرقانى رحمه الله (¬2): قال بعضهم: إن الترجمة الحرفية مستحيلة. وقال آخرون: إنها ممكنة فى بعض الكلام دون بعض. ولقد علمت بأنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود كما مرّ فى المثال السابق اه. وأما الترجمة التفسيرية فمعناها: شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع ¬

_ (¬1) سورة الاسراء الآية: 29. (¬2) مناهل العرفان 2/ 8، 10.

ومن أمثلة الترجمة التفسيرية على فرض إمكانها:

معانيه المرادة منه. وذلك بأن نفهم المعنى الذى يراد من الأصل ثم نأتى له بتركيب من اللغة المترجم إليها يؤديه على وفق الغرض الذى سبق له. ومن أمثلة الترجمة التفسيرية على فرض إمكانها: فى الآية السابقة- آية النهى عن التقتير والإسراف- لو أراد الإنسان أن يترجمها ترجمة تفسيرية فإنه يأتى بالنهى عن التبذير والتقتير مصورين بصورة شنيعة ينفر منها الإنسان حسبما يناسب أسلوب اللغة المترجم إليها، ويناسب إلف من يتكلم بها. ومن هنا يتضح أن الغرض الذى أراده الله تعالى من هذه الآية يكون مفهوما بكل سهولة ووضوح فى الترجمة التفسيرية دون الترجمة الحرفية. حكم ترجمة القرآن: يلاحظ أنى ذكرت للترجمة أربعة معان لغوية هى: 1 - تبليغ الكلام لمن لم يبلغه. 2 - تفسير الكلام بلغته التى جاء بها. 3 - تفسير الكلام بلغة غير لغته. 4 - نقل الكلام من لغة إلى أخرى. والظاهر- والله أعلم- أن ترجمة القرآن بالمعانى الثلاثة الأولى لا شىء فيها، فمن حيث المعنى الأولى تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ويسمعه الجميع الأولياء والأعداء عملا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (¬1) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 67.

والدليل على استحالتها عادة ما يلى:

ومن حيث المعنى الثانى نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين القرآن وفسره بسنته المطهرة وكيف لا؟ وقد أنزل الله عليه قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1) وها هى المكتبات الإسلامية فى كل البلاد مملوءة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم. وأما من حيث المعنى الثالث وهو تفسير القرآن بلغة غير لغته، نجد أنه يجرى فى حكمه مجرى تفسيره بلسان عربى لمن يحسن العربية، فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه. أما ترجمة القرآن بالمعنى الرابع يعنى ترجمته أى نقله من لغة إلى لغة أخرى، والتى يلاحظ فيها التعبير عن معانى ألفاظه العربية، ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعانى والمقاصد، فهى مستحيلة عادة وشرعا، فالعادة تحيل إمكان وقوعها، والشرع يمنع محاولتها. والدليل على استحالتها عادة ما يلى: أولا: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال، وكل ما يستلزم المحال محال. والدليل على أنها تستلزم المحال: أنه لا بدّ فى تحققها من الوفاء بجميع معانى القرآن، وبجميع مقاصده وكلا هذين مستحيل. أما الأول: فلأن المعانى الثانوية للقرآن مدلولة لخصائصه العليا التى هى مناط بلاغته وإعجازه، وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها فى كلام له وإلا لما تحقق هذا الإعجاز. وأما الثانى: فلأن القصد الأول للقرآن- وهو كونه هداية- إن ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 44.

أمكن تحقيقه فى الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معانى القرآن الأصلية، فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معانى القرآن التابعة، لأنها مدلولة لخصائصه العليا التى هى مناط إعجازه البلاغى. وكذلك مقصد القرآن الثانى وهو كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيّا كان أو عجميّا وإلا لما صح أن يكون آية خارقة حين تناول هذا المقصد قدرة البشر. ويجرى هذا المجرى مقصد القرآن الثالث وهو كونه متعبدا بتلاوته، فإنه لا يمكن أن يتحقق فى الترجمة لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا، والتعبد بالتلاوة إنما ورد فى خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباته نفسها دون أى ألفاظ أو أساليب أخرى، ولو كانت عربية مرادفة لألفاظ الأصل وأساليبه. ثانيا: أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن، وكل مثل للقرآن مستحيل. أما أنها مثل للقرآن فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده، والجامع لمعانى القرآن ومقاصده مثل له. وأما أن كل مثل للقرآن مستحيل فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة، وهم يومئذ أهل البلاغة والبيان وأحرص ما يكونون على الفوز فى هذا الميدان. وإذا كان هؤلاء قد عجزوا فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وفصاحة أشد عجزا، وكيف لا يقال: إن الترجمة بهذا المعنى مستحيلة، ولا بد فيها من الأمور الستة التى ذكرتها عند الكلام على تقسيم الترجمة؟ وقد قلت إن الترجمة الحرفية لا بدّ فيها من أمرين هما: 1 - وجود مفردات فى لغة الترجمة مساوية لمفردات القرآن. 2 - تشابه اللغتين فى الضمائر المستترة والروابط التى تربط المفردات لتأليف التراكيب. وهذان الأمران يجعلان الترجمة أكثر استحالة.

ومن الأدلة على استحالة الترجمة شرعا ما يلى:

ومن الأدلة على استحالة الترجمة شرعا ما يلى: 1 - أن طلب المستحيل العادى حرمه الإسلام أيّا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة، وذلك لأنه ضرب من العبث، وتضييع للوقت من غير فائدة ولا ثمرة. قال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار». (¬2). 2 - إن محاولة هذه الترجمة تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب الله عز وجل مكتفين ببدل أو أبدال يزعمون أنها ترجمات له. ولا يشك عاقل فى أنه بمرور الزمن سيذهب عنها اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن علما عليها ويقال: هذا قرآن بالإنجليزية، وذاك بالفرنسية ونحو ذلك، فلو ذهبنا إلى القول بجواز هذه الترجمة لدعا ذلك كل قطر من الأقطار أن يكون له قرآن من هذا الطراز، ولا شك فى حرمة هذا لأنه يؤدى إلى صرف الناس عن كتاب الله، وإلى تفرقهم عنه وضلالهم فى مسماه. 3 - لو جوزنا هذه الترجمة ووصل الأمر إلى حدّ يستغنى الناس عن القرآن بترجماته لتعرض الأصل العربى للضياع، كما ضاع الأصل العبرى للتوراة والإنجيل، ولا ريب فى أن ضياع الأصل العربى نكبة كبرى تغرى النفوس على التلاعب بدين الله تبديلا وتحريفا (¬3). ومن هنا يجب القول بتحريم كل عمل يعرّض الدين للتغيير والتبديل. هذا وقد يعترض معترض ويقول: كيف تقولون باستحالة الترجمة شرعا، وقد روى أن أهل فارس ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 195. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه 2/ 784. (¬3) مناهل العرفان 2/ 27 - 45.

والجواب عن هذا من وجوه:

كتبوا إلى سلمان الفارسى رضى الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب لهم «بسم الله الرحمن الرحيم- بنام يزدان بخشايند» فكانوا يقرءون ذلك الصلاة حتى لانت ألسنتهم وبعد ما كتب عرضه على النبى صلى الله عليه وسلم (¬1)؟. والجواب عن هذا من وجوه: أولها: أن هذا خبر مجهول الأصل لا يعرف له سند فلا يجوز العمل به. ثانيها: لو كان هذا الخبر ثابتا لنقل وتواتر لأنه مما تتوافر الدواعى على نقله وتواتره. ثالثها: أن هذا الخبر قد وقع فيه اختلاف بالزيادة والنقص، وذلك موجب لاضطرابه وردّه والدليل على هذا الاضطراب أن الإمام النووى (¬2) رحمه الله قد نقله بلفظ آخر نصه: عن سلمان الفارسى رضى الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية اه. والمتأمل يجد مخالفة واضحة بين الروايتين فالرواية الثانية نصت على أنه رضى الله عنه ترجم لهم الفاتحة ولم تذكر العرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرواية الأولى ذكرت بعض البسملة، ونصت على العرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم. رابعها: أن هذه الرواية على فرض صحتها معارضة للأدلة القاطعة السابقة التى تدل على استحالة الترجمة وحرمتها، ولا شك أن معارض القطعى ساقط. خامسها: أن هذه الرواية تحمل فى نفسها دليل الضعف، حيث ¬

_ (¬1) المبسوط 1/ 37. (¬2) المجموع 3/ 380.

والجواب من وجوه:

إنهم سألوه أن يكتب لهم ترجمة فاتحة الكتاب، فلم يكتبها لهم، وكتب ترجمة البسملة. فلو كانت الترجمة ممكنة شرعا لأجابهم إلى ما طلبوا وإلا كان آثما. سادسها: المتأمل فى هذا الخبر يدرك أن البسملة ذاتها لم تترجم لهم كاملة لأن هذه الألفاظ التى ساقتها الرواية على أنها ترجمة للبسملة لم يؤت فيها بلفظ مقابل للفظ (الرحمن) وكأن ذلك لعجز اللغة الفارسية عن وجود نظير فيها لهذا الاسم الكريم. وهذا دليل على أن المراد بالترجمة هنا الترجمة اللغوية لا العرفية وذلك على فرض ثبوت الرواية (¬1). فإن قيل: إذا كانت الترجمة حراما فكيف نبلغ هداية القرآن إلى الأمم الأخرى وهو واجب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العالم كله؟ والجواب من وجوه: أولا: إن تبليغ الأمم الأجنبية هداية القرآن لا يتوقف على ترجمته لهم ترجمة حرفية، بل يمكن أن يحصل بترجمته على المعنى اللغوى السابق، وهو تفسير القرآن لهم باللغة التى يفهمونها. ثانيا: مما تقدم يعلم أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية مستحيلة، والله عز وجل لا يكلفنا بالمستحيل. قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬2) ثالثا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ هذه الترجمة وسيلة إلى تبليغ الأجانب، مع أنه قد دعا العرب والعجم، وكاتب كسرى وقيصر، وراسل المقوقس والنجاشى، وكانت جميع كتبه لهم عربية العبارة ليس فيها آية واحدة مترجمة فضلا عن ترجمة القرآن كله. وهؤلاء الملوك ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 2/ 55. (¬2) سورة البقرة الآية: 286.

يقول المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة:

قد يدعون تراجم يفسرونها لهم، وقد يسألون من يتصل بهم عن تعاليم الإسلام وصفات النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم. يقول المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة (¬1): .. وأما بالنسبة لغير المسلمين الذين يريدون أن يعرفوا ما فى القرآن، ونحن نقرر أن من الصدّ عن سبيل الله تعالى إلا نطلعهم على ما فى القرآن من تكليف وعظات وإرشاد، ولكن السبيل إلى ذلك ليس ترجمة القرآن ذاته، فإن ذلك متعذر لأن القرآن له معان رائعة تختلف فى إدراكها على الوجه الأكمل للعقول، وكل عقل يدرك منها بمقدار ثقافته، وما يدلى به من حبال المعرفة وطاقة الفهم. وإنما السبيل هو الاتجاه إلى أحد أمرين: إما بيان المعانى الأصلية التى اشتمل عليها القرآن: مبينة بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم، وبذلك يعرفون حقائق الإسلام ويستضيئون بنور القرآن. والاتجاه الثانى: أن يفسر القرآن تفسيرا موجزا مختصرا موضحا لمعانى الآيات، وأن يتولى كتابة هذا التفسير جماعة علمية معروفة بأنها من أهل الذكر، ويذكر التفسير منسوبا إليهم، ومسمى بأسمائهم، مضافا إليها، ويترجم ذلك التفسير على أنه ترجمة تفسير فلان وفلان، وأن نحتاط عند النشر ذلك الاحتياط لكيلا يفهم أحد أن هذه الترجمة هى القرآن، أو هى معانى القرآن، بل يشار إلى أنها ترجمة لمعانى القرآن على ما ذكره وفهمه أولئك المفسرون. فإن معانى القرآن على الحقيقة لا يعلمها كاملة إلا منزل القرآن ومن نزل عليه الفرقان، ومن بعد يدرك كل عالم بمقدار طاقته اه. ¬

_ (¬1) القرآن المعجزة الكبرى 579، 590.

حكم قراءة الترجمة والصلاة بها:

حكم قراءة الترجمة والصلاة بها: الحق أنه لولا وجود خلاف فى بعض نقول المذهب الحنفى لقلت: إن هناك إجماعا على منع قراءة ترجمة القرآن بأى لغة سواء كانت قراءة هذه الترجمة فى الصلاة أو خارجها. وإليك بعض أقوال فقهاء المذاهب فى هذا الأمر: أولا: مذهب الحنفية: ذكر فى كتب السادة الحنفية أن الإمام الأعظم رحمه الله كان يرى جواز القراءة بالفارسية فى الصلاة بغير عذر، وقد خالف فى ذلك رأى الصاحبين محمد وأبى يوسف رحمهما الله، حيث قالا بعدم جواز القراءة بغير العربية إلا عند العجز عنها. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (¬1) والعجم لا يعقلون الإنذار إلا بترجمته. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (¬2). والحق أن ما استدل به الإمام لا يسعفه فيما ساقه إليه، فالإنذار المذكور فى الآية الكريمة يحصل وإن نقل إليهم معناه. كما أن السبعة أحرف المذكورة فى الحديث قيل: المراد بها سبع لغات للعرب، والحديث يدل على أنه لا يتجاوز هذه السبعة، وهو يقولون: يجوز بكل لسان ومعلوم أنها تزيد على سبعة. وتذكر كتب الحنفية أن الإمام الأعظم رجع عن قوله إلى قول صاحبيه. جاء فى شرح الدر المختار (¬3): وعلى هذا الخلاف الخطبة وجميع أذكار الصلاة. وأما ما ذكره بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 19. (¬2) أخرجه الترمذى فى سننه 5/ 194. (¬3). 1/ 84 تأليف محمد علاء الدين الحصكفى المتوفى سنة 1088 هـ ط: صبيح.

وجاء فى كشف الأسرار:

أو آمن أو لبى أو سلم أو سمّى عند ذبح أو شهد عند حاكم، أورد سلاما ولم أر لو شمت عاطسا أو قرأ بها عاجزا فجائز إجماعا- قيد القراءة بالعجز لأن الأصح رجوعه إلى قولهما وعليه الفتوى اه. وجاء فى كشف الأسرار (¬1): وقد صح رجوعه إلى قول العامة رواه نوح بن أبى مريم اه. وذكر صاحب البدائع (¬2): وإذا لم يحسن العربية يسبح ويهلل عنده ولا يقرأ بالفارسية. ثانيا: مذهب المالكية: جاء فى المدونة (¬3): سألت ابن القاسم عمن افتتح الصلاة بالأعجمية وهو لا يعرف العربية: ما قول مالك فيه؟ فقال: سئل مالك عن الرجل يحلف بالعجمية فكره ذلك وقال: أما يقرأ؟ أما يصلى؟ إنكارا لذلك. وجاء فى حاشية الدسوقى (¬4): لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية، بل لا يجوز التكبير فى الصلاة بغيرها ولا بمرادفه من العربية، فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها، فإن أمكنه الائتمام ولم يأتم بطلت صلاته، وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة وذكر الله تعالى وسبحه بالعربية اه. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار عن أصول البزدوى 1/ 25. (¬2) بدائع الصنائع للكاسانى 1/ 329 الناشر زكريا على يوسف. (¬3) المدونة 1/ 62. (¬4) حاشية الدسوقى على شرح الدردير 1/ 232 - 236.

ثالثا: مذهب الشافعية:

ثالثا: مذهب الشافعية: قال الإمام النووى رحمه الله (¬1): مذهبنا أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنه العربية أو عجز عنها، وسواء كان فى الصلاة أو غيرها، فإن أتى بترجمته فى صلاة بدلا من القراءة لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا. وجاء فى الروضة (¬2): من لا يقدر على قراءة الفاتحة يلزمه كسب القدرة بتعلم أو توسل إلى مصحف يقرؤها منه بشراء أو إجارة أو استعارة. فإن كان فى ليل أو ظلمة لزمه تحصيل السراج عند الإمكان، فلو امتنع من ذلك عند الإمكان لزمه إعادة كل صلاة صلاها قبل أن يقرأها. فإن تعذرت الفاتحة لتعذر التعلم لضيق الوقت أو بلادته أو عدم المعلم والمصحف أو غير ذلك لم يجز ترجمة الفاتحة، بل ينظر إن كان أحسن قرآنا غير الفاتحة لزمه قراءة سبع آيات ... ثم قال: أما الذى لا يحسن شيئا من القرآن فيجب عليه أن يأتى بالذكر كالتسبيح والتهليل. وقال حجة الإسلام الغزالى رحمه الله (¬3): ودعاء الاستفتاح بعد التكبير مستحب، ثم التعوذ بعده من غير جهر، وفى استحباب التعوذ فى كل ركعة وجهان، ثم الفاتحة بعده متعينة لا يقوم ترجمتها مقامها اه. وقال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬4): ولا يجوز قراءة القرآن بالعجمية مطلقا سواء أحسن العربية أم لا فى الصلاة أم خارجها. ¬

_ (¬1) المجموع 3/ 379، 380. (¬2) روضة الطالبين للإمام النووى 1/ 244، 245. (¬3) الوجيز 1/ 42. (¬4) الإتقان 1/ 377.

رابعا: مذهب الحنابلة:

ثم قال: وعن القفال من أصحابنا (¬1): إن القراءة بالفارسية لا تتصور. قيل له: فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن. قال: ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله تعالى لأن الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، وذلك غير ممكن بخلاف التفسير اه. رابعا: مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة رحمه الله (¬2): ولا تجوز القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظها بلفظ عربى سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن. وجاء فى مطالب أولى النهى (¬3): .. فإن لم يحسن قرآنا أى آية فيه حرم ترجمته أى: تعبير عنه بلغة أخرى إذ الترجمة لا تسمى قرآنا. بل هى تفسير للقرآن لأن القرآن هو اللفظ العربى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬4) فلا تحرم الترجمة على جنب، ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ، وأما قوله تعالى: ¬

_ (¬1) هو أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل كان إمام عصره بما وراء النهر فقيها محدثا مفسرا أصوليا لغويا. من مصنفاته: دلائل النبوة ومحاسن الشريعة توفى رحمه الله سنة 365 هـ- طبقات المفسرين لجلال الدين السيوطى 109 - (¬2) المغنى 1/ 486. (¬3) مطالب أولى النهى فى شرح غاية المنتهى 1/ 433. (¬4) سورة الشعراء الآية: 195.

خامسا: مذهب الظاهرية:

وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (¬1) والإنذار بالترجمة يحصل بالمفسر الذى هو القرآن لا بالتفسير اه. وقد تقدم عند الكلام على المذهب الحنفى الكلام حول الإنذار المذكور فى الآية السالفة. خامسا: مذهب الظاهرية: قال ابن حزم رحمه الله (¬2): مسألة: ومن قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية، أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله تعالى عامدا لذلك، أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق لأن الله تعالى قال: قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬3) وغير العربى ليس عربيّا فليس قرآنا وإحالة رتبة القرآن تحريف كلام الله تعالى، وقد ذم الله تعالى قوما فعلوا ذلك فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (¬4) هذا: وبعد ذكر آراء المذاهب الفقهية نجد أن كلمتهم تكاد تتفق على منع القرآن ترجمة حرفية بأى لغة، وعلى أنه لا تصح الصلاة بهذه الترجمة إلا ما يروى من نقول عن المذهب الحنفى والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 19. (¬2) المحلى 3/ 254. (¬3) سورة يوسف الآية: 2. (¬4) سورة المائدة الآية: 13.

الفصل الخامس فى حجية القرآن

الفصل الخامس فى حجية القرآن علم مما تقدم أن القرآن نقل إلينا عن طريق التواتر المفيد للقطع بصحته جملة وتفصيلا، وعلى هذا فحجيته أيضا مقطوع بها. والقرآن الكريم هو باتفاق جميع الأمة، المصدر الأول للتشريع، فيجب الأخذ به والامتثال بما فيه. وإذا كان القرآن الكريم المصدر الأول للإسلام، فهو كذلك المصدر الأول للثقافة الإسلامية، فكل تعاليم الإسلام يجب أن ترجع فى أصولها إلى القرآن: العقائد والمفاهيم والقيم والعبادات والشعائر والأخلاق والآداب والقوانين والشرائع. كل هذه قد وضع القرآن أسسها وأرسى دعائمها. وقد حوى القرآن من حقائق الغيب، وحقائق النفس، وحقائق الحياة، وحقائق الاجتماع الإنسانى وبيّن من سنن الله تعالى ومن آياته فى الأنفس والآفاق ما لا يستغنى بشر عن معرفته والاهتداء به. وقد صاغ ذلك كله فى أسلوب معجز هو «نور من الكلام أو كلام من النور» لا يوصف إلا بأنه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (¬1) وصفه منزله بأنه «نور» والنور من طبيعته أن يضيء ويهدى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (¬2) ¬

_ (¬1) سورة هود الآية: 1. (¬2) سورة النساء الآية: 174.

قال ابن حزم الظاهرى رحمه الله:

كما وصفه بأنه روح، والروح من طبيعته أن يحرّك ويحيى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (¬1) ولهذا (¬2) كان شأن المؤمنين المهتدين بالقرآن، أن يوصفوا بالحياة وبالنورانية معا انتصروا على الموت وعلى الظلام جميعا قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها (¬3) قال ابن حزم الظاهرى رحمه الله (¬4): .... ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا، والذى ألزمنا الإقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذى لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب فى المصاحف، المشهور فى الآفاق كلها، وجب الانقياد لما فيه، فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (¬5) فما فى القرآن من أمر أو نهى فواجب الوقوف عنده ... ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية (¬6) فى وجوب الأخذ بما فى القرآن. اه. ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية: 52. (¬2) ثقافة الداعية: 10. (¬3) سورة الأنعام الآية: 122. (¬4) الإحكام 1/ 85، 86. (¬5) سورة الأنعام الآية: 38. (¬6) أهل السنة هم أتباع السلف الذين لم يخرجوا عن نصوص الكتاب والسنة بلا تأويل ولا تعطيل. والمعتزلة جماعة امتازت بالاعتماد على العقل ولم يتقيدوا بنص من قرآن أو حديث، وكان حصاد ذلك كله حرية الرأى ويعتبرون فلاسفة الإسلام وقد انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة وكلهم متفقون على أن القرآن مخلوق وأن الله ليس خالقا لأفعال العبد، وعلى نفى صفات الله تعالى من العلم والقدرة. والخوارج فرقة إسلامية سموا بذلك لأنهم خرجوا على الإمام على كرم الله وجهه فى

فالقرآن الكريم حجة على الناس، وأحكامه قانون واجب عليهم اتباعه، لأنه أساس الدين، وحبل الله المتين الذى أمر بالاستمساك به قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (¬1) وإنما كان القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع لأمور منها: 1 - أنه مقطوع (¬2) به من جهة الثبوت والنقل فى الجملة والتفصيل، بخلاف السنة فالقطع بها إنما يصح فى الجملة لا فى التفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون. 2 - أن الله عز وجل قال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬3) فالله سبحانه وتعالى فى هذه الآية أشار بأن السنة جاءت مبينة للقرآن، ومن ثم فهى تالية لما جاءت بيانا له وهو القرآن. 3 - قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬4) ¬

_ صفين عند إقامة الحكمين، ويحكمون على العبد بالكفر إذا فعل ذنبا ويقولون بكفر عثمان وعلى وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم. والمرجئة فرقة ترى أن الإيمان هو المعرفة فقط دون العمل، ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والزيدية فرقة تنتسب إلى زيد بن على زين العابدين وهى أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية. - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للإمام الرازى 23، 51، 107، والإحكام لابن حزم 1/ 86، وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبى زهرة 1/ 50. (¬1) سورة آل عمران الآية: 103. (¬2) الموافقات 4/ 7. (¬3) سورة النحل الآية: 44. (¬4) سورة فصلت آيتا: 41، 42.

4 - لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضى الله عنه إلى اليمن قال له: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو (¬1). ¬

_ (¬1) معنى آلو: الأول: الرجوع آل الشيء يؤول أولا ومالا: رجع (لسان العرب 1/ 171). والحديث أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الأقضية 2/ 272. والترمذى فى سننه وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بمتصل 3/ 608. وقال الشيخ الألبانى: إنه قلّما يخلو منه كتاب من كتب أصول الفقه مع أنه ضعيف الإسناد- منزلة السنة فى الإسلام له 15. والحق أن الحكم عليه بالضعف ليس بالأمر الهيّن. حيث إن العقل يستبعد أن يذكر هذا الحديث فى جميع كتب الأصول وهو ضعيف ولا يتنبه إلى ذلك أحد من الأصوليين، ولعل الشيخ الألبانى اطلع على ما ذكره الترمذى من قوله- لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بمتصل- فحكم بضعفه. وواضح أنه لا يستساغ الحكم على الحديث بالضعف بمجرد أن فى السند الذى أعرفه مجهولا مثلا إذ ربما ذكر الحديث بطريق آخر بيّن فيه هذا المجهول. وها هو الحافظ ابن كثير يقول بعد أن ساق الحديث: وهذا الحديث فى المساند والسنن بإسناد جيد- تفسير ابن كثير 1/ 13. ومبلغ علمى- والله أعلم- أن الاعتراض على حديث معاذ سببه أن الرواية المشهورة لم تسمّ من روى الحديث عن معاذ وسند الحديث كما ذكره العلامة ابن قيم الجوزية فى أعلام الموقعين 1/ 242 - 244 ما يلى: قال شعبة يعنى ابن الحجاج حدثنى أبو عون عن الحرث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ. قال ابن قيم: فهذا حديث وإن كان عن غير مسمّين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذى حدث به الحرث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ فى الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمّى. كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحلّ الذى لا يخفى ولا يعرف فى أصحابه منهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم. أضف إلى ذلك أن شعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة فى إسناد فاشدد يديك به. وقد قيل كما ذكر ابن قيم: إن عبادة بن نسىّ رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن

5 - عن الحارث عن على قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمتك ستفتن بعدك. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سئل ما المخرج منها؟ قال: «بكتاب الله العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد من ابتغى العلم فى غيره أضله الله ومن ولى هذا الأمر من جبار فحكم بغيره قصمه (¬1) الله. هو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم. فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل (¬2) وهو الذى سمعته الجن فلم تنته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (¬3) لا يخلق (¬4) على طول الرد ولا تنقضى عبره ولا تفنى عجائبه» اه. وقد رتب الله عز وجل على اتباع قرآنه كل خير وسعادة فقال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (¬5) كما رتب على الإعراض عنه كل شقاء ونصب فقال سبحانه: ¬

_ معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة. على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا وصية لوارث» وقوله فى البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقوله: «الدية على العاقلة». فهذه الأحاديث وإن كانت لا تثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها. فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له والله تعالى أعلم- المصدر السابق- (¬1) قصم الشيء كسره حتى يبين وبابه ضرب- مختار الصحاح 539. (¬2) الهزل ضد الجد وقد هزل من باب ضرب- المرجع السابق 695. (¬3) سورة الجن آيتا: 1، 2. (¬4) يقال ثوب خلق أى بال يستوى فيه المذكر والمؤنث، ويقال خلق الثوب بمعنى بل وبابه سهل- مختار الصحاح 187. (¬5) سورة طه الآية: 123.

وما أعظم ما قاله أحد الصالحين رحمه الله:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (¬1) وما أعظم ما قاله أحد الصالحين رحمه الله (¬2): ما تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شىء إلا وعلمه فى القرآن ولكن قصر علمنا عنه. ¬

_ (¬1) سورة طه الآيات: 124 - 126. (¬2) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادى 1/ 57.

الفصل السادس فى الغاية من البحث فى القرآن

الفصل السادس فى الغاية من البحث فى القرآن لا يختلف اثنان فى أن الله عز وجل أنزل القرآن لهداية الناس وإرشادهم، قال تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (¬1) وقال سبحانه: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (¬2) وإنما يتحقق هذا الغرض بإصلاح قلوب الناس وعقولهم بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، ومن ثم فكل بحث فى القرآن يقصد من ورائه الوصول إلى هذه الغاية، فهو بحث سديد. أما البحث لغير ذلك فلا يقوم على استحسانه دليل شرعى ومن الأدلة على هذا ما يلى: 1 - سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهلال: لم يبدو فى أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلئ حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى؟ والقرآن حين نزل بالإجابة نأى (¬3) عما قصدوه إلى ما يتعلق به صلاح العمل وصحة العبادة، وجعل الاهتمام بغير هذا فقال سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 2. (¬2) سورة ص الآية: 29. (¬3) النأى البعد يقال نأى ينأى يعنى بعد- لسان العرب 5/ 4314 (¬4) سورة البقرة الآية: 189.

قال المرحوم الشيخ على حسب الله:

فالقرآن الكريم يهتم بتوجيه الناس وجهة عملية، ويدعوهم إلى صرف همهم عما لا يفيدهم فى الدين والدنيا. 2 - قرأ عمر رضى الله عنه قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (¬1) ثم سئل أو سأل نفسه عن الأبّ فلم يعرفه. فقال هذا لعمر الله، التكلّف وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدرى ما لأت؟ ابتغوا ما بيّن لكم فى كتاب الله فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. 3 - لا يسأل المرء يوم القيامة إلا عن الأوامر والنواهى، وعلى هذا فالبحث عما وراء التكليف لا يترتب عليه أى فائدة فى الآخرة. قال المرحوم الشيخ على حسب الله (¬2): .... عامة المشتغلين بالعلوم التى لا يتعلق بها التكليف، ولا ترتبط بها مصلحة دنيوية معتد بها كثيرا ما يفتنون فى دينهم، ويحرفون عن سواء السبيل بسبب توغّلهم (¬3) فى هذه البحوث توغلا تضطرب به عقولهم، وتفسد فطرهم، وقد ينتهى أمرهم إلى الإلحاد ومحاولة صرف الناس عن التدين، وما لهذا أنزل القرآن ولا بمثله يصلح بنو الإنسان. اه. ¬

_ (¬1) سورة عبس الآية: 31. والأب: الكلأ وعبر بعضهم عنه بأنه المرعى المتهيئ للرعى والقطع- لسان العرب 1/ 3. (¬2) أصول التشريع الإسلامى 33. (¬3) وغل الرجل من باب وعد أى دخل على القوم فى شرابهم فشرب معهم من غير أن يدعى إليه والإيغال السير السريع والإمعان فيه وتوغل فى الأرض إذا سار فيها وأبعد- مختار الصحاح 729.

الفصل السابع فى خواص القرآن

الفصل السابع فى خواص القرآن ينبغى لمن يريد أن يفهم القرآن، ويستفيد منه أن يقرأه بتدبر وهو يعى خصائصه ومميزاته التى خصّ وميز بها ويدركها بعقله وفؤاده، ولو نظرنا إلى هذه المميزات والخصائص لوجدناها كثيرة ومن أهمها ما يلى: 1 - أن القرآن الكريم كلام الله خالصا غير مشوب (¬1) بأوهام البشر ولا بأهوائهم (¬2)، فهو كله من الله من ألفه إلى يائه، ليس لجبريل منه إلا النقل، ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم منه إلا التلقى والحفظ، ثم التبليغ والبيان قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬3) ومعنى هذا أن القرآن الكريم يحمل فى ثناياه علم الألوهية وحكمتها ورحمتها وقدرتها. الألوهية المتصفة بكل كمال، والمنزهة عن كل نقص: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (¬4) ¬

_ (¬1) الشوب: الخلط وبابه قال. والوهم: الغلط يقال وهم فى الحساب غلط فيه وسها وبابه فهم. كما يقال وهم فى الشيء من باب وعد إذا ذهب وهمه إليه وهو يريد غيره- مختار الصحاح 350، 738. (¬2) الأهواء جمع هوى بالقصر وهوى النفس إرادتها وقال أهل اللغة الهوى محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه- لسان العرب 5/ 4728. (¬3) سورة الشعراء الآية: 192 - 195. (¬4) سورة الفرقان الآية: 6.

وكل ما فى القرآن من أخبار ومواعظ، وأوامر ونواه، وتوجيهات وتشريعات، يتجلى فيه الحق كله، والخير كله، والرحمة كلها وكيف لا؟ وقد قال منزله جل شأنه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (¬1) 2 - القرآن الكريم هو مجموع اللفظ والمعنى، وإن لفظه نزل باللسان العربى، قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (¬2) وعلى هذا لا تعتبر الأحاديث النبوية من القرآن، لأن معانيها وإن كانت من عند الله إلا أن ألفاظها من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من عند الله، وكذا لا يعتبر من القرآن تفسيره، ولو كان باللغة العربية وكذا ترجمته إلى غير العربية لا تعتبر من القرآن (¬3). 3 - التيسير: من أعظم خصائص القرآن أنه كتاب يسّره منزله سبحانه وتعالى. يسر تلاوته وفهمه والعمل به لمن رغب وأراد قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (¬4) وقال سبحانه: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (¬5) وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬6) 4 - أنه نقل إلينا بطريق التواتر. فالقرآن الكريم نقله قوم لا يتوهم ¬

_ (¬1) سورة هود الآية: 1. (¬2) سورة الزخرف الآية: 3. (¬3) سأذكر موقف العلماء تجاه وقوع ألفاظ غير عربية فى القرآن وكذا موقفهم من ترجمته إن شاء الله تعالى خلال هذه الدراسة. (¬4) سورة البقرة الآية: 185. (¬5) سورة الحج الآية: 78. (¬6) سورة القمر الآية: 17.

البتة اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب لكثرة عددهم عن قوم مثلهم، وهكذا إلى أن يتصل النقل برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أول النقل كآخره، وأوسطه كطرفيه وكما قيل: أوله تمهيد لآخره، وآخره تصديق لأوله. 5 - الخلود: من خصائص القرآن أنه كتاب الخلود، فليس كتاب جيل من الأجيال، ولا كتاب عصر من العصور، بل هو الكتاب الخاتم للرسالة الخاتمة، ولهذا تكفل الله بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1) وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬2) ومن دلائل ذلك أن أربعة عشر قرنا من الزمن مرت على نزوله، ولم يزل كما أنزله الله، وكما بلغه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تلقاه أصحابه ومن بعدهم جيلا إثر جيل محفوظا فى الصدور متلوا بالألسنة، مكتوبا فى المصاحف، يستظهره عشرات الألوف من أبناء المسلمين حتى الصبيان منهم، بل حتى الأعاجم الذين لا يعرفون لغته (¬3). 6 - الشمول: إذا كان القرآن الكريم كتاب الزمن، فهو كتاب الدين كله، حيث جمع أصول الهداية الإلهية والتوجيه الربانى، سواء فى العقائد والشعائر والآداب والأخلاق، كما جمع أصول التشريع الإلهى فى العبادات والمعاملات، وشئون الحياة عند الأفراد والجماعات، ثم هو ليس ¬

_ (¬1) سورة الحجر الآية: 9. (¬2) سورة فصلت الآية: 41، 42. (¬3) ثقافة الداعية للعلامة الدكتور يوسف القرضاوى 16.

كتابا لقبيلة دون قبيلة، ولا لجنس دون جنس، ولا لبلد دون بلد، وهو يخاطب صنفا من الناس له اتجاه عقلى معين، مغفلا من عداه من الأصناف أصحاب الاتجاهات الأخرى لا لا إنه لكل الأجناس، ولكل البشر، ولكل البلاد، وهو يخاطب الجميع قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ (¬1) وقال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (¬2) 7 - الإعجاز: وهو عبارة عن نسبة العجز إلى الغير وإثباته له. والحقّ أنه ليتحقق الإعجاز لا بدّ من وجود التحدى، ووجود المقتضى وانعدام المانع، ومعلوم أن التحدى قد حصل وتكرر زمن نزول القرآن الكريم، وقد تدرج القرآن معهم فى التحدى حتى يأتوا بمثل أقصر سورة منه قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬3) وقال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (¬4) وقال جل شأنه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (¬5) وأما المقتضى فقد وجد أيضا لأن القرآن الكريم حين نزل سفّه (¬6) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 185. (¬2) سورة التكوير الآية: 27. (¬3) سورة الإسراء الآية: 88. (¬4) سورة هود الآية: 13. (¬5) سورة البقرة الآية: 23 (¬6) السفه ضد الحلم وأصله الخفة والحركة- مختار الصحاح 302.

الأقوال المختلفة فى وجوه الإعجاز:

أحلامهم، وأبطل كل معتقداتهم، وأقام الأدلة والبراهين على صدقه وصدق ما جاء به، ولم يكن هناك ما يمنع من قبولهم التحدى، فهم أهل الفصاحة والبلاغة والقرآن الكريم حين تحداهم، تحداهم بلغتهم لا بلغة أخرى. الأقوال المختلفة فى وجوه الإعجاز: اتفقت الأمة جميعا على أن القرآن الكريم معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم معجزة ظهرت على وجه الأرض، ومن ثم يجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز، وقد خاض العلماء فى ذلك كثيرا وتناولوه بالبحث والدراسة، ويتضح ذلك جليّا فيما يلى: القول الأول: إن إعجاز القرآن إنما هو من جهة إيجازه واحتواء لفظه القليل على المعانى الكثيرة، مثل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬1) وقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ (¬2) وقوله: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (¬3) وقد اعترض على هذا القول بأنه وقع فى السنة وكلام العرب ما لفظه قليل، ومعناه كثير، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬4) وقول العرب: القتل أنفى للقتل. القول الثانى: إخباره بوقائع لا يعلمها إلا الله. فقد تحدث القرآن عن وقوع حوادث المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، قال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 179. (¬2) سورة الأعراف الآية: 54. (¬3) سورة الروم الآية: 4. (¬4) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 157، 158.

قال ابن الربيع عبد الرحمن الشيبانى رحمه الله:

غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (¬1) وقال سبحانه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (¬2) وقال سبحانه فى أهل بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (¬3) كما تحدث عن قصص أمم بائدة (¬4) ليست لها آثار ولا معالم تدل على أخبارها، وهذا دليل على أنه من عند الله الذى لا تخفى عليه خافية فى الحاضر والماضى والمستقبل، وإلى هذا يقول القرآن مخاطبا النبى صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (¬5) قال ابن الربيع عبد الرحمن الشيبانى رحمه الله (¬6): ومن وجوه إعجازه ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم الخالية، مما كان لا يعلم القصة الواحدة إلا الفذّ (¬7) من أحبار (¬8) أهل الكتاب، وقد علموا أنه أمىّ (¬9) لا يقرأ ولا يكتب حتى كان علماء أهل ¬

_ (¬1) سورة الروم آيتا: 2، 3. (¬2) سورة الفتح الآية: 27. (¬3) سورة القمر الآية: 45. (¬4) باد بمعنى هلك وبابه باع وجلس وأباده الله أهلكه- مختار الصحاح 70. (¬5) سورة هود الآية: 49. (¬6) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار له 1/ 286 (¬7) الفذ: الفرد- مختار الصحاح 494. (¬8) الأحبار هم العلماء- لسان العرب 1/ 479. (¬9) الأمى هو الذى لا يقرأ ولا يكتب وفى تسميته بالأمىّ قولان: أحدهما: لأنه على خلقة الأمّة التى لم تتعلم الكتاب فهو على جبلته. والثانى: أنه ينسب إلى أمه لأن الكتابة كانت فى الرجال دون النساء وقيل لأنه على ما ولدته أمه- زاد المسير 1/ 105.

القول الثالث:

الكتاب يسألونه عن كثير مما يختلفون فيه فيؤديه لهم على وجهه، ويأتى به على نصه، فيعترف العالم منهم بذلك له بصدقه قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (¬1) وقد ردّ هذا القول بأنه يستلزم أن الآيات التى ليس فيها شىء من المغيبات لا إعجاز فيها وهو باطل، فقد جعل الله سبحانه كل سورة معجزة بنفسها. القول الثالث: صنيعه فى القلوب وتأثيره فى النفوس عند سماعه أو تلاوته، فالقلب عند سماعه أو تلاوته تعتريه المهابة التى تلحقها الخشية، وقد صح أن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (¬2) كاد قلبى أن يطير. وروى أن عتبة بن ربيعة كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه، فتلا عليهم حم فصلت إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (¬3) فأمسك عتبة على فى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف. وقد اعترض على هذا القول بأن جماعة من أرباب القوب وذوى الاستغراق فى بديع أوصاف المحبوب، حصل له من سماع بعض ¬

_ (¬1) سورة النمل الآية: 76. (¬2) سورة الطور آيات: 35 - 37. (¬3) سورة فصلت آيات: 1 - 13.

القول الرابع:

الأشعار ما أخرجه عن طوره (¬1)، وربما مات فى الحال (¬2). القول الرابع: إخباره عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل وذلك مثل قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (¬3) وكقوله: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ (¬4) القول الخامس: انطباق آياته (¬5) على ما يكشفه العلم من نظريات علمية. فالقرآن الكريم أنزله الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون حجة له ودستورا للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية فى خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وغيرها، ولكنه فى مقام الاستدلال على وجود الله وواحدا نيته، وتذكير الناس بآلائه ونعمه ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية، كشف العلم الحديث فى كل عصر براهينها، ودل على أن الآيات التى لفت إليها من عند الله، لأن الناس ما كان لهم بها من علم، وما وصلوا إلى حقائقها، وإنما كان استدلالهم بظواهرها. فلما كشف البحث العلمى سنة كونية وظهر أن آية فى القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله: ¬

_ (¬1) الطور: الحال وجمعه أطوار- لسان العرب 3/ 2718. (¬2) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن لابن قيم الجوزية 350. (¬3) سورة الأنفال الآية: 7. (¬4) سورة المجادلة الآية: 8. (¬5) علم أصول النفقة للشيخ خلاف 29.

القول السادس:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (¬1) ومن هذه الآيات قوله تعالى فى مقام الاستدلال على قدرته، ولفت النظر إلى آثاره: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (¬2) القول السادس: وهو لأبى إسحاق إبراهيم النظام أحد رءوس المعتزلة، أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجى، فالمنع عن معارضته وصرفهم عنه هو المعجزة دون ذات القرآن (¬3). قال الأستاذ أحمد عز الدين خلف الله (¬4): ولا يبعد أن يكون هذا القول منقولا عن الفلسفة الهندية، فقد ذكر أبو الريحان البيرونى المتوفى سنة 440 هـ- أن جمهور علماء البراهمة فى الهند يعتقدون أن البشر يعجزون عن محاكاة (الفيدا) - وهو كتاب يشتمل على مجموعة من الأشعار، ليس فى كلام الناس ما يماثلها فى زعمهم، لأن براهما صرفهم عن الإتيان بمثلها، سواء كان هذا المنع تكليفا يسبقه الإيمان بهذا العجز، أو هو منع تكوينى فيكون الصرف بمقتضى التكوين، ولما بدأ العرب فى ترجمة الكتب فى العصر العباسى ¬

_ (¬1) سورة فصلت آيتا: 52، 53. (¬2) سورة النمل الآية: 88. (¬3) البرهان للزركشى 2/ 93 والإتقان 4/ 7، وتفسير القرطبى 1/ 66 والفوائد لابن القيم 252. (¬4) القرآن يتحدى له 238. ط: السعادة.

وهذا القول فاسد لما يلى:

الأول عن الفارسية والهندية واليونانية عرف المفكرون المسلمون هذه الأفكار، فتلقّف هذا القول المغرمون بكل وافد من الأفكار مستغرب من الأقوال مهما كان شذوذه، ووجدت هذه الفكرة أنصارا بين علماء الفلسفة الكلامية، فكان أول من جاهر بها أبو إسحاق النظام ودافع عنها وكأنها من مسائل علم الكلام. وهذا القول فاسد لما يلى: أولا: يلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدى، وخلوّ القرآن من الإعجاز وفى ذلك خرق لإجماع الأمة، فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العظمى، ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة. قال القرطبى رحمه الله (¬1): « .... وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا». ثانيا: إن الله عز وجل وصف القرآن الكريم بأوصاف ذاتية تجعله فى مكانة لا تصل إليها أى معجزة أخرى، وهذه الأوصاف توجب أن يكون إعجازه ذاتيا لا لشىء آخر خارجى. قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (¬2) ثالثا: إن العرب عند ما تلقوا القرآن وسمعوه أذهلهم أسلوبه، وراعهم ¬

_ (¬1) تفسير القرطبى 1/ 66. (¬2) سورة الزمر الآية: 23.

القول السابع:

بيانه واعترفوا ببلاغته وفصاحته، وقالوا: ما رأينا مثله شعرا ولا نثرا، ومن ثم فالعجز يكون لذاته وليس لأمر خارج عنه. القول السابع: أن إعجاز القرآن يظهر فى حفظ آياته من التبديل والتغيير، وصون كلماته من النقل والتحويل، فلا يستطيع مخلوق على وجه الأرض أن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل حرفا بحرف وذلك من آياته الكبرى. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله بعد ذكره موقف العلماء من وجوه الإعجاز (¬1): والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال: إن إعجازه بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف (¬2)، والتحريف والزيادة، والنقصان، فإنه ليس عليه إيراد ولا مطعن اه. القول الثامن: مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى إنها تظهر كالكلمة الواحدة منتظمة المبانى منسقة المعانى. القول التاسع: وهو المختار أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال، لا بكل واحد منها عن انفراد فإنه جمعها كلها، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع، بل وغير ذلك مما لم يذكر. فمنها أنه لم يزل غضّا طريا فى أسماع السامعين، وعلى ألسنة القارئين، ومنها ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إيّاه فى صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم تارة ومخاطبة أخرى لخلقه لا فى صورة كلام يستمليه (¬3) ¬

_ (¬1) الفوائد 255. (¬2) التصحيف: الخطأ فى الصحيفة- لسان العرب 3/ 2405. (¬3) يقال استمليته الكتاب أى سألته أن يمليه علىّ- لسان العرب 5/ 4273.

خلاصة الأمر:

من نفسه من قذف فى قلبه، وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه، فهو يأتى بالمعانى التى ألهمها بألفاظه التى يكسوها إياه كما يشاهد من الكتب المتقدمة، ومنها جمعه بين صفتى الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا فى كلام البشر، لأن الجزالة من الألفاظ التى لا توجد إلا بما يشوبها (¬1) من القوة والعذوبة فيها ما يضادها من السلاسة والسهولة. فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة فى الأسماع مثل الفصحاء من الأعراب وفحول الشعراء منهم. ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام فى السماع أعزب وأشهى، وألذ مثل أشعار المخضرمين. وترى ألفاظ القرآن قد جمعت فى نظمه هاتين الصفتين وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز. ومنها جعله آخر الكتب غنيّا عن غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة، قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه (¬2) إليه قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (¬3) خلاصة الأمر: أن وجوه الإعجاز لا يمكن البتة حصرها، وكون القرآن آية معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة صرف الدواعى عن معارضته فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، بل هو آية بينة معجز من وجوه متعددة لا يمكن حصرها، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة، فى دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانية التى أمر بها ومعانيه التى أخبر بها عن الله ¬

_ (¬1) الشوب: الخلط يقال شاب الشيء شوبا إذا خلطه- لسان العرب 3/ 2355. (¬2) البرهان للزركشى 2/ 106، 107. (¬3) سورة النمل الآية: 76.

قال الأستاذ أحمد خلف الله:

تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانية التى أخبر بها عن الغيب فى الماضى، وعن الغيب فى المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التى هى الأمثال المضروبة كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (¬1) وقال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (¬2) قال الأستاذ أحمد خلف الله (¬3): « .... فإن المتبصر فى آى الذكر الحكيم قد يدرك من وجوه الإعجاز ما لا يدركه غيره ولا يذوقه سواه». تنبيه: اختلف العلماء فى قدر المعجز من القرآن، فذهب أكثر العلماء منهم القاضى الباقلانى (¬4)، والإمام أبو الحسن الأشعرى رحمهما الله إلى القول، بأن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة سواء كانت قصيرة أو طويلة، تمسكا بقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬5) أو ما كان بقدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة، فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز. قال القاضى رحمه الله (¬6): ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة فى أقل من هذا القدر، ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية: 54. (¬2) سورة الزمر الآية: 27. (¬3) القرآن يتحدى 246. (¬4) البرهان 2/ 108. (¬5) سورة البقرة الآية: 23. (¬6) إعجاز القرآن له 2/ 151 هامش الإتقان ط. بيروت.

قال القاضى رحمه الله:

وهذا القول هو الراجح الذى تؤيده النصوص القرآنية التى أعلنت التحدى. وذهبت المعتزلة إلى أن القدر المعجز متعلق بجميع القرآن، لكن الآية السابقة ترد عليهم. وقال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية بل يشترط الآيات الكثيرة. وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (¬1) قال القاضى رحمه الله (¬2): ولا دلالة فى الآية، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته فى أقل من كلمات سورة قصيرة. وجوه المخاطبات فى القرآن الكريم: قال ابن الجوزى رحمه الله (¬3): الخطاب فى القرآن على خمسة عشر وجها. وقال غيره: يرد الخطاب على أكثر من ثلاثين وجها. الأول: خطاب العام المراد به العموم. ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (¬4) وقوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (¬5) وقوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (¬6) الثانى: خطاب الخاص والمراد به الخصوص. ومنه قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الطور الآية: 34. (¬2) إعجاز القرآن 2/ 152. (¬3) الإتقان 3/ 109. (¬4) سورة المجادلة الآية: 7. (¬5) سورة الكهف الآية: 49. (¬6) سورة الانفطار الآية: 6.

أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (¬1) وقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ (¬2) الثالث: خطاب العام والمراد به الخصوص. وقد اختلف العلماء فى وقوع ذلك فى القرآن، فأنكره بعضهم لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة، كقوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً (¬3) والصحيح (¬4) أنه واقع كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (¬5) وعمومه يقتضى دخول جميع الناس فى اللفظين جميعا، والمراد بعضهم لأن القائلين غير المقول لهم، والمراد بالأول نعيم بن مسعود الثقفى، والثانى أبو سفيان وأصحابه (¬6). ومنه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ (¬7) فالخطاب عام أريد به الخصوص، لأن الأطفال والمجانين لم يدخلوا فيه. الرابع: خطاب الخاص والمراد به العموم ومنه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (¬8) فالخطاب مفتتح بالنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد سائر من يملك الطلاق، فالخطاب خاص أريد به العموم. ومنه قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 106. (¬2) سورة المائدة الآية: 67. (¬3) سورة العنكبوت الآية: 14. (¬4) البرهان فى علوم القرآن 2/ 220. (¬5) سورة آل عمران الآية: 173. (¬6) تفسير ابن كثير 2/ 147، وصفوة التفاسير 1/ 245 (¬7) سورة النساء الآية: 1. (¬8) سورة الطلاق الآية: 1.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ .... (¬1) الآية. قال الإمام الصيرفى (¬2): كان ابتداء الخطاب له صلى الله عليه وسلم، فلما قال فى الموهوبة (خالصة لك) علم أن ما قبلها له صلى الله عليه وسلم ولغيره. الخامس: خطاب الجنس كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (¬3) السادس: خطاب النوع نحو قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ (¬4) السابع: خطاب العين. نحو قوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (¬5) وقوله: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ (¬6) وقوله: يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (¬7) الثامن: خطاب المدح. نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (¬8) ¬

_ (¬1) سورة الاحزاب الآية: 50. (¬2) هو أبو بكر محمد بن عبد الله الفقيه الشافعى المعروف بالصيرفى بغدادى له تصانيف فى أصول الفقه توفى رحمه الله سنة 330 هـ- اللباب لابن الأثير 2/ 66، ووفيات الأعيان 1/ 458. (¬3) سورة الأحزاب الآية: 45. (¬4) سورة البقرة الآية: 40. (¬5) سورة البقرة الآية: 35. (¬6) سورة هود الآية: 48. (¬7) سورة الصافات الآية: 104، 105. (¬8) سورة التحريم الآية: 7.

وهذا وقع خطابا لأهل المدينة الذين آمنوا وهاجروا تمييزا لهم عن أهل مكة. التاسع: خطاب الذم. كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ (¬1) وقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (¬2) ولتضمنه الإهانة لم يقع فى القرآن غير هذين الموضعين وأكثر الخطاب ب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا على المواجهة وفى جانب الكفار جىء بلفظ الغيبة إعراضا عنهم كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬3) وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا (3) العاشر: خطاب الكرامة كقوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (¬5) وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ (¬6) و: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (¬7) ويلاحظ أن الخطاب بالنبى نجده فى محل لا يليق به الخطاب بالرسول، وكذا عكسه كقوله تعالى فى الأمر بالتشريع العام: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وفى مقام الخاص: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وقد يعبر بالنبى فى مقام التشريع العام لكن ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية: 174. (¬2) سورة الكافرون الآية: 1 (¬3) سورة آل عمران آيتا: 10، 12. (¬5) سورة البقرة الآية: 35 (¬6) سورة التحريم الآية: 1. (¬7) سورة المائدة الآية: 67.

مع قرينة إرادة العموم كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (¬1) ولم يقل طلقت. الحادى عشر: خطاب الإهانة نحو قوله تعالى لإبليس: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (¬2) وقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (¬3) الثانى عشر: خطاب التهكم نحو قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (¬4) والخطاب هنا لأبى جهل لأنه قال: ما بين جبليها- يعنى مكة- أعز ولا أكرم منى (¬5). الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (¬6) الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إلى قوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (¬7) فهو خطاب له صلى الله عليه وسلم وحده إذ لا نبى معه ولا بعده. ونحو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية: 1. (¬2) سورة الحجر الآية: 34، 35. (¬3) سورة المؤمنون الآية: 108. (¬4) سورة الدخان الآية: 49 (¬5) تفسير ابن كثير 7/ 246. (¬6) سورة الانشقاق الآية: 6. (¬7) سورة المؤمنون آيات: 51 - 54.

قال الإمام البيضاوى رحمه الله:

وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (¬1) فالخطاب هنا للنبى صلى الله عليه وسلم وحده بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ (¬2) الخامس عشر: خطاب الواحد بلفظ الاثنين، نحو قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ (¬3) والمراد مالك خازن النار. فالخطاب لمالك وحده، وجاء بلفظ الاثنين. وقيل: الخطاب لخزنة النار والزبانية، فيكون من خطاب الجمع بلفظ الاثنين. وقيل: للملكين الموكلين فى قوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (¬4) فيكون على الأصل. السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد. ومنه قوله تعالى: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (¬5) أى ويا هارون. وفيه وجهان: الأول: أنه أفرده بالنداء لإدلاله عليه بالتربية. الثانى: لأنه صاحب الرسالة والآيات وهارون تبع له (¬6). ومن قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (¬7) قال الإمام البيضاوى رحمه الله (¬8): أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد اشتراكهما فى الخروج اكتفاء باستلزام ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 126. (¬2) سورة النحل الآية: 127. (¬3) سورة ق الآية: 24. (¬4) سورة ق الآية: 21. (¬5) سورة طه الآية: 49. (¬6) تفسير البيضاوى 417. (¬7) سورة طه الآية: 117. (¬8) تفسير البيضاوى 423.

شقائه شقائها من حيث إنه قيّم عليها، أو محافظة على الفواصل أو لأن المراد بالشقاء التعب فى طلب المعاش، وذلك وظيفة الرجال اه. وقيل: إغضاء عن ذكر المرأة كما قيل: من الكرم ستر الحرم (¬1). السابع عشر: خطاب الاثنين بلفظ الجمع كقوله تعالى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬2) الثامن عشر: خطاب الجمع بلفظ الاثنين نحو قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ على القول القائل إن الخطاب هنا لخزنة النار والزبانية. التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد. كقوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ (¬3) فجمع ثالثها والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وإنما جمع الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا الجمع للتفخيم له صلى الله عليه وسلم والتعظيم (¬4). ومثله قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (¬5) العشرون: خطاب الواحد بعد الجمع كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬6) الحادى والعشرون: خطاب الاثنين بعد الواحد، نحو قوله تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (¬7) ¬

_ (¬1) الإتقان 3/ 113. (¬2) سورة يونس الآية: 61. (¬3) سورة يونس الآية: 61. (¬4) البرهان 2/ 241. (¬5) سورة الطلاق الآية: 1. (¬6) سورة البقرة الآية: 43. (¬7) سورة يونس الآية: 78.

الثانى والعشرون: خطاب الواحد بعد الاثنين نحو قوله تعالى: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (¬1) الثالث والعشرون: خطاب العين والمراد به الغير كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ (¬2) فالخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان تقيّا وحاشاه من طاعة الكفار والمنافقين. والدليل على ذلك قوله تعالى فى سياق الآية: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) ومنه قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ (¬4) فالخطاب له والمراد غيره. ومنهم من أجراه على حقيقته وأوّله والمعنى: قل يا محمد: إن كنت فى شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود. إنهم أعلم به من أجل أنهم أصحاب كتاب (¬5). الرابع والعشرون: خطاب الغير والمراد به العين نحو قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ (¬6) الخامس والعشرون: الخطاب العام الذى لم يقصد به مخاطب معين. ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (¬7) ¬

_ (¬1) سورة طه الآية: 49. (¬2) سورة الأحزاب آيتا: 1، 2. (¬4) سورة يونس الآية: 94. (¬5) عصمة الأنبياء للإمام الرازى 142. (¬6) سورة الأنبياء الآية: 10. (¬7) سورة الحج الآية: 18.

قال الإمام جلال الدين السيوطى رحمه الله:

وقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ (¬1) وقوله وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ (¬2) قال الإمام جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬3): لم يقصد بذلك خطاب معين، بل كل أحد وأخرج فى صورة الخطاب لقصد العموم يريد أن حالهم تناهت فى الظهور بحيث لا يختص بها راء دون راء. بل كل من أمكن منه الرؤية داخل فى ذلك الخطاب اه. السادس والعشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره. ومنه قوله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ (¬4) خوطب به النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال للكفار: (فاعلموا انّما أنزل بعلم الله) بدليل قوله تعالى بعد ذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. السابع والعشرون: خطاب التلوين وهو الالتفات نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الثامن والعشرون: خطاب الجمادات خطاب من يعقل نحو قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (¬5) وقد اختلف العلماء فى هذه المقالة هل هى حقيقة بأن جعل لها حياة وإدراكا يقتضى نطاقها أو مجاز بمعنى أنه ظهر فيها من اختيار الطاعة والخضوع بمنزلة هذا القول؟ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 27. (¬2) سورة السجدة الآية: 12. (¬3) الإتقان 3/ 114. (¬4) سورة هود الآية: 14. (¬5) سورة فصلت الآية: 11.

فقيل بالأول لأنه لا شىء يدفعه والعبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر وقيل بالثانى (¬1). التاسع والعشرون: خطاب التهييج. كقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (¬2) وقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (¬3) الثلاثون: خطاب التحنّن والاستعطاف نحو قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (¬4) الحادى والثلاثون: خطاب التحبب أو التحبيب كقوله تعالى: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ (¬5) وقوله: يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي (¬6) الثانى والثلاثون: خطاب التعجيز كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬7) الثالث والثلاثون: خطاب التشريف. وهو كل ما فى القرآن مخاطبة بقل كالقلاقل (¬8). وكقوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ... (¬9) الآية وهو تشريف منه سبحانه لهذه الأمة، بأن يخاطبها بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة. إذ ليس من الفصيح أن يقول الرسول للمرسل إليه قال لى المرسل- قل كذا وكذا- ولأنه لا يمكن إسقاطها فدل على أن المراد ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 246، وتفسير ابن كثير 7/ 156. (¬2) سورة المائدة الآية: 23. (¬3) سورة الأنفال الآية: 1. (¬4) سورة الزمر الآية: 53. (¬5) سورة مريم الآية: 42. (¬6) سورة طه الآية: 94. (¬7) سورة البقرة الآية: 23. (¬8) هى الإخلاص والمعوذتان والكافرون. (¬9) سورة آل عمران الآية: 84.

بقاؤها ولا بدّ لها من فائدة فتكون أمرا من المتكلّم للمتكلّم بما يتكلم به أمره شفاها بلا واسطة كقولك لمن تخاطبه: افعل كذا. الرابع والثلاثون: خطاب المعدوم، ويصح ذلك تبعا لموجود نحو قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ (¬1) فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان، ولكل من بعدهم على نحو ما يجرى من الوصايا فى خطاب الإنسان لولده وولد ولده ما تناسلوا بتقوى الله وإتيان طاعته. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية: 31.

الباب الثانى فى الأحكام التى تضمنها القرآن الكريم وما يتعلق بها وفيه فصول

الباب الثانى فى الأحكام التى تضمنها القرآن الكريم وما يتعلق بها وفيه فصول الفصل الأول: فى الأحكام الواردة فى القرآن الفصل الثانى: فى تعليل القرآن للأحكام الفصل الثالث: فى أسلوب القرآن فى بيان الأحكام. الفصل الرابع: فى طرق استخراج الأحكام من القرآن

الفصل الأول فى الأحكام الواردة فى القرآن

الفصل الأول فى الأحكام الواردة فى القرآن تقدم الكلام عن جية القرآن وعلم أنه عمدة الأحكام والمصدر الأول للتشريع قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (¬1) وقال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (¬2) والذى يجب التنبيه عليه أن تعريف القرآن للأحكام الشرعية أكثر كلى لا جزئى يعنى لا يختص بشخص دون شخص، ولا بحال دون حال، ولا زمان دون زمان، وأيضا مفصلا مستوعبا لشروط وأركان وموانع ما يطلب أو ما ينهى عنه، والدليل على ذلك الاستقراء (¬3)، فهو محتاج إلى كثير من البيان والسنة على كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هى بيان له ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 38. (¬2) سورة النحل الآية: 89. هذا وقد استدل المنكرون للسنة بهاتين الآيتين وهو استدلال باطل، لأن معنى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أن القرآن بيان لأمور الدين، إما بطريق النص أو بطريق الإحالة على السنة، وإلا لتناقضت هذه الآية مع قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وكذلك المعنى فى قوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (مكانة السنة فى الإسلام للدكتور محمد أبو زهرة 23). (¬3) الاستقراء: هو تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر كلى يشملها وهو نوعان. (أ) تام: وهو تصفح جميع الجزئيات ليحكم بحكمها على كلى يشملها مثل قولنا: كل إنسان ناطق، وهذا النوع يفيد القطع اتفاقا. (ب) ناقص: وهو تصفح أغلب الجزئيات ليحكم بحكمها على كلى يشملها كقولنا:

قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1) فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (¬2) ولوّ نظرنا إلى حيث القرآن عن الصلاة والزكاة والجهاد مثلا لوجدناه غير مبين لجميع أحكامه، والذى قام بهذا السنة المطهرة (¬3). والمتأمل فى الأحكام التى تضمنها القرآن يجدها كثيرة متنوعة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام هى: القسم الأول: الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فهذه الأحكام الاعتقادية تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده فى الله وملائكته ... إلخ. على العموم محل دراسة هذه الأحكام علم التوحيد. القسم الثانى: الأحكام المتعلقة بتهذيب النفس وتسمى بالأحكام الأخلاقية المرتبطة بما يجب على المكلف أن يتزيّن ويتحلّى به من ¬

_ كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، وإنما كان هذا استقراء ناقصا، لأن التمساح لا يحرك فكه الأسفل فالحكم مختلف فيه. وهذا النوع مختلف فيه: فذهب بعضهم إلى القول بأنه لا يفيد الحكم لا قطعا ولا ظنا. وذهب بعضهم إلى أنه يفيد الحكم ظنا ولا يفيده قطعا. (شرح الاسنوى 3/ 133، وبحوث فى الأدلة المختلف فيها للدكتور محمد العيد 37). (¬1) سورة النحل الآية: 44. (¬2) سورة المائدة الآية: 3. (¬3) الموافقات 3/ 366.

وهذه الأحكام نوعان:

الفضائل، وأن يتخلّى عنه من الرذائل. ومحل دراسة هذه النوع من الأحكام علم التصوف. القسم الثالث: الأحكام العملية المتعلقة بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذه الأحكام تسمى بالأحكام الفقهية، والتى يقصد الوصول إليها عن طريق علم أصول الفقه. وهذه الأحكام نوعان: النوع الأول: أحكام العبادات من صلاة وصوم، وحج وزكاة، ونذر ويمين ونحوها. وفائدة هذا النوع من الأحكام تنظيم العلاقة بين العبد وربه. النوع الثانى: أحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها. وفائدة هذا النوع من الأحكام تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادا أم أمما أم جماعات. وهذه الأحكام تسمى فى الاصطلاح الشرعى أحكام العلاقات، وأما فى اصطلاح، العصر الحديث (¬1)، فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتعلق به وما يقصد بها إلى الأنواع الآتية: 1 - أحكام الأسرة: وهى التى تتعلق بالأسرة من بدء تكوينها، وقد فصّلها القرآن بما لم يفصل به الأحكام فى أىّ موضوع من موضوعات الأحكام الشرعية، فقد فصل أحكام الزواج وبين المحرمات وفصل أحكام الطلاق، وبين أنواع العدة ومواضعها كما بين أيضا الفرائض بيانا شافيا. والقصد من وراء هذه الأحكام هو تنظيم العلاقة بين الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، ويلاحظ أن آياتها فى القرآن نحو سبعين آية. 2 - الأحكام المدنية: وهى التى تتعلق بمعاملات الأفراد المالية ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه للشيخ خلاف 32، 33.

وقد لاحظ القرآن فى العقوبات التى قررها أمورا أربعة هى:

كالبيع والرهن والإجارة. والغرض من تشريعها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذى حق وآياتها فى القرآن نحو سبعين آية (¬1). 3 - الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات: وهى التى يطلق عليها بالأحكام الجنائية وآياتها نحو ثلاثين آية. وقد لاحظ القرآن فى العقوبات التى قررها أمورا أربعة هى (¬2): (أ) المحافظة على النفوس والعقول والأديان والأموال والنسل، ولذلك بيّن أن القصاص فيه حياة قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬3) ولا يكون ذلك إلا بتحقيق المحافظة على ما ذكر. (ب) شفاء غيظ المجنى عليه، فإنه مكلوم (¬4) ومن الواجب مداواة جروحه، ولذلك جعل لولى المقتول الحق فى القصاص قال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ (¬5) (ج) تعويض المجنى عليه وأسرته وذلك إذا تعذر القصاص الكامل لأىّ سبب من الأسباب. (د) جعل العقوبة تابعة للشخص، فتكبر بكبره، وتصغر بصغره، لأن الجريمة تكبر بكبر المجرم، وتصغر بصغره، والدليل على ذلك أن القرآن ¬

_ (¬1) الوجيز فى أصول الفقه 152. (¬2) أصول الفقه للشيخ أبى زهرة 77 (¬3) سورة البقرة الآية: 179. (¬4) الكلم: الجراحة والجمع كلوم وكلام وقد كلمه من باب ضرب- مختار الصحاح 577. (¬5) سورة الإسراء الآية: 33. هذا وقد قال ابن قيم الجوزية رحمه الله- الداء والدواء 128 - القتل يتعلق به حقوق ثلاثة: حق الله، وحق المظلوم المقتول، وحق وليه، فإذا سلم القاتل نفسه إلى الولى ندما وتوبة فإن حق الله يسقط كما يسقط حق الولى بالاستيفاء أو الصلح

الكريم جعل عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر قال تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (¬1) 4 - الأحكام المتعلقة بنظام الحكم وأصوله: ويقصد بها تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وخلاصة ما تذكره الآيات القرآنية فى هذا المقام خمسة أسس هى: (أ) العدل، قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (¬2) والعدل الذى يقصده القرآن هو عدل الحاكم مع المحكومين، وعدل الرعية مع الراعى، وعدل الناس فيما بينهم، وهو يقتضى المساواة المطلقة فى تطبيق أحكام القرآن على الجميع، وقد وجاء فى الحديث الشريف: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬3). (ب) الشورى- قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (¬4) قال المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة (¬5): إن القرآن لم يبين وسائل الشورى كما لم يبين وسائل تحقيق العدالة، بل ترك ذلك لتقدير الناس لينتهجوا أحسن الوسائل التى توصلهم إلى المطلوب على الوجه الأكمل، ولأن وسائل الشورى تختلف باختلاف الجماعات، وباختلاف أحوال الناس، وباختلاف العصور. ¬

_ أو العفو، أما حق المقتول فإن الله يعوضه عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبنيه. (¬1) سورة النساء الآية: 25. (¬2) سورة النساء الآية: 58. (¬3) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 47. (¬4) سورة الشورى الآية: 38. (¬5) أصول الفقه له 78.

(ج) التعاون بين الحاكم والمحكوم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى (¬1) (د) حماية المجتمع من الرذائل وحماية الأموال والأنفس والأعراض والدين كما تقدم. (هـ) اتجاه الحاكم إلى الإصلاح والعمل على كل ما فيه مصلحة للمسلمين. 5 - الأحكام الاقتصادية وهى المتعلقة بموارد الدولة ومصارفها، وبحقوق الأفراد فى أموال الأغنياء، والغاية من وراء تشريع هذه الأحكام تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد وآياتها فى القرآن عشر آيات. 6 - الأحكام المتعلقة بمعاملة الدولة الإسلامية للدول الأخرى، ومدى علاقتها بها، ونوع هذه العلاقة فى السلم والحرب وما يترتب على ذلك من أحكام. ويقصد بها تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم فى بلاد الدول الإسلامية وآياتها فى القرآن خمس وعشرون آية. 7 - الأحكام المتعلقة بالقضاء والشهادة واليمين. ويقصد بها تنظيم إجراءات التقاضى لتحقيق العدالة بين الناس، وهى تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات، وتبلغ آياتها فى القرآن ثلاث عشرة آية (¬2). هذا وقد قال الإمام الغزالى رحمه الله (¬3): إن آيات الأحكام فى القرآن خمسمائة آية. وقال بعض العلماء: مائة وخمسون، على أساس أن آيات القصص والأمثال فى القرآن يستنبط منها كثير من الأحكام. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 2. (¬2) الوجيز فى أصول الفقه 152، 153. (¬3) المستصفى 2/ 350.

وقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله:

وقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله (¬1): معظم آى القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلة، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام وهو كثير، وسورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام مشتملة على كثير من ذلك. ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضمّ إلى آية أخرى كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (¬2) وصحة صوم الجنب من قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (¬3) فلو لم يكن صوم الجنب صحيحا لما أباح الله له الوقاع حتى الفجر. وأما مع ضميمة آية أخرى كاستنباط على وابن عباس رضى الله عنهم أن أقلّ الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (¬4) مع قوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ (¬5) وعليه جرى الإمام الشافعى رضى الله عنه (¬6). واحتج بها الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه (¬7) على أن أكثر الرضاع سنتان ونصف- ثلاثون شهرا- حيث إن الله تعالى قدّر لشيئين مدة واحدة، فانصرفت ¬

_ (¬1) الاتقان 4/ 40، 41. (¬2) سورة المسد الآية: 4. (¬3) سورة البقرة الآية: 187. (¬4) سورة الأحقاف الآية: 15. (¬5) سورة لقمان الآية: 14. (¬6) روضة الطالبين للنووى 8/ 374، 375. (¬7) اللباب فى شرح الكتاب 3/ 31.

المدة بكمالها إلى كل واحد منهما، فلما قام النص الأول فى أحدهما بقى الثانى على أصله، ومثّل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فإنه مضروب بكماله لكل واحد منهما، وأيضا فإنه لا بدّ من اعتبار مدة يبقى فيها الإنسان بحيث يتغير الغذاء، فاعتبرت مدة يعتاد الصبى فيها غذاء طبيعيّا غير اللبن، ومدة الحمل قصيرة فقدمت الزيادة على الحولين. فإن قيل: العادة الغالبة فى مدة الحمل تسعة أشهر، وكان المناسب فى مقام الامتنان ذكر الأكثر المعتاد لا الأقل النادر كما فى جانب الفصال. فالجواب: أن هذه المدة أقل مدة الحمل، ولما كان الولد لا يعيش غالبا إذا وضع لستة أشهر كانت مشقة الحمل فى هذه المدة موجودة لا محالة فى حق كل مخاطب، فكان ذكره أدخل فى باب المناسبة، بخلاف الفصال لأنه لأحد لجانب القلة فيه، بل يجوز أن يعيش الولد بدون ارتضاع من الأم، ولهذا اعتبر فيه الأكثر لأنه الغالب، ولأنه اختيارى كأنه قيل: حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله أكثر (¬1). ومثله استنباط الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (¬2) مع قوله جل شأنه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (¬3) وكذلك استنباط بعض المتكلمين أن الله خالق لأفعال العباد من قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (¬4) ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن 2/ 5. (¬2) سورة طه الآية: 93. (¬3) سورة الجن الآية: 23. (¬4) سورة الإنسان الآية: 30.

أولا: القسم الأول:

مع قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ (¬1) فإذا ثبت أنه يخلق ما يشاء، وأن مشيئة العبد لا تحصل إلا إذا شاء الله أنتج أنه تعالى خالق لمشيئة العبد. وجدير بالذكر التنبيه على أن هذه الأحكام يستدل عليها تارة بالصيغة، وتارة بالإخبار كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (¬2) وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬3) وتارة بما رتب عليها فى العاجل أو الآجل من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وقد نوع الشارع ذلك أنواعا كثيرة ترغيبا لعباده وترهيبا وتقريبا إلى أفهامهم. على العموم كانت آيات الأحكام تنزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغالب جوابا لحوادث فى المجتمع الإسلامى، وهذه الحوادث تعرف بأسباب النزول، وأحيانا كانت تنزل آيات الأحكام جوابا عن أسئلة يسألها بعض المؤمنين، وقليلا ما كانت الأحكام تنزل مبتدأة (¬4) ومن أمثلة هذين القسمين ما يلى: أولا: القسم الأول: 1 - قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (¬5) ¬

_ (¬1) سورة القصص الآية: 68. (¬2) سورة البقرة الآية: 187. (¬3) سورة المائدة الآية: 3. (¬4) تاريخ التشريع الإسلامى للشيخ الخضرى 13. (¬5) سورة البقرة الآية: 221.

يقول القرطبى رحمه الله فى تفسيره (¬1): نزلت هذه الآية فى أبى مرثد الغنوىّ، وقيل: فى مرثد بن أبى مرثد واسمه كنّاز بن حصين الغنوى. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرّا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها فى الجاهلية يقال لها: عناق، فجاءته فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان فى الجاهلية. قالت: فتزوجنى. قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها لأنه كان مسلما وهى مشركة وقد اختلف (¬2) العلماء فى تأويل هذه الآية على ثلاثة أقوال هى: الأول: لا يجوز العقد بنكاح على مشركة سواء كانت. كتابية أو غير كتابية. قال عمر فى إحدى روايتيه وهو اختيار مالك والشافعى إذا كانت أمة (¬3). الثانى: أن المراد وطء من لا كتاب له من المجوس والعرب. قاله قتادة. الثالث: أنه منسوخ بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬4) 2 - قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* ¬

_ (¬1) تفسير القرطبى 1/ 875. (¬2) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 156. (¬3) المرجع السابق، ومغنى المحتاج 3/ 185. (¬4) سورة المائدة الآية: 5.

وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... إلخ (¬1) يقول علماء التفسير (¬2) إن صدر سورة المجادلة نزل فى حق أوس بن الصامت رضى الله عنه حين قال لزوجته خولة بنت ثعلبة رضى الله عنها: أنت علىّ كظهر أمى، وكان الرجل فى الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه، فندم من ساعته فدعاها فأبت وقالت: والذى نفس خولة بيده لا تصل إلىّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ فلما خلا سنى (¬3) ونثرت بطنى جعلنى عليه كأمه وتركنى إلى غير أحد، فإن كنت تجد لى رخصة يا رسول الله تنعشنى (¬4) بها وإياه فحدثنى بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت فى شأنك بشيء حتى الآن. وفى رواية: ما أراك إلا قد حرمت عليه. قالت: ما ذكر طلاقا وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت: اللهم إنى أشكو إليك فاقتى (¬5) وشدة حالى. وروى أنها قالت: إن لى صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم ¬

_ (¬1) سورة المجادلة آيات: 1 - 3. (¬2) تفسير آيات الأحكام 4/ 110. (¬3) خلا الشيء خلوا بمعنى مضى. وقولها- ونثرت بطنى- أى أكثرت من الولد. وهى تقصد بهذه العبارة أنها كانت عنده شابة تلد الأولاد- لسان العرب. (¬4) يقال نعشت فلانا إذا جبرته بعد فقر أو رفعته بعد عثرة، ونعش الإنسان ينعشه نعشا يعنى تداركه من هلكه- لسان العرب 5/ 4474. (¬5) الفاقة: الفقر والحاجة- لسان العرب 4/ 3489.

ثانيا: القسم الثانى:

إنى أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خولة أبشرى. قالت: خيرا. فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ ... الآيات. ثانيا: القسم الثانى: ورد فى القرآن الكريم أحكام كثيرة عقب أسئلة صدرت من المؤمنين أو من غيرهم. مثال ذلك: 1 - قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (¬1) الآية. يقول ابن كثير رحمه الله (¬2): عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية (¬3) وكانوا سبعة نفر (¬4) عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبى ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 217. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 368. (¬3) السرية: قطعة من الجيش وتطلق على ما بين خمسة إلى ثلاثمائة ويقال خير السرايا أربعمائة رجل- لسان العرب 3/ 2004. (¬4) النفر بفتحتين: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة- مختار الصحاح 672.

وقاص ... وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل (¬1)، فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة (¬2)، فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنى موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار فتخلف عنه سعد بن أبى وقاص وعتبة أضلا راحلة لهما فأتيا بحران (¬3) يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمى، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة وقتل عمرو. قتله واقد بن عبد الله اليربوعى فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا من المال أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين فقال النبى صلى الله عليه وسلم: حتى تنظر ما فعل صاحبانا، فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين ففجر (¬4) عليه المشركون وقالوا: إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا فى رجب. فقال المسلمون: إنما قتلناه فى جمادى، وقيل: فى أول رجب وآخر ليلة من جمادى وغمد (¬5) المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب. فأنزل الله يعيّر (¬6) أهل مكة: ¬

_ (¬1) البطن: دون القبيلة وملل بوزن جبل موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلا بالمدينة- لسان العرب 1/ 304، 5/ 4272 - (¬2) بطن نخلة: موضع بين مكة والطائف- لسان العرب 5/ 4379 - (¬3) بحران موضع بناحية الفرع- موضع بين مكة والمدينة- من الحجاز (لسان العرب 1/ 218، 4/ 3395 - (¬4) فجر يعنى فسق وكذب وأصله الميل- مختار الصحاح 491 - (¬5) غمد السيف من باب ضرب ونصر يعنى جعله فى غمده فهو مغمود- مختار الصحاح 480 - . (¬6) العار: السبّة والعيب والمعاير يقال عاره إذا عابه- لسان العرب 4/ 3188 -

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ... الآية. 2 - قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ (¬1) وقد روى جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: مرضت وعندى تسع أخوات لى، فدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضح (¬2) فى وجهى من الماء فأفقت فقلت: يا رسول الله ألا أوصى لأخواتى بالثلثين؟ قال: أحسن. قلت: بالشطر (¬3)؟ قال: أحسن. ثم خرج وتركنى ثم رجع فقال: لا أراك ميتا من وجعك هذا فإن الله أنزل الذى لأخواتك فجعل لهن الثلثين. وكان جابر يقول (¬4): نزلت فى هذه الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ هذا: والقرآن الكريم فيه من آيات الأحكام المندرجة تحت هذين القسمين الكثير والكثير، أما الأحكام التى أنزلت بدون حادث أو سؤال فقليلة، وقلما نرى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا أنزل الحكم مرتبا عليه. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 176. (¬2) النضح: هو الرش وبابه ضرب- مختار الصحاح 664 - (¬3) شطر الشيء نصفه- مختار الصحاح 337 - (¬4) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 519.

فوائد:

* فوائد: الأولى: لا طريق لمعرفة سبب النزول إلا النقل الصحيح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الحديث إلا ما علمتم فإنه من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) فسبب النزول إن روى عن صحابى كان مقبولا، لأن قوله فيما لا مجال للرأى فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم. أما إذا روى سبب النزول بحديث سقط من إسناده الصحابى وهو المسمى بالمرسل فلا يقبل إلا إذا صح واعتضد بمرسل آخر، وكان الراوى له من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير. الثانية: زعم بعض الناس أنه لا فائدة من وراء البحث عن معرفة سبب النزول لجريانه مجرى التاريخ، وهذا الزعم باطل لأن هناك الكثير من الفوائد المترتبة على معرفة سبب النزول والتى منها ما يلى: 1 - معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. 2 - تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. 3 - قد يكون اللفظ عامّا ويقوم الدليل على تخصصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإذا دخل صورة السبب قطعى وإخراجها بالاجتهاد ممنوع. 4 - الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: بيان النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة بلفظ- من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار- 1/ 14.

ومن الأمثلة على فوائد معرفة النزول:

وقال ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. ومن الأمثلة على فوائد معرفة النزول: 1 - أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا (¬1) الآية. وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. حتى بين له ابن عباس رضى الله عنهما أن الآية نزلت فى أهل الكتاب حين سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه. 2 - حكى عن عثمان بن مظعون، وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة ويحتجان بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا (¬2) الآية ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك، وهو أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر. كيف بمن قتلوا فى سبيل الله، وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهى رجس؟ فنزلت هذه الآية. الثالثة: اختلف علماء الأصول: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ والراجح ما ذهب إليه (¬3) الجمهور من أن العبرة بعموم اللفظ، فقد ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 188. (¬2) سورة المائدة الآية: 93. (¬3) إرشاد الفحول 134.

نزلت آيات كثيرة فى القرآن الكريم على أسباب مخصوصة، واتفق العلماء على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آيات الظهار واللعان وحد القذف. لكن لو نزلت آية فى شخص معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا كقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (¬1). فهذا القول الكريم قد نزل فى حق الصديق رضى الله عنه بالإجماع، وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازى (¬2) رحمه الله مع قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (¬3) على أنه أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ظن بأن الآية عامة فى كل من عمل عمله فهو واهم (¬4)، لأن الآية ليس فيها صيغة عموم إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة فى جمع. زاد قوم: أو مفرد بشرط ألا يكون هناك عهد، واللام فى الأتقى ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، والأتقى ليس جمعا بل هو مفرد، والعهد موجود خصوصا مع ما يفيده صيغة- أفعل- من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه وهو الصديق رضى الله عنه (¬5). الرابعة: قد يتعدد النازل والسبب واحد، وقد يتعدد السبب والنازل واحد. ¬

_ (¬1) سورة الليل آيتا: 17، 18. (¬2) تفسير الفخر الرازى 31/ 204. (¬3) سورة الحجرات الآية: 13. (¬4) وهم فى الحساب غلط فيه وسها وبابه فهم، ووهم فى الشيء من باب وعد إذا ذهب وهمه إليه وهو يريد غيره- مختار الصحاح 738 - (¬5) الإتقان فى علوم القرآن 1/ 113، والتمهيد 94.

مثال الأول:

مثال الأول: عن أم سلمة رضى الله عنها قالت (¬1): يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشيء. فأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (¬2) الآية. وروى عن أم عمارة (¬3) الأنصارية أنها قالت: يا رسول الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ (¬4) الآية وأنزلت: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ومثال الآخر: عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: «لأمثلن بسبعين منهم مكانك». فنزل جبريل- والنبى صلى الله عليه وسلم واقف- بخواتيم سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (¬5) الآيات إلى آخر السورة. وعن أبى كعب قال (¬6): لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا به. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ- أى لنزيدن- عليهم- فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم فى المستدرك 2/ 300، 416. (¬2) سورة آل عمران الآية: 195. (¬3) أخرجه الترمذى فى سننه 5/ 354. (¬4) سورة الأحزاب الآية: 35. (¬5) سورة النحل آيات: 126 - 128. (¬6) أخرجه الترمذى فى كتاب التفسير 5/ 299.

فالرواية الأولى تفيد أن الآيات نزلت فى غزوة أحد، بينما تفيد الثانية نزولها يوم فتح مكة، ومعلوم أن بين غزوة أحد وفتح مكة بضع سنين، ومن ثم لا مفر من القول بتعدد نزولها مرة فى غزوة أحد ومرة فى فتح مكة، والله أعلم.

الفصل الثانى فى تعليل القرآن للأحكام

الفصل الثانى فى تعليل القرآن للأحكام القرآن الكريم يعلل الأحكام: الناظر فى القرآن الكريم يجد مولانا جل شأنه يذكر فيه العلة والأوصاف المؤثرة، والمعانى المعتبرة فى الأحكام ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضائها ويوجب تخلف أثرها عنها (¬1). وقد جاء التعليل فى القرآن الكريم بالباء تارة كقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (¬2) وقوله: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا (¬3) وباللام تارة كقوله تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ (¬4) وبأن تارة كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا (¬5) ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين 1/ 196. (¬2) سورة الأنفال الآية: 13. (¬3) سورة غافر الآية: 12. (¬4) سورة المائدة الآية: 97. (¬5) سورة الأنعام الآية: 156.

وبأن واللام كقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (¬1) وكى تارة كقوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ (¬2) والشرط والجزاء كقوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً (¬3) والفاء كقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ (¬4) وقوله: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (¬5) وترتيب الحكم على الوصف كقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ (¬6) وقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (¬7) ولما كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (¬8) وقوله: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (¬9) وإنّ المشددة كقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (¬10) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 165. (¬2) سورة الحشر الآية: 7. (¬3) سورة آل عمران الآية: 120. (¬4) سورة الشعراء الآية: 139. (¬5) سورة الحاقة الآية: 10. (¬6) سورة المائدة الآية: 16. (¬7) سورة الأعراف الآية: 170. (¬8) سورة الزخرف الآية: 55. (¬9) سورة الأعراف الآية: 166. (¬10) سورة الأنبياء الآية: 77.

ولعل كقوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (¬1) وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (¬2) والمفعول له كقوله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى * وَلَسَوْفَ يَرْضى (¬3) أى لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس، وإنما فعله ابتغاء وجه الله. ومن أجل كقوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ (¬4) ¬

_ (¬1) سورة طه الآية: 44. (¬2) سورة البقرة الآية: 73. (¬3) سورة الليل آيات: 19 - 21. (¬4) سورة المائدة الآية: 32.

الفصل الثالث فى أسلوب القرآن فى بيان الأحكام

الفصل الثالث فى أسلوب القرآن فى بيان الأحكام أسلوب القرآن فى بيان الأحكام: إن القرآن الكريم استخدم أساليب عديدة مختلفة فى بيانه الأحكام، اقتضتها بلاغته وفصاحته وكونه معجزا وهاديا ومرشدا. وهو حينما يعرض الأحكام يعرضها عرضا فيه تشويق لامتثال الأمر، وتنفير من مخالفته، ومن ثم نجده حينما يتحدث عما هو واجب على الناس مثلا ينص عليه بصيغة الأمر، كما فى قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ (¬1) وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (¬2) أو بأن الفعل مكتوب من الله على المخاطبين، ويظهر ذلك جليّا فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬3) وقد يكون بيان الواجب بذكر الجزاء الحسن الذى أعده الله لفاعله قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (¬4) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 2. (¬2) سورة الحج الآية: 78. (¬3) سورة البقرة الآية: 183. (¬4) سورة النساء الآية: 13.

يقول الإمام الزركشى رحمه الله:

كما نجده يتحدث عن المحرم يستخدم تارة أسلوب النهى كما فى قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (¬1) وقوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (1) كما يستخدم تارة أخرى أسلوب التوعد على الفعل أو ذكر العقوبة المترتبة عليه، كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (¬2) وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (2) يقول الإمام الزركشى رحمه الله (¬3): كل فعل عظمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو مدح فاعله لأجله أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضى به، أو رضى عن فاعله، أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره له أو لهدايته إياه، أو لإرضائه فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله أو لنصرة فاعله، أو بشارة فاعله، أو وصف فاعله بالطيب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن أو نصبه سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو أقسم به وبفاعل كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها، فهو دليل على ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آيتا: 33، 34. (¬2) سورة النساء آيتا: 10، 14. (¬3) البرهان بتصرف 2/ 10 - 12.

مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب، وكل فعل طلب الشرع تركه، أو ذم فاعله، أو نفى محبته إياه، أو محبة فاعله، أو نفى الرضا به أو الرضا عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم، أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول ونحو ذلك فهو دليل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة. وأما لفظ: «يكرهه الله ورسوله» وقوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (¬1) فأكثر ما يستعمل فى المحرم، وقد يستعمل فى كراهة التنزيه. وأما لفظ «أما أنا فلا أفعل» فالمحقق فيه الكراهة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل متكئا» (¬2) وأما لفظ «ما يكون لك»، و «ما يكون لنا» فاطرد استعمالها فى المحرم نحو قوله تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها (¬3) وقوله تعالى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها (¬4) وقوله جل شأنه: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ (¬5) وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو ونحو ذلك. إذا علم هذا، فمن البدهى على كل من يريد استنباط واستنتاج الأحكام من القرآن أن يعرف هذه الأساليب القرآنية. فالفعل يكون واجبا أو مندوبا إذا جاء بصيغة دالة على الوجوب ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 38. (¬2) أخرجه الترمذى فى كتاب الأطعمة 4/ 273. (¬3) سورة الأعراف الآية: 13. (¬4) سورة الأعراف الآية: 89. (¬5) سورة المائدة الآية: 116.

دلالة القرآن على الأحكام:

أو الندب، أو إذا ذكر فى القرآن مصحوبا بمدح أو ثناء لفاعله أو اقترن به الجزاء الحسن (¬1). ويكون حراما أو مكروها إذا جاء ذكره بصيغة دالة على التحريم أو الكراهة، أو إذا ذكر على وجه الذم والتوبيخ، أو لعن فاعله، أو وصف الفعل بأنه رجس أو أنه سبب للعذاب مثلا. كما يكون الفعل مباحا إذا جاء بلفظ يدل على ذلك كالإذن ونفى الحرج، أو نفى الجناح كما فى قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (¬2). وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (¬3). دلالة القرآن على الأحكام: لا خلاف بين العلماء فى أن نصوص القرآن كلها قطعية الثبوت والورود والنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، ويترتب على هذا أن أحكامه أيضا قطعية الثبوت، إلا أن دلالته على الأحكام قد تكون قطعية، وقد تكون ظنية، فالنص قطعى الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم غيره منه. ومن أمثلته الآيات التى احتوت على تقادير أو أعداد كقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية (¬4). فهذا النص يفيد أن نصيب الزوج من ميراث زوجته هو النصف، وذلك عند عدم الولد، وهذه الإفادة قطعية لا تحتمل تأويلا ولا يفهم منها معنى غيره. كما يفيد إفادة قطعية أيضا أن له الربع عند وجود ولد، وأن للزوجة من ميراث زوجها الربع عند عدم الولد والثمن عند وجوده ... ¬

_ (¬1) الوجيز 155، 156. (¬2) سورة الجمعة الآية: 10. (¬3) سورة البقرة الآية: 198. (¬4) سورة النساء الآية: 12.

وكذلك الأمر فى قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬1). وأما النص ظنى الدلالة فهو الذى يكون محتملا لأكثر من معنى كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬2). فلفظ القرء مشترك فى اللغة بين معنيين هما: الطهر والحيض، ومن هنا اختلف الفقهاء فى عدة المطلقة هل هى ثلاثة أطهار؟ أو ثلاث حيضات؟ وممن ذهب إلى الأول من الصحابة ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة رضى الله عنهم، وقد نهج نهجهم من الفقهاء مالك والشافعى وجمهور أهل المدينة. وممن ذهب إلى الثانى من الصحابة على، وعمر، وابن مسعود رضى الله عنهم، ومن الفقهاء أبو حنيفة وسفيان الثورى وغيرهما (¬3). وكذلك الحال فى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬4). فلفظ الميتة عام، والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة، ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر. فالنص الذى فيه نص مشترك، أو لفظ عام، أو لفظ مطلق، أو نحو هذا يكون ظنى الدلالة لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره. هذا وقبل أن أنهى الكلام عن الأحكام التى تضمنها القرآن الكريم أقول: ¬

_ (¬1) سورة النور الآية: 2. (¬2) سورة البقرة الآية: 228. (¬3) أحكام القرآن للجصاص 1/ 364 وأحكام القرآن لابن العربى 1/ 184، ومغنى المحتاج 3/ 385، وبداية المجتهد 2/ 88، 89. (¬4) سورة المائدة الآية: 3.

الآية الأولى:

ما هو سبب اختلاف الصحابة تجاه الأحكام المستنبطة من القرآن الكريم؟ والجواب: أن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم فيما استنبط من القرآن الكريم يرجع سببه إلى تفاوتهم فى قوة الذهن والإحاطة بألفاظ اللغة والإلمام بأسباب النزول، وما يتصل بالقصص منه من أخبار السابقين، ومعرفة أشعار العرب وعاداتهم مما يقرب المعانى إلى العقول، ويساعد فى الوصول إلى المقصود (¬1)، وها أنا ذا أسوق بعون الله وحده عددا من آى الذكر الحكيم المتضمنة أحكاما فقهية وموقف الصحابة منها: الآية الأولى: قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬2). فهذه الآية الكريمة تفيد بعمومها أن المتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشرا سواء كانت حاملا أو غير حامل. وقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬3). عام فى المطلقة والمتوفى عنها زوجها، فأفتى عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن مسعود رضى الله عنهما إلى القول بأن النص الثانى مخصص لعموم النص الأول، وهو يفيد أن عدة المتوفى عنها زوجها تكون أربعة أشهر وعشرا، إذا لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا تكون عدتها بوضع الحمل عملا بآية سورة الطلاق. وأفتى على بن أبى طالب، وابن عباس رضى الله عنهم بأن عدتها أبعد الأجلين وهما: وضع الحمل وتربص أربعة أشهر ¬

_ (¬1) نظرات فى أصول الفقه للمؤلف 7 - 9. (¬2) سورة البقرة الآية: 234. (¬3) سورة الطلاق الآية: 4.

الآية الثانية:

وعشرا، وعليه فإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام تربصت بقيتها، وإن انقضت الأربعة أشهر والعشرة أيام ولم تضع حملها تربصت حتى تضع حملها (¬1). الآية الثانية: قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (¬2). فالخطاب فى هذه الآية للمسلمين من غير خلاف، وقد ذهب بعض الصحابة كعبد الرحمن بن عوف، ومن نهج نهجه رضى الله عنهم، إلى القول بأن هذه الآية الكريمة يستفاد منها أن الأرض المغنومة كالمنقولات المغنومة فى التقسيم بين الفاتحين. وذهب عثمان وعلى وطلحة وابن عمر إلى رأى عمر رضى الله عنهم، وهو أن الأرض المغنومة لا تقسم كما تقسم المنقولات المغنومة، وإنما تكون ملكا للدولة ينتفع بها جميع المسلمين. وربما يقول قائل هل ترك عمر برأيه المذكور العمل بآية الغنيمة؟ والجواب: لا، لأنه فهم رضى الله عنه أن الأمر بالغنائم فى سورة الأنفال لإمام المسلمين أن يضعها حسب ما تقتضيه المصلحة العامة للمسلمين، فالإمام مخير فى الغنيمة بين أن يقسمها أو يتركها، إن قسمها فأمامه فى ذلك قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... الآية. وإن تركها فحجته فى الترك قوله تعالى: ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص 1/ 415، وأحكام القرآن لابن العربى 1/ 208، وتاريخ التشريع لأستاذى الشيخ إبراهيم الشهاوى 51. (¬2) سورة الأنفال الآية: 41.

قال أبو يوسف رحمه الله:

وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1). فهذه الآية عامة فى القرى كلها، ثم قال تعالى بعد هذه الآية: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (1). فقد شرح الله صدر سيدنا عمر رضى الله عنه إلى أن يفهم أن الآية الأخيرة: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عامة لمن جاء من بعدهم. قال أبو يوسف رحمه الله (¬2): « ... والذى رأى عمر رضى الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عند ما عرفه الله ما كان فى كتابه من بيان ذلك توفيقا من الله، كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين». ¬

_ (¬1) سورة الحشر آيات: 6 - 10. (¬2) الخراج له 29.

الآية الثالثة:

الآية الثالثة: قال تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ (¬1) فالصديق رضى الله عنه أخذ من هذه الآية أن الجد مثل الأب فى الميراث، حيث إنه أطلق عليه أب فى الآية فأنزل فى الميراث منزلته. وذهب غيره إلى خلاف ذلك حيث إن إطلاق الأب على الجد ليس إطلاقا حقيقيّا وإنّما هو إطلاق مجازى، وعلى فرض التسليم بأنه حقيقة لا يلزم من الإطلاق اللغوى استحقاق الإرث (¬2). الآية الرابعة: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فسيدنا عمر رضى الله عنه (¬3)، ومن نهج نهجه كعمر بن عبد العزيز، وسفيان الثورى والحنفية رضى الله عن الجميع، ذهبوا إلى القول بأن المطلقة ثلاثا تجب لها النفقة والسكنى، مستدلين على الأول بقوله تعالى: فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬4) وهذا فى الحامل وبالإجماع فى الرجعية على أنها تجب لها النفقة، وعلى الثانى بقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ (4) وحين وجد عمر رضى الله عنه تعارضا بين قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 38. (¬2) التشريع فى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم 74. (¬3) سبل السلام 3/ 1126. (¬4) سورة الطلاق الآية: 6.

لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وبين ما روته فاطمة بنت قيس رضى الله عنها، عن النبى صلى الله عليه وسلم- فى المطلقة ثلاثا: «ليس لها سكنى ولا نفقة» (¬1) قال رضى الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندرى أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت. وذهب ابن عباس والحسن وعطاء والشعبى وأحمد فى إحدى الروايات والقاسم والإمامية وإسحاق وأصحابه، وداود وكافة أهل الحديث إلى القول بأن المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة ولا سكنى مستدلين بهذا الحديث. وذهب بعض العلماء إلى القول بأن لها النفقة دون السكنى، لقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (¬2) ولأنها حبست بسببه كالرجعية، ولا يجب لها السكنى لأن قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يدلّ على أن ذلك حيث يكون الزوج وهو يقتضى الاختلاط، ولا يكون ذلك إلا فى حق الرجعية والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى كتاب الطلاق 1/ 639. (¬2) سورة البقرة الآية: 241.

الفصل الرابع فى طرق استخراج الأحكام من القرآن الطرق المعنوية: الطرق اللفظية:

الفصل الرابع فى طرق استخراج الأحكام من القرآن الطرق المعنوية: الطرق اللفظية: من المعلوم أن الدلالة قسمان: 1 - نصوص القرآن والسنة التى يقوم عليها كل استنباط فى الشريعة الإسلامية. 2 - غير نصوص. والأدلة التى لا تعتبر نصوصا كالقياس- مثلا- هى فى الحقيقة مستنبطة ومستنتجة من النصوص. والواجب على الفقيه أن يعرف جيدا طرق الاستنباط والاستنتاج من النصوص. وطرق الاستنباط هذه نوعان: (أ) طرق معنوية. (ب) وطرق لفظية. فالطرق المعنوية عبارة عن الاستدلال من غير النصوص مثل القياس والاستحسان والمصالح ونحوها. أما الطرق اللفظية فتقوم أساسا على تعرف معانى ألفاظ النصوص وما تدل عليه من حيث العموم أو الخصوص وطريق الدلالة أهي بالمنطوق

قال إمام الحرمين الجوينى رحمه الله:

أم بالمفهوم، والقيود التى اشتملت عليها العبارات ثم ما يفهم من الألفاظ أهو بالعبارة أم هو بالإشارة ونحو ذلك. وقد وضع الأصوليون المناهج لذلك كاملة حين تحدثوا عن المباحث اللفظية حيث إن النصوص الإسلامية نصوص عربية، ومن ثم كان لزاما لفهمها واستنباط الأحكام منها أن يكون المستنبط على علم باللسان العربى مدركا لدقائق مرامى العبارات فيه، وطرق الأداء من تعبير بالحقيقة أحيانا وبالمجاز أحيانا أخرى، ومدى الدلالة فى كل طريق من طرق الأداء لأن هذه المعرفة لها مداها فى فهم النصوص وتبين الأحكام منها. ومن هنا اتجه الأصوليون إلى وضع قواعد لفهم النصوص واستنباط الأحكام التكليفية فيها واعتمدوا فى ذلك على أمرين: أحدهما: المدلولات اللغوية والفهم العربى لهذه النصوص بالنسبة للقرآن والسنة. والثانى: ما نهجه الرسول صلى الله عليه وسلم فى بيان أحكام القرآن الكريم. على العموم قسم علماء الأصول اللفظ بالنسبة للمعنى وعلاقته به إلى أربعة أقسام سأذكرها بعون الله بالتفصيل بعد أنّ أذكر مسألة مهمة يحتاج إليها كل باحث فى النصوص. هذه المسألة خاصة باللفظ وواضعه وما وضع له إلى غير ذلك. قال إمام الحرمين الجوينى رحمه الله (¬1): «اعلم أن معظم الكلام فى الأصول يتعلق بالألفاظ والمعانى. أما المعانى فستأتى فى كتاب القياس إن شاء الله تعالى، وأما الألفاظ فلا بد من الاعتناء بها فإن الشريعة عربية ولن يستكمل المرء خلال ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 169.

الأول: سبب الوضع:

الاستقلال بالنظر فى الشرع ما لم يكن ريانا من النحو واللغة، ولكن لما كان هذا النوع فنّا مجموعا ينتحى (¬1) ويقصد لم يكثر منه الأصوليون مع مسيس الحاجة إليه، وأحالوا مظان الحاجة على ذلك الفن واعتنوا فى فنهم بما أغفله أئمة العربية، واشتد اعتناؤهم بذكر ما اجتمع فيه إغفال أئمة اللسان وظهور مقصد الشرع، وهذا كالكلام على الأوامر والنواهى والعموم والخصوص وقضايا الاستثناء وما يتصل بهذه الأبواب ولا يذكرون ما ينصه أهل اللسان إلا على قدر الحاجة الماسة التى لا عدول عنها». وجدير بالذكر التنبيه على أننى طرقت باب الكلام عن الوضع وما يتصل به نظرا لأن الاستدلال بالقرآن والذى هو الكعبة المقصودة فى هذا الكتاب يتوقف على معرفة اللغة وما يتصل بها فأقول وبالله التوفيق: اللغة: عبارة عن اللفظ (¬2) الموضوع بإزاء المعنى ليعبر الناس به عن أغراضهم. وأما الوضع: فهو تخصيص (¬3) شىء بشيء بحيث إذا علم الأول علم الثانى وقد قال العلماء إن الوضع يتعلق به ستة أشياء هى: الأول: سبب الوضع: يلاحظ أن الله عز وجل خلق الإنسان غير مستقل بمصالح معاشه، محتاجا إلى مشاركة غيره من أبناء جنسه، وذلك لاحتياجه إلى الغذاء واللباس والمسكن وغير ذلك. وظاهر أن الواحد لا يتمكن من تعلم هذه الأشياء فضلا من استعمالها، لأن كل واحد منها موقوف على صنائع شتى، ومن ثم كان لا بدّ من جمع عظيم ليتعاون معهم. الناس للناس من بدو وحاضرة ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم ¬

_ (¬1) النحو: القصد والطريق يقال نحا نحوه أى قصد قصده (مختار الصحاح 650). (¬2) شرح الإسنوى 1/ 165. (¬3) المصدر السابق.

الثانى: الموضوع:

وذلك لا يتم إلا بأن يعرفه ما فى نفسه فاحتيج إلى وضع شىء يحصل به التعريف. الثانى: الموضوع: تقدم أن الشخص محتاج إلى أن يعرف الغير ما فى نفسه، وجدير بالذكر التنبيه على أن هذا التعريف يكون بواحد من ثلاثة هى: (أ) اللفظ. (ب) الإشارة. (ج) المثال. ولما كان اللفظ أعم الثلاثة وأنفعها كانت الحاجة ماسة إلى وضعه للتعريف به. قال الشيخ تاج الدين السبكى رحمه الله (¬1): «ومن لطف الله تعالى إحداث الموضوعات، لأنها أفيد هذه الثلاثة وأيسرها. أما كونها أفيد فلأنها تعم كل شىء معلوم موجود ومعدوم إلى غير ذلك لإمكان وضع اللفظ بإزاء ما أريد من تلك المعانى، بخلاف الإشارة فإنها مخصوصة بالموجودات المحسوسة وبخلاف المثال، وهو أن نجعل لما فى الضمير شكلا فإنه أيضا كذلك لا يعسر بل يتعذر أن يجعل لكل شىء مثال يطابقه، وأما كونها أيسر فلأنها موافقة للأمر الطبيعى لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضرورى، ولا شك فى أن الموافق للأمر الطبيعى أسهل من غيره». ومعنى هذا الكلام أن تعريف الشخص الآخرين ما يجول بخاطره لا يكون إلا بطريق من أصوات مقطعة أو حركات مخصوصة- مثلا- فجعلت الأصوات المقطعة هى الطريق إلى التعريف لأنها أسهل من غيرها، وأقل مؤنة، ولكون إخراج النفس أمرا ضروريا صرف هذا الأمر ¬

_ (¬1) الإبهاج 1/ 194 ط: بيروت.

الثالث: الموضوع له:

الضرورى إلى هذا التعريف، ولم يتكلف له طريق آخر غير ضرورية. أضف إلى ذلك أن الحركات والإشارات قاصرة عن إفادة جميع ما يراد، فإن ما يراد تعريفه إذ لا تمكن الإشارة الحسية إليه كالمعدومات حيث إن الإشارة تكون فى الموجود المحسوس، ولا تكون فى الغائب ولا فى المعدوم. كذلك الأمر بالنسبة للمثال الذى هو الجرم (¬1) الموضوع على شكل الشيء ليكون دالا عليه. فإنه يتأتى فى الأمور المحسوسة دون المعقولة. الثالث: الموضوع له: معلوم أن الوضع للشيء فرع عن تصوره، ومن هنا كان لا بدّ من استحضار صورة الإنسان- مثلا- فى الذهن عند إرادة الوضع له، وهذه الصورة الذهنية هى التى وضع لها لفظ الإنسان لا الماهية الخارجية، والدليل على ذلك أنا وجدنا إطلاق اللفظ دائرا مع المعانى الذهنية دون الخارجية. وبيان ذلك أننا لو شاهدنا شيئا فظنناه حجرا، فإننا نطلق عليه لفظ الحجر، فإذا دنونا منه وظنناه شجرا أطلقنا عليه حينئذ لفظ الشجر ثم إذا ظنناه إنسانا أطلقنا عليه بالتالى لفظ إنسان. وعلى هذا فالمعنى الخارجى لم يتغير مع تغيير اللفظ فدل على أن الوضع ليس له بل للذهنى (¬2). والظاهر- والله أعلم- أن الموضوع له هو المعنى بقطع النظر عن كونه ذهنيّا أو خارجيّا وذلك لأن حصول المعنى فى الخارج والذهن مع الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظ، إنما وضع للمعنى من غير تقييده بوصف زائد، ثم إن الموضوع له قد لا يوجد إلا فى الذهن فقط كالعلم (¬3) ونحوه. ¬

_ (¬1) شرح الإسنوى 1/ 166، ولسان العرب 5/ 4136. (¬2) شرح الإسنوى 1/ 167، والإبهاج 1/ 121. (¬3) المصدر الأول السابق، وارشاد الفحول 14.

الرابع: فائدة الوضع:

الرابع: فائدة الوضع: الغرض من وضع اللفظ بإزاء المعنى هو إفادة النسب الإسنادية أو التقييدية، أو الإضافية بين المفردات بعضها إلى بعض، وإفادة المعانى المركبة بالنسبة للمركبات، فمثلا لفظ «زيد» وضع ليستفاد به الإخبار عن مدلوله بالقيام أو غيره ولم يوضع لإفادة الذات. ولو قلنا: إن الغرض من وضع الألفاظ المفردة تصوّر هذه المعانى المفردة للزم الدور، حيث إن إفادة اللفظ لمعناه يتوقف على العلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، والعلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى يتوقف على تصور هذا المعنى، لأنه لا يتصور الوضع لشىء مجهول، ومن هنا يعلم أن تصور المعنى متقدم على العلم بالوضع، فلو قلنا: إن تصور المعنى مستفاد من الوضع لزم من ذلك أن يكون تصور المعنى متأخرا عن العلم بالوضع، وقد فرضناه متقدما عليه، وبذلك تكون النتيجة أن تصور المعنى متقدم على العلم بالوضع متأخر عنه وهو دور. فإن قيل: هذا بعينه قائم فى المركبات، لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم لكونه موضوعا لذلك المدلول والعلم به يستدعى سبق العلم بذلك المدلول، فلو استفدنا العلم بذلك المدلول من ذلك المركب لزم الدور، لأن تصور المعنى المركب متقدم عن الوضع متأخر عنه. والجواب: لا نسلم أن إفادة المركب لمدلوله متوقفة على العلم بكونه موضوعا له، بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعة للمعانى المفردة، وعلى كون الحركات المخصوصة كالرفع والنصب دالة على المعانى المخصوصة وحينئذ فلا دور (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الاسنوى 1/ 168، وأصول الفقه للشيخ زهير 1/ 198.

الخامس: الواضع للغات:

الخامس: الواضع للغات: اختلف (¬1) العلماء فى الواضع للألفاظ واللغات على أقوال أهمها ما يلى: القول الأول: أن الواضع للغات هو الله سبحانه وتعالى، وقد علمها جل شأنه لآدم عليه السلام، ثم علمها عليه السلام للبشر. وهذا القول منسوب للإمام أبى الحسن الأشعرى واختاره ابن الحاجب والإمام فى المحصول فى الكلام على القياس فى اللغات، وقال الآمدى: (¬2) إن كان المطلوب هو اليقين فالحق ما قاله القاضى- كما سيأتى- وإن كان المطلوب هو الظن وهو الحق فالحق ما قاله الأشعرى لظهور أدلته. قال الشيخ الجلال المحلى رحمه الله وهو يبين كيفية تعليم الله عباده اللغة (¬3): « ... علمها الله عباده بالوحى إلى بعض أنبيائه أو خلق الأصوات فى بعض الأجسام، بأن تدل من يسمعها من بعض العباد عليها، أو خلق العلم الضرورى فى بعض العباد بها والظاهر من هذه الاحتمالات أولها لأنه المعتاد فى تعليم الله تعالى» ¬

_ (¬1) فائدة الخلاف تظهر فى جواز قلب اللغة. أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية التى مستندها الألفاظ فهذا لا خلاف فى تحريم قلبه لما يلزم عليه من تخليط الأحكام وتغيير النظام. وأما ما لا تعلق له بالشرع فقال بعضهم: إن قلنا اللغات توقيفية امتنع تغييرها فلا يسمى الثوب فرسا أو اصطلاحية لم يمتنع- حاشية البنانى 1/ 269 - . (¬2) الأحكام 1/ 71، 72 وشرح العضد 1/ 194، والتمهيد 31، وشرح الإسنوى 1/ 171، وإرشاد الفحول 12. (¬3) شرح الجلال 1/ 270.

وجه الاستدلال:

فأصحاب هذا القول يرون أن اللغات توقيفية (¬1). وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلى: أولا: قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا (¬2) وجه الاستدلال: إن الله عز وجل أخبر بأنه علم آدم الأسماء كلها، وأن آدم عليه السلام علم الملائكة تلك الأسماء، ومقتضى هذا أن كلا من آدم والملائكة لم يكن واضعا لها، وإلا لما احتاج إلى أن يتعلمها من غيره، فدل ذلك على أن الواضع هو الله عز وجل الذى علمها- كما أخبر- لآدم عليه السلام وهو المطلوب. وقد قال بعض العلماء (¬3): إن «علّم» معناه أوجد فيه العلم لأن التعليم تفعيل وهو لإثبات الأثر بالنقل عن أئمة اللغة، فيكون لإثبات العلم فى آدم ويلزم من ذلك التوقيف وذلك لأن الأسماء بأسرها توقيفية وذلك لعدم القائل بالفصل، ولأنه يتعذر الإعراب عن جميع المعانى التى فى النفس بالأسماء وحدها. أضف إلى ذلك أن الاسم مشتق من السمة، وهى العلامة والأفعال والحروف علامة على مسمياتها فلزم من ذلك دخولهما تحت قوله تعالى: ¬

_ (¬1) معنى توقيفية: أى وضعية مجازا من إطلاق اسم السبب الذى هو التوقيف الذى معناه التعليم على متعلق المسبب وهو الإدراك ومتعلقه هو الوضع- حاشية البنانى 1/ 269 - (¬2) سورة البقرة آيتا: 31، 32. (¬3) حاشية البنانى 1/ 270.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلى:

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وقد نوقش هذا الدليل بما يلى: 1 - لا نسلم أن الأسماء فى الآية هى اللغات، بل يجوز أن يكون المراد بها سمات الأشياء وخصائصها، كتعليم أن الخيل- مثلا- تصلح للكرّ (¬1) والفرّ، والجمال للحمل، والثيران للزراعة وهكذا. فأما تعليم الخواص فواضح، وأما تعليم السمات أى العلامات فتقريره من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الأشياء علامات دالة على تلك الحيوانات، فإنه يعرف بمشاهدة الحرث- مثلا كونه من البقر، فإذا علمه هذه الأشياء فقد علمه سمة على الذوات أى علامة عليها. الوجه الثانى: أن الله تعالى علّم آدم علامات ما يصلح للكر والفر، وعلامات ما يصلح للحمل وغير ذلك، حتى إذا شاهد صفة ما يصلح للحمل فى ذات استعملها فى الحمل. 2 - يحتمل أن يكون المراد بالتعليم فى الآية هو الإلهام كما فى قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ (¬2). أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر. 3 - سلمنا أن الله عز وجل وضع اللغات وعلمها آدم عليه السلام، ولكن يجوز أن يكون آدم عليه السلام قد نسى ما علمه من الله عز وجل فاصطلح أولاده على لغة يتعارفون بها، وبذلك تكون اللغات ¬

_ (¬1) الكر: الرجوع يقال فرس مكرّ- بالكسر- أى يصلح للكر والحملة، ويقال فرس مفر- بكسر الميم- أى يصلح للفرار عليه- مختار الصحاح 496، 567 - (¬2) سورة الأنبياء الآية: 80.

وجه الاستدلال:

التى تتكلم بها الآن من وضع البشر لا من وضع الله، والخلاف بما هو فى اللغات التى نتكلم بها الآن لا فى أصل اللغة (¬1) ثانيا: قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ (¬2). وجه الاستدلال: أن الله عز وجل ذم قوما على تسميتهم بعض الأشياء من دون توقيف بقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم. وقد نوقش هذا الدليل بأن الذم فى الآية ليس على التسمية، وإنما الذم على وضعهم هذه الأشياء بأنها آلهة، فالذم على ما اخترعوه من الأسماء للأصنام فوجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله عز وجل. ثالثا: قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ (¬3) وجه الاستدلال: أن الله عز وجل امتن علينا فى هذه الآية باختلاف الألسنة، وجعله آية على عظمته وقدرته، وظاهر أنه ليس المراد باللسان هو الجارحة ¬

_ (¬1) شرح الاسنوى 1/ 173، وارشاد الفحول 13، وأصول الشيخ زهير 1/ 202. (¬2) سورة النجم الآية: 23. (¬3) سورة الروم الآية: 22.

اتفاقا، لأن الاختلاف فيها قليل، ثم إنه غير ظاهر بخلاف الوجه ونحوه، فتعين أن يكون المراد باللسان هو اللغة مجازا كما فى قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (¬1). وعلى هذا فلو لم تكن اللغة توقيفية لما امتن الله علينا بها. ونوقش هذا الدليل: بأن الألسنة ما دام قد أريد بها اللغات مجازا، فلا شك أن الآية كما تحتمل الامتنان بالخلق والوضع، تحتمل كذلك أن يكون الامتنان بخلق القدرة على وضعها من البشر، وكلا الأمرين علامة وآية على قدرة الله سبحانه وتعالى، وما دام لا قرينة ترجح أحد الاحتمالين على الآخر، يكون حملها على الخلق والوضع دون الإقدار على الخلق والوضع تحكما وترجيحا بلا مرجح (¬2). رابعا: أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما فى ضميره، وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة، وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقف وهو المطلوب. ونوقش هذا الدليل: يمنع لزوم التسلسل لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى، ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك، وليس المراد أن الاصطلاح لا يكفى فى التعريف باعتبار ذاته، بل لا بدّ فى تعريفه للغير من اصطلاح آخر حتى يلزم التسلسل. خامسا: لو كانت اللغات من وضع البشر لجور العقل اختلافها، وأنها على غير ما كانت عليه، لأن اللغات قد تبدّلت وتغيّرت وحينئذ لا يوثق بها. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم الآية: 4. (¬2) شرح الإسنوى 1/ 173، وأصول الفقه للشيخ زهير 1/ 203.

قال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله:

وقد نوقش هذا الدليل: بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر فالأصل عدمه. القول الثانى: أن الواضع للغات هو البشر. وهذا القول للمعتزلة (¬1). قال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله (¬2): «وقال أكثر المعتزلة هى اصطلاحية أى وضعها البشر واحدا فأكثر حصل عرفانها لغيره منه بالإشارة والقرينة كالطفل، إذ يعرف لغة أبويه بهما». وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلى: قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وجه الدلالة: أن معنى قوله: بِلِسانِ قَوْمِهِ أى بلغة قومه، وهذا يقتضى تقدم اللغة على بعثة الرسل. فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور، لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها (¬3). وأجيب عن هذا: بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال، إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور، لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة لترتب فائدة الإرسال عليه. ¬

_ (¬1) البرهان لإمام الحرمين 1/ 170، وإرشاد الفحول 12. (¬2) شرح الجلال 1/ 270. (¬3) الإحكام للآمدى 1/ 71، وشرح العضد 1/ 194، وإرشاد الفحول 13.

السادس: طريق معرفة اللغة:

القول الثالث: أن ابتداء اللغة رفع بالاصطلاح والباقى توقيف. وهذا القول (¬1) منسوب إلى أبى إسحاق الأسفرائيني رحمه الله. وتتلخص وجهة أصحاب هذا القول فى أن فهم ما جاء توقيفا لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة. ويجاب عن ذلك: بأن التعليم بواسطة رسول أو بإلهام يغنى عن ذلك. القول الرابع: الوقف وعدم الجزم برأى معين لأنه يحتمل أن تكون الجميع توقيفية، وأن تكون اصطلاحية، وأن يكون البعض هكذا والبعض هكذا، فإن جميع ذلك ممكن والأدلة متعارضة فوجب التوقف، وهذا هو مذهب القاضى أبى بكر وجمهور المحققين وهو المختار (¬2). السادس: طريق معرفة اللغة: الحق أنه يمكن معرفة أن اللفظ المعين موضوع للمعنى بواحد من أمور ثلاثة: 1 - النقل المتواتر كلفظ السماء والأرض، والحر والبرد، ونحو ذلك مما لا يقبل التشكيك وهذا الطريق يفيد القطع (¬3). 2 - النقل بطريق الآحاد كلفظ «القرء» ونحوه من الألفاظ العربية وهذا الطريق يفيد الظن وهو كاف فى إثبات اللغة. 3 - النقل مع العقل كما إذا نقل إلينا أن الجمع المعرف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا أن الاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ فيحكم العقل بواسطة هاتين المتقدمتين أن الجمع المعرف للعموم. ¬

_ (¬1) المرجع الأخير. (¬2) الإحكام 1/ 71، وشرح العضد 1/ 194، وشرح الجلال 1/ 271. (¬3) شرح البدخشى 1/ 176، وشرح العضد 1/ 198.

وأما العقل الصّرف (¬1) - بكسر الصاد- فلا ينفع فى معرفة اللغات، لأن العقل إنما يستقل بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وأما وقوع أحد الجائزين فلا يهتدى إليه واللغات من هذا القبيل لأنها متوقفة على الوضع. هذا: وبعد أن انتهيت من الكلام عن الوضع وما يتصل به فإن المقام يقتضى منى أن أسبح فى موائد الكرم التى وضعها علماء الأصول للحديث عن اللفظ، وما يتعلق به على حسب ما تقتضيه طبيعة الكتابة فى موضوع القرآن الكريم فأقول وبالله التوفيق: ¬

_ (¬1) أى الخالص- مختار الصحاح 361 -

الباب الثالث فى مباحث الألفاظ

الباب الثالث فى مباحث الألفاظ وفيه فصول الفصل الأول: فى أقسام اللفظ باعتبار المعنى الذى وضع له. الفصل الثانى: فى اللفظ باعتبار المعنى الذى استعمل فيه. الفصل الثالث: فى اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه. الفصل الرابع: فى كيفية دلالة اللفظ على المعنى.

الفصل الأول فى أقسام اللفظ باعتبار المعنى الذى وضع له وفيه مباحث

الفصل الأول فى أقسام اللفظ باعتبار المعنى الذى وضع له وفيه مباحث المبحث الأول: فى العام. المبحث الثانى: فى الجمع المنكر. المبحث الثالث: فى الخاص. المبحث الرابع: فى الأمر والنهى. المبحث الخامس: فى المطلق والمقيد. المبحث السادس: فى المشترك.

المبحث الأول فى العام

المبحث الأول فى العام عرف العلماء العام بتعاريف كثيرة ليس من الحكمة بحثها ولا الموازنة بينها لأن ذلك مخالف لطبيعة البحث والذى أختاره من هذه التعاريف ما ذكره الإمام البيضاوى رحم الله حيث قال (¬1): «العام: لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد» (¬2). وذلك كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (¬3) فالإنسان عام أى يدل على استغراق أفراد مفهوم فإذا حلل (¬4) اللفظ آل (¬5) إلى جميع أفراد ذلك المفهوم الذى وضع له لفظ إنسان، ولما كان هذا اللفظ مفردا معرفا بأل الجنسية أفاد العموم (¬6). فاللفظ ما تركب من ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن عمر البيضاوى الشافعى ولد بفارس وكان إماما تقيا ففيها أصوليا توفى رحمه الله سنة 685 هـ- الفتح المبين 2/ 88 - (¬2) شرح الإسنوى: 2/ 56، 57. (¬3) سورة العصر الآية: 2. (¬4) يقال حل العقدة يحلها حلا إذا فتحها فانحلت فكأن اللفظ إذا حلل ظهر لنا ما تضمنه من أفراد- لسان العرب 2/ 976. (¬5) آل يعنى رجع وبابه قال- مختار الصحاح 33. (¬6) يلاحظ أن العام قد يكون عاما من جهة اللغة أو من جهة العرف أو من جهة العقل. ف لأول: ما استفيد عمومه من جهة اللغة بمعنى أن اللفظ قد وضع فى اللغة للعموم وهو نوعان: النوع الأول: ما دل على العموم بنفسه من غير احتياج إلى قرينة وهذا النوع له ألفاظ كثيرة منها: (أ) ألفاظ تعم العاقل وغير العاقل مثل- الاستفهامية أو الشرطية وكل وجميع.

بعض الحروف الهجائية وهو جنس فى التعريف يشمل كل لفظ مفردا كان أو مركبا مهملا أو مستعملا مستغرقا أو غيره مستغرق. وقوله: «يستغرق» الاستغراق معناه: التناول لما وضع له اللفظ (¬1)، وهو قيد فى التعريف، خرج به اللفظ المهمل (¬2)، لأن الاستغراق فرع الوضع والمهمل غير موضوع، وخرج به أيضا المطلق والنكرة فى سياق الإثبات، أما المطلق فلأنه لم يوضع للأفراد، وإنما وضع للماهية فلا يكون مستغرقا لها (¬3). ¬

_ (ب) ألفاظ للعاقل فقط مثل «من» الاستفهامية أو الشرطية واستعمالها فى غير العاقل قليل كقوله تعالى: (فمنهم من يمشى على بطنه) [النور 45] (ج) ألفاظ لغير العاقل مثل «ما» كقولنا: اشتر ما رأيت. (د) ألفاظ تعم فى الزمان مثل «متى» الاستفهامية أو الشرطية. (هـ) ألفاظ تعم فى المكان مثل «أين» النوع الثانى: ما دل على العموم لغة بواسطة القرينة كالنكرة فى سياق النفى مثل «لا رجل فى الدار» فوجود النفى هنا قرينة على إدارة العموم فى كلمة «رجل» والثانى: ما استفيد عمومه من جهة العرف مع كون اللفظ بمقتضى وضعه اللغوى لا يفيد العموم كقوله تعالى: (حرّمت عليكم أمهاتكم) [النساء 23] فاللفظ باعتبار وضعه اللغوى يفيد حرمة شىء ما من الأمهات وهذا يصدق بحرمه وطئهن، ولكن أهل العرف نقلوه من هذا المعنى وجعلوه مقيدا لحرمة جميع الاستمتاعات المتعلقة بالأمهات من الوطء والقبلة والنظر والمس بشهوة فكان العموم من جهة العرف. والآخر: ما استفيد عمومه من جهة العقل دون اللغة أو العرف، وذلك كاللفظ المشتمل على ترتيب الحكم على الوصف مثل قول الشارع: «حرمت الخمر للإسكار» فالعقل يحكم بأن العلة كلما وجدت وجد المعلول، وكلما انتفت انتفى المعلول وبذلك يكون عموم اللفظ هنا ثابتا بالعقل ولا يقال إنه ثابت باللغة لأن اللفظ باعتبار وضعه اللغوى إنما أفاد أن الوصف علة للحكم فقط، وهذا لا يقتضى لغة عمومه (الإحكام 2/ 55، 56، وشرحى الأستوي والإبهاج 2/ 56، وأصول الفقه زهير 2/ 199). (¬1) مختار الصحاح: 472. (¬2) المهمل هو ما لم يوضع للإفادة كأسماء حروف الهجاء- اللمع للشيرازى 4. (¬3) المطلق فى اللغة الشامل لأى فرد وهو يدل على الحقيقة من غير قيد يقيدها ومن غير

وأما النكرة فلأنها، وإن وضعت للفرد الشائع سواء كان واحدا كما فى النكرة المفردة «رجل» أو متعددا كما فى النكرة المثناة أو المجموعة «رجلين ورجال» إلا أن النكرة لم تستغرق ما وضعت له بمعنى أنها لم تتناوله دفعة واحدة وإنما تناولته على سبيل البدل فإذا قيل: أكرم رجلا كان معناه حقق الإكرام فى أى رجل شئت: فى خالد أو فى بكر، مثلا ولا يقتضى ذلك تحقيق الإكرام فى خالد وبكر فى وقت واحد، لأن اللفظ لم يدل على ذلك وهكذا. وقوله: «جميع ما يصلح له» الذى يصلح له اللفظ هو ما وضع له اللفظ لغة، وعلى ذلك فالمعنى الذى لم يوضع له اللفظ لا يكون صالحا له. فكلمة «من» لفظ وضع للعاقل وكلمة «ما» وضعت لغير العاقل فيلزم من ذلك أن يكون لفظ «من» صالحا للعاقل غير صالح لغيره ويكون لفظ «ما» صالحا لغير العاقل فقط. فإذا استعمل لفظ «من» فى العاقل ولفظ «ما» فى غير العاقل صدق على كل منهما أنه عام لأنه استغرق الصالح له، وعدم صلاحية كل منها لغير ما وضع له لا يخرجه عن كونه عامّا فيما وضع له، وبهذا ظهر أن هذا القيد قصد به تحقيق معنى العموم كما قصد به الاحتراز عن اللفظ الذى استعمل فى بعض ما يصلح له كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (¬1) فإن الناس الأولى مراد بها نعيم بن مسعود الأشجعى (¬2) فقط. فمثل هذا لا يكون عامّا لأنه لم يستغرق جميع ما يصلح له بل استعمل فى بعض ما يصلح له. ¬

_ ملاحظة لعدد أو لواحد فقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة 3] يدل على المطالبة بعتق رقبة من غير ملاحظة أن يكون واحدة أو أكثر مؤمنة أو كافرة، أما العام فإنه يدل على الماهية باعتبار تعددها كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [القتال 4] فهو لفظ عام يعم المقاتلين. (¬1) سورة آل عمران الآية: 173. (¬2) تفسير القرطبى: 2/ 1521.

أنواع العام:

قال الفارسى (¬1): ومما يقوى أن المراد به واحد فقط قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ (¬2) فوقعت الإشارة بقوله: ذلِكُمُ إلى واحد بعينه ولو كان المعنى جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان. فهذه دلالة ظاهرة فى اللفظ (¬3). وقوله: «بوضع واحد» إما أن يكون متعلقا بقوله: «يصلح له» ويكون المعنى أن استغراق اللفظ لما يصلح له إنما يكون بواسطة وضع واحد لا بواسطة أوضاع متعددة، وأما أن يكون حالا من «ما» ويكون المعنى أن العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له حال كون المعنى الذى يصلح له اللفظ قد ثبت بوضع واحد. وخرج بهذا القيد المشترك (¬4) اللفظى إذا استعمل فى معاينة المتعددة، وذلك كاستعمال العين- مثلا- فى الباصرة والجارية والذهب، فإنه لا يكون عامّا لأن استغراقه لهذه المعانى دفعة واحدة ليس بوضع واحد، وإنما هو بأوضاع متعددة (¬5). أنواع العام: للعام ثلاثة أنواع هى: 1 - عام يراد به العموم وهو العام الذى صحبته قرينة تنفى احتمال تخصيصه كالعام فى قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها (¬6) ¬

_ (¬1) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو على الفارسى توفى رحمه الله سنة 377 هـ ببغداد- إنباه الرواة للقفطى 1/ 273 دار الكتب. (¬2) سورة آل عمران الآية: 175. (¬3) الإتقان فى علوم القرآن: 3/ 51. (¬4) المشترك هو لفظ واحد وضع لمعنيين فأكثر بوضع مستقبل- إرشاد الفحول 19، وأصول الفقه للشيخ زهير 2/ 35. (¬5) شرح الأستوي: 2/ 57، 58. (¬6) سورة هود الآية: 6.

وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (¬1) فيلاحظ أن فى كل آية من هاتين الآيتين تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل ولا تتغير، فالعام فيهما قطعى الدلالة على عمومه، ولا يتصور أن يراد به الخصوص. 2 - عام يراد به قطعا الخصوص وهو العام الذى صحبته قرينة تنفى بقاءه على عمومه وتبين لنا أن المراد منه بعض أفراده. ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (¬2) فالمراد من الناس فى الآية هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمعه ما فى الناس من الخصال الحميدة (¬3). وقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى (¬4) فالمراد من الملائكة هنا جبريل عليه السلام كما فى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه (¬5). 3 - عام مخصوص وهو العام المطلق الذى لم تصحبه قرينة تنفى احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفى دلالته على العموم كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬6) ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء الآية: 30. (¬2) سورة النساء الآية: 54. (¬3) تفسير ابن كثير: 2/ 595. (¬4) سورة آل عمران الآية: 39. (¬5) تفسير القرطبى: 2/ 1316. (¬6) سورة البقرة الآية: 228.

فالمتصل خمسة وقعت فى القرآن الكريم هى:

فهذا النص عام فى كل مطلقة سواء كانت حاملا أو غير حامل، وسواء كان الطلاق قبل الدخول أو بعده، ولكن هذا العموم خص بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬1) وبقوله جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها (¬2) وبتخصيص الآية الأولى بهاتين الآيتين يستفاد أن المطلقة تعتد بثلاثة قروء إذا لم تكن حاملا، وبشرط أن تكون مدخولا بها. على العموم المخصص للعام نوعان: (أ) متصل. (ب) منفصل. فالمتصل خمسة وقعت فى القرآن الكريم هى: 1 - الاستثناء: وذلك نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا (¬3) وقد اتفق العلماء على أن الاستثناء هنا راجع إلى قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ولم يرجع إلى الجلد لأنه لا بدّ من إقامة الحد على القاذف، ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية: 4. (¬2) سورة الأحزاب الآية 49. (¬3) سورة النور آيتا: 4، 5.

والخلاف كله بين العلماء مداره على رجوع الاستثناء على الجملة الأخيرة فقط، أو على ما قبلها كذلك. عند أصحاب الشافعى رضى الله عنهم الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل المتعاقبة بالواو، وعند أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنهم، الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، وعليه فلا تقبل له شهادة أبدا لاختصاص الاستثناء بالجملة (¬1) الأخيرة. 2 - الشرط: كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (¬2) وقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا (¬3) أى إذا ما تركوا ما نهى الله عنه (¬4). 3 - الصفة: كقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ (¬5) ¬

_ (¬1) الإحكام 2/ 278، وتخريج الفروع على الأصول للزنجانى 204، وشرح الجلال المحلى 2/ 16 - 19 والروضة 5/ 341 (¬2) سورة النور الآية: 33. هذا وقد قال الفقهاء: إن الكتابة عبارة عن عتق بلفظها بعوض منجم بنجمين فأكثر وهى مستحبة إن طلبها الرقيق من سيدة وكان أمينا فيما يكسبه قادرا على الكسب (الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع 4/ 137، 138) (¬3) سورة المائدة الآية: 93. (¬4) تفسير البيضاوى: 161. (¬5) سورة النساء الآية: 25.

ومن أمثلة ما خص بالقياس: قوله تعالى:

4 - الغاية: كقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (¬1) وقوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (¬2) 5 - بدل البعض من الكل كقوله جل شأنه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (¬3) وأما المنفصل فقد يكون آية أخرى فى موضع آخر، وقد يكون حديثا أو إجماعا أو قياسا. مثال الأول: قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وقد تقدم قريبا الكلام حول هذه الآية. ومثال الثانى: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬4) فإن النص عام فى كل سارق، سواء كان المسروق نصابا أولا، ولكن هذا العموم خص بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع يد سارق إلا فى ربع دينار فصاعدا» (¬5) ومن أمثلة ما خص بالإجماع: آية المواريث خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع (¬6). ومن أمثلة ما خص بالقياس: قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 196. (¬2) سورة الإسراء الآية: 15. (¬3) سورة آل عمران الآية: 97. (¬4) سورة المائدة الآية: 38. (¬5) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 46. (¬6) الوجيز فى الميراث: 8.

دلالة العام:

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬1) فالنص عام فى كل زان سواء كان حرّا أو عبدا، ولكن خص منه العبد بالقياس على الأمة المنصوص عليها فى قوله جل شأنه: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (¬2) هذا وجدير بالذكر التنبيه على أن هناك فارقا بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص ويظهر هذا الفارق جليّا كما يلى: أولا: أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل فى فرد منها والثانى: أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها لا من جهة الحكم. ثانيا: أن الأول مجاز قطعا لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلى، بخلاف الثانى فإن فيه مذاهب: أصحها أنه حقيقة وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة. ثالثا: أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا وفى الثانى خلاف (¬3). دلالة العام: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن دلالة العام على جميع أفراده ظنية لأن أكثر ما ورد من ألفاظ العموم أريد به بعض الأفراد لا جميعها. ¬

_ (¬1) سورة النور الآية: 2. (¬2) سورة النساء الآية: 25. (¬3) الإتقان فى علوم القرآن 3/ 50، وارشاد الفحول للشوكانى 140، 141.

قال الشيخ علاء الدين البخارى رحمه الله:

وذهب جمهور الحنفية إلى أن دلالة العام على كل أفراده قطعية ما لم يدل دليل على خروج بعضها منه لأنه موضوع للدلالة على أفراده على سبيل الشمول والاستغراق، واحتمال خروج بعض أفراده منه من غير دليل لا يؤبه (¬1) له وإلا ضاعت الثقة باللغة. قال الشيخ علاء الدين البخارى رحمه الله (¬2): «العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله أى فى جميع الأفراد الداخلة تحته قطعا ويقينا»، وإذا دل دليل على خروج بعضها منه فإنه يكون ظنيّا فى الباقى كذلك عند جمهور الأصوليين، لأن دلالته على جميع أفراده ما دامت ظنية لا يؤثر فيها خروج شىء من أفراده معينا كان الخارج أو غير معين، أما عند الحنفية ففي المسألة تفصيل يقتضى بيان ما يكون به قصر العام على بعض أفراده، فإن من أنواع القاصر ما لا يؤثر فى حجية العام فتبقى دلالته على الباقى قطعية، ومنها ما يؤثر فيها فيجعل دلالته على الباقى ظنية (¬3). على العموم ليس بين الجمهور والحنفية اختلاف جوهرى من الناحية العملية وذلك لأنه لا خلاف بينهم فى أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم دليل على تخصيصه، ولا فى أن العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذى لم يقم دليل على تخصيصه قطعى الدلالة على العموم ما أرادوا بكونه قطعى الدلالة، أنه لا يحتمل التخصيص مطلقا، وإنما أرادوا أنه لا يخصص إلا بدليل، والقائلون بأنه ظنى الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقا، وإنما أرادوا أنه يخصص بدليل (¬4). ¬

_ (¬1) أى لا يهتم به ولا يلتفت إليه (لسان العرب 1/ 14) (¬2) كشف الأسرار عن أصول البزدوى 1/ 291 (¬3) انظر تفصيل هذا فى: كشف الأسرار عن أصول البزدوى 1/ 291، وفواتح الرحموت 1/ 265، حيث إن ذكره بالتفصيل يتعارض مع طبيعة الموضوع. (¬4) علم أصول الفقه للشيخ خلاف 185، وأصول التشريع الإسلامى للشيخ على حسب الله 278.

قال الشيخ الزنجانى رحمه الله تعقيبا على كلام الحنفية:

هذا وقبل أن أنهى الكلام عن العام أذكر بإيجاز من باب الفائدة مسائل متعلقة به ذكرها العلماء قديما وتناولوها بالشرح والبيان: المسألة الأولى: اختلف العلماء فى لفظ «من» وهو من صيغ العموم هل يتناول الأنثى؟ أو هو خاص بالذكر؟ ذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه ومن نهج نهجه إلى القول بأن «من» إذا وقعت شرطا عمت الذكور والإناث وذلك لإشعارها بالعموم عند الإبهام فى باب الشرط، واتفاق الشرع والوضع على القضاء بذلك، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (¬1) فالتفسير بها دال على تناول «من» لهما، وقال سبحانه: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً (¬2). ومن قال: «من أتانى أكرمته» لم يختص وجوب إكرامه بالذكور دون الإناث، وكذلك من قال: «من دخل دارى من أرقائى فهو حر» اندرج فى حكم التعليق الذكور والإناث (¬3). وذهب السادة الحنفية إلى أنها تخص الذكور دون الإناث، وقالوا: بأن من ذهب إلى القول بأنها تشمل الذكور والإناث فقد أبطل تقسيم العرب فيهما، فإنهم قالوا فى الذكور: من ومنان ومنون وفى الإناث: منه ومنتان ومنان. قال الشيخ الزنجانى رحمه الله تعقيبا على كلام الحنفية (¬4): «غير أن هذا ضعيف فإنه من شواذ اللغة والقانون الأصلى فى بابها ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 124. (¬2) سورة الأحزاب الآية: 31. (¬3) تخرج الفروع على الأصول للزنجانى 178، 179، وشرح الجلال المحلى 1/ 428. (¬4) المرجع الأول السابق.

التعميم كما ذكرنا، ويتفرع عن هذا الأصل أن المرتدة تقتل عند الشافعى رضى الله عنه تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬1) وعندهم- أى الحنفية- لا تقتل لقصور اللفظ عن تناولها» المسألة الثانية: الأصح فى الأصول أن الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ يشمل الكافر والعبد وذلك لعموم اللفظ، وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه بالفروع، ولا العبد لصرف منافعه إلى سيده شرعا (¬2). المسألة الثالثة: اختلف العلماء فى العام إذا سبق للمدح كقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (¬3) أو الذم كقوله تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (3) هل هو باق على عمومه؟ على مذاهب: الأول: نعم حيث إنه لا تنافى ولا تضاد بين العموم وبين المدح أو الذم، ولم يوجد صارف يصرفه عن عمومه، وهو لأكثر الحنفية والمالكية والحنابلة (¬4). الثانى: لا يبقى على عمومه، لأنه لم يسق للتعميم وإنما سيق للمدح ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه بمعناه 2/ 40. وابن ماجة فى سننه 2/ 848. (¬2) المعتمد فى أصول النفقة لأبى الحسين البصرى 1/ 294 وتنقيح الفصول 196، والإتقان 3/ 57. (¬3) سورة الانفطار آيتا: 13، 14. (¬4) فواتح الرحموت 1/ 283، وتيسير التحرير 1/ 257.

أو الذم وهو للإمام الشافعى رحمه الله (¬1). وبناء على عدم إفادته العموم منع بعض الشافعية الاستدلال بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (¬2) على وجوب الزكاة فى الحلى من الذهب والفضة، لا من اللؤلؤ وغيره بأن هذا العام وقع فى معرض الذم فلا عموم له فيجوز ألا يتناول الحكم الحلى. والثالث: التفصيل فيعم إذا لم يعارضه عام آخر لم يسق لذلك، ولا يعم إن عارضه ذلك. وهذا المذهب عبر الشيخ جلال الدين السيوطى عنه بالأصح (¬3). مثال العام الذى يفيد العموم حيث لا معارض قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ومثاله مع المعارض قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (¬4) فهذا النص سيق للمدح وظاهره يعم الأختين بملك اليمين جمعا، وعارضه فى ذلك قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ (¬5) ¬

_ (¬1) التمهيد للأسنوى: 98. (¬2) سورة التوبة آيتا: 34، 35. (¬3) الإتقان 3/ 56. (¬4) سورة المؤمنون آيتا: 5، 6. (¬5) سورة النساء الآية: 23.

فهو عام فى كل أختين ولم يسق للمدح، وإنما سيق بعد ذكر المحرمات إلحاقا لمحرمات تعم الحرائر والإماء. ومن هنا حمل العلماء النص الأول المسوق للمدح على غير ذلك بأن لم يرد تناوله له. ومثاله فى الذم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... الآيتان فواضح أنه مسوق للذم، وظاهره يعم الحلى المباح لكن عارضه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة فى الحلى» (¬1) فحمل الأول على غير ذلك. المسألة الرابعة: اختلفت العلماء فى الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ على ثلاثة مذاهب هى: المذهب الأول: وهو أصحها (¬2) وعليه الأكثرون نعم لعموم الصيغة له. والثانى: لا يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره ولماله من الخصائص. والثالث: إن اقترن الخطاب بكلمة «قل» لم يشمله صلى الله عليه وسلم لظهوره فى التبليغ وذلك قرينة عدم شموله والا فيشمله. المسألة الخامسة: اختلف فى الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقى فى المعرفة من حديث عافية بن أيوب عن الليث عن أبى الزبير عن جابر ثم قال: لا أصل له وإنما يروى عن جابر من قوله وعافية قيل ضعيف وقال ابن الجوزى ما نعلم فيه جرحا. وقال البيهقى مجهول ونقل ابن أبى حاتم توثيقه عن أبى زرعة- تلخيص الحبير 2/ 176. (¬2) الإتقان 3/ 57.

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (¬1) وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (¬2) هل يشمل الأمة؟ فقيل نعم لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا. والأصح فى الأصول المنع لاختصاص الصيغة به (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 67. (¬2) سورة الأحزاب الآية 1. (¬3) شرح الجلال المحلى 1/ 426.

المبحث الثانى فى الجمع المنكر

المبحث الثانى فى الجمع المنكر هو لفظ يتناول كثيرا من الأفراد ولا يستغرق جميع ما يصلح له. مثاله: قال تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ (¬1) فلفظ رجال يتناول كثيرا من الأفراد إلا أنه لا يستغرق جميع ما يصلح له. قال الشوكانى رحمه الله (¬2): « ... ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه «الجمع المنكر» للعموم فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة ومعاندة لما يعرفه كل عارف بها». وكذلك لفظ مَقاعِدَ فى قوله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ (¬3) وقد ذهب جمهور المحققين إلى أن الجمع المنكر ليس بعام وذلك لعدم استغراقه جميع ما يصلح له، فهو لا يتبادر منه عند إطلاقه الاستغراق لأفراد مفهومه، ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك وعليه فليس الجمع المنكر عاما. أضف إلى ذلك: أن لفظ رجال يمكن نعته بأىّ جمع شئنا فيقال: رجال ثلاثة وأربعة وخمسة، فمفهوم قولك: رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام، والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد ¬

_ (¬1) سورة النور آيتا 36، 37. (¬2) إرشاد الفحول 123. (¬3) سورة الجن الآية 9.

من هذه الأقسام، فلا يكون دالا عليها، وأما الثلاثة فهى مما لا بدّ فيه فيثبت أنه يفيد الثلاث فقط. وإذا كان الجمع المنكر ليس عامّا فهو كذلك ليس خاصا وذلك لتناوله كثيرا غير محصور من الأفراد، وعليه فيكون واسطة بين العام والخاص، ويكون حجة قطعية فى أقل الجمع دون ما فوقه، اللهم إلا إن وقع فى سياق النفى فيكون حينئذ عامّا كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (¬1) فلفظ بيوت فى الآية مستغرق جميع ما يصلح له لوقوعه فى سياق النفى وعليه فيفيد العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن الجمع المنكر يفيد العموم مطلقا وذلك بناء على تفسير العام بما يتناول كثيرا من الأفراد، سواء كان مستغرقا أو غير مستغرق. والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما ذكر. ¬

_ (¬1) سورة النور الآية 27.

المبحث الثالث فى الخاص

المبحث الثالث فى الخاص عرف العلماء الخاص بأنه: اللفظ الدال على مسمى واحد (¬1). أنواع الخاص: للخاص ثلاثة أنواع هى: 1 - خاص شخصى كأسماء الأعلام مثل: خالد وبكر. 2 - خاص نوعى مثل: رجل وامرأة وفرس. 3 - خاص جنسى مثل: إنسان. وإنما كان النوعى والجنسى من الخاص، لأن المنظور إليه فى الخاص هو تناول اللفظ لمعنى واحد من حيث إنه واحد بغضّ النظر عن كونه له أفراد فى الخارج، أو ليس له أفراد، ولا شك أن الخاص النوعى مثل «رجل» موضوع لمعنى واحد وهو الذكر الذى تجاوز حد الصغر، وكون هذا المعنى له أفراد فى الخارج لا يهم. وكذلك الخاص الجنسى مثل «إنسان» موضوع لمعنى واحد أى حقيقة واحدة وهى الحيوان الناطق، وكون هذه الحقيقة الواحدة لها أنواع فى الخارج لا يؤثر لأنها غير منظور إليها (¬2). حكم الخاص: واضح أن الخاص بين فى نفسه فلا إجمال فيه، ومن ثم فهو يدل على معناه الموضوع له، دلالة قطعية أى بدون احتمال ناشئ عن ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول 141 (¬2) الوجيز فى أصول الفقه 278 - 280.

دليل، ويثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن، وذلك كقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ (¬1). فالحكم المستفاد من هذا النص هو وجوب صيام ثلاثة أيام، لأن لفظ الثلاثة (¬2) من ألفاظ الخاص فيدل على معناه قطعا، ولا يحتمل زيادة ولا نقصا. ومثله أيضا أنصبة الورثة الواردة فى القرآن فكلها قطعية لأنها من الخاص. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 89. (¬2) ألفاظ الأعداد كالثلاثة والعشرة والعشرين كلها من الخاص النوعى لأنها موضوعة لمعنى واحد هو نفس العدد أعنى مجموع الوحدات من حيث المجموع من غير نظر إلى شىء آخر وتركبه من أفراد لا يقدح فى خصومه ولا يوجب كثرة فيه، لأنه بمنزلة كثرة أجزاء زيد ويوضحه أن معنى الثلاثة لا يوجد فى كل واحد من أجزائها كما لا يوجد معنى الزيدية فى ضمن أجزاء زيد (تسهيل الوصول 36).

المبحث الرابع فى الأمر والنهى

المبحث الرابع فى الأمر والنهى الأمر (¬1): الأمر صورة من صور الخاص وقد عرفه العلماء بأنه: قول يستدعى به الفعل ممن هو دونه (¬2). وقال الشيخ شرف الدين العمريطي رحمه الله (¬3): وحده استدعاء فعل واجب ... بالقول ممن كان دون الطالب بصيغة أفعل فالوجوب حققا ... حيث القرينة انتفت وأطلقا صيغة الأمر (¬4): للأمر صيغة موضوعة فى اللغة تقتضى الفعل، وهى قوله: «افعل» أو «لتفعل» أو ما يجرى مجراهما، كالجمل الخبرية المستعملة فى الإنشاء كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (¬5) وقالت الأشعرية ليست للأمر صيغة، وهو خلاف الصواب، وذلك لأن أهل اللسان قسموا الكلام وذكروا من أقسامه الطلب، وقالوا إنه يتناول الأمر والنهى والدعاء (¬6) فالأمر كقولك: «افعل» والنهى ¬

_ (¬1) سأذكر هنا مدلول كل من الأمر والنهى وما وضعت له صيغة كليهما، لأن الكتابة فى الأوامر والنواهى تحتاج إلى سفر خاص كبير، والذى جعلنى أتعرض هنا للكلام عن الأمر والنهى أنهما من صور الخاص والتكليف عبارة عن- افعل، ولا تفعل- (¬2) اللمع 7 (¬3) لطائف الإشارات 22. (¬4) الصيغة هى العبارة المصوغة للمعنى القائم بالنفس (البرهان لإمام الحرمين 1/ 212) (¬5) سورة البقرة الآية: 233 (¬6) المتحول لحجة الإسلام الغزالى 102

ما وضعت له صيغة الأمر:

كقولك: «لا تفعل» فجعلوا لفظ «افعل» بمجرده أمرا فدل على أن له صيغة. ما وضعت له صيغة الأمر: وردت هذه الصيغة مستعملة فى الطلب على وجوه عدة، أوصلها بعضهم إلى ستة عشر وجها (¬1) هى: 1 - الإيجاب: كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬2) 2 - الندب: كقوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (¬3) 3 - الإرشاد: كقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ (¬4) 4 - الإباحة: كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (¬5) 5 - التهديد: كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (¬6) 6 - التعجيز: كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬7) 7 - الإنذار: كقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (¬8) 8 - الامتنان: كقوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ (¬9) 9 - الإكرام: كقوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (¬10) ¬

_ (¬1) المتحول 132 شرح التوضيح 1/ 152، وشرح الإسنوى 2/ 15 (¬2) سورة البقرة الآية: 34 (¬3) سورة النور الآية: 33. (¬4) سورة البقرة الآية: 282. (¬5) سورة المائدة الآية: 2 (¬6) سورة فصلت الآية: 40 (¬7) سورة البقرة الآية: 23 (¬8) سورة إبراهيم الآية: 30 (¬9) سورة الأنعام الآية: 142 (¬10) سورة الحجر الآية: 46

10 - التسخير: كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (¬1) 11 - الإهانة: كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (¬2) 12 - التسوية: كقوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا (¬3) 13 - الدعاء: كقوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً (¬4) 14 - التمنى: كقول امرئ القيس (¬5): ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وإنما اعتبر الشاعر هنا متمنيا لا مترجيا، لأن الترجى يكون فى الممكنات، والتمنى فى المستحيلات، وليل المحب لطوله كأنه مستحيل الانجلاء. 15 - التكوين كقوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ (¬6) 16 - الخبر: كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (¬7) أى صنعت ما شئت وقيل المعنى إذا لم تستح من شىء لكونه جائزا فاصنعه إذ الحرام يستحيا منه، بخلاف الجائز وعليه فيكون الأمر باقيا على معناه وقد يستعمل الخبر فى الأمر كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ (¬8) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 65. (¬2) سورة الدخان 49 (¬3) سورة الطور الآية 16 (¬4) سورة نوح الآية 28 (¬5) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو مات بأنقرة من بلاد الروم (شرح المعلقات للتبريزى 4، وديوانه 8 تحقيق أبى الفضل إبراهيم) (¬6) سورة يس الآية 82 (¬7) أخرجه ابن ماجة فى سننه من حديث ابن مسعود رضى الله عنه 2/ 1400 (¬8) سورة البقرة الآية 233

والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما يلى:

فالمعنى ليرضعن، وقد يستعمل فى النهى كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها» (¬1) فالحديث ورد بصيغة الخبر، لأن الحاء وردت مضمومة فاقتضى ذلك أن «لا» نافية وليست ناهية ونتيجة لاستعمال الصيغة فى الوجوه السابقة اختلف العلماء فيما وضعت له، وذلك بعد اتفاقهم على أنها ليست حقيقة فى جميع المعانى المذكورة: فذهب جمهور العلماء إلى أنها للوجوب (¬2) حقيقة ولا تدل على غيره إلا بقرينة لكن هل تدل على الوجوب بوضع اللغة أم بالشرع؟ فيه مذهبان: وهناك قول ثالث يفيد أنها تدل على الوجوب بالعقل (¬3). وقيل: إنها مشترك لفظى بين والندب فقط. وقيل: إنها مشترك معنوى بينهما والمعنى المشترك طلب الفعل. وقيل: إنها مشترك لفظى بين الإيجاب والندب والإباحة. وقيل: إنها مشترك معنوى بين هذه الثلاثة، والمعنى المشترك بينها هو الإذن فى الفعل. وقيل: إنها مشترك لفظى بين جميع المعانى التى استعملت فيها فيتوقف فهم المراد منها على القرائن. وقيل: إنها حقيقة فى الإباحة فقط. وقيل: إنها حقيقة فى الندب فقط. وقيل: غير ذلك (¬4). والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما يلى: أولا: لما أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة فى سننه 1/ 606 (¬2) البرهان لإمام الحرمين 1/ 216، وشرح العرض 2/ 79 (¬3) شرح الاسنوى 2/ 19 (¬4) المرجع السابق، والإحكام للآمدى 2/ 133

النهى:

لامه الله وذمه على عدم امتثال الأمر، وطرده من دار الكرامة والنعيم، وهذا يدل على أن الأمر بالسجود كان للوجوب قال تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ* قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (¬1) ثانيا: أن الله عز وجل توعد بالعذاب من يخالف أمره أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (¬2) ثالثا: أنه تعالى حذّر من مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬3) وهذا يدل على أن الأمر يفيد الوجوب، والمتأمل فى أوامر الوجوب فى القرآن يجدها مقترنة بالوعد على الفعل والوعيد على الترك. النهى: هو القول الطالب للترك على جهة الاستعلاء (¬4). ¬

_ (¬1) سورة ص الآية 71 - 78 (¬2) سورة النساء الآية 14 (¬3) سورة النور الآية 63 (¬4) المعتمد 1/ 181، وشرح الاسنوى 2/ 53، وإرشاد الفحول 109

وقال الشيخ العمريطي رحمه الله:

وقال الشيخ العمريطي رحمه الله (¬1): تعريفه استدعاء ترك قد وجب ... بالقول ممن كان دون من طلب صيغة النهى: صيغة النهى المشهورة «لا تفعل» كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى (¬2) وكقوله جل شأنه: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (¬3) وكذا ما يجرى مجراها كالجمل الخبرية المستعملة فى النهى، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (¬4) الآية، وكقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (¬5) وقد يأتى النهى باستعمال صيغة الأمر الدالة على النهى مثل قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (¬6) ما وضعت له صيغة النهى: وردت صيغة النهى فى لسان العرب لسبعة (¬7) معان هى: 1 - التحريم كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (¬8) 2 - الكراهة أو التنزيه: كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول» (¬9). ¬

_ (¬1) لطائف الإشارات 25 (¬2) سورة الإسراء الآية 32 (¬3) سورة الإسراء الآية 34 (¬4) سورة النساء الآية 23 (¬5) سورة المطففين الآية: 1. (¬6) سورة الأنعام الآية: 120 (¬7) الإحكام للآمدى 2/ 174، والإبهاج 2/ 41 (¬8) سورة آل عمران الآية 130 (¬9) أخرجه ابن ماجة فى سننه 1/ 113

3 - الدعاء: كقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا (¬1) 4 - الإشارة: كقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (¬2) 5 - بيان العاقبة: كقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً (¬3) 6 - التحقير: كقوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ (¬4) 7 - اليأس: كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ (¬5) ولما كانت صيغة النهى مستعملة فى المعانى السبعة المتقدمة اختلف العلماء فيما تفيده الصيغة حقيقة من هذه المعانى على خمسة أقوال هى: القول الأول: الصيغة حقيقة فى التحريم مجاز فيما عداه، وهذا قول الجمهور. القول الثانى: أنها حقيقة فى الكراهة مجاز فيما عداها. القول الثالث: أنها مشترك معنوى بين التحريم والكراهة فهى موضوعة للقدر المشترك بينهما وهو طلب الترك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 286 (¬2) سورة المائدة الآية: 101. (¬3) سورة آل عمران 169. (¬4) سورة الحجر 88. (¬5) سورة التحريم 7.

القول الرابع: أنها مشترك لفظى بين التحريم والكراهة، فهى موضوعة لكل منها بوضع مستقل. القول الخامس: التوقف وعدم الجزم برأى معين. والراجح من هذه الأقوال ما ذهب إليه الجمهور من أنها حقيقة فى التحريم فقط، ولا تستعمل فى غيره إلا بقرينة، ومن أكبر الأدلة على ذلك أن الله عز وجل أمرنا بالانتهاء عما نهانا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (¬1) ولا شك أن الأمر من الله لنا يفيد الوجوب فكان الانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم واجبا، ومعلوم أن مخالفة الواجب توجب المعصية والإثم فيكون فعل المنهى عنه حراما وبذلك يكون النهى للتحريم. ¬

_ (¬1) سورة الحشر الآية 7.

المبحث الخامس فى المطلق والمقيد فى القرآن

المبحث الخامس فى المطلق والمقيد فى القرآن يلاحظ أن مما يعرض للخاص الإطلاق والتقييد، وسأتكلم إن شاء الله عن مدلولها وحكمها فأقول: أولا: مدلول المطلق والمقيد. يلاحظ أن الأصوليين لم يتفقوا على مدلول واحد لكل من المطلق والمقيد، وذلك لسبب جلى هو: هو يعتبر المطلق فردا من أفراد النكرة أو لا؟ فالذين ذهبوا إلى أنه فرد من أفراد النكرة كالآمدى وابن الحاجب عرفوه بأنه: «ما دل على شائع فى أفراد جنسه» (¬1). ومعنى هذا أن يكون حصة محتملة، لحصص كثيرة فيخرج من قيد الدلالة الألفاظ المهملة، ويخرج من قيد الشيوع المعارف كلها لما فيها من التعيين، إما شخصا نحو: زيد وهذا، أو حقيقة نحو: الرجل أو استغراقا نحو الرجال: وكذا كل عام ولو نكرة نحو: كل رجل ولا رجل، فالعلم وما مدلوله معين أو مستغرق يخرج عن التعريف. وعلى هذا فالمقيد هو: ما دل لا على شائع فى جنسه، وعليه فتدخل فى هذا التعريف المعارف والعمومات كلها. والذين ذهبوا إلى أن المطلق يباين النكرة ويغايرها كالبيضاوى حيث إن النكرة عندهم: ما دل على شائع فى جنسه، سواء كان الشائع واحدا كرجل، أو مثنى ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدى 2/ 162، وحاشية التفتازانى 2/ 155، وإرشاد الفحول 164.

كرجلين، أو جمعا كرجال عرفوا المطلق بأنه: «ما دل على الحقيقة من غير تقييد». والمراد من الحقيقة ماهية الشيء التى بها يتحقق الشيء ويوجد، فالإنسان حقيقته الحيوان الناطق، والفرس حقيقة الحيوان الصاهل، لأن الإنسان يتحقق بالحيوانية والناطقية، والفرس يتحقق بالحيوانية والصاهلية، ومثال المطلق قولنا: «الرجل خير من المرأة» أى حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة. فالمراد من كل منهما الحقيقة دون الأفراد، لأن من أفراد النساء ما هو خير من بعض أفراد الرجال (¬1). وعلى هذا فالمقيد عندهم هو ما دل على الماهية مع قيد زائد مثل: رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ولعل الراجح تعريف الآمدى ومن نهج نهجه حيث إن علماء الأصول مثلوا للمطلق بالنكرة، وهذا يدل على عدم الفرق بينهما عندهم. ثانيا: حكم المطلق والمقيد: إن ورد اللفظ مطلقا فى نص غير مقيد حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده، أما إن ورد مطلقا فى موضع مقيدا فى موضع آخر فذلك على أقسام: القسم الأول: أن يكون كل من المطلق والمقيد مختلفا. مثاله: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (¬2) وقال سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (2) ¬

_ (¬1) شرح الإسنوى 2/ 59، 60، وأصول الفقه للشيخ زهير 2/ 197، والتعارض والترجيح للمؤلف 210. (¬2) سورة المائدة آيتا 6، 38.

فكلمة (الأيدى) فى الآية الأولى وردت مقيدة إلى المرافق، فى حين وردت مطلقة فى الآية الثانية. والمتأمل فى الآيتين يجد أن الحكم فى كل منهما مختلف ومغاير للآخر، فهو فى الآية الأولى «وجوب غسل الأيدى» وفى الثانية «قطع يد السارق والسارقة». كما يجد سبب الحكم فى كليهما مختلف أيضا، فهو فى الآية الأولى الحدث مع إدارة الصلاة، وفى الثانية السرقة وقد قال العلماء (¬1): إن المطلق فى هذه الحالة لا يحمل على المقيد، بل يعمل بالمطلق على إطلاقه كما يعمل بالمقيد على تقييده، سواء كانا مأمورين أو منهيين أو مختلفين، وسواء اتحد السبب أو اختلف كما ذكر الآمدى (¬2). إذا لا صلة ولا ارتباط أصلا بين موضوعى النصين. غير أن بعض الكاتبين كالقرافى رحمه الله ذهب إلى القول بحمل المطلق على القيد فى حالة اختلاف الحكم ما دام السبب واحدا، ومثّل لما اتحد سببها بقوله تعالى فى آية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وقوله تعالى فى آية التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ (¬3) فاليد فى الوضوء مقيدة بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ ولكنها فى التيمم مطلقة، مع أن السبب واحد وهو الحدث والحكم مختلف فيها، لأن الحكم فى الوضوء وجوب الغسل وفى التيمم وجوب المسح، وبذلك تحمل اليد فى التيمم على اليد إلى المرافق حملا للمطلق على المقيد (¬4). ¬

_ (¬1) الإحكام لآمدى 2/ 162 وحاشية المعد 2/ 156، وارشاد الفحول 166. (¬2) المرجع الأول السابق. (¬3) سورة النساء الآية 43. (¬4) تنقيح الفصول للقرافى 266، 267، ومسلم الثبوت 1/ 361. هذا، وقد قال العلماء: إن ما بعد (إلى) إن كان من جنس ما قبلها كان داخلا فى الحكم كما فى قوله تعالى: (إلى المرافق) وإلا فلا كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187]- تفسير القرطبي 1/ 702 -

القسم الثانى: أن يكون حكمها واحدا وسببها واحدا. مثاله: قال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ (¬1) الآية وقال جل شأنه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (¬2) الآية. فلفظ (الدم) الوارد فى الآية الأولى مطلق، ومقتضى هذا الإطلاق أن الدم حرام كله سواء كان مسفوحا (¬3) أو غير مسفوح. فى حين أن ورد لفظ (الدم) فى الآية الثانية مقيدا بكونه مسفوحا، ولا شك أن الحكم فى الآيتين واحد هو حرمة تناول الدم، كما أن سبب الحكم فى الآيتين واحد أيضا وهو الضرر الناتج والناشئ عن تناول الدم، وقد اتفق أهل الفقه والعلم على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا ينتفع به، وأن الدم الذى يسيل من الحيوان عند تذكيته حرام، وكذلك الدم الذى يسيل من الحيوان الحىّ قليله وكثيره حرام. ولما كان الحكم واحدا فى الآيتين، وكذا السبب حمل العلماء المطلق على المقيد، ومن ثم يكون المراد من الدم المحرم تناوله هو الدم المسفوح فقط دون غيره. وإنما أجمع العلماء على حمل المطلق على المقيد هنا وقصروا التحريم على الدم المسفوح، لأن ما خلط اللحم غير محرم بإجماع وإلا لترتب على ذلك إصر ومشقة فى الدين، والله تعالى يقول: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 173. (¬2) سورة الأنعام الآية 145. (¬3) المسفوح: يقال سفح فمه أى سفكه والدم المسفوح الجارى الذى يسيل وهو المحرم- مختار الصحاح 300 وتفسير القرطبي 3/ 2559 (¬4) سورة الحج الآية 78.

غير أن الآمدى ضعف هذا المذهب بقوله:

وكذلك حلال بنص الحديث الكبد والطحال وكلاهما دم. القسم الثالث: أن يكون حكم المطلق والمقيد واحدا، ولكن سبب الحكم فيهما مختلف. مثاله: قال تعالى فى كفارة القتل الخطأ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (¬1) وقال فى كفارة الظهار: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا (¬2) فيلاحظ أن الحكم فى هاتين الآيتين واحد، وهو وجوب عتق رقبة، والسبب مختلف، لأن سبب المقيد القتل الخطأ وسبب المطلق هو الظهار، وقد اختلف العلماء فى هذه الحالة على مذاهب ثلاثة: المذهب الأول: وهو لبعض الشافعية: يحمل المطلق على المقيد، ويكون اللفظ دالا على أن المطلق مراد به المقيد، لأن كلام الله تعالى متحد فى ذاته، فهو كالكلمة الواحدة، فإذا نص على اشتراط الإيمان فى كفارة القتل كان ذلك تنصيصا على اشتراطه فى كفارة الظهار (¬3). غير أن الآمدى ضعّف هذا المذهب بقوله: وهذا مما لا اتجاه له، فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى القائم بالنفس أو العبارات الدالة عليه، والأول وإن كان واحدا لا تعدد فيه غير أن تعلقه بالمتعلقات (¬4) مختلف باختلاف المتعلق ولا يلزم من تعلقه بأحد ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 92. (¬2) سورة المجادلة 3. (¬3) شرح الإسنوى 2/ 140، وأصول الفقه للشيخ أبى زهرة 136. (¬4) كلام الله صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، ليست بحرف ولا صوت، منزهة عن التقديم

المختلفين بالإطلاق والتقييد، أو العموم والخصوص، أو غير ذلك أن يكون متعلقا بالآخر، وإلا كان أمره ونهيه ببعض المختلفات أمرا ونهيا بباقى المختلفات، وهو محال، بل كان يلزم من تعلقه بالصوم المقيد فى الحج بالتفريق حيث قال تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ (¬1) وبالتتابع فى الظهار حيث قال سبحانه: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (¬2) أن يتقيد المطلق فى اليمين، إما بالتتابع أو التفريق، وهو محال أو بأحدها دون الآخر، ولا أولوية. كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصا على الآخر. وإن أريد به العبارة الدالة فهى متعددة غير متحدة، ولا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وإلا لزم من ذلك المحال الذى قدمنا لزومه فى الكلام النفسانى (¬3) أه. المذهب الثانى: وهو لجمهور الحنفية: ولا يحمل المطلق على المقيد ¬

_ والتأخير والإعراب والبناء ومنزهة عن السكوت النفسى بأن لا يدبر فى نفسه الكلام مع القدرة عليه. وكلامه تعالى صفة واحدة لا تعدد فيها، لكن لها أقسام اعتبارية، فمن حيث تعلقه بطلب فعل الصلاة- مثلا «أمر» ومن حيث تعلقه بطلب ترك الزنى «نهى» ومن حيث تعلقه بأن فرعون فعل كذا- مثلا «خبر». وهكذا وكلامه سبحانه يطلق على الكلام النفسى القديم وعلى الكلام اللفظى بمعنى أنه خلقه وليس لأحد فى أصل تركيبه كسب. (¬1) سورة البقرة الآية 196. (¬2) سورة المجادلة الآية 4. (¬3) الإحكام 2/ 164، وفواتح الرحموت 1/ 365.

لا باللفظ ولا بالقياس، حيث إن حمل المطلق على المقيد فيه رفع لحكم (¬1) المطلق، وذلك نسخ له، والنسخ لا يثبت بالقياس ويرون إيجاب العمل بكل من النصين، فيجوز عندهم إعتاق الرقبة الكافرة فى كفارة الظهار، لأن النص ورد مطلقا فيها ولا يصح عندهم إعتاق الرقبة الكافرة فى كفارة القتل، بل لا بدّ من كونها مؤمنة عملا بالنص المقيد الوارد فيها، ولا تعارض عندهم بين النصين. أضف إلى ذلك: أن حمل المطلق على المقيد يقتضى اتحاد التاريخ فى النّزول، ليكون المقيد تفسيرا للمطلق، والآيات التى وردت مطلقة يختلف زمان نزولها عن الآيات التى وردت مقيدة، وقد تكون المطلقة أسبق نزولا فكيف تقيد بما يجيء بعد وجودها؟ المذهب الثالث: وهو الأظهر من مذهب الشافعى كما قاله الآمدى وصححه: أنه إن وجد جامع بين المطلق والمقيد حمل المطلق على المقيد بالقياس كالمثال المذكور، لأن بين المطلق والمقيد جامعا وهو أن كلا منهما فيه عتق للرقبة التى قصد الشارع حريتها وحثّ على ذلك. وهذا إنما تتحقق فائدته فى الرقبة المؤمنة دون الكافرة، فكان المقصود من المطلق المقيد لهذا السبب، ويكون ذلك تخصيصا والتخصيص بالقياس جائز. وإن لم يوجد جامع بين المطلق والمقيد لم يحمل المطلق على المقيد وذلك لعدم وجود الدليل الذى يدل على الحمل فيبقى المطلق على إطلاقه عملا بظاهر اللفظ (¬2). قال الشوكانى رحمه الله (¬3): قال الرازى فى الحصول وهو القول المعتدل ¬

_ (¬1) يرى الشافعية أن حمل المطلق على المقيد يعتبر بيانا لكون المطلق مرادا به المقيد ابتداء سواء علم التاريخ أو لم يعلم. (¬2) نهاية السول 2/ 141 (¬3) المحصول 1/ 590، 591 مخطوط، وإرشاد الفحول 165.

وجاء فى تفسير الفخر الرازى:

وقال الشيرازى رحمه الله (¬1): وهو الأصح. وجاء فى تفسير الفخر الرازى (¬2): قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزئ سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فهذا اللفظ يفيد العموم فى جميع الرقاب. وقال الشافعى رحمه الله: لا بدّ وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان: الأول: أن المشرك نجس لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (¬3) وكل نجس خبيث بإجماع الأمة، وقال تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ (¬4) الثانى: أجمعنا على أن الرقبة فى كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فكذا هاهنا والجامع أن الإعتاق إنعام فتقييده بالإيمان يقتضى صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله، وحرمان أعداء الله، وعدم التقييد بالإيمان، قد يفضى إلى حرمان أولياء الله، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلا لهذه المصلحة أ. هـ. وقال الشيخ شرف الدين (¬5) العمريطي رحمه الله: ويحمل المطلق مهما وجدا ... على الندى بالوصف منه قيدا فمطلق التحرير فى الأيمان ... مقيّد فى القتل بالإيمان فيحمل المطلق فى التحرير ... على الذى قيد فى التكفير ومن هذا الباب قوله تعالى: ¬

_ (¬1) اللمع الآية 24. (¬2) تفسير الفخر الرازى 29/ 259 (¬3) سورة التوبة الآية 280. (¬4) سورة البقرة الآية 267. (¬5) لطائف الإشارات 32.

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (¬1) مع قوله جل شأنه: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (¬2) والناظر فى هاتين الآيتين يجد أن الشهود فى الآية الأولى لم يقيدوا بالعدالة بخلافهم فى الآية الثانية فيحمل المطلق على المقيد، وتكون العدالة شرطا فى الشهادة فى الأموال والحدود والأنكحة، وكل الأقضية التى تبنى على الشهادة (¬3). ومن الأمثلة التى حمل فيها العلماء المطلق على المقيد أيضا: قول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (¬4) وقوله سبحانه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (¬5) فالآية الأولى تفيد أنه بمجرد الاشتراك يحصل الإحباط، فيلقى المشرك ربه فى صحيفته شىء مما عمله قبل الردة. فى حين أن الآية الأخرى قيدت إحباط العمل على الوفاة على ردته، فمجرد الردة لا يحبط عملا وهذا ينافى ما صرحت به الآية الأولى. ومن ثم ذهب الإمام الشافعى رحمه الله إلى القول بوجوب حمل المطلق فى الآيتين على المقيد منها، وعليه فليس كل إشراك محبطا للأعمال إلا إذا استمر مع صاحبه إلى الوفاة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 282. (¬2) سورة الطلاق الآية 2. (¬3) أصول الفقه للشيخ أبى زهرة 136. (¬4) سورة الزمر الآية 65. (¬5) سورة البقرة الآية 217.

قاعدة:

وإذا كان الإمام الشافعى رحمه الله قد ذهب هذا المذهب فإننا نجد الإمام مالكا رحمه الله يقول: من ارتد حبط عمله بمجرد الردة فهو يتمسك بالإطلاق الوارد فى الآية الأولى، ويجيب عما ذهب إليه الشافعى رحمه الله فيقول: إن الآية الثانية ليست مقيدة للآية الأولى، لأنها رتب فيها مشروطان وهما الحبوط فى النار على شرطين: وهما الردة، والوفاة على الكفر، وإذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع فيكون الحبوط لمطلق الردة، والخلود لأجل الوفاة على الكفر فيبقى المطلق على إطلاقه (¬1). ولعل ما ذهب إليه الشافعية هو الأصح، وقول السادة المالكية إذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع صحيح لكن بشرط أن يصح استقلال كل واحد من المشروطين عن الآخر، أما إذا لم يصح الاستقلال فلا، والمشروطان مما فيه الكلام من الضرب الثانى الذى لا يصح فيه استقلال أحد الشروطين عن الآخر لأنهما سبب ومسبب، والسبب لا يستغنى عن مسببه وبالعكس (¬2). ويظهر أثر هذا الخلاف فى المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم. فقال مالك رحمه الله: يلزمه الحج لأن الحج الأول قد حبط بالردة (¬3)، وقال الشافعى رحمه الله: لا إعادة عليه لأن عمله باق (¬4). والله أعلم. قاعدة: نفى العام يدل على نفى الخاص، وثبوته لا يدل على ثبوته، وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام، ونفيه لا يدل على نفيه، ولا شك أن ¬

_ (¬1) الفروق للقرافى 1/ 193، 194، والإعلام بقواطع الإسلام لابن الهيتمى 41 ط: الشعب. (¬2) أدرار الشروق على أنواء الفروق لابن شاط 1/ 194. (¬3) الفروق 1/ 193، وتفسير القرطبى 1/ 856. (¬4) معنى المحتاج 4/ 133.

زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفى العام أحسن من نفى الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام (¬1). فالأول: كقوله تعالى: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ (¬2) لم يقل: ذهب الله بضوئهم. بعد قوله: (أضاءت) وذلك لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير والضوء إنما يقال على النور الكثير. قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً (¬3) ففي الضوء دلالة على النور فهو أخص منه. فعدمه يوجب عدم الضوء بخلاف العكس، والقصد إنما هو إزالة النور عنهم أصلا بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ومنه أيضا قوله تعالى: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ (¬4) ولم يقل: ضلال- كما قالوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ (¬5) لأنها أعم منه، فكان أبلغ فى نفى الضلال، وعبّر عن هذا بأن نفى الواحد يلزم منه نفى الجنس البتة، وبأن نفى الأدنى يلزم منه نفى الأعلى. والثانى: كقوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ (¬6) لم يقل سبحانه: طولها- لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس. ¬

_ (¬1) الإتقان 3/ 264. (¬2) سورة البقرة الآية 17. (¬3) سورة يونس الآية 5. (¬4) سورة الأعراف الآية 61. (¬5) سورة الأعراف الآية 60. (¬6) سورة آل عمران الآية 133.

ونظير هذه القاعدة أن نفى المبالغة فى الفعل لا يستلزم نفى أصل الفعل وقد استشكل على هذا آيتان قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (¬1) وقوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (¬2) وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة: أحدها: أن ظلّاما وإن كان للكثرة لكنه جىء به فى مقابلة العبيد الذى هو جمع كثرة ويرشحه أنه تعالى قال: عَلَّامُ الْغُيُوبِ (¬3) فقابل صيغة «فعال» بالجمع، وقال فى آية أخرى: عالِمَ الْغَيْبِ (¬4) فقابل صيغة «فاعل» الدالة على أصل الفعل الواحد. الثانى: أنه نفى الظلم الكثير لينتفى القليل ضرورة، لأن الذى يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه فلأن يترك القليل أولى. الثالث: أنه ورد جوابا لمن قال «ظلام» والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم. الرابع: أن صيغة المبالغة وغيرها فى صفات الله تعالى سواء فى الإثبات. فجرى النفى على ذلك. الخامس: أنه قصد التعريض بأن ثم ظلاما للعبيد من ولاة الجور. ويجاب عن الآية الثانية بالأجوبة المتقدمة، وبجواب آخر هو مناسبة رءوس الآى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة فصلت 46. (¬2) سورة مريم الآية 64. (¬3) سورة المائدة الآية 116. (¬4) سورة الزمر الآية 46.

المبحث السادس فى المشترك

المبحث السادس فى المشترك عرّف العلماء المشترك فقالوا إنه: لفظ لمعنيين فأكثر بوضع مستقل (¬1). ومن أمثلته: لفظ: «القرء» فهو موضوع للحيض وللطهر، ولفظ: «العين» موضوع للباصرة ولعين الماء الجارية وللجاسوس، ولفظ: «المولى» موضوع للسيد والعبد. أسباب الاشتراك فى اللغة: يلاحظ أن اللفظ المشترك موجود فى اللغة العربية، ومن ثم فلا وجه إلى إنكاره وجحوده، وقد ذكر العلماء لهذا الوجود فى اللغة أسبابا كثيرة: 1 - أن يكون اللفظ موضوعا فى اللغة لمعنى من المعانى، فى الاصطلاح لمعنى آخر كلفظ الصلاة، فهى فى اللغة الدعاء (¬2) وفى الشرع (¬3) أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، بشرائط مخصوصة. فلفظ الصلاة إذا معناه فى اللغة الدعاء ووضع فى الشرع للعبادة المعروفة. 2 - أن يكون اللفظ حقيقة فى معنى، ثم يشتهر استعماله فى معنى مجازى حتى ينسى أنه معنى مجازى للفظ فينقل إلينا على أنه موضوع للمعنيين الحقيقى والمجازى. ¬

_ (¬1) شرح المقار 339، وتسهيل الوصول 81. (¬2) لسان العرب 3/ 2490. (¬3) مغنى المحتاج 1/ 120.

حكم المشترك:

3 - أن يوضع اللفظ فى قبيلة لمعنى ويوضع فى قبيلة أخرى لمعنى آخر، ثم ينقل إلينا مستعملا فى المعنيين من غير نص على اختلاف الواضع. 4 - أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك بين المعنيين، فيصح إطلاق اللفظ على كليهما، ثم يغفل الناس عن هذا المعنى المشترك الذى دعا إلى صحة إطلاق اللفظ على كلا المعنيين، فيظنون أن اللفظ من قبيل المشترك اللفظى كلفظ القرء، فإنه فى اللغة يطلق على كل زمان (¬1) اعتيد فيه- أمر معين ولهذا يقولون للحمى: قرء، أى لها وقت اعتيد ظهورها فيه، وللمرأة قرء، أى وقت اعتيد حيضها أو طهرها فيه (¬2). حكم المشترك: قال الشيخ ابن عبد الشكور رحمه الله (¬3): مسألة (¬4): هل وقع المشترك فى القرآن؟ اختلف فيه فقيل: لا، وقيل نعم. قيل: وهل وقع فى الحديث؟ اختلف فيه أيضا والأصح الوقوع فى القرآن بل فى الحديث أيضا أ. هـ. إذا عرف هذا فإن ورد لفظ مشترك فى القرآن أو السنة ننظر: فإن كان مشتركا بين معنى لغوى ومعنى شرعى، وجب حمله فى هذه الحالة على المعنى الشرعى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات لا اللغويات. ¬

_ (¬1) لسان العرب 4/ 3564. (¬2) أصول التشريع الإسلامى 287، 288. (¬3) فواتح الرحموت 1/ 200. (¬4) المسألة: مطلوب خبرى يبرهن عليه- حاشية البنانى 1/ 6.

قال الشيخ الإسنوى رحمه الله:

قال الشيخ الإسنوى رحمه الله (¬1): «إذا تردد اللفظ الصادر من الشارع بين أمور فيحمل أولا على المعنى الشرعى، لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الشرعيات، فإن تعذر حمل على الحقيقة العرفية الموجودة فى عهده صلى الله عليه وسلم، لأن التكلم بالمعتاد عرفا أغلب من المراد عند أهل اللغة، فإن تعذر حمل على الحقيقة اللغوية ليعينها بحسب الواقع». وقد قال بعض العلماء: إن اللفظ عند تردده بين الحقيقة الشرعية والغوية يكون مجملا، أى غير متضح المراد منه، وقال أبو حامد الغزالى رحمه الله: إن ورد فى الإثبات حمل على المعنى الشرعى كقوله عليه الصلاة والسلام: «إنى إذن أصوم» (¬2) حتى أنه يستدل به على صحة صوم النفل بنية من النهار، وإن ورد فى النهى كان مجملا كنهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم (¬3) يوم النحر، فإنه لو حمل على الشرع دل على صحته لاستحالة النهى عما لا يتصور وقوعه بخلاف ما إذا حمل على اللغوى. وإن كان مشتركا بين معنيين أو أكثر لغة وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يدل على هذا الحمل. الأمثلة: 1 - قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬4) ¬

_ (¬1) التمهيد 61. (¬2) أخرجه الدار قطنى فى سننه بلفظ- قالت عائشة رضى الله عنها دخل علىّ النبى صلى الله عليه وسلم فقال: عندك شىء؟ قلت: لا. قال: إذا أصوم- سنن الدار قطنى 2/ 176 - (¬3) أخرجه الدارقطنى فى سنته 2/ 157 (¬4) سورة البقرة الآية 43.

فلفظ (الصلاة) موضوع فى اللغة للدعاء وفى الشرع مراد به العبادة المعروفة، ومن هنا نحكم بأن المراد بلفظ (الصلاة) المعنى الشرعى لا اللغوى، وذلك لأن الشارع الحكيم لما نقل هذا اللفظ من معناه اللغوى إلى معناه الشرعى الذى استعمله فيه كان اللفظ فى عرف الشرع متعين الدلالة على ما وضعه الشارع له فيجب المصير إليه. 2 - قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ (¬1) فلفظ الطلاق موضوع فى اللغة لحل القيد مطلقا، وموضوع فى الشرع لحل الرابطة الزوجية الصحيحة (¬2)، ومن ثم فيجب حمله على المعنى الشرعى لا اللغوى لما سبق. 3 - قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬3) فلفظ «اليد» مشترك بين النزاع، من رءوس الأصابع إلى المنكب، وبين الكف والساعد، من رءوس الأصابع إلى المرفق، وبين الكف، من رءوس الأصابع إلى الرّسغين (¬4)، وبين اليمنى واليسرى، وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العملية على تعيين المراد من اليد فى الآية، وهو المعنى الأخير أى من رءوس الأصابع إلى الرسغين فى اليمنى (¬5). 4 - قال تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬6) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229. (¬2) لسان العرب 3/ 2693، وحاشية القليوبى على شرح الجلال المحلى 3/ 323. (¬3) سورة المائدة الآية 38. (¬4) الرسغ: مفصل ما بين الكف والذراع وقيل: الرسغ مجتمع الساقين والقدمين وقيل: هو مفصل ما بين الساعد والكف والساق والقدم- لسان العرب 2/ 1642 - (¬5) أصول الفقه للشيخ خلاف 180. (¬6) سورة البقرة الآية: 228.

فالقروء جمع قرء، والقرء فى اللغة يطلق على الطهر وعلى الحيض، وما على المجتهد إلا أن يبذل جهده لمعرفة المراد منه، لأن الشارع ما أراد إلا أحد معنييه، والحق أن العلماء مختلفون فى تبين المراد من القرء على حسب اجتهادهم، ومدى ترجيحهم للقرائن الدالة على أحد المعنيين. فالأئمة مالك والشافعى وابن عمر وزيد وعائشة رضى الله عنهم ذهبوا إلى القول بأن المراد من القرء هو الطهر لما يلى: أولا: أن الله عز وجل أثبت التاء فى العدد «ثلاثة» وهذا على أن المعدود مذكر وهو لا يكون مذكرا إلا إذا كان المراد الطهر. ثانيا: قال تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (¬1) والمعنى فطلقوهن فى وقت عدتهن، ومعلوم أن الطلاق فى زمن الحيض منهى عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض، وفى هذا دليل على أن القرء هو الطهر. وقد ذهب الأئمة على وعمرو ابن مسعود وأبو حنيفة رضى الله عنهم إلى القول بأن المراد من القرء الحيض لما يلى: أولا: أننا أجمعنا على أن الاستبراء (¬2) فى شراء الجوارى يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن الغرض منها واحد. ثانيا: أن العدة شرعت لمعرفة براءة الرحم، والذى يدل على براءة الرحم، إنما هو الحيض لا الطهر. ثالثا: قال صلى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها ¬

_ (¬1) سورة الطلاق 1. (¬2) الاستبراء هنا معناه طلب البراءة من الحمل. قال ابن منظور: الاستبراء أن يشترى الرجل جارية فلا يطؤها حتى تحيض عنده حيضة ثم تطهر، وكذلك اذا سباها لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة- لسان العرب 1/ 241.

حيضتان» (¬1) ومن المعلوم أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، فإذا اعتبرت عدة الأمة بالحيض كانت عدة الحرة كذلك (¬2)، وإن كان الشافعية لا يعترفون بصحة نسبة (¬3) هذا الخبر إلى النبى صلى الله عليه وسلم. فالمسألة محتملة كما ترى المهم لا يصح أن يراد باللفظ المشترك معنيان أو أكثر من معانيه معا، بحيث يكون الحكم الذى ورد فى النص متعلقا فى وقت واحد بأكثر من معنى، لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحدا من معانيه، ووضعه لمعان متعددة، إنما هو على سبيل البدل أى أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك، فأما دلالته على هذا وذاك فى وقت واحد فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء فى الآية المتقدمة الطهر والحيض معا، بحيث إن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاث حيضات، لأن اللفظ لا يدل على هذا بأى طريق من طرق الدلالة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة فى سنته 1/ 672. (¬2) تفسير آيات الأحكام للشيخ السائس 1/ 138. (¬3) جاء فى الزوائد على ابن ماجة 1/ 672 (إسناد ابن عمر فيه عطية العوفى متفق على تضعيفه، وكذلك عمر بن شبيب الكوفى، والحديث قد رواه مالك فى الموطأ موقوفا على ابن عمر ورواه أصحاب السنن سوى النسائى من طريق عائشة رضى الله عنها)

الفصل الثانى فى اللفظ باعتبار المعنى الذى استعمل فيه وفيه مبحثان

الفصل الثانى فى اللفظ باعتبار المعنى الذى استعمل فيه وفيه مبحثان المبحث الأول: فى الحقيقة والمجاز المبحث الثانى: فى الصريح والكناية

المبحث الأول فى الحقيقة والمجاز

المبحث الأول فى الحقيقة والمجاز ينقسم اللفظ باعتبار استعماله فى المعنى إلى قسمين هما: (أ) حقيقة. (ب) مجاز. وينقسم كل منهما إلى قسمين: (أ) صريح. (ب) كناية. وإليك بيان ذلك بشيء من التفصيل: الحقيقة والمجاز: الحقيقة وزنها فعيلة، وهى مشتقة من الحق، والحق لغة الثبوت (¬1) قال تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (¬2) أى ثبتت، ومن أسمائه تعالى الحق لأنه الثابت. ثم إن فعيلا قد يكون بمعنى فاعل كسميع بمعنى سامع، وبمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول (¬3). وفى الاصطلاح هى: اللفظ المستعمل فيما وضع له فى اصطلاح التخاطب (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب: 2/ 940. (¬2) سورة الزمر الآية 71. (¬3) شرح الاسنوى: 1/ 245. (¬4) أصول السرخسى: 1/ 170. شرح الجلال المحلى: 1/ 300، وحاشية النفحات 41، وارشاد الفحول 21.

أنواع الحقيقة:

أنواع الحقيقة: الحقيقة ثلاثة أنواع هى: 1 - الحقيقة اللغوية: وهى اللفظ المستعمل فى المعنى اللغوى الموضوع له كالشمس والقمر والسماء والأرض. قال الشيخ الإسنوى رحمه الله (¬1): « ... ولا شك فى وجودها لأنا نقطع باستعمال بعض اللغات فى موضوعاتها كالحر والبرد والسماء والأرض». 2 - الحقيقة الشرعية: وهى اللفظ المستعمل فى معناه الشرعى، وذلك كالصلاة للعبادة المعروفة والزكاة للقدر المخرج والزواج والطلاق والخلع للمعانى الشرعية الموضوعة لها. 3 - الحقيقة العرفية: وهى اللفظ المستعمل فى معناه العرفى، أى فى المعنى الذى جرى العرف فى استعمال اللفظ فيه سواء كان العرف عاما كاستعمال الدابة فى ذوات الأربع، أو خاصا كاستعمال النصب والجر والرفع فى معانيها المعروفة عند النحاة، واستعمال الجوهر والعرض ونحوهما فى معانيها المعروفة عند علماء المنطق. حكم الحقيقة: حكم الحقيقة بأنواعها الثلاثة ثبوت المعنى الذى وضع له اللفظ فى اصطلاح المخاطبين، وعدم انتفائه عنه، وتعلق الحكم به. فاللفظ المستعمل فى معناه الحقيقى يثبت له المعنى الموضوع له كاملا فيفيد العموم إن كان عاما، والخصوص إن كان خاصّا، ويفيد الطلب إن ¬

_ (¬1) شرح الإسنوى: 1/ 251.

قال الآمدى رحمه الله:

كان أمرا والامتناع إن كان نهيا. فمثلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (¬1) أمر بحقيقة الركوع والسجود، وكل منهما خاص والموجه إليهم الأمر هم الذين آمنوا وهو عام، لأن اسم الموصول من ألفاظ العموم. وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (¬2) نهى عن حقيقة القتل، وهو خاص والموجه إليه النهى جميع المخاطبين وهو عام. كذلك من أحكام الحقيقة رجحانها على المجاز، فلو تعارض لفظان أحدهما حقيقى والآخر مجازى ففي هذه الحالة يرجح الحقيقى على المجازى، وذلك لأن الحقيقى لا يحتاج إلى قرينة (¬3) بخلاف المجاز، ولا شك أن ما لا يحتاج أولى مما يحتاج. قال الآمدى رحمه الله (¬4): فالأول أولى لعدم افتقاره (¬5) إلى القرينة المخلة (¬6) بالتفاهم. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية: 77. (¬2) سورة الإسراء الآية: 33. (¬3) القرينة هى العلامة أو الامارة الدالة على عدم إرادة المعنى الحقيقى وهى تنقسم إلى قسمين: (أ) لفظية: مثل كلمة (يعظ) فى قول القائل- شاهدت بحرا يعظ الناس- وهو يريد الرجل العظيم. (ب) غير لفظية: وهى نوعان: (أ) حالية كما تقول برأيت بحرا وأمامك عالم يعظ الناس. (ب) استحالة المعنى كقولك: قطعت حالى بالشكوى تريد (دلت) لاستحالة النطق بمعناه الحقيقى من الحال فهنا تشبيه الدلالة المعنوية بالدلالة اللفظية بجامع بيان الشيء فى كل- أسرار البيان للدكتور على العمارى 100. (¬4) الإحكام: 3/ 267. (¬5) الافتقار: الاحتياج يقال فقر يفقر من باب تعب إذا قلّ ماله- المصباح المنير 2/ 575. (¬6) اختل الأمر بمعنى وقع فيه الخلل وهو الفرجة بين الشيئين كما يطلق أيضا على الفساد فى الأمر- مختار الصحاح 187.

وقال الشيخ تاج الدين السبكى رحمه الله:

وقال الشيخ تاج الدين السبكى رحمه الله (¬1): تترجح الحقيقة على المجاز لتبادرها إلى الذهن فتكون أظهر دلالة من المجاز. ويستثنى من تقديم الحقيقة على المجاز المجاز الراجح إذا كانت الحقيقة تراد فى بعض الأحيان، فإذا كان المجاز هو الغالب فقد اختلف العلماء فى الراجح منها. فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الحقيقة أولى لأنها حقيقة. وقال أبو يوسف رحمه الله: المجاز أولى لكونه غالبا. وذهب جمهور الشافعية إلى القول بأنهما يتساويان وعليه فلا ينصرف لأحدهما إلا بالنية. ومثاله: شربت من النهر. فالحقيقة: هى الشرب منه بالفم مباشرة. والمجاز: هو الشرب باليد أو بغيرها كالكوز. والحقيقة تراد فى بعض الأحيان لأن كثيرا من رعاة الإبل ينبطحون (¬2) على بطونهم ويشربون من النهر بأفواههم (¬3). كما يرجح الخبر المشتمل على الحقيقة الشرعية على الخبر المشتمل على الحقيقة العرفية أو اللغوية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات. ومن أمثلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» (¬4). ¬

_ (¬1) الإبهاج: 3/ 156. (¬2) بطحه بمعنى ألقاه على وجهه وبابه قطع- مختار الصحاح 55. (¬3) شرح الإسنوى: 1/ 278، وأصول الفقه للشيخ زهير 4/ 211. (¬4) أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب إقامة الصلاة 1/ 312.

المجاز:

فهذا القول مراد به تحصيل ثواب الجماعة فى الصلاة للاثنين فما فوقهما، وليس المراد به بيان حقيقة لغوية، وهى أن أقل الجمع اثنان وذلك لأمر بسيط وهو أنه صلى الله عليه وسلم بعثه ربه ليبين لنا الأمور الشرعية لا اللغوية. المجاز: هو اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقى للفظ (¬1). وذلك كاستعمال لفظ أسد للرجل الشجاع حين أقول: رأيت أسدا يعظ الناس. شبهت الواعظ الشجاع بالأسد فالعلاقة بين المشبه والمشبه به هى الشجاعة والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى هى كلمة: يعظ الناس. حكم المجاز: من أحكام المجاز ما يلى: أولا: لا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر المعنى الحقيقى فالكلام يحمل على الحقيقة أولا كلما أمكن هذا الحمل لأن الحقيقة أصل والمجاز فرع ولا يصار إلى الفرع إذا أمكن الأصل. وعلى هذا لو قال رجل: أوصيت لولد بكر بألف دينار، فإن الكلام حينئذ يحمل على الحقيقة فلا تثبت الوصية إلا لولد بكر من صلبه، فإن لم يكن له ولد صلبى ننظر: فإن كان له ولد ولد حمل الكلام عليه، وثبتت له الوصية لأنه المعنى المجازى لكلمة الولد، وقد تعذرت الحقيقة فيصار إلى المجاز لأن إعمال الكلام خير من إهماله. وإن لم يكن له ولد ولد أهمل الكلام لتعذر حمله على واحد منها. ثانيا: عند تعذر المعنى الحقيقى يثبت المعنى المجازى للفظ ويتعلق الحكم به. ¬

_ (¬1) أصول السرخسى: 1/ 170، وإرشاد الفحول: 21، والوجيز: 334.

مثال ذلك: قال تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (¬1) فالمراد بالغائط هنا الحدث الأصغر ولا يراد به المعنى الحقيقى وهو المحل المنخفض المعروف ويتعلق الحكم به، وهو التيمم عند إرادة الصلاة إذا لم يتيسر الماء. وقد قال الشافعية إن دلالة اللفظ على معناه المجازى دلالة ضرورة وهى تقدر بقدرها فيتناول لفظ المجاز أقل ما يصح به الكلام، ولا يكون له عموم، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الصاع بالصاعين» (¬2). فإن لفظ الصاع فيه مجاز فى المكيلات إذ معنى الحديث: لا تبيعوا ملء صاع بملء صاعين، فيتناول منها أقل ما يصح به الكلام وهو المطعومات فقط للاتفاق على أنها منهى عنها بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء» (¬3). وذهب الحنفية وغيرهم إلى أن المجاز ليس من باب الضرورات، بل هو طريق من طرق أداء المعنى كالحقيقة، وقد يكون أبلغ منها، ولهذا شاع فى الكلام البليغ، وامتلأ به القرآن كقوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي (¬4) وقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (¬5) والصاع فى الحديث المتقدم- مع كونه مجازا- مفرد معرف بأل الجنسية فيكون عامّا متناولا لكل مكيل من المطعومات وغيرها (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 43. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه بمعناه: 1/ 695. (¬3) أخرجه مسلم فى صحيحه بمعناه: 1/ 695. (¬4) سورة هود الآية: 44. (¬5) سورة النساء الآية: 13. (¬6) كشف الأسرار عن أصول البزدودى: 2/ 40، وأصول التشريع الإسلامى: 292.

إثبات المجاز فى اللغة:

هذا: ومما تكلم فيه العلماء مسألة استعمال اللفظ فى معنييه الحقيقى والمجازى معا فقالوا: هل يمكن استعمال اللفظ فى معنييه الحقيقى والمجازى معا فى إطلاق واحد، واعتبار كل منهما متعلقا للحكم من غير أن يكون هناك معنى عام يشملها كأن تقول: اقتل الأسد وتريد السبع باعتباره موضوعا له، والرجل الشجاع باعتباره شبيها له؟ فذهب محققو الشافعية والحنفية وجمع من المعتزلة وجمهور اللغويين إلى أن اللفظ لا يستعمل فى المعنى الحقيقى والمجازى معا، فى إطلاق واحد، واعتبار كل واحد منهما متعلقا للحكم من غير أن يكون هناك معنى عام يشملها، وأجاز ذلك بعض العلماء، فمثلا فى قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (¬1) المعنى المجمع عليه هنا هو المعنى المجازى فلا يراد به المعنى الحقيقى الذى هو مجرد اللمس إلا بدليل آخر. هذا على المذهب الأول. وعلى الثانى لا مانع يمنع من إرادة المعنى الحقيقى والمجازى معا، بدليل صحة الاستثناء فتقول: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إلا إذا كان اللمس باليد، والله أعلم. إثبات المجاز فى اللغة: يلاحظ أن أكثر العلماء ذهبوا إلى القول بإثبات المجاز فى اللغة. وحكى عن قوم المنع. والمانعون لا يخلو خلافهم فى ذلك إما أن يكون خلافا فى معنى أو فى عبارة. والخلاف فى المعنى نوعان: أحدهما: أن يقولوا إن أهل اللغة لم يستعملوا الأسماء فيما نقول إنها مجاز فيه نحو اسم «الحمار» فى «البليد». ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 43.

قال الشيخ أبو الحسن البصرى تعليقا على هذا (¬1): وهذا مكابرة لا يرتكبها أحد. والآخر: أن يقولوا إن أهل اللغة وضعوا فى الأصل اسم الحمار للرجل البليد كما وضعوه للبهيمة. وهذا باطل لأنا كما نعلم أن العلماء يستعملون ذلك فى البليد، وإطلاق الحمار على البليد إنما هو على طريق التبع والتشبيه للبهيمة، ومن ثم فإن استحقاق البليد لذلك ليس كاستحقاق البهيمة، ولذلك يسبق إلى الفهم من قول القائل: رأيت الحمار- البهيمة دون البليد، ولو كان لفظ الحمار موضوعا له وللبليد على السواء لم يسبق إلى الأفهام أحدهما. فإن قيل: إذا كانت الحقائق تعم المسميات فلماذا تجوز بالأسماء عما وضعت له؟ فالجواب: أن فى المجاز من المبالغة والحذف ما ليس فى الحقيقة، لهذا كان وصف البليد بأنه حمار أبلغ فى الإبانة عن بلادته من قولهم: «بليد». وأما الخلاف فى الاسم فبأن يسلم المخالف أن استعمال اسم «الحمار» فى البليد ليس بموضوع له فى الأصل، وأنه بالبهيمة أخص لكنه يقول: لا أسميه مجازا إذا عنى به البليد، لأن أهل اللغة لم يسموه بذلك بل أسميه مع قرينته حقيقة. فيقال له: إن أردت أن العرب لم تسمه بذلك فصحيح، وإن أردت أن الناقلين عنهم لم يسموه بذلك فباطل بتلقيبهم كتبهم بالمجاز، وبأنهم ¬

_ (¬1) المعتمد: 1/ 29.

دخول المجاز فى خطاب الله تعالى:

يقولون فى كتبهم «هذا الاسم مجاز، وهذا الاسم حقيقة» وليس إذا لم تسمه العرب بذلك يمتنع أن يصنع الناقلون عنهم له هذا الاسم ليكون آلة وأداة فى صنائعهم، لأن أهل الصنائع يفعلون ذلك ولهذا سمى النحاة الضمة المخصوصة «رفعا» والفتحة «نصبا» ولم يلحقهم بذلك عيب. وأما تسمية المانعين مجموع الاسم والقرينة حقيقة فإنه لو صح ذلك لم يقدح (¬1) فى تسمية أهل اللغة الاسم بانفراده مجازا. على أن الوصف بالمجاز وبالحقيقة يرجع إلى الألفاظ، لأنها هى المستعملة فى المعانى دون القرائن، لأن القرائن قد تكون شاهد حال وغير ذلك مما ليس من فعل المتكلم. دخول المجاز فى خطاب الله تعالى: اختلف العلماء فى وجود المجاز فى القرآن الكريم على مذهبين: المذهب الأول: أن الله عز وجل قد خاطبنا فى القرآن بالمجاز، وهذا مذهب الجمهور الذى يرى أن دخول المجاز فى القرآن أمر حسن، لأن الله عز وجل أنزل القرآن بلغة العرب وإنزاله جل شأنه القرآن بلغتهم يقتضى حسن خطابه إياها فيه بلغتها ما لم يكن فيه تنفير كالكلام السخيف (¬2) المنسوب قائله إلى الغىّ (¬3)، ولا شك أن أكثر الفصاحة تظهر بالمجاز والاستعارة. وقد استدل الجمهور على الوقوع بما يلى: ¬

_ (¬1) يقال قدح الشيء فى صدرى بمعنى أثر (لسان العرب: 4/ 3541). (¬2) السخف هو رقّة العقل وضعفه وكل مارق فهو سخيف- لسان العرب: 3/ 1964. (¬3) يقال عىّ بالأمر عيّا إذا عجز عنه ولم يطق إحكامه- لسان العرب: 4/ 3201.

المذهب الثانى:

1 - قال تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ (¬1) قال البيضاوى (¬2) رحمه الله تفسيرا لقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. يريد أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم. وقال القرطبى (¬3) رحمه الله: قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. أى قرب أن يسقط وهذا مجاز وتوسع ... وجميع الأفعال التى حقها أن تكون للحيّ الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هى استعارة أى لو كان مكانهما إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل. 2 - قال تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ (¬4) أى أمره وقضاؤه وهو من باب حذف المضاف، وقيل: جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وقيل: جعل مجىء الآيات مجيئا له تفخيما لشأن تلك الآيات. وقال أهل الإشارة (¬5): ظهرت قدرته واستولت والله جل شأنه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنّى له التحوّل والانتقال ولا مكان له ولا أوان، ولا يجرى عليه وقت ولا زمان لأن فى جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات ومن فاته شىء فهو عاجز. المذهب الثانى: لا يجوز أن يخاطبنا الله عز وجل بالمجاز فى القرآن. وهذا المذهب منسوب إلى بعض (¬6) أهل الظاهر، وإلى أبى إسحاق الإسفرايينى وأبى بكر محمد بن داود الأصبهانى. ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية: 77 (¬2) تفسير البيضاوى: 389. (¬3) تفسير القرطبى: 5/ 4064. (¬4) سورة الفجر الآية: 22. (¬5) تفسير القرطبى: 20/ 55. (¬6) المعتمد لأبى الحسين البصرى: 1/ 30، وتفسير القرطبى: 5/ 4065.

وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلى: أولا: لو خاطبنا الله عز وجل بالمجاز والاستعارة للزم وصفه بأنه متجوز فى خطابه، وبأنه مستعير. وقد أجيب عن هذا (¬1): بأن إطلاق وصفه تعالى بالتجوّز يوهم التسمح بالقبيح، ولهذا إذا قيل فلان متجوز فى أفعاله أفاد أنه متسمح بالقبيح فيها، وأما قولنا: مستعير، فإنه يفهم من إطلاقه أنه استأذن غيره فى التصرف فى ملكه لينتفع به، وكل ذلك يستحيل على الله عز وجل. أضف إلى ذلك أن أسماءه سبحانه توقيفية، ومن ثم لا يصح إطلاق لفظ متجوز أو مستعير عليه سبحانه. ثانيا: إن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضى العجز عن الحقيقة، وهو مستحيل عليه تعالى. وقد أجيب عن هذا: بأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضى العجز لو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة، ومعلوم أن العدول إلى المجاز يحسن لما فيه من زيادة فصاحة واختصار، ومبالغة فى التشبيه، ولو لم تكن فى المجاز هذه الوجوه لجاز أن تكون فيه مصلحة لا نعلمها، ولجاز أن يكون المجاز مع قرينته يساوى فى الطول كثرة ألفاظ الحقيقة، فيجرى العدول إليه مجرى العدول من حقيقة إلى حقيقة. ثالثا: إن المجاز لا ينبئ (¬2) عن معناه بنفسه، وعليه فورود القرآن به يقتضى الإلباس (¬3). ¬

_ (¬1) المعتمد: 1/ 31. (¬2) النبأ هو الخبر- لسان العرب: 5/ 4315. (¬3) يقال لبس عليه الأمر يلبسه لبسا فالتبس إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته فاللبس هو اختلاط الأمر- لسان العرب: 5/ 3987.

الفرق بين الحقيقة والمجاز:

والجواب: أنه لا إلباس مع وجود القرينة الدالة على المعنى المراد. الفرق بين الحقيقة والمجاز: المتأمل فى الحقيقة والمجاز يجد أنهما يتفقان فى أمور ويختلفان فى أمور. أولا: ما يتفقان فيه ما يلى: 1 - أنهما لا يدخلان أسماء الألقاب لأن الحقيقة لفظ استعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ استعمل فى غير ما وضع له، والمراد من قولهم «وضع له» وضع أهل اللغة. فاللفظ إن استعمل فيما وضع له كان حقيقة، وإن استعمل فى غير ما وضع له كان مجازا، وأسماء الألقاب لم تقع على مسمياتها المعينة بوضع من أهل اللغة ولا من الشرع حتى يكون من اتبعهم فيها فى أصل موضوعهم كان قد استعملها على الحقيقة، ومن استعملها فيه على طريق التبع كان متجوزا بها. 2 - أنه لا يخلو منها كلام وضعه أهل اللغة لشىء. 3 - الحقيقة يجوز أن تصير بالشرع أو بالعرف مجازا فيما كانت حقيقة فيه، ويجوز أن يصير بها المجاز حقيقة فيما كان مجازا فيه. ثانيا: ما يختلفان فيه: قال العلماء: الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالنص من قبل أهل اللغة أو بالاستدلال بعاداتهم. أما الأول فمن وجهين: الأول: أن يقول الواضع هذا حقيقة وذاك مجاز. الثانى: أن يذكر الواضع حد كل واحد منهما بأن يقول: هذا مستعمل فيما وضع له، وذاك مستعمل فى غير ما وضع له.

أما الآخر فمن وجوه ثلاثة:

أما الآخر فمن وجوه ثلاثة: الأول: أن يسبق المعنى إلى أفهام أهل اللغة عند سماع اللفظ بدون قرينة، فيعلم بذلك أنه حقيقة فيه. فإن كان لا يفهم منه المعنى المراد إلا بالقرينة فهو المجاز. وقد اعترض على هذا الوجه باللفظ المشترك المستعمل فى معنييه أو معانيه، فإنه لا يتبادر أحدهما أو أحدها لولا القرينة المعينة للمراد مع أنه حقيقة. وأجيب عن هذا: بأنه يتبادر جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه، ويتبادر أحدها لا بعينه عند من منع من حمله على جميع معانيه. الثانى: صحة النفى للمعنى المجازى عدم صحته للمعنى الحقيقى فى نفس الأمر. وقد اعترض على هذا بأن العلم بعدم صحة النفى موقوف على العلم بأن ذلك المعنى ليس من المعانى الحقيقية، وذلك موقوف على العلم بكونه مجازا، فإثبات كونه مجازا به دور (¬1). ¬

_ (¬1) حقيقة الدور: هو حقيقة الشيء على ما توقف عليه. وحقيقة التسلسل: هو ترتب أمور غير متناهية. ومن أمثلة ذلك: قولنا من أدلة وجوب الوجود لله كونه تعالى يجب افتقار العالم إليه وكل من وجب افتقار العالم إليه فهو واجب الوجود فالله تعالى واجب الوجود. دليل الصغرى: العالم حادث وكل حادث يجب افتقاره إلى محدث. دليل الكبرى: أنه لو لم يكن واجب الوجود لكان جائزه فيفتقر إلى محدث ويفتقر محدثه إلى محدث. فإن رجع الأمر إلى الأول مباشرة أو بواسطة فالدور لأن الأمر دار ورجع إلى مبدئه، وأن تتابع المحدثون واحدا بعد واحد إلى ما لا نهاية فالتسلسل لأنه تسلسل الأمر وتتابع- شرح البيجورى على الجوهرة 1/ 57، 58.

وأجيب عن هذا: بأن سلب بعض المعانى الحقيقية كاف فيعلم أنه مجاز فيه، وإلا لزم الاشتراك، وأيضا إذا علم معنى اللفظ الحقيقى والمجازى ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم بصحته نفى المعنى الحقيقى أن المراد هو المعنى المجازى وبعدم صحته أن المراد هو المعنى الحقيقى. الثالث: عدم اطراد (¬1) المجاز وهو أن لا يجوز استعماله فى محل مع وجوب سبب الاستعمال المسوغ (¬2) لاستعماله فى محل آخر، كالتجوز بالنخلة للإنسان الطويل دون غيره مما فيه طول، وليس الاطراد دليل الحقيقة، فإن المجاز قد يطرد كالأسد للرجل الشجاع. وقد اعترض على هذا الوجه: بأن عدم الاطراد قد يوجد فى الحقيقة كالسخىّ والفاضل، فإنهما لا يطلقان على الله سبحانه وتعالى مع وجودهما على وجه الكمال فيه جل شأنه. وكذا القارورة لا تطلق على غير الزجاجة مما يوجد معنى الاستقرار فيه كالدّن (¬3). وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن الأمارة عدم الاطراد لا لمانع لغة أو شرعا ولم يتحقق فيما ذكرتم، وذلك لأن الشرع منع من إطلاق السخى والفاضل على الله سبحانه وتعالى، واللغة منعت من إطلاق القارورة على غير الزجاجة. هذا: ومن الفروق بين الحقيقة والمجاز امتناع الاشتقاق فإنه دليل على كون اللفظ مجازا، وكذلك المعنى الحقيقى إذا كان متعلقا بالغير، فإنه إن استعمل فيما لا يتعلق به شىء كان مجازا وذلك كالقدرة إذا ¬

_ (¬1) اطرد الأمر استقام مختار الصحاح 389. (¬2) يقال ساغ له ما فعل أى جاز وسوغه له غيره تسويغا أى جوزه- مختار الصحاح 321. (¬3) الدن ما عظم من الرواقيد جمع راقود وهو إناء خزف مستطيل مقيّر- لسان العرب 2/ 1434، 1702.

فائدتان:

أريد بها الصفة كانت متعلقة بالمقدور وإذا أطلقت على النبات الحسن لم يكن لها متعلق فيعلم كونها مجازا فيه. فائدتان: الأولى: يجوز أن يريد الله بكلامه خلاف ظاهره إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، وذلك لأن القرينة تبين لنا أن الظاهر غير مراد. قال الشيخ تاج الدين السبكى رحمه الله (¬1): قد يريد الله بكلامه خلاف ظاهره، إذا كانت هناك قرينة يحصل بها البيان ولا يمكن أن يعنى بكلامه خلاف ظاهره من غير بيان. اه. وقال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله (¬2): ولا يجوز أن يرد فى الكتاب والسنة ما يعنى به غير ظاهره إلا بدليل يبين المراد كما فى العام المخصوص بمتأخر. اه. مثال ذلك: آيات التشبيه كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (¬3) وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (¬4) فالظاهر هنا غير مراد حيث أقام الله تعالى قرينة قاطعة على عدم التشبيه والمثيل له، فقال جل شأنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (¬5) وإنما قال الجمهور: لا بدّ من وجود قرينة، لأن اللفظ بالنسبة إلى خلاف الظاهر الذى لا تدل عليه قرينة مهمل لا يفهم منه معنى، والخطاب بما لا يفهم المراد منه ممتنع لعدم الفائدة. ¬

_ (¬1) الإبهاج: 1/ 230. (¬2) شرح الجلال على جمع الجوامع: 1/ 233. (¬3) سورة الفتح الآية: 10. (¬4) سورة الرحمن آيتا: 26، 27. (¬5) سورة الشورى الآية: 11.

وذهب المرجئة (¬1) إلى القول بجواز أن يعنى خلاف الظاهر بدون قرينة، وغالوا فى ضلالهم حيث قالوا: إن المراد بظواهر الآيات والأخبار الدالة على عقاب الفاسقين، ووعيد العصاة والمذنبين هو الترهيب فقط لحمل الناس على الكف عن ارتكاب المعاصى، وذلك حتى لا يختل نظام العالم بناء على معتقدهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان، كما أن الطاعة لا تنفع مع الكفر. ويترتب على هذا الكلام الخطير الكذب فى أخباره تعالى وهو كفر والعياذ بالله، ويرد عليهم بأن كلامهم هذا يؤدى إلى ارتفاع الوثوق عن النصوص الشرعية لاحتمال أن يراد بها خلاف الظاهر وهو باطل قطعا. أضف إلى ذلك أنه يفتح بابا للفساد وافتراء المفترين على الدين حتى يصرفوا كل النصوص الشرعية عن ظاهرها، بحجة أنها غير مرادة، وينهدم بذلك- لا قدر الله- صرح الدين. هذا وما يقال بالنسبة للقرآن الكريم، يقال أيضا بالنسبة للسنة المطهرة فلا يتأتى فيها ألفاظ مراد بها غير الظاهر بدون قرينة. وبهذا يتضح لنا أن الألفاظ لا بدّ أن تستعمل فى معانيها الموضوعة لها، حيث لا قرينة وإذا وجدت القرينة حملت الألفاظ عليها ويكون ذلك من باب المجاز. كما لا يجوز حيث لا قرينة أن تستعمل الألفاظ فى غير ¬

_ (¬1) المرجئة: فرقة تزعم أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله دخل الجنة وإن عمل أى عمل. فهم يرون أن الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدموا القول وأخروا العمل أى أرجئوه فسموا مرجئة، ويعتقدون أن الذنوب كلها صغائر ولا تضر مرتكبها ما دام على الإسلام ولذاك قال شاعرهم: مت مسلما ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يرى تنكيدا لو رام أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهم قلبك التوحيدا (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى 107، وشرح البيجورى على الجوهرة 2/ 129).

معانيها الظاهرة، لأن هذا يؤدى إلى الكذب فى خبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستهان بالشريعة ويخلع المرء بذلك ربقة الإسلام من عنقه وهو لا يدرى. الثانية: لا يجوز ورود ما لا معنى له فى القرآن والسنة، لأنه نقص والنقص على الله تعالى محال. وجوّز الحشوية (¬1) على الله تعالى أن يخاطبنا ويتعبدنا بالمهمل، واستندوا إلى ثلاث شبه تفيد فى نظرهم أن الله عز وجل خاطبنا بالمهمل وهذه الشبه هى: الشبهة الأولى: قالوا: إن المهمل قد ورد كثيرا فى القرآن الكريم، كأوائل السور نحو: الم- الر- ص- ق- ن. إلى غير ذلك مما لا معنى له، وإذا كان هذا قد ورد وقد تعبدنا الله تعالى به. إذن فالخطاب بالمهمل متعبد به وهو المطلوب. وأجيب عن هذا من قبل الجمهور: بأننا لا نسلم أن أوائل السور لا معنى لها، بل لها معانى ذكرها العلماء، ونصوا عليها، والقارئ فى كتب التفسير وعلوم القرآن يجد أن من العلماء من فوض علمها إلى الله تعالى وقال: هى مما استأثر الله تعالى بعلمه، فهى لها معان ولكن معانيها مما استأثر الله به، ومن ثم فعدم معرفتنا معانيها لا يكون دليلا على أنها مهملة. ومن العلماء من فسرها وإن كانوا قد اختلفوا فى معناها: 1 - فقال بعضهم: هى أسماء السور. 2 - وقال بعضهم: هى أسماء الله تعالى. قال الشعبى رحمه الله: فواتح السور من أسماء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الحشوية بفتح الشين لأنها منسوبة إلى الحشى بالقصر كالفتى ويجوز إسكان الشين على أنها منسوبة إلى الحشو الذى لا معنى له فى الكتاب والسنة وسموا حشوية من قول الحسن البصرى رحمه الله لما وجد كلامهم ساقطا، وكانوا يجلسون فى حلقته أمامه ردوا هؤلاء إلى حشى الحلقة أى جانبها- شرح جلال الدين المحلى، وحاشية البنانى عليه 1/ 232، 233.

وجه الاحتجاج:

3 - وقال ابن كثير (¬1) رحمه الله: مجموع هذه الحروف المذكورة فى أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهى: أل م ص ر ك ى ع ط س ح ق ن هـ يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر، وهى نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك. خلاصة الكلام أن لأوائل السور معانى وإن اختلف فيها، لأن الله عز وجل لم ينزلها عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة: إن فى القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأ كبيرا. جاء فى تفسير ابن كثير (¬2): فإن صح لنا فيها من المعصوم شىء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. الثانية: قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (¬3) وجه الاحتجاج: أنه يجب الوقف على قوله إِلَّا اللَّهُ وحينئذ فالراسخون مبتدأ ويقولون خبر. وعليه فيكون هناك فى القرآن أشياء لا يعلم تأويلها إلا الله، وقد تعبدنا الله بها، والدليل على أنه يجب الوقف على لفظ الجلالة أنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفا عليه، وحينئذ يتعين أن يكون قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ جملة حالية، والمعنى قائلين وإذا كانت حالية فإما أن تكون حالا من المعطوف والمعطوف عليه، أو من المعطوف فقط. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 1/ 59. (¬2) تفسير ابن كثير: 1/ 59. (¬3) سورة آل عمران الآية: 7.

قال ابن كثير رحمه الله:

الأول باطل لامتناع أن يقول الله تعالى: آمَنَّا بِهِ، والثانى خلاف الأصل لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فى المتعلقات، وإذا انتفى هذا تعيّن ما ادعيناه من وجوب الوقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ وإذا وجب الوقف على ذلك لزم أنه تكلم بما لا يعلم تأويله وهو المدعى. وقد دفع الجمهور هذه الشبهة بما يلى: أولا: لا نسلم وجوب الوقف على لفظ الجلالة، والواو فى قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يصح أن تكون عاطفة عطفت الرَّاسِخُونَ على لفظ الجلالة، فيكون هؤلاء يعلمون تأويله أيضا، والتعبير بقوله وَالرَّاسِخُونَ قرينة على ذلك. قال ابن كثير رحمه الله (¬1): « .... ومنهم من يقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد. وقد روى ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: «أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد: والراسخون فى العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع ابن أنس». ثانيا: إن تخصيص المعطوف بالحال يمتنع إذا لم تقم قرينة تدل عليه. أما إذا قامت قرينة تدفع اللبس فلا بأس كقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً (¬2) فإن: نافِلَةً حال من يعقوب خاصة لأن النافلة ولد الولد، وما نحن فيه كذلك لأن الله تعالى لا يقول: آمَنَّا بِهِ ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 2/ 8. (¬2) سورة الأنبياء الآية: 72.

هذا ويمكن القول بأن هذا الدليل الذى أقمتموه ليس فى محل النزاع، حيث إن الدليل فى خطاب له معنى غاية الأمر أن الله تعالى استأثر بعلمه، أو أن العلماء اختلفوا فى المعنى المراد، ومحل النزاع فى مهمل ليس له معنى فأين هذا من ذلك؟ الثالثة: قال تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (¬1) وجه الدلالة: أن الله تعالى قال قبل هذه الآية: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ* إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ* إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (1) ثم قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ وهذا التشبيه يفيد بيان علمنا برءوس الشياطين ونحن لا نعلمها فيكون الله تعالى قد تعبدنا بالمهمل وهو المطلوب. وتدفع هذه الشبهة بأننا لا نسلم عدم علمنا بالمشبه به، بل هو معلوم حيث إن العرب تضرب ذلك مثلا فى الاستقباح فهو معلوم متداول بينهم، فدعواكم عدم المعرفة باطل لأن العرب تتخيله قبيحا. على أن هذا أيضا ليس فى محل النزاع، وبهذا يكون كلام الحشوية قد سقط، ولم تقم له قائمة وثبت أن الله تعالى لا يتعبدنا بالمهمل لأنه نقص وهو على الله تعالى محال. ¬

_ (¬1) سورة الصافات آيات: 62 - 65.

المبحث الثانى فى الصريح والكناية

المبحث الثانى فى الصريح والكناية الصريح ما ظهر المراد منه لكثرة استعماله فيه سواء كان هذا اللفظ مستعملا استعمالا حقيقيّا مثل قول الرجل مثلا: تزوجت وبعت واشتريت وصمت وصليت عند استعمالها فى حقيقتها الموضوعة لها، أم كان مستعملا استعمالا مجازيّا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها (¬1) فهو صريح وإن كان مجازا، لأنه صريح فى أن المراد به: واسأل أهل القرية حيث إنه لا يتصور أن يكون المراد سؤال نفس الأرض والبناء. حكم الصريح: الصريح يثبت مقتضاه بمجرد التلفظ به ودون نظر إلى إرادة المتكلم وقصده، وذلك لأن الصريح هو الأصل فى الكلام والكلام ما كان إلا للتعبير عن ما فى الجنان. قال الشيخ عبد العزيز البخارى رحمه الله (¬2): حكم الصريح تعلق الحكم الشرعى، وتعين الكلام أى بنفسه وقيامه أى قيام الكلام الذى هو الصريح مقام معناه الذى دل عليه، سواء كان حقيقة أو مجازا، من غير نظر إلى أن المتكلم أراد ذلك المعنى أو لم يرد. اه. ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 82. (¬2) كشف الأسرار: 2/ 203.

وأما الكناية:

وقد رتب الفقهاء على هذا وقوع الطلاق باللفظ الصريح حتى ولو ادعى المطلق عدم قصده الطلاق (¬1). كما رتبوا عليه أيضا عدم وجوب الحد (¬2) إلا باللفظ الصريح، فمن قال لغيره: أنا لست زانيا تعريضا به لا يحد بهذا التعريض لاحتمال إرادة المعنى الظاهر دون ما وراءه. وأما الكناية: فهو اللفظ الذى استتر المعنى المراد به بحسب الاستعمال، ولا يفهم إلا بقرينة سواء كان هذا اللفظ استعمل استعمالا حقيقيا كما فى قولك لآخر، أمام الناس عن أمر لا تريد إظهاره لهم: لقيت صاحبك وكلمته فى المسألة. أم كان استعمالا مجازيا كقول الرجل لزوجته: أنت حرة أو اعتدى قاصدا بذلك الطلاق. حكم الكناية: قال العلماء: إن الكناية لا يثبت موجبها إلا بالنية أو بدلالة الحال، فمن قال لزوجته أنت حرة وقصد بذلك الطلاق طلقت وإلا فلا. كذلك لا يثبت بها ما يندرئ (¬3) بالشبهات كحد القذف، فمن قال لغيره: أما أنا فلست بزان فهذا لا يعتبر قذفا موجبا لحد القذف، لأنه كناية فكان خفاء المراد منه شبهة تدرأ حد القذف عن القائل (¬4). ¬

_ (¬1) الروضة الندية: 2/ 282، والمغنى لابن قدامة: 8/ 222. (¬2) الحد لغة: المنع وشرعا: عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى أو لآدمى- مغنى المحتاج 4/ 155. (¬3) الدرء معناه الدفع يقال درأ الوادى بالسيل أى دفع- لسان العرب 2/ 1347. (¬4) كشف الأسرار عن أصول البزدودى 2/ 203، 204، وأصول التشريع الإسلامى 296، والوجيز 338، وأصول الفقه للدكتور سلام مدكور 270.

الفصل الثالث فى اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه

الفصل الثالث فى اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه وفيه مبحثان المبحث الأول: واضح الدلالة المبحث الثانى: غير واضح الدلالة

المبحث الأول فى واضح الدلالة

المبحث الأول فى واضح الدلالة ينقسم اللفظ الواضح الدلالة على معناه إلى أربعة أقسام هى: 1 - المحكم: وهو فى اللغة (¬1): المتقن. وفى الاصطلاح: هو المكشوف المعنى الذى لا يتطرق إليه احتمال ولا إشكال (¬2). فالمحكم ليس فيه احتمال النسخ والتبديل وهو أقوى الأقسام الأربعة من حيث دلالته على معناه. وقد جاء فى القرآن الكريم ما يدل على أنه محكم كله قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (¬3) وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه حيث قال جل شأنه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (¬4) وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (¬5) والحق أنه لا يوجد تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة، لأن معنى ¬

_ (¬1) لسان العرب: 2/ 951. (¬2) المستصفى: 1/ 106. (¬3) سورة هود الآية: 1. (¬4) سورة الزمر الآية: 23. (¬5) سورة آل عمران الآية: 7.

(أ) محكم لذاته:

إحكامه كله أنه منظم رصين متقن متين لا يتطرق إليه خلل لفظى ولا معنوى، كأنه بناء مشيد محكم يتحدى الزمن، ولا يصيبه وهن ولا تصدع. ومعنى كونه متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى إحكامه وحسنه وبلوغه حد الإعجاز فى ألفاظه ومعانيه. وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى منه، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم فالأول هو المحكم والثانى هو المتشابه (¬1). وقد قال العلماء إن المحكم نوعان: (أ) محكم لذاته: وهو ما لا يقبل النسخ لمعناه، أو هو ما انقطع احتمال نسخه بما يدل على الدوام والتأبيد كقوله تعالى بالنسبة لحرمة التزوج بأمهات المؤمنين من بعده صلى الله عليه وسلم: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (¬2) وقوله جل شأنه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً (¬3) أو انقطع احتمال نسخه بحسب محل الكلام بأن يكون معنى الكلام فى نفسه مما لا يحتمل التبديل عقلا وذلك كالآيات الدالة على صفات البارى سبحانه، ومن ذلك الأخبار المحضة الصادرة من الشارع كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (¬4) وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (¬5) ¬

_ (¬1) الموافقات: 3/ 85، ومناهل العرفان: 2/ 167. (¬2) سورة الأحزاب الآية: 53. (¬3) سورة النور الآية: 4. (¬4) سورة المجادلة الآية: 7. (¬5) سورة الإسراء الآية: 1.

محكم لغيره:

محكم لغيره: وهو ما انقطع احتمال نسخه بمضى زمان الوحى، وعلى هذا فالأقسام الثلاثة الآتية بعد زمان الوحى تكون من قبيل المحكم لعدم قبولها النسخ، وإن كانت محتملة للبيان والتأويل فمثلا قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬1) مجمل يحتاج إلى ما يبينه، وقد بينته السنة العملية والقولية، ومن ثم صار مفسرا، وبعد انقضاء زمن الوحى صار محكما، وعلى هذا فالأحكام الشرعية المستفادة من النصوص كلها الآن من ناحية عدم قبولها النسخ تكون محكمه (¬2). حكم المحكم: يجب العمل بالمحكم على سبيل القطع، لأنه لا يحتمل غير معناه ولا يقبل النسخ لا فى عهد الرسالة لاقترانه بما يمنع ذلك من معنى أو لفظ، ولا بعد عهد الرسالة لأنه ليس لأحد حينئذ سلطة نسخ الأحكام الشرعية. 2 - المفسر: فى اللغة (¬3): مأخوذ من الفسر وهو الكشف فهو المكشوف معناه. وفى الاصطلاح: هو الخطاب المبتدأ المستغنى عن تفسير لوضوحه فى نفسه (¬4). فالمفسر لا يحتمل التفسير والتأويل، ولكنه مما يقبل النسخ فى عهد الرسالة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 43. (¬2) أصول السرخسى 166، وتسهيل الوصول 86، وأصول الفقه الإسلامى: 280. (¬3) لسان العرب: 4/ 3412. (¬4) المعتمد لأبى الحسين البصرى: 1/ 319.

أنواع المفسر:

مثاله: قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (¬1) فإن كلمة (المشركين) اسم ظاهر عام ولكنه يحتمل التخصيص فلما ذكر بعده كلمة (كافة) ارتفع احتمال التخصيص فصار مفسرا (¬2). أنواع المفسر: المفسر نوعان: (أ) مفسر بذاته. (ب) مفسر بغيره. فالمفسر بذاته: هو ما استقل بإفادة معناه من غير أن ينضم إليه قول أو فعل. مثاله: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (¬3) فإن هذا اللفظ واضح فى معناه وهو إحاطة علمه سبحانه بكل شىء، ومن ثم فهو غير محتاج إلى بيان من قول أو فعل، وإنما يحتاج إلى وضع اللغة فقط. وكذلك قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها (¬4) فبيان المراد من هذا القول الكريم، وهو سؤال أهل القرية لا يتوقف على قول أو فعل، وإنما يتوقف على العقل فقط حيث إن حقيقة هذا اللفظ طلب سؤال الجدران والبيوت، لكن العقل صرفنا عن ذلك وقضى بأن المراد به الأهل (¬5). المفسر بغيره: هو ما افتقر فى إفادة معناه إلى غيره من قول أو فعل وهذا الغير يسمى مبينا. أقسام البيان: قال العلماء إن بيان المجمل يقع بستة أوجه هى: ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 36. (¬2) تسهيل الوصول: 87. (¬3) سورة المجادلة الآية: 7. (¬4) سورة يوسف الآية: 82. (¬5) الإبهاج: 2/ 136.

الأول:

الأول: القول، وقد قال العلماء إن البيان به يحصل بدون خلاف، سواء كان هذا القول من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. فالأول نحو قوله تعالى: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (¬1) فإنه مبين لقوله جل شأنه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (¬2) والآخر نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» (¬3) فإنه مبين لقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (¬4) وللإمام الزركشى رحمه الله هنا كلام طيب لا بأس بإيراده: يقول رحمه الله (¬5): اعلم أن الكتاب هو القرآن المتلو، وهو إمّا نصّ: وهو ما لا يحتمل كقوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (¬6) وإمّا ظاهر: وهو ما دل على معنى مع تجويزه غيره. والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية. واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة. أما المتصلة فنوعان: نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذى لولا القرينة لحمل عليه، ويسمى تخصيصا وتأويلا. ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا، فالأول كقوله تعالى: وَحَرَّمَ الرِّبا (6 ) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 69. (¬2) سورة البقرة الآية 67. (¬3) أخرجه أبو داود فى سننه 1/ 580. (¬4) سورة الأنعام الآية: 141. (¬5) البرهان: 2/ 214. (¬6) سورة البقرة آيتا: 196، 275.

وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا:

فإنه دل على أن المراد من قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ البعض دون الكل الذى هو ظاهر بأصل الوضع، وبين أنه ظاهر فى الاحتمال الذى دلت عليه القرينة فى سياق الكلام. وللإمام الشافعى رحمه الله قول بإجمال البيع، لأن الربا مجمل وهو فى حكم المستثنى من البيع واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام. والصحيح الأول، فإن الربا عام فى الزيادات كلها وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع. ومثال النوع الثانى قوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ فإنه فسّر مجمل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (¬1) إذ لولا مِنَ الْفَجْرِ لبقى الكلام الأول على تردده وإجماله. وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط فى رجله الخيط الأبيض والأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه أراد الليل والنهار. وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا: 1 - تأويل. 2 - وبيان. فمثال الأول: قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (1) فإنه دل على أن المراد بقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ (¬3) الطلاق الرجعى. إذ لولا القرينة لكان الكل منحصرا فى الطلقتين. وهذه القرينة وإن كانت مذكورة فى سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت فى آية أخرى، فلهذا جعلت من قسم المنفصلة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آيتا: 187، 230. (¬3) سورة البقرة الآية: 229.

الثانى:

ومثال الثانى: قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (¬1) فإنه دل على جواز الرؤية ويفسر به قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (¬2). حيث كان مترددا بين نفى الرؤية أصلا، وبين نفى الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية. وأيضا قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (¬3) فإنه لما حجب الكفار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار، وارتفع به الإجمال فى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬4) فإن صيغته صيغته الخبر، ولكن لا يمكن حمله على حقيقته، فإنهن قد لا يتربصن فيقع خبر الله تعالى، بخلاف مخبره وهو محال، فوجب اعتبار هذه للقرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال. ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر والمراد بها الأمر. الثانى: الفعل أى فعله صلى الله عليه وسلم مثل صلاته صلى الله عليه وسلم، فإنه- فعل الصلاة منه- مبين لقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬5) ¬

_ (¬1) سورة القيامة آيتا: 22، 23. (¬2) سورة الأنعام الآية: 103. (¬3) سورة المطففين الآية: 15. (¬4) سورة البقرة الآية: 228. (¬5) سورة البقرة الآية: 43.

ومثل حجه صلى الله عليه وسلم فإنه مبين لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (¬1) وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» (¬2) وقوله: «خذوا عنى مناسككم» (¬3) فهو دليل على أن فعله صلى الله عليه وسلم مبين للآيتين (¬4). هذا وقد قال العلماء إن البيان بالقول لا خلاف فيه، وأما البيان بالفعل فقد ذهب بعضهم إلى القول بمنعه بحجة أن الفعل قد يطول فيكون البيان به فيه تأخيرا للبيان مع إمكان تعجيله وتأخير البيان مع إمكان تعجيله كتأخير البيان رأسا وهو لا يجوز (¬5). وردّ ذلك بأن البيان بالقول قد يطول أيضا، فإننا لو ذهبنا نبين ما اشتملت عليه الركعتان مثلا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 97. (¬2) أخرجه البخارى فى صحيحه: 1/ 162. (¬3) أخرجه مسلم فى كتاب الحج: 1/ 543. (¬4) الإبهاج: 2/ 213، وإرشاد الفحول 173، وأصول الفقه للشيخ زهير 2/ 20. (¬5) تأخير البيان إما أن يكون عن وقت الحاجة إلى العمل بما يراد بيانه، وإما أن يكون عن وقت الخطاب بما يراد بيانه إلى وقت الحاجة إلى العمل به. فإن كان الأول فالقائلون بامتناع التكليف بما لا يطاق قالوا بعدم جوازه لأنه نوع منه. وأما القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق فقد قالوا بجوازه لأنه فرد منه. وإن كان الثانى فللعلماء فى ذلك مذاهب أشهرها ما يلى: المذهب الأول: يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا، سواء كان ما يراد بيانه له ظاهر يعمل به عند الإطلاق كالعام والمطلق والنكرة أو ليس له ظاهر يعمل به كالمشترك. وهذا هو مذهب الجمهور. وقالوا إنه لا يترتب على فرض وقوعه محال وما كان كذلك فهو جائز وقد جاء فى القرآن: (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 18، 19]. المذهب الثانى: لا يجوز وهو قول أبى بكر الصيرفى وأبى إسحاق المروزى والمعتزلة. المذهب الثالث: يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير بيان العموم، وهذا هو قول أبى الحسن الكرخى. (اللمع 29، وشرح الجلال المحلى 2/ 69).

لكن بم يعلم كون الفعل بيانا للمجمل؟

من الأقوال والأفعال، فإننا نأخذ وقتا أكثر مما لو فعلناهما، ومع ذلك فالبيان بالقول جائز اتفاقا فيكون البيان بالفعل كذلك. أضف إلى ذلك أن البيان بالفعل أدل من القول على المقصود لأن فيه مشاهدة. لكن بم يعلم كون الفعل بيانا للمجمل؟ الجواب: يعلم ذلك بأحد أمور ثلاثة هى: 1 - أن يقول هذا الفعل بيان للمجمل. 2 - أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. 3 - الدليل العقلى وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له، ولا يفعل شيئا آخر فيعلم أن ذلك الفعل بيان له وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬1). هذا: وربما يقول قائل: لو اجتمع القول والفعل معا بعد المجمل وكان كل منهما صالحا لأن يكون هو المبيّن- بالكسر- فبأيّها يكون البيان؟ والحق أنه عند اجتماع القول والفعل ففي هذه الحالة يجب علينا أن ننظر فيهما: فإما أن يتفقا فى الحكم أو يختلفا فيه: فإن كان الأول ننظر: فإما أن يعلم أن أحدهما بعينه متقدم والآخر بعينه متأخر، أو يعلم أن أحدهما لا بعينه متقدم وآخر لا بعينه متأخر، أو لا يعلم شىء من ذلك. فإن علم أن أحدهما بعينه متقدم والآخر بعينه متأخر كان المتقدم هو المبين للمجمل سواء كان المتقدم قولا أو فعلا ويكون المتأخر مؤكدا له. ¬

_ (¬1) شرح الاسنوى مع الإبهاج: 2/ 138.

القول الأول:

وكذلك إذا علم أن أحدهما لا بعينه متقدم والآخر لا بعينه متأخر فيكون المتقدم فى الواقع ونفس الأمر هو المبين ويكون المتأخر مؤكدا له. وقد ذهب الجمهور إلى هذا بقطع النظر عن كونهما متساويين فى الرجحان أو أن يكون أحدهما راجحا والآخر مرجوحا، بخلاف الآمدى الذى ذهب إلى القول بأنه عند اختلافهما فى الرجحان يجعل المرجوح مبينا للفعل والراجح مؤكدا له دون العكس لئلا يلزم تأكيد الراجح بالمرجوح وهو غير معقول (¬1). وقد رد الجمهور عليه بأن امتناع تأكيد المرجوح للراجح إنما يكون فى المؤكد غير المستقل كالمفردات، أما المؤكد المستقل فإنه لا يمتنع فيه ذلك لأن الجمل تقوى بعضها بعضا (¬2). وأما إذا لم يعلم تقدم أحدهما وتأخر الآخر فإن القول حينئذ يكون هو المبين دون الفعل، وذلك لأن القول مستقل فى إفادته البيان، بخلاف الفعل فإنه لا يعرف كونه مبينا إلا بواحد من الأمور الثلاثة السابق ذكرها. وإن كان الآخر بمعنى أن القول والفعل لم يتفقا فى الحكم فللعلماء فى المبين أقوال ثلاثة هى: القول الأول: أن القول هو المبيّن سواء علم تقدمه وتأخر الفعل أو العكس أو لم يعلم شىء من ذلك. وذلك لأن القول أرجح من الفعل من جهة أنه لا يؤدى إلى النسخ بخلاف الفعل فإنه يؤدى إليه، والنسخ مرجوح وعليه فما يوصل إليه يكون مرجوحا كذلك. وهذا القول للجمهور. مثال ذلك: بعد نزول قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الإحكام: 3/ 25. (¬2) نهاية السول: 2/ 151، وإرشاد الفحول: 173، وأصول الشيخ زهير: 3/ 21.

القول الثانى:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (¬1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعى واحد» (¬2) وروى أنه صلى الله عليه وسلم «قرن» (¬3) فطاف بالبيت طوافين وسعى سعيين (¬4). فلو فرضنا أن الفعل هنا متقدم على القول، وجعل الفعل مبينا للزم من ذلك أن القارن يجب عليه طوافان وسعيان، فإذا ورد القول بعد ذلك لزم أن يكون ناسخا لوجوب أحد الطوافين وأحد السعيين، وعلى هذا فجعل الفعل هو المبين يلزمه النسخ، ولو جعلنا القول هو المبيّن- لكان الواجب على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا، ويكون الفعل دليلا على أن الطواف الثانى مستحب وكذلك السعى الثانى، أو أنه خاص به صلى به صلى الله عليه وسلم، وبذلك يعمل بكل من القول والفعل، ولم يلزم النسخ فكان جعل الفعل مبينا هو الراجح. القول الثانى: وهو لأبى الحسين البصرى (¬5) - وهو أنه عند علم التقدم والتأخر، فإن المتقدم يكون هو المبين سواء كان قولا أو فعلا، وعند عدم العلم يجعل القول هو المبين لرجحانه، حيث إنه لا يحتاج فى إفادته البيان إلى غيره بخلاف الفعل. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 97. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه عن ابن عمر 2/ 990، والطحاوى فى شرح معانى الآثار 2/ 197. (¬3) القران هو أن يحرم بالحج والعمرة من الميقات ويعمل عمل الحج فيحصلان ويدخل عمل العمرة فى عمل الحج فيكفيه طواف واحد وسعى واحد، وهذه هى الصورة الأصلية للقرآن وله صورة أخرى وهو أن يحرم بالعمرة فى أشهر الحج ثم يحرم بالحج قبل الشروع فى الطواف- مغنى المحتاج 1/ 514. (¬4) أخرجه الدارقطنى فى سننه عن على كرم الله وجهه 2/ 263. ط: دار المحاسن بالقاهرة. (¬5) المعتمد: 1/ 339.

القول الثالث:

القول الثالث: وهو للآمدى (¬1) - أنه عند العلم بتقدم أحدهما على الآخر ننظر: فإن كان القول هو المتقدم كان هو المبين، وكان الفعل دالا على استحباب الطواف الثانى، وكذا السعى الثانى. وإن كان الفعل هو المتقدم كان هو المبين للمجمل فى حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة، وكان القول مبينا له فى حق الأمة، وبذلك يجب على القارن من الأمة طواف واحد وسعى واحد، ويجب على النبى صلى الله عليه وسلم طوافان وسعيان. والذى دعاه إلى ذلك إنما هو العمل بالقول والفعل معا، وذلك لأنه لو جعل الفعل عند تقدمه مبينا للمجمل فى حقه صلى الله عليه وسلم وأمته لكان القول بعد ذلك إما مهملا وإمّا ناسخا، لوجوب الطواف الثانى والسعى الثانى، ولا شك أن الإهمال والنسخ خلاف الأصل، فلم يبق إلا أن يكون الفعل مبينا للمجمل فى حقه صلى الله عليه وسلم، والقول مبينا له فى حق الأمة عملا بالدليلين. أما إذا لم يعلم تقدم أحدهما وتأخر الآخر، فإن القول حينئذ يكون هو المبين دون الفعل. الثالث: الكتابة. فقد بين الله عز وجل لملائكته ما كتبه فى اللوح المحفوظ، وبين صلى الله عليه وسلم بكتابته إلى عماله فى الصدقات (¬2). وقد اختلف العلماء الأصوليون (¬3) فى الكتابة هل هى فعل أو قول أو قسيم لهما؟ فذهب القرافى ومن نهج نهجه إلى القول بالأول، وكأنهم نظروا إلى فعل الكتابة نفسه. ¬

_ (¬1) الإحكام: 3/ 26. (¬2) المعتمد: 1/ 337، وشرح تنقيح الفصول: 279. (¬3) انظر: المرجعين السابقين، والإجمال والبيان للدكتور محمد حسنى 54.

الرابع:

وذهب القاضى أبو يعلى الحنبلى إلى الثانى، ولعله نظر إلى الكتابة على أنها علامة على الكلام. وذهب أبو الحسين البصرى إلى أنها قسيم لكل من القول والفعل. الرابع: البيان بالإشارة (¬1) وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم بها حين قال: «الشهر هكذا وهكذا» (¬2) وأشار بأصابعه العشرة وقبض الإبهام فى الثالثة يعنى تسعة وعشرين، فإن رفع الأصابع يقصد به أن عدد الأيام فى الشهر كعدد الأصابع المرفوعة. الخامس: البيان بالتنبيه (¬3) على العلة كقوله صلى الله عليه وسلم فى بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا جف (¬4)؟ قالوا نعم فنهى عن ذلك وقوله فى قبلة الصائم: «أرأيت لو تمضمض» (¬5)؟ السادس: ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد وهو ما فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصلا إليه من أحد وجهين، إما من أصل يعتبر هذا الفرع به، وإما من طريق أمارة تدل عليه. قال الشوكانى (¬6) رحمه الله: وزاد شارح اللمع وجها سابعا وهو البيان بالترك. والحق أن الترك (¬7) يقع لوجوه هى: ¬

_ (¬1) المعتمد: 1/ 337. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الصوم: 1/ 439. (¬3) إرشاد الفحول: 173. (¬4) أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب التجارات: 2/ 761. (¬5) أخرجه أبو داود فى سننه: 2/ 311. (¬6) ارشاد الفحول: 173. (¬7) الإجمال والبيان للدكتور محمد حسنى: 60.

الوجه الأول: الترك بحكم الجبلة والطبيعة. مثاله: ترك النبى صلى الله عليه وسلم أكل لحم الضبّ وتعليله ذلك بقوله: «إنه لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه» (¬1). فهذا ترك لا حرج فيه. الوجه الثانى: الترك لحق الغير. مثاله: تركه صلى الله عليه وسلم أكل الثوم والبصل لحق الملائكة. وهذا ترك مباح لا حرج فيه أيضا لحق الغير. الوجه الثالث: الترك خوف الافتراض. مثاله: ترك صلاة القيام فى المسجد فى رمضان (¬2). فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. الوجه الرابع: الترك لما لا حرج فى فعله. مثاله: إعراضه صلى الله عليه وسلم عن غناء الجاريتين فى بيته فى يوم عيد الفطر، وقوله لأبى بكر: «إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» (¬3). الوجه الخامس: ترك المباح إلى ما هو الأفضل. مثاله: القسم بين الزوجات لم يكن واجبا فى حقه صلى الله عليه وسلم، وذلك من باب الخصوصية قال تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه: 2/ 174. (¬2) الحديث أخرجه مسلم 1/ 305 ونصه: عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فى المسجد ذات ليلة وصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذى صنعتم فلم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم. (¬3) الحديث أخرجه ابن ماجة عن عائشة رضى الله عنها: 1/ 612.

حكم المفسر:

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (¬1) الآية. ومع أن القسم غير واجب عليه إلا أنه فعل الأليق والأفضل، وكان أعدل ما يكون بين زوجاته رضى الله عنهن. الوجه السادس: الترك للمطلوب خوفا من وقوع مفسدة أعظم من مصلحة. مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت وأن ألصق بابه بالأرض» (¬2) - وفى رواية: «لأسست البيت على قواعد إبراهيم». حكم المفسر (¬3): قال العلماء: إن حكم المفسر هو وجوب العمل به قطعا مع احتمال أن يصير منسوخا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وأما بعد وفاته فكل القرآن محكم، لا يحتمل النسخ لأن نسخ الكتاب إنما يكون بكتاب أو سنة كما سيأتى، ومعلوم أنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا ينزل كتاب ولا تحدث سنة. 3 - النص: وهو مأخوذ من قولك نصصت الدابة إذا حملتها على سير فوق سيرها المعتاد، وسمى مجلس العروس منصة لزيادة ظهوره على سائر المجالس، ويأتى النص بمعنى منتهى الشيء (¬4). وفى الاصطلاح: هو اللفظ الدال بصيغته على المعنى المقصود بالسوق أصالة مع احتمال التأويل وقبول النسخ فى عهد الرسالة. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية: 51. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه: 1/ 558. ومالك فى الموطأ: 238. (¬3) تسهيل الوصول: 86. (¬4) مختار الصحاح: 662، ولسان العرب: 5/ 4441.

وعرفه الشيخ العمريطي بقوله:

وعرفه الشيخ العمريطي بقوله (¬1): والنص عرفا كل لفظ وارد ... لم يحتمل إلا لمعنى واحد كقد رأيت جعفرا وقيل ما ... تأويله تنزيله فليعلما على العموم يطلق النص عند الفقهاء على ما قابل الإجماع والقياس، ويريدون به الكتاب والسنة وهو عند الأصوليين يطلق على ما قابل المحكم والمفسر والظاهر، ويريدون به التعريف المتقدم. ومن أمثلته: قوله الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (¬2) فإن هذا القول الكريم ظاهر فى تحليل البيع وتحريم الربا، ونص فى التفرقة بين البيع والربا ردّا على الكفرة الذين يقولون بأنهما متماثلان، ولكن هذه التفرقة لم تفهم بدون انضمام قوله تعالى: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (¬3) والكلام الواحد يجوز أن يكون ظاهرا فى معنى نصّا فى معنى آخر، كما يجوز أن يكون الكلام ظاهرا باعتبار لفظ نصّا باعتبار لفظ آخر كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (¬4) فإن لفظ انكحوا ظاهر فى حل النكاح إلا أنه مسوق لإثبات العدد باعتبار قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فكان نصّا فى إثبات العدد والكلام سيق لبيان العدد بدليل السياق، وهو قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فالآية ظاهرة فى الإباحة نص فى بيان العدد (¬5) وكذلك الأمر فى قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ¬

_ (¬1) لطائف الإشارات: 36. (¬2) سورة البقرة الآية: 275. (¬3) سورة البقرة الآية: 275. (¬4) سورة النساء الآية: 3. (¬5) أصول السرخسى: 1/ 164، وتسهيل الوصول: 84.

حكم النص:

فإن اللفظ نص فى إفادة وجوب الجلد إذ هو مسوق لذلك، وهو ما تفيده الصيغة بنفسها، وإن كان ظاهرا فى حرمة الزنى لأنه المتبادر إلى الذهن من نفس الصيغة. حكم النص: قال العلماء يجب العمل بمدلول النص حتى يقوم دليل على تأويله أو تفسيره أو نسخه فإن كان مطلقا بقى على إطلاقه حتى يدل دليل على تقييده كما قيدت الوصية فى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (¬1) بعدم الزيادة على الثلث بحديث سعد- الثلث والثلث كثير (¬2). وإن كان عامّا بقى على عمومه حتى يدل دليل على تخصيصه، كما خصص العموم فى قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (¬3) بقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (¬4) وقصر لفظ المطلقات فى قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ (¬5) على المدخول بهن غير الحوامل بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها (¬6) وقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬7) ويبقى اللفظ سواء كان خاصّا أو عامّا على حقيقته حتى يقوم دليل على أن المراد به مجازه، كما دلت القرينة على أن المراد بالصاع فى قوله ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 11. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه: 2/ 904. (¬3) سورة النساء الآية: 24. (¬4) سورة الأحزاب الآية: 53. (¬5) سورة البقرة الآية: 228. (¬6) سورة الأحزاب الآية: 49. (¬7) سورة الطلاق الآية: 4.

4 - الظاهر:

صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الصاع بالصاعين» (¬1) ما يملأ الصاع من المكيلات (¬2). 4 - الظاهر: وهو فى اللغة: الواضح (¬3) وفى الاصطلاح: ما دل على المعنى دلالة ظنية أى راجحة (¬4). وعبارة ابن الحاجب (¬5): «الظاهر الواضح وفى الاصطلاح ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد أو بالعرف كالغائط». ومن أمثلته: قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (¬6) فإنه ظاهر فى حل البيع وتحريم الربا ولم يسق لهما، وقد فهما من نفس اللفظ، وإنما سيق هذا القول الكريم لنفى المماثلة بين البيع والربا. وكذلك الأمر فى قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (¬7) فإنه ظاهر فى دلالته على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأمر به أو ينهى عنه، وهذا المعنى هو المتبادر فهمه من نفس ألفاظ الآية الكريمة، إلا أنه ليس هو المقصود الأصلى من سياق الآية، لأن الآية مسوقة أصلا للدلالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فى قسمة الفيء (¬8) وتدل تبعا على وجوب طاعته مطلقا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى كتاب البيوع: 1/ 695، ومالك فى الموطأ: 385. (¬2) تسهيل الوصول: 85، وأصول التشريع الإسلامى: 305، 306. (¬3) لسان العرب: 4/ 2767. (¬4) شرح العضد: 2/ 168، وشرح الجلال المحلى: 2/ 52. (¬5) مختصر ابن الحاجب: 2/ 168. (¬6) سورة البقرة الآية: 275. (¬7) سورة الحشر الآية: 7. (¬8) الفيء مال حصل لنا من الكفار بلا قتال وبلا إيجاف خيل، ويقسم على خمس فرق

حكم الظاهر:

حكم الظاهر: قال العلماء يجب العمل بمعنى الظاهر كما هو حتى يقوم دليل على تفسيره أو تأويله (¬1) أو نسخه. وعليه فإن كان مطلقا بقى على إطلاقه حتى يدل دليل على تقييده، كما قيد الحل فى قوله تعالى: ¬

_ يصرف خمسه للمذكورين فى قوله تعالى- (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى .. ) الحشر 7 - وتعطى الأربعة أخماس الباقية للمقاتلة وفى مصالح المسلمين- الإقناع 5/ 19، 20. (¬1) التأويل مشتق من آل يئول إذا رجع تقول آل الأمر إلى كذا أى رجع إليه. وفى الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوع وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد فإن أردت تعريف الصحيح زدت فى الحد- بدليل يصيره راجحا- لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساو فاسد. فالتأويل قسمان: صحيح، وفاسد. فالصحيح ما توافرت فيه عدة شروط هى: 1 - أن يكون اللفظ محتملا للتأويل أى يحتمل المعنى الذى يصرف إليه اللفظ ولو احتمالا مرجوحا أما إذا لم يحتمله أصلا فلا يكون التأويل صحيحا. 2 - أن يكون اللفظ قابلا للتأويل وهو الظاهر والنص فقط بخلاف المحكم والمفسر فلا يقبل واحد منها التأويل. 3 - أن يكون التأويل مبنيا على دليل معقول من نص أو قياس أو إجماع أو حكمة التشريع ومبادئه العامة فإن لم يكن مبنيا على دليل مقبول كان التأويل غير مقبول. 4 - ألا يعارض التأويل نصا صريحا. فمن التأويل الصحيح تخصيص عموم البيع المستفاد من قوله تعالى (وأحل الله البيع) بالسنة التى نهت عن بيوع معينة كبيع الإنسان ما ليس عنده. ومن التأويل الفاسد ما قاله بعض الحنفية جميعا بين الحديثين المشهورين «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» «الأيم أحق بنفسها والبكر يستأمرها أبوها» وقد أخرجها ابن ماجة فى سننه 1/ 601 - 605 فقد قالوا: إن المراد بالمرأة فى الحديث الأول الأمة وهذا يفيد بأن نكاح الأمة نفسها باطل بخلاف نكاح الحرة البالغة العاقلة نفسها- الهداية 1/ 142، وبداية المجتهد 2/ 8 - 12، وسبل السلام 3/ 102. وهذا الجمع والتأويل باطل لما يلى: أولا: إن العموم فى الحديث قوى والمكاتبة نادرة وليس فى كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذى ظهر منه قصد العموم فكلمة أىّ من كلمات الشرط، وقد أكدت بما

الفرق بين النص والظاهر:

وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (¬1) بعدم الزيادة على أربع بقوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (¬2) وبعدم الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» (¬3). وإذا كان عامّا بقى على عمومه حتى يدل دليل على تخصيصه كما خصص عموم البيع فى قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ (¬4) بنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (¬5) وعن بيع الإنسان ما ليس عنده (¬6) وبيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه (¬7). الفرق بين النص والظاهر: قبل ذكر الفرق بين النص والظاهر أرى من اللازم أن أذكر هنا أن التفرقة بين الظاهر والنص لم ينص عليها الإمام الشافعى رحمه الله فى رسالته المشهورة التى تعتبر اللبنة الأولى، لعلم أصول الفقه، ومن ثم كان النص عنده هو الظاهر والظاهر هو النص بلا تفرقة بينهما. ¬

_ وهى أيضا من أدوات الشرط مما يدل على أنه يترتب الحكم بالبطلان على الشرط وكذلك لفظ المرأة إذا أطلق كان عاما يشمل كل امرأة. ثانيا: يترتب على تأويل المرأة بأن المراد بها الأمة وقوع التعارض بين صدر الحديث وعجزه، فإن عجز الحديث- فإن دخل بها .. - صريح فى أحقيتها للمهر حينئذ، ومعلوم أن الأمة لا تستحق المهر لها فمهرها لسيدها (شرح العضد 2/ 169، وشرح الجلال المحلى 2/ 53، والوجيز 344). (¬1) سورة النساء الآية: 24. (¬2) سورة النساء الآية: 3. (¬3) أخرجه مالك فى الموطأ عن أبى هريرة: 329. (¬4) سورة البقرة الآية: 275. (¬5) أخرجه ابن ماجة من حديث أبى هريرة: 2/ 739. (¬6) أخرجه ابن ماجة فى سننه: 2/ 738. (¬7) أخرجه ابن ماجة فى سننه من حديث ابن عمر: 2/ 746.

قال الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله:

قال الإمام أبو حامد الغزالى (¬1) رحمه الله: «وأما الشافعى رضى الله عنه فإنه سمى الظاهر نصّا ثم قال: النص ينقسم إلى ما يقبل التأويل وإلى ما لا يقبله، والمختار عندنا أن يكون النص ما لا يتطرق إليه التأويل .... وتسمية الظاهر نصا منطبق على اللغة لا مانع فى الشرع منه إذ معنى النص قريب من الظهور. تقول العرب: نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، وسمى الكرسى منصة إذ تظهر عليه العروس». فالإمام الشافعى رحمه الله لم يذكر فرقا بين النص والظاهر، ولكن الأصوليين من بعده فرقوا بينهما لأن الفروع الفقهية التى استنبطها الفقهاء من بعده ومن قبله توجب الأخذ بالتفرقة بين نوعين من العبارات: عبارات قوية الدلالة فى الأحكام بحيث لا يتطرق إليها الاحتمال، أو الاحتمال الناشئ عن الدليل، ونصوص يتطرق إليها الاحتمال ولكنها ظاهرة فى معنى، ولا يخطر على الذهن عند سماعها سواه، وإن كانت هى فى ذاتها تحتمل غيره، وكل له مرتبة فى الاستدلال فلا مانع من أن يطلق على أحدهما اسم ينبئ عن مرتبته ويوضح موضعه من الآخر. على العموم إن كلا من النص والظاهر يحتمل التأويل لكن الفرق بينهما يتضح فيما يلى: أولا: عند التعارض بينها يرجح النص على الظاهر كما سيأتى مثاله قريبا. ثانيا: احتمال النص التأويل أبعد من احتمال الظاهر. ثالثا: أن دلالة النص على معناه أوضح من دلالة الظاهر على معناه. ¬

_ (¬1) المنخول: 165، والمستصفى: 1/ 384.

مراتب واضح الدلالة:

رابعا: أن معنى النص هو المقصود الأصلى من سوق الكلام، بخلاف الظاهر فمعناه مقصود تبعا لا أصالة من سوق الكلام. مراتب واضح الدلالة: ذكرت فيما سبق الأقسام الأربعة للفظ الواضح الدلالة وهى: المحكم والمفسر والنص والظاهر، وهى وإن كانت كلها واضحة الدلالة إلا أنها تتفاوت فى قوة وضوح دلالتها على المراد منها أقواها- كما ذكرت- المحكم- ثم المفسر ثم النص ثم الظاهر، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض فمثلا إذا تعارض نص وظاهر قدم النص لأنه أوضح دلالة من الظاهر، وإذا تعارض نص ومفسر قدم المفسر وفى الوقت نفسه يرجح المحكم ويقدم على الجميع، وإليك أمثلة للتعارض الظاهرى قدم فيها ورجح ما ذكرت. فبالمثال يتضح المقال: أولا: التعارض بين النص والظاهر (¬1): مثاله: قال تعالى: ¬

_ (¬1) عرف العلماء التعارض بتعاريف كثيرة من أشهرها ما ذكره الإسنوى رحمه الله حيث قال التعارض بين الأمرين: هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه (نهاية السول: 2/ 207). والحق أن الأدلة الشرعية لا يمكن أن يتأتى تعارض فيها فى الواقع ونفس الأمر، وكل ما هنالك أنه تعارض بحسب نظر المجتهد، ومن هنا قال جمهور العلماء: يجب أن يكون موقف المجتهد تجاه الدليلين المتعارضين فى نظره على النحو التالى: أولا: الجمع بين المتعارضين بأى نوع من أنواع الجمع حيث إن العمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكلية. غير أن هذا الجمع مشروط بألا يؤدى إلى إبطال نص من نصوص الشريعة، وألا يكون بالتأويل البعيد. وقد ذكرت ذلك والحمد لله وحده مشفوعا بالأمثلة فى رسالة الدكتوراة الموسومة بالتعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما فى الفقه الإسلامى. ثانيا: الترجيح أى تفضيل أحدهما على الآخر الذى يعارضه وذلك عند تعذر الجمع ووجود مسوّغ للترجيح.

ثانيا: التعارض بين النص والمفسر:

وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (¬1) فهذا القول الكريم نص فى أن مدة الرضاعة حولان، وظاهر فى وجوب الرضاعة على الأمهات. وقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (¬2) ظاهر فى أن مدته حولان ونصف، لأنه سيق لمنة الوالدة على الولد، وليس لبيان مدة الرضاعة، فرجع الأول لأنه نص وهو يجب العمل به قطعا، ولا يجوز العمل بخلافه. وكذلك الأمر فى قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (¬3) مع قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (¬4) فالأول ظاهر فى الدلالة على إباحة الزواج بأكثر من أربع، فى حين أن الثانى نص فى تحريم الزيادة على أربع ومن هنا يرجح لقوته. ثانيا: التعارض بين النص والمفسر: قال صلى الله عليه وسلم: «المستحاضة تتوضأ لكل صلاة» (¬5). فهذا القول الكريم نص فى إيجاب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، ¬

_ ثالثا: النظر فى تاريخ الدليلين المتعارضين- وذلك عند تعذر الجمع والترجيح- فإن عرفه فإنه حينئذ ينسخ المتأخر المتقدم حيث إنه لا يتصور ورود نصين متعارضين من الشارع الحكيم فى زمن واحد. رابعا: الحكم بسقوط الدليلين المتعارضين عند تعذر ما تقدم والرجوع إلى البراءة الأصلية والحق أنه ليس فى شريعتنا دليلان تعارضا من كل وجه وعزّ الجمع والترجيح ومعرفة التاريخ وحكم عليهما بالسقوط، فما قاله الجمهور هنا من القول بالسقوط إنما هو بيان للجواز العقلى دون الوقوع الفعلى والله تعالى أعلم. (¬1) سورة البقرة الآية: 233. (¬2) سورة الأحقاف الآية: 15. (¬3) سورة النساء الآية: 24. (¬4) سورة النساء الآية: 3. (¬5) أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب الطهارة: 1/ 204.

ثالثا: التعارض بين المفسر والمحكم:

لأنه المتبادر إلى الذهن من المقصود بالسياق (¬1)، ويحتمل التأويل باستعارة اللام للتوقيت- أى لوقت كل صلاة، وعليه ففيه مجاز بالحذف، وهو يتعارض مع ما روى عنه صلى الله عليه وسلم: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» (¬2) لأنه مفسر لا يحتمل التأويل، وإن كان يحتمل النسخ فى عهده صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فيرجح هذا المفسر لقوته، وعليه فيصح لها أن تصلى صلوات بوضوء واحد فى وقت كل صلاة مفروضة (¬3). ثالثا: التعارض بين المفسر والمحكم: قال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (¬4) فإن هذا القول الكريم مفسر لأنه مسوق لإفادة قبول شهادة العدلين مطلقا، حتى ولو كانا محدودين فى قذف، ولا تحتمل العبارة غير قبول شهادة العدول مطلقا، لأن الإشهاد إنما يكون للقبول عند الأداء. وقوله جل شأنه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً (¬5) يقتضى عدم قبول شهادة المحدود فى قذف وإن تاب، وصار عدلا. فهو محكم فى رد شهادته، إذ لا يحتمل النسخ للتأبيد فرجح (¬6). رابعا: من أمثلة التعارض بين الأقسام الأربعة: قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (¬7) ¬

_ (¬1) فمن ذهب إلى ذلك من الفقهاء السادة الشافعية (مغنى المحتاج: 1/ 112). (¬2) أخرجه الطحاوى فى شرح معانى الآثار: 1/ 103. (¬3) اللباب فى شرح الكتاب: 1/ 46، والمحرر فى الفقه: 1/ 27. (¬4) سورة الطلاق الآية: 2. (¬5) سورة النور الآية: 4. (¬6) انظر: حاشية العلامة اللكنوى المسماة بقمر الأقمار: 2/ 51. هذا وممن ذهب إلى ذلك من الفقهاء أبو حنيفة رحمه الله فقال: لا تجوز شهادة القاذف أبدا ولو تاب. وقال مالك رحمه الله: تجوز شهادته وبه قال الشافعى رحمه الله. (¬7) سورة البقرة الآية: 43.

فإنه ظاهر فى معناه بالنظر إلى من يعرف العربية، ونص من حيث إن الغرض من سوق الكلام إيجاب الصلاة، ومفسر من حيث إنها كانت مجملة وفسرها النبى صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» كما أنها كانت تحتمل أن لا يتكرر وجوبها لأن الأمر كما يرى بعض الأصوليين (¬1) لا يقتضى التكرار. كما كان ذلك يحتمل النسخ فى عصره صلى الله عليه وسلم فجاء قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (¬2) أى مفروضا مؤقتا يقتضى التكرار، فهذه الآية الكريمة محكمة فى التوقيت فرجحت (¬3). وكذلك الأمر فى قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (¬4) فقوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ظاهر فى سجودهم، وبقوله تعالى: كُلُّهُمْ ازداد وضوحا على الأول، فصار نصّا وبقوله: أَجْمَعُونَ انقطع أى احتمال فصار مفسرا، ولما كان ذلك إخبارا من الشارع لا يقبل النسخ فيكون محكما (¬5). هذا وقد قال العلماء إن أتت معارضة بين نص وظاهر، أو بين محكم ومفسر أو بين الأربعة جميعا فهى معارضة صورية لأن أحدهما- كما تقدم- أولى من الآخر باعتبار الوصف. ¬

_ (¬1) شرح الاسنوى: 2/ 37. (¬2) سورة النساء الآية: 103. (¬3) المنار وشرحه 359. (¬4) سورة الحجر الآية: 30. (¬5) أصول الفقه الإسلامى: 282.

المبحث الثانى فى غير واضح الدلالة

المبحث الثانى فى غير واضح الدلالة غير واضح الدلالة من النصوص هو ما لا يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجى. إن كان يزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد، فهو الخفى أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا بالاستفسار من الشارع نفسه، فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه أصلا فهو المتشابه. فغير واضح الدلالة قسمه الأصوليون إلى أربعة أقسام ليست فى مرتبة واحدة فى الخفاء، وإنما هى متفاوتة فأعلاها التشابه، وأقل منه خفاء المجمل، ثم المشكل ثم الخفى. وهذه الأقسام الأربعة أضداد تقابل الأقسام المذكورة السابقة، فالخفى ضد الظاهر والمشكل ضد النص، والمجمل ضد المبين والمتشابه ضد المحكم، وإليك بيان المراد اصطلاحا بكل واحد منها وأمثلته وحكمه. أولا: الخفى: والمراد به عند الأصوليين: اللفظ الذى يدل على معناه دلالة ظاهرة، ولكن فى انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل (¬1). فاللفظ حينئذ يعتبر خفيّا بالنسبة إلى هذا البعض من الأفراد، ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد، أو ينقص عنها صفة أو له اسم خاص. فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح 1/ 126، وشروح المنار 359، وفواتح الرحموت 2/ 20، وأصول خلاف 170.

موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفيّا بالنسبة إلى هذا الفرد لأن تناوله له لا يفهم من نفس اللفظ بل لا بدّ له من أمر خارجى مثاله: قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬1). فلفظ السارق فى الآية الكريمة يطلق على من يأخذ مال الغير خفية من حرز مثله (¬2)، وهذا هو المفهوم الشرعى له، والظاهر منه أنه يتناول جميع أفراده حتى من يسرق الناس فى يقظتهم بنوع من المهارة وخفة اليد وهو المسمى «الطرار» (¬3) كما يتناول بحسب الظاهر النباش الذى يسرق أكفان الموتى فى قبورهم، لكن فى اختصاص من يسرق الناس فى يقظتهم باسم الطرار، وفى اختصاص من يسرق الأكفان باسم النباش جعل لفظ السارق خفى المعنى بالنسبة إليهما، لأن انطباق معناه عليهما. لا يفهم من نفس اللفظ، بل لا بدّ له من أمر خارجى. فتسمية الطرار والنباش بهذا الاسم، أورثت شبهة فى صدق لفظ السارق عليهما، واحتيج فى معرفة ذلك إلى شىء من البحث والتأمل. وقد بحث العلماء فى هذا فوجدوا أن الطرار سمى بهذا الاسم الخاص لزيادة معناه عن معنى السارق، لأن السارق يسرق الأعين النائمة وهذا يسارق الأعين المتيقظة، ومن ثم اتفقوا على تطبيق حكم السارق عليه (¬4). أما النباش فقد اختص بهذا الاسم لنقصانه فى معنى السرقة، لأنه لا يأخذ مالا مرغوبا فيه من حرز أو حافظ، لأن القبر لا يصلح أن يكون حرزا، والميت لا يصلح حافظا فلا يتناوله لفظ السارق، فلا يقام عليه ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 38. (¬2) مغنى المحتاج 4/ 158. (¬3) الطرار هو الذى يشق كمّ الرجل ويأخذ ما فيه فهو مأخوذ من الطر وهو القطع والشق- لسان العرب 3/ 2654 - . (¬4) المحرر فى الفقه 2/ 156، والمجموع 20/ 75.

حد السرقة، وإنما يعزر وذلك عند الإمام أبى حنيفة رحمه الله (¬1). أما الجمهور فيرى أن لفظ السارق يتناول النباش، لأن اختصاصه بهذا الاسم لا ينفى انطباق معنى السارق عليه، وإنما يكون هذا الاختصاص كاختصاص نوع معين من أنواع الجنس باسم فيبقى مندرجا تحت هذا الجنس، وعليه فيكون النباش نوعا من أنواع جنس السارق فيصدق عليه اسم السارق. وكون القبر غير حرز مرفوض، لأنه يصلح أن يكون حرزا بالنسبة للكفن، لأنه معروف أن حرز كل شىء ما يناسبه، وكون الكفن غير مرغوب فيه لا يمنع ماليته، وتقومه فيتحقق الشرط فى المسروق وهو كونه مالا متقوما، ومن ثم يقام على النباش حد السرقة (¬2). هذا ومما عرض له الخفاء فى بعض أفراده بسبب وصف يميز هذا البعض عن غيره لفظ القاتل فى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل شيئا» (¬3) فإن دلالته على القاتل عمدا ظاهرة، أما دلالته على القاتل خطأ ففيها شىء من الخفاء منشؤه الخطأ، فإن الحرمان من الإرث عقوبة فهل يستحقها المخطئ كما يستحقها المتعمد؟ ذهب المالكية (¬4) ومن نهج نهجهم إلى القول بعدم دخول القاتل خطأ فى الحديث، وذلك لأنه لم يقصد القتل، وعليه فليس من الإنصاف حرمانه من الإرث. أما الحنفية (¬5) فسووا بين المخطئ والمتعمد، لأنه قصّر فى حالة ¬

_ (¬1) الشهاب فى توضيح الكتاب 3/ 67. (¬2) المحرر فى الفقه 2/ 158، والمجموع 20/ 85، والروضة 10/ 129، وعمدة السالك 182، والمغنى 8/ 272. (¬3) أخرجه ابن ماجة فى سننه 2/ 913. (¬4) بداية المجتهد 2/ 193 (¬5) الشهاب 3/ 191.

حكم الخفى:

تستدعى وتستلزم المبالغة فى الحيطة والحذر، ولو قلنا بتوريثه لا نفتح للمجرمين باب يدخلون منه إلى استعجال إرث الأغنياء من مورثيهم بقتلهم وادعاء الخطأ فيه، ومن القواعد الفقهية المعروفة- من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه (¬1). حكم الخفى (¬2): هو النظر والتأمل فى العارض الذى أوجب الخفاء فى انطباق اللفظ على بعض أفراده، فإن رؤى أن اللفظ يتناوله جعل من أفراده وأخذ حكمه كما فى الطرار، وإن رؤى أن اللفظ لا يتناوله لم يأخذ حكمه، وقد يتفق العلماء فى نتيجة تأملهم وبحثهم وقد يختلفون. ثانيا: المشكل: المشكل كما تقدم ضد النص وهو مأخوذ من قول القائل: أشكل على كذا أى دخل فى أشكاله وأمثاله، كما يقال: أحرم أى دخل فى الحرم، وأشتى أى دخل فى الشتاء، وأشأم أى دخل فى الشام. قال الشيخ محمد المحلاوى الحنفى رحمه الله (¬3): المشكل مأخوذ من أشكل على الأمر دخل فى أشكاله وأمثاله، ولذا قيل إن المشكل كرجل تغرب عن وطنه واختلط بأشكاله من الناس، فيطلب موضعه ويتأمل فى أشكاله ليوقف عليه. وأما المشكل فى الاصطلاح: فهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله فى أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميّز به من بين سائر الأشكال (¬4). والمتأمل فى كل من الخفى والمشكل يجد أن فى كل ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطى 152. (¬2) التلويح على التوضيح 1/ 127، وتسهيل الوصول 88، والوجيز 354. (¬3) تسهيل الوصول له 88. (¬4) أصول السرخسى 1/ 168.

أقسام المشكل:

واحد منهما خفاء غير، أن سبب الخفاء فى الخفى ليس من نفس اللفظ، ولكن فى الاشتباه فى انطباق معناه على بعض أفراده لعوامل خارجية، لذا فإن يعرف المراد منه ابتداء. أما سبب الخفاء فى المشكل فمن نفس اللفظ لكونه مشتركا وضع فى أصل اللغة لأكثر من معنى أو لتعارض ما يفهم من نص ما يفهم من نص آخر. أقسام المشكل: قسم العلماء الإشكال إلى قسمين: القسم الأول: إشكال ناتج من غموض فى المعنى المراد حيث إن اللفظ مشترك ولا بد من وجود قرينة خارجية تعينه. مثال هذا القسم: قال تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬1) فالقرء موضوع لكل من الطهر والحيض، ومن ثم أشكل الأمر على الفقهاء هل عدة المطلقة من ذوات الحيض ثلاثة أطهار أم ثلاث حيضات؟ وقد تقدم موقفهم بشيء من التفصيل. القسم الثانى: إشكال ناتج وناشئ من تعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر مع أن كل نص على حدة لا إشكال فى دلالته، وإنما ينشأ الإشكال من مقابلة النصين، ومحاولة التوفيق بينهما. ومن أمثلة هذا القسم: قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (¬2) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 228. (¬2) سورة النساء آية: 78.

حكم المشكل:

وقال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (¬1). وظاهر هذين النصين التعارض، ولكن فى الحقيقة لا يوجد أدنى تعارض بينهما، لأن نسبة السيئة إلى النفس فى الآية الأولى المراد بها التسبب والكسب بسبب الذنوب، وأما قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فهو على الحقيقة أى خلقا وايجادا. حكم المشكل: الطريق لإزالة الإشكال فى اللفظ المشكل هو اجتهاد المجتهد، لأن الإشكال فى النصوص الفقهية ليس معناه إبهاما لا يفهم منه الحكم، بل معناه احتمال فى اللفظ أو فى الأسلوب، يجعل المعنى لا يفهم إلا بعد التأمل والترجيح، ومن ثم فإن هذا يعدّ من قبيل الإبهام النسبى لا من قبيل الإبهام الذى يحتاج إلى تفسير من السنة إن كان قرآنا، ولذلك يزول الإشكال باجتهاد المجتهدين والتوفيق بين النصوص والمقاصد العامة. ثالثا: المجمل: المجمل فى اللغة: المبهم مأخوذ من أجمل الأمر (¬2) بمعنى أبهمه، ويقال أجمل الشيء يعنى جمعه. وفى الاصطلاح: هو ما لم تتضح دلالته أى ما له دلالة غير واضحة (¬3). فقوله: «ما» جنس فى التعريف يشمل اللفظ والفعل. وقوله: «دلالة» قيد يخرج به المهمل فإنه لا دلالة فيه على شىء ¬

_ (¬1) سورة النساء آية: 79. (¬2) مختار الصحاح 111، ولسان العرب 1/ 686. (¬3) شرح العضد 2/ 158.

أقسام المجمل:

كديز مقلوب زيد، وعليه فلا يوسف المهمل الذى لا معنى له بإجمال أو بيان. وقوله: «غير واضحة» قيد آخر يخرج به المبين، فإن الدلالة فيه واضحة. على العموم سبب الخفاء وعدم الإيضاح فى المجمل لفظى لا عارضى بمعنى أن اللفظ المجمل لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، بل لا بدّ من الرجوع إلى الشارع نفسه لمعرفة المراد من اللفظ. أقسام المجمل: المجمل على أقسام ثلاثة هى (¬1): 1 - مجمل بين معانيه الحقيقية التى وضع اللفظ لها كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬2) فإن لفظ القرء كما تقدم موضوع للحيض بوضع وللطهر بوضع آخر ولم تقم قرينة على المراد. 2 - مجمل بين أفراد الحقيقة الواحدة لأن المراد فرد معين من هذه الأفراد، ولم يقم الدليل على تعيينه وذلك كقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (¬3) فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها أفراد، والمراد فرد معين بدليل أن بنى إسرائيل حين سألوا عن البقرة ولونها، أجابهم الله عن أسئلتهم وأقرهم عليها، فكان هذا مشعرا بالتعيين. 3 - مجمل بين مجازاته وذلك إذا انتفت الحقيقة، أى ثبت عدم إرادتها ¬

_ (¬1) شرح الإسنوى 2/ 143. (¬2) سورة البقرة الآية: 228. (¬3) سورة البقرة الآية: 67.

وتكافأت المجازات يعنى لم يترجح واحد منها على الآخر بمرجح من المرجحات المذكورة فى باب التعارض والترجيح، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (¬1) على رأى أبى عبد الله البصرى رحمه الله، فإن حقيقة هذا اللفظ هو نفى ذات الصلاة عند عدم قراءة أم الكتاب، ولكن هذه الحقيقة غير مرادة للشارع، لأنا نشاهد الذات قد تقع بدون القراءة فتعين الحمل على المجاز، وهو إضمار الصحة أو الكمال، ولما كان إضمار الصحة أقرب إلى نفى الذات كان أرجح من إضمار نفى الكمال، وذلك لأن نفى الذات يستلزم انتفاء جميع الصفات، ولا شك أن نفى الصحة أقرب إليه فى هذا المعنى من نفى الكمال، لأنه لا يبقى مع نفى الصحة وصف بخلاف نفى الكمال فإن الصحة تبقى معه. هذا وقد قال العلماء: إن الإجمال واقع فى الكتاب والسنة، وقال أبو بكر الصيرفى رحمه الله: ولا أعلم أحدا أبى هذا غير داود الظاهرى رحمه الله. وقيل إنه لم يبق مجمل فى كتاب الله تعالى بعد موته صلى الله عليه وسلم (¬2). وقال إمام الحرمين الجوينى رحمه الله (¬3): إن المختار عندنا أن كل ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه، لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وقال الماوردى والرويانى رحمهما الله (¬4): يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال له: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة فى سننه 1/ 273 - 275. (¬2) إرشاد الفحول 168. (¬3) البرهان فى أصول الفقه 1/ 425. (¬4) إرشاد الفحول 168.

حكم المجمل:

«ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإن هم اطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (¬1). فالرسول صلى الله عليه وسلم تعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها. قالا: وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين: الأول: أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان، فإنه لو بدأ فى تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها. الثانى: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليّا، وجعل منها خفيّا ليتفاضل الناس فى العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا وجعل منها مجملا خفيّا. حكم المجمل: قال العلماء: إن المجمل يتوقف فى تعين المراد منه حتى يأتى البيان من الشارع، ومن هنا إذا بيّن المجمل فقد يكون البيان بيانا وافيا قطعيا وقد يكون بيانا وافيا ظنيا وقد يكون بيانا غير واف. فإذا جاء البيان وافيا بدليل قطعى التحق المجمل بالمفسر، وصار حكمه كحكمه وذلك مثل كلمة (هلوع) فى قول الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً فقد بينه الله بقوله بعده: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (¬2) ومن ذلك أيضا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة والصيام والزكاة والحج، فإن بيانه صلى الله عليه وسلم لهذه الأركان كان وافيا قطعيّا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 29. (¬2) سورة المعارج آيات: 19، 20، 21.

أما إذا كان البيان بدليل ظنى سواء كان ظنى الثبوت فقط، أو ظنى الدلالة فقط أو ظنى الثبوت والدلالة فإنه فى هذه الحالة يلتحق المجمل بالمؤول، لأن البيان بالدليل الظنى لا يكفى وحده لإزالة الإجمال، بل يبقى اللفظ محتملا للتأويل، ويكون الشارع بهذا البيان قد فتح الطريق أمام المجتهدين للتأويل بالبيان والنظر ومن ذلك أن مسح الرأس فى الوضوء جاء مجملا فى مقدار ما يمسح وقد بينه ما روى أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح ناصيته (¬1). لكن يلاحظ أن هذا الحديث المبين لمقدار ما يمسح حديث ظنى لا قطعى. وأما إذا لم يكن البيان وافيا التحق المجمل بالمشكل، وانفتح باب الاجتهاد لبيانه، لأنه حيث لم يبين الشارع المعنى فمقتضاه أن يترك أمر بيانه للمجتهد فيصير حكمه حكم المشكل وهو الطلب، والبحث عن القرائن للوقوف على المعنى المراد. مثال ذلك: قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (¬2). وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (¬3). فلفظ الربا جاء فى القرآن مجملا وقد ورد فى السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فى بيان الربا: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح والتمر بالتمر مثلا بمثل سواء بسواء بدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» (¬4). فهذا الحديث الشريف ظنى، ولم يحصر الربا فى هذه الأنواع الستة ¬

_ (¬1) الناصية: قصاص الشعر فى مقدم الرأس- لسان العرب 5/ 4447 - . والحديث أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 130 (¬2) سورة البقرة الآية: 275. (¬3) سورة آل عمران الآية: 130. (¬4) أخرجه مسلم فى صحيحه عن أبى سعيد الخدرى 1/ 692.

رابعا: المتشابه:

حتى يقتصر الربا عليها، ولم يبين بيانا وافيا أنه يشمل غيرها أيضا فكان اللفظ مع هذا البيان محتملا للتأويل والنظر وبقى مشكلا لا مفسرا، ويكون الطريق قد ذلل (¬1) أمام المجتهدين بهذا البيان لمعرفة ما يكون فيه الربا قياسا على ما ورد فى الحديث. رابعا: المتشابه: عرف الأصوليون المتشابه فقالوا: هو اللفظ الذى خفى المراد منه فلا تدل صيغته على المراد منه، ولا سبيل إلى إدراكه إذ لا توجد قرينة تزيل هذا الخفاء واستأثر الشارع بعلمه (¬2). ومن أمثلته: قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (¬3). وقال سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (¬4) وكذلك الحروف المقطعة فى أوائل السور. والمتأمل فى القرآن الكريم، يجد أن الألفاظ المتشابهة لا توجد فى آيات الأحكام الشرعية العملية كما ثبت ذلك بالاستقراء (¬5)، وذلك ¬

_ (¬1) التذليل هو التسهيل- لسان العرب 2/ 1514 - . (¬2) أصول السرخسى 1/ 169، والوجيز 357. (¬3) سورة طه الآية: 5. (¬4) سورة الفتح الآية: 10. (¬5) الاستقراء هو تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر كلى يشملها وهو نوعان: (أ) تام: وهو تصفح جميع الجزئيات ليحكم بحكمها على كلى يشملها مثل: كل حيوان ناطق وهذا النوع يفيد القطع اتفاقا. (ب) ناقص: وهو تصفح أغلب الجزئيات ليحكم بحكمها على كلى يشملها مثل: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ وإنما كان هذا استقراء ناقصا لأن التمساح لا يحرك فكه الأسفل فالحكم متخلف فيه. وهذا النوع مختلف فيه: فذهب بعض العلماء إلى القول بأنه لا يفيد الحكم لا قطعا ولا ظنا. وذهب بعضهم إلى أنه يفيده ظنا ولا يفيده قطعا وهو رأى الجمهور- نهاية السول 3/ 133، وبحوث الأدلة المختلف فيها 37 -

والجواب نعم وإليك بعضا منها:

لأن نصوص الأحكام يراد بها العمل والتطبيق لا مجرد الاعتقاد، ولا يمكن العمل بها إذا كانت متشابهة، وحيث إنها شرعت للعمل بمقتضاها فيلزم أن لا يكون فيها أى تشابه. إذا علم هذا تبين لنا أن المتشابه بالمعنى الذى أراده الأصوليون، ليس من بحث الأصول، وإنما هو من أبحاث علم الكلام، وكل ما يمكن أن نقوله هنا هو أن الحروف المقطعة وآيات الصفات ليست من قبيل المتشابه الذى يريدونه لأن الحروف المقطعة جاءت لبيان أن القرآن مؤلف من هذه الحروف وأمثالها، ومع هذا فقد عجز البشر عن الإتيان بمثل آية منه، وهذه آية إعجازه وكونه من عند الله. وكذلك الأمر فى آيات الصفات فتحمل على المعنى اللائق بالله عز وجل، لأن ذاته سبحانه لما كانت مغايرة لذواتنا كانت صفاته أيضا كذلك، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (¬1). لكن هل لذكر المتشابه فى القرآن حكمة؟ والجواب نعم وإليك بعضا منها: 1 - رحمة الله بالإنسان الضعيف الذى لا يطيق معرفة كل شىء. لذا فقد حجب الله عنه معرفة الساعة حتى لا يفتك به الخوف والهلع لو أدرك بالتحديد شدة قربها منه. 2 - الابتلاء والاختبار: أيؤمن الإنسان بالغيب ثقة بخبر الصادق أم لا؟ فالذين اهتدوا يقولون: آمنا وإن لم يعرفوا على التعيين والذين فى قلوبهم زيغ يكفرون به. 3 - إقامة الدليل على عجز الإنسان وجهله مهما عظم استعداده، وغزر ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية: 11.

علمه، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة، وأنه وحده الذى أحاط بكل شىء علما. 4 - اشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يجعل الناظر فيه مضطرا إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال، فكان وجود المتشابه سببا فى تحصيل هذه العلوم. 5 - باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه، يضطر الناظر والباحث فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد وفى ذلك تنويه بشأن العقل، والتعويل عليه ولو كان كله محكما لما احتاج إلى الدلائل العقلية ولظل العقل مهملا.

الفصل الرابع فى كيفية دلالة اللفظ على المعنى وفيه مبحثان

الفصل الرابع فى كيفية دلالة اللفظ على المعنى وفيه مبحثان المبحث الأول: فى طرق الدلالة عند الحنفية المبحث الثانى: فى دلالة الكلام على المعانى عند الشافعية تمهيد: معلوم أنه لا يمكن استنباط الأحكام الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية إلا بعد فهم المعنى، وهذا الفهم إما أن يكون طريقه عبارة النص أو إشارته أو دلالته أو اقتضاءه. وعلى هذا فالحكم المستفاد من اللفظ إما أن يكون ثابتا بنفس اللفظ أولا، فإن كان ثابتا بنفس اللفظ ننظر: إن كان اللفظ مسوقا له فهو العبارة وإلا فهو الإشارة. وإن لم يكن ثابتا بنفس اللفظ بل مفهوم منه لغة فهو دلالة النص أو مفهوم منه شرعا فهو الاقتضاء. على العموم طرق الدلالة عند الحنفية مغايرة لطرق الدلالة عند الشافعية، وسأتكلم عند ذلك بعون الله تعالى بشيء من التفضيل فى مبحثين فأقول وبالله التوفيق:

المبحث الأول طرق الدلالة عند الحنفية

المبحث الأول طرق الدلالة عند الحنفية حصر السادة الحنفية طرق دلالة النص فى الأربعة المتقدمة وهى (¬1): (أ) عبارة النص. (ب) إشارة النص. (ج) دلالة النص. (د) اقتضاء النص. هذه هى طرق الدلالة عندهم وقد قالوا: إن تعارضت هذه الطرق قدّم أقواها وهو عبارة النص فإشارته فدلالته وأخيرا دلالة الاقتضاء، وستأتى أمثلة لذلك إن شاء الله وإليك بيان الطرق الأربعة: أولا: عبارة النص ودلالتها على الأحكام: المراد بعبارة النص: دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من نفس صيغته، سواء كان هذا المعنى هو المقصود من سياقه أصالة أو تبعا (¬2). فكل معنى يفهم من ذات اللفظ واللفظ مسوق لإفادة هذا المعنى أصالة أو تبعا، يعتبر من دلالة العبارة، ويطلق عليه المعنى الحرفى للنص أى المعنى المستفاد من مفردات الكلام وجمله (¬3). ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح 1/ 129، وفواتح الرحموت 1/ 406، وتسهيل الوصول 100، وأصول الفقه للبرديسى 364، وأصول الفقه للدكتور بدران أبو العينين 417، وأصول الفقه للدكتور سلام مدكور 291. (¬2) المقصود أصالة هو الغرض الأول من الكلام والمقصود تبعا غرض ثان يدل عليه اللفظ ويمكن تحقيق الغرض الأول بدونه. (¬3) الوجيز فى أصول الفقه 358

مثال ذلك:

مثال ذلك: (أ) قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (¬1). فهذا النص الكريم تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منهما مقصود من سياقة: أحدهما: أن البيع ليس مثل الربا. ثانيهما: أن حكم البيع هو الإحلال وحكم الربا التحريم. ولا شك أن هذين المعنيين مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود من السياق أصالة، لأن الآية جاءت للرد على من زعم أن البيع مثل الربا. أما المعنى الثانى فمقصود من السياق تبعا وذلك لأن نفى المماثلة استتبع بيان حكم كل من البيع والربا حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما غير متماثلين، ولو كان المقصود ما سيق الكلام له أصالة فقط لقال: ليس البيع مثل الربا. دون بيان حكم كل منهما، وإنما العبارة دلت على أنه يقصد منها تبعا بيان حكم كل منهما إذ قد يتصور نفى المماثلة بينهما فى الصورة دون الحكم. (ب) قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (¬2) فهذا النص الكريم يدل بعبارته على ثلاثة معان هى: الأول: إباحة الزواج. الثانى: قصر عدد الزوجات على أربع كحدّ أقصى للتعدّد فى وقت واحد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 275. (¬2) سورة النساء الآية: 3.

ثانيا: إشارة النص ودلالتها على الأحكام:

الثالث: الاقتصار على زوجة واحدة عند خوف الظلم حال تعدد الزوجات. وهذه المعانى المذكورة مقصودة من السياق فهى مفهومة ومستفادة من عبارة النص وألفاظه، إلا أن المعنى الثانى والثالث مقصودان أصالة، لأن الآية سيقت فى شأن الأوصياء الذين كانوا يتحرجون من الوصاية على اليتامى خوفا من الوقوع فى أكل أموالهم مع أنهم لا يتحرجون عن ترك العدل بين الزوجات، حيث كان الواحد منهم يجمع ما يشاء من الزوجات فى عصمته من غير حصر ولا يعدل بينهن فقال لهم الله عز وجل: إن خفتم الوقوع فى ظلم اليتامى فخافوا أيضا عدم العدل بين الزوجات، واقتصروا على أربع، فإن خفتم الجور فيكفى واحدة. فالاقتصار على أربع أو على واحدة مقصودان من السياق أصالة. أما إباحة الزواج وهو المعنى الأول فهو المقصود التبعى من سياق الآية، فالله عز وجل قد ذكره على سبيل التبع للتوصل إلى المعنيين المقصودين أصالة. ثانيا: إشارة النص ودلالتها على الأحكام: إشارة النص هى: دلالة اللفظ على معنى غير مقصود من سياقه لا أصالة ولا تبعا، ولكنه لازم للمعنى الذى سيق الكلام من أجله. فالنص لا يدل على هذا المعنى بصيغته، وإنما يشير إلى هذا المعنى بطريق الالتزام. وما يشير إليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر لخفاء التلازم وقد يكون التلازم ظاهرا يعرف بأدنى تأمل (¬1). هذا والأصل فى دلالة إشارة النص أن تكون قطعية كدلالة العبارة إلا إذا وجدت قرينة تصرفها عن ذلك. ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت 1/ 407.

مثال ذلك: (أ) قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (¬1). فهذه الآية الكريمة تفيد بطريق عبارة نصها ما يأتى: 1 - وجوب الإرضاع على الأمهات. 2 - مدة الرضاع الكامل حولان كاملان. 3 - نفقة المرضع على والده. 4 - اختصاص الوالد بنسبة الولد إليه. وهذه الأحكام مستفادة بطريق العبارة، لأن هذا هو المتبادر فهمه من النص المقصود من سياقه، ويلزم من اختصاص الوالد بولده المستفاد من اللام الموجودة فى لفظ (له) ما يأتى: 1 - أن الأب ينفرد فى وجوب النفقة عليه لولده فكما لا يشاركه أحد فى نسبة الولد إليه لا يشاركه أحد فى النفقة عليه. 2 - للأب أن يأخذ من مال وليه ما يسدّ به حاجته لأن الولد نسب إلى والده بلام الملك فى قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وظاهر أن تملّك ذات الولد غير ممكن لكونه حرّا، ولكن تملّك ماله يمكن فيجوز عند الحاجة إليه، وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» (¬2). فهذان الحكمان لازمان للمعنى المتبادر فهمه من النص، وهو اختصاص الوالد بولده، وغير مقصودين من السياق ففهم هذين الحكمين عن طريق هذا اللزوم يسمى بإشارة النص. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 233. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه 2/ 769.

ثالثا: دلالة النص ودلالتها على الأحكام:

(ب) قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (¬1) فهذا النص الكريم يفهم بعبارته إباحة مخالطة النساء فى كل لحظة من الليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولما كانت هذه الإباحة تستلزم أن الصائم قد يصبح جنبا فيجتمع فى حقه وصفان: الجنابة والصيام، واجتماعهما معا يستلزم عدم تنافيهما وعدم فساد الصوم بالجنابة، فقد صح فى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا وهو صائم (¬2). وإذا كانت الآية قد دلت بعبارتها على إباحة قربان الزوجة إلى آخر جزء من الليل، فإنها تدل بإشارتها إلى جواز أن يصبح الصائم جنبا، وهذا غير مقصود من سياق الآية، لكنه لازم للمعنى الذى دلت عليه الآية بعبارتها. ثالثا: دلالة النص ودلالتها على الأحكام: هى دلالة اللفظ (¬3) على أن حكم المنطوق به ثابت لمسكوت عنه لفهم علة ذلك الحكم، بمجرد العلم باللغة، على معنى أنه يعرفها كل عارف باللغة دون حاجة إلى اجتهاد ونظر. هذا ولما كان الحكيم المستفاد عن طريق دلالة النص يؤخذ من معنى النص لا من لفظه سماها بعض الأصوليين: «دلالة الدلالة» وسماها آخرون: «فحوى الخطاب» لأن فحوى الكلام هو معناه، وسماها السادة الشافعية- مفهوم الموافقة، لأن مدلول اللفظ فى محل السكوت ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 187. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 449، ومالك فى الموطأ 194. (¬3) أصول السرخسى 1/ 141، وفواتح الرحموت 1/ 409، وتسهيل الوصول 103.

ومن أمثلة دلالة النص:

موافق لمدلوله فى محل النطق وعليه فيكون المسكوت عنه موافقا فى الحكم للمنطوق به. على أن هنا من الأصوليين من أدخل هذه الدلالة فى القياس، وسماها القياس الجلى أو قياس الأولى وذلك لأن المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق لظهور العلة فيه على نحو أقوى من المنطوق به، وعلى هذا فإن دل بعبارته على حكم فى واقعة ووجدنا واقعة أخرى متفقة مع الأولى فى العلة، وأولى منها بالحكم، وكانت هذه المساواة أو الأولوية تفهم بمجرد فهم اللغة دون حاجة إلى نظر وتأمل واجتهاد، فإنه يتبادر إلى الفهم حينئذ أن النص يتناول الواقعتين، وأن الحكم المنصوص عليه يثبت للمسكوت عنه أى يثبت للواقعة الثانية. والظاهر- والله أعلم- أن دلالة النص تفترق عن القياس من جهة أن العلة هنا يمكن لكل عارف باللغة، أن يدركها دون نظر واجتهاد، بعكس القياس فإن العلة فيه يحتاج استخراجها إلى نظر واجتهاد. ومن أمثلة دلالة النص: (أ) قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (¬1) فهذا النص الكريم يفهم من عبارته تحريم أكل أموال اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأىّ نوع من أنواع الإتلاف، لأن هذه الأشياء تساوى أكلها ظلما فى أن كلا منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، وعليه يكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما محرّما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وواضح أن المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 10.

(ب) قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (¬1) هذا القول الكريم يدل بعبارته على نهى الولد أن يقول لوالديه أُفٍّ لما فى هذا القول من إيذاء لهما وإيلام، ويتبادر إلى الفهم أن النص يتناول حرمة ضربهما وشتمهما لما فى الضرب والشتم من إيذاء وإيلام أشد مما فى كلمة أُفٍّ وعليه فيكون الضرب والشتم أولى بالتحريم من التأفيف، ومن ثم يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، ولا شك أن هذا المعنى واضح لا يحتاج إلى إعمال نظر وفكر. (ج) قال تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬2) فهذه الآية يفهم منها بدلالة العبارة وجوب العدة (¬3) على المطلقة، للتأكد من براءة رحمها، وهذه العلة يفهمها أهل اللغة فكل من يعرف اللغة يدرك أن العلة فى ذلك هى التأكد من براءة الرحم، ويمكن بمقتضى فحوى الخطاب تطبيق هذا الحكم على من حدثت الفرقة بينها وبين زوجها بسبب فسخ عند الزواج لسبب يقتضى الفسخ، وذلك لاستواء العلة فيهما وعليه فتجب العدة على المنسوخ زواجها بدلالة النص. غير أن الشافعية يرون حال استواء العلة من قبيل القياس، يراها الحنفية ومن وافقهم من قبيل فحوى الخطاب. والفقهاء يختلفون بالنسبة لهذا النوع: فجمهور الحنفية يعدونه دلالة ¬

_ (¬1) سورة الاسراء الآية: 23. (¬2) سورة البقرة الآية: 228. (¬3) هى اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو لتفجعها على زوجها، وشرعت صيانة للأنساب وتحصينا لها من الاختلاط رعاية لحق الزوجين والولد والناكح الثانى. والأصل فيها التعبد بدليل أنها لا تنقضى بقرء واحد مع حصول البراءة به- مغنى المحتاج 3/ 384 -

قال الإسنوى رحمه الله:

النص ويجرونه فى الحدود والكفارات. ويراه بعضهم من باب القياس ويقصرون الاستدلال به لذلك على ما عدا الحدود والكفارات مما لا يجرى فيه القياس عندهم. والشافعية الذين يرون هذا النوع من قبيل القياس منهم من وافق القائلين بقصره على ما عدا الحدود والكفارات، لكن أهل المذهب أنه يثبت به الحدود والكفارات ما دام للقياس وجه صحيح. قال الإسنوى رحمه الله (¬1): أقول الصحيح وهو مذهب الشافعى كما قاله الإمام أن القياس يجرى فى الشرعيات كلها، أى يجوز التمسك به فى إثبات كل حكم حتى الحدود والكفارات والرخص والتقديرات إذا وجدت شرائط القياس فيها. اه. وقد ترتب على هذا اختلافهم فى تطبيق الحكم بالكفارة على من جامع زوجته فى نهار رمضان عامدا على الزوجة، فيرى الحنفية (¬2) ومن نهج نهجهم وجوب الكفارة على كل من الزوج والزوجة، لدلالة الحديث بفحوى الخطاب، وذلك لتساويهما فى التكاليف الشرعية. وأما حديث أبى هريرة: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت. قال: «وما أهلكك؟» قال: واقعت امرأتى فى رمضان. قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا. ثم جلس فأتى النبى صلى الله عليه وسلم بعرق (¬3) فيه تمر فقال: «تصدق بهذا». فقال: على أفقر منّا ¬

_ (¬1) نهاية السول 3/ 34. (¬2) بدائع الصنائع 2/ 1025 ط: الإمام. (¬3) العرق بفتح العين والراء مكتل ينسخ من خوص النخل- مغنى المحتاج 1/ 242، ولسان العرب 4/ 2907 - .

حكم الدال بدلالة النص:

يا رسول الله، فو الله ما بين لابتيها- أى جبليها- أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبى صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه. ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» (¬1). هذا الحديث علّل الحنفية حكم النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الواقعة المذكورة فيه بوجوب الكفارة على الزوج دون الزوجة أنها كانت مكرهة. ويرى الشافعية فى الأصح عندهم أن الكفارة تجب على الزوج فقط فالحكم هنا لا ينطبق على الزوجة وإلا لنبّه النبى صلى الله عليه وسلم لقيام الحاجة إلى البيان، ولأن الكفارة غرم مالى يتعلق بالجماع كالمهر، فلا يجب على الموطوءة، أضف إلى ذلك أن صوم المرأة معرض للبطلان بعروض الحيض ونحوه فلم تكمل حرمته حتى تتعلق بها الكفارة (¬2). حكم الدال بدلالة النص: يلاحظ أن الثابت بدلالة النص كالثابت بإشارته فى كونه قطعيّا، وذلك لاستناده إلى المعنى المفهوم من النظم لغة. ودلالة النص وإن كانت مفيدة للقطع لكنها دون إشارة النص، ومن ثم فإنه عند التعارض يقدم الثابت بإشارة النص على الثابت بدلالة النص، وذلك لأن فى الإشارة النظم والمعنى وفى الدلالة المعنى فقط. مثال ذلك: قال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (¬3) فهذا القول الكريم يدل بعبارته على وجوب الكفارة على القائل خطأ، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 450. ومالك فى الموطأ فى كتاب الصيام 198. (¬2) مغنى المحتاج 1/ 444. (¬3) سورة النساء الآية: 92.

رابعا: دلالة الاقتضاء ودلالتها على الأحكام:

وهو أدنى حالا من القاتل عمدا، لأنه معذور بعذر الخطأ، فالأولى أن تجب الكفارة على العامد وهو أعلى حالا (¬1). وقد تمسك الإمام الشافعى رحمه الله بهذا فى وجوب الكفارة على العامد بطريق الأولى لأن هذه الكفارة وجبت زجرا عن القتل لا لنفس الخطأ الذى نتج عنه القتل، وما دام القصد من الوجوب هو الزجر فاعتباره فى القتل العمد أولى وأنسب (¬2). أما الحنفية فيقولون إن قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً متعارض مع قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها (¬3) فهذا القول الكريم يدل بإشارته على أنه ليس عليه كفارة، لأن الجزاء اسم للجزاء التام الكافى، فعلم أنه لا جزاء سوى جهنم. ثم قالوا- أى الحنفية- لا يقال لو كان كذلك لما وجب على العامد القصاص. لأن القصاص جزاء المحلّ من وجه، لأنه شرع حقّا للأولياء لقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (¬4) الآية وإن كان جزاء الفعل من وجه لكونه شرع زاجرا، والجزاء المضاف إلى الفاعل هو جزاء فعله من كل وجه، وجزاء فعله الكفارة فى الخطأ وجهنم فى العمد (¬5). رابعا: دلالة الاقتضاء ودلالتها على الأحكام: الاقتضاء معناه فى اللغة الطلب (¬6). ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول 103، 104. (¬2) مغنى المحتاج 4/ 48، وأحكام القرآن لابن العربى 1/ 474. (¬3) سورة النساء الآية: 293. (¬4) سورة المائدة الآية: 45. (¬5) تسهيل الوصول للشيخ المحلاوى الحنفى 104، والشهاب 3/ 23. (¬6) لسان العرب 5/ 3665

من أمثلة دلالة الاقتضاء:

وفى الاصطلاح: اللفظ الدال (¬1) على شىء مسكوت عنه يتوقف صدق الكلام على ذلك المسكوت. والحق أن النص قد يطلب زائدا عليه ليصح معناه المنصوص عليه، فلا يوجب النص شيئا إلا بتقديم ذلك المقتضى عليه، فيكون شرطا لعمل النص سابقا عليه، إذ الشرط يتقدم على المشروط دائما، فكان النص مقتضيا إيّاه لتصحيحه، فلهذا السبب انتسب المقتضى- بفتح الضاد- مع حكمه إلى النص وهو المقتضى- بكسر الضاد- وكان حكمه من دلالة النص أيضا فهناك أمور أربعة (¬2): (أ) المقتضى وهو النص. (ب) المقتضى وهو الشرط. (ج) الاقتضاء وهو نسبة بينهما. (د) حكم المقتضى وهو الثابت به. من أمثلة دلالة الاقتضاء: (أ) قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ (¬3) فالمعنى حرم عليكم نكاح أمهاتكم. إلخ وحذف لدلالة الكلام عليه كما يفهم من تحريم الخمر، تحريم شربها، ولأن قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ (¬4) يدل عليه. وهذا المعنى دل عليه اللفظ عن طريق الاقتضاء، وذلك لأن التحريم شرعى لا يتصور العقل تعلقه بالذوات، وإنما يتعلق بالأفعال. ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول 105. (¬2) شرح المنار 534. (¬3) سورة النساء الآية: 23. (¬4) سورة النساء الآية: 22.

(ب) قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ (¬1) الآية. فالمعنى: حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها، وهذا المعنى استفيد بدلالة اللفظ اقتضاء لأن التحريم- كما تقدم- يتعلق بفعل المكلف فقط. (ج) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له» (¬2). فحقيقة هذا الحديث نفى ذات الصيام عند عدم النية (¬3) المبيتة قبل الفجر، ولكن هذه الحقيقة غير مرادة، وذلك لأننا نشاهد حقيقة الذات، وقد وقعت بدون النية، ومن ثم تعين الحمل على المجاز وهو إضمار الصحة والكمال وإضمار الصحة أرجح لكونه أقرب إلى الحقيقة، لأن نفى الذات يستلزم نفى كل الصفات ونفى الصحة أقرب بهذا المعنى إذ لا يبقى معه وصف البتة، بخلاف نفى الكمال، فإن الصحة تبقى معه وهى وصف (¬4). والسادة الحنفية يقولون تجزئ النية حتى الزوال (¬5). فصدق الكلام هنا فى هذا الحديث يقتضى تقدير محذوف هو الصحة أو الكمال كما تقدم وقد توقف صدق الكلام على تقديره، فيعتبر من مدلول الحديث بدلالة الاقتضاء. (د) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» (¬6). والناظر فى هذا الحديث يجد أن ظاهره يفيد رفع ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 3. (¬2) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الصيام 1/ 571. (¬3) النية لغة: القصد وشرعا: قصد الشيء مقترنا بفعله وحكمها: الوجوب والمقصود منها: تمييز العبادة عن العادة- الإقناع 1/ 42 - . (¬4) الإبهاج 2/ 132. (¬5) الشهاب 1/ 52. (¬6) أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب الطلاق 1/ 659.

حكم الدال بالاقتضاء:

نفس الخطأ ونفس النسيان، وليس بمراد فتعين حمله على المجاز بإضمار الحكم أى حكم الخطأ والنسيان، والحرج يعنى الإثم أى إثمهما والحمل على الإثم، أظهر من جهة العرف لتبادره إلى الذهن من قول السيد لعبده «رفعت عنك الخطأ والنسيان» ولأنه لو قال ذلك ثم أخذ يعاقبه على ما أخطأ فيه أو نسيه عدّ مناقضا. فهذا الحديث يقتضى صدقه وصحته تقدير محذوف هو حكم الخطأ أو إثمة، ولما كان تقدير الإثم أرجح وهو مسكوت عنه، وتوقف صدق الكلام على تقديره اعتبر من مدلول الحديث بدلالة الاقتضاء. حكم الدال بالاقتضاء: الناظر والمتأمل فى دلالة الاقتضاء يجدها كغيرها من الدلالات السابقة تثبت الحكم على وجه القطع ما لم يوجد ما يصرفها إلى الظن من تأويل أو تخصيص، إذ الثابت بالاقتضاء أمر تقتضيه ضرورة صحة الكلام واستقامة العبارة. كما أن الحكم الثابت بدلالة الاقتضاء يشترك مع الثابت بالدلالة فى الإضافة إلى النص، ولو بواسطة فصار الثابت به كالثابت بالنص. خلاصة الأمر: أن الثابت بدلالة الاقتضاء كالثابت بدلالة النص فى إفادته الحكم قطعا إلا عند التعارض فترجح الدلالة على الاقتضاء. قال بعض المحققين (¬1) لم نجد لهذا التعارض مثالا. وقد مثل بعض الأصوليين له بما يلى: عن أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول 106.

الخلاصة فى الدلالات:

«تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنصحه ثم تصلى فيه» (¬1). فإنه يدل باقتضاء النص على أنه لا يجوز غسل النجس بغير الماء من المائعات، لأنه لما أوجب الغسل بالماء اقتضت صحته أن لا يجوز بغير الماء، ولكنه يدل بعينه بدلالة النص على أنه يجوز غسله بالمائعات، وذلك لأن المعنى المأخوذ منه الذى يعرفه كل أحد هو التطهير وذلك يحصل بهما جميعا. هذا ما رآه السادة (¬2) الحنفية رضى الله عنهم، ويقولون: لا عموم للمقتضى هنا عندنا لأنه ثابت ضرورة صحة الكلام، فيقدر بقدر الضرورة وهى تندفع بإثبات فرد إذا كان له أفراد فلا دلالة له على إثبات ما وراءه. وعند الإمام الشافعى رحمه الله يجرى فيه العموم والخصوص، لأنه عنده كالمحذوف الذى يقدر. وهذا أصل كبير مختلف بين الحنفية والشافعية، يتفرع عليه كثير من الأحكام حتى إذا قال: إن أكلت فامرأتى طالق، ونوى طعاما دون طعام لا يصدق عند الحنفية، لا ديانة ولا قضاء، وحنثه يكون بكل طعام لوجود ماهية الأكل، لا لأن الطعام عام. وعند الشافعية يصدق ديانة فإن الطعام عام لكونه نكرة فى سياق الشرط، وهو فى المعنى فى سياق النفى، فإن المعنى لا آكل طعاما وهو مقدر فى نظم الكلام، والمقدر كالملفوظ فيصح التخصيص بإرادة بعض المأكولات، ولما كانت هذه الإرادة خلاف الظاهر لأن الظاهر العموم لم يصدق قضاء. الخلاصة فى الدلالات: خلاصة ما تقدم فى دلالة العبارة والإشارة والدلالة والاقتضاء، أن ¬

_ (¬1) الحت هو الحك والقرص هو الدلك بأطراف الأصابع والأظافر مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره- لسان العرب 1/ 45767/ 3587 - والحديث أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 136. (¬2) تخريج الفروع على الأصول للزنجانى 145، وتسهيل الوصول 106.

دلالة العبارة هى دلالة النص بصيغته وألفاظه على الحكم، مع سوق الكلام له، ويقال لهذا الحكم: إنه ثابت بعبارة النص. وأن دلالة الإشارة هى دلالة النص بصيغته وألفاظه على الحكم من غير أن يكون الكلام مسوقا له، ويقال للحكم: إنه ثابت بإشارة النص. وأن دلالة النص هى دلالته على الحكم لا بصيغة النص وألفاظه، بل بروحه ومعقوله، ويقال للحكم إنه ثابت بدلالة النص. وأن دلالة الاقتضاء هى دلالة النص بأمر زائد اقتضى تقديره فى الكلام ضرورة صحة واستقامة الكلام وصدقه. وعلى هذا يتضح لنا جليّا أن كل معنى يفهم من النص بطريق من طرق هذه الدلالات يعتبر من مدلولات النص وثابتا به والنص دليلا وحجة عليه، ولهذا تعتبر هذه الدلالات الأربع دلالة منطوق، أى منطوق النص، وهى تقابل دلالة المفهوم أى مفهوم المخالفة.

المبحث الثانى فى طرق الدلالة عند الشافعية

المبحث الثانى فى طرق الدلالة عند الشافعية قسم السادة الشافعية دلالة الكلام على المعانى قسمين هما: 1 - دلالة المنطوق. 2 - دلالة المفهوم. فدلالة المنطوق (¬1): هى دلالة اللفظ على المعنى فى محل النطق، ولذا فإنهم يسمونها أيضا دلالة المنظوم والدلالة الصريحة. وهذه الدلالة تشمل كلا من دلالة العبارة ودلالة الإشارة، ودلالة الاقتضاء عند السادة الحنفية على خلاف فى المسلك. أما دلالة المفهوم: فهى دلالة اللفظ على المعنى لا فى محل النطق والتلفظ، بل فى محل السكوت (¬2) وتنقسم هذه الدلالة قسمين: 1 - مفهوم موافقة: وهو لازم ناشئ عن معنى لفظ مركب حكمه يوافق حكم ملزومه (¬3). وقد مثل العلماء لمفهوم الموافقة بقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (¬4). فإنه يدل بمفهومه على تحريم الضرب، لأنه أشدّ فى الإيذاء من التأفيف الذى نهى عنه اللفظ بمنطوقه، ونظرا لأن حكم المسكوت عنه جاء موافقا لحكم المنطوق، سميت هذه الدلالة بمفهوم الموافقة كما سميت بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، والقياس الجلى وهى ما عبر عنها السادة الحنفية ¬

_ (¬1) غاية الوصول 36، وأصول الشيخ زهير 2/ 91. (¬2) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى 1/ 240. (¬3) إرشاد الفحول 178. (¬4) سورة الاسراء الآية: 23.

شروط العمل بمفهوم المخالفة:

بذلك وبدلالة الدلالة أو دلالة النص. ويلاحظ أن نفس الأمثلة التى ذكرتها عند الكلام على الدلالات عند الحنفية هى نفسها التى تذكر هنا. 2 - مفهوم مخالفة: وهو لازم ناشئ عن معنى لفظ مركب حكمه يخالف حكم ملزومه (¬1). وذلك كقوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (¬2). حيث يفهم من هذه الآية أن الزائد على الثمانين غير واجب، وظاهر أن هذا المفهوم مغاير ومخالف لما يفيده اللفظ بمنطوقه. وإذا كان الأصوليون فى جملتهم يستدلون بدلالة المنطوق مع اختلاف التسمية، وبمفهوم الموافقة، فقد قال (¬3) القاضى أبو بكر الباقلانى رحمه الله: «القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه» فإن الأصوليين يختلفون فى اعتبار مفهوم المخالفة دليلا لاستنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وسأذكر موقفهم بشيء من التفصيل بعد ذكر شروطه وأنواعه إن شاء الله. شروط العمل بمفهوم المخالفة: مفهوم المخالفة بجميع أقسامه يدل على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت، سواء كان المنطوق إثباتا أو نفيا، ويشترط للعمل به عند القائلين به شروط منها: 1 - أن لا يكون للقيد الذى قيد به الحكم فائدة أخرى، سوى نفى حكم المنطوق للمسكوت، أى نفى الحكم عند نفى القيد. فإن كان له فائدة أخرى غير ذلك، فإنه لا يكون حجة، ولا يصلح للعمل به كأن ¬

_ (¬1) أصول التشريع الإسلامى 322، وتسهيل الوصول 108. (¬2) سورة النور الآية: 4. (¬3) إرشاد الفحول 179.

يكون القيد أكثريّا أى أن القيد خرج مخرج الغالب فى أمور الناس، ويتضح هذا فى قوله تعالى وهو يذكر المحرمات من النساء: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ (¬1). فقيد فى حجوركم ليس قيدا احترازيّا، وإنما هو قيد أكثرى بناء على أن الغالب من أحوال الناس، كون الربائب فى حجور الأزواج فالمرأة إن تزوجت برجل، وكان لها بنت من زوج سابق، فإنها تأخذها معها إلى بيت زوجها الجديد، وعلى هذا فلا يعمل بالمفهوم المخالف هنا، وهو أن الربيبة إذا لم تكن فى حجر زوج أمها لا تحرم عليه. لا فهى تحرم عليه بمجرد الدخول بأمها، سواء كانت فى حجره ورعايته أم لم تكن (¬2). ومثال أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (¬3). فالمفهوم المخالف هنا هو جواز أكل الربا، إذا لم يكن أضعافا مضاعفة، فقيد النهى عن أكل الربا أضعافا مضاعفة قيد خرج مخرج الغالب فى أمر التعامل بالربا، وهو ابتداؤه بقدر قليل ثم صيرورته مضاعفا بمرور الزمن أو أن هذا القيد ذكر هنا لبيان الواقع، وعليه فليس قيدا احترازيّا فلا يفيد بمفهوم المخالفة. 2 - ألا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا (¬4) فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطرىّ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 23. (¬2) تنقيح الفصول 271 وشرح الجلال المحلى 1/ 246، وتيسير التحرير 1/ 99، والوجيز 374. (¬3) سورة آل عمران الآية: 130. (¬4) سورة النحل الآية: 14. (¬5) إرشاد الفحول 180.

أنواع مفهوم المخالفة:

3 - ألا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة. وأما إذا عارضه قياس فلم يجوّز القاضى أبو بكر الباقلانى ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم بالقياس. قال الشوكانى رحمه الله (¬1): ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم كما يخصص عموم المنطوق، وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما، وكان كل واحد منهما معمولا به فالمجتهد لا يخفى عليه الراجح منهما من المرجوح، وذلك يختلف باختلاف المقامات وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوّية له. 4 - أن يذكر مستقلا، فلو ذكر على وجه التبعية لشىء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (¬2). فإن قوله: فِي الْمَساجِدِ لا مفهوم له لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقا. 5 - أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله صلى الله عليه وسلم (¬3): «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا». فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر. أنواع مفهوم المخالفة: 1 - مفهوم الصفة: وهو دلالة اللفظ المقيد بوصف على نقيض حكمه عند انتفاء ذلك الوصف، والوصف هنا يراد به ما هو أعم من النعت، أى سواء كان نعتا نحويّا كقوله صلى الله عليه وسلم: «فى ¬

_ (¬1) المرجع السابق 179. (¬2) سورة البقرة الآية: 187. (¬3) أخرجه مالك فى الموطأ عن أم حبيبة 369.

ومن أمثلة مفهوم الصفة:

الغنم السائمة زكاة» (¬1) أو مضافا نحو: سائمة الغنم أو مضافا إليه نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغنى ظلم» (¬2) أو ظرف زمان كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (¬3). أو ظرف مكان نحو ذاكر فى البيت. ومن أمثلة مفهوم الصفة: (أ) قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (¬4). فالمفهوم المخالف هنا هو أن خبر غير الفاسق لا يجب فيه التبين، وعليه فيقبل خبر الواحد العدل. (ب) قال تعالى فى بيان المحرمات: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (¬5). فالمفهوم المخالف أن حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعا لا تحرم حلائلهم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب» (¬6). 2 - مفهوم الشرط: وهو دلالة اللفظ المقيد لحكم معلق بشرط على ثبوت نقيضه عند انتفاء الشرط. ومعنى هذا أن التعليق بالشرط يوجب وجود الحكم عند وجود الشرط ويوجب عدمه عند عدم الشرط. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك فى الموطأ بلفظ «وفى سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة» 175 (¬2) أخرجه البخارى فى صحيحه 2/ 37 (¬3) سورة الجمعة الآية: 9. (¬4) سورة الحجرات الآية: 6. (¬5) سورة النساء الآية: 23. (¬6) أخرجه ابن ماجة فى سننه من حديث عائشة رضى الله عنها 1/ 623.

الأمثلة:

الأمثلة: (أ) قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬1). فهذه الآية الكريمة أفادت بمنطوقها وجوب الإنفاق على المطلقة طلاقا بائنا، وذلك إذا كانت حاملا، ودلت بمفهومها المخالف على انتفاء هذا الحكم، وهو وجوب الإنفاق وذلك إذا لم تكن حاملا. (ب) قال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (¬2). فالآية تدل بمفهومها المخالف أن الزوجة إذا لم تطب نفسها بشيء من مهرها لا يحل للزوج أخذه. مفهوم الغاية: وهو دلالة اللفظ الذى قيد الحكم فيه بغاية على نقيض ذلك الحكم بعد الغاية. الأمثلة: (أ) قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (¬3). فالنص الكريم يفيد بمنطوقه إباحة الأكل والشرب فى ليالى الصيام حتى طلوع الفجر، ويفيد بمفهومه المخالف حرمة الأكل والشرب بعد هذه الغاية يعنى بعد طلوع الفجر. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية: 6. (¬2) سورة النساء الآية: 4. (¬3) سورة البقرة الآية: 187.

(ب) قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (¬1). فالمفهوم المخالف ادلة قربانهن إذا تطهرن. (ج) قال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (¬2). فهذا النص يفيد بمنطوقه حرمة المطلقة ثلاثا على زوجها المطلق وهذا الحكم واضح أنه مقيد بغاية هى زواجها من غير مطلقها، فيدل بمفهومه المخالف على حل زواجها بمطلقها بعد هذه الغاية (¬3). (د) قال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (¬4). فالآية تدل بمفهومها المخالف على نفى القتال والكف عنه إذا امتثلت الفئة الباغية إلى أمر الله. 4 - مفهوم العدد: وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص أو بعبارة أخرى، هو دلالة اللفظ الذى قيد الحكم فيه بعدد على نقيض ذلك الحكم فيما عدا ذلك العدد (¬5). الأمثلة: (أ) قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 222. (¬2) سورة البقرة الآية: 230. (¬3) لكى تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها اشترط الفقهاء شروطا هى: (أ) أن تنقضى عدتها منه (ب) أن يتزوجها غيره (ج) أن يدخل عليها دخولا حقيقيا (د) بينونتها منه بموت أو طلاق أو فسخ (هـ) أن تنقضى عدتها منه (الأم 5/ 229، والإقناع 4/ 83). (¬4) سورة الحجرات الآية: 9. (¬5) حصول المأمول 122، والوجيز 373. (¬6) سورة النور الآية: 2.

حجية مفهوم المخالفة:

فالمفهوم المخالف هنا عدم جواز الجلد أقل أو أكثر من هذا العدد المذكور فى الآية. (ب) قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (¬1). 5 - مفهوم اللقب: وهو دلالة اللفظ الذى علق الحكم فيه بالاسم العلم على نفى ذلك الحكم عن غيره. والمراد بالاسم العلم هنا: اللفظ الدال على الذات دون الصفة، سواء كان علما نحو قام زيد أو اسم نوع مثل: فى الغنم زكاة. الأمثلة: (أ) قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (¬2). فالمفهوم المخالف غير محمد صلى الله عليه وسلم ليس رسول الله. (ب) قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ (¬3). الآية فالمفهوم المخالف للمنطوق هو عدم تحريم غير المذكورات. حجية مفهوم المخالفة: المتأمل فى كلام الأصوليين جزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء يجد أنهم اتفقوا على الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فى صورة، وعلى عدم الاحتجاج به فى صورة واختلفوا فى الاحتجاج به فى صورة، وإليك البيان: ¬

_ (¬1) سورة النور الآية: 4. (¬2) سورة الفتح الآية: 29. (¬3) سورة النساء الآية: 23.

أولا: الصورة التى اتفقوا على الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيها:

أولا: الصورة التى اتفقوا على الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيها: ما اتفقوا على الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيه هو مفهوم الوصف والشرط، والعدد والغاية وذلك فى غير النصوص الشرعية، أى فى عقود المتعاقدين وتصرفاتهم وأقوال الناس وعبارات المؤلفين ومصطلحات الفقهاء. فمثلا: لو قال الواقف: وقفت (¬1) دارى من بعدى على طلبة العلم فى المحلة الكبرى. فهذا القول يدل بمنطوقه على شمول طلبة العلم بالمحلة بوقفه دون غيرهم ولو قال: وقفت ريع (¬2) ضيعتى من بعدى لأرملتى إذا لم تتزوج. فالمنطوق ثبوت الاستحقاق لأرملته إذا لم تتزوج، والمفهوم المخالف له نفى استحقاقها إذا تزوجت. وهكذا كل عبارة من أى عاقد أو متصرف أو مؤلف أو أى قائل إذا قيدت بوصف أو شرط أو حددت بعدد أو غاية تكون حجة على ثبوت الحكم الوارد بها حيث يوجد ما قيدت به، وعلى نفيه حيث ينتفى، لأن عرف الناس واصطلاحهم فى الفهم والتعبير على هذا، ولو لم يفهم النفى والإثبات كان التقييد فى عرفهم عبثا إلا إذا دلت قرينة على أن القيد ليس للتخصيص. ¬

_ (¬1) الوقف لغة: الحبس وشرعا: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف فى رقبته على مصرف مباح موجود (لسان العرب 5/ 4868، ومغنى المحتاج 2/ 376، وسبل السلام 3/ 934). (¬2) الريع بالفتح النماء والزيادة وأرض مريعة بالفتح بوزن مبيعة أى مخصبة. والضيعة العقار والجمع ضياع وعند أهل الحاضرة تطلق على النخل والكرم والأرض والعرب لا تعرف الضيعة إلا الحرفة والصناعة- مختار الصحاح 266، 386 -

ثانيا: الصورة التى اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيها:

ثانيا: الصورة التى اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيها: ذهب أكثر العلماء إلى عدم الاحتجاج والعمل بمفهوم المخالفة فى مفهوم اللقب وهو الصحيح. قال الشيخ محمد صديق حسن خان رحمه الله (¬1): « ... ولم يعلم به أحد إلا أبو بكر الدقاق» ثم قال: «والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا (¬2) لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، وأما إذا دلت عليه القرينة فهو خارج عن محل النزال». وقال الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله بعد أن ذكر الاتفاق على عدم الاحتجاج به (¬3): ولا فرق فى هذا بين النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية، وعقود الناس وتصرفاتهم وسائر أقوالهم. فمحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يفهم منها أن غير محمد ليس رسول الله، ودين المتوفى يؤدى من تركته لا يفهم منه أن غير دينه كنفقة تجهيزه ووصاياه النافذة، لا تؤدى من تركته. اه. ثالثا: الصورة التى اختلف الأصوليون فى الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيها: اختلف العلماء فى الاحتجاج بمفهوم الصفة والشرط والعدد والغاية فى النّصوص الشرعية خاصة على مذهبين: مذهب الجمهور: ذهب جمهور الأصوليين إلى القول بأن النص ¬

_ (¬1) حصول المأمول له 122، 123. (¬2) قال بعض العلماء يعمل به فى أسماء الأنواع لا فى أسماء الأشخاص. (¬3) علم أصول الفقه له 155، 156.

الأدلة: استدل الجمهور لما ذهب إليه بما يلى:

الشرعى الدال على حكم إذا قيّد بوصف أو شرط بشرط أو حدّد بعدد أو غاية، فإنه فى هذه الحالة يكون حجة على ثبوت حكمه فى الواقعة التى وردت فيه بالوصف، أو الشرط أو العدد أو الغاية كما يكون حجة أيضا على ثبوت نقيض حكمه فى الواقعة التى وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذى ذكر فيه (¬1). الأدلة: استدل الجمهور لما ذهب إليه بما يلى: أولا: القيود التى ترد فى النصوص الشرعية لا يمكن أبدا أن ترد عبثا، بل لا بدّ أن تكون واردة لحكمة وفائدة، فإذا لم تكن لها فائدة سوى تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد، فإنه يجب نفى الحكم عما لا يوجد فيه القيد، أى الأخذ بمفهوم المخالفة وذلك لئلا يكون ذكر القيد عبثا ولغوا وهو ما ينزّه عنه كلام الشارع الحكيم. ثانيا: المألوف فى أساليب اللغة العربية أن تقييد الحكم بقيد يدل على انتفائه، حيث ينتفى القيد وهذا هو المتبادر إلى الفهم، فمن سمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مطل الغنى ظلم» يفهم أن مطل الفقير ليس ظلما. 2 - مذهب الحنفية: ذهب السادة الحنفية رضى الله عنهم إلى القول، بأن النص الشرعى الدال على حكم فى واقعة إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدّد بغاية أو عدد لا يكون حجة إلا على حكمه فى واقعته التى ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو العدد أو الغاية. وأما الواقعة التى انتفى عنها ما ورد فيه من قيد فلا يكون حجة على حكم فيها، بل ¬

_ (¬1) اللمع 25، وشرح الجلال المحلى 1/ 252، وحصول المأمول 122، وإرشاد الفحول 180، وأصول الفقه للشيخ خلاف 158، والوجيز 375.

الأدلة: استدل الحنفية على ما ذهبوا إليه بما يلى:

يكون النص ساكتا عن بيان حكمها فيبحث عن حكمها بأى دليل من الأدلة الشرعية التى منها أن الأصل فى الأشياء الإباحة (¬1). الأدلة: استدل الحنفية على ما ذهبوا إليه بما يلى: أولا: القيود التى ترد فى النصوص الشرعية لها فوائد كثيرة، فإذا لم تظهر لنا هذه الفوائد لا نستطيع أن تجزم بأن الفائدة لتلك القيود هى تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد ونفيه عما سواه. وسبب ذلك أن مقاصد الشارع كثيرة لا يمكن الإحاطة بها بخلاف مقاصد البشر، إذ يمكن حصرها ولهذا كان مفهوم المخالفة حجة فى أقوالهم فقط دون أقوال الشارع. ثانيا: إن كثيرا من النصوص الشرعية التى دلت على أحكام وقيدت بقيود لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التى فيها القيد وللواقعة التى انتفى عنها. فالربيبة تحرم على زوج أمها بمجرد الدخول على الأم سواء كانت الربيبة فى حجره أم لا، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف قال تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فالاحتياط فى فهم النص الشرعى يوجب أن لا يحتج به على نفى الحكم إذا انتفى القيد. هذا وبعد ذكر أدلة المذهبين أميل إلى ما ذهب إليه جمهور الأصوليين، وذلك لأن مقاصد الشريعة وإن كانت كثيرة لا يمكن أن يحاط بها إلا أنه إذا لم تظهر للمجتهد فائدة للقيد سوى ما يظهر له من تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد، فإنه يغلب على ظنه أن ورود القيد ¬

_ (¬1) أصول السرخسى 1/ 256، 257، وتيسير التحرير 1/ 99.

ثمرة الخلاف فى حجية مفهوم المخالفة:

إنما كان لهذه الفائدة فينتفى الحكم عما لا يوجد فيه هذا القيد، ويكفى الظن الغالب فى العمل بدلالة مفهوم المخالفة، لأن دلالة هذا المفهوم ظنية لا قطعية وذلك باتفاق القائلين به. ثمرة الخلاف فى حجية مفهوم المخالفة: تظهر ثمرة الخلاف فى هذه المسألة حين يرد نص مقيد بقيد، فالذين يقولون بمفهوم المخالفة يثبتون الحكم لمنطوقه بالقيد الذى قيد به وينفونه حيث ينتفى القيد. أما الحنفية الذين لا يأخذون بمفهوم المخالفة، فإنهم يثبتون الحكم لمنطوقه فى المحل الذى ورد فيه القيد ولا يثبتون نقيضه إذا انتفى القيد، وإنما يبحثون عن حكمه فى دليل آخر. فمثلا حين قال الله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ (¬1) يلاحظ أن المفهوم المخالف أن الواحدة والاثنين لا يرثن الثلثين، وهذا المفهوم يتعارض- على مذهب الجمهور- مع قوله صلى الله عليه وسلم: لأخى سعد بن الربيع: «أعط ابنتى سعد الثلثين وزوجته الثمن وما بقى فهو لك» (¬2) لأن منطوق الحديث يفيد أن للبنتين الثلثين ولا شك أن المنطوق أرجح. وعند الحنفية لا تعارض، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها فى آية توريث البنات والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 11. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب الفرائض 2/ 908.

الباب الرابع فى النسخ

الباب الرابع فى النسخ وفيه فصول الفصل الأول: فى مدلول النسخ وموقف العلماء منه الفصل الثانى: فى أنواع النسخ الفصل الثالث: فى طرق معرفة النسخ

الفصل الأول فى مدلول النسخ وموقف العلماء منه وفيه مباحث

الفصل الأول فى مدلول النسخ وموقف العلماء منه وفيه مباحث المبحث الأول: فى تعريف النسخ المبحث الثانى: فى شروطه المبحث الثالث: فى النسخ بين مثبتيه ومنكريه

المبحث الأول فى مدلول النسخ

المبحث الأول فى مدلول النسخ يطلق لفظ النسخ فى لغة العرب على معنيين اثنين هما: 1 - إبطال الشيء وإعدامه وإزالته (¬1)، يقال: نسخت الريح أثر القدم أى أزالته، ومنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ (¬2). 2 - نقل الشيء وتحويل مع بقائه فى نفسه (¬3)، ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم، ومنه نسخ الكتاب لما فيه من مشابهة النقل، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (¬4) والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف ومن الصحف إلى غيرها. وقد اختلف العلماء فى تعيين المعنى الذى وضع له اللفظ: فقيل: إن لفظ النسخ وضع لكل من المعنيين على سبيل الحقيقة وضعا أوليّا، فهو مشترك لفظى بينهما حيث إن اللفظ قد استعمل فى كل منها، والأصل فى الاستعمال الحقيقة وهذا القول لأبى حامد الغزالى رضى الله عنه (¬5). ¬

_ (¬1) لسان العرب 5/ 4407. (¬2) سورة الحج الآية: 52. (¬3) لسان العرب 5/ 4407. (¬4) سورة الجاثية الآية: 29. (¬5) المستصفى 1/ 107، والابهاج 2/ 145.

النسخ فى الاصطلاح:

وذهب بعضهم إلى القول بأن لفظ النسخ حقيقة فى النقل مجاز فى الإزالة، لأن اللفظ كثر استعماله فى النقل، وقل استعماله فى الإزالة فجعل حقيقة فيما كثر استعماله فيه، ومجازا فيما قلّ استعماله فيه حيث إن الحقيقة أكثر من المجاز، ولا يصح جعله حقيقة فيما قلّ استعماله فيه كما هو حقيقة فيما كثر استعماله فيه، لأن ذلك يؤدى إلى الاشتراك اللفظى والمجاز خير منه. وهذا القول للقفال رحمه الله (¬1). وذهب الإمام الرازى وأبو الحسين البصرى (¬2) رحمهما الله إلى القول بأن اللفظ حقيقة فى الإزالة مجاز فى النقل، ووجهتهما فى ذلك أن النقل أخص من الإزالة، لأن النقل إعدام صفة وإيجاد صفة أخرى، والإزالة مطلق الإعدام، وجعل اللفظ حقيقة فى الأعم أولى من جعله حقيقة فى الأخص، لأن الأعم فيه تكثير للفائدة، والأخص فيه تقليل لها وتكثير الفائدة أولى. على العموم اتفق العلماء على أن لفظ النسخ استعمل فى المعنيين السابقين وأن كلا من الحقيقة والمجاز سائغ فى اللغة وخلافهم بعد ذلك فى كون اللفظ حقيقة فى كليهما، أو حقيقة فى أحدهما دون الآخر خلاف لا يترتب عليه كبير فائدة. النسخ فى الاصطلاح: عرّف النسخ فى الاصطلاح بتعاريف كثيرة منها ما اختاره القاضى أبو بكر الباقلانى، وأبو إسحاق الشيرازى وأبو حامد الغزالى والآمدى وغيرهم رحمهم الله حيث قالوا: ¬

_ (¬1) المحصول لفخر الدين الرازى 1/ 419، 420. والقفال: لعله القفال الشاشى الكبير محمد بن على بن إسماعيل الأصولى الشهير المتوفى سنة 365 هـ- تبين كذب المفترى 182، وطبقات ابن السبكى 3/ 200 - . (¬2) المحصول 1/ 423، والمعتمد 1/ 364.

وقد اعترض عليه بما يلى:

النسخ: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت لخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه (¬1). وهذا التعريف مبنى على أن النسخ قد بطلق بمعنى الناسخ (¬2) وقد اعترض عليه بما يلى: أولا: التقييد بالخطاب خطأ لأن النسخ قد يكون فعلا كما يكون قولا. ثانيا: أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبى صلى الله عليه وسلم وليس هو الخطاب. ثالثا: أن الأمة لو اختلفت على قولين، ثم اجمعت بعد ذلك على أحدهما، فهذا الإجماع خطاب مع أن الإجماع لا ينسخ به (¬3). ومنها ما ذكره الشوكانى (¬4) نقلا عن الزركشى فقال: هو رفع الحكم الشرعى بخطاب. وقد اعترض عليه بما يأتى: أولا: الناسخ قد يكون فعلا لا خطابا. ثانيا: لا بدّ فى النسخ من وقوع الناسخ متراخيا عن المنسوخ، وقد أغفل التعريف ذكر هذا القيد. ومنها ما ذكره واختاره الإمام البيضاوى رحمه الله حيث قال فى تعريف النسخ (¬5). هو: بيان انتهاء حكم شرعى بطريق شرعى متراخ عنه. وقد اعترض عليه بعدة اعتراضات منها: أنه لا يشمل النسخ قبل التمكن من الفعل لعدم دخول وقت الفعل، وذلك لأن قوله: بيان انتهاء الحكم ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 107، واللمع 30، والإحكام للآمدى 3/ 98 (¬2) التلويح على التوضيح 2/ 31. (¬3) إرشاد الفحول 184. (¬4) المصدر السابق (¬5) شرح الإسنوى على منهاج البيضاوى 2/ 162.

قال الدكتور صبحى الصالح:

مشعر بأن الحكم الذى بيّن انتهاء أمده قد دخل وقت العمل به، فالفعل الذى لم يدخل وقت العمل به غير داخل فى التعريف. ومقتضى هذا أن النسخ لا يرد عليه مع أن جمهور الأشاعرة على أن النسخ قبل التمكن من الفعل جائز، قال الشيخ جلال الدين المحلى رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف فى كون النسخ رفعا أو بيانا (¬1): والمختار الأول لشموله النسخ قبل التمكن وسيأتى جوازه على الصحيح. والذى أختاره ليكون تعريفا للنسخ ما ذكره ابن الحاجب والتلمسانى والشاطبى ومن نهج نهجهم حيث عرفوا النسخ بأنه (¬2): رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر. وإنما اخترت هذا التعريف لكونه أقرب إلى المقصود وأنسب ولضعف الاعتراضات الواردة عليه. قال الدكتور صبحى الصالح (¬3): « ... تعريف النسخ بقولهم: رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى، أدق تحديد اصطلاحى لهذه اللفظة بتناسق فى آن واحد مع لسان العرب الذى يرى النسخ إزالة ورفعا». شرح التعريف: قولهم: «رفع الحكم الشرعى» معناه قطع تعليقه بأفعال المكلفين، وليس رفعه هو لأنه أمر واقع والواقع لا يرتفع. والرفع جنس فى التعريف يشمل كل ما يطلق عليه رفع. والحكم الشرعى هو (¬4) خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين ¬

_ (¬1) شرح الجلال 2/ 74. (¬2) شرح العضد 2/ 185، وتسهيل الوصول 129، ومفتاح الوصول 107، والموافقات 3/ 107. (¬3) مباحث فى علوم القرآن له 261. (¬4) شرح الإسنوى على المنهاج 1/ 30، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 220.

قال الشيخ عضد الله والدين رحمه الله:

بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وإضافة الرفع إلى الحكم قيد أول فى التعريف يخرج به ابتداء إيجاب العبادات فى الشرع، فإنه يرفع حكم العقل ببراءة الذمة، وذلك كإيجاب الصلاة فإنه رافع لبراءة ذمة الإنسان منها قبل ورود الشرع بها، ومع ذلك لا يقال له نسخ، وإن رفع هذه البراءة لأن هذه البراءة ليست حكما شرعيّا، وإنما هى حكم عقلى. بمعنى أنه حكم يدل عليه العقل حتى قبل مجىء الشرع ولا يقدح فى كونه حكما عقليّا أن الشرع جاء يؤيده بمثل قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (¬1) قال الشيخ عضد الله والدين رحمه الله (¬2): « ... فقوله رفع الحكم الشرعى ليخرج المباح بحكم الأصل فإن رفعه بدليل شرعى ليس بنسخ». وقولهم: «بدليل شرعى»: الدليل الشرعى هو وحى الله مطلقا، سواء كان متلوّا أو غير متلو، غير أن النسخ يشترك فيه الكتاب والسنة فقط دون الإجماع حيث إنه لا ينسخ ولا ينسخ به. وهذا القول قيد ثان فى التعريف يخرج به رفع حكم شرعى بدليل عقلى كسقوط التكليف عن الإنسان بموته أو جنونه أو غفلته، فإن سقوط التكليف عنه بأحد هذه الأسباب يدل عليه العقل إذ الميت والمجنون والغافل لا يعقلون خطاب الله تعالى حتى يستمر تكليفهم، والعقل يقضى بعدم تكليف المرء إلا بما يتعقله، ومولانا جل شأنه إذا أخذ ما وهب أسقط ما وجب، ولا يقولن قائل: إن الرفع بالنوم والجنون والغفلة بدليل شرعى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن المجنون حتى ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 15. (¬2) شرع العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 18.

قال التلمسانى رحمه الله:

يفيق» (¬1)، وذلك لأن العقل حاكم بأن شرط التكليف التعقل، ويستوى فى امتناع التكليف، الميت والنائم والغافل، والنصوص الواردة فى ذلك ليست رافعة، بل مثبتة أن مثل النوم والنسيان (¬2) هو الرافع. وقولهم: «متأخر» قيد لبيان الواقع قصد به بيان أن النسخ لا بدّ أن يكون الناسخ فيه متأخرا عن المنسوخ. قال التلمسانى رحمه الله (¬3): «وإنما اشترطنا أن يكون متراخيا عن الحكم تحرزا من الغاية، فإنها لا تكون ناسخة للحكم، فالصيام إذا انتهى إلى الليل فأفطر الصائم لا يقال إنّ فريضة الصوم قد نسخت فى حقه لقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (¬4) فالغاية المذكورة وهى قوله: إلى اللّيل تفيد انتهاء حكم الصوم، وهو وجوب إتمامه بمجرد دخول الليل، ولكن يقال لهذه الغاية الدالة على انتهاء هذا الحكم، إنها نسخ، وذلك لاتصالها بدليل الحكم الأول، وهو قوله: ثمّ أتمّوا الصّيام بل تعتبر الغاية المذكورة بيانا أو إتماما لمعنى الكلام، وتقديرا له بمدة أو شرط، فلا يكون رافعا، وإنما يكون رافعا إذا ورد الدليل الثانى بعد أن ورد الحكم مطلقا واستقر من غير تقييد، بحيث يدوم لولا الناسخ. على العموم يؤخذ من التعريف ما يلى: أولا: التعبير برفع الحكم يفيد أن النسخ لا يمكن أن يتحقق إلا بأمرين هما: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الحدود 4/ 139، 140. (¬2) حاشية السعد على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 185، ومناهل العرفان 2/ 73. (¬3) مفتاح الوصول له 108. (¬4) سورة البقرة الآية: 187.

على أى شىء يقع النسخ؟ أعلى الأمر أم على المأمورية؟

1 - أن يكون هذا الدليل الشرعى متراخيا عن دليل ذلك الحكم الشرعى المرفوع. 2 - أن يكون بين هذين الدليلين تعارض حقيقى بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإعمالهما معا، لأن النسخ ضرورة لا يصار إليها إلا إذا اقتضاها التعارض الحقيقى دفعا للتناقض فى تشريع الحكيم العليم، ومما لا شك فيه أن إعمال الدليلين ولو بنوع من التأويل خير من إعمال دليل وإهدار آخر. ثانيا: أن هذا التعريف يشمل النسخ الواقع فى القرآن وفى السنة جميعا، وسأذكر بعون الله وحده أمثلة لذلك عند الكلام عن النسخ فى دوراته بين الكتاب والسنة. ثالثا: أن الإضافة فى كلمة «رفع الحكم الشرعى» الواردة فى تعريف النسخ من قبيل إضافة المصدر إلى مفعوله، والفاعل مضمر، وهو الله تعالى، وذلك يرشد إلى أن الناسخ فى الحقيقة هو الله تعالى، كما يدل عليه قوله جل شأنه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها (¬1). ويرشد أيضا إلى أن المنسوخ فى الحقيقة هو الحكم المرتفع. وقد يطلق الناسخ على الحكم الرافع فيقال: وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء. وقد يطلق النسخ على دليله فيقال: آية المواريث نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين. على أى شىء يقع النسخ؟ أعلى الأمر أم على المأمورية؟ اختلف العلماء فى محل وقوع النسخ والصحيح، كما قال أبو محمد ابن حزم الظاهرى (¬2): إنه يقع على الأمر ولا يجوز أن يقع على المأمورية أصلا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 106. (¬2) الإحكام له 4/ 443.

وان كان لم يقع منا فكيف ينسخ شىء لم يكن بعد؟

وعلة ذلك: أن المأمورية هو فعلنا وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون قد وقع منا فعلا، وإما أن يكون لم يقع منا بعد. فإن كان قد وقع منا بعد فقد فنى، لأن أفعالنا أعراض فانية، ولا يجوز أن ينهى عما قد فنى لأنه لا سبيل إلى عودته أبدا. وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فنى، لأنه لا يجوز أن يعود أيضا، ولا يجوز كذلك أن يباح لنا ما قد فنى لأن كل هذا محال. وان كان لم يقع منا فكيف ينسخ شىء لم يكن بعد؟ وبذلك يتضح لنا جليا أن المرفوع إنما هو الأمر المتقدم وليس الفعل الذى لم نفعله بعد وقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها (¬1). دليل على ذلك حيث يفيد أن الآية هى المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها والمنهى عنها. والآية هى الأمر الوارد من الله تعالى بإيجاب ما أوجب، أو تحريم ما حرم، وأما المأمورية فهى حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد ونحو ذلك. هذا وقد قال العلماء إن الكلام ينقسم أربعة أقسام: 1 - أمر. 2 - رغبة. 3 - خبر. 4 - استفهام. فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ، وإنما يسمى الرجوع عن الخبر والاستفهام استدراكا، وكل ذلك منفى عن الله تعالى، لأن الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه. وأما الرجوع عن الرغبة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 106.

فإنما يسمى استقالة أو تنزّها عما انحط إليه قبل ذلك. أما الأمر- وهو الذى يقع عليه نسخ- فمراتبه فى الشريعة خمسة هى 1 - الحرام: وهو الطرف الأول، وقد عرفه البيضاوى فقال (¬1): والحرام ما يذم شرعا فاعله. 2 - الفرض: وهو الظرف الثانى، وقد عرفه البيضاوى بقوله (1): إنه الذى يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا. 3 - الكراهة: وهى تلى الحرام فى المرتبة- وهى الأشياء (¬3) التى تركها خير من فعلها، إلا أن من تركها أجر ومن فعلها لم يأثم. 4 - الندب: وهو يلى مرتبة الفرض، وهو الأشياء التى فعلها خير من تركها إلا أن من فعلها أجر ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم (¬4). 5 - المباح: ويقع فى المرتبة بين الكراهة والندب- وهو ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم، ففعله لا يترتب عليه أجر ولا إثم، وكذلك تركه لا يترتب عليه أجر أو إثم كجلوس الإنسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة، وصباغة ثوبه أخضر أو أسود- مثلا (¬5) -. فإذا نسخ الفرض ننظر: فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم، لأن هذه صيغة التحريم. وإن نسخ بأن قال: «لا جناح عليكم» أو بلفظ تخفيف أو بترك أو بفعل لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب إليه، وهو الندب وذلك مثل صيام عاشوراء، فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب وذلك عند من يقول: إن صومه كان واجبا. ¬

_ (¬1) منهاج البيضاوى وشرحه نهاية السول 1/ 41، 47. (¬3) الإحكام لابن حزم 4/ 456. (¬4) انظر: المراجع السابقة. (¬5) الإحكام لابن حزم 4/ 456، ونهاية السول 1/ 48.

وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ «افعل». انتقل إلى الفرض لأن هذه صيغة الفرض. وإن نسخ بقوله لا جناح عليكم، أو بلفظ تخفيف انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهى الكراهة. وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ «أفعل» انتقلا إلى الفرض. وإن نسخا بلفظ «لا تفعل» انتقلا إلى التحريم. وإن نسخا بلفظ تخفيف انتقلا إلى الإباحة المطلقة لأن الإباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم. لكن هل يقل نسخ على الأوامر المتعلقة بالأصول؟ الحق أن النسخ إنما يقع فى خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات، أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأى السديد الذى عليه الجمهور. وذلك لأن العقائد حقائق ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل، فبدهى ألا يتعلق بها نسخ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله فى شرعها ومصلحة الناس فى التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن، ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير. وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليهما باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها، ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما، فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة فى رفعها بالنسخ. وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدى إلى كذب الشارع فى أحد خبريه الناسخ والمنسوخ وهو محال عقلا ونقلا. أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال.

وأما نقلا فلمثل قوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (¬1) نعم إن نسخ الخبر دون مدلوله جائز وله صورتان إحداهما: أن تنزل الآية مخبرة عن شىء، ثم نسخ تلاوتها فقط والأخرى: أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شىء ثم يهانه أن نتحدث به. وأما الخبر الذى ليس محضا بأن كان فى معنى الإنشاء، ودلّ على أمر أو نهى متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع فى جواز نسخه، والنسخ به لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ. مثال الخبر بمعنى الأمر: قوله تعالى: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً (¬2) فإن معناه ازرعوا. ومثال الخبر بمعنى النهى: قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ (¬3). فإن معناه لا تنكحوا زانية أو مشركة- بفتح التاء- ولا تنكحوهما- بضم التاء. والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هى ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هى كمياتها وكيفياتها. وأما أصولها فهى ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف. هذا وما قلته من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية هو الرأى السائد الذى تستريح النفس إليه، وهناك آراء مغايرة حرىّ بمن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 87. (¬2) سورة يوسف الآية: 47. (¬3) سورة النور الآية: 3.

يكتب فى النسخ- مستقلا- أن يتعرض لها بالتفصيل (¬1). هذا وللإمام الشاطبى رحمه الله فى هذه النقطة كلام طيب لا بأس بإيراده تتميما للفائدة يقول رحمه الله (¬2): القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ، وإنما وقع النسخ فى أمور جزئية بدليل الاستقراء، فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة (¬3) ثابت، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ، وإن فرض النسخ فى بعضها إلى غير بدل فاضل. الحفظ باق إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس. بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة فى كل ملة، وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة، وهكذا يقتضى الأمر فى الحاجيات والتحسينيات. وقد قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (¬4). وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (¬5). وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (¬6). ¬

_ (¬1) شرح لحلال المحلى 2/ 84 - 87، وارشاد الفحول 186، وغاية الوصول 89، ومناهل العرفان 2/ 107. (¬2) الموافقات 3/ 117، 118. (¬3) هى حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. (¬4) سورة الشورى الآية: 13. (¬5) سورة الأحقاف الآية: 35. (¬6) سورة الأنعام الآية: 90.

الأهمية وراء معرفة الناسخ والمنسوخ:

وقال تعالى وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ (¬1) الآية وكثير من الآيات أخير فيها بأحكام كلية كانت فى الشرائع المتقدمة وهى من شريعتنا ولا فرق بينهما وقال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (¬2) وقال فى قصة موسى عليه السلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (¬3) وقال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬4) وقال: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ (¬5) الآيات فى منع الإنفاق. وقال سبحانه: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (¬6) إلى سائر ما فى ذلك من معانى الضروريات. وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق، هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات، ومثل ذلك التحسينيات فقد قال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ (¬7) وقوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ يقتضى بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتى هى أحسن وغير ذلك اه. الأهمية وراء معرفة الناسخ والمنسوخ: تتلخص أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ فيما يلى: ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 43. (¬2) سورة الحج الآية: 78. (¬3) سورة طه الآية: 14. (¬4) سورة البقرة الآية: 183. (¬5) سورة القلم الآية: 17. (¬6) سورة المائدة الآية: 45. (¬7) سورة العنكبوت الآية: 29.

قال أبو القاسم هبة الله بن سلامة رحمه الله:

1 - موضوع النسخ موضوع تشعبت مسالكه وكثرت تفاريعه وقد تناول الكثير من المسائل الدقيقة التى كانت مثارا لخلاف الباحثين من علماء الأصول. 2 - أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم فى فهم الإسلام وفى الاهتداء إلى صحيح الأحكام. قال أبو القاسم هبة الله بن سلامة رحمه الله (¬1): « ... فأول ما ينبغى لمن أحب أن يتعلم شيئا من علم الكتاب أى- القرآن العظيم- الابتداء فى علم الناسخ والمنسوخ اتباعا لما جاء عن أئمة السلف رضى الله عنهم أجمعين، لأن كل من تكلم فى شىء من علم هذا الكتاب العزيز، ولم يعلم الناسخ والمنسوخ كان ناقصا. وقد روى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه دخل يوما مسجد الجامع بالكوفة، فرأى فيه رجلا يعرف بعبد الرحمن بن دأب، وكان صاحبا لأبى موسى الأشعرى، وقد تحلق عليه الناس يسألونه وهو يخلط الأمر بالنهى، والإباحة بالحظر. فقال له رضى الله عنه: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال هلكت وأهلكت. أبو من أنت؟ فقال: أبو يحيى. فقال له رضى الله عنه: أنت أبو اعرفونى، وأخذ أذنه ففتلها (¬2) فقال: لا تقصن فى مسجدنا بعد ... « ... وقال حذيفة بن اليمان: لا يقصنّ على الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور ورجل عرف الناسخ والمنسوخ، والرابع متكلف أحمق». 3 - أن الإلمام بمعرفة الناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامى ويطلع الإنسان على حكمة الله فى تربيته للخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس. ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ له 4. (¬2) الفتل: لىّ الشيء- لسان العرب 4/ 3343.

حكمة الله تعالى فى النسخ:

4 - أن أعداء الإسلام اتخذوا من النسخ فى الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة طعنوا بها فى صدر الدين الحنيف. وقالوا من قدسية القرآن الكريم حتى سخروا عقول بعض المسلمين فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع. لهذا فالواجب يقتضى منا العناية والاهتمام بمعرفة هذا الموضوع الهام وأن نسير فيه بشيء من الحذر الشديد والله الموفق حكمة الله تعالى فى النسخ: معلوم عند أهل العلم أن معرفة الحكمة وراء تشريع النسخ نريح النفس وتعصم من الوسوسة، وقد اتفق العلماء جميعا على أن الشريعة الإسلامية نسخت كل شريعة قبلها، وفى هذا بيان شرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل نسخ بشريعته شريعتهم، وشريعته لا ناسخ لها. وكيف يعترى شريعته نسخ وقد احتوت على أكمل تشريع يفى بحاجات الإنسان إلى يوم القيامة؟ كما اتفق العلماء على نسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض، ولعل الحكمة من وراء هذا النسخ نرجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرفيها ويطهرها. قال الشوكانى رحمه الله (¬1): « ... وقيل: الحكمة حفظ مصالح العباد، فإذا كانت المصلحة لهم فى تبديل حكم بحكم وشريعة بشريعة كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة، وقيل الحكمة بشارة المؤمنين برفع الخدمة عنهم وبأن رفع مؤنتها عنهم فى الدنيا مؤذن برفعها فى الجنة». فالتخفيف عن الناس يظهر فى نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه، وفى ذلك إغراء لهم على المبالغة فى شكره سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول 185.

وأما الحكمة فى نسخ الحكم بما يساويه فهى الابتلاء والاختيار ليميز الله الخبيث من الطيب، أما الحكمة من بقاء التلاوة مع نسخ الحكم- عند القائلين به- فتسجيل هذه الظاهرة الحكيمة ظاهرة سياسة الإسلام للناس حتى يشهدوا أنه الدين الحق، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم نبى الصدق. يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فحكمته تظهر فى كل آية بما يناسبها. ومن أمثلة ذلك: أنه روى عن عمر بن الخطاب وأبى بن كعب رضى الله عنهما أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. أى كان هذا النص آية تتلى، ثم نسخت تلاوتها وبقى حكمها معمولا به، والسر فى ذلك أنها كانت تتلى أولا لتقرير حكمها ردعا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات، حتى إذا ما تقرر هذا الحكم فى النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هى الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة، وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل، وسار بها فى طريق يشبه طريق المستحيل الذى لا يقع كأنه قال: نزهوا الأسماع عن سماعها والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها ومن التلوث برجسها (¬1). ¬

_ (¬1) لطائف الإشارات 40، 41، ومناهل العرفان 2/ 92.

المبحث الثانى فى شروط النسخ

المبحث الثانى فى شروط النسخ ذكر العلماء للنسخ شروطا لا بدّ منها أهمها ما يلى: 1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيّا ممكنا لا واجبا لذاته- كالإيمان- ولا ممتنعا لذاته- كالكفر- فإن وجوب الإيمان وحرمة الكفر لا ينسخ فى دين من الأديان. 2 - أن يكون النسخ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخا لأنه حاصل بالعقل إذ هو قاض بأنه لا تكليف للميت. 3 - أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه، فإن المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخا بل تخصيصا. 4 - ألا يكون المنسوخ مقيدا بوقت معلوم كقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (¬1) وقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (¬2). فلا يكون انقضاء وقته الذى قيد به نسخا له (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 187. (¬2) سورة النساء الآية: 15. (¬3) المعتمد 1/ 369 والاعتبار للحازمى 4، 5، والإحكام للآمدى 3/ 105، وتسهيل الوصول 130.

الفرق بين النسخ والتخصيص:

الفرق بين النسخ والتخصيص: سبق أن اخترت للنسخ تعريف التلمسانى وابن الحاجب وغيرهما، وهو: رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر. وقد عرف الأصوليون التخصيص فقالوا: هو قصر العام على بعض أفراده (¬1). ومن أمثلته: قول الله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬2) مع قوله جل شأنه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬3). والناظر فى الآية الثانية يفهم بحسب الظاهر أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا مطلقا، سواء كانت حاملا أو غير حامل. بينما تنص الآية الأولى على أن عدة الحامل بوضع الحمل، ومن ثم قال العلماء إنها مخصصة للآية الثانية، وعليه فالمتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرا، ما لم تكن حاملا وإلا فعدتها بوضع الحمل (¬4). والحق أن المتأمل فى تعريف كل من النسخ والتخصيص يجد تشابها كبيرا بينهما وذلك لأن النسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأفراد، ومن أجل هذا التشابه الكبير بين النسخ والتخصيص فرق بينهما كل من مسك قلما وكتب فى النسخ، وذلك لأن هناك من العلماء من ذهب إلى القول بإنكار النسخ فى الشريعة، زاعما أن كل ما تسميه نسخا فهو تخصيص، ¬

_ (¬1) غاية الوصول 75. (¬2) سورة الطلاق الآية: 4. (¬3) سورة البقرة الآية: 234. (¬4) أحكام القرآن لابن العربى 1/ 208، وتفسير ابن كثير 8/ 174، والإحكام للآمدى 2/ 146، والتعارض والترجيح للمؤلف 192.

وإليك أهم الفروق بين النسخ والتخصيص:

ومنهم من توسع فى النسخ بأن أدخل صورا من التخصيص فى باب النسخ فزاد بسبب ذلك فى عداد المنسوخات من غير موجب. وإليك أهم الفروق بين النسخ والتخصيص: 1 - النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل. وعن أمثلة النسخ بالكتاب والسنة سأذكرها إن شاء الله بشيء من التفصيل عند الكلام عن أنواع النسخ فى القرآن، والنسخ فى دورانه بين القرآن والسنة. أما أمثلة التخصيص بالكتاب والسنة والحس والعقل فهى: أولا: تخصيص الكتاب بالكتاب: وقد سبق قريبا مثال له وهو قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مع قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ثانيا: تخصيص الكتاب بالسنة ومثاله: قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدا» (¬2). فالظاهر أن بين الآية والحديث تعارضا، وذلك لأن الآية توجب بعمومها قطع يد السارق، فى حين ينص الحديث على ألا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدا، وعليه فيجب تخصيص عموم الآية بهذا الحديث، ومن ثم فلا قطع لمن سرق أقل من ربع دينار. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 38. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الحدود 2/ 45.

ثالثا: تخصيص الكتاب بالحس ومثاله: قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ (¬1) فالعموم المذكور فى الآية الكريمة قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة الأرض والسماء وعدم تدمير الريح لهما. رابعا: تخصيص الكتاب بدليل العقل. مثاله: قال تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (¬2) وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬3) فكل من هذين القولين الكريمين متناول بعموم لفظه لغة كل شىء، مع أن ذاته وصفاته أشياء حقيقية، وليس خالقا لها ولا هى مقدورة له لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته واستحالة كونه مقدورا بضرورة العقل، فقد خرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ، وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء حيث إن العقل يقضى باستحالة تعلق القدرة الإلهية، بالواجب والمستحيل (¬4) العقليين. 2 - النسخ يجوز وروده على الأمر بمأمور واحد كنسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم، بخلاف التخصيص فلا يرد على الأمر بمأمور واحد ولا على النهى لمنهى واحد. 3 - النسخ يدل على أن المنسوخ كان مرادا بالحكم ابتداء، بخلاف التخصيص فإنه يدل على أن المخرج غير مراد بالحكم ابتداء، وإن دل عليه اللفظ وضعا. 4 - العام بعد تخصيصه مجاز لأن مدلوله حينئذ بعض أفراده، مع أن لفظه موضوع للكل، والقرينة هى المخصص وكل ما كان كذلك فهو مجاز. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف الآية: 25. (¬2) سورة الزمر الآية: 62. (¬3) سورة البقرة الآية: 284. (¬4) الإحكام للآمدى 2/ 293.

الفرق بين النسخ والبداء:

أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان. 5 - النسخ يجعل المنسوخ غير صالح للاحتجاج به. أما التخصيص فلا يخرج العام عن كونه حجة فى الباقى بعد التخصيص. 6 - النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ، ومتأخر عن المنسوخ بخلاف التخصيص فإنه يكون بالسابق واللاحق والمقارن. وذهب بعض الأصوليين إلى القول بأن التخصيص لا يكون إلا بمقارن، فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه، كما إذا قال الشارع: اقتلوا المشركين. وبعد وقت العمل به قال: لا تقتلوا أهل الذمة. ووجهة نظرهم: أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام. فلو تأخر عن وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا. 7 - النسخ لا يقع فى الأخبار بخلاف التخصيص، فإنه يكون فى الأخبار وغيرها (¬1). الفرق بين النسخ والبداء: يلاحظ أن البداء فى اللغة يطلق على معنيين هما: 1 - الظهور بعد الخفاء ... ومنه قوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: البرهان لإمام الحرمين 2/ 1314، والإحكام للآمدى 3/ 104، والنسخ بين الإثبات والنفى لأستاذى الدكتور فرغلى 124، ومناهل العرفان 2/ 80، وأصول الفقه للشيخ زهير 3/ 47. (¬2) سورة الزمر الآية: 47.

وقوله جل شأنه: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (¬1). 2 - نشأة رأى جديد لم يكن ... ومنه قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (¬2). جاء فى القاموس (¬3): وبدا له فى الأمر بدوا وبداء وبداة أى نشأ له فيه رأى. هذان معنيان للبدء فى اللغة، ومما لا شك فيه أنهما مستحيلان على الله تعالى، ذلك لأنه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال عليه تعالى، كما يشهد بذلك العقل والنقل. فالعقل يقرر دون تردد أن خالق هذا الكون لا بدّ أن يكون متصفا بالعلم الواسع المحيط بكل شىء، وأنه قديم لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث، وإلا لكان ناقصا يعجز عن إبداع هذا الكون، وما دام الجهل والحدوث- المستلزمان للبداء- مستحيلين عليه تعالى فالعقل يقرر استحالة البداء على الله تعالى. وكذلك النقل. فإنه يلتقى مع العقل فى الحكم باستحالة الجهل، والحدوث على الله تعالى، فالنصوص الثابتة تصفه بالعلم الواسع، والقدم الذى لا يسبقه شىء قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ (¬4) الآية وقال سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ (¬5) وغير ذلك من الآيات التى تصفه سبحانه بالعلم المحيط. ¬

_ (¬1) سورة الزمر الآية: 48. (¬2) سورة يوسف الآية: 35. (¬3) القاموس المحيط 1/ 7. (¬4) سورة الأنعام الآية: 59. (¬5) سورة الرعد الآية: 8.

فمولانا جل شأنه منزه عن أن يوصف بالبداء لأن البداء ينافى إحاطة علم الله سبحانه، بكل شىء، ولكنه غير منزه عن النسخ، لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق فى علم الله تعالى، وإن كان رفعا لهذا الحكم بالنسبة لنا، وعليه فلا علاقة بين النسخ والبداء، لأن النسخ ليس فيه تغيير لعلم الله تعالى، بخلاف البداء فإنه يفترض هذا التغيير. فالنسخ يقوم على تغيّر فى المعلوم مع ثبات العلم نفسه على ما كان منذ الأزل، والبداء يقوم على تغير فى العلم نفسه. ومن هنا لما خفى الفرق بين النسخ والبداء على بعض فرق اليهود والرافضة أنكرت اليهود النسخ وأسرفوا فى الإنكار لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. والحق أن هذا الفهم من قبل اليهود سقيم لما ذكرت من أنه لا تلازم بين النسخ والبداء ولوضوح الفرق بينهما. أما الرافضة فأثبتوا النسخ، ثم أسرفوا فى إثبات البداء اللازم له فى زعمهم، ونسبوه إلى الله تعالى فى صراحة ووقاحة- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- وقد تشبثوا بآثار نسبوها إلى أئمة طاهرين تعضد- فى زعمهم- ما ذهبوا إليه منها: أن الإمام علىّ كرم الله وجهه قال: لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة. ومنها: أن جعفر الصادق رضى الله عنه قال: ما بدا لله تعالى فى شىء كما بدا له فى إسماعيل عليه السلام- أى فى أمره بذبحه-. ومنها: أن موسى بن جعفر رضى الله عنه قال: البداء ديننا ودين آبائنا فى الجاهلية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المعتمد 1/ 368، وأصول السرخسى 2/ 25، والمنخول 288، 289، والمستصفى للغزالى 1/ 110، والإحكام للآمدى 2/ 164، وحاشية البنانى 2/ 88، ومناهل العرفان 2/ 79.

والحق أن هذه الآثار التى نسبوها إلى هؤلاء الأئمة ما هى إلا مفتريات وأكاذيب أول من حاك شباكها، ونطق بها الكذاب الثقفى الذى كان ينتحل لنفسه العصمة، وعلم الغيب. فإذا ما خاف من مؤاخذة الناس له، وانتقامهم منه على هذا الكفر نسب تلك الأكاذيب إلى آل البيت وهم منها برآء. فاللعين كان يحتج بكفر على كفر، ويعالج داء بداء، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (¬1). على العموم العقل والنقل يرفضان رأى الكذاب (¬2) الثقفى وأتباعه من الرافضة. فإن قيل:- وذلك على سبيل الافتراض- لا يخلو إما أن يكون البارى سبحانه وتعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبدا، أو إلى وقت معين، وعلم أنه لا يكون مأمورا بعد ذلك الوقت. فإن كان الأول: استحال نسخه لما فيه من انقلاب العلم جهلا. وإن كان الثانى: فالحكم يكون منتهيا بنفسه فى ذلك الوقت. فلا يتصوره بقاؤه بعده وإلا لانقلب علم الله تعالى جهلا. وإذا كان منتهيا بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثرا فيه لا فى حالة علم الله تعالى، أنه يكون الفعل مأمورا فيها، ولا فى حالة علمه سبحانه أنه لا يكون مأمورا فيها لما فيه من انقلاب العلم جهلا، وإذا لم يكن النسخ مؤثرا فيه فلا يتصور نسخه. ¬

_ (¬1) سورة الزمر الآية: 23. (¬2) الكذاب هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى. كان من أهل الطائف ولم يفتر إلا على الإمام كرم الله وجهه. أما الإمام جعفر وابنه موسى فافترى عليهما أتباعه ذلك أن جعفرا لم يولد إلا عام 80 هـ والكذاب توفى سنة 66 هـ فكيف بموسى؟ اهـ الأعلام للزركلى 7/ 70، 71 ط الثانية-

فالجواب: أن الأمر مطلق وقد علم ربنا أن الأمر بالفعل ينتهى بالناسخ فى الوقت الذى علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقا. بل علم انتهاءه بالنسخ. فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلا. وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر فى ذلك الوقت بالنسخ ألا يكون الأمر منسوخا (¬1). ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدى 3/ 103.

المبحث الثالث فى النسخ بين مثبتيه ومنكريه

المبحث الثالث فى النسخ بين مثبتيه ومنكريه إن علماء الإسلام أجمعوا على أن النسخ جائز عقلا، وواقع شرعا، وكذلك أهل الشرائع جميعا مساعدا اليهود والنصارى، ونحن معشر المسلمين إنما قلنا بجوازه ووقوعه لأن المنطق السليم لا يسعه إلا الإقرار بجواز النسخ عقلا كما أن الواقع التاريخى يؤكد وقوعه شرعا. فالقرآن الكريم وهو كتاب الله الخالد، قرر على كل إنسان أن يؤمن به ويمتثل لما فيه ويسير على دربه (¬1) وهذا هو النسخ بمعناه العام: نسخ شريعة لشريعة سابقة. كما أن الناظر فى تاريخ شريعتنا الإسلامية يرى أحكاما نسخت أحكاما سابقة عليها، وهذا هو النوع الثانى من النسخ: يعنى نسخ حكم لحكم فى شريعة واحدة. ولقد استمر المسلمون على هذا الحال ما يزيد على ثلاثة قرون. لم يشك مسلم واحد فى أن دين الإسلام هو دين البشرية كلها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، كما أنه لم بشك واحد منهم طوال هذه الفترة فى أن بعض الأحكام الجزئية العملية التى شرعها الإسلام، قد نسختها أحكام أخرى فى موضوعها، ومن المعلوم أن كلا من الحكمين الحكم الناسخ وكذلك الحكم المنسوخ كان هو الحق فى زمانه. غير أنه فى القرن الرابع الهجرى ظهر العالم المفسر أبو مسلم الأصفهانى (¬2) واشتهر عنه أنه ينكر النسخ. ¬

_ (¬1) الدرب: العادة والطريقة- لسان العرب 2/ 1350 - . (¬2) هو محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهانى. كان معروفا بالعلم والفضل وله الكثير من

وقد تناول فى تفسيره الذى ألفه دعاوى النسخ فى القرآن، فأولها ووفق بينها على وجه لا يمكن معه- على حد قوله- أن يكون هناك تعارض بينها فأوّل ما رآه الجمهور نسخا على أنه من باب انتهاء الحكم لانتهاء زمانه ومثل هذا لا يعتبر نسخا. والحق أن الباحثين قد اضطربت أقوالهم فى تبين حقيقة ما ذهب إليه أبو مسلم نتيجة لاضطرابات النقل عنه، والصحيح فى النقل عنه وهو ما يليق به كعالم مسلم أن النسخ واقع بين الشرائع بعضها مع بعض والإسلام ناسخ للشرائع كلها، ولكنه ينكر وقوع النسخ فى الشريعة الواحدة واستدل على هذا الإنكار بقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬1). وسأقوم بعون الله تعالى بذكر وجه استدلاله بهذه الآية عقب ذكر أدلة الجمهور. وبعد هذا البيان عن المثبتين للنسخ والمنكرين له يظهر لنا أن المذاهب فى النسخ خمسة هى: 1 - جائز عقلا وواقع شرعا فى الشريعة الواحدة وبين الشرائع المختلفة وهذا هو مذهب جمهور المسلمين ما عدا أبا مسلم الأصفهانى. 2 - جائز عقلا وواقع سمعا بين الشرائع المختلفة وغير واقع فى شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو رأى أبى مسلم. 3 - جائز عقلا وواقع سمعا وشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم غير ناسخة لشريعة سيدنا موسى عليه السلام، وهذا مذهب ¬

_ المصنفات الجامعة توفى رحمه الله سنة 322 هـ- معجم المؤلفين لكحالة 9/ 97 - ط: بيروت. (¬1) سورة فصلت الآية: 42.

أدلة المذاهب

العيسوية (¬1) (إحدى فرق اليهود الثلاثة) الذين يعترفون برسالته صلى الله عليه وسلم ولكنهم يقولون هى للعرب خاصة. 4 - جائز عقلا وغير واقع سمعا وهذا مذهب العنانية (¬2) من اليهود. 5 - محال عقلا وشرعا وهذا مذهب الشمعونية (¬3) من اليهود. ومما هو جدير بالذكر التنبيه على أن المقصود من مثبتى النسخ ومنكريه هم علماء المسلمين، لكن هذا لا يمنعنى من التعرض ولو بطريق الإجمال تتميما للفائدة لموقف فرق اليهود الثلاث من قضية النسخ (¬4). أدلة المذاهب أولا أدلة جمهور المسلمين: استدل الجمهور على الجواز العقلى بدليلين هما: الدليل الأول: أن النسخ لا يترتب على فرض وقوعه محال. حيث إن أحكام الله تعالى إما أن تشرع لمصالح العباد- كما تقول المعتزلة- أو لا تشرع لمصالحهم. ¬

_ (¬1) تنتسب هذه الغرفة إلى أبى عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهانى كان فى زمن المنصور، وقد زعم أنه نبى وأنه رسول المسيح المنتظر وزعم الله كلمه وأن المسيح أفضل ولد آدم (الملل والنحل للشهرستانى 2/ 20، 21). (¬2) وتنتسب هذه الطائفة إلى عنان بن داود رأس الجالوت ومن هؤلاء من يزعم أن عيسى عليه السلام ليس نبيّا مرسلا وإنما هو من أولياء الله المخلصين (المرجع السابق 2/ 20). (¬3) وتنتسب هذه الطائفة إلى شمعون بن يعقوب، ولعله صاحب فرقة من فرق اليهود التى لم تشتهر. (¬4) قال العطار فى حاشيته على جمع الجوامع (2/ 121) نبّه البلقينى على أن حكاية خلاف اليهود فى كتب أصول الفقه محالا يليق. لأن الكلام فى أصول الفقه فيما هو مقرر فى الإسلام، وفى اختلاف الفرق الإسلامية. أما حكاية خلاف الكفار فالمناسب ذكرها فى أصول الدين اه.

وقد نوقش هذا الدليل من قبل القائلين بعدم الجواز العقلى بما يلى:

فإن قيل بالأول: فلا شك أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، لأن ما يكون مصلحة لشخص قد لا يكون مصلحة لآخر كشرب الدواء- مثلا- فهو مصلحة للمريض دون الصحيح، وكذلك ما يكون مصلحة لشخص فى زمن قد لا يكون مصلحة له فى زمن آخر ألا ترى أن الطبيب الحاذق (¬1) يبدل الأدوية والأغذية بملاحظة حالات المريض وغيرها على حسب المصلحة التى يراها، ولا يحمل أحد فعله على العبث والجهل. وما دامت المصالح تختلف هكذا والأحكام يراعى فى شرعيتها مصالح العباد، فلا شك أن ذلك مما يجعل النسخ أمرا لا بدّ منه وليس محالا. وإن قيل بالثانى: فظاهر أيضا أن النسخ لا يترتب عليه محال، لأنه لم يخرج عن كونه فعلا لله تعالى وهو جل شأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن هنا يظهر لنا بوضوح أن النسخ فى الحالتين لا يترتب على فرض وقوعه محال فكان جائزا عقلا لأن هذا هو شأن الجواز العقلى (¬2). وقد نوقش هذا الدليل من قبل القائلين بعدم الجواز العقلى بما يلى: النسخ يترتب عليه محال وعليه فيكون محالا، ومن هنا فالمقدمة الصغرى من دليلكم لم تتم .. وبيان ذلك: الحكم الناسخ إما أن يكون قد شرع لمصلحة علمها الله تعالى بعد أن لم يكن علمها أو يكون شرع لا لمصلحة فإن كان الأول فقد تحقق البداء وهو على الله تعالى محال. وإن كان الثانى فهو عبث وهو أيضا على الله تعالى محال. ¬

_ (¬1) الحاذق: الماهر- لسان العرب 1/ 811 - . (¬2) المحصول 1/ 452، والتبصرة 252، والروضة لابن قدامة 69، والإحكام للآمدى 2/ 166، 167، ونهاية السول 2/ 167، وحاشية الإزميري 2/ 172، وإظهار الحق للشيخ رحمت الله الهندى 295.

وقد ناقش المانعون للجواز هذا الدليل بما يلى:

وقد أجاب الجمهور عن هذه المناقشة: بأن هناك قسما ثالثا قد تركتموه، فلنا أن نختاره وهو أن الله تعالى شرع الحكم الثانى لمصلحة علمها أزلا، ولم تخف عليه ولكن وقتها يجيء عند انتهاء الحكم الأول بما اشتمل عليه من المصلحة، ومعلوم أن هذا لا يترتب عليه بداء ولا عبث كما تزعمون (¬1). الدليل الثانى: وهو مسوق فى وجه اليهود المحيلين له عقلا والقائلين أن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب فقط من بنى إسماعيل، وحاصل هذا الدليل ما يلى: إن نبوة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بالدليل القاطع وهو المعجزة الدالة على ذلك وعليه فيكون صادقا فيما يقوله عن ربه وينقله عنه، وقد نقل عنه قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬2). ومعنى هذه الآية: إن ننسخ نأت، ومثل ذلك إنما يقال فيما هو جائز عقلا، وليس فيما هو محال، ومن ثم فالآية تدل على جواز النسخ وهو المطلوب. وقد ناقش المانعون للجواز هذا الدليل بما يلى: الآية لا دلالة فيها على الجواز حيث إنها تفيد صدق التلازم الحاصل بين الشرط والجزاء، وصدق هذا التلازم لا تتوقف على وقوع الشرط والجزاء، ولا على جواز وقوعهما. بل يصدق التلازم ولو كان الشرط محالا. مثال ذلك: قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (¬3) ¬

_ (¬1) التقرير والتحبير 3/ 45، وأصول الفقه للشيخ زهير 3/ 49، 50. (¬2) سورة البقرة الآية: 106. (¬3) سورة الزخرف الآية: 81.

فالكلام صحيح مع أن الشرط محال وقوعه. وقد ذكر الشيخ الإسنوى رحمه الله جوابا عن هذه المناقشة: يتلخص فى أن الآية الكريمة لو قطع النظر عن سبب نزولها لا دلالة فيها على الجواز كما تقولون. لكن لو نظرنا إلى سبب النزول وهو أن الكفار طعنوا فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يأمر بالشىء ثم ينهى عنه فأنزل الله ردا عليهم قوله: ما ننسخ من آية .. الآية لكان فى الآية دليل على الجواز وذلك لأنها ردت عليهم فى شىء عابوه قد وقع فعلا (¬1). ثم قال الإسنوى: فإن قيل: صحة الآية والاستدلال بها يتوقفان على صحة النسخ فلو أثبتنا صحة النسخ بالآية لكان يلزم الدور. قلنا: لا نسلم: بل الاستدلال بها متوقف على صحة النبوة. واستدل الجمهور على الوقوع الشرعى بأدلة كثيرة: منها ما هو مسوق للرد على الشمعونية والعنانية من اليهود، ومنها ما هو مسوق للرد على أبى مسلم وكذلك العيسوية من اليهود. فمن الأول ما يلى: أولا: جاء فى التوراة أن الله تعالى أمر آدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه، وورد أنه كان يولد له كل بطن من البطون ذكرا وأنثى، فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا، وهكذا إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات، ثم حرم الله ذلك عليهم بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم (¬2). ¬

_ (¬1) نهاية السول 2/ 168، وروح المعانى للآلوسى 1/ 491، وتفسير الخازن 1/ 79، وتفسير البغوى بهامش تفسير الخازن 1/ 79. (¬2) أصول السرخسي 2/ 55 والإحكام للآمدى 2/ 167، والتقرير والتخبير 3/ 45، وشرح الإسنوى 2/ 168، واظهار الحق 298.

قال ابن عبد الشكور رحمه الله:

فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا الحكم مخصوصا بذلك القوم أو مؤقتا بحياتهم وعليه فتحريم ذلك فى شريعة من بعده لا يكون نسخا. فالجواب: أنه قد ثبت بالتواتر أمر آدم عليه السلام ولم ينقل تخصيص ولا توقيت فوجب إجراؤه على الإطلاق، وما ذكر من الاحتمال غير ناشئ عن دليل فلا يعتبر (¬1). ثانيا: أن الله عز وجل أمر سيدنا إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، ثم قال له: لا تذبحه، وقد اعترف منكر والنسخ بذلك (¬2). ثالثا: أن الجمع بين الأختين كان مباحا فى شريعة يعقوب عليه السلام، ثم حرم فى شريعة موسى عليه السلام. قال ابن عبد الشكور رحمه الله (¬3): « ... واستدل بتحريم جمع الأختين فى شريعة موسى عليه السلام وبعدها من الشرائع بعد الإباحة فى شريعة يعقوب عليه السلام، أى شريعة إبراهيم التى هو عليها، وإنما نسبت إليه لأنه جمع بين الأختين». رابعا: جاء فى التوراة: أن الله عز وجل- قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك: «إنى قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه». ثم حرم الله تعالى على موسى عليه السلام وعلى بنى إسرائيل كثيرا من الحيوانات (¬4). ¬

_ (¬1) شرح المنار لابن الملك 710. (¬2) شرح الجلال المحلى 2/ 78، وروضة الناظر 70، وتيسير التحرير 3/ 188. (¬3) فواتح الرحموت 2/ 56. (¬4) المحصول 1/ 442.

خامسا: أن الله عز وجل أمر بنى إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم. وقد حكى القرآن هذا فقال جل شأنه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (¬1) قال المفسرون (¬2): أمر الله القوم بشديد من الأمر. فقاموا يتناحرون بالشفار (¬3) يقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته (¬4) فسقطت الشفار من أيديهم. فأمسك عنهم القتل فجعله لحيّهم توبة وللمقتول شهادة. سادسا: أن الطلاق كان جائزا فى شريعة موسى عليه السلام، ثم جاءت شريعة عيسى عليه السلام فحرمته إلا فى حالة واحدة هى حالة ثبوت الزنى على الزوجة. سابعا: أن الختان كان فريضة فى دين إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ولكن الحواريين جاءوا بعد رفع عيسى عليه السلام فنهوا عن الختان كما ثبت ذلك فى رسائل الحواريين، فإما أن يكون هذا نسخا وإما أن يكون افتراء وكذبا، لأنه لم يؤثر عن عيسى عليه السلام كلمة واحدة تدل على نسخ الختان (¬5). فهذه الأدلة وغيرها تدل بوضوح على وقوع النسخ بين الشرائع المختلفة، وفى هذا رد على الشمعونية والعنانية من اليهود. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 54. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 130، 131. (¬3) الشفار جمع شفرة بالفتح وهى السكين- لسان العرب 3/ 2288 - (¬4) النقمة: المكافأة بالعقوبة والجمع نقم ونقم- لسان العرب 5/ 4532 - (¬5) كشف الأسرار عن أصول البزدودى 3/ 159، ومناهل العرفان 2/ 88.

قال أبو حامد الغزالى رحمه الله:

وفى الثانى ما يلى: أولا: قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، (¬1) الآية. وقد قال العلماء إن هذه الآية يفهم منها أن كل آية يذهب الله تعالى بها على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من نسخ لفظها فقط، أو حكمها فقط، أو نسخهما معا، فإنه سبحانه يأتى عباده بنوع آخر أنفع لهم فى السهولة أو كثرة الأجر. والخيرية قد تكون فى المنفعة، وقد تكون فى الثواب وقد تكون فى كليهما، أما المثلية فلا تكون إلا فى الثواب فقط، لأن المماثلة فى النفع لا يمكن تصورها، وذلك لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتى بها فتكون خيرا من الذاهبة لا محالة. وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة فقط، فالمصلحة الأولى باقية على حالها لم يجدّ غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها (¬2). ثانيا: قال تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (¬3) فالتبديل المذكور فى هذه الآية يتألف من رفع الأصل وإثبات البدل، وهذا هو النسخ سواء كان المرفوع تلاوة أم حكما. قال أبو حامد الغزالى رحمه الله (¬4): فإن قيل: ليس المعنىّ به رفع المنزل فإن ما أنزل لا يمكن رفعه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 106. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 214، وتفسير القرطبى 1/ 451، وتفسير القاسمى 2/ 218، وتفسير الجلالين 1/ 16، وتفسير آيات الأحكام 1/ 25، ومناهل العرفان 2/ 85. (¬3) سورة النحل الآية: 101. (¬4) المستصفى 1/ 11.

ثانيا: أدلة أبى مسلم الأصفهاني رحمه الله:

وتبديله، لكن المعنىّ به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل. قلنا: هذا تعسّف بارد فإن الذى لم ينزل كيف يكون مبدلا والبدل يستدعى مبدلا؟ وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال فهذا هوس وسخف. ثالثا: قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (¬1). فهذه الآية الكريمة تفيد تحريم ما أحل من قبل، وهذا هو النسخ، وقوله تعالى: أحلّت لهم يفهم منه أن الحكم الأول كان حكما شرعيّا لا براءة أصلية. رابعا: أن سلف الأمة أجمعوا على أن النسخ وقع فى الشريعة الإسلامية كما وقع بها (¬2). ثانيا: أدلة أبى مسلم الأصفهاني رحمه الله: يلاحظ أنه يستدل لأبى مسلم على الجواز العقلى بدليلى الجمهور السابقين، ويستدل له على أن النسخ غير واقع فى شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬3) وجه الدلالة: النسخ باطل لأن فيه إلغاء للحكم المنسوخ، فلو وقع فى القرآن لأتاه الباطل وفى ذلك تكذيب لخبر الله تعالى والكذب فى خبره تعالى محال. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 160. (¬2) المستصفى 1/ 111. (¬3) سورة فصلت الآية: 42.

وقد رد الجمهور هذا الاستدلال لما يلى:

وقد ردّ الجمهور هذا الاستدلال لما يلى: أولا: لا نسلم أن النسخ باطل، بل هو إبطال لأن الباطل ضد الحق، والنسخ حق وصدق، وإن كان المنسوخ غير معمول به، ومن ثم فلا دلالة فى الآية على المطلوب، ومعنى الآية كما ذكر العلماء أن ألفاظ القرآن محفوظة من التغيير والتبديل، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ. ثانيا: سلمنا أن النسخ باطل لكنا نقول: إن الضمير فى قوله تعالى: لا يأتيه راجع إلى كل القرآن وعليه فيكون المعنى إن كل القرآن لا يأتيه الباطل أى النسخ، ونحن جميعا متفقون على أن القرآن جميعه لا ينسخ لأنه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم المستمرة على التأبيد وعليه فمحل النزاع لا دلالة فى الآية عليه. ثالثا: سلمنا أن النسخ باطل لكن معنى الآية أنه لم يتقدم على القرآن من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتى بعده من كتب الله تعالى ما يبطله، وهذا لا ينافى أنه يأتى فيه نفسه ما يبطل بعضا بعضا وعليه فلا دلالة فى الآية على المدعى (¬1). ثالثا: شبهة مذهب العيسوية: سبق أن ذكرت أن مذهب العيسوية يرى جواز النسخ عقلا ووقوعه شرعا، كل ما فى الأمر أنه لا يعترف بأن شريعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخة لشريعة سيدنا موسى عليه السلام. بل يقولون: هى خاصة للعرب من بنى إسماعيل عليه السلام، وقد استدلوا على الجواز العقلى والوقوع الشرعى للنسخ بما استدل به القائلون بالجواز والوقوع، وأما أن شريعة موسى عليه السلام غير منسوخة بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيستدلون عليه بما يلى: ¬

_ (¬1) الإحكام 3/ 114، ونهاية السول 2/ 171، وتفسير ابن كثير 7/ 171، وتفسير البيضاوى 336، وتفسير الجلالين 441.

قال الشيخ الشيرازى رحمه الله:

لو صح نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم- للزم من ذلك الكذب على الله تعالى فى قوله لموسى: «هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض» والكذب فى خبره تعالى محال فامتنع القول بنسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. هذا هو دليلهم الذى استدلوا به على ما ذهبوا إليه. فهم يرون أنه لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة بشرت به صلى الله عليه وسلم، وأنه جل شأنه أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة. لكن لا سبيل إلى القول بأن رسالته عامة لأن ذلك يؤدى إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته، والخلاف بينهم وبين الشمعونية والعنانية أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. والحق أن ما استدلوا به على تأبيد شريعة موسى عليه السلام وعدم نسخها بشريعة أخيه الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم مردودة لما يلى: أولا: هذا القول مكذوب على موسى عليه السلام فهو لم يقله، ولم يقل له والذى لقنهم به هو ابن الراوندى (¬1) ليعارض به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. والذى يقوى عدم صحته أن اليهود الذين وجدوا فى عصره صلى الله عليه وسلم لم يعارضوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فيه حجة لهم، ومعلوم أن اليهود أحرص الناس على المعارضة. قال الشيخ الشيرازى رحمه الله (¬2): « ... لو كان هذا أصلا لكان قد احتج به أحبار اليهود على النبى ¬

_ (¬1) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين الراوندى فيلسوف مجاهر بالإلحاد. وكان فى أول أمره من متكلمى المعتزلة وتوفى سنة 298 هـ وقيل غير ذلك. (وفيات الأعيان 1/ 78، وشذرات الذهب 2/ 235، والنجوم الزاهرة 3/ 175) (¬2) التبصرة فى أصول الفقه له 254.

قال ابن عبد الشكور رحمه الله:

صلى الله عليه وسلم ولما لم يقل هذا أحد من قدمائهم أنه ذكره دلّ على كذب ابتدعوه». ثانيا: أن لفظ التأبيد الذى اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصلح حجة لهم، لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته. من ذلك ما جاء فى البقرة التى أمروا بذبحها: «هذه سنة لكم أبدا» وما جاء فى القربان: «قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما» مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم. على رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد. ثالثا: أن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به فى التوراة يقضى عليهم لا محالة أن يصدقوه فى كل ما جاء به، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع السابقة جميعا حتى شريعة موسى عليه السلام الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان أخى موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعى» (¬1). أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه فى عموم دعوته فذلك هو التناقض والمكابرة (¬2). قال ابن عبد الشكور رحمه الله (¬3): «أجمع أهل الشرائع من المسلمين والنصارى (¬4) على جوازه عقلا، أى العقل يجوزه ولا يحيله خلافا لليهود إلا العيسوية وهم أصحاب أبى عيسى الأصفهانى، وهم اعترفوا بنبوة سيد العالم صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، لكن إلى العرب فقط وهم بنو إسماعيل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد فى مسنده 3/ 387. (¬2) مناهل العرفان 2/ 102. (¬3) فواتح الرحموت 2/ 55. (¬4) جنح النصارى فى هذا العصر إلى القول بأن النسخ محال عقلا وشرعا- كما تقول الشمعونية من اليهود- وتشيعوا له تشيعا ظهر فى حملاتهم المتكررة على الإسلام وفى طعنهم على هذا الدين القويم من طريق النسخ.

رابعا: شبهة مذهب العنانية:

لا إلى الأمم كافة، وهذا من غاية حماقتهم، لأن بعد اعتراف النبوة ولو إلى جماعة لزم اعتراف صدقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وامتناع الكذب عليه كما هو شأن الرسالة، وقد تواتر عنه عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام دعوى النبوة إلى الخلق كافة فوجب الصدق فيه». قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (¬1) وقال جل شأنه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (¬2) وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الناس كافة» (¬4). رابعا: شبهة مذهب العنانية: يلاحظ أن العنانية استدلوا على جواز النسخ عقلا بما استدل به المجوزون، واستدلوا على قولهم بعدم الوقوع شرعا بما استدل به العيسوية على عدم نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا فما قيل إبطالا لزعم العيسوية يقال هنا والله أعلم. خامسا: شبهة مذهب الشمعونية: سبق أن ذكرت أن الشمعونية وهى إحدى فرق اليهود الثلاث ترى أن النسخ محال عقلا وشرعا واستدلوا على الأول: بأن النسخ يترتب على فرض وقوعه محال وكل ما كان كذلك فهو محال. دليل الصغرى أولا: النسخ يترتب عليه إما البداء وإما العبث. وثانيا: النسخ يترتب عليه أن يكون الفعل الواحد حسنا وقبيحا وذلك جمع بين الضدين وهو محال. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية: 158. (¬2) سورة الأنبياء الآية: 107. (¬3) سورة سبأ الآية: 28. (¬4) الجامع الصغير للسيوطى 1/ 126.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى رحمه الله:

بيان ذلك: الأمر بالحكم المنسوخ يقتضى حسنه والنهى عنه بنزول الناسخ له يقتضى قبحه ومن هنا فقد اجتمع فى الفعل الواحد المنسوخ الحسن والقبح وهما ضدان والضدان محال اجتماعهما (¬1). وقد أجاب جمهور المسلمين عن الأول: بأنه لا بداء وقد تقدم عند ذكر الفرق بين النسخ والبداء ما فيه الكفاية. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى رحمه الله (¬2): « ... البداء أن يظهر له ما كان خفيّا ونحن لا نقول فيما ينسخ إنه ظهر له ما كان خافيا عليه. بل نقول إنه أمر به وهو عالم أنه يرفعه فى وقت النسخ، وإن لم يطلعنا عليه فلا يكون ذلك بداء. على أنه لو جاز أن يقال: إن ذلك بداء لجاز أن يقال إنه إذا خلق الخلق على صفة من الطفولية والصغر، ثم نقلهم إلى غير ذلك من الأحوال أن ذلك بداء، ولما بطل هذا فيما ذكرناه بطل فيما اختلفنا فيه». وقال الشيخ الشوكانى رحمه الله (¬3): « ... النسخ لا يستلزم البداء لا عقلا ولا شرعا، وقد جوزت الرافضة البداء عليه عز وجل لجواز النسخ وهذه مقالة توجب الكفر بمجردها». وكذلك لا عبث فإن لنا أن نقول: إنه عز وجل شرع الحكم لا لمصلحة ولا يلزم على ذلك عبث. لأن هذا إنما يقول به من يقول بالتحسين والتقبيح (¬4) العقليين، ونحن لم نقل بهما. كما أجاب الجمهور عن الثانى ¬

_ (¬1) التبصرة 253، وإرشاد الفحول 185، وأصول الشيخ زهير 3/ 52. (¬2) التبصرة فى أصول الفقه 253. (¬3) إرشاد الفحول 185. (¬4) حسن الشيء وقبحه يراد بهما ما يلائم الطبع أو ينافره كإنقاذ الغرقى واتهام الأبرياء. وكونهما صفة كمال أو نقص نحو العلم حسن والجهل قبيح، أو كونه موجبا للمدح أو الذم الشرعيين، والأولان عقليان إجماعا والثالث شرعى عندنا لا يعلم ولا يثبت إلا بالشرع، فالقبيح ما نهى الله تعالى عنه والحسن ما لم ينه عنه؟؟؟

قال الإمام الرازى رحمه الله:

بأن الحسن والقبح لم يجتمعا فى الفعل المنسوخ فى وقت واحد حتى يلزم التضاد. فالحسن كان فى وقت العمل بالفعل المنسوخ، والقبح كان فى وقت آخر. فالنهى تعلق بما لم يتعلق به الأمر، ومتى أمر الشارع بشيء ثم نسخه علمنا بأن الأمر كان إلى ذلك الوقت. ومن ثم فلا يكون النهى مما تعلق به الأمر. أضف إلى ذلك أن هذا الذى ذكرتموه لو كان دليلا على إبطال النسخ لوجب أن يجعل دليلا على إبطال التخصيص فيقال: إنه إذا أمر بقتال المشركين لا يجوز أن ينهى عن قتال أهل الذمة لأن الأمر بالقتل يدل على حسنه والنهى عنه يدل على قبحه، ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا، ولما لم يصلح أن يقال هذا فى إبطال التخصيص لم يصلح أن يقال مثله فى إبطال النسخ. قال الإمام الرازى رحمه الله (¬1): «لم لا يجوز أن يكون ذلك الفعل مصلحة فى وقت ومفسدة فى وقت آخر؟ فيأمر به فى الوقت الذى علم أنه مصلحة فيه وينهى عنه فى الوقت الذى علم أنه مفسدة فيه. كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال: أن أمراض زيد وفقره مصلحة له فى وقت، وصحته وغناه مصلحة له فى وقت آخر فيمرضه ويفقره حين يعلم أن ذلك مصلحة، ويغنيه ويصحه ¬

_ وعند المعتزلة هو عقلى لا يفتقر إلى ورود الشرائع. بل العقل يستقل بثبوته قبل الرسل وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار أو نظرا كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع أو مظهرة لما لا يعلمه العقل ضرورة ولا نظرا كصوم آخر يوم من رمضان وتحريم أول يوم من شوال. (شرح تنقيح الفصول للقرافى 88). (¬1) المحصول 1/ 452.

حين يعلم أن ذلك مصلحة. كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة ابنه وعبده- اليوم- والعنف مصلحته فى غد: فيأمر عبده بالرفق به فى اليوم وبالعنف به فى الغد». كما استدل الشمعونية على الثانى- المحال الشرعى- بأن الشرع لا يأتى بما يحيله العقل. وقد أبطل الجمهور هذا بأنه قد ثبت بالأدلة القاطعة أن النسخ جائز عقلا وأنه ليس محالا. هذا وبعد ذكر المذاهب فى النسخ يتضح لنا جليا ما يلى: أولا: مذهب الجمهور الذى يرى أن النسخ جائز عقلا وواقع شرعا هو الراجح لقوة الأدلة وسلامتها مما يعارضها. ثانيا: الخلاف بين أبى مسلم الأصفهانى والجمهور خلاف لفظى فقط، لأنه يرى ما يراه الجمهور من أن النسخ جائز عقلا، وأن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع، ولكن ما يسميه العلماء نسخا فى الشريعة الواحدة يسميه هو تخصيصا. ثالثا: أفكار النسخ عند فرق اليهود الثلاث ليست غاية، وإنما هى وسيلة لأن الغاية هى إنكار رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أعجزهم إدراك هذه الغاية فلا أقل من إنكار أنهم مطالبون بتصديقه واتباعه فيما جاء به صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فقد أنكروا جواز النسخ عقلا ووقوعه شرعا ليصلوا من هذا الإنكار إلى غاية حرصوا على تحقيقها. هى بقاء دينهم إلى جانب الإسلام بحجة أن شريعة ما لا تنسخ بشريعة وأن حكما فى شريعة لا ينسخ بحكم فى شريعة أخرى بعدها. هذا: وما قاله الجمهور ردا ودحضا لمزاعمهم فيه الكفاية والله أعلم.

الفصل الثانى فى أنواع النسخ

الفصل الثانى فى أنواع النسخ وفيه مباحث. المبحث الأول: فى نسخ القرآن بالقرآن. المبحث الثانى: فى نسخ القرآن بالسنة. المبحث الثالث: فى نسخ السنة بالقرآن. المبحث الرابع: فى نسخ السنة بالسنة.

المبحث الأول فى نسخ القرآن بالقرآن

بعد الانتهاء من بيان مذاهب العلماء فى قضية النسخ يقتضى المقام ويستدعى ذكر أنواع النسخ فى الشريعة الإسلامية تتميما للفائدة فأقول وبالله التوفيق: النسخ فى الشريعة الإسلامية قد يأتى به القرآن الكريم وقد تأتى به السنة المطهرة، وكذلك المنسوخ قد يرد فى القرآن الكريم وقد يرد فى السنة وعليه فالأقسام أربعة سأتناولها بمشيئة الله تعالى فى المباحث التالية: المبحث الأول فى نسخ القرآن بالقرآن 1 - نسخ القرآن بالقرآن: أى نسخ بعض القرآن ببعضه لأن القرآن جميعه لا يجوز نسخه، لأنه من حيث لفظه معجزة مستمرة على التأبيد، ومن حيث اشتماله على أحكام الشريعة ذاتا أو استدلالا كحجية السنة والإجماع، والقياس يكون رفعه رفعا لتلك الشريعة ورفع الشريعة كلها يتنافى مع كونها آخر الشرائع والناس لا يتركون بغير شريعة. وهذا القسم يتنوع إلى ما يلى: (أ) نسخ التلاوة والحكم معا: وقد أجمع الجمهور من المسلمين عليه ما عدا الإمام أبا مسلم الأصفهانى رضى الله عنه. قال أبو إسحاق الشيرازى رحمه الله (¬1): « ... ويجوز- النسخ- فى الرسم والحكم كتحريم الرضاع كان بعشر رضعات وكان مما يتلى فنسخ الرسم والحكم معا». ¬

_ (¬1) اللمع 32.

وقال الآمدى رحمه الله:

وقال الآمدى رحمه الله (¬1): «اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخها معا ... ثم قال: أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس وليس فى المصحف عشر رضعات محرمات ولا حكمها فهما منسوخان». وفى رواية- وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (¬2) -، وهذا الحديث صحيح وإذا كان موقوفا على السيدة عائشة رضى الله عنها فإن له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال بالرأى. بل لا بدّ فيه من توقيف. وقد تكلم العلماء فى قولها- وهن فيما يقرأ من القرآن- فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك. فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفى وبعض الناس يقرؤها. وقال أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه: نزلت ثم رفعت. وقال مكى (¬3): هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضا غير متلو ولا أعلم له نظيرا. قال الشيخ محمد عيد المحلاوى رحمه الله (¬4): «ما يكون منسوخ التلاوة والحكم معا وهو ما نسخ فى حياته صلى الله عليه وسلم من القرآن بالإنساء، أى الرفع عن القلوب، كما روى ¬

_ (¬1) الإحكام 3/ 129. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الرضاع 2/ 616. (¬3) الاتقان 3/ 71. ومكى بن حموش بن محمد القيسى المقرئ صاحب كتاب الرعاية فى تجويد القرآن توفى بقرطبة سنة 437 هـ- وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 120 - (¬4) تسهيل الوصول له 136.

أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة فجاز ذلك فى حياته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (¬1) ولم يجز ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬2) وقد يرفع الحكم والتلاوة بدليل شرعى فيكون نسخا، وبدون دليل شرعى فلا يسمى نسخا». هذا وللإمام الحنفى شمس الأئمة السرخسى كلام طيب لا بأس بإيراده هنا تتميما للفائدة. يقول رحمه الله (¬3): « ... وله طريقان: إما صرف الله تعالى عنها القلوب، وإما موت من يحفظها من العلماء لا إلى خلف. ثم هذا النوع من النسخ فى القرآن كان جائزا فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فالاستثناء دليل على جواز ذلك، وقال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها (¬4) وقال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (¬5) فأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز هذا النوع من النسخ فى القرآن عند المسلمين، وقال بعض الملحدين ممن يتستر بإظهار الإسلام، وهو قاصد إلى إفساده: هذا جائز بعد وفاته أيضا، واستدل فى: ذلك بما روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان يقرأ «لا ترغبوا ¬

_ (¬1) سورة الأعلى آيتا: 6، 7. (¬2) سورة الحجر الآية: 9. (¬3) أصول السرخسى 2/ 78. (¬4) سورة البقرة الآية: 106. (¬5) سورة الإسراء الآية: 86.

عن آبائكم فإنه كفر بكم» وأنس رضى الله عنه كان يقول: قرأنا فى القرآن «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا» وقال عمر رضى الله عنه- قرأنا آية الرجم فى كتاب الله ووعيناها (¬1). وقال أبىّ بن كعب رضى الله عنه: إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة أو أطول منها. والشافعى رضى الله عنه لا يظن به موافقة هؤلاء فى هذا القول، ولكنه استدل بما هو قريب من هذا فى عدد الرضعات. ثم قال رحمه الله: «والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬2) ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه، فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا. فالغفلة والنسيان متوهم مناوبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه الله عز وجل، ولأنه لا يخلو شىء من أوقات بقاء الخلق فى الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحى فيما ابتلوا به من أداء الأمانة التى حملوها، إذ العقل لا يوجب ذلك، وليس به كفاية بوجه من الوجوه، وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحى ينزل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو جوزنا هذا فى بعض ما أوحى إليه لوجب القول بتجويز ذلك فى جميعه فيؤدى إلى القول بأن لا يبقى شىء مما ثبت بالوحى بين الناس فى حال بقاء التكليف، وأى قول أقبح من هذا؟ ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما فى أيدينا اليوم أو كله مخالف لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نسخ الله ذلك بعده وألف بين قلوب الناس على أن ¬

_ (¬1) سيأتى- إن شاء الله- قريبا أن ما روى عن أنس وعمر رضى الله عنهما مما نسخ تلاوته دون حكمه. (¬2) سورة الحجر الآية: 9.

ألهمهم ما هو خلاف شريعته، فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر الله تعالى أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبه يتبين أنه لا يجوز نسخ شىء منه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بطريق الاندراس (¬1)، وذهاب حفظه من قلوب العباد، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصح شىء منها ويحمل قول من قال فى آية الرجم (¬2) إنه فى كتاب الله، أى فى حكم الله تعالى كما قال تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (¬3) أى حكم الله عليكم، وحديث عائشة لا يكاد يصح لأنه قال فى ذلك الحديث، وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل داجن (¬4) البيت فأكله ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته فى صحيفة أخرى فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث». هذا ما قاله شمس الأئمة رحمه الله، ويمكن أن يلخص فى النقاط التالية: الأولى: يجوز نسخ التلاوة والحكم معا فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثانية: لا يجوز النسخ مطلقا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد وافق الإمام الجمهور فى هاتين النقطتين. ¬

_ (¬1) درس الأثر يدرس دروسا ودرسته الريح تدرسه درسا أى محته- لسان العرب 2/ 1359 - (¬2) نص الآية هو: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله- تفسير آيات الأحكام تنقيح وتصحيح الشيخ السائس 3/ 105 - . (¬3) سورة النساء 24. (¬4) الداجن يطلق على الشاة التى تعلقها الناس فى المنازل وقد يطلق على غير الشاء من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها- لسان العرب 2/ 1131 - .

قال ابن العربى المالكى رحمه الله:

الثالثة: يرى الإمام تمشيا مع مذهبه عدم ثبوت حديث عائشة رضى الله عنها وما على شاكلته، فيقدمون والمالكية مطلق القرآن عليه. قال ابن العربى المالكى رحمه الله (¬1): «ورأى مالك وأبو حنيفة الأخذ بمطلق القرآن وهو الصحيح لأنه عمل بعموم القرآن، وتعلق به وقد قوى ذلك بأنه من باب التحريم فى الأبضاع والحوطة على الفروج فقد وجب القول به لمن يرى العموم ومن لا يراه». ثم قال رحمه الله: فإذا مصّ لبنها وحصل فى جوفه فهى مرضعة وهى أمه وهى داخلة بالآية بلا مرية (¬2). وجاء فى متن القدورى (¬3): قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل فى مدة الرضاع تعلق به التحريم. هذا ما قاله السادة الماليكة والحنفية، والحق أنه قد اضطربت أقوالهم فى ضبط الرضعة وحقيقتها اضطرابا كثيرا، ولم يرجع إلى دليل ويجاب عما ذكروه من أن الآية وردت مطلقة بأن المذكور فى الآية مجمل بيّنه الشارع بالعدد وضبطه به. وعليه فالقول بأن حديث عائشة ليس بقرآن، لأنه لا يثبت بخبر الآحاد ولا هو حديث، لأنها لم تروه حديثا مردود بأنها وإن لم تثبت قرآنيته ويجرى عليه حكم ألفاظ القرآن فقد روته عن النبى صلى الله عليه وسلم، فله حكم الحديث فى العمل به وقد عمل بمثل ذلك العلماء فعمل به الإمامان الشافعى وأحمد رضى الله عنهما (¬4) فى هذا الموضع، ¬

_ (¬1) أحكام القرآن له 1/ 374. (¬2) المرية بالكسر والضم: الشك والجدل- لسان العرب 5/ 4189 - (¬3) الشهاب 2/ 100. (¬4) الأم 5/ 30 ومغنى المحتاج 3/ 417، والمغنى لابن قدامة 7/ 536.

(ب) نسخ التلاوة فقط دون الحكم:

وعمل به الهادوية والحنفية فى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه فى صيام الكفارة ثلاثة أيام متتابعات وعمل الإمام مالك رضى الله عنه فى فرض الأخ من الأم (¬1) بقراءة أبى رضى الله عنه- وله أخ أو أخت من أم- والناس كلهم احتجوا بهذه القراءة (¬2)، والله أعلم. (ب) نسخ التلاوة فقط دون الحكم: ما نسخ تلاوته فقط دون حكمه يعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول. قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله (¬3): «يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس. لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان، وكل ما كان كذلك فإنه غير مستبعد فى العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر». ومن الأمثلة التى ذكرها العلماء لهذا النوع ما يلى: 1 - روى عن أبى بن كعب رضى الله عنه أنه قال (¬4): «كانت سورة الأحزاب توازى سورة النور فكان فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن هذه الآية منسوخة التلاوة دون الحكم. لكن ما هى الفائدة فى ذكر الشيخ والشيخة؟ وهلا قال: المحصن والمحصنة؟ والحق أن هذا من البديع فى المبالغة وهو أن يعبر عن الجنس فى باب الذم بالأنقص فالأنقص وفى باب المدح بالأكثر والأعلى فيقال: «لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده» والمراد: يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى ما يسرق وقد يبالغ فيذكر ما لا تقطع به كما جاء فى الحديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده» (¬5) ومعلوم أن اليد لا تقطع فى البيضة. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير 3/ 584. (¬2) سبل السلام 3/ 1157. (¬3) المحصول 1/ 482. (¬4) أخرجه الدارمى فى سننه 2/ 179. (¬5) أخرجه البخارى فى صحيحه 4/ 172.

قال الشوكانى رحمه الله:

قال بدر الدين الزركشى رحمه الله (¬1): وتأويل من أوّله ببيضة الحرب تأباه الفصاحة. 2 - جاء فى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه فى قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا وقنت يدعو على قاتليهم. قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع «أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا» (¬2). قال الشوكانى رحمه الله (¬3): « .. ما نسخ رسمه لا حكمه ولا يعلم الناسخ له، وذلك كما ثبت فى الصحيح (¬4) «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» فإن هذا كان قرآنا ثم نسخ رسمه ... ثم قال: «وكما ثبت فى الصحيح أيضا أنه نزل فى القرآن حكاية عن أهل بئر معونة أنهم قالوا: بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا». هذا وقد أنكر بعض المعتزلة (¬5) هذا النوع من النسخ واستندوا إلى شبهتين هما: الأولى: الآية دليل على الحكم. فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم وفى ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف. والحق أن هذه الشبهة إنما تقوم لها قائمة فى حالة ما إذا لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة، وعلى إبقاء الحكم. أما وقد نصب الدليل على نسخ ¬

_ (¬1) البرهان له 2/ 36. (¬2) صحيح البخارى 3/ 28، 29. (¬3) إرشاد الفحول 190. (¬4) أخرجه الشيخان والترمذى وأبو عوانة وغيرهم بألفاظ متقاربة- المقاصد الحسنة 347، 348. (¬5) كشف الأسرار عن أصول البزدودى 3/ 189، ومناهل العرفان 2/ 114.

التلاوة وحدها وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره كما فى رجم الزناة المحصنين فلا تلبيس من الشارع على عبده حينئذ. الثانية: إن نسخ التلاوة فقط دون الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم لأنه من التصرفات التى لا تعقل لها فائدة. وتدفع هذه الشبهة بجوابين هما: الأول: أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الفائدة حتى يكون عبثا كما تقولون. بل فيه فائدة عظيمة هى حصر القرآن فى دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه، وذلك سور محكم يحمى القرآن من أيدى المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص، لأن الكلام إذا شاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف ويقابل بالإنكار، ومن هنا يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1). الثانى: لو سلمنا عدم العلم بالحكمة والفائدة فى هذا النوع من النسخ فهو لا يصلح حجة على خلوّ هذا النوع من الفائدة، لأن عدم العلم بالشىء لا يصلح أن يكون حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم؟ وهل يشك عاقل فى أن كل ما يصدر عن الله تعالى يصدر عن حكمة سامية وإن كنا لا نعلمها؟ قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬2). أما ترى رب البيت وهو يأمر أولاده الصغار بما لا يدركون له فائدة لنقص عقولهم على حين أنه فى الواقع مفيد، وهم يأتمرون بأمره، وإن ¬

_ (¬1) سورة الحجر الآية: 9. (¬2) سورة الإسراء الآية: 85.

قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله:

كانوا لا يدركون فائدته، كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفى عليهم من أسرار تشريعه، وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬1). قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬2): ما نسخ تلاوته دون حكمه وقد أورد بعضهم فيه سؤالا وهو: ما الحكمة فى رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا بقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون (¬3): بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة فى المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال (¬4) لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شىء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طريق الوحي. اه. (ج) نسخ الحكم فقط دون التلاوة: والحق أن هذا النوع من النسخ هو الذى ألفت فيه الكتب الكثيرة واختلف فيه العلماء ما بين مجيز له ومانع، ومكثر له ومقل. وقد رأى المجيزون لهذا الضرب أن هناك حكما وراء هذا النوع منها (¬5): 1 - أن القرآن الكريم كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به، يتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة. 2 - أن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة. ¬

_ (¬1) سورة الروم الآية: 27. (¬2) الإتقان 3/ 81. (¬3) هو كتاب فنون الأفنان فى عجائب علوم القرآن لابن الجوزى ومنه نسخة غير كاملة فى المكتبة التيمورية. (¬4) الاستفصال هو طلب البيان- لسان العرب 4/ 3424 - . (¬5) البرهان فى علوم القرآن 2/ 39.

قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله:

أما المانعون (¬1) لهذا الضرب من النسخ فيقولون لا يمكن أن توجد فى القرآن الكريم آيات معطلة الأحكام بقيت فى المصحف للذكرى والتاريخ، تقرأ التماسا لأجر التلاوة فحسب وينظر إليها كما ينظر إلى التحف الثمينة فى دور الآثار. غاية ما يرجى من المحافظة عليها إثبات المرحلة التى أدتها فى الماضى أما الحاضر والمستقبل فلا شأن لها بهما. قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬2): ... إن الذى أورده المكثرون أقسام: قسم ليس من النسخ فى شىء ولا من التخصيص ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (¬3) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ (¬4) ونحو ذلك قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق أما الأولى فإنها خبر فى معرض الثناء عليهم بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل، وبالإنفاق فى الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة، وليس فى الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة، والآية الثانية يصلح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك (¬5). وكذا قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (¬6) قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة. وقوله تعالى فى سورة البقرة: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (¬7) ¬

_ (¬1) نظرات فى القرآن للداعية الإسلامى الكبير فضيلة الشيخ محمد الغزالى 236. (¬2) الاتقان 3/ 71. (¬3) سورة البقرة الآية: 3. (¬4) سورة المنافقون الآية: 10. (¬5) تفسير ابن كثير 8/ 160، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة 11. (¬6) سورة التين الآية: 8. (¬7) سورة البقرة الآية: 83.

عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف، وقد غلّطه ابن الحصار (¬1) بأن الآية حكاية عما أخذه على بنى إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه (¬2). وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربى (¬3) بتحريره فأجاد كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (¬4) وقوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا (¬5) ¬

_ (¬1) هو على بن محمد بن إبراهيم الخزرجى. له مؤلفات منها أصول الفقه، والناسخ والمنسوخ، والبيان فى تنقيح البرهان. توفى سنة 611 هـ- التكملة لابن أبار 686 ط: عزت العطار سنة 1955 م-. (¬2) قال هبة الله بن سلامة رحمه الله- الناسخ والمنسوخ 11، 12 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فيها قولان: قال عطاء بن أبى رباح وأبو جعفر محمد بن الحسن بن على بن أبى طالب رضوان الله عليهم أجمعين هى محكمة، واختلفا بعد ما اجتمعا على إحكامها. وقال محمد بن على بن الحسن عليهم السلام: معنى قوله: (وقولوا للنّاس حسنا) أى قولوا لهم محمد رسول الله. وقال عطاء بن أبى رباح وقولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم. وقال ابن جريج قلت لعطاء إن مجلسك هذا يحضره البر والفاجر أفتأجزنى أن أغلظ فيه على الفاجر؟ فقال: لا. ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وقال جماعة هى منسوخة وناسخها عندهم قوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية [التوبة: 5]. (¬3) لعله أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربى المالكى المتوفى سنة 543 هـ- طبقات المفسرين للسيوطى 105 - . (¬4) سورة العصر آيتا: 2، 3. (¬5) سورة الشعراء آيات: 224 - 227.

وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ (¬1). وغير ذلك من الآيات التى خصت باستثناء أو غاية، وقد أخطأ من أدخلها فى المنسوخ (¬2). ومنه قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (¬3) قيل: إنه نسخ بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬4). وإنما هو مخصوص به (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 109. (¬2) ذكر الجصاص رضى الله عنه أن ابن عباس رضى الله عنهما من القائلين بنسخها- أحكام القرآن له 1/ 60 - كما ذكر ابن سلامة رحمه الله أنها منسوخة وكذا القرطبى فى تفسيره- الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 12، وتفسير القرطبى 1/ 460 - . (¬3) سورة البقرة الآية: 221. (¬4) سورة المائدة الآية: 5. (¬5) قال بعض العلماء: حرم الله نكاح المشركات فى سورة البقرة ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب فأجلهن فى سورة المائدة وروى هذا القول عن ابن عباس رضى الله عنهما وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثورى وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعى. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم فى كل كافرة، والمراد بها الخصوص فى الكتابيات وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول العموم قط الكتابيات وهذا أحد قولى الشافعى رحمه الله. وعلى القول الأول يتناولهن العموم ثم نسخت آية المائدة بعض العموم، وهذا مذهب مالك رحمه الله ذكره ابن حبيب قال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربى: ذهب قوم فجعلوا الآية التى فى البقرة هى الناسخة والتى فى المائدة هى المنسوخة فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أن غير كتابية. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد.

وقسم رفع ما كان عليه الأمر فى الجاهلية أو فى شرائع من قبلنا، أو فى أول الإسلام ولم ينزل فى القرآن كإبطال نكاح نساء الآباء ومشروعية القصاص والدية وحصر الطلاق فى الثلاث. وهذا إدخاله فى قسم النسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب وهو الذى رجحه مكى وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوعد فى الناسخ لعدّ جميع القرآن منه. إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار، وأهل الكتاب. قالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية. اه. وهذا الذى قاله الجلال السيوطى رحمه الله وحكاه عن مكى رحمه الله كلام طيب للغاية، لأن هناك من العلماء من توسع فى دائرة النسخ، وأدخلوا فيه ما ليس منه بناء على شبه واهية ويظهر، والله أعلم أن منشأ غلط أولئك المتوسعين فى دائرة النسخ ما يلى: 1 - نسيانهم أن النسخ عبارة عن رفع حكم شرعى بدليل شرعى، وما قالوه من إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح نساء الآباء ونحوه، فإن الإسلام هنا لم يرفع حكما شرعيّا وإنما رفع البراءة الأصلية، ومعلوم أن رفع البراءة لا يسمى نسخا. 2 - اشتباه التخصيص عندهم بالنسخ كالآيات التى خصصت باستثناء أو غاية. 3 - ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ. وعلى هذا عدوا الآيات التى وردت فى الحث على الصبر، وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة. بل هى من الآيات التى دارت أحكامها على أسباب، فالله عز وجل ¬

_ وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التى فى سورة المائدة لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل فكيف ينسخ الأول الآخر؟. - أحكام القرآن للجصاص 1/ 332، 333، وتفسير القرطبى 1/ 875، 876 -

قال ابن العربى المالكى رحمه الله:

أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال فى أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة، ثم أمرهم بالجهاد فى أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة. ومعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودا، وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا. 4 - اشتباه البيان عليهم بالنسخ فى مثل قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (¬1). فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (¬2). قال ابن العربى المالكى رحمه الله (¬3): ... أما من قال: إنه منسوخ فهو بعيد لا أرضاه لأن الله تعالى يقول: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وهو الجائز الحسن وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فكيف ينسخ الظلم المعروف؟ بل هو تأكيد له فى التجويز لأنه خارج عنه مغاير له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه، وهذا أبين من الإطناب. اه. 5 - توهمهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض فى الحقيقة والواقع، لكن حينما يعجزون عن الجمع والتوفيق بينهما يقولون بالنسخ. قال الإمام الشاطبى رحمه الله (¬4): الذى يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم فى الإطلاق أعم ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 6. (¬2) سورة النساء الآية: 10. (¬3) أحكام القرآن له 1/ 325، ومناهل العرفان 2/ 150، 151. (¬4) الموافقات 3/ 108.

الآية الأولى:

منه فى كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك فى معنى واحد، وهو أن النسخ فى الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد فى التكليف، وإنما المراد ما جىء به آخرا فالأول غير معمول به والثانى هو المعمول به. وهذا المعنى جار فى تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا إعمال له فى إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضى شمول الحكم لجميع ما يتناول اللفظ. فما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص (¬1) وبقى للسائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ فى جملة هذه المعانى لرجوعها إلى شىء واحد. اه. هذا وقد ذكر العلامة جلال الدين السيوطى الآيات التى قيل عنها إنها منسوخة الحكم فقط دون التلاوة وها أنا ذا أذكرها على حسب ترتيبها فى المصحف وأبين بحمد الله موقف العلماء تجاه القول بإحكامها أو نسخها وسيتضح لنا جليا أنها فى واد والنسخ فى واد آخر. الآية الأولى: قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬2) ¬

_ (¬1) أى أهمل منه ما دل الخاص على إهماله وهو ما عدا مدلول الخاص. (¬2) سورة البقرة الآية: 115.

وقال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (¬1). وجاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، لأن الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام فى الصلاة ما دامت المشارق والمغارب كلها لله، بينما تفيد الآية الثانية عدم جواز استقبال غير المسجد الحرام فى الصلاة، وعليه فتكون الآية الثانية ناسخة للأولى. وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة، وإنما هى محكمة وهو الراجح، لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (¬2). إذن فهى متأخرة فى النزول عن آية التحويل، وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ. وقد ذكر العلامة ابن العربى رحمه الله (¬3) سبعة أقوال فى سبب نزول الآية الأولى هى: الأول: أنها نزلت فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم قبل بيت المقدس، ثم عاد فصلى إلى الكعبة فاعترضت عليه اليهود، فأنزلها الله تعالى له كرامة وعليهم حجة. قاله ابن عباس رضى الله عنهما. الثانى: أنها نزلت فى تخيير النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليصلوا حيث شاءوا من النواحى قاله قتادة. الثالث: أنها نزلت فى صلاة التطوع يتوجه المصلى فى السفر حيث شاء فيها راكبا. قاله ابن عمر رضى الله عنهما. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 144. (¬2) سورة البقرة الآية: 142. (¬3) أحكام القرآن له 1/ 34.

وقال القرطبى رحمه الله:

الرابع: أنها نزلت فيمن صلى الفريضة إلى غير القبلة فى ليلة مظلمة. قاله عامر بن ربيعة. وقال القرطبى رحمه الله (¬1): قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة فى ليلة مظلمة أخرجه الترمذى عنه عن أبيه قال (¬2): كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فى ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة؟ فصلى كل واحد منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذلك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف فى الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا. قالوا: إذا صلى فى الغيم لغير القبلة، ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق رضى الله عنهم (¬3). الخامس: أنها نزلت فى النجاشى. آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم ولم يصل إلى قبلتنا. قاله قتادة. السادس: أنها نزلت فى الدعاء. وعلى هذا فلا تعارض لأن الآية الأولى محمولة على التوجه فى الدعاء. والثانية محمولة على التوجه فى الصلاة. ومن ثم فالجهة منفكة فلا تعارض لأن من شروط التعارض أن يرد النصان فى محل واحد (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبى 1/ 467. (¬2) سنن الترمذى 2/ 176 وحياله- بكسر الحاء المهملة وتخفيف الياء التحتية أى فى جهته وتلقاء وجهه. (¬3) المغنى 1/ 444. (¬4) أصول السرخسى 1/ 12.

الآية الثانية:

السابع: أن معناها أينما كنتم وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب فلكم قبلة واحدة تستقبلونها. هذه أقوال سبعة ذكرها ابن العربى فى سبب نزول الآية الأولى، ولا شك أن الآية تحتملها جميعا. وقول واحد منها يقول صاحبه بالنسخ بينما بقية الأقوال تحاول الجمع والتوفيق بين الآيتين، لأن النسخ يترتب عليه إبطال أحد النصين، فالأفضل والأكمل هو عدم القول بالنسخ، لأن الله عز وجل أنزل النصين للعمل بهما لا للعمل بأحدهما، وهجر الآخر، ومما قرره جمهور العلماء (¬1) - غير الحنفية- أنه عند وجود شبهة تعارض بين دليلين، فالواجب هو الجمع والتوفيق بينهما بأى نوع من أنواع الجمع، حيث إن العمل بهما ولو من وجه من الوجوه أولى من إسقاط أحدهما بالكلية، ولا فرق حينئذ بين أن يكون الدليلان المتعارضان عامين أو خاصين أو أحدها عامّا والآخر خاصّا. الآية الثانية: قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (¬2). وقد اختلف العلماء فى حكم هذه الآية أهي منسوخة أم محكمة لم تنسخ؟ ذهب الجمهور إلى القول بأنها منسوخة قال الإمام الشافعى رضى الله عنه ما معناه: إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث، فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع الميراث، واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا، وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا وصية لوارث» (¬3) ¬

_ (¬1) الاعتبار للحازمى 25. وشرح تنقيح الفصول 421، وشرح الجلال المحلى على متن جمع الجوامع 2/ 361. وغاية الوصول 141. وحاشية النفحات على شرح الورقات 115. والتمهيد 155. ولطائف الإشارات 43. (¬2) سورة البقرة الآية: 180. (¬3) أخرجه ابن ماجة فى سننه 2/ 905.

وقال ابن سلامة رحمه الله:

وهو وإن كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول، وأجمعت العامة على القول به. وقال ابن سلامة رحمه الله (¬1): نسخت بالكتاب والسنة. فالكتاب قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ (¬2). الآية وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث». اه. وقال ابن العربى رحمه الله (¬3): والصحيح نسخها وأنها مستحبة إلا فيما يجب على المكلف بيانه، أو الخروج بأداء عنه وعليه يدل اللفظ بظاهره اه. وقد اختلف القائلون بالنسخ (¬4): فذهب طاوس وقوم معه إلى أن الوصية للوالدين والأقربين نسخت وبقيت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز. وذهب غيرهم إلى أنها منسوخة فى حق من يرث وحق من لا يرث (¬5). وحجة الأولين: أن الوصية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين، كانت واجبة بالآية فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب، ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» (¬6). ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ له 16. (¬2) سورة النساء الآية: 11. (¬3) أحكام القرآن له 1/ 71. (¬4) تفسير آيات الأحكام 1/ 55، 56. (¬5) قال ابن كثير رحمه الله- تفسير القرآن له 1/ 302 - «على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا فى اصطلاحنا المتأخر لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث فرفع حكم من يرث بما عين له وبقى الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم إن الوصاية فى ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت». (¬6) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الوصية 2/ 11.

وحجة الآخرين: ما رواه الشافعى (¬1) عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكم فى ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت فجزأهم النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء. فأعتق اثنين وأرق أربعة. فلو كانت الوصية واجبة للأقربين وإذا جعلت فى غيرهم بطلت لما أجازها النبى صلى الله عليه وسلم فى العبدين، لأن عتقهما وصية لهما وهما غير قريبين. هذا ما قاله الجمهور تجاه هذه الآية على حين ذهب إلى القول بأنها محكمة (¬2) الحسن البصرى والعلاء بن زيد ومسلم بن يسار وروى عن طاوس. وقد ذكر الفخر الرازى (¬3) فى تفسيره أن أبا مسلم الأصفهانى يرى أن الآية محكمة غير منسوخة وقرر مذهبه بوجوه منها: أولا: لا يوجد تعارض أو اختلاف بين آية الوصية وآية المواريث. بل آية الوصية مقررة لها، والمعنى كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين فى قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إذ كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم. ثانيا: لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء، وثبوت الميراث. فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى. فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. ثالثا: لو قدر حصول المنافاة بين آية الميراث، وآية الوصية لكان يمكن ¬

_ (¬1) إختلاف الحديث له بهامش الأم 7/ 270، 271. (¬2) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 16. (¬3) التفسير الكبير 5/ 61.

جعل آية الميراث مخصصة لآية الوصية، لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكل قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث فبقيت آية الوصية مرادا بها القريب الذى لا يرث إما لمانع من الإرث، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوى الأرحام. والحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم وغيره هو الذى تستريح النفس إليه، لأن آية المواريث لم تبين إلغاء ما دلت عليه آية الوصية، وليس هناك تناقض بين الحكمين حتى نضطر إلى إبطال إحدى الآيتين بالأخرى. وأما الحديث فإنما يحتج به من يقول إن النص القطعى ينسخ بالظنى، ومن هنا فيجب التوفيق بين الآيتين كما ذكر أبو مسلم وغيره، وقد ذهب الإمام الطبرى فى تفسيره إلى قول أبى مسلم فقال رحمه الله (¬1) فى تفسير الآية: «فرض عليكم أيها الموصون إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ والخير والمال. لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الذين لا يرثون بالمعروف، وهو الذى أذن الله فيه وأجازه فى الوصية ما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد الموصى ظلم ورثته حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعنى بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقّا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به». فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذى المال أن يوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون؟. قيل: نعم وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من العلماء منهم الضحاك، فقد كان يقول: من مات ولم يوص لذى قرابته فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم مسروق فقد حضر رجلا فوصى بأشياء لا تنبغى فقال له مسروق: إن الله قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من ¬

_ (¬1) جامع البيان فى تفسير القرآن للطبرى 2/ 68.

الآية الثالثة:

يرغب برأيه عن رأى الله يضله أوص لذى قرابتك ممن لا يرثك ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. الآية الثالثة: قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (¬1) قرأ الجمهور (¬2) بكسر الطاء وسكون الياء وأصله يطوقونه. نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ ابن عباس يطوقونه بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقرأ يطوقونه بالواو بدل الياء، وعلى قراءة الجمهور يفيد ظاهر الآية أن القادر على الصوم له أن يترك الصوم إلى الفدية ولا يلزمه قضاء. وقد ذهب أكثر العلماء إلى القول بأن هذا الجزء من الآية منسوخ بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (¬3) حيث إن الصيام قد شرع ابتداء على التخيير، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكينا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ روى الشيخان (¬4) عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام، ومن شاء أفطر، ويفتدى حتى نزلت هذه الآية التى بعدها فنسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وهذا مروى عن ابن مسعود (¬5) ومعاذ وابن عمر وغيرهم رضى الله عنهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 184. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 662، 663. (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) صحيح البخارى 1/ 333، وصحيح مسلم 1/ 462. (¬5) روائع البيان 1/ 208.

قال أبو بكر الجصاص رحمه الله:

ويرى آخرون أن الآية محكمة وغير منسوخة، وأنها نزلت فى الشيخ الفانى والمرأة العجوز، والمريض الذى يجهده الصوم، وهذا مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما. وروى عن عطاء (¬1) أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقرأ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هى للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة، ويكون معنى قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أى وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة، ويؤيده قراءة «يطوّقونه» أى يكلفونه مع المشقة. قال أبو بكر الجصاص رحمه الله (¬2): .... وقالت الفرقة الثانية هى غير منسوخة، بل هى ثابتة على المريض والمسافر يفطران ويقضيان، وعليها الفدية مع القضاء، وكان ابن عباس وعائشة وعكرمة وسعيد بن المسيب قرءوها وعلى الّذين يطوقونه فاحتمل هذا اللفظ معانى منها: ما بينه ابن عباس أنه أراد الذين كانوا يطيقونه، ثم كبروا فعجزوا عن الصوم، فعليهم الإطعام. والمعنى الآخر، يكلفونه على مشقة فيه، وهم لا يطيقونه لصعوبته فعليهم الإطعام، ومعنى آخر وهو أن حكم التكليف يتعلق عليهم، وإن لم يكونوا مطيقين للصوم، فيقوم لهم الفدية مقام ما لحقهم من حكم تكليف الصوم. ألا ترى أن حكم تكليف الطهارة بالماء قائم على المتيمم، وإن لم يقدر عليه حتى أقيم التراب مقامه ولولا ذلك لما كان التيمم بدلا منه. وقال القرطبى رحمه الله (¬3): .... قلت فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ¬

_ (¬1) أخرجه النسائى فى سننه بلفظ قريب 4/ 190، 191. (¬2) أحكام القرآن له 1/ 176، 177. (¬3) تفسير القرطبى 1/ 665.

الآية الرابعة:

ليست بمنسوخة، وأنها محكمة فى حق من ذكر، والقول الأول صحيح أيضا إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه. وجاء فى تفسير آيات الأحكام (¬1) بعد أن ذكر القراءتين الأخيرتين: والآية على هاتين القراءتين لا نسخ فيها أصلا، فالناس ثلاثة أحوال: 1 - الأصحاء المقيمون ويلزمهم الصوم عينا فى رمضان. 2 - والمرضى والمسافرون ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر. 3 - وقوم لا يقدرون على الصوم وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون. وقد ذكر ابن كثير (¬2) فى تفسيره أن أنسا رضى الله عنه لما ضعف عن الصوم صنع جفنة (¬3) من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. هذا وما قاله ابن عباس رضى الله عنهما هو الذى تستريح النفس إليه، ولا داعى إلى القول بالنسخ ما دام الجمع بين الآيتين ممكنا. الآية الرابعة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (¬4) وقال جل شأنه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (4) وقد ذهب بعض العلماء (¬6) إلى القول بأن قوله: ¬

_ (¬1). 1/ 67. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 309. (¬3) الجفنة كالقصعة وجمعها جفان وحفنات بالتحريك- مختار الصحاح 106 - (¬4) سورة البقرة آيتا: 183، 187. (¬6) الإتقان 3/ 73.

الآية الخامسة:

كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الآية الأولى منسوخ بالآية الثانية. حيث إن التشبيه الوارد فى الآية الأولى يقتضى موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم، وقد نسخ ذلك بالآية الثانية. والحق أنه ليس فى الآية نسخ لأنه لا يوجد تعارض البتة بين الآيتين، والقول بأن من قبلنا كان الوطء والأكل محرما عليهم بعد النوم ليلة الصوم قول يحتاج إلى دليل ثابت. فلم لا يكون وجه الشبه هو وجوب الصوم فقط دون كيفيته؟ ولم لا يكون وجه الشبه هو المقدار فقط دون الكيفية؟ فالآيتان محكمتان ولا داعى إلى القول بإبطال واحدة منهما. الآية الخامسة: قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ (¬1) فقد ذهب الجمهور إلى القول بأن هذه الآية منسوخة، وأن قتال المشركين فى الأشهر الحرم مباح واختلفوا فى ناسخها: فقال الزهرى: نسخها قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (¬2) حيث إن هذه الآية الكريمة أفادت الإذن بقتال المشركين عموما، والعموم فى الأشخاص يستلزم العموم فى الأزمان. وقيل: نسخها غزو النبى صلى الله عليه وسلم ثقيفا فى الشهر الحرام. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 217. (¬2) سورة التوبة الآية: 36.

قال ابن العربى المالكى رحمه الله:

وقيل: إن النسخ وقع بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (¬1) فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة. والحق ما ذهب إليه عطاء بن أبى رباح من أن الآية محكمة لم يدخلها نسخ، لأن عموم الأشخاص فى آية وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً وعموم الأمكنة فى آية فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ لا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة، وإذن فلا تعارض ولا نسخ. وكلاهما غير مناف لحرمة القتال فى الشهر الحرام، لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان فى بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم، ويؤيد ذلك أن حرمة القتال فى الشهر الحرام لا تزال باقية، اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه، فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض كما دل عليه قول الله تعالى فى الآية نفسها: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ قال ابن العربى المالكى رحمه الله (¬2): كان عطاء يحلف أنها ثابتة، لأن الآيات التى بعدها عامة فى الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وقال القرطبى رحمه الله (¬3): وكان عطاء يقول: الآية محكمة ولا يجوز القتال فى الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التى وردت بعدها عامة فى الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق، وروى أبو الزبير عن جابر ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 5. (¬2) أحكام القرآن له 1/ 147. (¬3) تفسير القرطبى 1/ 851، 852.

الآية السادسة:

قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل فى الشهر الحرام إلا أن يغزى (¬1). الآية السادسة: قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (¬2) وقد ذهب أكثر العلماء إلى القول بأن هذه الآية منسوخة (¬3) بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬4) والناظر إلى الآيتين الكريمتين يجدهما مختلفتى الموضوع، الأمر الذى يتحتم معه القول بعدم وجود أدنى تعارض بينهما، ومن ثم فلا نسخ. فالآية الأولى تبين حقّا للمتوفى عنهن، ولذلك قال سبحانه وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ وهذا الحق بيّن بقوله تعالى: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ثم جعل لهن الحرية فى الخروج إن شئن فقال: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ والآية الثانية تبين واجبا عليهن وهو أن يتربصن أربعة أشهر وعشرا لا يتزوجن فى أثنائهما، فإذا انتهت كان لهن أن يتزوجن فلا تناقض بين الحكمين ومن هنا فلا داعي إلى القول بالنسخ. فالآية الثانية (¬5) تخبر عن واجب على المتوفى عنهن والثانية تخبر عن حق لهن. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد فى مسنده 3/ 334، 335. (¬2) سورة البقرة الآية: 240. (¬3) تفسير القرطبى 2/ 982، والاتقان 3/ 73. (¬4) سورة البقرة الآية: 234. (¬5) أصول الفقه للشيخ محمد الخضرى 252.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (¬1): ... هذا القول الذى عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور، حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة أشهر وعشر، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكن من السكنى فى بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك، ولهذا قال: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ أى يوصيكم الله بهن وصية كقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (¬2) وقال: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ (2) وقيل: إنما انتصب على معنى: فلتوصوا بهن وصية، وقرأ آخرون بالرفع (وصية) على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير، ولا يمنعن من ذلك لقوله تعالى: غَيْرَ إِخْراجٍ فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وهذا القول له اتجاه، وفى اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية، ورده آخرون منهم: الشيخ أبو عمر بن عبد البر. اه الآية السابعة: قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (¬4) قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬5): هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 1/ 438، 439. (¬2) سورة النساء آيتا: 11، 12. (¬4) سورة البقرة الآية: 284. (¬5) الإتقان 3/ 73.

وقال الشيخ القرطبى رحمه الله:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬1) وقال الشيخ القرطبى رحمه الله (¬2): اختلف الناس فى معنى قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ على أقوال خمسة: الأول: أنها منسوخة. قاله ابن عباس، وابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبى، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عبيدة، وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقى هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... وفى صحيح مسلم (¬3) عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: دخل قلوبهم منها شىء لم يدخل قلوبهم من شىء، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال: فألقى الله الإيمان فى قلوبهم فأنزل الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ... الآية. الثانى: قال ابن عباس وعكرمة والشعبى ومجاهد: إنها محكمة مخصوصة وهى فى معنى الشهادة التى نهى عن كتمها. ثم اعلم فى هذه الآية أن الكاتم لها المخفى ما فى نفسه محاسب. الثالث: أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين. قاله مجاهد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 286. (¬2) تفسير القرطبى 2/ 1229. (¬3) صحيح مسلم 1/ 65.

الرابع: أنها محكمة عامة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما علموا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت فى نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق. وقال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة. الخامس: رجع الطبرى (¬1) أن الآية محكمة غير منسوخة. قال ابن عطية: وهذا هو الصواب وذلك أن قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ معناه مما هو فى وسعكم وتحت كسبكم وذلك استصحاب المعتقد والفكر. فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبى صلى الله عليه وسلم، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هى ولا دفعها فى الوسع بل هى أمر غالب وليست مما يكتسب فكان فى هذا البيان فرجهم وكشف كربهم وباقى الآية محكمة لا نسخ فيها. ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. ثم قال القرطبى (¬2): وقيل: فى الكلام إضمار وتقييد. تقييده يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ. فالقول بالنسخ هنا ليس ظاهرا لأن الله عز وجل سيحاسب الناس على ما أظهروه من الأقوال والأفعال، وما أضمروه وهو سبحانه فى الوقت نفسه لا يكلفهم إلا ما فى وسعهم ولا يترتب على ذلك محال، لأن فى وسع الإنسان ألا يضمر شرّا كما فى وسعه بقية الأعمال التكليفية والله أعلم. ¬

_ (¬1) تفسير الطبرى 3/ 99. (¬2) تفسير القرطبى 2/ 1231

الآية الثامنة:

الآية الثامنة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (¬1) روى النحاس عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حق تقاته» أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر (¬2). ولما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (¬3) ونسخت هذه الآية. قال مقاتل: وليس فى آل عمران من المنسوخ شىء إلا هذه الآية. وقيل: إن الآية محكمة ليست منسوخة وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بيان لها والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. وهذا هو الحق والصواب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع هنا ممكن فهو أولى. وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لم تنسخ ولكن حَقَّ تُقاتِهِ أن يجاهد فى الله حق جهاده ولا تأخذكم فى الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. الآية التاسعة: قال تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (¬4) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 102. (¬2) أخرجه الحاكم فى المستدرك (¬3) سورة التغابن الآية: 16. (¬4) سورة النساء الآية: 8.

قال ابن العربى رحمه الله:

المراد بالقسمة (¬1): التركة بين الورثة. وأولوا القربى: من لا يرثون، لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوى الأرحام. وقد اختلف العلماء فى هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة؟ فذهب ابن عباس فى رواية عكرمة عنه وجمهور المفسرين إلى القول بأنها محكمة وليست منسوخة. وقد بين الله عز وجل بها أن من لم يستحق شيئا من الميراث، وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا، ولا يحرموا إن كان المال كثيرا والاعتذار إليهم إن كان عقارا (¬2) أو قليلا لا يقبل الرضخ (¬3). قال ابن العربى رحمه الله (¬4): الثانى: أنها محكمة والمعنى فيها الإرضاخ للقرابة الذين لا يرثون، إذا كان المال وافرا والاعتذار إليهم إن كان المال قليلا، ويكون هذا على الترتيب بيانا لتخصيص قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ (¬5) وأنه فى بعض الورثة غير معين، فيكون تخصيصا غير معين، ثم يتعين فى آية المواريث، وهذا ترتيب بديع لأنه عموم، ثم تخصيص ثم تعيين. وذهب ابن المسيب والضحاك وابن عباس فى رواية عطاء عنه إلى القول بأنها منسوخة بآية الموارث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (5) والرأى الأول القائل بأنها محكمة هو الأصح، فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. ¬

_ (¬1) تفسير آيات الأحكام 2/ 38. (¬2) العقار بالفتح مخففا الأرض والضياع والنخل- مختار الصحاح 445. (¬3) الرضخ هو العطاء- مختار الصحاح 245 - (¬4) أحكام القرآن 1/ 329. (¬5) سورة النساء آيتا: 7، 11.

قال ابن جبير: ضيع الناس هذه الآية. وقال الحسن: ولكن الناس شحوا. وفى البخارى (¬1) عن ابن عباس فى قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال: هى محكمة وليست بمنسوخة. وفى رواية قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها. هما واليان: وال يرث وذلك الذى يرزق، ووال لا يرث وذلك الذى يقول «بالمعروف» وقول: لا أملك لك أن أعطيك هذا، وقد اختلف العلماء فى ذلك الإعطاء أهو واجب أم مندوب؟ فمن ذهب إلى الوجوب تمسك بظاهر الأمر، وأوجب على الوارث الكبير وعلى ولى الصغير أن يرضخا لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب به نفسه. ومنهم من قال: على الوارث الكبير الدفع، وعلى ولى الصغير القول بالمعروف، بأن يعتذر إليهم ويعرفهم أن أصحاب المال صغار لا يقدرون ما عليهم من الحق وإن يكبروا فسيعرفون حقهم. وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة واحتجوا فى ذلك بما يلى (¬2): أولا: أنه لو كان فرضا لكان ذلك استحقاقا فى التركة، ومشاركة فى الميراث لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة وإفساد لوجه التكليف. فلو كان لهم حق لبينه الله كما بين سائر الحقوق. ¬

_ (¬1) صحيح البخارى 2/ 130. (¬2) تفسير القرطبى 2/ 1619، وأحكام القرآن لابن العربى 1/ 329، وتفسير آيات الأحكام 2/ 38.

الآية العاشرة:

ثانيا: أن المقصود من ذلك الصلة، ولو كان فرضا يستحقونه لتنازعوا منازعة القطعية. الآية العاشرة: قال تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (¬1) قال ابن سلامة وجلال الدين السيوطى رحمهما الله (¬2): إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ (¬3) والصواب أنها محكمة، لأن توريث مولى الموالاة قال به فقهاء العراق محتجين بهذه الآية. غاية الأمر أن رتبته متأخرة عن ذوى الأرحام، ومن ثم تكون كل من الآيتين مبينة حكما غير ما بينته الأخرى. فمن كان له ذو رحم فهو أولى بميراثه عملا بالآية الثانية، ومن لم يكن له ذو رحم وله مولى موالاة فهو الذى يرثه. فالإمام أبو حنيفة (¬4) وأبو يوسف ومحمد وزفر قالوا من أسلم على يدى رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له. وقال مالك وابن شبرمة والثورى والأوزاعى والشافعى (¬5): ميراثه للمسلمين. وقد احتج الحنفية بقوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وبالحديث. أما وجه الدلالة فى الآية: فهو أن قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يقتضى ظاهره نصيبا ثابتا لهم والنصرة والنصيحة والوصية ليست بنصيب ثابت، فتأويل الآية على النصيب ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 33. (¬2) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 37 والإتقان 3/ 74. (¬3) سورة الأنفال الآية: 75. (¬4) بدائع الصنائع 4/ 270 (¬5) المجموع 16/ 43، 44، والروضة الندية 2/ 155، 156.

الآية الحادية عشرة:

الثابت المسمى فى عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب من تأويل الآخرين. فقد عقلنا من ذلك أن لمولى الموالاة نصيبا من الميراث، وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ لم ينسخ هذا الحكم إنما حدث وارث آخر هو أولى من الموالاة كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ عن كونه من أهل الميراث إلا أن الابن أولى منه وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له. وأما الحديث فهو ما روى عن تميم الدارى أنه قال: يا رسول الله ما السنة فى الرجل يسلم على يدى الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته (¬1). فقوله: هو أولى الناس بمماته، يقتضى أن يكون أولاهم بميراثه، إذ ليس بعد الموت بينها ولاية إلا فى الميراث. على أن أبا مسلم الأصفهانى رحمه الله يرى أن المراد بالذين عقدت أيمانكم الأزواج والنكاح يسمى عقدا (¬2). عموما الرأى الصواب أنه ليس بين الآيتين أدنى تعارض، وهما محكمتان والله تعالى أعلم. الآية الحادية عشرة: قال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه الدارميّ فى سننه 2/ 377. (¬2) تفسير آيات الأحكام 2/ 94، 95. (¬3) سورة النساء الآية: 15.

قال ابن العربى رحمه الله:

وقال جل شأنه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (¬1) قال الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله (¬2): إن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية. وكذا روى عن عكرمة (¬3)، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء الخراسانى، وأبى صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك. وقالوا: كان الحكم فى ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حبست فى بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ثم نسخ ذلك بآية النور. وذهب ابن سلامة (¬4) رحمه الله إلى القول بأن الآية الأولى منسوخة بالسنة لا بالكتاب، فقد جاء فى الحديث: «خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام والثيب بالثيب الرجم» (¬5). والحق كما ذكر ابن العربى أنه لا يوجد نسخ، وأن هذه الآية المذكورة فى سورة النساء غير منسوخة. قال ابن العربى رحمه الله (¬6): اجتمعت الأمة على أن هذه الآية ليست منسوخة، لأن النسخ إنما يكون فى القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال، وأما إذا كان الحكم محدودا إلى غاية، ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ، لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله ولا اعتراض عليه. اه. ¬

_ (¬1) سورة النور الآية: 2. (¬2) الاتقان 3/ 74. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 204. (¬4) الناسخ والمنسوخ له 33. (¬5) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الحدود 2/ 48. (¬6) أحكام القرآن 1/ 354.

وقال الشيخ القرطبى رحمه الله:

وقال الشيخ القرطبى رحمه الله (¬1): اختلف العلماء، هل كان هذا السجن حدّا أو توعدا بالحد على قولين: أحدهما: أنه توعد بالحد. والثانى: أنه حد. قال ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدّا، بل أشد، غير أن ذلك الحكم كان محدودا إلى غاية، وهو الأذى فى الآية (¬2) الأخرى على اختلاف التأويلين فى أيهما قبل؟ وكلاهما محدود إلى غاية وهى قوله عليه الصلاة والسلام فى حديث عبادة بن الصامت: «خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وهذا نحو قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (¬3) فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه. هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين. فإن النسخ إنما يكون فى القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم. وقال الشيخ البيضاوى رحمه الله (¬4): « ... ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن ¬

_ (¬1) تفسير القرطبى 2/ 1654، 1655. (¬2) قال تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النساء: 16]. (¬3) سورة البقرة الآية: 187. (¬4) تفسير البيضاوى 106.

يجلدن، كيلا يجرى عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال، ولم يذكر الحد استغناء بقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي. وهناك من المفسرين من قال إنّ هذه الآية خاصة بالنساء التى عرف عنهن إتيان مواضع الريب، وبيوت الفسق، من غير أن يتحقق زناهن فهؤلاء يجازين إذا شهد عليهن أربعة رجال: بالحبس المؤبد فى البيوت بحيث لا يعطين حق الخروج من بيوتهن حتى الموت، أو أن يطلقهن أزواجهن وهو السبيل الذى يجعله الله لهن. وقال الشيخ أبو مسلم الأصفهانى رحمه الله (¬1) تعليقا على قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً قال رحمه الله: إن المراد باللاتى يأتين الفاحشة السحاقات، وباللذين يأتيانها اللوطيان. أما حكم الزنى فبين فى سورة النور، ويرى أن هذا أولى لوجوه: أولا: أنه يبقى كل آية على حكمها فلا ينسخ منها شىء. ثانيا: أن الآية الأولى خاصة بالنساء، والثانية خاصة بالذكور، فيعلم أنه أراد فاحشة تكون من النساء فى الأولى وهى السحاق، وفاحشة تكون من الذكور فى الثانية وهى اللواط، ولو أراد الزنى لذكر حكم الزانى والزانية فى آية واحدة كما فى سورة النور. ثالثا: أنه على هذا التفسير لا يكون فى الآيتين تكرار، أما على القول الأول (¬2) فتكون الآيتان فى الزنى فيفضى إلى تكرار الشيء فى الموضع الواحد مرتين. ¬

_ (¬1) تفسير الفخر الرازى 9/ 231، وتفسير آيات الأحكام 2/ 56. (¬2) هو القول القائل بالنسخ.

الآية الثانية عشرة:

الآية الثانية عشرة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ (¬1) قيل: إن قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بمقتضى عموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً والحق عدم النسخ وقد تقدم أن عموم الأشخاص، وكذا عموم الأمكنة لا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة. الآية الثالثة عشرة: قال تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (¬2) وقال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (¬3) قال مجاهد وسعيد إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والحق ما ذهب (¬4) الحسن البصرى والنخعى من أن الآية الأولى محكمة لم يدخلها نسخ، وأن الثانية متممة لها فالرسول صلى الله عليه وسلم مخيّر بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم، وأن يعرض عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم، وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية، فلا تعارض ولا اختلاف بين الآيتين. الآية الرابعة عشرة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (¬5) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 2. (¬2) سورة المائدة الآية: 42. (¬3) سورة المائدة الآية: 49. (¬4) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 41. (¬5) سورة المائدة الآية: 106.

قال القرطبى رحمه الله:

ذهب زيد بن اسلم والنخعى ومالك والشافعى وأبو حنيفة وغيرهم (¬1) من الفقهاء إلى القول بأن قوله تعالى: أو آخران من غيركم منسوخ بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (¬2) وقوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ (¬3) قالوا: إن شهادة الكفار سقطت، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم. وقال أبو حنيفة (¬4): تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين، والراجح أنه لا نسخ فى الآية، وأن شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة فى السفر إذا كانت وصية. قال القرطبى رحمه الله (¬5): وهو الأشبه بسياق الآية، وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل: أبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن قيس، وقيل ابن مسعود، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم. وعلى هذا فمعنى الآية أن الله عز وجل أخبر أن حكمه فى الشهادة على الموصى، إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين. فإن كان فى سفر، وهو الضرب فى الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدّلا، وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما. وقال الإمام أحمد (¬6) رضى الله عنه: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين فى السفر عند عدم المسلمين. فحمل هذه الآية على عدم وجود ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للإمام الشافعى 2/ 146. (¬2) سورة الطلاق الآية: 2. (¬3) سورة البقرة الآية: 282. (¬4) بدائع الصنائع للكاسانى 6/ 280، 281. (¬5) تفسير القرطبى 2/ 2346. (¬6) مطالب أولى النهى 6/ 610.

قال الشيخ الزرقانى رحمه الله:

مسلمين فى حالة السفر خير من القول بنسخها خاصة أن ثلاثة من الصحابة قالوا بذلك، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسيخ لا يصح فإن النسخ لا بدّ فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخى الناسخ، وما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا فإنه فى قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات، ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة فليس فيما قالوه ناسخ. قال الشيخ الزرقانى رحمه الله (¬1): الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين، وأراد أن يوصى فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين. لأن ظروف السفر ظروف دقيقة، قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها. فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر، وربما ضاعت الوصية. أما الآية الثانية فهى القاعدة العامة فى غير ظروف السفر. الآية الخامسة عشرة: قال تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ* الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (¬2) ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 2/ 161. (¬2) سورة الأنفال آيتا: 65 - 66.

فالنص فى هاتين الآيتين الكريمتين خبر، والغرض منه الإنشاء، فإن الله تعالى يقول فى هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا (¬1) وقد أراد أن يضع حدّا لهذا الأمر المطلق فإنه يوجب الثبات فى جميع الأحوال أيّا كان عدد المسلمين وعدد من يقاتلهم. فالآية الأولى تحدد ما يجب الثبات أمامه بعشرة الأمثال، ولم يأت فى ذلك بالأمر الصريح كما جاء قبله (اثبتوا) بل جاء به على صورة الخبر، لأن المراد بعث الحمية فى أنفسهم وإلهاب الغيرة فى صدورهم. ثم جاءت الآية الثانية معنونة بعنوان التخفيف، إذ علم الله فيهم ضعفا. والمراد بالعلم هنا الظهور، يعنى أنه قد ظهر فيهم ضعف لم يكن، لأنه لو كان سابقا لكان الله قد علمه موجودا، ولم يكن محلّ التشريع السابق، فهذا الضعف الحادث هو الذى اقتضى التخفيف. فإذا قلنا: إن نسبة الآية الثانية هى نسبة النص المخفف لعارض مع بقاء حكم النص الأول عند زوال العارض، كان حكمها حكم العزيمة مع الرخصة، ولم يقل أحد: إن الرخصة تنسخ العزيمة، فآية التيمم لم تنسخ آية الوضوء. فإذا لم يكن بفئة هذا الضعف الذى ذكره الله سببا للتخفيف كان عليها أن تثبت لعشرة أمثالها. ويؤيد هذا أن العشرين المذكورة فى النص الأول موصوفة بالصابرين، وكذلك المائة، فمتى وجدت صفة الصبر ثبت الحكم الأول، والصبر من لوازمه المتقدمة عليه القوة المادية وقوة القلب المعنوية. وإذا قلنا: إن النص الثانى عام فى جميع الأحوال كان النص الأول منسوخا وهذا بعيد (¬2). فالآيتان محكمتان وليس فيهما نسخ والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية: 45. (¬2) نظرات فى القرآن لأستاذى الشيخ محمد الغزالى 255، 256.

الآية السادسة عشرة:

الآية السادسة عشرة: قال تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬1) قال الشيخ جلال الدين السيوطى (¬2) رحمه الله ومن نهج نهجه: إن هذه الآية منسوخة بآيات العذر وهى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (¬3) وقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ (¬4) وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (4) والصحيح أنها ليست بمنسوخة. روى ابن عباس (¬6) عن أبى طلحة فى قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال: شبانا وكهولا ما سمع الله عذر أحد، فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضى الله عنه. والآية الأخيرة من آيات العذر التى ذكرها السيوطى رحمه الله، لا شأن لها هنا حيث إنها فى النفر للتعليم والتفقه فى الدين لا للحرب. والآيتان قبلها مخصصتان للآية الأولى لا ناسختان، كأنه قال من أول الأمر: لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له. الآية السابعة عشرة: ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 41. (¬2) الإتقان 3/ 75. (¬3) سورة النور الآية: 61. (¬4) سورة التوبة آيتا: 91، 122. (¬6) تفسير القرطبى 4/ 2989.

قال ابن العربى رحمه الله:

قال تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ (¬1) هذه الآية الكريمة قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (¬2) الآية قال ابن العربى رحمه الله (¬3): روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال فى قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قال: نسخت هذه الآية الآية التى بعدها: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ثم قال ابن العربى: هذا ليس بنسخ، وإنما هو تخصيص عام. وما قاله رحمه الله هو الصواب، لأن معنى الآية التى قيل إنها منسوخة الزانى المعروف بالزنى لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه. وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب فى نكاحها إلا زان أو مشرك لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها. هذا المعنى لا تبطله الآية الثانية التى قيل عنها إنها ناسخة للأولى. الآية الثامنة عشرة: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ (¬4) قيل: إن هذه الآية منسوخة، والحق أنه لا يوجد دليل على نسخها ¬

_ (¬1) سورة النور الآية: 3. (¬2) سورة النور الآية: 32. (¬3) أحكام القرآن له 3/ 2331 (¬4) سورة النور الآية: 58.

قال ابن العربى رحمه الله:

وهى محكمة ومتصمنة الأدب العظيم الذى أدب الله به المسلمين حتى لا يدخل عليهم خدمهم وصغارهم فى هذه الأوقات حماية للأعراض من الانتهاك، وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته فى هذه الأوقات. قال ابن عمر رضى الله عنهما: هى محكمة. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قد ذهب حكمها. روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق سألوا ابن عباس فقالوا: يا ابن عباس كيف ترى فى هذه الآية التى أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد قول الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وقرءوها إلى قوله تعالى: عَلى بَعْضٍ؟ فقال ابن عباس رضى الله عنها: إن الله رفيق بجميع المؤمنين، يجب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال (¬1). فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله فأمر الله بالاستئذان فى تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك. قال ابن العربى رحمه الله (¬2): وهذا ضعيف جدّا بما بيناه فى غير موضع من أن شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة ومن التقدم والتأخر، فكيف يصح لناظر أن يحكم به؟ الآية التاسعة عشرة: قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ (¬3) ¬

_ (¬1) الحجل بفتح الحاء وكسرها القيد- مختار الصحاح 124 - (¬2) أحكام القرآن 3/ 1397. (¬3) سورة الأحزاب الآية: 52.

وقد اختلف العلماء فى هذه الآية. أبقيت محكمة لم يدخلها النسخ أم نسخت؟ فقال بعضهم: إنها منسوخة. ثم هؤلاء القائلون بالنسخ اختلفوا فيما بينهم فى الناسخ لها أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب جماعة إلى القول بأن الناسخ (¬1) لها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ (¬2) وقالوا إن الترتيب فى التلاوة ليس دليل الترتيب فى النزول. وقال ابن سلامة (¬3) بعد ذكر الآية التى يراها منسوخة: وهى من أعاجيب المنسوخ نسخها الله بآية قبلها فى النظم. وذهب جماعة إلى القول بأن الناسخ لها السنة، واستدلوا بما روى عن عائشة وأم سلمة رضى الله عنهما: «لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء» (¬4). وبهذا الحديث قال ابن عباس والشافعى رضى الله عنهم. والحق أن الآية محكمة لم يدخلها نسخ، ولا يوجد تعارض بين الآيتين حتى يدفع بالنسخ، لأن النسخ يعتمد على ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض وأين هذا مما يقولون؟ وهل مجرد احتمال أن تكون آية: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ متقدمة فى النزول كاف لإثبات النسخ فيها؟ إن ادعاء النسخ هنا لا دليل عليه، لأن الآيتين متفقتان لا تناقض بينهما. ومعنى آية: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ نهيه صلى الله عليه وسلم عن تزوج غيرهن أو طلاقهن وأن يتبدل بهن. ومعنى الآية الأخرى: أن الله عز وجل أحل له صلى الله عليه وسلم من ذكرهن وهى زوجاته. والقائلون إن الآية منسوخة بالسنة، وأن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب بالسنة فأمرهم أعجب حيث إن المجيزين لنسخ الكتاب بالسنة ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 75، والإتقان 3/ 760. (¬2) سورة الأحزاب الآية: 50. (¬3) الناسخ والمنسوخ له 75. (¬4) أخرجه الترمذى فى سننه 5/ 356.

الآية العشرون:

لا يقولون إنه ينسخ بكل سنة، بل بما كان متواترا فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة وأم سلمة وهما لم ترفعاه. أضف إلى ذلك أن ابن العربى رحمه الله قال (¬1): « ... وجعلوا حديث عائشة سنة ناسخة وهو حديث واه ومتعلق ضعيف- والله تعالى أعلم» الآية العشرون: قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (¬2) وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، وأن هذا من باب النسخ بلا بدل (¬3). لأن الله عز وجل أمرهم عند إرادة المناجاة أن يقدموا صدقة، ثم نسخ ذلك بالآية الثانية (¬4). ويرى أبو مسلم الأصفهانى رحمه الله عدم وقوع النسخ هنا ويقول فى هذه الآية: إنه كان يوجد بين المؤمنين جماعة من المنافقين. كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وأن فريقا منهم عدل عن نفاقه وصار مؤمنا إيمانا حقيقيّا. فأراد الله عز وجل أن يميزهم عن المنافقين الذين لا يزالون على نفاقهم، فأمر بتقديم الصدقة ليتميز هؤلاء من هؤلاء، وإذا كان التكليف لهذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت لا جرم يقدر التكليف بذلك الوقت. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن له 3/ 1571. (¬2) سورة المجادلة آيتا: 12، 13. (¬3) إرشاد الفحول 187. (¬4) القائلون بالنسخ اختلفوا فى مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ فقيل ما بقى المنسوخ إلا ساعة من نهار وقيل بقى عشرة أيام.

قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله:

قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله (¬1): وحاصل قول أبى مسلم أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخا ... وهذا كلام حسن لا بأس به. والحق أن ما قاله أبو مسلم كلام طيب للغاية فالأفضل التوفيق بين الآيتين به، ولا يصح الاعتراض عليه بأن الذى تصدق هو الإمام على كرم الله وجهه وحده دون بقية الصحابة، فكيف تقول: إن هذه الصدقة قد شرعت للتمييز؟ لأنا نقول لا نرى فى عدم فعل الصحابة طعنا ولا شيئا يعيبهم. بل إنهم فهموا أن شرعية هذا الحكم قصد منها الحد من المناجاة الكثيرة فيضيع وقته صلى الله عليه وسلم. قال صاحب تفسير آيات الأحكام (¬2): « ... ولو أن الصحابة فهموا أن المقصود التوسل بالمناجاة لتكون بابا من أبواب الصدقة ما تأخروا، فمنهم من نزل عن جميع ماله، ومنهم من كان يريد أن يتصدق بالثلثين لأنه لا يرثه إلا ابنة واحدة، وما دام المقصود القصد من المناجاة التى تشغل الرسول صلى الله عليه وسلم فليحرصوا على القصد، على أنهم وجدوا فى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فسخه فمن ذا كانت دراهمه ودنانيره حاضرة معه فى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتصدق بها، أو يقال إنه لم يمتثل الأمر؟ على أن هناك من العلماء من قال: إن الأمر بتقديم الصدقة عند المناجاة للندب والاستحباب، وليس للوجوب وذلك لأن الله تعالى قال: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ومثل هذا يعتبر قرينة تصرف الأمر عن ¬

_ (¬1) تفسير الفخر الرازى 29/ 272. (¬2). 4/ 132.

ظاهره، وهو إنما يستعمل فى التطوع دون الفرض. وأيضا قال الله تعالى فى الآية الثانية: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ وهذا يزيل ما فى الأمر الأول من احتمال الوجوب. انظر إلى قوله تعالى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ هذا: وقد قال بعض العلماء إن الآية الثانية بيان للمراد من الصدقة الواردة فى الآية الأولى، وأن الصدقة لا يلزم أن تكون مالية زائدة عما يجب، بل يكفيهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والقول بأن هذا ضرب من التكلف فى التأويل يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية فى البذل المالى وحده قول مردود، لأن الصدقة فى الشرع أعم مما هو فى عرف الناس ففي الحديث الصحيح: «كل سلامى من الناس عليه صدقة. كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل فى دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعة صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (¬1). وعن أبى ذر رضى الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور. يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إن بكل تسبيحة ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى صحيحه 2/ 114. ومسلم فى صحيحه 1/ 404.

الآية الحادية والعشرون:

صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة وفى بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها فى حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجر (¬1). الآية الحادية والعشرون: قال تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (¬2) قيل: نسختها آية الغنيمة، وهى قوله جل شأنه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (¬3) حيث إن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتى ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن من الغنائم التى يغنمها المسلمون، ويعاقبون العدو بأخذها، بينما الآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا، ثم تصرف كما رسمها الشارع الحكيم. والحق أنه بالتأمل نجد الآيتين محكمتين لأنهما غير متعارضتين، بل يمكن الجمع بينهما بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب، ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف فى مصارفها الشرعية والله أعلم. الآية الثانية والعشرون: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 403. (¬2) سورة الممتحنة الآية: 11. (¬3) سورة الأنفال الآية: 41.

قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (¬1) وقال جل شأنه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬2) قال بعض المفسرين: إن آخر السورة- يعنى سورة المزمل- ناسخ لأولها وهذا بناء على أن النص المذكور فى أول السورة عام والتخفيف عام. والمتأمل يجد أن أول السورة صريح فى طلب قيام جزء من الليل قريب من نصفه، والخطاب فيه موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم. وآخر السورة يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم بهذا التكليف، وكذلك طائفة من الذين معه، وقد بينت الآية الأخيرة من السورة سببا يقتضى التخفيف عن الأصحاب وهو علم الله سبحانه بأن سيكون منهم الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم، ومن أجل ذلك كان التكليف مقصورا على قراءة ما تيسر من القرآن. فإذا كان النص الأول مقصورا على النبى صلى الله عليه وسلم- والأصحاب إنما قاموا بقيام الليل اقتداء به صلى الله عليه وسلم- والتخفيف مقصورا عليهم للأسباب المذكورة، لم يكن النص الأول منسوخا، بل حكمه باق بالنسبة له صلى الله عليه وسلم، وهذا رأى ابن عباس رضى الله عنهما وهو الراجح لأنه يترتب عليه الجمع والتوفيق لا النسخ والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة المزمل آيات: 1 - 4. (¬2) سورة المزمل الآية: 20.

وبعد: فهذه الآيات هى التى تكلم فيها العلماء من حيث نسخها أو إحكامها وقد جمعها (¬1) الإمام حلال الدين السيوطى فى قوله قد أكثر الناس فى المنسوخ من عدد ... وادخلوا فيه آيا ليس تنحصر وهاك تحرير آى لا مزيد لها ... عشرين حررها الحذاق والكبر آى التوجّه حيث المرء كان وأن ... يوصى لأهليه عند الموت محتضر وحرمة الأكل بعد النوم من رفث ... وفدية لمطيق الصوم مشتهر وحق تقواه فيما صحّ من أثر ... وفى الحرام قتال للأولى كفروا والاعتداد بحول مع وصيتها ... وأن يدان حديث النفس والفكر والحلف والحبس للزانى وترك أولى ... كفروا شهادتهم والصّبر والنّفر ومنع عقد لزان أو لزانية ... وما على المصطفى فى العقد محتظر ودفع مهر لمن جاءت وآية نجواه ... كذلك قيام الليل مستطر وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن حضروا وقد رأيت- بعون الله وحده- أن أرجح القول بعدم نسخها. لأن الجمع ممكن بين ما قيل بنسخه وبين ما قيل بأنه ناسخ. ومعلوم عند الجمهور أن الجمع بين المتعارضين- والتعبير بالمتعارضين فيه شىء من التجاوز لأنه غير موجود البتة فى القرآن- يقدم على ما عداه من الترجيح والبحث فى التاريخ والتوقف. ومن العجب أن هناك علماء أفاضل قالوا بنسخ هذه الآيات المذكورة جميعا، بل هناك من ادعى نسخ المستثنى للمستثنى منه ونسخ المطلق بالمقيد ونحو ذلك وكتاب الناسخ والمنسوخ للشيخ هبة الله بن سلامة رحمه الله أكبر دليل على هذا. ¬

_ (¬1) الإتقان 3/ 77.

تأمل معى ما قاله الشيخ الشاطبى رحمه الله:

تأمل معى ما قاله الشيخ الشاطبى رحمه الله (¬1): غالب ما ادعى فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ومحتملا وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثانى بيانا لمجمل أو تخصيصا لعموم أو تقييدا لمطلق وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام فى الأول والثانى. وقد أسقط ابن العربى من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة. وقال الطبرى: أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ثم اختلفوا فى نسخها: قال ابن النحاس: فلما ثبتت بالإجماع وبالأحاديث الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها ولم يأت من ذلك شىء. ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 106.

المبحث الثانى فى نسخ القرآن بالسنة

المبحث الثانى فى نسخ القرآن بالسنة نسخ القرآن بالسنة اختلف فيه العلماء بين مجوز ومانع، ثم اختلف المجورون بين قائل بالوقوع الشرعى وقائل بعدمه وإليك البيان بشيء من التفصيل: أولا: مقام الجواز: ذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبى حنيفة وأبو العباس ابن سريج إلى القول بأن نسخ القرآن بالسنة جائز عقلا، وليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. قال الإمام القرافى رحمه الله (¬1): «ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له فى الطريق العلمى عند أكثر أصحابنا». وقال الإمام الشيرازى رحمه الله (¬2): «وقال أصحاب أبى حنيفة يجوز بالخبر المتواتر وهو قول أكثر المتكلمين، وحكى ذلك عن أبى العباس بن سريج». وجاء فى كشف الأسرار (¬3) عن أصول البزدوى: «نسخ الكتاب بالسنة المتواترة (¬4) وهو جائز عند جمهور الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، وإليه ذهب المحققون من أصحاب الإمام الشافعى رحمه الله». ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول 313. (¬2) اللمع 33. (¬3). 3/ 177. (¬4) اختلف العلماء فى نسخ القرآن بخبر الآحاد.

وقال الشيخ الشوكانى رحمه الله:

وقال الشيخ الشوكانى رحمه الله (¬1): «يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبرى وابن برهان الحاجب. قال ابن فورك فى شرح مقالات الأشعرى: وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعرى، وكان يقول إن ذلك وجد فى قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فإنه منسوخ (¬2) بالسنة المتواترة وهى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» لأنه لا يمكن أن يجمع بينهما. قال ابن السمعانى: وهو مذهب أبى حنيفة وعامة المتكلمين. قال الدبوسى: هو قول علمائنا يعنى الحنفية. قال الباجى: قال به عامة شيوخنا. وحكاه ابن الفرج عن مالك رحمه الله. قال: ولهذا لا تجوز عنده ¬

_ فقال بالجواز العقلى الأكثرون وحكاه سليم الرازى عن الأشعرية والمعتزلة. وأما الوقوع فذهب الجمهور إلى أنه غير واقع. وقد حكى الإجماع على عدم وقوعه أبو الطيب فى شرح الكفاية والشيخ الشيرازى فى اللمع حيث قال رحمه الله: فأما المتواتر بالآحاد فلا يجوز لأن التواتر يوجب العلم فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن. وذهب جماعة من أهل الظاهر إلى القول بوقوعه لأن أهل قباء لما سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم وهم فى الصلاة يقول- ألا أن القبلة قد حولت إلى الكعبة استداروا ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأنهم علموا ذلك بالقرآن. خلاصة الأمر أن ما ثبت بقطعى لا يرتفع إلا بقطعى مثله. - اللمع 33، ولطائف الإشارات 42، وإرشاد الفحول 190 - . (¬1) إرشاد الفحول 191. (¬2) تقدم القول عن هذه الآية وبينت بحمد الله موقف العلماء من القول بنسخها واخترت القول القائل إنها محكمة.

قال الشيخ العمريطي رحمه الله:

الوصية للوارث للحديث فهو ناسخ لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية وحجة هؤلاء المجيزين أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره، أما الأول فلأنه لا يترتب على فرض وقوعه محال. وأما الثانى: فلأن السنة (¬1) وحى من الله تعالى كالقرآن. قال تعالى منزها نطق حبيبه صلى الله عليه وسلم عن الهوى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (¬2) والفارق بينهما أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله تعالى وإنشائه، وألفاظ السنة من ترتيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنشائه، والقرآن له خصائصه وللسنة خصائصها وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ما دام أن الله عز وجل هو الذى ينسخ وحيه بوحيه. وحيث لا أثر لها فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا فتعين القول بجوازه. قال الشيخ العمريطي رحمه الله (¬3): ولم يجز أن ينسخ الكتاب ... بسنة بل عكسه صواب وذهب الإمام أحمد رضى الله عنه فى إحدى الروايتين عنه وأكثر أهل الظاهر واشتهر- خطأ- عن الإمام الشافعى رضى الله عنه إلى ¬

_ (¬1) لقائل أن يقول: إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم وهذا ليس وحيا أوحى إليه به بدليل العتاب الذى وجهه القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول: إن السنة وحى من الله؟ والجواب أن المراد هنا بالسنة ما كانت عن وحى جلى أو خفى. أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا البتة لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم وجود نص- مناهل العرفان 2/ 137 - . (¬2) سورة النجم آيتا: 3، 4. (¬3) لطائف الإشارات 42.

قال سيف الدين الآمدى رحمه الله:

القول بأن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا. وقبل أن أذكر أدلة المانعين لنسخ القرآن بالسنة سأسوق بعض النصوص لبعض الأصوليين، والتى يفهم منها أن الإمام الشافعى رضى الله عنه قال بمنع نسخ القرآن بالسنة، ثم أبين وجه الصواب بعون الله. قال سيف الدين الآمدى رحمه الله (¬1): قطع الإمام الشافعى وأكثر أصحابه أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة. وقال ابن الحاجب رحمه الله (¬2): « .... نسخ القرآن بالخبر المتواتر. وقد اختلف فى جوازه والجمهور على جوازه ومنعه الشافعى رحمه الله.» وقال الشوكانى رحمه الله (¬3): وذهب الشافعى فى عامة كتبه كما قال ابن السمعانى إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال، وإن كانت متواترة، وبه جزم الصيرفى والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية. وقال الأستاذ أبو منصور: أجمع أصحاب الشافعى على المنع. وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز اه. هذه أقوال بعض الأصوليين بالنسبة لموقف إمامنا الشافعى رحمه الله فى هذه المسألة. والحق كما قال الزركشى رحمه الله (¬4): والصواب أن مقصود الشافعى رحمه الله أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما أمثلة ناسخ له، وهذا تعظيم عظيم، وأدب مع ¬

_ (¬1) الإحكام 3/ 139. (¬2) شرح العضد 2/ 197. (¬3) إرشاد الفحول 191. (¬4) إرشاد الفحول 192.

وقال الإمام تاج الدين ابن السبكى رحمه الله:

الكتاب والسنة، وفهم لموقع أحدهما من الآخر، وكل من تكلم فى هذه المسألة لم يقع على مراد الإمام الشافعى رحمه الله. بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه اهـ وقال الإمام تاج الدين ابن السبكى رحمه الله (¬1): قال الشافعى رضى الله عنه وحيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها يبين توافق الكتاب والسنة، أو نسخ السنة بالقرآن، فمعه سنة (¬2) عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة. اهـ. فالإمام الشافعى رحمه الله يرى أنه إذا نسخ الكتاب بالسنة فلا بد أن يرد من الكتاب بعد ذلك ما يوافق تلك السنة الناسخة فى الحكم، فيكون عاضدا لها وإذا نسخت السنة بالكتاب فلا بد أن يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك الكتاب الناسخ فى الحكم، فتكون عاضدة له. ولعل فى هذا توضيحا لما قاله الإمام الشافعى رحمه الله حين قال (¬3): فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله. اه. فإذا ما وقع نسخ للقرآن بالسنة فلا بد أن يكون معها قرآن يعضدها. وقد ذكر الشيخ السبكى رحمه الله ما نقله بعض الأصوليين فى هذه المسألة، ثم انتصر للإمام الشافعى رحمه الله بكلام طيب لا بأس بإيراده تتميما للفائدة. قال رحمه الله (¬4): وأما نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه. وذهب ابن سريج كما نقل القاضى عنه فى مختصر التقريب ¬

_ (¬1) شرح الجلال على جمع الجوامع 2/ 78، 79. (¬2) ليس المراد بالمعية المقارنة فى زمن النسخ بل المصاحبة فى الحكم الناسخ والموافقة فيه. إذ العاضد متأخر عن الناسخ وإلا لكان النسخ منسوبا للعاضد لا للمعضد- حاشية البنانى 2/ 79 - . (¬3) الرسالة 108. (¬4) الإبهاج 2/ 159، 160.

إلى أنه جائز، ولكن لم يرد. وذهب قوم إلى امتناعه ونقل عن الشافعى رضى الله عنه. وقد استنكر جماعة من العلماء ذلك من الشافعى حتى قال الكيا الهراسى: هفوات الكبار على أقدارهم ومن عد خطؤه عظم قدره. وقد كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعى فى الأصول والفروع، فلما وصل إلى هذا الموضع قال: هذا الرجل كبير لكن الحق أكبر منه. قال: والمغالون فى حب الشافعى لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره كيف وهو الذى مهد هذا الفن ورتبه، وأول من أخرجه قالوا: لا بدّ أن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا فى محامل ذكروها وأورد الكيا بعضها. واعلم أنهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا فى غير عظيم، وهذا إن صح عن الإمام الشافعى رضى الله عنه فهو غير منكر، وإن جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه ... قال القاضى فى مختصر التقريب: واختلف الذين منعوا نسخ القرآن بالسنة فمنهم من منعه عقلا، ومنهم من قال يجوز (¬1) عقلا، وإنما امتنع بأدلة السمع. قال القاضى: وهذا هو الظن بالشافعى رحمه الله مع علو مرتبته فى هذا الفن. قلت- والكلام للسبكى-: وهذا هو الذى قاله فى الرسالة (¬2) فإنه قال فى باب ابتداء الناسخ والمنسوخ: وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب وأن السنة لا ناسخة للكتاب، وإنما هى تبع للكتاب. ثم قال: وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أحدث الله لرسوله صلى الله ¬

_ (¬1) قال الدكتور/ محمد حسن هيتو فى تعليق على المنخول 193 «والحق فى ذلك أن الشافعى رضى الله عنه لم يمنع منه عقلا. بل لم يتكلم فى كتبه قط على الجواز العقلى». (¬2) الرسالة 106، 108.

أدلة المانعين لجواز نسخ القرآن بالسنة عقلا:

عليه وسلم فى أمر سن فيه غير ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتى قبلها مما يخالفها. اه. ومن صدر هذا الكلام أخذ من نقل عن الإمام الشافعى رحمه الله أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا سنّ سنة، ثم أنزل الله فى كتابه ما ينسخ ذلك الحكم، فلا بد أن يسنّ النبى صلى الله عليه وسلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الأولى لتقوم الحجة على الناس فى كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب. ثم قال الشيخ السبكى: هذا هو معنى القول المنسوب إلى الشافعى رحمه الله ... وأكثر الأصوليين الذين تكلموا فى ذلك لم يفهموا مراد الشافعى رضى الله عنه وليس مراده إلا ما ذكرناه اه. أدلة المانعين لجواز نسخ القرآن بالسنة عقلا: استدل المانعون بخمسة أدلة هى: الدليل الأول: قال تعالى مخاطبا حبيبه صلى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1) وجه الدلالة: أن هذه الآية الكريمة تدل على أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم منحصرة فى بيان القرآن. فلو نسخت السنة القرآن لما كانت بيانا له. بل كانت رافعة له. قال الإمام الرازى رحمه الله (¬2): فوصفه بأنه مبين للقرآن ونسخ العبادة رفعها ورفعها ضد بيانها. اه. ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 44. (¬2) المحصول 1/ 524.

قال الإمام الرازى رحمه الله:

وقد نوقش هذا الاستدلال بما يلى (¬1): أولا: أن الآية لا تدل على انحصار وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم فى البيان، لأنها خالية من جميع طرق الحصر، وكل ما تدل عليه الآية هو أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة للقرآن، وذلك لا ينفى أن تكون ناسخة له، ونظير هذه الآية قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (¬2) فإنه يفيد أنه صلى الله عليه وسلم نذير للعالمين ولا تنفى عنه أنه بشير أيضا للعالمين. ثانيا: أن وظيفة السنة لو انحصرت فى بيان القرآن ما صح أن تستقل بالتشريع، مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بالتشريع كحظره صلى الله عليه وسلم أن يورث بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (¬3). قال الإمام الرازى رحمه الله (¬4): ليس فى قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان. كما أنك إذا قلت: «إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد» ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر. اه. ثالثا: على فرض دلالة الآية على الحصر، فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما أنزله الله إلى الناس وهذا لا ينافى أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة. ¬

_ (¬1) المحصول 1/ 513، الإحكام للآمدى 3/ 142، ومناهل العرفان 2/ 134. (¬2) سورة الفرقان الآية: 1. (¬3) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 81. (¬4) المحصول 1/ 513.

قال الإمام الرازى رحمه الله:

قال الإمام الرازى رحمه الله (¬1): سلمنا أن السنة كلها بيان، لكن البيان هو الإبلاغ وحمله على هذا أولى لأنه عام فى كل القرآن. أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل وهو ما كان مجملا أو عامّا، مخصوصا، وحمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر. اه. الدليل الثانى: قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬2) وبيان وجه الدلالة من هذه الآية من وجوه هى: الأول: أن قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يفيد أن المأتى به خير من الآية المنسوخة والسنة ليست خيرا من القرآن. الثانى: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذى يأتى بخير منها، وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة. الثالث: وصف البدل بأنه خير أو مثل، وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل، أما المثل فظاهر، وأما ما هو خير فلأنه لو قال القائل لغيره: لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه، فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول. الرابع: قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دل على أن الذى يأتى بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله، وهذا هو القرآن دون غيره (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) سورة البقرة الآية: 106. (¬3) المحصول 1/ 523، والتبصرة 265، والإحكام 3/ 141.

الدليل الثالث:

وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل القائلين بالجواز بما يلى: أولا: أن السنة من عند الله كالقرآن، والقول بأن السنة ليست خيرا من القرآن لا يسلم به على إطلاقه، لأن المراد بالخيرية والمثلية فى الآية الخيرية والمثلية فى الحكم لا فى اللفظ، ولا شك أن الحكم الثابت بالسنة قد يكون أنفع للمكلف من الحكم المنسوخ. ثانيا: قولكم: إن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذى يأتى بخير منها، وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن- لا دلالة فيه، لأن السنة إذا كانت ناسخة فالآتى بما هو خير إنّما هو الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ، ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآنا. بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك ثالثا: قولكم: إن وصف البدل بأنه خير من المبدل، أو مثله، يدل على أن البدل من جنس المبدل- لا دلالة فيه أيضا على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخة، لأنه وصفه بكونه خيرا، والقرآن لا تفاوت فيه، فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هى راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ. رابعا: نحن نتفق معكم بالنسبة للوجه الرابع فالمتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل. الدليل الثالث: قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ (¬1) ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية: 15.

الدليل الرابع:

وهذا يفيد أن السنة لا تنسخ القرآن، لأنها نابعة من نفسه صلى الله عليه وسلم. ويدفع هذا بأن السنة ليست نابعة من نفسه صلى الله عليه وسلم، على أنها هوى منه وشهوة، بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه، وكل ما استقل به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبر عنها بألفاظ من عنده، فهى وحى يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار، وعلى هذا فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه إنما هو تبديل بوحى. الدليل الرابع: قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (¬1) فهذا القول الكريم رد الله تعالى به على من أنكر النسخ وعاب به الإسلام حيث قالوا فى حقه صلى الله عليه وسلم- عند تبديل الآية بالآية- كما حكى القرآن: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ (¬2) ومعلوم أن روح القدس إنما ينزل بالقرآن، ومن ثم فلا ينسخ القرآن إلا بقرآن. والحق أن هذا الاستدلال غير سديد لأن كلا من القرآن والسنة وحى من السماء. قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله (¬3): من يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتهمه لأنه يشك فى نبوته صلى الله عليه وسلم. ومن تكن هذه حاله فالنبى صلى الله عليه وسلم مفتر عنده سواء نسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته صلى الله عليه وسلم. اه. وقال الإمام أبو الحسين البصرى رحمه الله (¬4): .... والجواب: أن ذلك لا يمنع من نسخ القرآن بالسنة لأن النبى ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 102. (¬2) سورة النحل الآية: 101. (¬3) المحصول 1/ 529. (¬4) المعتمد 1/ 395.

الدليل الخامس:

صلى الله عليه وسلم لا ينسخ القرآن إلا إذا أوحى إليه بذلك فقد نزله روح القدس اه. الدليل الخامس: أن القرآن الكريم أثبت أن السنة النبوية حجة. قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (¬1) وقال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (¬2) وإذا كان الأمر كذلك فلا تنسخ السنة القرآن، لأنها لو نسخته لعادت على نفسها بالإبطال، لأن النسخ رفع وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع. ويدفع هذا الاستدلال بما يلى: أولا: أن كلامنا ليس فى جواز نسخ السنة لنصوص القرآن الدالة على حجيتها، حتى ترجع على نفسها بالإبطال- كما قلتم- بل هو فى جواز نسخ ما عدا ذلك مما يصح أن يتعلق به النسخ. ثانيا: أن ما استدلوا به حجة عليهم لأن وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يقضى بوجوب قبول ما جاء به على أنه ناسخ (¬3). ثانيا: مقام الوقوع: القائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة عقلا اختلفوا فى الوقوع الشرعى بين مثبت له وناف. وقد استدل المثبتون على الوقوع بأدلة منها: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 31. (¬2) سورة الحشر الآية: 7. (¬3) مناهل العرفان 2/ 135.

قال ابن العربى رحمه الله:

1 - قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ (¬1) الآية. فهذا القول الكريم منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» (¬2). والحق- كما بينت قريبا- أن الآية محكمة وليست بمنسوخة ومن ثم فالاستدلال بهذه الآية على نسخ القرآن بالسنة غير صحيح. 2 - قال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ (¬3) فهذه الآية الكريمة منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى. خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (¬4). وهذا يدل على أن القرآن ينسخ بالسنة. والحق أن القول بالنسخ هنا غير سديد، لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت أو صدور تشريع جديد فى شأن الزانيات. قال ابن العربى رحمه الله (¬5): اجتمعت الأمة على أن هذه الآية ليست منسوخة، لأن النسخ إنما يكون فى القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال، وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ، لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله ولا اعتراض عليه. اه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 180. (¬2) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الوصايا 3/ 114. (¬3) سورة النساء الآية: 15. (¬4) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 48. (¬5) أحكام القرآن له 1/ 354.

وقال ابن العربى:

3 - أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذى ناب (¬1) من السباع وكل ذى مخلب من الطيور. وهذا النهى يعتبر ناسخا (¬2) لقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (¬3) وقد نوقش هذا بمنع القول بالنسخ، لأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذى ذكر فيها، إنما هو مباح بالبراءة الأصلية والحديث المذكور رفع هذه البراءة ورفعها لا يسمى نسخا. قال الزهرى ومالك فى أحد قوليه: هى محكمة ويضم إليها بالسنة ما فيها من محرم. وقال ابن العربى (¬4): .... لو ثبت بالسنة محرم غير هذه لما كان ذلك نسخا لأن زيادة محرم على المحرمات، أو فرض على المفروضات لا يكون نسخا بإجماع من المسلمين اه. هذا وبعد ذكر المذاهب فى نسخ القرآن بالسنة، يتضح لنا جليا أن نسخ القرآن بالسنة ليس هناك مانع يمنعه عقلا غاية الأمر أنه لم يقع شرعا وما استدل به على الوقوع ردّ كما تقدم والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 168. (¬2) أحكام القرآن لابن العربى 2/ 765. (¬3) سورة الأنعام الآية: 145. (¬4) أحكام القرآن 2/ 766.

المبحث الثالث فى نسخ السنة بالقرآن

المبحث الثالث فى نسخ السنة بالقرآن فى نسخ السنة بالقرآن مذهبان هما: المذهب الأول: وهو لجمهور العلماء من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء. أن نسخ السنة بالقرآن جائز عقلا وواقع سمعا. قال الإمام الشيرازى رحمه الله (¬1): وأما نسخ السنة بالقرآن ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز .... والثانى: أنه يجوز وهو الصحيح، لأن القرآن أقوى من السنة فإذا جاز نسخ السنة بالسنة فلأن يجوز بالقرآن أولى. اه. وقال الشيخ الشوكانى رحمه الله (¬2): وأما نسخ السنة بالقرآن فذلك جائز عند الجمهور، وبه قال بعض من منع من نسخ القرآن بالسنة. اه. وقد استدل أصحاب هذا المذهب على الجواز العقلى بما يلى: أن الكتاب والسنة وحى من الله تعالى، كما قال جل شأنه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (¬3) غير أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة، ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلا، ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلا. ¬

_ (¬1) اللمع: 33. (¬2) إرشاد الفحول 192. (¬3) سورة النجم آيتا: 3، 4.

كما استدلوا على الوقوع الشرعى بأدلة منها:

كما استدلوا على الوقوع الشرعى بأدلة منها: 1 - أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة، وقد نسخ بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (¬1) ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بالقرآن، وهو قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬2) لأن قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ تخيير بين بيت المقدس وغيره من الجهات، والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عينا وذلك غير معلوم من القرآن (¬3). قال أبو الحسين البصرى رحمه الله (¬4): وهذا دليل على أن الآية (¬5) وردت بعد إيجاب التوجه إلى الكعبة فى المسافر إذا صلى باجتهاد إلى بعض الجهات، ثم بان له أن تلك الجهة ليست بجهة القبلة. اه. 2 - أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزا بالسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وقد أخر الصلاة: «حشى الله قبورهم نارا» (¬6) وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف المنصوص عليها فى قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ (¬7) 3 - أن النبى صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده، وقد رد صلى الله عليه وسلم فعلا جماعة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 144. (¬2) سورة البقرة الآية: 115. (¬3) الإحكام للآمدى 3/ 136. (¬4) المعتمد 1/ 392. (¬5) هى قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. (¬6) أخرجه ابن ماجة فى سننه 1/ 224. (¬7) سورة النساء الآية: 102.

المذهب الثانى:

من المكيين جاءوا مسلمين، وقد جاءته امرأة اسمها أم كلثوم (¬1) بنت عقبة بن أبى معيط، وخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض الله العهد بينه وبينهم فى النساء خاصة، وأنزل قوله جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ (¬2) فما ثبت بالسنة نسخ بالقرآن (¬3). على أنه يمكن القول بأن هذه الآية خصصت عموم السنة. المذهب الثانى: أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز. ونسب هذا المذهب إلى الإمام الشافعى رضى الله عنه بعض الأصوليين منهم الإمام الرازى (¬4) رحمه الله حيث قال: يجوز نسخ السنة بالقرآن وهو أيضا واقع، وقال الشافعى رضى الله عنه: لا يجوز. اه. والإمام القرافى رحمه الله حيث قال أيضا (¬5): ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافا للشافعى رضى الله عنه. اه. والإمام الآمدى رحمه الله حيث قال كذلك (¬6): المنقول عن الشافعى رضى الله عنه فى أحد قوليه أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. اه. والحق- والله أعلم- أن نقل هذا عن الإمام الشافعى رضى الله عنه فيه شىء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر. قال الدكتور طه فياض فى تعليقه على هذه المسألة (¬7): إن معظم الذين تحدثوا عن رأى الإمام فى هذه المسألة تحدثوا عنه، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 8/ 118. (¬2) سورة الممتحنة، 10. (¬3) المحصول 1/ 512، والإحكام 3/ 136. (¬4) المصدر الأول السابق. (¬5) شرح تنقيح الفصول 312. (¬6) الإحكام 3/ 136. (¬7) انظر هامش 1/ 516 من المحصول.

وفى أذهانهم أقوال العلماء الآخرين ونزاعاتهم فى المسألة، ولذلك فهموا من قول الإمام أنه قول مقابل للأقوال المنقولة عن الأئمة الآخرين، مع أننا نرى أن قوله فى أمر آخر غير أمر الجواز والامتناع والوقوع التى عليها مدار أقوال الآخرين، وإنما هو فى حكم المجتهد بالنسخ: متى يحكم به؟ فالإمام لا يرى للمجتهد الحق بأن يحكم بأن هذه السنة منسوخة بالقرآن، ولا العكس، وإنما يحكم بنسخ السنة إذا وجد سنة مماثلة تصلح ناسخة لها. وآنذاك تكون الآية مقوية للحكم بنسخ تلك السنة. وكذلك الحال بالنسبة للقرآن: فإن المجتهد لا يحق له أن يحكم بأن الآية منسوخة إلا إذا وجد آية تصلح ناسخة لها، وتكون السنة الواردة فى الموضوع مبينة لكون الآية الناسخة ناسخة والمنسوخة منسوخة، والإمام حين قرر ذلك كان يهدف إلى حماية أحكام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أى تغيير من قبل من تحدثه بذلك نفسه تحت ستار النسخ. اه. على كل حال ذكر الأصوليون لهذا المذهب أدلة منها: 1 - قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1) وهذا يدل على أن كلامه بيان للقرآن والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخا للسنة لكان القرآن بيانا للسنة، فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر (¬2). وأجيب عن هذا بأن الآية ليس فيها ما يدل على امتناع نسخ السنة بالقرآن، والمراد بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ إنما هو التبليغ وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره. 2 - لو نسخت السنة بالقرآن للزم تنفير الناس عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعن طاعته لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 44. (¬2) المحصول 1/ 513، والمعتمد 1/ 391.

قال الإمام أبو الحسين البصرى رحمه الله:

صلى الله عليه وسلم، وذلك مناقض لمقصود البعثة، ولقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (¬1) ويدفع هذا بأن السنة ليست من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هى وحى كالقرآن. قال الإمام أبو الحسين البصرى رحمه الله (¬2): نسخ السنة بالكتاب: ذهب أكثر الناس إلى حسن ذلك ووقوعه ومنع الشافعى رحمه الله منه. ودليلنا: أنه لو امتنع ذلك لم يخل إما أن يكون امتناعه من حيث القدرة والصحة أو من حيث الحكمة. أما من حيث القدرة والصحة فبأن يقال: إن الله عز وجل لا يوصف بالقدرة على كلام ناسخ لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو: لو أتى بكلام هذه سبيله لم يكن دالّا على النسخ. والأول والثانى باطلان، لأن الله سبحانه قادر على جميع أقسام الكلام، ولا يجوز خروج كلامه من أن يكون دليلا على ما هو موضوع. وأما الحكمة فبأن يقال: لو نسخ الله سبحانه كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لنفّر ذلك عنه، وأوهم أنه لم يرض بما سنة صلى الله عليه وسلم. وهذا باطل لأن النسخ إنما يرفع الحكم بعد استقرار مثله، وذلك يمنع من هذا التوهم لأنه لو لم يرض بما سنة صلى الله عليه وسلم لم يقرّ عليه أصلا، على أنه لو نفّر عنه لنفر عنه أن ينسخ سنته بسنة أخرى، لأن السنة الناسخة إنما صدرت عنه لأجل الوحى فجرى مجرى كلام ينزله الله عز وجل. هذا وبعد ذكر موقف العلماء تجاه نسخ السنة بالكتاب يظهر لنا- والله أعلم- أن مذهب الجمهور القائل بجواز ذلك هو المذهب الراجح لقوة أدلته وسلامتها عما يعارضها. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 64. (¬2) المعتمد 1/ 391.

المبحث الرابع فى نسخ السنة بالسنة

المبحث الرابع فى نسخ السنة بالسنة والحق أن نسخ السنة بالسنة يتنوع إلى أربعة أنواع هى: 1 - نسخ سنة متواترة بسنة متواترة. 2 - نسخ سنة آحادية بسنة آحادية. 3 - نسخ سنة آحادية بسنة متواترة. 4 - نسخ سنة متواترة بسنة آحادية. ويلاحظ أن الثلاثة الأول محل اتفاق فهى جائزة عقلا وشرعا، وأما الرابع وهو نسخ السنة المتواترة بالسنة الآحادية فاتفق العلماء على جوازه عقلا، وحكاه سليم الرازى عن الأشعرية والمعتزلة. ومحل النزاع إنما هو فى الوقوع الشرعى فنفاه الجمهور وأثبته أهل الظاهر (¬1). وذهب القاضى وأبو الوليد الباجى والقرطبى (¬2) فى تفسيره إلى التفصيل بين زمان النبى صلى الله عليه وسلم وما بعده، فقالوا بوقوعه فى زمانه صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ (¬3). على العموم تناول آراء العلماء وأدلتهم بشيء من التفصيل فيما يتصل بنسخ السنة بالسنة له موضع آخر تطرح فيه آراء العلماء، وأدلتهم وأسأل الله عز وجل أن يجعل فى العمر بقية حتى يتسنى لى تناول هذه النقطة بالتفصيل اللائق بها. ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدى 2/ 181، وإرشاد الفحول 190. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 455. (¬3) إرشاد الفحول 190.

الفصل الثالث فى طرق معرفة النسخ

الفصل الثالث فى طرق معرفة النسخ لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول فى شىء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين. وكل ما أنزل الله تعالى فى القرآن، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ففرض اتباعه. فمن قال فى شىء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل، ومن استجاز خلاف ذلك فقوله: يؤول إلى إبطال الشريعة كلها، لأنه لا فرق بين دعواه النسخ فى آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ فى آية أخرى وحديث آخر. فعلى هذا لا يصح شىء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت باليقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا بيقين نسخ لا شك فيه (¬1). فإذا ما تعارض نصان وتنافيا: فإما أن يكون هذا التعارض من كل وجه أو من وجه دون وجه. فإن تنافيا من كل وجه تنظر: هل هما معلومان؟ أو مظنونان؟ أو أحدهما معلوم والآخر مظنون؟ فإن كان النصان معلومين أو مظنونين فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر أو اقترانهما أو لا يعلم شىء من ذلك. فإن علم تأخر أحدهما عن الآخر فهو ناسخ، والمتقدم منسوخ، وذلك قد يعرف بواحد مما يلى: 1 - أن يكون فى أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما، ¬

_ (¬1) الإحكام لابن حزم 4/ 458.

قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله:

وذلك كحديث جابر رضى الله عنه: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» (¬1). قال الإمام فخر الدين الرازى رحمه الله (¬2): وأما التاريخ فقد يعلم باللفظ أو بغيره. أما اللفظ فكما إذا قال: أحد الخبرين قبل الآخر. وأما غير اللفظ فعلى وجوه: أحدها: أن يقول هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا فى سنة كذا. ثانيها: أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس. كما لو قال كان هذا فى غزاة بدر والآخر فى غزاة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها. ثالثها: أن يروى أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى الآخر رجل متأخر الصحبة وانقطعت صحبة الأول للرسول صلى الله عليه وسلم عند ابتداء الآخر بصحبته. فهذا يقتضى أن يكون خبر الأول متقدما. أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصح هذا الاستدلال. 2 - أن ينعقد إجماع الأمة فى أى عصر من العصور على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما. قال الإمام التلمسانى رحمه الله (¬3): .... ومن ذلك: أن ينعقد الإجماع على خلاف الحكم، وإن لم يعلم الناسخ فالإجماع عندنا ليس بناسخ، ولكنه متضمن للناسخ، ومثاله ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتل شارب الخمر (¬4) فى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الطهارة 1/ 49. (¬2) المحصول 1/ 562، 563. (¬3) مفتاح الوصول له 112. (¬4) حديث قتل شارب الخمر فى المرة الرابعة أخرجه الترمذى 4/ 48، وأبو داود 2/ 473، وابن شاهين فى الناسخ والمنسوخ 395.

قال الإمام الرازى رحمه الله:

المرة الرابعة ثم انعقد الإجماع (¬1) بعد ذلك على أنه يحد ولا يقتل، فعلمنا أن الخبر الأول منسوخ. اه. 3 - معرفة أن أحد الأمرين المتعارضين بعينه متأخر عن الأمر الآخر وعليه فيكون المتأخر هو الناسخ للمتقدم. هذا ومن الطرق المختلف فيها بين العلماء فى معرفة النسخ ما يلى: 1 - أن يقول الراوى- كان الحكم كذا ثم نسخ- فإنه لا يثبت به النسخ عند السادة الشافعية لاحتمال أن يكون قوله عن اجتهاد منه وليس عن توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن المجتهد لا يكلف بالعمل بقول مجتهد آخر. قال الإمام الرازى رحمه الله (¬2): إذا قال الصحابى: كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم: إن خبر «الماء من الماء» (¬3) نسخ بخبر: «التقاء الختانين» (3) لم يكن ذلك حجة لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادا فلا يلزمنا. اه. أما السادة الحنفية (¬5) فيثبتون النسخ بذلك حيث إن إطلاق الراوى العدل للنسخ من غير أن يعين الناسخ مشعر بأنه عن توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل قول الراوى فيه. 2 - أن يكون أحد النصين المتعارضين مثبتا فى المصحف بعد النص الآخر. فإن البعض يرى أن المتأخر فى الإثبات ناسخ للمتقدم، وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث إن ترتيب الآيات فى المصحف على هذا ¬

_ (¬1) وحديث النهى عن قتله أخرجه ابن شاهين 398، وأبو داود 2/ 474. (¬2) المحصول 1/ 566. (¬3) الحديثان أخرجهما ابن ماجة فى سننه 1/ 199. (¬5) فواتح الرحموت 2/ 95.

النحو ليس على ترتيب النزول، فقد يكون المتقدم فى الترتيب متأخرا فى النزول. 3 - أن يكون راوى أحد الحديثين المتعارضين أصغر سنا من الراوى الآخر أو متأخرا فى الإسلام عنه. فبعض العلماء يرى أن الحديث الذى رواه الأصغر سنّا أو المتأخر فى الإسلام يكون ناسخا للحديث الآخر، لأن الظاهر أنه متأخر فى الزمن عن الحديث الآخر. والجمهور لا يرى ذلك لجواز أن يكون الأصغر سنّا روى عمن هو أكبر منه وأن يكون المتأخر إسلاما روى عمن تقدم فى الإسلام. 4 - أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر: فربما يتوهم أن الموافق لها هو السابق والمتأخر عنها هو اللاحق، مع أن ذلك غير لازم لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها. كقوله صلى الله عليه وسلم: «توضئوا مما مست النار» (¬1) فإنه مخالف للبراءة الأصلية، ومتقدم على الحديث الموافق لها وهو: «لا وضوء مما مست النار» (¬2) والدليل على ذلك حديث جابر رضى الله عنه المتقدم. ولا يخلو هذا من حكمة عظيمة وهى تخفيف الله عن عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد (¬3). هذا وقد ذكر الآمدى (¬4) بأنه إن علم اقتران النصين المتعارضين مع تعذر الجمع بينهما بأن ذلك فى نظره غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم. ولو فرضنا وقوعه فالواجب: إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شىء من ذلك. وأما إن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 154. (¬2) أخرجه بمعناه مسلم 1/ 154، وأبو داود 1/ 48، وابن ماجة 1/ 164. (¬3) المستصفى 1/ 128، 129، والإحكام للآمدى 2/ 199، ومناهل العرفان 2/ 105 - 107، وأصول الفقه للشيخ زهير 3/ 105 - 107. (¬4) المرجع الثانى المتقدم.

كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فالعمل بالمعلوم واجب تقدم أو تأخر، أو جهل الحال فى ذلك، لكنه إن كان متأخرا عن المظنون كان ناسخا وإلا كان مع وجوب العمل به غير ناسخ. وهذا التفصيل كله فيما إذا تنافى النصان من كل وجه، وأما إذا تنافيا من وجه دون وجه، بأن يكون أحدهما أعم من الآخر من وجه دون وجه كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬1) فإنه خاص بالمبدل وعام فى الرجال والنساء لأن كلمة «من» إذا وقعت شرطا عمت الذكور والإناث وذلك لإشعارها بالعموم عند الإبهام فى باب الشرط واتفاق الشرع والوضع على القضاء بذلك، فإن من قال: من دخل دارى من أرقائى فهو حر، اندرج فى حكم التعليق العبيد والإماء (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: «نهيت عن قتل النسوان» (¬3) خاص فى النساء وعام بالنسبة إلى المبدل فالحكم فيها كما لو تنافيا (¬4) من كل وجه والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الحدود 4/ 126. (¬2) التمهيد للاسنوى 85 وتخريج الفروع على الأصول للزنجانى 178، 179. (¬3) أخرجه البخارى بلفظ- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان- 2/ 172. (¬4) الإحكام للآمدى 3/ 166.

الباب الخامس فى الصلة بين القرآن والسنة

الباب الخامس فى الصلة بين القرآن والسنة وفيه فصلان الفصل الأول: فى المقدار الذى بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن. الفصل الثانى: فى أنواع بيان القرآن بالسنة.

الفصل الأول فى المقدار الذى بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن

الفصل الأول فى المقدار الذى بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن أنزل الله عز وجل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم هدى للناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكتب السعادة والفوز لمن تمسك به، والخزى والخسران لمن أعرض عنه قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (¬1). وقد تلقاه المسلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة فى عصر الصحابة، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله امتثالا لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (¬2) وقد اختلف العلماء فى المقدار الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه على مذهبين اثنين: المذهب الأول: يرى أصحاب هذا المذهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه كل معانى القرآن، كما بين لهم ألفاظه واستدلوا على هذا بأدلة أهمها ما يلى: أولا: قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) سورة طه آيات: 123 - 126. (¬2) سورة النحل الآية: 44.

وجه الدلالة: أن البيان المذكور فى الآية يتناول بيان معانى القرآن كما يتناول بيان ألفاظه، ومما لا شك فيه أنه صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه ألفاظه كلها، ولا بدّ وأن يكون قد بين لهم أيضا كل معانيه وإلا كان مقصرا فى البيان الذى كلف به من الله، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقصر فى شىء. ثانيا: روى عن أبى عبد الرحمن بن حبيب السلمى التابعى (¬1) أنه قال: «حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله ابن مسعود وغيرهما رضى الله عنهم: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا». ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة فى حفظ السورة. وقد ذكر العلماء أن ابن عمر رضى الله عنهما أقام على حفظ البقرة ثمانى سنوات. وهذا يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم معانى القرآن كلها كما تعلموا ألفاظه. المذهب الثانى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين لأصحابه كل معانى القرآن وإنما بين القليل فقط. وقد استند أصحاب هذا المذهب إلى عدة أدلة منها: 1 - ذكر القرطبى رحمه الله (¬2) أن عائشة رضى الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علّمه إياهن جبريل عليه السلام. 2 - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فقال: «اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 1/ 13. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 27.

التأويل» (¬1) فلو كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك (¬2)؟ والحق أن المتأمل والناظر بعين الإنصاف يجد أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفسر كل معانى القرآن لأصحابه، وإلا لما اختلفوا فى معنى بعض الآيات، ولو كان عندهم من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه نص ما وقع هذا الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص. ويجد أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، كما لم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، وإنما فسر لهم صلى الله عليه وسلم الكثير من معانيه- غير ما تقدم- كما تشهد بذلك كتب الصحاح وما ذكره أصحاب المذهبين لا ينهض لإثبات مدعى كل منهما. فأصحاب المذهب الأول يستندون إلى الآية وهى لا تثبت المدعى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبين لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن لا كل القرآن، وما روى عن الصحابة فى أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها لا ينتج المدعى أيضا، لأن غاية ما يفيده أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والبحث والاجتهاد. وكذلك ما استدل به أصحاب المذهب الثانى مقصور على إثبات المدعى، لأن حديث عائشة رضى الله عنها منكر غريب لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيرى وهو مطعون فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه بلفظ- اللهم فقهه فى الدين- 2/ 390. (¬2) تفسير القرطبى 1/ 28.

قال البخارى: لا يتابع فى حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدى: منكر الحديث. وقال فيه ابن جرير الطبرى: إنه ممن لا يعرف فى أهل الآثار. وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول على مغيبات القرآن، وتفسيره لمجمله ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله (¬1). وما روى من دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عمه لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر إلا القليل من معانى القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 48 - 53.

الفصل الثانى فى أنواع بيان القرآن بالسنة

الفصل الثانى فى أنواع بيان القرآن بالسنة أوجه بيان السنة للقرآن: ترد السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه هى: الأول: أن تكون مؤيدة لأحكام القرآن موافقة له من حيث الإجمال والتفصيل، وذلك مثل الأحاديث التى تدل على وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» (¬1). فهذا الحديث الشريف موافق لقوله تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (¬2) وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬3) وقوله جل شأنه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه» (¬5) فهذا القول الكريم موافق لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 27. (¬2) سورة الحج الآية: 78. (¬3) سورة البقرة الآية: 183. (¬4) سورة آل عمران الآية: 97. (¬5) أخرجه أحمد. (¬6) سورة النساء الآية: 29.

الأمثلة:

الثانى: أن تكون مبينة لأحكام القرآن من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو تفصيل مجمل، ونحو ذلك. الأمثلة: أولا: تخصيص العام. قال تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» (¬2). فالآية الكريمة بعمومها تفيد حل النكاح من غير المحرمات المذكورات فى الآيات السابقة، وظاهر أنها تشمل بهذا العموم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ولكن الحديث الشريف نهى عن ذلك، وعليه فيكون الحديث مخصصا لعموم الآية. وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (¬3). الآية وقال صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (¬4). فالآية تقضى بعمومها توريث جميع الأولاد، وبه تمسكت السيدة فاطمة رضى الله عنها حيث طلبت من أبى بكر رضى الله عنه بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم توريثها مما أفاء الله عليه. وخصوص الحديث نصّ فى عدم التوريث، وبه تمسك الصدّيق رضى الله عنه، فردّها ولم يعطها شيئا، وذلك عمل منه بتخصيص عام الآية بخصوص الحديث، وبأن المراد من الأولاد فى الآية ما عدا أولاد الأنبياء، وأما أموال الأنبياء فتكون صدقة. ولعل الحكمة فى ذلك: أن الورثة لو طمعوا فى أموالهم ربما يحبون موتهم، أو يحاولون إهلاكهم، فناسب ونزاهة الشريعة الحكيمة أن تمنع هذا سدّا للذريعة، وتكريما للأنبياء. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 24. (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب النكاح 1/ 589. (¬3) سورة النساء الآية: 11. (¬4) أخرجه مسلم فى صحيحه 2/ 81.

هذا وجدير بالذكر التنبيه على أن العلماء جميعا متفقون على تخصيص عام القرآن بالسنة المتواترة، وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد فذهب الائمة الأربعة إلى جوازه ومن العلماء من منع ذلك بحجة أن الكتاب قطعى الثبوت، والخبر الذى فيه الكلام ناقلوه متعرضون للزلل، فلا يجوز أن يحكم على الثابت قطعا بما أصله مشكوك فيه (¬1). والمختار مذهب الأئمة الأربعة، لأن الصحابة رضوان الله عليهم خصصوا قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بحديث: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» كما تقدم. على أن الإمام مالكا رحمه الله مع اعتباره دلالة العام فى القرآن ظنية لأنها من قبيل الظاهر والظاهر عنده ظنى لا يخصص عام القرآن بأخبار الآحاد مطلقا. بل هو أحيانا يخصص عام القرآن بخبر الواحد إذا عاضد الخبر عمل أهل المدينة أو قياس، فإن لم يعاضده واحد منهما فلا يخصص عام القرآن به. ومن أمثلة ذلك: ما تقدم حول قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مع الحديث الشريف حيث قال بتخصيص عموم الآية بالحديث المذكور، لأنه عاضده القياس على الجمع بين الأختين وهو منهى عنه. ويلاحظ أن القرآن قد يرد مخصصا لعموم الحديث، ومنه قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميت» (¬3). فالآية تدل على جواز الانتفاع بالصوف والوبر والشعر، والحديث بعمومه يدل على أن كل جزء انفصل عن الحيوان يكون ميتة ويحرم بالتالى الانتفاع به، ولا شك أن هذا العموم شامل أيضا ما نصت ¬

_ (¬1) البرهان لإمام الحرمين 1/ 426. (¬2) سورة النحل الآية: 80. (¬3) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب الصيد 2/ 100.

عليه الآية، ومن ثم قال العلماء بتخصيص عموم الحديث بخاص الآية، وعليه فيكون معنى الحديث كل عضو انفصل عن الحى عدا الأصواف والأوبار والأشعار فى حكم الميتة فى حرمة الانتفاع به، أما هذه الأشياء المذكورة فى الآية فيباح الانتفاع بها. ثانيا: تقييد المطلق. قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم لسعد رضى الله عنه: «الثلث والثلث كثير. أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (¬2). فالوصية فى الآية الكريمة وردت مطلقة وقيدها الحديث الشريف الذى نص على عدم الزيادة على الثلث. وقال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬3). فإن قطع اليد فى الآية مطلق لم يقيد بموضع خاص من اليد، غير أن السنة قيدت هذا الإطلاق حيث حددت موضع القطع بأن يكون من الرسغ (¬4). ثالثا: تفصيل المجمل. قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (¬5) فالحج واجب على المستطيع بمقتضى هذه الآية، غير أن السنة قد بينت مناسكه كاملة، ولم يتعرض القرآن لبيانها على التفصيل حيث تكلفت السنة بذلك. وكذلك الأمر بالنسبة للصلاة والزكاة. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 11. (¬2) أخرجه ابن ماجة فى سننه 2/ 904. (¬3) سورة المائدة الآية: 38. (¬4) الرسغ: مفصل ما بين الكف والذراع وقيل: مجتمع الساقين والقدمين- لسان العرب 2/ 1642 - (¬5) سورة آل عمران الآية: 97.

الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه. فمن الأول: تغريب الزانى البكر، وإرث الجدة. ومن الثانى: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ومنع الحائض من الصوم والصلاة. والحق أنه لا خلاف بين العلماء فى الوجهين الأولين، وإنما الخلاف بينهم فى الوجه الثالث فقط. فذهب بعض العلماء إلى القول بأن السنة لا تستقل بالأحكام، وإنما تأتى بما له أصل فى الكتاب، وعليه فهى توضح المراد منه إذا كانت مقيدة لمطلقة أو مخصصة لعامه أو مفصلة لمجمله، أما إن جاءت بغير ذلك فالغرض منها حينئذ إما إلحاق فرع بأصله الذى خفى إلحاقه به، وإما إلحاقه بأحد أصلين واضحين يتجاذبانه. ومن أمثلة ما ورد فى السنة والغرض منه إلحاق الفرع بالأصل، حديث النهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها (¬1)، فإنه فى الحقيقة قياس على ما نص عليه من تحريم الجمع بين الأختين، ومن ثم تعرض الحديث لبيان العلة من وراء هذا النهى حيث قال صلى الله عليه وسلم: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم». ومن أمثلة المتردد بين أصلين تحريم الحمر الأهلية، وذى الناب والمخلب. فالله عز وجل أحل الطيبات وحرم الخبائث ومن الأشياء ما اتضح إلحاقه بأحد الأصلين، ومنها ما اشتبه كالحمر الأهلية ونحوها، فجاءت السنة ونصت على ما يرفع الشبهة حيث قالت بالتحريم، وذهب جمهور العلماء إلى القول باستقلال السنة بالتشريع لذلك أمر الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرنا من مخالفته قال تعالى: ¬

_ (¬1) ابن ماجة 1/ 621.

قال الإمام الشوكانى رحمه الله:

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (¬1). وقال جل شأنه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬2). على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول ولا يفعل ولا يقرّ ما يخالف القرآن، فهو المبلغ عن ربه والخبير بمقاصد الشريعة والمعصوم من الخطأ (¬3). قال الإمام الشوكانى رحمه الله (¬4): اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن فى تحليل الحلال، وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه» (¬5) أى أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التى لم ينطق بها القرآن، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية، وتحريم كل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر. وأما ما يروى من طريق ثوبان فى الأمر بعرض الأحاديث على القرآن، فقال يحيى بن معين: إنه موضوع وضعته الزنادقة. وقال الشافعى رحمه الله: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه فى شىء صغير ولا كبير. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 80. (¬2) سورة النور الآية: 63. (¬3) أعلام الموقعين 2/ 308، والسنة ومكانتها فى التشريع 380، وأصول التشريع الإسلامى 48 وبحوث فى السنة المطهرة 222. (¬4) إرشاد الفحول 33. (¬5) أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب السنة 4/ 200.

وقال ابن عبد البر (¬1) فى كتاب جامع العلم: قال عبد الرحمن بن مهدى: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: «ما أتاكم عنى فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف فلم أقله». وقد عارض حديث العرض قوم فقالوا: وعرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه، لأنا وجدنا فى كتاب الله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (¬2). ووجدنا فيه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (¬3). ووجدنا فيه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (¬4). اه والظاهر- والله أعلم- أن الخلاف بين العلماء حول استقلال السنة بالتشريع خلاف لفظى فقط، لأن الكل متفق على أن هناك أحكاما جديدة وردت فى السنة ولم ترد فى القرآن الكريم. غير أن الجمهور يسمى ما ورد فى السنة فقط أحكاما استقلت السنة بتشريعها لأنها أحكام جديدة لم ينص عليها فى القرآن. فى حين يرى بعض العلماء بأنها داخلة تحت نصوص القرآن بوجه من الوجوه والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله 562. (¬2) سورة الحشر الآية: 7. (¬3) سورة آل عمران الآية: 31. (¬4) سورة النساء الآية: 80.

الباب السادس فى القرآن المكى والمدنى

الباب السادس فى القرآن المكى والمدنى وفيه فصول الفصل الأول: فى تعريف المكى والمدنى. الفصل الثانى: فى الطرق الموصلة إلى معرفة المكى والمدنى الفصل الثالث: فى خصائص كل من المكى والمدنى. الفصل الرابع: فى السور المكية والمدنية. الفصل الخامس: فى تنزلات القرآن. الفصل السادس: فى تنجيم القرآن والحكمة منه. الفصل السابع: فى أول ما نزل وآخر ما نزل.

الفصل الأول فى تعريف المكى والمدنى وفائدة العلم بذلك

الفصل الأول فى تعريف المكى والمدنى وفائدة العلم بذلك ينقسم القرآن الكريم فى مجموعه إلى مكى ومدنى، وقد اهتم العلماء جزاهم الله خير الجزاء بتمييز هذين القسمين، واستخراج خصائص كل منهما لما يترتب عليه من الفوائد التشريعية، والحق أن للعلماء فى تعريف المكى والمدنى ثلاثة اصطلاحات هى: الأول: المكى ما نزل قبل الهجرة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدنى ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة، وقد عبر الشيخ جلال الدين السيوطى عن هذا الاصطلاح بأنه أشهر الاصطلاحات الثلاثة (¬1). وقال الشيخ محمد الزرقانى بعد أن ذكر هذا الاصطلاح (¬2): «وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول، وهو تقسيم صحيح سليم ... ثم قال: ولذلك اعتمده العلماء واشتهر بينهم». الثانى: المكى ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدنى ما نزل بالمدينة، ويدخل فى مكة ضواحيها كالمنزل على النبى صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفات والحديبية، ويدخل فى المدينة ضواحيها كذلك كالمنزل على النبى صلى الله عليه وسلم فى بدر وأحد. والناظر إلى هذا التقسيم يجد أنه لوحظ فيه مكان النزول، لكنه غير ضابط لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيها، كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) الاتقان 1/ 37. (¬2) مناهل العرفان 1/ 187.

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ (¬1). الآية فإنها نزلت بتبوك. وقوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (¬2). فإن هذه الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ومما لا شك فيه أن عدم الضبط فى تعريف المكى والمدنى يعتبر عيبا يخل بالمقصود الذى هو الضبط والحصر. الثالث: المكى ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدنى ما وقع خطابا لأهل المدينة. ومعنى هذا أن ما جاء فى القرآن بلفظ: يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكى وما جاء بلفظ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدنى. وذلك لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة، فخوطبوا بيا أيّها النّاس ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا بيا أيّها الّذين آمنوا. وألحق بعض العلماء صيغة يا بنى آدم بيا أيّها النّاس وقد روى عن ميمون بن مهران رحمه الله أنه قال: «ما كان فى القرآن يأيّها النّاس أو يا بنى آدم فإنه مكى، وما كان يأيّها الذين آمنوا فإنه مدنى». والمتأمل فى هذا التقسيم يجد أنه لوحظ فيه المخاطبون لكن يرد عليه أمران هما: الأول: أنه غير ضابط ولا حاصر كسابقه، فإن فى القرآن ما نزل غير مصدر بأحدهما نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (¬3) ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 42. (¬2) سورة الزخرف الآية: 45. (¬3) سورة الأحزاب الآية: 1.

فائدة العلم بالمكى:

وقوله جل شأنه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬1). الثانى: أن هذا التقسيم غير مطرد، لأنه قد نزل بالمدينة ما جاء بصيغة (يأيّها النّاس) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (¬2) وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (¬3). فائدة العلم بالمكى: العلم بالمكى والمدنى مهم للغاية، لأنه يترتب عليه الكثير من الفوائد الغفيرة التى يحتاج إليها الإنسان والتى منها ما يلى: 1 - يترتب على معرفة المكى والمدنى تمييز الناسخ من المنسوخ، فيصار إلى الأخذ بالناسخ، وترك المنسوخ، ولا سيما فى مجال الأحكام والتشريع. فلو تعارضت آيتان لورودهما فى موضوع واحد، وكل آية منهما تثبت حكما مخالفا لما تثبته الآية الأخرى، وعرفنا أن إحدى الآيتين مكية والأخرى مدنية، ففي هذه الحالة نحكم بأن الآية المدنية ناسخة للآية المكية، نظرا إلى تأخر المدنى عن المكى. 2 - معرفة المكى والمدنى تبصرنا بمعنى الآية القرآنية، وتحجزنا عن ¬

_ (¬1) سورة المنافقون الآية: 1. (¬2) سورة النساء الآية: 1. (¬3) سورة الحجرات الآية: 13.

الخطأ فى تفسيرها. ذلك أن من قرأ سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (¬1) ولم يعلم زمن نزولها أهي مكية أم مدنية، فإنه يحار فى معناها، وقد يستخرج منها أن المسلمين لا يكلفون بالجهاد، وإنما عليهم أن يقولوا للآخرين: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ لكنه إذا علم أن هذه السورة نزلت فى مكة حين قال أهل الشرك والضلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال يا محمد نعبد ربك يوما وتعبد آلهتنا يوما، أدرك أن هذه السورة كانت علاجا للمرحلة التى قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكة، وليست دليلا على عدم مشروعية الجهاد كما نزلت بذلك الآيات الأخرى فى المدينة المنورة (¬2). 3 - معرفة المكى والمدنى تدعو إلى الثقة بالقرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف والتبديل. ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة، وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر، وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار، وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء، وما نزل بالصيف، وما نزل بالأرض، وما نزل بالسماء. فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الكافرون بتمامها. (¬2) التعبير المغنى فى القرآن 47، ومن روائع القرآن للبوطى 103. (¬3) مناهل العرفان 1/ 188.

الفصل الثانى فى الطرق الموصلة إلى معرفة المكى والمدنى

الفصل الثانى فى الطرق الموصلة إلى معرفة المكى والمدنى يلاحظ أنه لا طريق إلى معرفة المكى والمدنى إلا بما ورد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين فى ذلك. فالمعروف عند أهل العلم أنه لم يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم بيان لكل من المكى والمدنى، إذ لو بينه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب فى بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، ليعرف الحكم الذى تضمنهما فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه وقوله هذا هو الأول المكى وهذا هو الآخر المدنى. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكى والمدنى، مما لا يسوغ الجهل به لم تتوافر الدواعى على إخبارهم به، ومن ثم ساغ أن يختلف فى بعض القرآن هل هو مكى أو مدنى؟ وأن يعملوا فى القول بذلك ضربا من الرأى والاجتهاد (¬1). فالنبى صلى الله عليه وسلم لم يؤمر ببيان المكى والمدنى والصحابة رضوان الله عليهم كانوا فى زمانه فى غنى عن هذا البيان، لأنهم كانوا يشاهدون الوحى والتنزيل، ويعرفون مكانه وزمانه وأسباب نزوله فهل بعد العيان بيان؟ ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن 1/ 191.

قال ابن مسعود رضى الله عنه: والله الذى لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. اه.

الفصل الثالث فى خصائص كل من المكى والمدنى

الفصل الثالث فى خصائص كل من المكى والمدنى ذكرت أن مرد معرفة المكى والمدنى هو السماع عن طريق الصحابة والتابعين، غير أن هناك علامات وضوابط يعرف بها المكى والمدنى، لذلك قال العلماء لمعرفة المكى والمدنى طريقان: (أ) سماعى. (ب) قياسي. فمن علامات وخصائص القرآن المكى ما يلى: 1 - آيات القرآن المكى على الجملة قصار ذات وقع معين فى الأذن والنفس، تبعث على الرهبة والخشية، وتشعر بمعنى الجلال والجبروت، كمعظم السور التى تقرؤها فى جزء تبارك وعم يتساءلون، فجزء تبارك كله مكى وعدد آياته 431 آية. وجزء عم كله مكى وعدد آياته 570 آية. 2 - الآيات المكية ليس فيها شىء من التشريع التفصيلى، بل معظم ما جاء فيها يرجع إلى المقصد الأول من الدين، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، وإقامة البراهين على وجوده ووصف يوم الدين وأهواله ونعيمه، والحث على مكارم الأخلاق التى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتكملها. ثم ضرب الأمثال بما أصاب الأمم السابقة حينما خالفت بها أنبياؤها.

ومن خصائص وعلامات القرآن المدنى ما يلى:

3 - خطاب الجمهور فى الآيات المكية جاء- (يأيّها النّاس) ولم ير فى السور المكية (يأيّها الّذين آمنوا). 4 - كل سورة جاء فيها لفظ (كلا) فهى مكية. وقد ذكر هذا اللفظ فى القرآن ثلاثا وثلاثين مرة فى خمس عشرة سورة كلها فى النصف الأخير من القرآن. قال بعض العلماء: وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ... ولم تأت فى القرآن فى نصفه الأعلى ولعل الحكمة فى ذلك أن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والإنكار، بخلاف النصف الأول وما نزل منه فى اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم. 5 - كل سورة فيها سجدة فهى مكية. 6 - كل سورة فى أولها حروف التهجى فهى مكية سوى سورة البقرة، وآل عمران فإنهما مدنيتان بالإجماع وفى الرعد خلاف. 7 - كل سورة فيها قصة آدم عليه السلام، فهى مكية ما عدا سورة البقرة. 8 - كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهى مكية سوى سورة البقرة (¬1). ومن خصائص وعلامات القرآن المدنى ما يلى: 1 - الآيات المدنية فى الغالب طويلة فجزء (قد سمع) كله مدنى وعدد آياته 137 آية، وسورة الأنفال نصف جزء من القرآن وهى مدنية ¬

_ (¬1) تاريخ التشريع للخضرى 15 ومناهل العرفان 1/ 190.

وعدد آياتها 75 آية فى حين أن سورة الشعراء وهى مكية ونصف جزء أيضا عدد آياتها 227 آية. 2 - خطاب الجمهور فى الآيات المدنية يغلب أن يكون بقوله تعالى: (يأيّها الّذين آمنوا) وقلما يرد بقوله: (يأيّها النّاس) وقد قال العلماء إنه قد جاء الخطاب فى الآيات المدنية بقوله: (يأيّها النّاس) فى سبع مواضع هى: (1) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (¬1) (2) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (1) (3) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً (¬3) الآية. (4) قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (3) (5) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ (3) الآية. (6) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ (3) الآية. (7) قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا (¬7) ¬

_ (¬1) سورة البقرة آيتا: 21، 168. (¬3) سورة النساء آيات: 1، 133، 170، 174. (¬7) سورة الحجرات الآية: 13.

3 - كل سورة فيها الحدود والفرائض فهى مدنية. 4 - كل سورة تتحدث عن الجهاد وأحكامه فهى مدنية. 5 - الآيات التى تتحدث عن الشورى مدنية. 6 - الآيات المدنية تتحدث عن الأحكام والتشريعات المتعلقة بالعبادات والمعاملات وغيرهما. 7 - سور القرآن التى يوجد فيها للمنافقين مدنية ما عدا سورة العنكبوت. والتحقيق أنها مكية عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها، فهى مدنية وهى التى ذكر فيها المنافقون. على العموم المدنى من السور ينبغى أن يكون منزلا فى الفهم على المكى، وكذلك المكى بعضه مع بعض، والمدنى بعضه مع بعض على حسب ترتيبه فى التنزيل. والدليل (¬1) على ذلك أن معنى الخطاب المدنى فى الغالب مبنى على المكى كما أن المتأخر من كل واحد منها مبنى على متقدمه. دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصل. ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبى 3/ 406.

الفصل الرابع فى السور المكية والمدنية

الفصل الرابع فى السور المكية والمدنية القارئ فى الإتقان (¬1) يجد فيه آراء كثيرة ذكرها الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه الله فى تعيين السور المكية والمدنية. ولعل ما تستريح إليه النفس من هذه الآراء ما ذكره الجلال عن الشيخ أبى الحسن بن الحصار رحمه الله، الذى ذهب إلى القول بأن المدنى باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك فهو مكى، وقد نظم رحمه الله فى ذلك أبياتا فقال: يا سائلى عن كتاب الله مجتهدا ... وعن ترتّب ما يتلى من السّور وكيف جاء بها المختار من مضر ... صلّى الإله على المختار من مضر وما تقدّم منها قبل هجرته ... وما تأخر فى بدو وفى حضر ليعلم النسخ والتخصيص مجتهد ... يؤيد الحكم بالتاريخ والنظر تعارض النّقل فى أمّ الكتاب وقد ... تؤوّلت الحجر تنبيها لمعتبر أمّ القرآن وفى أمّ القرى نزلت ... ما كان للخمس قبل الحمد من أثر وبعد هجرة خير الناس قد نزلت ... عشرون من سور القرآن فى عشر فأربع من طوال السبع أولها ... وخامس الخمس فى الأنفال ذى العبر وتوبة الله إن عدّت فسادسة ... وسورة النور والأحزاب ذى الذكر وسورة لنبىّ الله محكمة ... والفتح والحجرات الغر فى غرر ثم الحديد ويتلوها مجادلة ... والحشر ثم امتحان الله للبشر ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 44.

أنواع السور المكية والمدنية:

وسورة فضح الله النفاق بها ... وسورة الجمع تذكار لمذكر وللطلاق وللتحريم حكمهما ... والنصر والفتح تنبيها على العمر هذا الذى اتفقت فيه الرواة له ... وقد تعارضت الأخبار فى أخر فالرعد مختلف فيها متى نزلت؟ ... وأكثر الناس قالوا الرعد كالقمر ومثلها سورة الرحمن شاهدها ... مما تضمّن قول الجن فى الخبر وسورة للحواريين قد علمت ... ثم التغابن والتطفيف ذو النّذر وليلة القدر قد خصّت بملتنا ... ولم يكن بعدها الزلزال فاعتبر وقل هو الله من أوصاف خالقنا ... وعوذتان تردّ البأس بالقدر وذا الذى اختلف فيه الرواة له ... وربما استثنيت آي من السور وما سوى ذاك مكىّ تنزله ... فلا تكن من خلاف الناس فى خصر فليس كلّ خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظّ من النظر فابن الحصار رحمه الله يذكر فى هذه الأبيات السور المدنية المتفق عليها وهى: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. كما يذكر السور المختلف فيها وهى: سورة الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن، والتطفيف، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والمعوذتين. ويرى رحمه الله أن السور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهى اثنتان وثمانون سورة. أنواع السور المكية والمدنية: الحق أن السور المكية والمدنية أربعة أنواع هى

الأول: السورة كلها مكية كسورة المدثر. الثانى: السورة كلها مدنية كسورة آل عمران. الثالث: السورة مكية ما عدا آيات منها كسورة الأعراف، فإنها مكية عدا آية: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ (¬1) قال قتادة (¬2) واستثنى غيره هذه الآية المذكورة وما بعدها من الآيات إلى قوله جل شأنه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (¬3) الرابع: السورة مدنية ما عدا أربع آيات منها هى قوله جل شأنه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية: 163. (¬2) مناهل العرفان 1/ 192. (¬3) سورة الأعراف الآية: 172. (¬4) سورة الحج آيات: 52 - 55.

الفصل الخامس فى تنزلات القرآن

الفصل الخامس فى تنزلات القرآن مما لا خلاف فيه أن العلم بنزول القرآن مهم للغاية لأنه أساس للإيمان به، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وسأتناول بعون الله وحده، الكلام عن نزول القرآن فى هذا الفصل فأقول وبالله التوفيق: إن الله عز وجل شرف قرآنه بأن جعل له ثلاث تنزلات (¬1): التنزل الأول: من الله عز وجل إلى اللوح المحفوظ. قال جل شأنه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (¬2) وظاهر أن تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ كان بطريقة، وفى وقت لا يعلمها إلا الله، وكان جملة لا مفرقا، لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. أضف إلى ذلك أن أسرار التنجيم على النبى صلى الله عليه وسلم- والتى سأذكرها بعون الله قريبا- لا يعقل فى هذا التنزل. وربما يسأل سائل ويقول: ما الحكمة فى تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ؟ والجواب: أن حكمة هذا التنزل ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح المحفوظ نفسه، حيث جعله الله سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدّر، وكل ما كان وما يكون. فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 36. (¬2) سورة البروج آيتا: 21، 22.

التنزل الثانى:

التنزل الثانى: وكان إلى بيت العزة فى السماء الدنيا. قال جل شأنه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (¬1) وقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (¬2) وقد جاء فى بعض الروايات ما يفيد أن هذا التنزل كان جملة إلى بيت العزة. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فصل القرآن (¬3) من الذكر فوضع فى بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبى صلى الله عليه وسلم. وروى عنه أيضا: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع (¬4) النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه فى إثر بعض (¬5) فهاتان الروايتان صحيحتان وموقوفتان على ابن عباس رضى الله عنهما إلا أن لهما حكم المرفوع لما هو مقرر من أن قول الصحابى (¬6) الذى لا مجال فيه للرأى حكمه حكم المرفوع. وكان هذا التنزل فى ليلة القدر جملة واحدة. وقد قال العلماء: إن الحكمة من وراء هذا التنزل تفخيم أمر القرآن، وأمر من نزل عليه وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا القرآن آخر الكتب المنزلة على آخر رسول وأشرف نبى صلى الله عليه وسلم وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا كان إلهابا لشوق النبى صلى الله عليه وسلم إلى على حد قول القائل: ¬

_ (¬1) سورة الدخان الآية: 3. (¬2) سورة القدر الآية: 1. (¬3) أخرجه الحاكم فى المستدرك 2/ 223 ط: دار الفكر بيروت. (¬4) المواقع هى المساقط يقال مواقع الغيث أى مساقطه- مختار الصحاح 732، ولسان العرب 5/ 4894 - (¬5) أخرجه الحاكم فى المستدرك 2/ 222. (¬6) المعتمد 2/ 174.

3 - التنزل الثالث:

وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام على العموم فى تعدد النزول وأماكنه مبالغة فى نفى الشك عن القرآن الكريم، و؟؟؟ للإيمان به، وباعث على الثقة فيه، لأن الكلام إذا سجل فى سجلات متعددة كان ذلك أنفى للريب عنه، وأدعى إلى تسليم ثبوته مما لو سجل ودون فى سجل واحد. 3 - التنزل الثالث: وكان ذلك على قلب النبى صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬1) وهذا التنزل ليس لجبريل فيه سوى حكايته للرسول صلى الله عليه وسلم، وإيحائه إليه وليس للرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه وبيانه وتفسيره ثم تطبيقه وتنفيذه. ولقد دس أعداء الإسلام فى بعض كتبهم من أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم بمعانى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم يعبر عنها بلغة العرب، وقيل: إن اللفظ لجبريل وهذا كلام ساقط لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس له؟ مع أن الله يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (¬2) هذا وقد استمر هذا التنزل- بعد أن ابتدأ من حين البعثة- حتى قرب انتهاء حياته صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء آيات: 193 - 195. (¬2) سورة التوبة الآية: 6.

الفصل السادس فى تنجيم القرآن والحكمة منه

الفصل السادس فى تنجيم القرآن والحكمة منه يلاحظ أن لنزول القرآن منجما- أى مفرقا- حكما جليلة يعرفها أهل العلم والفضل، ويمكن أن نجمل هذه الحكم فيما يلى: الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (¬1). فهذه الآية الكريمة تذكر فى معرض الرد على المشركين حين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت الكتب السماوية السابقة، فرد الله عليهم- كما ذكرت الآية- بقوله تعالى كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ولا شك أن تثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم إنما هو رعاية من الله عز وجل، وتأييد لرسوله صلى الله عليه وسلم أمام اضطهاد وتكذيب الكفار له. فكانت الآيات القرآنية تنزل عليه صلى الله عليه وسلم تقوى قلبه وتزيل عنه ما أصابه من ألم وشدة. الحكمة الثانية: تسهيل حفظ القرآن وفهمه على المسلمين. فالعرب كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، قال جل شأنه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (¬2). وكانوا مشغولين بمصالحهم المعيشية، ولا شك أن القرآن لو نزل جملة واحدة ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية: 32. (¬2) سورة الجمعة الآية: 2.

على هذه الأمة لعجزت تماما عن حفظه وفهمه، فاقتضت حكمته. جل شأنه أن ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ووعيه وفهمه. الحكمة الثالثة: مسايرة الحوادث والطوارئ فى تجددها وتفرقها. فكلما جدّ منهم جديد نزل من القرآن ما يناسبه، وفصّل لهم الله من أحكامه ما يوافقه، وتنظيم هذه الحكمة أمورا أربعة: أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عند ما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته كما قال تعالى فى جواب سؤال أعدائه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1). أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (¬2). ثانيها: مجاراة الأقضية والحوادث فى حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها، ومعلوم أن تلك الأقضية والحوادث لم تقع جملة واحدة، وإنما وقعت متفرقة. ومن ثم كان لا مفرّ من نزول القرآن مفرقا على حسب هذه الأقضية والوقائع ومن الأمثلة على ذلك: قول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ (¬3) الآيات. فقد نزل صدر سورة المجادلة فى حق خولة بنت ثعلبة، حين رفعت شكواها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إلى الله فى حق زوجها أوس بن الصامت حين ظاهر منها (¬4). ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح الأخطاء التى كانوا يخطئون فيها. ¬

_ (¬1) سورة الاسراء الآية: 85. (¬2) سورة البقرة الآية: 219. (¬3) سورة المجادلة الآية: 1. (¬4) أسباب النزول للنيسابورى 231 ط: الحلبى

مثال ذلك: قول الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (¬1) فقد نزل هذا القول الكريم فى غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى موقع الخطأ الذى وقعوا فيه. رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين، وهتك أستارهم للنبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويظهر هذا واضحا فى قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬2) فالثلاث عشرة آية المذكورة فضحت المنافقين وكشفت أستارهم. الحكمة الرابعة: التدرج فى تشريع الأحكام، فالله عز وجل لم يكلف عباده ما لا يطيقونه، بل سلك بهم طريقا وسطا. فاهتم القرآن أولا بزرع وتثبيت العقيدة فى النفوس، ولم يكلفهم من العبادات فى مكة إلا القليل، فالصلاة لم تفرض عليهم إلا قبل الهجرة بقليل، ثم فرض الصيام والزكاة فى السنة الثانية من الهجرة، ثم فرض الحج فى السنة السادسة من الهجرة أيضا. ولم يحرم القرآن عليهم ما كان يجرى فى نفوسهم جرى الدم فى العروق، فالخمر لم تحرم عليهم مطلقا إلا فى المدينة المنورة حينما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (¬3). وكذا الربا لم يحرمه القرآن إلا بعد الهجرة أيضا. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 121. (¬2) سورة البقرة آيات: 8 - 20. (¬3) سورة المائدة الآية: 90.

الحكمة الخامسة: الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنه كلام الله وحده. فالقرآن الكريم حين يقرؤه الإنسان يجد أن أوله تمهيد لآخره، وآخره تصديق لأوله، فهو جيد السبك، متين الأسلوب (¬1). لا يوجد أى تفكك أو انفصام بين أجزائه، مع أنه نزل فى ثلاثة وعشرين عاما، الأمر الذى يجعل كل منصف ينطق بأن القرآن كلام الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (¬2). ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 46 والتبيان فى علوم القرآن 40. (¬2) سورة النساء الآية: 82.

الفصل السابع فى أول ما نزل وآخر ما نزل

الفصل السابع فى أول ما نزل وآخر ما نزل جاء فى صحيح البخارى (¬1) فى حديث بدء الوحى ما يفيد أن أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (¬2). ثم المدثر. وجاء فى صحيح مسلم- أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى قوله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (¬3) الا أنه جاء فى صحيح مسلم أيضا عن جابر: أول ما نزل من القرآن سورة المدثر. ولعل جابرا رضى الله عنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحى، فسمع آخرها ولم يسمع أولها فتوهم أنها أول ما نزلت وليس كذلك. نعم هى أول ما نزل بعد سورة «العلق» لما ثبت فى الصحيحين (¬4) عن جابر رضى الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يحدث عن فترة الوحى فقال: بينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض فجثثت (¬5) منه فرقا فرجعت فقلت زمّلونى زمّلونى، فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ (¬6). وجاء فى البرهان (¬7): «وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة ... وطريق الجمع بين الأقاويل ¬

_ (¬1) صحيح البخارى 1/ 6، 6. (¬2) سورة العلق الآية: 1. (¬3) صحيح مسلم 1/ 79. (¬4) البخارى 1/ 7، ومسلم 1/ 80. (¬5) أى فزعت- لسان العرب 1/ 544 - والفرق هنا معناه الخوف- مختار الصحاح 500 - (¬6) سورة المدثر آيتا: 1، 2. (¬7) البرهان للزركشى 1/ 207.

وأما ما آخر ما نزل فقد اختلف فيه العلماء كثيرا:

أن أول ما نزل من الآيات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل من أوامر التبليغ- يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة». وقيل: أول ما نزل للرسالة: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وللنبوة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فإن العلماء قالوا: قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ دالّ على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن النبوة عبارة عن الوحى إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم، لأنها عبارة عن الوحى إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام. وأما ما آخر ما نزل فقد اختلف فيه العلماء كثيرا: فعن ابن عباس رضى الله عنهما أن آخر ما نزل قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (¬1). وعن عائشة رضى الله عنها أن آخر ما نزل سورة المائدة. وقيل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ (¬2). وقيل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (¬3). وقيل آخر ما نزل آية الربا. قال القاضى أبو بكر فى الانتصار (¬4): وهذه الأقوال ليس فى شىء منها ما رفع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد، وليس العلم بذلك من فرائض الدين ... ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه ¬

_ (¬1) سورة النصر الآية: 1. (¬2) سورة البقرة الآية: 281. (¬3) سورة التوبة الآية: 129. (¬4) هو القاضى أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانى المتكلم المشهور توفى سنة 403 هـ- شذرات الذهب 2/ 57 - .

فائدة:

من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اليوم الذى مات فيه أو قبل مرضه بقليل وغيره سمع منه بعد ذلك. هذا ما قاله القاضى رحمه الله، ولعل النفس تستريح- كما ذكر الشيخ الزرقانى رحمه الله (¬1) - إلى القول القائل: إن آخر آية نزلت هى قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ الأول: ما تحمله هذه الآية فى طياتها من الإشارة إلى ختام الوحى والدين بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم القيامة، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل. الثانى: روى أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية تسع ليال فقط والله تعالى أعلم. فائدة: افتتح الله عز وجل سور القرآن بعشرة أنواع من الكلام لا يخرج شىء من السور عنها. الأول: الثناء عليه سبحانه وتعالى، والثناء قسمان: 1 - إثبات لصفات المدح وهو التحميد فى خمس سور، وتبارك فى سورتين. 2 - نفى وتنزيه من صفات النقص وهو التسبيح فى سبع سور. الثانى: حروف التهجّي فى تسع وعشرين سورة. الثالث: النداء فى عشر سور: خمس بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم: الأحزاب، والطلاق، والتحريم، والمزمل، والمدثر، وخمس بنداء الأمة: النساء، والمائدة، والحج، والحجرات، والممتحنة. الرابع: الجمل الخبرية نحو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (¬2)، ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 90. (¬2) سورة الأنفال الآية: 1.

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (¬1)، أَتى أَمْرُ اللَّهِ (¬2) وجملة السور المبتدأة بالجمل الخبرية ثلاث وعشرون سورة. الخامس: القسم فى خمس عشرة سورة منها الصافات، والبروج، والطارق. السادس: الشرط فى سبع سور هى: الواقعة، والمنافقون، والتكوير، والانفطار، والانشقاق، والزلزلة، والنصر. السابع: الأمر فى ست سور: الجن، والعلق، والكافرون، والصمد، وقل أعوذ «المعوذتين». الثامن: الاستفهام فى ست سور: الإنسان، والنبأ، والغاشية، والشّرح، والفيل، والماعون. التاسع: الدعاء فى ثلاث: ويل للمطففين، ويل لكل همزة، المسد. العاشر: التعليل فى: لإيلاف قريش. وقد نظمت هذه العشرة فى بيتين لأبى شامة عبد الرحمن بن إسماعيل رحمه الله حيث قال: أثنى على نفسه سبحانه بثبو ... ت الحمد والسلب لما استفتح السّورا والأمر شرط النداء والتعليل والقسم الد ... عا حروف التهجّى استفهم الخبرا ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 1. (¬2) سورة النحل الآية: 1.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها الحق أن ما جاء فى هذا الكتاب هو خلاصة ما ذكره علماء الأصول والمشتغلون بعلوم القرآن، ولا يمكن لى أبدا أن أزعم بأنه من جهدى الشخصى فحسب، وإنما مثلى كإنسان رأى العديد من اللآلئ والجواهر التى تبهر العين، وتنير الصدر مبعثرة فى أماكن متفرقة فجمعها ونظمها فى عقد واحد. وإن تجد عيبا فسدّ الخللا ... فجلّ من لا فيه عيب وعلا وما أحسن قول القائل: فإن وقفت قدرتى دون همّتى ... فمبلغ علمى والمعاذير تقبل وكل ما أطلبه وأتمناه وأنا أختم هذا الكتاب أن يرجع المسلمون إلى قرآنهم يتأدبون بأدبه، ويتخلقون بخلقه قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى سورة طه آيات: 123، 126. هذا وأسأله جل شأنه أن يحفظنا بالقرآن ويجعله جليسا لنا فى وحدتنا وأنيسا لنا فى غربتنا وشفيعا لنا يوم يقوم الناس لرب العالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الفقير إلى عفو الله ورضاه أبو أحمد محمد إبراهيم الحفناوى

§1/1