خواطر حول الوهابية

محمد إسماعيل المقدم

حقُوق الطبع محفُوظَة دار التوحيد للتراث الإسكندرية لصاحبها/ أشرف نصار الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م رقم الإيداع 2008/ 4171 جمهورية مصر العربية - الإسكندرية- الورديان بجوار مسجدي أبي بكر الصديق وناصر السنة هاتف: 0124060045

بسم الله الرحمن الرحيم

خواطر حول الوهابية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نصر نبيه وخليله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالرعب مسيرة شهر، وجعل النصر حليف من اتبعه إلى آخر الدهر، وصلى الله على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبه، وسلم صلاة وسلامًا دائمَيْنِ بلا حَصْر. أما بعد: فقد مضت سنة الله -تَعَالى- التي لا تتبدل أن يعارض أهلُ الباطل أهلَ الحق الداعن إليه، وأن يشنعوا عليهم، ويثيروا الشبه والشكوك حولهم ليصدوا عن سبيل الله، ويبغوها عوجًا. ولأن دعواتِ الإصلاح والتجديد لا ترضى بالحلول الوسط، ولا بأنصاف الحلول، فإنها تصارع المعتقداتِ الفاسدة، وتلقي في أول أمرها مقاومة عنيفة كرد فعل دفاعي من خصومها، إذ إنها حين تصطدم بالمألوف "المُتكَلِّس" وتحاول تغييره، فإنها تتحدى أهلَه والمنتفعين به، وتستفزهم مهما كانت فدائية ومنقذة لهم، تلك طبيعة الأشياء، ولذلك جابههت دعوة التجديد التي أنار شعلتهاَ شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- حالة عدم الانقياد والتصلب التي أظهرها معارضوه، ولم تقتصر تلك الحالة على شَهْر السلاح في وجه هذه الدعوة وتجييشِ الجيوش، بل انضم إليها أقلام متعصبة حاولت مسخ حقيقتها، وتشويه صورتها بالافتراء والكذب. لقد تسرع الكثيرون في الحكم على الشيخ، ولعل بعضهم لم يقرأ للشيخ أصلًا، وإنما قرأ عنه من أعدائه، ولعبت السياسة دورًا في هذا، لا سيما السياسة

الإنكليزية التي كانت ترصد وتراقب بواعث النهضة في الأمة الإسلامية، وتحاول الإجهاز عليها قبل أن تؤتي ثمارها. كما أن الدولة العثمانية -التي انتشرت في ظلها طرق صوفية غالية- انطلقت في هجومها على الدعوة السلفية لمخالفتها لها في المنهاج، وفي بعض متعلقات العقيدة كالتوسل، والاستغاثة بالموتى، وسائر البدع والشركيات. أضف إلى ذلك جماعة الروافض الذين ينالون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم-، ومن أعلام أهل السنة، ويتورطون في شركيات يزعمونها من أصول الدين. ولا يظن ظانٌّ أن مناطق الاحتكاك أو مسائل الاختلاف بين الوهابيين وخصومهم تخص الوهابيين وحدهم، بل هي معتقد السلف الصالح والصدر الأول المبنيُّ على أدلة الكتاب والسنة، انطلاقًا من "منهاج النبوة"، وليس للوهابية سوى فضل إحيائها، وتجديدها، وتذكير المسلمين بها، وتنبيههم إليها، ونفض غبار البدع عنها. ولست بمقتصرٍ -لتأييد هذه الحقيقة- على ذكر شهادات المئات من أعلام المسلمين الذين نافحوا عن هذه الدعوة، وأقروا بدورها التجديدي العظيم، ولكني أعرض أولاً شهاداتِ خصوم الإسلام ممن أنصفوها، من باب: ومليحةٍ شهدت لها ضَرَّاتُها ... والفضل ما شهدت به الأعداءُ ثم أُثنِّي بذكر شهادات بعض أعلام المسلمين ممن أشادوا بها (¬1). ¬

_ (¬1) وعامتها منقول من كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي -رحمه الله تعالى- ص (80 - 117) بتصرف.

جاء في "دائرة المعارف البريطانية": "الحركة الوهابية اسم لحركة التطهير في الإسلام، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح". وقال المستشرق الأسباني "أرمانو": "إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق، فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وقال المستشرق "جولدتسيهر" في كتابه "العقيدة والشريعة": "إذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ المديني الحقيقة الآتية: يجب على كل من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصارًا للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي وأصحابه، فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان" اهـ. وقال "برنارد لويس" في كتابه "العرب في التاريخ": "وباسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول، نادى محمد ابن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيادات باعتبارها بدعًا خرافية غريبة عن الإسلام الصحيح"اهـ

وقال المستشرق الإنكليزي "جب" في كتابه "الاتجاهات المدنية في الإسلام": "أما مجال الفكر: فإن الوهابية بما قامت به من الفتن ضد التدخلات العدوانية، وضد الأصول القائلة بوحدة الوجود، التي تريد تدنيس التوحيد في الإسلام، فقد كانت عاملًا مفيدًا للخلاص الأبدي، وحركة تجديد أخذت تنجح في العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا"اهـ وقال بوكهارت: "وما الوهابية -إن شئنا أن نصفها- إلا الإسلام في طهارته الأولى"اهـ، وقال: "لكي نصف الدين الوهابي، فإن ذلك يعني وصف العقيدة الإسلامية، ولذا فإن علماء القاهرة أعلنوا أنهم لم يجدوا أي هرطقة -أي بدعة أو خروجًا عن الدين- في الوهابية"اهـ. وذكر الدكتور "داكبرت" المؤرخ الألماني في كتابه "عبد العزيز" أن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب كانت تملأ قلبه فكرة جديدة للقوى العربية، وأنه عزا تلاشي قوة العرب الذي أخضعهم للنفوذ الأجنبي إلى ابتعادهم عن سيرة السلف الصالح، وانقسامهم إلى شيع، وابتعادهم عن خُلُقهم العربي الأصيل، ثم قال د. "داكبرت": "ورأى الشيخ أن سبب الإنقاذ هو الرجوع إلى تعاليم الدين المشروعة، إلى تعاليم الرسول الصحيحة، فراح يبشر -بوحي من ضميره وعقيدته - بمحاربة البدع التي أُدْخِلت على الإسلام عبر العصور الغايرة، والضالِّ المضل من تقارير علماء الدين غيرَ مقيمٍ وزنًا إلا لما نصَّ عليه القرآن صراحة، أو لما يمكن نسبتُه بصورة قاطعةٍ للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وراح يحارب بكل قواه المستمدة من عقيدته الصلبة تقديسَ الأولياء، وجعلهم واسطة بين الله وبين الناس، وينادي

بهدم الأضرحة، ومزارات الأولياء، وإزالة معالمها، اقتداءً بالنبي الكريم، الذي حارب بدعة تقديس الهياكل، وعبادة الأصنام الموروثة من الجاهلية"اهـ. ملخصًا. وقال المؤرخ الفرنسي الشهير "سيديو" ما معناه: "إن انكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين، خافتا أن ينتبه المسلمون فينضموا إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم، ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر -رضي الله عنه-، فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوروبا منها في خسران عظيم، فحرضتا الدولة العلية على حرجهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا"اهـ (¬1). ... وفي كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب" ص (13) قال الدكتور "طه حسين" مشيرًا إلى المذهب الوهابي: ¬

_ (¬1) هكذا نقله عنه أحمد بن سعيد البغدادي في كتابه "نديم الأديب" ص (11)، حيث قال: "وأما سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو (سيديو) الفرنساوي، وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها المرحوم على باشا مبارك، وخلاصة معناه"، ثم ذكر كلامه المثبت أعلاه وانظر: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ص (97).

"قلت: إن هذا الذهب جديد وقديم معًا، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القويمة إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - خالصًا لله وحده، مُلغيًا كل واسطة بين الله والناس"اهـ. وقال أيضاً في صفحتَيْ (14،13): " ... ولولا أن الترك والمصرين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو أن يُوحِّدَ هذا المذهبُ كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول". وقال "طه حسين" أيضاً: "إذا كان الوهابيون لم يستطيعوا تكرار الفتح الإسلامي، فقد استطاعوا أن يبرهنوا على إمكانية تحقيقه، أو على الأقل استطاعوا أن يدعموا حجة الرافضين للحل التغريبي" (¬1). موقف الشيخ "محمد عبده": قال أحمد أمين (¬2): "وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد ¬

_ (¬1) نقله عنه في "السعوديون والحل الإسلامي" ص (110). (¬2) في كتابه "من زعماء الإصلاح" ص (19).

الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى عهد ابن تيمية إلى عهد ابن عبد الوهاب وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: 1 - محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى. 2 - فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين" ... وفي كتابه "خمسون عامًا في جزيرة العرب" يذكر الشيخ حافظ وهبة أنه سمع الشيخ محمد عبده مفتي مصر "يثني في دروسه بالأزهر على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويلقبه بالمصلح العظيم، ويلقي تبعة وقف دعوته الإصلاحية على الأتراك، وعلى محمد علي الألباني لجهلهم، ومسايرتهم لعلماء عصرهم، ممن ساروا على سنة من سبقهم من مؤيدي البدع والخرافات، ومجافاة حقائق الإسلام"اهـ (¬1). استدراك: إن القول بأن دعوة الشيخ محمد عبده صدًى لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يخلو من مسامحة، ولا شك في وجود بعض الملامح المشرقة في ¬

_ (¬1) نقلًا من "من زعماء الإصلاح" لأحمد أمين ص (21).

دعوة الأول، لكن أن نغلو في وصفها حتى نعدها امتدادًا للمنهج السلفي الواضح الذي تبناه ابن عبد الوهاب فهذه مجازفة، أضف إلى ذلك النّفس الاعتزالي الذي اتسمت به دعوة الشيخ محمد عبده، التي تميزت بالمبالغة في الاعتداد بالعقل، والانهزام أمام الغرب المكذِّب بعالم الغيب. وإذا كان الشيخ محمد عبده قد هاجم بدع الصوفية وانحرافاتهم، الأمر الذي يلتقي به مع الوهابية، لكن ذلك بمجرده لا يكفي لوصف منهج محمد عبده بأنه سلفي، يقول د. محمد محمد حسين -رحمه الله-: " .. حتى خلطوا بهم - أي بالوهابيين السلفين - كل من دعا بهذه الدعوة - أي: مهاجمة الصوفية - واعتبروه منهم، غافلين عن أن التصوف يمكن أن يهاجم من منطلقين مختلفين: - من منطلق سلفي يهاجم الابتداع. - ومن منطلق عَلْماني ينكر الغيبيات، ويخضعها للتفكير الحر، ومن هذا المنطلق خلطوا بين الأفغاني ومحمد عبده، وبن محمد بن عبد الوهاب"اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ص (29). استدراك: ويكفي للتدليل على بعد الشيخ محمد عبده عن المنهج السلفي أنه في "رسالة التوحيد" لم يورد توحيد العبادة الذي هو أول واجب على المكلف، حتى استدرك عليه تلميذه العلامة السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله- قائلاً: فات الأستاذَ أن يصرح بتوحيد العبادة، وهو أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يعبد الله وحده، ولا يُعبَدَ غَيرُه بدعاءٍ، ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوا معه من الصالحين والأصنام ... هذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كلُّ رسولٍ قومَه بقوله: {أعبُدُوا اَللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهَ غَيرُه}. وقال الدكتور محمد خليل هراس -رحمه الله- في كتابه "دعوة التوحيد": "وقد عرَّفه -أي: التوحيد- الشيخ محمد عبده -رحمه الله- في رسالة التوحيد بأنه: (علم يُبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن يُنفى عنه، وعن الرسل لإثبات رسالتهم، وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم)، فلم يذكر في تعريفه شئون الغيب، وأحوال المعاد" -مع أن الحد ينبغي أن يكون جامعًا مانعًا- ثم قال بعد ذلك: "وأصل معنى التوحيد اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، وسمِّي هذا العلم به تسميةً له بأهم أجزائه، وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون، ومنتهى كل قصد، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تشهد به آيات الكتاب العزيز) "اهـ. وقد غلط الشيخ محمد عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى من بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ... ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثرًا بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية الذي هو أقصى الغايات ونهاية النهايات"اهـ انظر: "دعوة التوحيد" ص (8 - 10).

وقال أحمد بن سعيد البغدادي: "وأما حقيقة هذه الطائفة فإنها حنبلية المذهب، وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمل، لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل، وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمِن باب أولى، ومنهم من يقول إن هذه الطائفة تنهى عن وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأوصاف المدح والتعظيم، ويقول إنها تؤمن بقدم القرآن، وبهذا يظهر بدهية التناقض، لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِنَكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وآيات غير هذه كثيرة، أما ما نهى عنه محمد بن عبد الوهاب فإنما هو الوصف بأوصاف الألوهية كالقدرة والإرادة وعلم الغيب كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعبد"، وَمَنْ أراد أن يعرف جليًّا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- فإنه مذهبهم .. " إلى أن قال -رحمه الله-: "وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون، ومَنْ سَبَّها يأثم، والله أعلم بغيبه وأحكم"اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) "نديم الأديب" ص (11).

وكتب الأستاذ محمد كرد علي -رحمه الله- فصلًا ممتعًا عن أصل الوهابية في كتابه "القديم والحديث"، ثُم قال في أهل نجد: "وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم، فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبًا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص، مثل هؤلاء القوم. وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم، سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قِيدَ غَلْوَة (¬1)، وما يتهمهم به أعداؤهم، فزورٌ لا أصل له"اهـ وقال الدكتور محمد عبد الله ماضي في كتابه "حاضر العالم الإسلامي": "كما بُعث الرسول محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بين العرب، وهم في فوضى شاملة، وانحطاط عام، وتفكك وانحلال، ليس لهم وحدة تربطهم، ولا فكرة صالحة تجمعهم، فنشر مبادئ الإسلام بينهم، وجمعهم على التوحيد، فوحَّد بينهم في العقيدة، فأصبحوا يدينون بمبدأ واحد، ويعبدون الله وحده، فوحَّد بينهم في المظهر، وجعل منهم أمة واحدة عربية مسلمة، قوية عزيزة الجانب، وأقام لهم دولة على أساس من الدين الحنيف. فكذلك أخذ المصلح المديني، والزعيم الإسلامي محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، يدعو إلى تصحيح العقيدة، والرجوع إلى ¬

_ (¬1) أي: مقدار رمية سهم، وتقدر بثلاث مائة ذراع إلى أربع مئة.

مبادئ الإسلام الصحيحة، واعتناقها من جديد بين النجدين، وكانوا قد فسدت عقيدتهم، وضلَّت سيرتهم "اهـ. وقال الدكتور محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤادا لأول: "والوهابيون يتبعون في فروع الأحكام حيث الفقه، مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصة - كما قررها وفسرها الإمام السني، العلامة ابن تيمية. وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب (¬1)، وإن فصل بينهما أربعة قرون (¬2). ¬

_ (¬1) "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب محبًّا لابن تيمية وما أحبَّ أحدًا من علماء الدين الذين سبقوه، بعد الإمام أحمد بن حنبل، كما أحب ابن تيمية"اهـ. من "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" لحسين خزعل ص (334). (¬2) ولئن وصف الأستاذ مالك بن نبي دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في التراث الإسلامي بأنها: "تكوِّن الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم" -كما في تقديمه لكتاب "حتى يغيروا ما بأنفسهم" لجودت سعيد ص (9) - فإن الدعوة الوهابية هي الثمرة الكبرى لتلك البذور الباركة التي هيَّأ تربتها وبذرها وسقاها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته العظام من بعده، وقد آتت أكلها "بعد حين" بإذن ربها مجسدة في الدعوة الوهابية التجديدية.

فقد قرأ كتبه (¬1) وتأثر كل التأثر، بتعاليمه. والمبادئ الأساسية للدعوة الوهابية، هي تنقية معنى التوحيد من شوائب الشرك، ظاهرة وخفية، وإخلاص الدين لله، وعدم الالتجاء إلى غير الله، وعدم الغلو في تمجيد الرسول بما يخرجه عن حدود الطبيعة البشرية، وتحديد معنى الرسالة التي كلف بإبلاغها. ومصادر العقيدة هي: الرجوع إلى مذهب السلف في فهم الدين، وتفسيرِ آيات القرآن، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وتكره الوهابية التعقيدات التي أدخلها المتكلمون والفلاسفة والصوفية، ولا مانع من الاجتهاد، كما يرون ضرورة القيام بواجب الجهاد. وهذه الحركة كانت نهضة أخلاقية شاملة، ووثبة روحية جريئة ودعوة إلى دين الحق والإصلاح. فقد أيقظت العقول الراقدة، وحركت المشاعر الخامدة، ودعت إلى إعادة النظر في الدين، لتصفية العقيدة، وتطهير العقول من الخرافات والأوهام، فقد احتوت على مبدأَين، كان لهما أكبر الأَثر في تطور العالم الإسلامي وتقدمه، وهما: ¬

_ (¬1) أولع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حتى كان ينسخ الكثير منها، وتوجد حتى اليوم بالمتحف البريطاني في لندن كتب لشيخ الإسلام ابن تيمية بخط الإمام محمد بن عبد الوهاب - مجلة العربي- العدد (147) - فبراير 1971م- مقالة "الوهابية وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ.

الدعوة إلى الرجوع إلى مذهب السلف -مع الاعتماد على الكتاب والسنة- وتقرير مبدأ الاجتهاد، فكان هذان المبدآن أساسًا لنهضة فلسفية روحية. والواقع أن كل حركات الإصلاح التي ظهرت في الشرق، في القرن التاسع عشر، كانت مدينة للدعوة الوهابية، لتقرير هذه الأُصول. ويمكن تحديد الصلة بينها وبين كل من هذه الحركات، إما عن طريق الاقتباس أو المحاكاة، أو مجرد التأثر" انتهى ملخصًا. وقال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه "محمد بن عبد الوهاب" العقل الحر: "الكلمة الطيبة كلمة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها كلمة الحق، والحق في ظل الله، يباركه وينتصر له. ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب، لأنها تستند إلى الحق، وتدعو له، وتعمل في سبيله، لهذا كانت دعوة مباركة، وفيرة الثمر، كثيرة الخير. لقد قام صاحبها، يدعو إلى الله، لا يبغي بهذا جاهًا، ولا يطلب سلطانًا، وإنما يضيء للناس معالم الطريق، ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان وأعوان الشيطان". إلى أن قال: "والذي لا شك فيه، أن الدعوة الوهابية، كانت أشبه بالقذيفة الصارخة، تنفجر في جوف الليل، والناس نيام. كانت صوتًا راعدًا أيقظ المجتمع الإسلامي كله، وأزعج طائر النوم المُحَوِّمَ على أوطانهم منذ أمد بعيد"اهـ

وقال الزركلي في "الأعلام" في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "إنه كان ناهجًا منهج السلف الصالح، وداعيًا إلى التوحيد الخالص، ونبذ البدع، وتحطيم ما علق بالإسلام من الأوهام، وكانت دعوته الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيره"اهـ (¬1). مختصرًا. وقال الشيخ علي طنطاوي -رحمه الله- في كتابه "محمد بن عبد الوهاب": "فشت البدع قبل ولادة الشيخ محمد، واعتقد الناس النفع والضرر بالرسول والصالحين، وبالقبور والأشجار، والقباب والمزارات، فيطلبون منهم الحاجات، ويرجعون في الشدائد إليهم، وينذرون لهم، ويذبحون لهم، واشتد تعظيم الأموات. وكان حظ نجد في هذه الجاهلية الجديدة أكبر الحظوظ، فقد اجتمع على أهله الجهل، والبداوة، والفقر، والانقسام في كل ناحية من نواحي نجد، من الأمراء، بمقدار ما كان فيها من القرى، ففي كل قرية أمير، وفي كل ناحية جمعية أمم، وكان في كل إمارة قبر، عليه بناء، أو شجرة لها أسطورة، يقوم عليها سادن من شياطين الإنس، يزين للناس الكفر، ويدعوهم إلى الاعتقاد بالقبر والذبح له، والتبرك به، والدعاء عنده. ¬

_ (¬1) "الأعلام" للزركلي (6/ 257)، وانظر نص كلام الزركلي، والتعليق عليه في كتاب "الانحرافات العقدية والعلمية" (2/ 364 - 372).

ثم ذكر شجرة تسمى "شجرة الذئب"، وقبر "زيد بن الخطاب" وذلك على سبيل المثال. قال: وكان العلماء قلة، والحكام عتاه ظلمة، والناس فوضى يغزو بعضهم بعضًا، ويعدُو قويهم على ضعيفهم. في تلك البيئة نشأ "محمد بن عبد الوهاب" -رحمه الله- فرأى شمس الإسلام إلى أَفول، ورأى ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول. وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذه الأمة دينها، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصِفَ به في تاريخنا. فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح، والدين الحق، والألفة بعد إلاختلاف، والوَحدة بعد الانقسام. ولا أقول: إن الرجل كامل، فالكمال لله، ولا أقول: إنه معصوم، فالعصمة للأنبياء، ولا أقول: إنه عارٍ عن العيوب والأخطاء. ولكن أقول: إن هذه اليقظة، التي عمت نجدًا ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة، ثم إلى ما حولها، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله"اهـ. وقال الأستاذ محمد جلال كشك -رحمه الله وعفا عنه-: "ونحن إذ نصف (الوهابية) بأنها أول استجابة للتحدي الذي خيَّم على العالم الإسلامي، فلأنها أول حركة تعلن أن هناك خطأ في الجتمع الإسلامي يجب

إصلاحه، وهي أول حركة تقول: إن الحل هو في العودة إلى الإسلام، وليس بتَخَطِّيه، أو البحث عن حل عصري، ثم هي أول حركة تجرب ذلك فعلًا، وتثبت نجاحه، فأعطت زخمًا وقناعة طوال القرنين التاليين، وما زالت، وكل الثورات الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين ضد الغزو الأوروبي ستحمل في طياتها بذرة وهابية، وحجة وأمل بتحقيق ما حققه السعوديون في جزيرة العرب" (¬1) اهـ. وقال - أيضًا-: "إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة ليس بمبتدع، فهو من الناحية السياسية، مجدد ومبتدع (¬2) ومبدع، لقد استطاع أن يوقف حركة التاريخ، ويلويَ عنقَ الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعًا إلى التغريب، فمع الهزيمة الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أمام الغزو الأوروبي الذي كاد أن يشبه القدر المحتوم .. كان الظن أو اتجاه الأحداث، هو خضوع العالم الإسلامي للقانون الحضاري العام، وهو فناء المهزوم بالاندماج في حضارة المنتصر، فجاء الشيخ من أعماق نجد يعلن أن الإسلام هو الطريق، وأن المشكلة ليسَت في العقيدة، بل في الانحراف عنها، وأن العودة إلى جوهرها الصافي كفيل بإعطاء ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (105). (¬2) يقصد هنا الابتداع بمعناه اللغوي، وليس الشرعي.

المسلمين القدرة على مواجهة التحدي الأوروبي وقهره (¬1) .. صحيح أنه لم يواجه قوة أوروبية بشكل مباشر وشامل، لا هو ولا خلفاؤه، فقد شغلتهم حروبهم مع الرافضن المسلمين والعرب، إلا أن انتصاراتهم على التخلف، وقدرتهم على خلق المحارب الذي يكاد أن لا يُقهر، عززت حجة الرافضين لمنطق الهزيمة، وأبقت الفرضية مطروحة إلى اليوم، وهي اكتساب القوة المادية، بنفس الأسلوب الذي اكتسبها به أجدادنا المسلمون الأوائل" (¬2) اهـ. وقال- أيضًا -رحمه الله-: "فالدولة السعودية، أو الثورة الوهابية كانت ضد التخلف العثماني، كانت محاولة للإفلات من السفينة العثمانية الغارقة، والتي لم يبق بها إلاطابور انكشاري يعترض طريق كل من يحاول سد خروق السفينة" (¬3). ¬

_ (¬1) وهذا عكس خط "محمد علي" وهو الاستجابة للتحدي الغربي عن طريق التغريب وتقليد الغرب، وكأنه قال: "فلنمتلك تكنولوجيا الغرب ولو تخلينا عن الإسلام، أو على الأقل بحصر الدين في المسجد والبيت" ... وهكذا بدأ الحوار الدامي بين: إسلام بلا تكنولوجيا، وتكنولوجيا بلا إسلام". (¬2) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (109). (¬3) "نفسه" ص (103)، ولقد وصف المؤرخ "توينبي" الكارثة التي كانت تواجه العالم الإسلامي، فقال: "في أقل من قرن، لم يقتصر الأمر على الإحداق بالعالم الإسلامي، بل أمكن تطويقه تمامًا، ووضع الطوق حول رقبة الفريسة ... وانقض الجانبان أوروبا الغربية وروسيا على فريسة عاجزة عجزًا واضحًا .. وبالنسبة للجانب الإسلامي، أصبح الموقف هو محاولة الإفلات من ذلك المأزق العصيب"، وصحيح أن الانتفاضة العثمانية، قد صدت الغزوة الأوروبية، وأبقتها أكثر من =

الوهابية زلزال نفسي بناء

الوهابية زلزال نفسي بنَّاء إن حركة التجديد التي قام بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- كانت بمثابة زلزال نفسي بَنَّاء بعث الحيوية والحركة والنشاط في الأمة الإسلامية، وأيقظها من سُباتها، وأعاد إليها شبابها ونضارتها. ومما يلفت النظر في تلك الحركة التجديدية أن ثمارها وبركاتها وآثارها تخطت حدود المكان فملأت آفاق الأرض، وتخطت حدود الزمان فتجاوزت القرن الثاني عشر إلى عصرنا الحاضر. ¬

_ = ثلاثة قرون بعيدة عن العالم العربي، أو قلب العالم الإسلامي، إلا أنها كانت انتفاضة عسكرية، وليست بعثًا حضاريًّا، انتصرت فيها روح الجهاد الإسلامية ولم تنتصر روحه الحضارية، بل ربما كانت هذه الانتفاضة، هي عامل من أهم عوامل الهزيمة الشاملة، فقد أخفت حقيقة وخطورة التحدي، بل أعطت اطمئنانًا كاذبًا، وخدرًا لذيذًا لأمة كانت تغالب النعاس، فزعة من هجمات الأوروبيين، فجاء النصر العثماني، يغريها بالنوم، فأمة محمد بخير، وادعوا للسلطان بالنصر فقد رد العثمانيون البرابرة الفرنجة على أعقابهم. ومن ثم زال الشعور بالتحدي في ذات الوقت الذي وصل فيه التحدي إلى ذروته ودخل أخطر مراحله. وضع المسلمون مصيرهم في يد الأستانة، واعتببروا الدفاع عن أرضهم مسئولية الدولة التي كانت أول دولة إسلامية، منذ العصر العباسي الأول، تحاول أن تحكم بشكل أقرب ما يكون للمركزية، أو بصيغة الإمبراطوريات الحديثة .. ونسى المسلمون العثمانيون، العالم الإسلامي الهائل خارج نطاق السلطنة، ووقفوا متفرجين غير معنيين، وممالكه وشعوبه تتساقط واحدة بعد الأخرى في قبضة العدو، حتى أحكم الطوق، ودب الوهن في القلب، وتعفن الجهاز العثماني، بينما زادت اتكالية الشعوب العربية، فقد عزلهم العثمانيون عن مهام الدفاع أو البناء الحضاري، واكتفوا منهم بقراءة البخاري لنصر الأسطول العثماني، وتمويل الخزينة المثقوبة"اهـ من "السعوديون" ص (103).

وعلى كثرة ما أُلِّف في الدفاع عن "الوهابية" وعن إمامها، لكنها لا تزال بحاجة إلى من يسبر أغوارها، ويستخرج كنوزها المخبوءة. إن معظم الدراسات حول هذه الحركة التجديدية كانت دراساتٍ وصفيةً (¬1)، تُعْنى بالسردِ التاريخي للوقائع والأحداث، أو تختص بدفع شبهات الخصوم في القضايا التقليدية التي استهلكت كثيرًا من الطاقات، وأهدرت كثيرًا من أوقات الذين اضطروا للتصدي لها، مع ما فيها من الفوائد العظيمة بالنظر إلى سهام الشبهات التي صوبها خصومها لصد الناس عنها. ولعله آن الأوان لكي تُنتَدَبَ طائفةٌ من المختصين المؤهَّلين فتخرج لنا دراسة تحليلية عميقة، تسلط الضوء على سر نجاح هذه الدعوة هذا النجاح الفائق، وتُبْحِرُ في أعماق نفسية هذا الرجل "الأمة"، وتكشف لنا أغوار تلك الشخصية "الفذة" التي يندر أن يجود التاريخ بمثلها. ... ¬

_ (¬1) باستثناء دراسات قليلة جمعت بين السرد التاريخي مع تحليل الوقائع والأحداث، من أبرزها: "السعوديون والحل الإسلامي" لمحمد جلال كشك -رحمه الله-، و"الدولة السعودية" للأستاذ أحمد رائف -وفقه الله تعالى-.

من ثمارهم تعرفونهم

من ثمارهم تعرفونهم ولئن كانت مراتب الشخصيات التاريخية الفذة تحدَّدُ -ضمن ما تحدد- بالبصمة التي طَبَعَتْها في تاريخ البشرية، وبالآثار التي تركتها في الدنيا، فإن ابن عبد الوهاب بهذا المقياس يتقدم على كثيرين ممن أُعْطُوا هذه المنزلة. قال الشيخ عثمان بن بشر النجدي -رحمه الله تعالى- في ترجمته للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: (وأما محمد فهو شيخ الإسلام والحبر الهمام، الذي عمت بركة علمه الأنام، فنصر السنة، وعظمت به من الله المنة، بعدما كان الإسلام غريبًا، فقام بهذا الدين، ولم يكن في البلاد إلا اسمه، وانتشر في الآفاق، فكل امرئ أخذ منه حظه وقسمته. ونشرت راية الجهاد بعد أن كانت فتنًا وقتالًا، وعرف التوحيدَ الصغيرُ والكبيرُ بعد أن كان لا يعرفه إلا الخواص، واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها ومعاني قراءتها، وتعلمها الصغير والكبير، والقارئ والأمي بعد أن كان لا يعرفه إلا الخصائص، وانتفع بعلمه أهل الآفاق، لأنهم يسألون عما يأمر به وينهى عنه فيقال لهم: يأمر بأمر التوحيد، وينهى عن المنكر. ويقال لهم: إن أهل نجد يمقتونكم بذلك فانتهى أناس كثير من أهل الآفاق بسبب ما سمعوا من أوامره ونواهيه، وهَدَمَ المسلمون ببركة علمه جميع القباب والمشاهد التي بنيت على القبور وغيرها من جميع المواضع الشركية في أقاصي الأقطار من الحرمين واليمن وتهامة وعمان والإحساء ونجد وغير ذلك، حتى لا تجد في جميع من شملته ولاية

المسلمين الشرك الأصغر فضلاً عن غيره، حاشا الرياء الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنه أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل" (¬1). وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين عن معرفة الأصول: وهي معرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، وما ورد عليها من أدلة من القرآن، ومعرفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونسبه ومبعثه وهجرته، وأول ما دعا إليه: وهي لا إله إلا الله، ومعرفة معناها، والبعث بعد الموت وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها وفروض الوضوء ونواقضه، وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة وغير ذلك. وبالجملة فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر. ولو بسطت القول فيها لا تسع الأسفار، ولكن هذه قطرة من بحر فضائله على وجه الاختصار. وكفى بفضله شرفًا ما حصل بسببه من إزالة البدع، واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع، وتجديد الدين بعد دروسه، وقطع أصول الشرك بعد غروسه. كان -رحمه الله تعالى- هو الذي يجهز الجيوش، ويبعث السرايا، ويكاتب ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (2/ 290)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 368) بأطول من هذا، وصحح الألباني الشطر المذكور هنا بمعناه بشواهده، انظر: "السلسلة الضعيفة" (8/ 229) رقم (3755).

أهل البلدان ويكاتبونه، فلم يزل مجاهدًا حتى أذعن أهل نجد وتابعوا، وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوا، فعمرت نجد بعد خرابها، وصلحت بعد فسادها، ونال الفخرَ والملكَ من آواه، وصاروا ملوكًا بعد الذل والقتال. وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه الله يظهره على أعداه، ويجعله مالكًا لمن عاداه) اهـ (¬1). وفتش في مشارق الأرض ومغاربها عن المنصفين من أهل الإسلام، بل من غيرهم، تجدهم مُجْمِعين على أن دعوة الشيخ كانت دعوة تجديدية خالصة أعادت فهم الإسلام كما كان في خير القرون، وتجدهم يشيدون بآثارها المباركة التي امتدت لتشمل الصحوة الإسلامية المباركة في العالم الإسلامي اليوم. ... ¬

_ (¬1) "المختار المصون من أعلام القرون" (3/ 1909، 1910) نقلاً عن: "عنوان المجد في تاريخ نجد" ..

الوهابية ثورة "ثقافية"

الوهابية ثورة "ثقافية" لما تجهز شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- من بلد العيينة إلى حج بيت الله الحرام، وقضى حجه، سار إلى المدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-، فلما وصلها وجد فيها الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف رؤساء بلد "المجمَعَة" القرية المعروفة في ناحية "سدير"، فأخذ الشيخ محمد عنه. قال الشيخ محمد -رحمه الله-: كنت عنده يومًا، فقال لي: "تريد أن أريَكَ سلاحًا أعددته للمَجْمَعَةِ؟ " قلت: نعم، فأدخلني منزلًا عنده فيه كتب كثيرة، وقال: "هذا الذي أعددنا لها" (¬1). لا شك أن هذا الموقف قد انطبع في نفس شيخ الإسلام، وأنه أثَّر في طبيعة دعوته، فإن شيخ الإسلام لم يتفرغ للدعوة إلا بعد أن تفرغ للعلم، ونهل منه، وأسس دعوته على العلم والبراهين، والحجج والأدلة (¬2)، وصدق الشاعر إذ يقول: قد يكونُ الرمحُ مِن سِنِّ القلمْ ... ومن العلمِ حضاراتُ الأممْ ¬

_ (¬1) "نفس المرجع" (3/ 1898). (¬2) كان شيخ الإسلام يطلب الكتب من الأمصار، وفي إحدى مراسلاته كتب: "وتعرف حرصي على الكتب"، وكانت الكتب أول ما يبحث عنه هو وتلاميذه عندما يفتحون بلدًا، أو حتى وهم في المنافي، وانظر: "السعوديون والحل الإسلامي" ص (96)، وانظر ما يأتي ص (93، 94).

لقد أولى شيخ الإسلام "سلاح العلم" و"رمح القلم اهتمامًا أولويًّا في مسار دعوته، ولم يقتصر على استقطاب "النخبة" أو "الصفوة" (¬1) -على حد تعبيرنا المعاصر-، وإنما تمدد اهتمامه البالغ حتى طال "رجل الشارع" -على حد تعبيرنا اليوم أيضًا-. فقد أمرهم - أي عوامَّ أهل نجد - بتعلم أصول الإسلام وشرائطه، وسائر أحكام الدين، وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه ومبعثه وهجرته، وأول ما دعا إليه كلمة التوحيد، وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله، كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والتوكل والإنابة وغير ذلك، فلم يبق أحد من عوام نجد جاهلًا بأحكام دين الإسلام، بل كلهم تعلموا ذلك، بعد أن كانوا جاهلين إلا الخواص منهم". لقد كان أهل نجد في نهاية من الجهالة والضلال فنشرف الدعوة فيهم علوم الشريعة المطهرة وآلاتها، وأصبحت الدرعية كعبة العلوم والمعارف وانتشر العلم في جميع الطبقات حتى قال المؤرخون: ¬

_ (¬1) لم تكن دعوة الشيخ دعوة "نخبوية" متعالية تستقطب الفئة المتعلمة فقط، أو تستهدف ذوي الوجاهة الاجتماعية والسلطة السياسية والقوة الاقتصادية، وإنما كانت دعوة "جماهيرية" تهتم بصياغة كل فرد في المجتمع صياغة جديدة، بحيث يتحول بعد تهذيبه من حجر خام مبعثر الأبعاد إلى لَبِنَةٍ قد هُذِّبت أبعادُها الستة، وصلحت لأن تكون جزءًا من البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا، وانظر: "السعوديون والحل الإسلامي" ص (95، 96).

"أصبح الراعي يرعى المواشي في الفيافي ولوح التعليم في عنقه"، وكان بعضهم من شدة شغفه وحبه للعلم يعمل بالليل بالأجرة، وفي النهار يحضر الدرس. ويقول الشيخ عبد الرحمن سليمان الرويشد وهو يوضح مكانة "التعليم الإلزامي" أو بعبارته هو "التثقيف الإجباري" في دعوة شيخ الإسلام -رحمه الله-: (من الأشياء التي يمارسها الوهابيون كربط للإصلاح العقائدي ومعايشة التخلق بأخلاق الدين على علم وبصيرة: إلزام فئات الأمة ممن حُرِموا نعمة التعليم وأشباههم بتعلم كلمات في العقيدة، والدين، والأخلاق، تتضمن معرفة الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها. فالأصل الأول: هو معرفة الرب والإله، ومعنى كلمة رب وكلمة إله، والدليل على تلك المعرفة من الآيات والمخلوقات الظاهرة، ومعنى العبادة وأنواعها، وحكم من صرف شيئًا منها لغير الله، وأدلة ذلك من القرآن الكريم. والأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأدلة الصلاة والزكاة والحج والصوم من القرآن الكريم، ومعنى الإيمان والإحسان وأدلتهما من الكتاب والسنة. والأصل الثالث: معرفة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ونسبه وبلده ورسالته وهجرته، ومعنى الهجرة ووجوبها إلى قيام الساعة، وبعثة الرسول العامة إلى الثقلين، ورسالة الأنبياء عمومًا وموته -عليه السلام-، ومعنى البعث والإيمان به وكفر من جحده، ومعرفة أول الرسل وآخرهم، ومعنى الطاغوت ووجوب

الكفر به. ثم شروط الصلاة وواجباتها وفروض الوضوء وشروطه ونواقضه، إلى غير ذلك مما يلزم لصحة الصلاة من القراءة والتكبير ومعرفة الأركان المبطلات. هذه الحملة الثقافية النادرة في نوعها كانت من أهم التعليمات التي أكدها ابن عبد الوهاب، وألزم الناس بها بعد صلاة الفجر في المسجد، فيقوم إمام المسجد كل يوم باستدعاء فرد أو فردين ويساعده على تلقين تلك المعلومات على طريقة السؤال والجواب، وقد استمر العمل بتلك الطريقة حتى انتشر التعليم، وأصبحت هذه المعلومات ضمن المقررات الدراسية، وليس ما يلقن أو يثقف به عامة الناس معلومات مشبوهة، ولا كلمات فارغة تربط بالولاء لغير الله وتتجه إلى غير شريعته، كما حاول أعداء السلفية أن يشيعوه ويثيروه حول ذلك التثقيف الجماعي) اهـ (¬1). هكذا كان "نور العلم" يطارد "ظلمات الجهل"، فيبددها، ويحل محلَّها فتستبصر العقول، وتستنير القلوب، وتتهذب النفوس. ... ¬

_ (¬1) "الوهابية حركة الفكر والدولة" ص (26، 27).

أسباب نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التجديدية

أسباب نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التجديدية ولعل من أهم أسباب نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- بعد توفيق الله -عزَّ وَجلَّ-: (1) أنها انطلقت من التوحيد الذي هو أساس دعوة جميع الأنبياء، ووفَّت العقيدة حقها، ونبذت كل صور الشرك والوثنية. (2) أنهما جسَّدت منهجَ أهلِ السنة والجماعة في أجلى صوره، وأنها سارت على خطى المجددين السابقين وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ربط بين إعادة التمكين للإسلام وبين التزام هذا المنهج في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ تَكُون خِلَافَةٍ عَلَىَ مِنْهَاج النُّبُوَّةِ". قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "أُخبرك أني -ولله الحمد- مُتَّبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين؛ مثل: الأئمة الأربعة، وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بيَّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يُعبد اللهُ به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود، وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه مَلَك

مقرب، ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة"اهـ (¬1). (3) شخصية الإمام المجدد -رحمه الله تعالى- المتميزة بالرسوخ في العلم والعمل، والزهد، والتضحية، والإخلاص، ولعل عبقرية هذه الشخصية تكمن في إخلاصه وتجرده، وصدقه الشديد في دعوته، وغيرته الشديدة على حقائق التوحيد، وصبره على الشدائد، "ونكران الذات"، فمع أنه الرجل الأول في الدعوة فإنك لا تلمس أثرًا لطغيان إلـ"أنا"، فكان لا يدعو إلى "نفسه"، ولا يسعى لبناء مجد شخصي، وإنما: {دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. قال ابن بشر في ترجمته للشيخ -رحمه الله تعالى-: (ثم دخلت السنة السادسة بعد المائتين والألف: وفي هذه السنة توفي الشيخ شيخ الإسلام مفيد الأنام قاطع المبتدعين، مشيد أعلام الدين، مقرر دلائل البراهين، محيي معالم الدين بعد دروسها، ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها. كان الشيخ -رحمه الله تعالى- كثير الذكر لله قل ما يفتر لسانه من قول "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وكان إذا جلس الناس ¬

_ (¬1) "مؤلفات الشيخ الإمام" (5/ 36).

ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجه بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر، بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم معه منها شيء، ويتحمل الدَّين الكثير لأضيافه والوافدين إليه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم، وهذا شيء وضعه الله في القلوب وإلا فما علمنا أحدًا ألين ولا أخفض جنابًا منه لطالب العلم أو سائل أو ذي حاجة أو مقتبس فائدة. وكان له مجالس عديدة في التدريس كل يوم وكل وقت في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها) اهـ (¬1). ... ¬

_ (¬1) "المختار المصون" (3/ 1908).

الرجل الأمة

الرجل الأمة إن الذي بقى من شخص الإمام المجدد سطور خطها يَراعُه، وطبعتها المطابع الحديثة، ومع ذلك فأنت تحس "بنَفَسِهِ" حاضرًا في سطوره النابضة بالحيوية، المشرقة بالبساطة والسلاسة، فلا تقعر، ولا تكلف، ولا تنطع، وحين تقرأ كلماتِهِ فإنك تشعر أنك لا تتعامل مع حبر وورق، ولكن مع إنسان حي يخاطب روحك، وينفذ تأثير سطوره إلى أعماق وجدانك، وكأن كلماته جمرات وقاَّدة تنبعث منها الطاقة النورانية والحرارية فتؤزك أزًّا إلى التحرك ونبذ السكون، وتفعل في قلبك ما يفعله الوقود في غرفة الاشتعال داخل محرك السيارة. إنما التوحيد إيجاب وسلب ... فهما في النفس عزم ومضاء "لا"و"إلا" قوة قاهرة ... لهما في القلب فعلُ الكهرباء لقد صنف هذا الرجل مصنفات عظيمة البركة، كثيرة النفع على نفس السَّنَن الذي سبقه إليه المصنفون، لكن من قَدَرَ على أن يؤلِّفَ "أمة"، ويصنفَ "رجالًا" كما فعل الرجل "الأمة"؟! (4) ومن أقوى أسباب نجاح الدعوة التجديدية تلك اللحظات التاريخية التي شهدت أروع تحول فكري وسياسي واجتماعي في قلب الجزيرة العربية في ذلك العصر، حين التحم "التوحيد" و"الحديد"، والتقى "القرآن" و"السلطان"، واندمجت "قوة العقيدة والملة" في "قوة السلطة والدولة" مُمَثّلتيْنِ في شَخْصي الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، ووقعا الأحرف

الأولى بالتزام تأليف السفر الضخم النابض بالحياة والإيمان والتقوى في صورة من أجمل مشاهد أيام الإسلام في العصور المتأخرة، أضف إلى ذلك وجود قاعدة أرضية في الدرعية يأوى وينحاز إليها الداعية وأنصاره، فصارت مركز الدعوة ومنطلقها. لقد كانت مرحلة تحول تاريخي يقول فيه "فيليب حتي" في كتابه "تاريخ العرب": "إن تاريخ الجزيرة العربية الحديث يبتدئ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهور حركة الموحدين في الجزيرة العربية، وحين شاركت قوة الدين سلطة الحكم" اهـ. ***

حول مصطلح "الوهابية"

حول مصطلح "الوهابية" كان مصطلح "الوهابية" -أولَ ما ذاع وانتشر- اصطلاحًا سياسيًا مغرضًا يرمي إلى التنفير عن الدعوة وأهلها، وكانوا يريدون بالوهابية أتباع أئمة الدعوة السلفية التي قام بها في نجد شيخ الإسلام، مع أنه وأتباعه ليس لهم مذهب خاص، بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح، والأئمة الأربعة، ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، وهم لم يختصوا بشيء يقتضي تسميتهم بالوهابية، ولم يبتدعوا جديدًا، ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب، وإنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلًا وفرعًا، ثم إن الوهابية على آية حال هي نسبة إلى الله -تَعَالى- الوهَّاب، فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل. إن كان توحيدُ الإلهِ تَوَهُّبًا ... يا ربِّ! فاشهد أنني وهَّابي واقتباسًا من قول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: إن كان رفْضًا حُبُّ آلِ محمدٍ ... فليشهدِ الثقلانِ أني رافضي أجاب العلامة الشيخ "ملا عمران بن رضوان" مبينًا أنه لا مشاحة في الاصطلاح، وردَّ على من يُعَيِّرون أهلَ التوحيد بوصف "الوهابية" فقال -رحمه الله تعالى-:

إن كان تابعُ أحمدٍ متوهِّبا ... فأنا المُقِرُّ بأنني وهَّابي أنفي الشريكَ عن الإلهِ فليس لي ... ربٌّ سوى المتفردِ الوهَّابِ لا رقيةٌ تُرجى ولا وثنٌ ولا ... قبرٌ له سببٌ من الأسباب أيضًا ولست مُعَلِّقًا لتَمِيمَة ... أو حَلْقَةٍ أو وَدْعَةٍ أو نابِ لرجاء نفعٍ أو لدفعِ بلية ... الله ينفعني ويدفع ما بي (¬1) وقد عاملهم الله بنقيض ما قصدوا من ذم الوهابية بهذا اللقب، فصار هذا الاسم الآن عَلَمًا على متبعي الكتاب والسنة، والتمسك بالدليل، ومذهب السلف، ومحاربة البدع والخرافات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وفي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن سليمان الرويشد: "لم يكن إطلاق كلمة (الوهابية) التي يراد بها التعريف بأصحاب الفكرة السلفية شائع الاستعمال في وسط السلفين أنفسهم، بل كان أكثرهم يتهيب إطلاقه على الفكرة السلفية. وقد يتورع الكثيرون من نعت القائمين بها بذلك الوصف، باعتباره وصفًا عدوانيًّا كان يُقصد به بلبلة الأفكار والتشويه، وإطلاق المزيد من الضباب لعرقلة مسيرة الدعوة، وحجب الرؤية عن حقائق أهدافها. ¬

_ (¬1) "الهدية السنية" ص (42).

وبمرور الزمن، وإصابة محاولات التضليل بالعجز عن أداء دورها الهدام، تحول ذلك اللقب بصورة تدريجية إلى مجرد لقب لا يحمل أيَّ طابَع للإحساس باستفزاز المشاعر، أو أي معنى من معاني الإساءة، وصار مجرد تعريف مميِّز لأصحاب الفكرة السلفية، وماهية الدعوة التي بشر بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأصبح هذا اللقب شائعًا ورائجًا بين الكُتَّاب والمؤرخين، الشرقيين والغربيين على حد سواء. وبالتالي فليس هناك ما يسوِّغ هجر استعمال تلك الكلمة، كتعريف شائع، أو تعبير يُستخدم في إطاره الصحيح للرمز إلى المضمون الفكري المقصود: وهو التمسك بالكتاب والسنة، ومحاربة مظاهر الشرك والبدع، وما زُجَّ به في العقيدة السلفية، وأُدخِلَ عليها من انحراف، مع ضرورة العيش في ظل قيادة إسلامية عادلة تُحكِّم الشريعة، وتلتزم تطبيق منهجها عملاً، وتحمل الرعية على امتثال ذلك بأسلوبي الترغيب والترهيب" (¬1) اهـ. ... ¬

_ (¬1) "الوهابية حركة الفكر والدولة" ص (5، 6).

التضليل الإعلامي والصد عن سبيل الله

التضليل الإعلامي والصد عن سبيل الله لقد واجهت الدعوة التجديدية الوهابية أخطارًا عديدة، ولكن أخطر ما واجهته سلاح الدعاية والإعلام الكاذب، المتمثل في الكتابات والنشرات التي هاجمت الوهابية هجومًا ظالمًا غاشمًا (¬1) قفزت فيه على كل المعايير الإسلامية والأخلاقية (¬2)، فضلًا عن الأمانة العلمية. وأشهر ما نُسب إليه من الأكاذيب (¬3) دعوى أنه من الخوارج، وانتقاصه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكفيره الأمةَ على العموم، بل بلغ ظلم دحلان أن ¬

_ (¬1) ومما ضاعف تأثير هذه الحملات بطء التواصل بين نجد وبين سائر الأقطار، ويكفي للتدليل على مداه أن خبر دخول الوهابيين مكة وصل القاهرة بعد وقوعه بخمسة وثلاثين يومًا، انظر: "الدولة السعودية" ص (433). (¬2) ولعل أقبح مظاهر التطاول "غير الأخلاقي" ما ادُّعِي أنه كتاب "مستر همفر" الذي اختلقه من لا خلاق له، والذي لا يستحق سوى أن ينبذ نبذ النواة، ويُعرضَ عنه، انظر: مجلة "الأصالة" الأعداد (31،32، 33) مقالات الشيخ مالك شعبان، ومثله: قول محمد بن فيروز (ت 1216هـ) في تقريظه لكتاب "الصواعق والرعود" للزبيري (ت 1225هـ)، جاء فيه قوله: " .. بل لعل الشيخ -يعني عبد الوهاب- غفل عن مواقعة أمِّه فسبقه الشيطان إليها فكان أبا هذا المارد"اهـ كما في "مصلح مظلوم ومفترى عليه" للأستاذ مسعود الندوي ص (206) فهل يفتقر صاحب حقّ إلى أن ينحط إلى مثل هذا القاع السحيق ليؤيد مذهبه، أو لينازل خصمه؟! أم أنه - حقًا - أسلوب يعلن عن إفلاس صاحبه عن حجةٍ أو برهان، فالتجأ إلى حيلةِ العاجز: السب والبهتان؟! (¬3) انظر "الانحرافات العقدية" (1/ 225).

قال في كتاب "الدرر السَّنِية في الرد على الوهابية": "والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة، إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك"، وقال دحلان (¬1): "وكان في أول أمره مولعًا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبًا كمُسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكأنه يضمر في نفسه دعوى النبوة، ولو أمكنه إظهار هذه الدعوة لأظهرها، وكان يقول لأتباعه: إني آتيكم بدين جديد، ويظهر ذلك من أقواله وأفعاله) إلخ (¬2). ويقول السهسواني بعد أن ذكر جملة من أكاذيبه: "الجواب على هذه الأقوال كلها أنها -على طولها وكثرتها- كاذبة خبيثة، فلا تعجبك كثرة الخبيث"اهـ (¬3). والعجيب أن بعض الموتورين يأبون -في عصر الاتصالات- إلا أن ينفخوا الروح من جديد، في رماد الكتب التي صنفها أعداء الشيخ ودعوتهِ، فيعيدون طبعها، ويوزعونها مجانًا، ولا ينسون أن يخفوا أسماءهم وأسماء مطابعهم لأنهم خفافيش ظلام لا تطيق المواجهة في النور، وهؤلاء قوم يسيرون عكس اتجاه حركة التاريخ التي داست على هذا التراث المتعفن وسحقته، وهم يسيئون إلى أنفسهم، ويهدرون أموالهم هباءً، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون. ¬

_ (¬1) أحمد بن زيني دحلان كان مفتي الشافعية بمكة (ت 1304هـ)، وقد هاجم الدعوة الوهابية وانتقدها في كتابه "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، حشاه بالكذب والافتراء. (¬2) انظر: "الدرر السنية" ص (160 - 162)، و"صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" للسهسواني ص (479، 478). (¬3) "صيانة الإنسان" ص (479).

شاهد من أهلها

شاهد من أهلها ومن سوء حظ أعداء الدعوة السلفية الوهابية أن الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالى-، كما بارك في علم ودعوة شيخ الإسلام -رحمه الله- بارك في أبنائه وذريته وتلامذته فبرز منهم علماء ربانيون أفذاذ استعملهم الله -تَعَالى- في الذب عن دعوة التوحيد بكل كفاءة واقتدار جيلًا بعد جيل، فصنفوا الكتب (¬1) للرد على الدعايات المغرضة بأسلوب علمي رصين يحيلها هباءًا منثورًا، وهذه الخاصية العظيمة جعلت المؤرخ التركي "جودت باشا" -وهو شاهد من أهلها- يقر ويعترف بضعف وضحالة حجة كل من صنفوا ضد الوهابية مقارنة بكتابات علمائها الراسخين، فقال: "إن الرد على الوهابية يستوجب ثقافة واسعة، ومعرفة بأحوال البلاد العربية الدينية والاجتماعية والسياسية، ووقوفًا على علوم الدين، واطلاعًا واسعًا على الحركات الفلسفية، ومقدرة على الجدل والإقناع .. وكل ذلك مفقود عند العلماء الذين ردوا على الوهابية، وكل ردودهم مشحونة بالسخف والهراء .. وإنهم يقدمون بأيديهم وسيلة للسخرية منهم ومن ردودهم .. " (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) وقد رصد الشيخ/ مشهور حسن سلمان الكتب التي هاجمت الدعوة الوهابية فبلغت عنده اثنين وسبعين كتابًا، ذكرها في كتابه: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 250 - 286). (¬2) " الوهابية حركة الفكر والدولة" ص (30، 31).

تدليس رخيص

تدليس رخيص لقد بلغ التدليس ببعض المشنعين إلى حد أنهم نسبوا الوهابية إلى دعوة خارجية إباضية في شمال أفريقية، دُفن خبرها في سجل التاريخ، وكانت قد نبغت في القرن الثاني الهجري، وعرفت باسم "الوهابية" نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم الخارجي الإباضي، الذي عطل الشرائع الإسلامية، وألغى الحج، وحصل بينه وبين معارضيه حروب، وقد توفي سنة (190 هـ) أو (197 هـ) بمدينة تاهرت بالشمال الأفريقي، وكان الونشريسي المتوفي في (914 هـ) بفاس بالمغرب قد ذكر في كتابه "المعيار" (11/ 168) أن اللخمي (ت 478 هـ) سئل عن أهل بلد بني عندهم الوهابيون مسجدًا، ما حكم الصلاة فيه؟ فأجاب: "هذه فرقة خارجية ضالة كافرة، قطع الله دابرها من الأرض، يجب هدم المسجد، وإبعادهم عن ديار المسلمين" (¬1) اهـ. فطار المدلِّسون بهذا فرحًا، ونشروا تلك الفتوى ونظائرها، مع أن بين وفاة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ) -رحمه الله تعالى- وبين وفاة عبد الوهاب بن رستم أكثر من ألف سنة، وبينه وبين اللخمي (728) سنة، وبينه وبين الونشريسي (292) سنة، ومع ذلك طوعت لهم أنفسهم أن يشنعوا على دعوة شيخ الإسلام بهذا الأسلوب الظالم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية" للدكتور محمد بن سعد الشويعر -حفَظه الله-. (¬2) ويشبه هذا ما قاله "زويمر" كبير المنصِّرين: "إن ابن القيم تُشَبَّهُ أفكاره وآراؤه بآراء الوهابيين"، =

اضطهاد الدعاة إلى التوحيد بدعوى "الوهابية"

اضطهاد الدعاة إلى التوحيد بدعوى "الوهابية" لقد تركت الحملات الإعلامية المناهضة أثرًا لا يُستهان به في العامة والخاصة، وشكَّلت موقفهم العدائي المتعجل من الشيخ ودعوته، في وقت كان خصومه يملكون الآلة الإعلامية الفعالة، والآلة العسكرية القتَّالة، وكان مجرد التلويح بتهمة "الوهابية" كافيًا في قمع من يُشَم منه رائحة السلفية، لا في البلاد العربية وحدها، بل في سائر أرجاء العالم الإسلامي. - ففي ولاية "قازان" الروسية كان الشيخ العلامة المحقق عبد النصير أبو النصر بن إبراهيم القورصاوي (ت 1227 هـ) متبعًا لمذهب السلف، مجافيًا لما أحدثه الخلف، يظهر عقيدته ومذهبه دون مبالاة منه لكثرة الجُهال والمقلدين والجامدين. وعندما سافر إلى بخارى سنة (1223هـ)، وجاهر بمخالفة البدع، ودعا إلى العمل بالكتاب والسنة، قام عليه علماء بخارى وكفَّروه، ورفعوا أمره إلى الأمير حيدر بن معصوم البخاري، وحرَّضوه على قتله، فدعاه الأمير، وجمع العلماء المذكورين، فحصلت المناظرة بينهم فحكموا بابتداعه، بل بكفره، ووجوب قتله إن ¬

_ = وقال بدون تردد: " إنه وهابي، ولكنه يسمي نفسه حنبليًّا،، فالمسكين لا يعرف أن اصطلاح الوهابية ما عُرِف إلا بعد ابن القيم بأكثر من أربعة قرون.

لم يرجع عن مذهبه، فلما رأى أن لا خلاص منه ولا مناص إلا بالتوبة والرجوع عن مذهبه، أظهر التوبة في الظاهر عن مذهبه -وفي الحقيقة تاب عما يجب منه التوبة- وقرأ متن "العقائد النسفية" من أوله إلى آخره، وقال إن معتقده هو هذا، فأطلقوا سبيله، وأمروا بإحراق كتبه الموجودة، وأمروا مناديًا ينادي بصورة الحادثة، وبأن من يوجد عنده شيء من كتبه المؤلفة، ولم يأت به لدار القضاء والإمارة؛ يكون دمه هَدَرًا، ومع ذلك قيل إن الأمير حيدر كان يندم على عدم قتله (¬1). - وفي الهند "بلغ كثيرًا من علماء السنة كلُّ ما قيل في حق الشيخ ودعوته، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهُم في عصره، وبعد عصره، وعَدُّوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم" (¬2). - وقال الحربَ على الدعوة السلفية في الهند أحمد رضا البريلوي، الذي ألف كتابًا أسماه: "الكواكب الشهابية في كفريات الوهابية" وكان مما قاله فيه: "إن الطائفة الوهابية ثبت كفرهم بآلاف الوجوه والأسباب"، وقال أيضًا: "إن الوهابين مرتدون ومنافقون لأنهم يتظاهرون بالإسلام وبالشهادة". وقال: "إن الوهابيين أرذل من إبليس، وأفسد منه وأضل، لأن الشيطان لا يكذب، وهؤلاء يكذبون". ¬

_ (¬1) "الانحرافات العقدية" (1/ 235)، والمقصود من إثبات هذه القصة هنا عموم اضطهاد الدعاة إلى التوحيد والسنة، وليس خصوص الوهابية. (¬2) "مقدمة صيانة الإنسان" للشيخ محمد رشيد رضا ص (9، 10).

وقال: "إن الوهابيين أخبث وأضر من الكفرة الحقيقيين من اليهود والوثنيين وغيرهم". وقال عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ابن تيمية كان يهذي جِزافًا وأفسد نظام الشريعة، وإنه مبتدع ضال". وقال: إن الشوكاني عقله ناقص مثل متأخري الوهابية وكان فاسد المذهب. إلى غير تلك الهراءات والسخافات التي أخذ ينفثها هذا المصدور ضد دعاة أهل السنة والجماعة. ولعل ذروة هذه المقاومة العنيفة التي شنها الطرقية والمبتدعة ضد الحركة السلفية في الهند هي التآمر والخيانة ضد رجالها وحملتها هناك. - فعندما قام الشيخ أحمد بن عرفان الشهيد (¬1) (المتوفى سنة 1246هـ) بحركته المعروفة، ودعا إلى نبذ البدع والخرافات، وأقام دولة على هذا الأساس، وأعلن الجهاد في سبيل الله، وحقق عدة انتصارات، وبينما كان الشيخ -رحمه الله- وجيشه يخوضون معركة حامية مع جموع السيخ المتآمرة مع المحتلين الإنجليز في تلال بالاكوت عام 1246هـ انخذل عدد من القبائل السلمة عن أرض المعركة، وخانوا الشهيد -رحمه الله- في أحرج الأوقات، نتيجة لتواطئهم مع السيخ، كل ذلك وقع لاتهامه بالوهابية. ¬

_ (¬1) اشتهر -رحمه الله- بهذا اللقب حتى صار كالعلم عليه، مع أنه لا يجوز القطع بالشهادة لأحدٍ إلا بالوحي، فاستصحب هذا فيما يأتي، وانظر: "فتح الباري" (7/ 175) ط. دار طيبة- 1426هـ

وأسفرت المعركة الغادرة عن مقتل الشيخ وكثير من أنصاره، لينتصر الوثنيون السيخ، ويجثم الاحتلال الإنجليزي بعد ذلك قرابة قرن وربع قرن على أرض الهند. يقول الشيخ عبد الحي الحسني عن الشيخ أحمد عرفان: "فأحيا كثيرًا من السنن المماتة، وأمات عظيمًا من الإشراك والمحدثات (¬1)، فتعصب أعداء الله ورسوله في شأنه وشأن أتباعه حتى نسبوا طريقته إلى محمد بن عبد الوهاب النجدي ولقبوهم بالوهابية، ورغبوا إلى الكفار وصاروا أولياءهم في السر حتى انحازوا عنه في معركة "بالاكوت" فنال درجة الشهادة العليا، وفاز بين أقرانهم بالقدح المعلى، وبلغ منتهى أمله وانقضى أجله في الرابع والعشرين من ذي القَعدة سنة ست وأربعين ومائتين وألف". وقبل ذلك دس بعض هؤلاء المبتدعة السم للشيخ المجاهد في عشائه، ولكن الله نجاه منه بعد أن أغمي عليه بضعة أيام. وكان دعاة الشيخ أحمد بن عرفان قد كفرهم العلماء المبتدعون في عصرهم كما فُعل بالشيخ محمد علي الرامبوري (المتوفى سنة 1258 هـ) حيث كفروه وأحرقوا "تقوية الإيمان" للشهيد إسماعيل الدهلوي، وسعوا به إلى الحكام فأمروا بجلائه عن مِدْراس (¬2). ¬

_ (¬1) وله مآثر إصلاحية وتجديدية عظيمة، حتى عدَّه الكثيرون مجدد القرن الثالث عشر الهجري، انظر: "رجال الفكر والدعوة" للندوي (4/ 334). (¬2) انظر: "الانحرافات العقدية" (1/ 235 - 237).

- وهذا ملك العلماء، وعالم الملوك، العلامة "السيد صديق حسن القنوجي البخاري" (ت 1307 هـ) بقي في الحكم أربع عشرة سنة ملأها عدلًا ونورًا وعلمًا، ثم عُزل عنها بسب الوشاة والنمامين من أعداء السنة والتوحيد، واتُّهم لدى الحكومة الإنكليزية الستعمِرة بأنه يحرِّض الناس على الجهاد، وينشر المذهب الوهابي (¬1). وقال الشيخ محمد السنوسي: إنه اجتمع بالشيخ رحمة الله الهندي (المتوفى سنة 1306 هـ) في مكة المكرمة في 29 من ذي القعدة عام 1299 هـ وقال: "وبالمناسبة سألته عن السلطان صديق حسن صاحب التفسير والتآليف الأخيرة التي نشرت بالمطابع الهندية والشرقية على ما يتراءى في أثنائها من خرق سياجات المجتهدين، والاقتصار على ما يصل من الحديث، ونحو ذلك مما يدل على عقلية الرجل، فأخبر ني أنه (رئيس الوهابية، ولا يجلس في مجلسه إلا من يشتم الأئمة الأربعة. وقد تصدى كثير من سنيي علماء بلاده، وغيرها من البلاد الهندية للرد عليه بتآليف نشرف في المطابع الهندية)، فكشف لي بذلك عن الضمير المستكن" (¬2). - وهذا الإمام "السيد نذير حسين بن جواد علي بن السيد أحمد شاه الدِّهْلَوي" (ت 1320 هـ- 1902 م عن مائة سنة) مجدد السنة النبوية في القارة ¬

_ (¬1) "مصلح مظلوم ومفترى عليه" ص (84)، وانظره أيضًا ص (211 - 213) لتقفَ على موقف الشيخ صديق حسن خان من الدعوة الوهابية. (¬2) "الانحرافات العقدية" (1/ 237، 238)، وانظره: ص (81 - 83).

الهندية، والملقب بشيخ الكل، وهو شيخ السهسواني صاحب "صيانة الإنسان" (¬1): عذِّب كثيرًا في سبيل نشر التوحيد، والدعوة إلى السنة النبوية، فسُجن في روالبندي سنة 1864 م بتهمة الوهابية، وبقى في السجن مدة سنة كاملة، وسافر إلى الحج سنة 1300هـ، فسعى النمامون إلى الباشا في مكة المكرمة، فاتهمه أعداء التوحيد بأنه وهابي، ومعتزلي، ويبيح شحم الخنزير، ونكاح العمة والخالة، وقدَّموا إليه رسالة باسم: "جامع الشواهد في إخراج الوهابيين من المساجد"، ولكن الباشا لما علم بحقيقة الحال أكرمه إيَّما تكريم، ورجع الأعداء خائبين (¬2). وبلغ الاضطهاد والقهر أن كل من كان يرفع يديه في الصلاة من الهنود أو جَهَر بآمين يتعرض لأشد أنواع الأذى لأنه "وهابي" (¬3). وإليك هذه القصة العجيبة التي وقعت -أيضًا- في الهند: كان أحد العلماء الفضلاء في الهند يستقبل أبناءه الطلاب ويلقى عليهم دروس التفسير والحديث، وكان هذا الشيخ يبدأ درسه بعد الحمد لله والصلاة والتسليم على رسوله بالدعاء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعته، ويسأل الله أن يطهر الأرض من شرورهم وآثامهم. ¬

_ (¬1) وهذا الكتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" لما طبع أول مرة لم ينشر باسم مؤلفه فرارًا من الاضطهاد الذي كان يعانيه السلفيون، انظر: "مصلح مظلوم" ص (211). (¬2) "مصلح مظلوم" ص (82)، وانظره: ص (81 - 83). (¬3) "نفسه" ص (211).

وكان أحد أبناء نجد تلميذًا لهذا الشيخ، وكان من المستحيل عليه أن يرد الشيخ إلى الصواب، وسط هذه الأجواء من الادعاءات والافتراءات التي يشنها الأعداء، وتحرص دولة كبرى كدولة الخلافة العثمانية، ومن ورائها الاستعمار وأذنابه، وكل أصحاب المذاهب والنحل الباطلة على النيل من هذه الجماعة وصاحبها. وذات يوم فكر الطالب في أمرٍ يرد به شيخه إلى جادة الصواب، ويعرِّفه بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته السلفية، فما كان منه إلا أن نزع غلاف كتاب "التوحيد" (¬1) للشيخ، وقدَّمه لأستاذه طالبًا منه قراءته وإبداء حكمه عليه. واستجاب الأستاذ لطلب تلميذه، وقرأ الكتاب، فأثنى عليه ثناء منقطع النظير، بل أضاف أنه من أحسن الكتب التي قرأها في هذا الباب، ومن أكثرها فائدة، وهنا كشف الطالب لأستاذه عن مؤلِّفه الذي يتقرب الشيخ إلى ربه بالنيل منه كل صباح. فاستغفر الشيخ عما بدر منه في حق هذه الجماعة وصاحبها- وصار من أكثر المدافعين عنها، الداعين لها (¬2). - وفي بغداد أوذي الشيخ "علي علاء الدين الألوسي" (ت 1340هـ)، وكان الجامدون من فريق المقلدة يشنعون عليه، وينبذونه "بالوهابية" (¬3). ¬

_ (¬1) وقد أحسن فيه وأجاد، وبلغ الغاية والمراد، فأوسعه العلماء شرحًا واعتناءً وانظر: "عناية العلماء بكتاب التوحيد" للشيخ عبد الله بن عثمان الشايع، طبعة دار طيبة -الرياض- (1422هـ). (¬2) "سلفية لا وهابية"ص (388)، وانظر: "حرمة أهل العلم" ص (353). (¬3) "أعلام العراق" ص (72).

وقال الشيخ محمد بهجت الأثري: - ولما جهر العلامة "محمود شكري الألوسي" بضرورة تطهير الدين من أوضار البدع ونبذ التقليد، غاظ ذلك أصحابَ العمائم المكورة، (وصاروا يشنعون في مجالسهم، وينبذونه بوهابي، وهي كلمة ينفر منها السواد الجاهل، حيث توحي إليهم أبالستهم زخرف القول زورًا، ويذكرون لهم عن الوهابي أنه منكر للرسل، وعدو لجميع المسلمين، يريق الدماء، ويستحل الحرمات) (¬1) اهـ. بتصرف. ولما ألف العلامة "محمود شكري الألوسي" كتابه "غاية الأماني في الرد على المنبهاني" (¬2)، وأراد أن يطبعه في مصر، لم يتمكن من وضع اسمه على الكتاب، بل كتب: تأليف أبي المعالي الحسيني السلامي الشافعي، وذلك لما كان يتعرض له العلماء السلفيون من اضطهاد وتضييق. ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (100). (¬2) وهو مصنف بديع في الدفاع عن دعوة التوحيد، وعن شيخي الإسلام ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، ألفه ردًّا على كتاب: "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" للنبهاني، وفيه مالاً يُحصى من الفوائد العلمية، قال فيه الشيخ تقي الدين الهلالي -رحمه الله-: "فيه من المتعة والفوائد ما يقل نظيره في الكتب، والمثل الإنكليزي يقول: (ينبغي أن يكون الأصدقاء والكتب قليلين، ولكن طيبين)، وهذا المثل ينطبق على هذا الكتاب"اهـ. من حاشية "مصلح مظلوم" للندوي ص (253).

وكذلك فعل صاحب المطبعة فرج الله زكي، فقد رمز لاسمه بالحروف (ف، ج، ز)، وأغفل إثبات اسم مطبعته، وبلد الطباعة. ومع ذلك لم يتمكنوا من توزيعه إلا عندما أخذت الدولة العثمانية بالقوانين الوضعية الأوربية، وأعلنت الدستور، وكان الدستور يقضي بحرية العقائد والأديان (¬1). - وفي بلاد الشام أوذي الشيخ عبد القادر بن مصطفى الشهير بابن بدران الحنبلي (ت 1346 هـ) (¬2)، لما أنكر على الصوفية ما يبثونه في الناس من خرافات وسخافات، ورموه بأنه زنديق وأنه وهابي. - وفي مكة أوذي الشيخ أبو بكر بن محمد خوقير مفتي الحنابلة (ت 1349 هـ) ونكب في أيام الشريف حسين بن علي، فحبس ثمانية عشر شهرًا، ثم نحوًا من سبعين شهرًا (أي سبع سنين وثلاثة أشهر) لمعتقده السلفي، وإنكاره على عباد القبور والأضرحة، ولم يزل مسجونًا حتى دخل الملك عبد العزيز مكة فاتحًا، وأخرجه من سجنه (¬3). ¬

_ (¬1) "الانحرافات العقدية" (1/ 233). (¬2) "منتخبات تواريخ دمشق" ص (763)، وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- أن (الوهابية) كانت تهمة مخيفة في الشام، وقال: "ولقد عوقبت مرة في المدرسة، لأنهم أمسكوني بالجرم المشهود في حلقة الشيخ عبد القادر بدران صاحب المدخل "اهـ من "ذكريات" (1/ 78). (¬3) "الأعلام" (2/ 190).

وقال العلامة السلفي أبو الفدائيين العرب عز الدين القسام (توفي 1935م) في كتابه: "النقد والبيان" وهو يرد على بعض أهل البدع: "وكنا نود أن نرشده وتلميذَه إلى الاستفادة من هذا الكتاب الذي لا ند له في بابه- يعني: "الاعتصام" للشاطبي -ولكنا خشينا أن يرميا مؤلفه بالنزعة الوهابية، التي هي حجة العاجز لترويج الباطل، وإضاعة الدين- التي رميانا بها" اهـ (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السلفيون وقضية فلسطين" ص (61 - 63).

المصريون والوهابيون

المصريون والوهابيون شخصية محمد علي باشا كان "محمد علي" شخصية معروفة بالقسوة وغلظة الكبد، ولقد جاء إلى مصر على رأس فرقة من الروملي لإخراج الفرنسيين منها، واستطاع بمكره ودهائه أن يكسب ثقة العلماء في مصر، وسعى في القضاء على منافسيه على ولاية مصر بطرق ملتوية وماكرة حتى أصبح واليًا على مصر ابتداءً من (1220 هـ - 1805 م). وعلى الرغم من أنه أبدى حماسًا شديدًا لكي يصبح خادمًا مطيعًا للسلطان العثماني (¬1)، إلا أن السلطان كان يتوجس منه خيفة، فأمر بنقله عن ولاية مصر، إلا أن تدخل العلماء مرة أخرى جعل السلطان يصدر فرمانًا آخر بتثبيته على ولاية مصر في شعبان 1221هـ. ووصف الجبرتي محمد علي بأنه مخاح وكذاب، يحلف الأيمان الكاذبة، ظالم لا عهد له ولا ذمة، يضمر السوء، وأنه استخدم العنف والجور في نفس الوقت الذي يَعِدُ فيه بالعدل (¬2). وقيل: إنه لما وصل في القراءة إلى ترجمة الصفحة العاشرة من كتاب "الأمير" لميكافيللي، توقف عن قراءته قائلًا: إنه يمتلك من الحيل ما لم يخطر لميكافيللي على بال" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "قراءة جديدة لسياسة محمد على باشا التوسعية" د. سليمان الغنام، ص (17). (¬2) انظر: "قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين" ص (159). (¬3) "مصر في مطلع القرن التاسع عشر" د. محمد فؤاد شكري (2/ 857).

حرص "محمد علي" على أن يجُمِّلَ صورته في عين الغرب، ويقفو آثارهم في التحديث، بل ويفكر كما قال عن نفسه: "بعقل إفرنجي، وهو يلبس القبعة العثمانية" (¬1). لقد صمم "محمدعلي" على بناء مجتمع عصري، لا يعتمد على الدين، بل يتحلل قدر الإمكان من التزامات الدين، وينفتح على الغرب بمستشاريه وضباطه ومدارسه ومعاهده، بل وحتى في قوانينه، ويراهن في صراعه مع (الباب العالي) لا على المزايدة الإسلامية، بل على إعجاب (الدول العظمى) غير المسلمة بتحضر مجتمعه، ونظافته من التخلف الشرقي، وضعف دور "رجال الدين" (¬2). وقال أرنولد توينبي المؤرخ الإنكليزي: "كان (محمد علي) ديكتاتورًا أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر" (¬3). وإن تاريخ "محمد علي" تاريخ مليء بالظلم والظلمات، والطمع والطموحات، وكان كل همه أن يبني مجدًا شخصيًا له ولأسرته، عن طريق تكوين إمبراطورية ممتدة مثلما فعل الإسكندر ونابليون، ولقد صدق فيه قول وزير خارجية بريطانيا "لورد بالمرستون": "إن محمد علي يبني على الرمال". ¬

_ (¬1) "تجربة محمد علي الكبير" لمنير شفيق ص (38). (¬2) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (145). (¬3) انظر: "الدولة العثمانية" للصلابي ص (556).

لقد حاول محمد علي أن يكون قوة عظمى على حساب المسلمين وحدهم، فقد حارب الخليفة العثماني، وحارب دعوة التوحيد والتجديد في نجد، وغدر بعلماء الأزهر الذين مكَّنوا له، وطمس هوية مصر المسلمة العربية. والمقصود من تلك الإشارة إلى سيرته وأخلاقه بيان حقيقة دوره في إضعاف الأمة الإسلامية، والذي تجلى في أبشع صوره من خلال حملته على الدعوة الوهابية بنجد، ثم انقلب على الدولة العثمانية، وضمَّ إليه بلاد الشام، بل وصل بجيوشه إلى قلب الأناضول حتى أصبح الطريق إلى استانبول مفتوحًا أمامه (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التاريخ الإسلامي" لمحمود شاكر (8/ 493).

حملة طوسون باشا

حملة طوسون باشا لما رأت الدولة العثمانية عجز والي البصرة، ووالي الشام عن التصدي للوهابين، كلَّفت والي مصر يومئذٍ محمد علي باشا بهذه المهمة، فَسَيَّر جيشًا قوامه أربعة عشر ألفًا من المقاتلين (¬1) إلى الحجاز بقيادة ابنه أحمد طوسون. وصلت المراكب التي تحمل جيش طوسون إلى ينبع لإنقاذ الحجاز ممن أسموهم "الخوارج"، فماذا فعلت؟ يقول الجبرتي -رحمه الله-: "نهبت ما كان بالينبع من الودائع والأموال والأقمشة والبن، وسبوا النساء والبنات الكائنات بالبندر، وأخذوهن أسرى، ويبيعوهن على بعضهم البعض". ويقاتل الوهابيون ببسالة، وتقع هزيمة منكرة بجيش طوسون، فيفر الجنود، وكأنما العفاريت في أثرهم تريد خطفهم. ... ¬

_ (¬1) وهذا الجيش لم يكن يضم جنودًا مصريين، وهو نفسه الذي فعل الأفاعيل بالمصريين، وكان يتكون -على حد تعبير محمد جلال كشك: من "قطعان البرابرة المتوحشين" اهـ من "السعوديون والحل الإسلامي" ص (159).

مقارنة بين جيشين

مقارنة بين جيشين وكأن الجبرتي راح يفتش عن أسباب هزيمة جيش طوسون باشا، فأقام من نفسه لجنة لتقصي الحقائق، فأثبت الآتي: (حدثني بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع، قالوا: "أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبًا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم -إذا دخل الوقت- أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة، أذن المؤذنون وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون لأنهم لم يسمعوا به، فضلًا عن رؤيته ... " إلى أن قال: "وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر (العثماني) فوجدوهم غُلْفًا غير مختونين، ولما وصلوا بدرًا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس، وبها أهل العلم والصلحاء، نهبوا وأخذوا نساءهم وبناتهم، وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض، ويقولون هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له تبيت معي هذه الليلة، وأعطيها لك في الغد" (¬1). ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (181)

موقف بعض العلماء الأزهريين

موقف بعض العلماء الأزهريين كان من المقرر أن يصطحب ستة من علماء الأزهر وفقهائه حملة "محمد علي" الأولى إلى جزيرة العرب تحت قيادة "طوسون باشا"، ولكنهم تخلفوا في الشرقية بأعذار مختلفة، وكلها من التكئات الواهية، فهم مطالَبون بمناظرة علماء التوحيد أمام الناس عند الغزو، كنوع من الإعلام يستخدمه الأتراك لإحراج علماء السعودية، وعلماء الأزهر يدركون أن ما يقوله العلماء هناك حق وصدق، وهو لب الدين وجوهره، ويصعب عليهم أن يقولوا ما لا يعتقدون، وإن قالوا؛ فلن يجدوا الأدلة على باطلهم من القرآن والسنة، وسيكون موقفهم مزريًا ومثيرًا للخجل والاحتقار. ولم يكن منتظرًا منهم أن يذهبوا مع الحملة إلى جزيرة العرب، ثم يعلنوا انضمامهم إلى إخوانهم من العلماء، تاركين أهلهم وأولادهم في مصر تحت رحمة الباشا الطاغية، ثم هم ليسوا من طلاب الشهادة والاستبسال بوجهٍ عام (¬1). ... ¬

_ (¬1) "الدولة السعودية" لأحمد رائف ص (478).

نهاية طوسون باشا

نهاية طوسون باشا وتوفي طوسون باشا ابن محمد علي عقب عودته من الحملة على الوهابية، وعمره عشرون سنة، من مرض مفاجئ لم يمهله أكثر من عشر ساعات. حملة إبراهيم باشا لم يوافق "محمد علي" على الصلح الذي أبرمه ابنه طوسون مع عبد الله بن سعود، فجهز ابنه إبراهيمَ بحملة جديدة على نجد مجهزة بمدافع ضخمة (¬1)، وعسكر بالحناكية شرق المدينة، وبدأ بإغراء البدو، فوقفت القبائل بقوة إلى جانبه، وقد كانت قبل ذلك مع الإمام سعود -فسبحان مقلب القلوب- وسار إبراهيم باشا بجيشه من الحناكية إلى الرس فقاومه أهلها، ثم استسلموا، ثم احتل عنيزة وبريدة والمذنب، ودخل الوشم وشقرا، وقاومه أهل ضرمى فأباحها لجنوده، وساروا إلى الدرعية فحاصروها (¬2) خمسة أشهر، كانت النجدات خلال هذه المدة تتوالى على إبراهيم باشا من مصر والبصرة والمدينة والقصيم، إلا أن هذه المسيرة لم تكن نزهة سهلة، وإنما كلفته غاليًا من العدة والعتاد، وبقيت الدرعية التي انبثقت ¬

_ (¬1) وقد وضع خططَ حصار الدرعية وأشرف على تنفيذها "مسيو فيسيير" الضابط الفرنسي الذي اصطحبه إبراهيم مع طاقَم من الخبراء الأجانب. (¬2) انظر: "الدرعية العاصمة الأولى" لعبد الله بن محمد بن خميس ص (349 - 459).

تدمير الدرعية ووحشية إبراهيم باشا

منها رسالة التوحيد كالطود الأشم (¬1)، إلا أن ضعاف النفوس أخبروا إبراهيم باشا بعورات المجاهدين مما كشف المدينة أمامه، فحمل بجنوده ومدافعه، وجرت معارك طاحنة طارت فيها الرؤوس، وهدمت فيها القلاع والحصون، واشتعلت الحرائق، وعلى الرغم من هول الموقف لم يفر رجال الدرعية رغم محاصرتهم، وعُقِد الصلح مع سقوط آخر موقع، واستسلمت الدرعية للقضاء المقدر. تدمير الدرعية ووحشية إبراهيم باشا قال ابن بشر: ثم أمر العساكر أن يهدموا دورها وقصورها، وأن يقطعوا نخيلها وأشجارها، ولا يرحموا صغيرها ولا كبيرها، فابتدر العساكر مسرعين، وهدموها وبعض أهلها فيها مقيمون، وقطعوا الحدائق، وهدموا الدور والقصور، ونفذ فيها القدر المقدور، وأشعلوا في بيوتها النيران، وأخرجوا جميع مَنْ كان فيها من السكان، فتركوها خالية المساكن كأن لم يكن بها من قديمٍ ساكن، وتفرق أهلها في النواحي والبلدان، وذلك بتقدير الذي كل يوم هو في شأن (¬2). ¬

_ (¬1) "نفس المصدر" ص (349 - 459). (¬2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (1/ 213)، وفور الاستيلاء على الدرعية أرسلت بريطانيا مبعوثها "جورج فورستر سادلير" ليهنئ "إبراهيم باشا" على انتصاره وبعث شاه العجم وملك الرافضة في إيران رسالة إلى "محمد علي باشا" يعبر فيها عن فرحته الشديدة، وبعث إليه بسيف من حديد توارثه ملوك الرافضة؛ وخاتمًا من فيروزج - وانظر: "الدولة السعودية الأولى" ص (400)، وصدق القائل: "قل لي من يصفق لك، أقل لك من أنت".

وأنشا الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قصيدة في رثاء الدرعية تسمى عند علماء الدرعية "الطنانة"، أبكت الناس، وهي تصور بطش إبراهيم باشا وجنوده: قال -رحمه الله-: وكم قتلوا من عُصْبةِ الحقِّ ... فتية هداةً وضاةً ساجدين ورُكَّعا وكم دمَّروا مِن مَرْبَعٍ كان آهلًا ... فقد تركوا الدار الأنيسة بلقعا فأصبحتِ الأموال فيهم نهائبًا ... وأصبحتِ الأيتامُ غَرثى وجُوَّعا وفرق الإخوان من كان قاطنًا ... وفُرِّقَ إلْفٌ كان مجتمعًا معا (¬1) ثم دعا الناس إلى الصبر على قضاء الله، ونبذ اليأس وانتظار الفرج، يقول: ألا أيها الإخوان صبرًا فإنني ... أرى الصبر للمقدور خيرًا وأنفعا ولا تيأسوا من كشف ما ناب إنه ... إذا شاء ربي كَشْفَ ذاك تمزعا عسى وعسى أن ينصر الله ديننا ... ويجبر منا اليوم ما قد تصدعا ويعمر للسمحا ربوعًا تهدمت ... ويفتح سبلًا للهداية مهيعا (¬2) ¬

_ (¬1) "عنوان المجد" (2/ 27). (¬2) "نفسه" (2/ 37، 38).

وإبراهيم باشا الطاغية الذي لا يحترم كبيرًا ولا صغيرًا ولا عالمًا، فقد أحضر في مجلسه العالم الجليل سليمان بن عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (¬1)، وأظهر بين يديه آلات اللهو والطرب، وقال له: "ماذا تقول بهذه؟ " فقال -رحمه الله-: "إنها حرام، ولا يجوز الاستماع إليها"، فقام هذا الطاغية، وأخرجه إلى المقبرة، وأطلق عليه خمس رصاصات، فسقط شهيدًا، وقد مثل بجثته، فقطعت إربًا إربًا، ومزقت عضوًا عضوًا (¬2). ¬

_ (¬1) هو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ولد سنة (1200 هـ) في بلدة الدرعية، وكانت في أوج قوتها تعج بكثير من العلماء والأعلام، فنشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه، وقرأ على عدد من علمائها، وكان نادرة في العلم والحفظ، فكان فقيهًا ومتكلمًا، ومفسرًا ومحدثًا، من تصانيفه "أوثق عرى الإيمان"، و"التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" في مجلد واحد، وله "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"، وله "تذكرة أولى الألباب في طريقة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب لما، وتوفي مجاهدًا حيث استولى إبراهيم باشا على بلدة الدرعية سنة (1233 هـ) فغدر بالشيخ رغم العهود المبرمة بينه وبن الشيخ وأهل الدرعية، فأخرج الشيخ إلى المقبرة ثم أمر جنده أن يطلقوا عليه النار، وفاضت روحه إلى بارئها وليس له عقب. انظر: "مشاهير علماء نجد" عبد الرحمن بن عبد اللطيف ص (29 - 31) وانظر: "معجم المؤلفين"، عمر كحالة (268/ 3). (¬2) "معجزة فوق الرمال" - أحمد عسه، بيروت 1969 م نقلًا عن "سلفية لا وهابية" ص (216)، وانظر: "عنوان المجد" (1/ 210).

يقول المؤرخون: إن إبراهيم لم يحترم شروط الاستسلام، رغم توقيعه عليها، ذلك أنه ذبح رؤساء العشائر التي وقفت إلى جانب الإمام في الدفاع عن عاصمة الدولة العربية السعودية الأولى، وتفنن في تعذيب الزعماء والعلماء على السواء، فطرح بعضهم مقيدًا تحت سنابك الخيل، ووضع البعض الآخر أمام أفواه المدافع لتمزقهم القذائف شر ممزق. كما أمر بتعذيب القاضي العلامة أحمد بن رشيد الحنبلي أمامه بالضرب والطعن بالحراب، ثم قُلِعت جميعُ أسنانه واحدةً واحدةً في مجلسه (¬1)، وكان أفظع من ذلك كله أنه أمر بعد عدة أشهر من استسلام الدرعية بطرد أهلها منها، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ، ليأمر بعدها بدك المدينة جميعها بالمدفعية، ويشعل النيران في كل أحيائها، ويقطع أشجار النخيل من البساتين المحيطة بها ... ثم أمر إبراهيم باشا الألباني بعد المصالحة أن يتجهز الإمام عبد الله بن سعود للمسير إلى السلطان، فخرج من الدرعية إلى القاهرة، ومنها إلى الأستانة، حيث طوفوه في الأسواق، ثم أعدموه. يقول الزركلي: عبد الله بن سعود من أمراء نجد، وليها بعد وفاة أبيه سنة 1229 هـ ونازعه أخوه فيصل بن سعود، فضعفت شوكته، وحاربته جيوش ¬

_ (¬1) "عنوان المجد" (1/ 210).

العثمانيين القادمة من مصر، وتغلب عليه قائدها إبراهيم باشا، فطلب الصلح وأجابه إليه إبراهيم، فتم الصلح، وأرسله إبراهيم إلى مصر، فأكرمه واليها محمد علي باشا، ووعده بالتوسط له عند حكومة الأستانة، فقال عبد الله: "المقدر يكون"، وحُمِل إلى الأستانة هو ومن معه، فطيف بهم في شوارعها ثلاثة أيام متتابعات، وأعدموا في ميدان مسجد أيا صوفيا، وقطعت رؤوسهم، وظلت جثثهم معروضة بضعة أيام، وكان عبد الله شجاعًا تقيًا (¬1). ... ¬

_ (¬1) "شبه الجزيرة في عهد عبد العزيز" للزركلي، وقال ابن بشر في ترجمة الإمام عبد الله بن سعود -رحمه الله-: "كان مقيمًا للشرائع، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، كثير الصمت، حسن السمت، باذل العطاء، موقرًا للعلماء، وكان صالح التدبر في مغازيه، وفي الدرعية، ومجالس الدروس، وفي قضاء حوائج الناس، وغير ذلك، على سيرة أبيه سعود".

من فظائع حملات (محمد علي)

من فظائع حملات (محمد علي) ذكر الجبرتي القسوة البالغة التي لازمت غزوات جيوش محمد علي الألباني، والفظائع التي ارتكبها ابنه طوسون؛ وابن زوجته إبراهيم، وولاة الترك، في حوادث (1228، 1229، 1230، 1234، 1236 هـ)، فمن هذه الفظائع: (رمي جثث القتلى للوحوش والكلاب، وحمل الأسرى من أشرف القوم إلى مصر والأستانة في رقابهم الحديد، يطاف بهم في البلاد على هذه الحالة المهينة، ثم يُقتلون، ومنها تخريب الدرعية مرتين، وقتل من طالته أيديهم من آل سعود وآل الشيخ، والتنكيل بالعلماء وقتلهم بعد تعذيبهم، فمنهم من كان يربط بأفواه المدافع ثم تطلق فتتناثر لحوم جثثهم في الفضاء، ومنهم من كانت تخلع جميع أسنانه قبل قتله ومن هذه الفظائع التي تجاوزت الحدود: ما رواه الجبرتي في حوادث سنة 1227 من أعمال النهب والسلب وهتك الأعراض، وذلك كله مع ما عرفت به جيوش محمد علي الألباني من المجاهرة بارتكاب المعاصي والاستخفاف بالدين وإشاعة الفاحشة جهارًا في رمضان ولياليه، مما وصفه الجبرتي -عفا الله عنه- في حوادث سنتي 1227 و 1229) (¬1). وقال الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه: "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" في ترجمة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا خديوي مصر والقاهرة: ¬

_ (¬1) نقلاً من "سلفية لا وهابية" ص (218).

(غشوم ظالم، وظلوم غاشم، خليفة الحجاج في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتوٍ على الفساد، منطو على الأنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاظة، معدوم من اللطافة والطلاوة، متضلع من الأذى، لم يخلق اللهُ تعالى في قلبه شيئاً من الرحمة فينتزَع، ولم يودع الله لسانَه لفظًا من الخير فيُستمَع، سفاك لدماء المسلمين، نباذ لطاعة أمير المؤمنين (¬1)، كان يعتقد أن ذلك ليس أمرًا ذميمًا، ولا يهوله قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]) (¬2) اهـ. وقال الشيخ عبد الرزاق البيطار أيضًا في كتابه الآنف الذكر: (ثم إن إبراهيم باشا لما ازداد في سموه، وزاد في عتوه، منعته الأجانب، وتعصبت الإنكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من انتشار قوة إسلامية شابة ذات سلطة ومركزها مصر، فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح قوة الإنكليز، لا سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأوروبية مثل فرنسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على تعب شديد ¬

_ (¬1) وذلك أن محمد علي وابنه إبراهيم انقلبا على الخليفة العثماني بعدما فعلوه بالوهابيين، وأسفرا عن أطماعهما التوسعية داخل جسد الدولة العثمانية، مما ترتب عليه أن عزل السلطانُ محمد علي، وجرى قتال بينه وبين الجيوش العثمانية، ثم أعلن محمد علي عزل السلطان محمود العثماني، ثم تعاونت دول عدة منها إنكلترا مع الدولة العثمانية وهزمت محمد علي. (¬2) "المختار المصون من أعلام القرون" (3/ 1521).

من حرب روسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك، فقهروا محمد علي باشا، ولكن لإتمام مقاصد الإنكليز لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضًا، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه استقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي باشا واليًا على مصر على شروط معلومة في ترجمته، وجاء خبر الصلح على ذلك إلى الشام تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف. وكان قد تمكن إبراهيم باشا من البلاد الشامية، وقهر الناس، واستباح الحرام، وفعل جميع الموبقات والآثام، فلم يبق شيء من القبائح في زمنه إلا وقد فُعِل بدون إنكار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان قد وضع بعد إحصاء أهل المدن والقرى في دفتر على كل فرد من البالغين منهم مالًا وأقله خمسة عشر قرشًا وأكثره خمسماية قرش، تؤخذ منه في كل سنة، كما وضع ذلك من قبل على أهل مصر، واستولى العسكر على أكثر المساجد والمدارس والتكايا، ومنعوا المصلين من دخولها، وجعلوها لسكانهم ولدوابهم، وذلك سنة تسع وأربعين، فكان ذلك سببًا لضياع أوقافها وخرابها، وقدَّم العيسوية -أي النصارى- على المحمدية، وأذلَّ أهل الشرف والعلم وذوي الاحترام، وأعزَّ الأسافل والطغاة على الإسلام، ثم بعد رجوعه من البلاد الرومية، لا زال يدور في البلاد الشامية، حتى وصل في أواخر سنة تسع وأربعين إلى القدس الشريف في أيام الموسم، فوقعت هناك فتنة بين العيسوية تلف منها خلق كثير) اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) "المختار المصون من أعلام القرون" (3/ 1527،1526).

موقف "الجبرتي" فخر المؤرخين المصريين

موقف "الجبرتي" فخر المؤرخين المصريين كان "عبد الرحمن الجبرتي" -وهو أحد مشاهير علماء الأزهر- يطالع، ويدون -في حذر- ما يأتيه من أخبار الحركة الوهابية. وكان -أحيانًا- يقتصر على ذكر ما يترامى إليه من أخبار، وما يجيء في المعلومات الرسمية، ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى على كل الناس كل الوقت، إذ انقشع الضاب، وأسفر الصبح عن وجه الحقيقة. يقول الجبرتي: "وحضر صحبة الحجاج، كثير من أهل مكة هروبًا من الوهابي، ولغط الناس في خبر الوهابي، واختلفوا فيه، فمنهم من يجعله خارجيًّا وكافرًا، وهم المكِّيون ومن تابعهم، وصَدَّق أقوالهم، ومنهم من يقول بخلاف ذلك لخلو غرضه". يعلق الأستاذ أحمد رائف قائلًا: واضح أن الجبرتي قد اختار معسكره، لا لسبب إلا لأن المعلومات قد توافرت، فقد زوَّد الوهابيون الحجاج ببعض المنشورات التي تشرح فكرهم، وقرأها الجبرتي، كما ناقشها مع الحجاج العائدين، وسمع منهم وسألهم، ثم سلك سلوك المؤرخين الشرفاء، أو الصحفين المخلصين لشرف المهنة؛ فقد أثبت منشور الوهابي حرفيًّا، قال: وأرسل الوهابي إلى شيخ الركب المغربي كتابًا، ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته، وصورتها (¬1):- ¬

_ (¬1) "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" للجبرتي- حوادث (1218) هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه، ولن يضرَّ الله شيئًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فقد قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بالقذةِ، حَتى لَوْ دَخَلُوا جُحرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه" قَالوا: يَا رَسُولَ الله: الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟ ". وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". إذا عُرِف هذا، فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الشرك بالله والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات. وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله، وصرفُ شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2 - 3]. فأخبر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه. وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار.

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسايط يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم وأشرك به، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم: 57]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. وهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18]. وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]. فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداءً بل يأتي فيخر لله ساجدًا، فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: "ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّعْ"، ثم يحد له حدًّا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع

عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهاجهم، وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها، واتخاذها أعيادًا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته، وحذَّر منها، كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان"، وهو - صلى الله عليه وسلم - حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك، فنهى أن يُجصَّصَ القبر وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت عنه أيضًا أنه بعث علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- وأمره ألا يدع قبرًا مُشْرِفًا إلا سواه، ولا تمثالًا إلا طمسه، ولهذا قال غير واحد من العلماء: "يجب هدم القباب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -". فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبن الناس، حتى آل الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم. وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه بعد أن نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السلف الصالح ممتثلين لقوله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان. كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

وندعو الناس إلى إقامة الصلوات في الجماعات على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، ونعتقد أيضًا أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - المتبعين للسنة لا يجتمعون على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". يقول الأستاذ أحمد رائف: أثبت الجبرتي منشور الأعداء ليس في أوراقه الخاصة، أو يومياته فحسب، بل وفي تاريخه الذي وضعه بعد ما هُزِم الوهابيون، فهو أثبته إذن عن اقتناع وإيمان. وكيف لا يتأثر الجبرتي بهذه المفاهيم التي يعرف صحتها وصدق استلهامها من روح الإسلام وأحكامه؟ وكيف لا يُعْجَبُ بدعاتها، وهو يعيش في عالم مخيف تتحكم فيه عناصر بلا عقيدة، وتستمتع بإهدار العرف والشريعة؟ ولو اكتفى الجبرتي بإثبات نص النشور في كتابه المعد للتداول في دولة الباشا المحارب للوهابين، لكفاه فخرًا، وشهادة له بالأمانة التاريخية، والشجاعة الأدبية التي نفتقر إليها اليوم، ولكن نرى الجبرتي، وقد تكونت لديه صورة واضحة للموقف يسجل لأول مرة رأيه بصراحة معلقًا على المنشور بقوله: "أقول: إن كان الحال كذلك، فهذا ما ندين الله به نحن أيضاً، وهو خلاصة لباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين، وقد بسط الكلامَ في ذلك ابنُ القيم في كتابه "إغاثة اللهفان"، والحافظ المقريزي في "تجريد التوحيد"، والإمام

الجبرتي داعية محمد بن عبد الوهاب في مصر

اليوس في (شرح الكبرى)، و (شرح الحِكَم) لابن عباد، وكتاب (جمع الفضائل وقمع الرذائل)، وكتاب (مصايد الشيطان)، وغير ذلك". وأعلن مروق السلطان العثماني وواليه، أي باشا مصر وحاكمها. الجبرتي داعية محمد بن عبد الوهاب في مصر إلا أن الأخبار ستتابع بعد ذلك، وتزداد قناعته، ويتأكد إنحيازه باتضاح سلامة موقفهم المديني، وانطباق سلوكهم على قولهم، ثم بقتالهم ضد عسكر السلطنة الذين يبغضهم الجبرتي أشد البغض، ثم بدخول محمد علي المعركة ضدهم، وهو الذي ناصبه الجبرتي العداء، لما رآه ولمسه من خداعه ومكره وإفقاره الشعب، وعزل قياداته من طبقة الجبرتي، وسيتحول الجبرتي إلى أقوى داعية للسعوديين في القاهرة، وإن كانت المصادر غير متاحة -كما قلنا- لمعرفة مدى انتشار فكرة الوهابية بين المصريين المثقفين، إلا أن موقف الشعب المصري واحتفاءه بالأسرى الوهابيين، بل وكون مصر البلد الإسلامي الذي يضم أكبر عدد من الناس يحملون اسم "عبد الوهاب" بل "محمد عبد الوهاب" كل هذا يدل على أنه إذا لم يكن للوهابيين دعاية نشطة في مصر، أو أن الظروف لم تسمح لهذه الدعاية بالانتشار والتجذر، فعلى الأقل كانت دعاية خصومهم عاجزة كل العجز عن الوصول إلى عقلية الجماهير خلال حرب دامية دامت 8 سنوات، ثم متقطعة لربع قرن، فما زادت المصرين إلا حبًّا في الوهابية والسعوديين (¬1). ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" بتصرف.

لم يكن لدى السعودين إعلام مكافئ:

وقد كان لهذه الدعوة الجديدة كل المزايا التي تؤهلها للسيادة والانتشار، وتجعل كل من يسمع بها مؤهلًا لاعتناقها لاقترابها من فطرته واتفاقها مع صحيح الدين الذي لا يناقض الفكر والعقل، ولكن كانت هناك دعاية ضخمة مغرضة تختلق القصص عن هؤلاء الدعاة الجدد، وتنشر أفكارًا لمعاداتهم في بلاد لا توجد فيها طريقة مثلى لنقل الأخبار إلا عن طريق المسافرين والقوافل، حيث تتضخم القصص عند تكرارها وإعادتها مع التعديل فيها مرة بعد مرة. ولعل الوثيقة التي قرأناها آنفًا والتي سلموها للحجاج المغاربة يبينون فيها وجهة نظرهم، هي الإِعلام الوحيد الذي استطاعوا تقديمه للعالم آنذاك. ناهيك عن أعدائهم وما يملكون من أدوات للحرب الإعلامية تتمثل في الصحف التي تطبع في مصر والشام والعراق وأحيانًا في الحجاز وفي الآستانة وأيضًا باللغات الأوروبية المختلفة في العواصم المختلفة، وكلها موجهة ضد السعوديين وضد أفكارهم الجديدة التي يستهدفون منها نهضة العالم الإسلامي من جديد. لم يكن لدى السعودين إعلام مكافئ: كان من عوامل ضعفهم، أنهم لا يملكون ناصية الكلام يتحدثون به إلى العالم ليشرحوا وجهة نظرهم وما يريدون، في وقت كان أعداؤهم فيه يملكون كل وسائل الكلام آنذاك، فليست لديهم الأداة لنقل أفكارهم إلى العالم الذي يتربص بهم، ويستعدى عليهم جماهير المسلمين في كل بقاع الأرض آنذاك. وقد أحدث هذا سحبًا سوداء كثيفة من الدعاية المغرضة ضدهم، أساسها أحاديث مختلقة وقصص لا أصل لها وقسوة خيالية في التعامل مع أعدائهم، وأنهم

ضد الإسلام والمسلمين، ويريدون هدم المسجد النبوي، ويسبون النبي والعياذ بالله. وكان الأثر الإيجابي لهذه الدعاية السوداء التي انتشرف عبر العالم، أنه إذا قُدِّر لواحد أو أكثر أن يلتقي بهؤلاء الدعاة الجدد ويستمع إليهم، ويرصد سلوكهم، فهؤلاء يكونون خير من يتكلم عنهم، وينشر فضائلهم، ويجذب إليهم عددًا أكبر من الأصدقاء والمؤازرين. فالكلام الأجوف يتبدد مع الزمن برغم ضرره البالغ في وقته، وتظل الحقائق هي الأساس الجيد للبنيان. وقد رأينا هذا في حالة الجبرتي شيخ المؤرخين المصريين في ذلك العصر، كيف كان يستمع إلى البيانات الرسمية، ويدونها في يومياته أو تاريخه كما يسمعها ولكن على حذر، ثم يتحول بعد ذلك، عندما تكشفت له الحقائق، وظهرت له الأمور في وضوح، إلى أن يكون من الذين يدافعون عنهم ويقفون في صفهم، ويتحدى في مؤازرته لهم الملوك الجبابرة، ثم يبقى رأيه فيهم تاريخًا يُقرأ على مَرِّ الأيام والقرون. والذي يبدو أن كتابات الجبرتي تركت في نفوس الناس أثرًا طيبًا عن السعوديين ودعوتهم، وجعلت بعض علماء الأزهر على رأيهم، وصارت لهم في مصر مجموعات على فكرهم وتؤازرهم وتدافع عنهم وتبلغ أخبار أعدائهم إليهم فيأخذون حذرهم قدر استطاعتهم. ***

الجبرتي يدفع ثمن صدعه بالحق

الجبرتي يدفع ثمن صدعه بالحق يقول الأستاذ محمد جلال كشك: "أستطيع أن أجزم بأن كتابات الجبرتي عن القضية الوهابية هي السبب الأساسي لما نزل به من تنكيل الباشا، إلى حد اغتيال ابنه، وتوقفه عن الكتابة، ثم نهايته الغامضة الظروف" (¬1). وقال الزركلي في ترجمة الجبرتي: "وقُتل له ولد، فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره، ولم يَطُل عماه، فقد عاجلته وفاته مخنوقًا" (¬2). وقال الشيخ أحمد بن عبد العزيز الحصين: "وبلغ حقدهم الدفين على هذه الدعوة المباركة حتى وصل الأمر إلى قتل ابن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي -وهو ممن يتحمسون لهذه الدعوة- بإيعاز من محمد علي -حاكم مصر- الذي حارب هو وأبناؤه الدعوة -انتقامًا من أبيه لتعاطفه مع الوهابيين" (¬3). ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (176). (¬2) "الأعلام" (3/ 304). (¬3) انظر: "الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب"ج 2 - للدكتور عبد الرحمن عميرة- "أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ص (6).

تبرئة المصريين من دماء الوهابيين

تبرئة المصريين من دماء الوهابيين تروج المدارس الاستعمارية لفِرية أن المصريين حاربو االوهابيين، وبدل أن يقول تلامذتها: "جيش محمد علي" يستسهلون وصفه بالجيش "المصري"، مع أن الجريمة يتحملها محمد علي وولداه أما الجيش المصري فلم يكن قد وُلد أصلًا (¬1). لقد وصف ابن بشر الجيش الذي حارب الوهابيين بأنه (جيش الروم)، وقال الريحاني: "جاء بجيش لا يتجاوز الأربعة آلاف، وفيهم الألباني والمغربي والسوداني، وقد أضاف إليهم في (مروره) بالصعيد ألفين من الفلاحين (للأشغال والخدمة) ". وقال خير الدين الزركلي: وكان اشتعال جذوة الحرب علي يد واليها -أي الدولة العثمانية- بمصر، محمد علي باشا، فوجه جيشًا قوامه الأرناؤوط والانكشارية ممن تمرد على محمد علي، وأراد التخلص منهم، وأعقبه بجيش آخر أرغم فيه بعض المصريين على الانخراط فيه وسماهم "متطوعين" (¬2). وهاك نص ابن بشر -يصف تركيبة الجيش بما لا يدع مجالًا للشك في أنها لم تكن حملة (مصرية) يقول -رحمه الله-: "وفي هذه السنة أجمع أمراء الروم على المسير إلى الحجاز" .. والرئيس المقدم بهذا الأمر من جهة الروم صاحب مصر محمد علي، فكانت العساكر التي استقلت من مصر من الترك وأهل المغرب وغيرهم نحو أربعة عشر ألف مقاتل أو يزيدون" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (147). (¬2) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (148). (¬3) "نفس المصدر" ص (149).

وقد سجل ابن بشر معركة الدرعية في (15) صفحة، لم يذكر فيها المصريين مرة واحدة، وإنما تحدت عن الحرب مع (الروم) (42) مرة. وهذه رواية شاهد عيان، كابتن بريطاني زار الدرعية عام 1819 م، ورافق الحملة "المصرية" من الدرعية حتى جُدة .. وكتب المعلومات التالية عن تكوين الجيش "المصري" إلى حكومته في تقرير سري، و"الرائد" الانجليزي لا يكذب أهله! قال الكابتن "سادليير": في حصار إبراهيم باشا للدرعية كانت قواته كالآتي: الفرسان 850 ترك وأرناؤوط مع الباشا. 400 ترك وأرناؤوط مع آزون علي (هؤلاء قال الجبرتي إنهم الدلاة من الشام ونواحي جبل الدروز). 300 ترك وأرناؤوط مع رشو ان أغا. 400 بربر (مغاربة). 1950 المجموع المشاة: 1725 أرناؤوط 2575 ترك 1300 بربر (يقصد مغاربة) 5600 المجموع

وقد شهد "فيلبي" أن حملة طوسون كانت تتكون من أربعة عشر ألفًا من الأتراك والمغاربة، فاندحر "الأتراك والمراكشيون"، مع أنه لو وجد أي أثر لمصري واحد لحرص على إبرازه (¬1). ومن دقة الجبرتي ووعيه لأمانة الكلمة كتب: (في 24 رمضان 1227 - أول أكتوبر 1812، وردت هجانة مبشرون باستيلاء "الأتراك" على عقبة الصفراء الجديدة من غير حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب، وتدبر شريف مكة) (¬2). والعجيب أن المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي (¬3) علَّق على كلمة "الأتراك" قائلًا في نبذة الاعتذار أو العتاب للجبرتي: "كذا يسمى الجيش المصري، وكان الجبرتي يعطف كثيرًا على الوهابين، ويدافع عنهم، وينتقد الحملة عليهم" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (150). (¬2) "نفسه" ص (159). (¬3) عبد الرحمن بن عبد اللطيف الرافعي (1889 - 1966م) مؤرخ مصر في العصر الحديث، محامٍ، من أعيان الحزب الوطني، انظر: "الأعلام لا للزركلي (3/ 311). (¬4) "نفسه، ص (159، 160)، وحقًّا تعاطف الجبرتي -رحمه الله تعالى- مع الوهابيين، لكن عن اقتناع تدرَّج واكتمل بالمعرفة والتحري، وتعاطفه هذا لم يفقده الموضوعية، ولا يشكك في صدق معلوماته.

تعقيب:

تعقيب: - إن تفسير الرافعي لقول الجبرتي (الأتراك) وشرحه بأن المقصود بهم (المصريون) غير مقبول، لمخالفته الحقائق المثبتة تاريخيًّا، كما أنه لم يقل أحد من أهل اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا: إن الأتراك تعني المصريين! - إن ما فعله الرافعي يتناقض مع تصريحه بأنه حتى نهاية الجولة الأولى في تاريخ الدولة السعودية، وهي التي تؤرخ بسقوط الدرعية، لم يذهب مصري واحد للحرب في الأراضي الحجازية، لأن تجنيد المصرين في الجيش لم يبدأ كما تقرر جميع المصادر إلا بعد عام (1820م)، وكانت الحرب الوهابية قد انتهت مرحليًّا سنة (1818 م- 1234 هـ). وأول فرقة مصرية أرسلت للحجاز هي التي ذهبت في النصف الثاني من عام (1824 م-1240 هـ) .. وذلك بعد سقوط الدرعية بخمس سنوات. - إن الرافعي لم يكن هنا موضوعيًّا، بل كان خاضعًا لمؤثرات عاطفية وطنية، فإنه ينتمي إلى مدرسة ظهرت في صفوف الحزب الوطني المصري في نهاية القرن التاسع عشر، وكان من أهم أركانها "محمد فريد" و"عبد الرحمن الرافعي"، وهي مدرسة حسنة النية، لكنها شوهت طبيعة المواجهة بين "محمد علي"، والدولة السعودية، قال الأستاذ محمد جلال كشك -رحمه الله-: (فالجيل الذي ينتمي إليه "عبد الرحمن الرافعي"، ومن قبله "محمد فريد"، وبالذات جماعة الحزب الوطني، كان يخوض حربًا قانونية ضد الاحتلال البريطاني، والحجة الأولى التي تسلح بها في دعواه "القانونية"، هي "الطعن" بعدم

"شرعية" الاحتلال! لأن مصر رسميًا جزء من الدولة العثمانية، أو الدولة العلية، ولا يحق لبريطانيا الاعتداء على السيادة العثمانية! وكان هذا التيار يتحرك داخل إطارين، الأول: هو النظر للدولة العثمانية كآخر حاجز في وجه الاستعمار الغربي، حيث تختلط في مفهومهم الخلافة .. بالمسألة الشرقية .. بالعالم الثالث .. الممدد كالفريسة العاجزة، أمام سكاكين الدول الأوروبية، تقطع منه ما شاءت، وليس له من أمل في الدفاع إلا التمسك "بالعروة الوثقى"، أو المناداة بوَحدة شعوبه المتمثلة في أكبر تجمع حضاري، يضمه إطار رسمي، وهو الدولة العلية (العثمانية). والإطار الثاني: هو حب مصر، والتغني بأمجادها بصوت عال، لطرد أشباح الواقع المذل، وبعث الحماسة في شعبها، من خلال الحديث عن انتصارات الماضي، والتأكيد للانجليز أن مصر قادرة على الدفاع عن نفسها، إذا ما سُمِح لها بتكوين جيش، والدليل هو انتصارات الجيش "المصري" من أيام "أحمس" إلى "محمد علي". وفي تاريخ الدولة العلية تأليف "محمد بك فريد" زعيم الحزب الوطني نجد نفس موقف الرافعي تقريبًا) اهـ (¬1). ... ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (152).

هل احتفل المصريون بانتصارات "محمد علي"؟

هل احتفل المصريون بانتصارات "محمد علي"؟ (¬1) [يدعي الرافعي، أن المصريين كانوا يبتهجون بانتصارات جيش محمد علي في الحجاز: "ولما وصلت إلى مصر أنباء هذا الفتح قوبلت بابتهاج عظيم" (يقصد فتح الشقراء13/ 1/ 1818)، ويستشهد بالجبرتي! مع أن كل ما ورد في الجبرتي هو قوله: "حضر مبشر من ناحية الديار الحجازية يخبر بنصرة حصلت لإبراهيم باشا، وأنه استولى على بلدة تسمى الشقراء". لاحِظ "تسمى" للتقليل من شأنها، وكيف يبتهج الناس بفتح بلدة لا يعرفونها، إلا أن الجبرتي يكمل: "وأن بين عسكر الأتراك والدرعية مسافة يومين" ما دَخْلُنا نحن بعسكر الأتراك؟! ثم يضيف: "فلما وصل هذا المبشر ضربوا بقدومه مدافع من أبراج القلعة"! هذه هي رواية الجبرتي، مبشر جاء بنصر للأتراك، ومدافع من القلعة أطلقت! فأين المصريون من هذا كله؟! ولكن الرافعي مُصر على توريط الجبرتي، فينسب إليه ما لم يقل، بل عكس ما قاله، فينقل وصف الجبرتي لاحتفالات الباشا بانتصاراته، وتجمع المصريين، وهذا التجمع سواء طوعًا أو كرهًا، ظاهرة اجتماعية مصرية، فهم لا يتركون جنازة ولا ¬

_ (¬1) هذا الفصل من "السعوديون والحل الإسلامي" ص (162 - 165) بتصرف.

محملًا ولا جمعية تعاونية إلا وتجمعوا حولها .. أو "توت حاوي كمان لمه" (¬1)! "خاصة إذا كان المنادي ينادي، والعسكر يخرجون الناس، والباشا يجري مناورات حربية- بَحَرية، تقوم فيها السفن والمراكب بتمثيل المعارك البحرية، والطبول تدق، والمزامير والنقرازانات في السفن، وطبلخانة (موسيقى) الباشا تضرب في كل وقت، والمدافع الكثيرة تضرب في ضحوة كل يوم وعصره وبعد العشاء، وتوقد المشاعل، وتعمل أصناف كل الحراقات والسواريخ والنفوط، وتتقابل القلاع المصنوعة على وجه الماء، ويرمون منها المدافع على هيئة المتحاربين". فالباشا فاتح سيرك، أو عامل أراجوز .. والشعب يتفرج، وله فيها مآرب أخرى، ذكرها الجبرتي في أكثر من موضع عند حديثه عن تجمعات المصريين العابثة .. فهل هذا يبيح لمؤرخ أن يستنتج: "وهذا يدلك على عظم تقدير الشعب للانتصارات الحربية، وما تستثيره في النفوس من روح الفخر والعزة، ولا جرم أن الحفلات الحربية هي مظهر من مظاهر تقدم الشعوب، وتقديرها لمفاخرها القومية، وتكريم الفضائل والأخلاق الحربية، فالحفلات التي وصفها الجبرتي تنطوي على هذه المعاني السامية، وليس عجيبًا أن تحتفل مصر بفتح الدرعية، فإن فتحها هو أعظم انتصار نالته في أول حرب خارجية خاضت غمارها في تاريخها الحديث "؟!! ¬

_ (¬1) يبدو أنها عبارة عامية مصرية ينادي بها الحاوي ليحشد حوله الجمهور.

نحن لا حاربنا، ولا انتصرنا، ولا ابتهجنا وها هو شاهد العصر، الشيخ الجبرتي يشهد أن معظم الزينة، كانت من صنع الإفرنج، الذين ابتهجوا لقهر الوهابية، سواء عن وعي بخطورة البعث الذي كانت تمثله، وللرفض الغريزي لكل حركة تنادي ببعث الإسلام، أو لأن جيوش الباشا كانت تفتح الجزيرة لتجارتهم، أو حتى لمجرد منافقة الباشا الذي نالوا في عهده الامتيازات، ما لم يسبق له مثيل. فلنسمع ما قاله الجبرتي في وصف هذه الاحتفالات بعد ورود نبأ استيلاء إبراهيم باشا على الدرعية: "فأكثروا من ضرب المدافع من كل جهة، واستمر الضرب من العصر إلى المغرب، بحيث ضرب بالقلعة خاصة ألف مدفع، وصادف ذلك شنك أيام العيد، وعند ذلك أمر بعمل مهرجان وزينة، داخل المدينة، وخارجها، وتقيد لذلك أمين أفندي المعمار، وشرعوا في العمل وحضر كشاف النواحي والأقاليم بعساكرهم، ونودي با لزينة، وأولها الأربعاء، فشرع الناس في زينة الحوانيت، والخانات، وأبواب الدور ووقود القناديل والسهر وأظهروا الفرح والملاعيب، كل ذلك مع ما الناس فيه من ضيق الحال والكد في تحصيل أسباب المعايش، وعدم ما يسرجون به من الزيت والسيرج، والزيت الحار، وكذا السمن، فإنه شح وجوده، ولا يوجد منه إلا القليل عند بعض الزياتين، ولا يبيع الزيات زيادة عن الأوقية وكذلك اللحم لا يوجد منه إلا ما كان في غاية الرداءة من لحم النعاج الهزيل، وامتنع أيضاً وجود القمح بالساحل وعرصات الغلة، حتى الخبز امتنع وجوده بالأسواق، ولما أُنهي الأمر إلى مَن لهم ولاية الأمر، فأخرجوا من شون الباشا مقدارًا يُباع في الرقع، وقد أكلها السوس، ولا يباع منها أزيد من الكيلة أكثرها مسوس، وكذلك لما شكا الناس من عدم ما

يسرج به في القناديل، أطلقوا للزياتين مقدارًا من السيرج في كل يوم يباع في الناس لوقود الزينة، وفي كل يوم يطوف المنادي، ويكرر المناداة بالشوارع على الناس بالسهر والقود والزينة، وعدم غلق الحوانيت ليلًا نهارًا". فليجتر الرافعي مجد الفخار والعزة، أما شعب مصر، فكان في شغل عن الاحتفال بفتح الدرعية، بأكل القمح السوس، واستجداء زيت الباشا لتشعل به القناديل، تلبية لتعليمات المنادي، وإذا كان الرافعي يده في ماء الأمجاد التاريخية، فإن الجبرتي ومعاصريه كانوا في نار الواقع، لذلك يقول الجبرتي: "وقد ذهب في هاتين الملعبتين (احتفالات الفخر والعزة .. إلخ يسميها الجبرتي "ملاعب") من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر، وأهل الاستحقاق يتظلمون من القشل والتفليس، مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء وانعدام الأدهان وخصوصًا السمن والسيرج والشحم، فلا يوجد من ذلك الشيء اليسير إلا بغاية المشقة، ويكون على حانوت بعض السمن شدة الزحام والصياح". فلا جرم أن تكون هذه الحفلات الحربية سببًا في زيادة شقاء وتعاسة وضيق المصريين، ويضيف الجبرتي عن هذه الملاعيب: "غالب هذه الأعمال من صناعة الإفرنج والنصارى الأرمن بمصر القديمة وبولاق والإفرنج". ثم يعود فيؤكد ذلك وكأنه يرد على شبهات الرافعي بعد مائة عام: "والذي تولى الاعتناء بذلك طائفة الإفرنج". "وكانت معظمها حيث مساكن الإفرنج والأرمن فإنهم تفننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السيرج". احتفل الأرمن والإفرنج، وابتهج الباشا، وثارت في نفس الرافعي، روح العزة والفخار، أما المصريون: فلا حاربوا ولا ابتهجوا .. بل حارب إبراهيم باشا

الذي لم يكن قد أتقن الحديث بالعربية بعد، وبجنود الأرناؤوط والدلاة، ومرتزقة من شتى الأجناس إلا أبناء مصر، وبخبراء من الإفرنج، فالذي وضع خطط حصار الدرعية، وأشرف على تنفيذها، هو المسيو فيسيير، الضابط الفرنسي الذي سافر مع إبراهيم مع طاقم من الخبراء الأجانب، أو كما يقول الرافعي فرِحًا شاكرًا: إن إبراهيم كان يتميز بصدق نظره، لأنه كان "أول من استعان بخبرة الأوروبيين في الحروب، فاصطحب معه في الحرب الوهابية طائفة من الإفرنج منهم الضابط الفرنسي فيسيير أحد ضباط أركان الحرب، وهذا أمر لم يكن مألوفًا، ولا سائغًا، بين قواد الشرق في ذلك العهد، ولكن إبراهيم باشا بذكائه وحصافته، عرف أن الأمم الشرقية لا تنهض إلا إذا اقتبست خبرة علماء أوروبا وقوادها" .. أي نهضة؟! وأنت تقول إن الوهابية كانت تهدد الدولة العثمانية إذ تنازعها السلطة والسيادة، "وتتهددها بإنشاء دولة عربية قد تنتزع منها الخلافة". هل تحطيم هذه المحاولة، وإزالة هذا "التهديد" (إنشاء دولة عربية تنتزع الخلافة) بمعونة الفرنجة تعتبره نهوضًا للأمم الشرقية؟! على آية حال، إن الرافعي لم يكن سيء النية، ولكنه فاسد التفكير، وأمانته قد فرضت عليه الشهادة للوهابيين بأنهم: "دافعوا دفاع الأبطال عن الرس، بالرغم من قتالهم جيشًا مسلحًا بالبنادق الحديثة، ولم يكن عندهم إلا البنادق من الطراز العتيق الذي يطلق بالفتيلة، ومع ذلك صدوا هجمات الجيش "المصري" (تعبنا من تفنيد ذلك الزعم) ثلاث مرات، وكبدوه خسائر جسيمة، وبلغ عدد قتلاه مدة الحصار 2400 جندي. على حين لم يقتل من الوهابين سوى 160 مقاتلًا".

وفي الدرعية ورغم خطط الضابط الفرنسي، يشهد الرافعي، أن الوهابيين: "دافعوا عنها دفاع الأبطال، واشترك نساؤهم في القتال، فكان دفاعهم مجيدًا". وهو (الرافعي) يشهد أن أموال "محمد علي" لعبت الدور الأساسي في النصر، إذ اشترت البدو: "ومن الأسباب التي أدت إلى اضمحلال قوة الوهابية، ضعف عبد الله بن سعود، والأموال التي بذلها طوسون، وإبراهيم ومحمد علي واشتروا بها ذمم البدو". فلنترك الرافعي غارقَّاً في البحث عن قشة مجد كاذب لجيش وهمي، لم يولد بعد، وهو لا يحتاج لتلفيق أمجاد، فحروبه في المورة والشام تكفيه فخرًا. ولنعد للشعب المصري الذي عاش حروب محمد علي في الجزيرة العربية، ودفع ثمنها غاليًا من ماله وحرياته ورزقه .. هل كان متعاطفًا مع هذه الحرب، معاديًا لخصوم الباشا؟! كل الوقائع التي أثبتها المؤرخون المعاصرون، تؤكد العكس) اهـ. ***

تعاطف المصرين مع الوهابيين

تعاطف المصرين مع الوهابيين (¬1) (لقد خرجت مصر كلها، لرؤية الأبطال الوهابيين، والأمراء السعوديين الأسرى، وتحول بيتهم في السيدة عائشة قرب القلعة، إلى مزار، يتدفق عليه المصريون يطلبون بركتهم للشفاء من الأمراض! فقد روى ابن بشر: أنه بعد استسلام فيصل بن تركي، رحلوه إلى القاهرة "فوصلوا إلى المدينة ومنها إلى مصر، وأنزلوه في بيت، وجعلوا عنده حرسًا يحفظونه، وصار في مكانه ذلك يحيي أغلب الليل بالتهجد والصلاة وفي نهاره بين صلاة وتلاوة القرآن. وكان يتردد إليه كثير من أهل مصر إذا كان في أحد منهم ألم أو حمى أو غير ذلك، يأتونه يقرأ عليهم، وكانوا يرون أثر الشفاء من قراءته ودعائمه، ومن أجل ذلك ازداد عندهم تكريمًا وتعظيمًا. ذكر لي أنه لما خرج من ممر في هذه المرة، أنهم يترددون إلى مكانه (حيث كان يعيش) ويزورونه، ويستشفون به". صحيح أن التبرك بالجدران التي كان يسكنها يتعارض مع الإسلام، ولكن ما يعنينا هنا، هو مغزى هذا السلوك، فعامة البلد يؤمنون ببركة .. وصحة دين، بل وقدسية أو وَلاية خصوم واليهم، الذي يدعي محاربتهم لأنهم خوارج، هذا الاعتقاد العلني بصلاحهم وتقواهم، وقربهم إلى الله تعالى؛ هو صرخة رفض يطلقها الشعب المصري -على طريقته- في وجه حاكم مصر، وضد كل دعاياته، ¬

_ (¬1) هذا الفصل مختصر من "السعوديون والحل الإسلامي" ص (185 - 189) بتصرف.

جاء "المضايفي" أسيرا في 15 ذي القعدة 1228:

وتخيل الإنكليز يتبركون "بجان دارك" الأسيرة، أو الألمان يطلبون بركة "ديجول" لأولادهم!). وفي موقف آخر يقول الجبرتي -رحمه الله-: قاتل الشريف غالب على رأس عساكر الأتراك والعربان، واستطاع أن يهزم صهره المضايفي الذي كان قد انضم للوهابيين، فلما أسره الشريف: "وضع في رقبته الجنزير". "ليأخذ بذلك وجاهة عند الأتراك الذي هو على ملتهم، ويتحقق لديهم نصحه، ومسالمته إياهم. وسيلقى منهم جزاء فعله ووبال أمره كما سيتلى عليك بعضه بعد قليل". الجبرتي ليس على "ملة" الأتراك، وهو يتربص الدوائر بالشريف غالب الموالي للأتراك، ويتشفى فيه لما أصابه على يد الباشا محمد علي، ممثل السلطة التركية .. ولكن الصورة لا تكتمل إلا إذا عرفنا رأي الجبرتي في "المضايفي" الوهابي الأسير .. فلعل تعليقه هو من باب كراهيته الباشا والشريف .. جاء "المضايفي" أسيرًا في 15 ذي القعدة 1228: "وصل عثمان المضايفي صحبة المتسفرين معه إلى الريدانية آخر الليل، وأشيع ذلك، فلما طلعت المشمس ضربوا مدافع من القلعة إعلامًا وسرورًا بوصوله أسيرًا، وركب صالح بيك السلحدار في عدة كبيرة، وخرجوا لملاقاته وإحضاره، فلما واجهه صالح بيك نزع من عنقه الحديد، وأركبه هجينًا، ودخل به المدينة ... فلما دخل عليهم أجلسوه معهم، فحدثوه ساعة، وهو يجيبهم من جنس كلامهم بأحسن خطاب، وأفصح جواب، وفيه سكون وتؤدة في الخطاب، وظاهرٌ عليه آثار الإمارة والحشمة والنجابة، ومعرفة مواقع الكلام، حتى قال الجماعة

مع من يجب أن نكون؟

لبعضهم البعض: يا أسفا على مثل هذا إذا ذهب إلى إسطمبول يقتلونه .. ثم توجهوا به إلى بولاق، وأنزلوه في السفينة مع نجيب (مبعوث السلطان)، ووضعوا في عنقه الجنزير، وانحدروا طالبين الديار الرومية"! مع من يجب أن نكون؟ مع أبطال الجزيرة العربية .. الذين يقاتلون عن "دينهم ووطنهم" .. أم قتلة وجلادي الديار الرومية؟ إلا أنه مما يثير الانتباه، ليس فقط "الجبرتي" المنحاز بوضوح للوهابين، وإنما المثير هو موقف جهاز محمد علي، المتأسِّف على قتل الأتراك في إسطمبول لهذا العربي الذكي، وقد يكون ذلك شعور الجهاز العامل في القاهرة، تحت تأثير ضميرهم الإسلامي، إلا أننا نلاحظ أيضًا أن محمد على وجهازه وأولاده كانوا يسلكون في معاملتهم للعناصر الوهابية، خارج ميدان القتال سلوكًا مختلفًا إلى حد كبير عن السلوك المعتاد من السلطات العثمانية في معاملة الأسرى، وبالذات الذين تعتبرهم متمردين .. وتفسير هذا الموقف، يحتاج لدراسة شديدة التعقيد، ولكننا سنجد عليه أكثر من شاهد ودليل، سواء في الجبرتي أو ابن بشر .. وأن كانت هناك بالطبع فظائع في القتال، وفي تحطيم المقاومة، في حدود الأساليب المتعارف عليها وقتها، وإنما الفارق هو في المشروعية، فالوهابيون كانوا يقاتلون في سبيل وطنهم ولصالح المستقبل العربي والإسلامي، بينما محمد علي وأولاده كانوا مجرد أداة لضرب ذلك كله .. ومن ثَمَّ لا تجوز مقارنة كربلاء بالدرعية ..

كان من المستحيل أن يسكت الباشا على صوت الجبرتي المعادي، خاصة بعد ما فرغ من الجزء الرابع، وتناولته الأيدي بالنسخ، وفيه ما فيه من سب لعسكر الباشا، ومدح لجميع الأسرى الذين وصلو اللقاهرة، وقد رأينا مدحه "للمضايفي" ثم مدح "طامي" الذي قاتل وانتصر في بلدة قنفذة، ثم احتال عليه عميل للباشا حتى اعتقله وباعه له، فدخلوا به القاهرة: "وهو راكب على هجين، وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في عنق الهجن، وصورته رجل شهم، عظيم اللحية، وهو لابس عباءة عبداني، ويقرأ وهو راكب". فوفقًا لتاريخ الجبرتي، نجد أن كل خصوم الدولة، أبطال تلوح عليهم الشهامة والنجابة، أتقياء لا تفتر ألسنتهم عن ذكر الله .. أما عسكر الباشا فهم كما رأينا من وصفه القاسي .. بل إن تشهير الجبرتي، يمتد ليشمل أولاد الباشا نفسه، فهو يسخر منهم، ومن كبار المسؤولين، لما خلعوه على أنفسهم من ألقاب فهو لا يعجبه قولهم عن أنفسهم: "مجاهدون وعائدون من غزو الكفار، وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين، وطردوا المخالفين لديانتهم، حتى أن طوسون باشا، وحسن باشا، كتبا في إمضائهما على المراسلات بعد اسميهما لفظة (المغازي) والله أعلم بخلقه". صحيح ... ولكنك (¬1) أيضًا، بفضل الله، علمتَ، وما كتمتَ علمك، ومنك علمنا أنك رفضت دعواهم، وأنك أفضل من كتب عن الوهابين. ¬

_ (¬1) يخاطب الأستاذ كشك هنا المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي.

صدقت وبررت يا شيخنا:

وأخيرًا فإن هذا الجزء الذي طرحه الجبرتي للتداول يتضمن مقابلة الجبرتي للأمراء السعوديين عندما جاءوا إلى مصر. وقد أقر الجبرتي على نفسه بأنه اجتمع بهم مرتين، اجتمع بزعيميهما عبد العزيز وعبد الله .. وربما رافقهما في زيارتها للأزهر، وإن لم يذكر ذلك صراحة، كما فعل بالنسبة للاجتماعين، وإن كان قد وصف زيارتهما للجامع الأزهر كمن رأى .. فقال: "لما دخلوا الجامع سألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-، وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه، فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية، واشتريا نسخًا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة المجمع على صحتها وغير ذلك". ويقول الجبرتي إنه اجتمع بهما مرتين: "فوجدت منهما أنسًا وطلاقة لسان وتضلعًا ومعرفة بالأخبار والنوادر، ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين، واستحضار الفروع الفقهية، واختلاف المذاهب فيها، ما يفوق الوصف، واسم أحدهما عبد الله، والآخر عبد العزيز، وهو الأكبر حِسًّا ومعنى". صدقت وبررت يا شيخنا: صدقتَ، وأنف الباشا وقادته من الترك والألبان في الرَّغام .. صدقت، وإن كلفتك هذه الاجتماعات، التي رصدها جواسيس الباشا الذي كان يملك بلا شك، أدق جهاز مخابرات في الشرق، وكذلك ما كتبته، ولابد أنه ترجم للغة الباشا في أحد التقارير .. كلفتك حياتك إلا أنهما صانت شرف الكلمة، شرف علم التاريخ، وشرف المثقف المصري.

وصل عبد الله بن سعود أسيرًا، وسلم ما كان بحوزة أبيه من مجوهرات الحجرة النبوية، ورحَّلوا عبد الله إلى الآستانة حيث أعدمه الأتراك رغم شفاعة محمد علي، ويتحدى الجبرتي السلطان، فيسجل أن ضحاياه من السعوديين "ذهبوا مع الشهداء" (¬1). صدقتَ .... وهل من شهادةٍ أكرم من شهادة من مات عن دينه وقومه ووطنه وأهله في الحاضر والمستقبل؟! "وجاء بواقي الوهابية بحريمهم وأولادهم وهم نحو الأربعمائة نسمة وأسكنوا بالقشلة التي بالأزبكية، وابن عبد الله بن سعود بدار عند جامع مسكة هو وخواصه من غير حرج عليهم، وطفقوا يذهبون ويجيئون ويترددون على المشايخ وغيرهم، ويمشون في الأسواق، ويشترون البضائع والاحتياجات". كانت الحركة الوهابية معارضة لتيار التاريخ، أي لاتجاه الأحداث نحو سقوط العالم الإسلامي في قبضة الغرب، ومن ثم كانت هزيمتها نتيجة منطقية، وانتصارها هو الأعجوبة. كذلك كان صوت الجبرتي، نشازًا في اللحن الجنائزي للحريات الذي كانت تكتب نوتته في القلعة على يد طبلخانة الباشا وجلاوزته .. وكان لا بد أن يخنق الصوت: "قتلوا ابنه ثم مات هو". ¬

_ (¬1) حيث قال الجبرتي في "تاريخه": "وفيه -جمادي الأولى 1234 هـ- وصلت الأخبار أيضاً من عبد الله بن سعود أنه لما وصل إلى إسلامبول طافوا به البلدة، وقتلوه عند باب همايون، وقتلوا أتباعه أيضًا في نواح متفرقة، فذهبوا مع الشهداء" اهـ (3/ 600).

لا أحد يدري أمات حزنًا على ابنه، وانهيار الحُلْم الوهابي؟! أم - كما هو شائع بجرعة من السموم التي كان أطباء الباشا من الفرنجة يعدونها لترسانته؟! (¬1). وبقيت الصفحة المشرفة .. صفحة حركة عربية - إسلامية مجاهدة لتحرير الوطن العربي وتوحيده تحت راية الإسلام. وصفحة مؤرخ أنصف هذه الحركة وبرأ ساحة المصريين من دمها الطاهر الذي سفحه باشا تركي بجند الدولة العثمانية] اهـ ... ¬

_ (¬1) انظر ص (78).

نبأ سقط من ذاكرة التاريخ:

نبأ سقط من ذاكرة التاريخ: الوهابيون يعبرون البحر الأحمر لنصرة المصريين ضد حَمْلَتَيْ نابليون وفريزر يقول الأستاذ محمد جلال كشك: (هناك نقطة نريد أن نتوقف عندها قليلًا، وإن كان جميع المؤرخين قد تفادوها "بحسن نية" وبراعة يحسدون عليهما .. ! ألا وهي موقف "السعوديين" من الغزو الفرنسي لمصر .. لماذا لم يساعدوا الدولة العثمانية، أو الشعب المصري في مقاومته للاحتلال الفرنسي؟ وهذه هي أول حملة صليبية في العصر الحديث، وأول احتلال سافر من الاستعمار الأوروبي، ومقاومة باسلة من بلد عربي .. هي مصر "عُشُّ العلماء" كما كان يسميها الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" ... لنبدأ بالحملة الفرنسية على مصر .. التي دامت من عام 1798 إلى 1801، وفي تلك الفترة كان الأشراف يشكلون حاجزًا بين الدولة السعودية والمقاومة في مصر، وذلك بسيطرتهم على الحجاز. ولكن جماهير المسلمين في الجزيرة اشتركت على نحو بارز في دعم المقاومة المصرية للاحتلال الفرنسي رغم إرادة الأشراف، ورغم علاقتهم الطيبة مع الفرنسيين" .. قال هيرولد: "كان أرهب إمداد وصل للمماليك، هم المقاتلون القادمون من الحجاز، الذين عبروا البحر الأحمر بالألوف، وقد تبين أن كثيرًا منهم

من الحجاج المغاربة، ولكن أكثرهم -وأشدهم تعصبًا بالطبع- عرب خُلَّص من شبه الجزيرة") (¬1). يقول الأستاذ أحمد رائف في "الدولة السعودية": "وقد رأيناهم -أي السعوديين- يدافعون مع المصرين ضد الفرنسين إبان الحملة الفرنسية في سبيل الإسلام، ورأيناهم مرة أخرى على أسوار رشيد يدافعون ضد حملة فريزر الإنجليزية عام 1807 م، حتى منعهم ومنع غيرَهم باشا مصر، وأفهمهم أن حق الحرب والقتال والدفاع ليس مباحًا لأي أحد، بل هو خالص للأتراك والأرناؤوط (¬2). وهذا الاختلاط العملي نقل الكثير من سلوكهم وأفكارهم إلى الناس، فتأثروا بهم، واعتنقوا مبادئهم، وقد رأينا في الحملات التي ذهبت إلى جزيرة العرب بغرض القضاء على دولة السعوديين، كيف تخلف الكثير ¬

_ (¬1) "السعوديون والحل الإسلامي" ص (125 - 126) بتصرف. (¬2) وفي مثل هذا يقول محمد جلال كشك: "وتعفن الجهاز العثماني، بينما زادت اتكالية الشعوب العربية، فقد عزلهم العثمانيون عن مهام الدفاع أو البناء الحضاري، واكتفوا منهم بقراءة البخاري لنصر الأسطول العثماني، وتمويل الخزينة المثقوبة، والصبر على فسوق جند السلطان وفحش ولاته، فلما بدأ غزو الوطن العربي، واستصرخ العرب السلطنة، اكتشفوا أنها أعجز من أن ترد هذا التحديَ، بل واكتشفوا أنها أصبحت القيد الذي يشل قدرتهم على المقاومة ويسهِّل الغزو الأجنبي"اهـ من "السعوديون والحل الإسلامي" (103، 104). ثم انظر ما قاله الرافعي في "عصر محمد علي" ص (58): "كان جنود القاهرة وقتها معظمهم من الأرناؤوط والدلاة وأخلاط السلطنة العثمانية، وقد اشتهروا بالسلب والنهب لدرجة أن أهالي رشيد أثناء الحملة الإنجليزية على مصر رفضوا أي مدد من جنود القاهرة، وآثروا الدفاع عن رشيد بأنفسهم" اهـ.

من المصريين، وانضموا إلى من جاءوا يحاربونهم (¬1)، وكذلك فعل عدد من الأتراك والأرناؤوط، ولم يفعل هذا هؤلاء الناس طمعًا في مال السعوديين، فلم يكن للسعوديين مال في ذلك الوقت، ولم يكن هناك نفي أو دولار أو ريال، فقد فعلوا هذا بالتأكيد حرصًا على الوقوف في معسكر التوحيد، تاركين بلادهم المتحضرة ومدنهم العامرة إلى هذه الصحراء القاحلة، ثم ذابوا في صفوفهم، ولم يعد لهم أثر على مر السنن" (¬2). ... ¬

_ (¬1) تمامًا كما حدث من آلاف المصريين الذين أُخْرجوا مع الجيش المصري لمحاربة المهدي السوداني، انظر: "المهدي" للمؤلف ص (473،472). (¬2) "الدولة السعودية" ص (453، 454).

قمة التعاطف المصري الوهابي

قمة التعاطف المصري الوهابي ويتمثل هذا التعاطف هذه المرة في موقف حفيد "محمد علي" وهو "عباس باشا ابن طوسون بن محمد علي" ثالث الولاة من أسرة محمد علي بمصر، ولد بجُدة، ونشأ بمصر، وتولى الحكم بعد وفاة عمه إبراهيم باشا في أواخر سنة 1264هـ، وكان شديد البغض للأوربيين حذرًا من دسائسهم، أنجد الترك العثمانيين بخمسة عشر ألف مقاتل في حربهم مع الروس، المعروفة، بحرب القرم .. وفي أيامه نُفي السحرة والدجالون والمشعوذون إلى السودان، وقد قُتِل بقصره في بنها سنة (1270هـ،1854 م) -رحمه الله تعالى- (¬1). (وكان "محمد علي" قد أرسل أول بعثة مصرية إلى فرنسا، وكانت تتكون من أربعين شابًّا من الأتراك والمصريين، زاد عددهم فيما بعد، ولما عاد أعضاء البعثة اعتمد عليهم "محمد علي"، وأحلهم محل الأجانب، ومضى أبناؤه من بعد على ذلك في الاهتمام بأمر مصر التي أصبحت ملكًا لهم، حتى وصل الأمر إلى حفيده "إسماعيل بن إبراهيم" الذي كان يقول: "إن بلادي ليست من أفريقيا، بل هي جزء من أوروبا". ولم يشذ عن هذا الخط من أبناء "محمد علي" إلا خليفتهُ وابنُ ابنه الأكبر "طوسون" الذي ولي بعد وفاة "إبراهيم باشا": وهو "عباس باشا الأول" -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) " الأعلام" للزركلي (3/ 261).

ولقد كان هذا الرجل قد تربى تربية دينية شرقية، وعُرف عنه بغضه للفرنساويين، وبلغ به الأمر إلى أن عمل على إيقاف إيفاد البعثات إلى فرنسا، واتخذه الأوربيون عمومًا -ولا سيما في فرنسا- التي كانت تعرف بغضه لها- هدفًا لسهامهم. لذلك يقول عنه بروكلمان: " إنه كان مسلمًا متعصبًا يزدري التربية الأوربية ازدراءً بعيدًا"، ويتهمه بأنه كان طاغية، والحق أنه كان متدينًا تقيًا. ويدل على ذلك أمران: أحدهما: قبل ولايته؛ فقد استطاع "عباس الأول" محافظ مصر آنذاك لجده "محمد علي" أن يخرج الوهابيين من أبناء ابن سعود (¬1) والذين سجنهم "محمد علي" في القلعة بحيلة دبرها، ولم يستطع الجنود أن يخبروا "محمد علي" إلا بعد ثلاثة ¬

_ (¬1) كان تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود -مؤسس الدولة السعودية الثانية- قد فَرَّ من أمام إبراهيم باشا بعد معركة الدرعية وتمكن من استرداد الرياض 1236هـ فصار الإمام الخامس، وبه انتقلت الإمامة من سلالة عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد، وما زالت فيهم إلى اليوم، وقد قتله ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود، وتولى مكانه، إلا أن ابنه فيصلًا اقتص لأبيه، واسترد الملك 1250هـ، ومن الجدير بالذكر أن فيصلًا هذا كان من ضمن من نُقل إلى مصر من آل سعود، وتربى فيها، ثم رجع بلى أبيه وتولى قيادة جيشه ومعاونته على تدبر شئون الإمارة، وذلك بعد أن تمكن من الفرار من مصر، أو ربما سُهِّل له الفرار في عهد عباس باشا الأول -انظر: "السعوديون والحل الإسلامي" ص (199، 200) - ومن ذريته ابناه عبد الله وسعود، ومن ذرية هذا الأخير ابنه عبد الرحمن بن فيصل والد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل مؤسس الدولة السعودية الثالثة الممتدة إلى اليوم، انظر: "سلفية لا وهابية" ص (228 - 250).

أيام خوفًا منه، ولكنه على كل حال لم يفعل شيئًا لأنه كان يثق بعباس، ومنذ ذلك الحين صار عباس صديقًا حميمًا لفيصل بن سعود إلى نهاية حياتههما. ولا ريب أن انتشار أئمة الدعوة في مصر كان له الفضل الأكبر في سريان حقائق الدعوة هناك، ولا سيما أن هؤلاء "الوهابيين" كانوا طلبة علم، فالتحقوا بالأزهر، ودرسوا فيه، ودرَّسوا ... والأمر الآخر: أن "عباسًا الأول" كان الوحيد من أولاد "محمد علي" الذي كان يتردد إلى المساجد في شهر رمضان لاستماع الدروس والمواعظ الدينية، وفي أيام "عباس باشا" لم يكن أحد يستطيع أن يسير في الشوارع وقت الصلاة وإلا تعرض لسياط "الشاويشية" الأتراك، جنود عباس، وفيما عدا عباسًا كان أبناء "محمد علي" جميعًا يميلون إلى أبيهم "محمد علي الكبير" ويتبعون سياسته في الحكم مائلين إلى الغرب) (¬1) اهـ ... ¬

_ (¬1) انظر: "منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة" لتامر متولي ص (37 - 40).

موقف الشيخ محمد رشيد رضا من الوهابية

موقف الشيخ محمد رشيد رضا من الوهابية (¬1) لم يعرف الشيخ "رشيد" عن دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" في الشام إلا ما يعرفه عامة الناس آنذاك، وما تتناقله الألسن من الكذب والافتراء على دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب"، ولم يعرف الشيخ "رشيد" حقيقة هذه الدعوة إلا بعد قدومه مصر، واطلاعِه على تاريخ الجبرتي، ولقد وصلت دعوة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" إلى مصر عن طريق أولاده وأحفاده الذين أتى بهم واليها "محمد علي" ومعهم علمُهم وكتبهم، لقد قدم إلى مصر عدد كبير من أسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودرس بعضهم في الأزهر، وكانوا طلقاء يمشون بين الناس، ولهذا السبب، ولأنهم دَرَسوا في الأزهر، ودرَّسوا، وصنفوا، انتشرف هذه الدعوة بمصر، وعُرفت. لقد بقى "عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب" (¬2) تلميذ الجبرتي مدة ثمان سنوات في مصر قبل عودته إلى وطنه في سنة (1241 هـ)، وبقي ابنه "عبد اللطيف" ثلاثين عامًا في الأزهر. ¬

_ (¬1) انظر: "منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة" ص (192،191). (¬2) كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ممن نفوا إلى مصر بعد سقوط الدرعية، فالتفت إلى الطلب والتعلم والتعليم، والاستفادة والإفادة، إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة، وهو صاحب كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"اهـ من "المختار المصون" (3/ 1609).

ومن هذا يتضح أن دعوة الشيخ محمد وصلت مصرَ مبكرًا، وهناك عرفها الشيخ رشيد على حقيقتها، فماذا عرف عنها؟ قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة (دحلان) هذا وأمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولاسيما تواريخ الإفرنج، الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها، وصرَّحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا تجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى" (¬1). وقال -رحمه الله- أيضًا- في حق الوهابية: (ونحن كنا نصدق هذه الإشاعات التي أشاعتها السياسة التركية عنهم .. وقد طبعت كتبهم وكتب أنصارهم في عصرنا، فلا عذر لأحد في تصديق الحشوية ¬

_ (¬1) مقدمة "صيانة الإنسان" ص (8).

والمبتدعة وأهل الأهواء منهم، وقد ذكرت هذه الإشاعات مرة بمجلس الأستاذ الأكبر الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر في إدارة المعاهد الدينية، فاستحضرت لهم نسخًا من كتاب "الهدية السنية"، فراجعها الشيخ الأكبر، وعنده طائفة من أشهر علماء الأزهر، فاعترفوا بأن ما فيها هو عين مذهب أهل السنة والجماعة) اهـ (¬1). يقول الشيخ رشيد: "لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ... ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة ... " (¬2). وقال الأمير شكيب أرسلان (¬3): ¬

_ (¬1) "صيانة الإنسان" هامش ص (510، 511). (¬2) "نفس المرجع" ص (40) ط. دار التوحيد للتراث 1428 هـ. (¬3) ولد "شكيب أرسلان" في بلدة الشويفات من مقاطعة "الشوف" التي تبعد من بيروت قرابة عشرة أميال، ومعنى "شكيب" بالفارسية: الصابر، ومعنى "أرسلان" بالفارسية والتركية: الأسد. وهو من طائفة "الدروز" اللبنانية وهم إسماعيلية فاطمية لا حَظَّ لهم في الإسلام، وقد ذكر الشيخ الشرباصي أن الأمير شكيبًا كان سنيًّا، وإن انتسب سياسيًّا أو إداريًّا إلى الدروز، وأنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كان يتعبد على طريقة السنين، فهو يصلي، ويصوم، ويحج كما يفعل المسلمون، قال: (وقد أكدت لي زوجته هذه الحقيقة وقالت: إن الدروز يحرمون الزواج من سنية، ولكن زوجي تزوجني وأنا سنية مسلمة وقد تسبب هذا الوضع في متاعب لشكيب، فمن الدروز من لا يرونه درزيًّا كاملًا، ومن السنيين من لا يرونه سنيًّا كاملًا، فضاع جانب من حقه بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ من "شكيب أرسلان" للشيخ أحمد الشرباصي، ص (51، 52)، ومعلوم أن الدروز لا يقبلون أحدًا في دينهم، ولا يسمحون لأحد بالخروج منه، انظر: "الموسوعة الميسرة" ص (255). وقد وصفه بعض مترجميه بأنه "كان متدينًا محافظًا على الصلاة، وكان محبًّا للعلم، حريصًا على القراءة والاطلاع، وكانت حياته كلها كتابة أو قراءة أو حديث أو رحلة. وقف حياته للدعوة إلى الوحدة العربية، وكان مناهضًا للاستعمار، حريصًا على نهضة الأمة. ومما يؤكد سنيته: علاقاته الوثيقة بعلماء أهل السنة: - فقد صنف كتاب "السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة"، وفيه النص المثبت أعلاه، وسياقه يدل على منافحته عن الوهابية. ورشيد رضا هو الذي لقبه بأمير البيان. - وقال العالم الرحالة الداعية السلفي الجليل الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (ت 1407 هـ = 1987م): "وكُنيتي أبو شكيب، لأني سميت أول مولود لي شكيبًا، على اسم صديقي الأمير شكيب أرسلان"اهـ من "تتمة الأعلام" (2/ 55)، كما وصفه بـ "المجاهد العظيم أمير البيان"، ورثاه بقصيدة من ستة وعشرين بيتًا، انظر: "الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة" له ص (112). - وقال "شكيب أرسلان" في تقديمه لكتاب "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث": " .. وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية، التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، أن لا تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي، الذي قسم الله له من اكتناه أسرار الشرع، ما لم يقسمه إلا لكبار الأئمة، وأحبار الأمة" اهـ. من "مقدمة قواعد التحديث" ص (10). وقد أثبت هذه العبارة في مفتتح جميع أجزاء "تفسير القاسمي" المسمَّى "محاسن التأويل" الشيخ =

تصدى رشيد رضا للدعاية المناوئة لعلماء نجد، وعندما انتشرت الأراجيف ضدهم بعد افتتاح الطائف وزع ألوفًا من رسالة "الهدية السنية والتحفة النجدية"، -وهي تضم خمس رسائل-. ونشر مقالات في الدفاع عنهم، والرد على خصومهم، وقد قال له شيخ الأزهر أمام ملأ من العلماء: "جزاك الله خيرًا بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر الوهابية" (¬1). إنه لا يسع منصفًا -مهما اختلف مع الشيخ رشيد رضا (¬2) - إلا أن يقر بأنه "أبو السلفية" في مصر، وأن له في عنق السلفيين -شاءوا أم أبوا، شكروا له أو ¬

_ = محمد فؤاد عبد الباقي -رحمه الله-. - وممن رثاه الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- بقصيدة مطلعها: سلام عليك أبا غالب ... أميرَ البيان أميرَ القلم - وقال الشيخ سليمان الظاهر: "إن الأمير شكيبًا كان المسلم الحقيقي الذي عرف أن الإسلام عقيدة وعمل، وأنه دين إنساني عام، لا دين شعوبية وقبلية وعصبية وإقليمية، ولا دين أجناس وألوان"اهـ. وانظر: "الأمير شكيب أرسلان" لسامي الدهان ص (62 - 101)، "المعاصرون، لمحمد كرد علي (167 - 248)، و"الأمير شكيب أرسلان" د. سعود الموسى، و"الأعلام" للزركلي (3/ 173 - 175). (¬1) انظر: "السيد رشيد رضا"، أو "إخاء أربعين سنة" لشكيب أرسلان، ص (366). (¬2) فإن هناك -بلا ريب- تحفظًا شديدًا من بعض آراء "رشيد رضا" التي تابع فيها شيخه "محمد عبده"، ومن أفضل من تتبعها بالنقد والتمحيص مع الإنصاف والعدل الأخ/ تامر متولي في أطروحته: "منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة"، طبعة دار ماجد عسري، جُدَّة- (1425 هـ- 2004 م)، وانظر: "حياة الألباني وآثاره " للشيباني (1/ 401 - 405).

جحدوا- مِنّةً وفضلًا، وآية ذلك دوره الرائد في نشر التراث السلفي، ومنافحته عن عقيدة السلف، ورموزها ممثلة في شيخي الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وذلك من خلال مجلته "المنار" (¬1). لقد بدأ رشيد رضا الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1320 هـ (1903 م)، ففي تلك السنة أقيمت بمصر احتفالات بمناسبة مرور مائة عام على مُلك أسرة "محمد علي" على مصر، وزُيِّنَتَ المساجد والجوامع بالأنوار، فهاجم رشيد ذلك العمل، وقال: "إن المساجد بيوت الله، ولا يصح أن تُزَين للاحتفال بذكرى الملوك والأمراء المستبدين"، ثم تطرق إلى مساوئ سياسة "محمد علي"، ومنها قتاله للوهابيين وقضاؤه عليهم، وهم الذين نهضوا بالإصلاح الديني في جزيرة العرب مهدِ الإسلام ومعقله" (¬2) اهـ وقال أيضًا -رحمه الله-: "هذه نُبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع: مقاومة الدولة العثمانية ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ لكتاب "المختار من مجلة المنار" ص (8،7). (¬2) "تاريخ الأستاذ الإمام" (1/ 583).

"الألباني" حسنة من حسنات "رشيد رضا"

له، ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين، وتدمير قوتهم، وكان المحرك الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية -يقصد بها بريطانيا- وعدوة الشرق ولاسيما الأمة الإسلامية" (¬1) اهـ. "الألباني" حسنة من حسنات "رشيد رضا" طالما لهج العلامة السلفي مجدد شباب السنة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- بالاعتراف بفضل الشيخ السيد محمد رشيد رضا عليه، وكيف كانت "مجلة المنار" الباب الذي ولج منه إلى علم الحديث. يقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه القيم "علماء ومفكرون عرفتهم" من حديث دار بينه وبين الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: " ... وركز الشيخ من بين المُوَجِّهين له على السيد رشيد رضا -رحمه الله-، الذي يعتبره من أكبر الرجال أثرًا في دفعه إلى دراسة الحديث الشريف". يقول الشيخ ملخصًا صلته العلمية بالسيد رشيد رضا على نحو ما يحدثنا الأستاذ المجذوب: "أول ما ولعت بمطالعته من الكتب القصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها، ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، ثم وجدت نزوعًا إلى القراءات التاريخية. ¬

_ (¬1) "المنار" (26/ 205).

وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءًا من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنه ومآخذه. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله، ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه. من ثم أقبلت على قراءة الكتاب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه، وهكذا جهدت حتى استقامت لي طريقة صالحة تساعد على تثبيت تلك المعلومات، وأحسب أن هذا المجهود الذي بذلته في دراستي تلك هو الذي شجعني وحبب إليَّ المضي في ذلك إذ وجدتني أستعين بشتى المؤلفات اللغوية والبلاغة وغريب الحديث لتفهم النص إلى جانب تخريجه". ويتابع الأستاذ المجذوب. "وقد أطلعني الشيخ على عمله في ذلك النسخ، فإذا أنا تلقاء أربعة أجزاء في ثلاثة مجلدات، تبلغ صفحاتها ألفين واثنتي عشرة في نوعين مختلفين من الخط: أحدهما عادي والثاني دقيق علق به في الهوامش تفسيرًا أو استدراكًا. ولعمر الحق إنه لمجهود يعجز عنه أولو العزم من أهل العلم في هذه الأيام، ناهيك بطلبة الجامعات ممن لا يملكون أي عزيمة تسعفهم بالصبر على التحقيق والمتابعة.

الألباني ومدرسة محمد رشيد رضا

فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن الشيخ لم يكن آنئذ قد تجاوز العشرين من العمر، ولا جرم أن هذا الجهد الجبار في تأليف تلك المجلدات، مع الاستعانة بكل وسائل التحقيق المتيسرة للفتى أيامئذ، كان ذا أثر كبير في تمرسه بهذا الضرب من العمل العلمي، فهو وإن كان لا يستحوذ على رضاه بصورة تامة، قد شق له الطريق إلى تقدم أعلى في هذا المضمار. ومن خلال هذه الحياة، وتلك النشأة، وهاتيك الملابسات، يتراءى لي أن ثمة عوامل خفية كانت دائبة على توجيه الفتى في ذلك الطريق، لتجعل منه في النهاية واحدًا من كبار خَدَمَةِ السنة المطهرة في ديار الشام" (¬1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني -حَفَظهُ الله-: الألباني ومدرسة محمد رشيد رضا "السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله- له فضل كبير على العالم الإسلامي، بصورة عامة، وعلى السلفيين منهم، بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا المنهج السلفي في سائر أنحاء العالم بوساطة مجلته "المنار"، وقد جاهد في سبيل ذلك جهادًا يشكر عليه، ويرجى أن يكون أجره مدخرًا له عند ربه، بالإضافة إلى كونه داعية إلى اتباع منهج السلف الصالح فيما كانوا عليه من عقيدة وفكر وسلوك، فقد كانت له عناية تشكر، بالأحاديث ¬

_ (¬1) "علماء ومفكرون عرفتهم" (1/ 282، 281).

الصحيحة والضعيفة، هذه الأحاديث التي لا يخفى على أي مسلم، عنده شيء من الثقافة الإسلامية، أنها هي السبيل الوحيد لفهم كتاب الله تعالى، فهمًا صحيحًا، حيث إن كثيرًا من الآيات، لا يمكن أن يتوصل إلى فهمها إلا بطريق بيان السنة النبوية، وقد نص الله -عَزَّ وَجَلَّ- على ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فهذا وغيره من النصوص، تؤكد للمسلم أنه لا سبيل إلى فهم القرآن إلا بطريق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد كان للسيد محمد رشيد رضا، عناية بالغة بعلم الحديث، بحدود مساعدة وضعه العلمي والاجتماعي والسياسي، فكثيرًا ما نبه إلى ضعف بعض الأحاديث من حيث إسنادها، عبر مجلته "المنار" التي أصبحت نواة طيبة، لفتت أنظار المسلمين للعناية بأحاديث الرسول -عليه السلام-، فإذا كان من الحق أن يعترف أهل الفضل بالفضل، لذوي الفضل، فأجد نفسي بهذه المناسبة الطيبة مسجلًا هذه الكلمة، ليطلع عليها مَن بلغته، فإنني بفضل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولاً، وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة والصحيحة ثانيًا يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا -رحمه الله-، عن طريق أعداد مجلته "المنار" التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم" انتهى محل الغرض منه (¬1). ¬

_ (¬1) "حياة الألباني، وآثاره، وثناء العلماء عليه" (1/ 400، 401)، وفي تتمته فَصَّل الألباني -رحمه الله- في التنبيه على أخطاء الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- وبخاصة فيما تأثر فيه بأستاذه محمد عبده -عفا الله عنه-، فانظره: (1/ 401 - 405).

وهذا آخر ما تيسر جمعه، والحمد لله على توفيقه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ثغر الإسكندرية في الأربعاء 22 من محرم 1429 هـ الموافق 30 من يناير 2008 م

§1/1